(وما كان لأحد فيها مقراً ولا مُقاماً)
المقرّ والمقام: كلاهما اسم مكاني القرار والقيام.
(ولكنّك)
استدراك عمّا قبلها.
(تقدّست أسماؤك)
تنزّهت عن شائبة النقص والعيب.
(أقسمت)
في كتابك الحميد، حيث قلت مخاطباً لنبيّك:
(فَوَرَبِّكَ لَـنَحْشُرَنَّهُمْ
وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَـنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً)(1)
أي على ركبهم وأطراف أصابعهم، لا يستطيعون القيام على أرجلهم في حول
جهنّم.
(أن تملأها من الكافرين من الجنّة والناس أجمعين)
أقسام الكفر:
الكفر ثلاثة أقسام: كفر الجحود، وكفر النفاق، وكفر
التهوّد. وفي جميعها بمعنى الستر والإنكار.
ولكن الأوّل عبارة عن إنكار ضروري من ضروريات
الدين، أو إنكار جميعها، فمَن أنكر واحدها أو أنكر الجميع فهو كافر
شرعاً بالكفر الجحودي، وليس لدمه وماله وعرضه حرمة ما دام باقياً عليه.
والثاني عبارة عن الإنكار في القلب والإقرار
باللسان، خوفاً وطمعاً، كالمنافقين الّذين أخبر عنهم قوله تعالى:
(إذَا جَاءَكَ المُـنَافِقُونَ قَالُوا
نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللّهِ وَاللّهُ يَعْلَمُ إنَّكَ
لَرَسُولُهُ وَاللّهُ يَشْهَدُ إنَّ المُـنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ *
اتَّخَذُوا أيْمَانَهُمْ جُـنَّةً)(2).
والثالث عبارة عن الإنكار في الظاهر والإقرار
بالباطن، كاليهود الّذين علموا وأيقنوا أنّ موسى(عليه
السلام) رسول الله ونبيّه، ولكن أنكروه
بأقوالهم، وطلبوا منه المعجزات، ومع إتيانه بها لهم أصرّوا أيضاً في
الإنكار القولي، حتى سألوا منه رؤيته تعالى بأبصارهم الحسّية
الحيوانية، كما قال المولوي:
گر بديدى حسّ حيوان شاه را *** پس بديدى گاو و خر
الله را
فهذه الأقسام الثلاثة ]...[(3)
وحكم بها ظاهر الشريعة، وتسمى بالكفر الجلي.
وأمّا الكفر الخفي فأقسامه كثيرة، وفيه ورد أحاديث:
منها: قوله(صلى الله عليه وآله وسلم):
(إنّ دبيب الشرك في اُمّتي أخفى من دبيب النملة السوداء على الصخرة
الصماء ـ أو الملساء ـ في الليلة الظلما)(4).
ومنها: قوله(عليه السلام):
(من دان الله بالرأي لم يزل دهره في ارتماس)(5).
أي لا يزال دهره منغمساً في الضلال والعمى عن
الحقّ، وعُدّ الاستبداد بالرأي والجهل والفسوق من أقسام الكفر الخفي.
وبالجملة، كلّ ما ستر الحقّ ولو لحظة عن فؤاد
العباد فهو كفر عند أهل السلوك.
والجِنّة: جمع «جِنّ» من: جَنّهُ إذا سترهُ، ومنه
الجنين في الرحم، إذ الجنة والأجنة مستورة عن الحواس. ثمّ إنّ من الجن
كافر ومنهم مؤمن، وسيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى.
(وأن تخلّد فيها المعاندين، وأنت جلّ ثناؤك)
أي عظم من أن يصفه الواصفون، كما قال الشاعر:
إذا أثنى عليك المرء يوماً *** كفاه من تعرّضه
الثناء
معناه: أ نّه يكفي من تعرّض للثناء التعرّض فقط،
وإلاّ لا يمكن لأحد أن يثني لله تعالى حقّ ثناؤه، بل ثناؤه أجلّ من
إحصاء البشر، كما قال سيد الكائنات: (لا اُحصي ثناءً عليك، أنت كما
أثنيت على نفسك»(6).
(قلت مبتدئاً)
في ابتداء الإسلام وأوّل الدين، متى نزل الفرقان
السماوي، وتفضّلتَ:
(وتطوّلت بالإنعام متكرّماً)
التكرّم: ازدياد الكرم على البرايا، فهو تعالى
متكرّم، أي مضعّف إكرامه وإنعامه على عباده، ومن فضله وإنعامه أ نّه
أخبر عباده على لسان نبيّه وأعلمهم في كتابه الكريم، وقال:
(أفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا
يَسْتَوُونَ)
كيف يتساوى الكفر والإيمان، والفسوق والعدالة،
والنور والظلمة، والجهل والعلم، والبصارة والعمى، والهداية والغواية؟
(إلهي وسيّدي، فأسألك بالقدرة الّتي قدّرتها)
الواو عاطفة.
معنى القدرة:
والمراد بالقدرة هنا: إمّا قدرته الفعلية، أي
الوجود المنبسط والفيض المقدّس، الّتي قدّرها بالقدرة الذاتية وبها
قدّر جميع المقدورات وأوجد جميع الموجودات، وأحيا بها جميع الأشياء،
وبها خلق الموت والحياة، وبها أخرج الأشياء من العدم والليسية الذاتية
إلى الوجود والأيسية.
قد مرّ أنّ القدرة في الواجب الذات واجبةٌ بالذات
وفوق الجوهرية، فضلا عن العرضية، وعين ذاته بقول مطلق; إذ لا ماهية له
وراء الإنيّة البحتة، حتى يمكن أن يقال: قدرته عين شيئيته، ووجوده لا
عين ماهيته، وفي فعله تعالى عين فعله، وفي العقول: جواهر مفارقة عن
المادّة رأساً; لأ نّها وإن لم تكن عين ماهيتها، لكنّها عين وجودها،
دائمة بدوام وجودها. وفي الحيوان: كيفية نفسانية.
والمراد بالقدرة: العقل الفعّال الّذي هو قدرة الله
المتعال، ومخرج النفوس جميعاً من القوة إلى الفعل، ومعلّم أنبياء
الأولين والآخرين، وهو المسمّى بـ «روح القدس» و «جبرائيل» و «روح
الأمين» ، في لسان الشرع المبين.
والمراد بتقديرها: إيجادها; لأ نّه وإن كان موجوداً
دائماً بديمومة الله تعالى، ولكن بذاته ليس محضاً وإمكاناً صِرفاً، كما
قال الحكماء: الممكن من ذاته أن يكون الليس، وله من علّته أن يكون
الأيس.
أو المراد بالقدرة: مطلق الإيجاد، والخلق والإحياء،
وبتقديرها: جعلها.
أو يكون المراد: إحياء الإنسان بخصوصه، وكأنّ
المراد بقوله:
(وبالقضية الّتي حتمتها وحكمتها)
بيان حكمة الموت:
هي قضية الإماتة والموت الّتي حَتَمها وحَكَمها على
النفوس; لإيصالها إلى غاياتها الذاتية والعرضية، ولأنّ الموت إن لم
يُخلق لم تصل دورة الحياة والوجود الكوني الطبيعي إلينا، بل إلى
الدورات الاُخريات الّتي تكون بعدنا; إذ الممكنات غير متناهية، فلابدّ
أن تنقضي وتموت دورة، حتى تأتي وتحيا دورة اُخرى; لأ نّه لو بقيت أشخاص
الناس والحيوانات بلا نهاية لكان السابقون قد أفنوا المادّة، الّتي
منها التكون، فلم يبق لنا مادّة يمكن أن نوجد ونتكون منها، ولو بقيت
لنا مادّة لم يبق لنا مكان ورزق.
وإن قلنا: نبقى نحن والّذين بعدنا على العدم
دائماً، ويبقى الأولون على الوجود أبداً، كان منافياً لحكمته تعالى; إذ
ليسوا بدوام الوجود أولى منّا، بل العدالة الإلهية تقتضي أن يكون للكلّ
حظّ ونصيب من الوجود والحياة، فوجب أن يموت السابق ليكون لوجود اللاحق
إمكان، فلذلك حَكَم وحَتَم على عباده بالموت والفناء.
والسبب الطبيعي للموت: انعدام الرطوبة الأصلية،
ووقوف الغاذية عن شغلها، إذ القوى الطبيعية متناهية التأثر والتأثر،
فلابدّ لها من الوقوف، وبقاء الحرارة الغريزية الأصلية بلا مقاوم
ومعادل، فيُهدم البدن، فتقطع النفس علاقتها عنه.
جان عزم رحيل كرد گفتم كه مرو *** گفتا چكنم خانه
فرو مييايد
أو المراد بالقدرة: هي القدرة الّتي جعلها الله
تعالى في عباده، كما أنّ أحد أسمائه: (يا ربَّ القدرة في الأنام)(7)
أي صاحب القدرة فيها.
وبالقضية: هي التكليف الّذي حَكَمه وحَتَمه على
العباد.
أو المراد: مطلق الحكم، تكوينياً كان أو تشريعياً.
وبالقدرة: جمع «القدر»، وكانت الألف واللام فيهما
للاستغراق.
أو المراد بالقدرة: القدر، وبالقضية: القضاء، فإنّ
الصور القضائية كلّها محكمة محتّمة لغلبة أحكام الوجوب عليها،
ولكلّيتها لكونها العلم الفعلي لله تعالى لا تُرَدّ ولا تبدّل.
(وغلبت من عليه أجريتها)
أي أجريت القدرة والقضية عليه.
فمن المعلوم أن مَن اُجري عليه قضاء الله وقدره ـ
بأي معنىً كان القضاء والقدر ـ فهو مغلوب مضحمل، مستهلك تحت حكمه
وقدرته تعالى.
وغلبته: قهره، ومقهورية الأشياء في سطوع نوره
وهيمان حضوره.
(أن تهب لي في هذه الليلة وفي هذه الساعة)
ظاهر الليلة والساعة: لعلّها ليلة الجمعة، وساعتها
الّتي تلا فيها هذا الدعاء الشريف ، ومن المأثور تأكيد استحباب تلاوته
في ليالي الجمعات.
وباطنها وتأويلها: هذا العالم برمّته وجملته، بل
جميع العوالم في السلسلة النزولية; لأنّ هذا العالم مختتم نوره تعالى،
ولهذا أطلق الله تعالى على كلّ عالم من العوالم في السلسلة الصعودية
اسم «اليوم» عليه، كما قال تعالى لموسى(عليه السلام):
(وَذَكِّرْهُمْ بِأيَّامِ اللّهِ)(8)،
وقال: (يُدَبِّرُ الأمْرَ مِنَ
السَّمَاءِ إلَى الأرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إلَيْهِ فِي يَوْم كَانَ
مِقْدَارُهُ ألْفَ سَنَة)(9).
وقال في مقام آخر: (فِي يَوْم كَانَ
مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ ألْفَ سَنَة )(10).
والمراد: اليوم الملكوتي، واليوم الجبروتي، واليوم
اللاهوتي وهو يوم القيامة والطامة الكبرى.
وسرّ تسمية العوالم في السلسلة النزولية بالليالي،
وفي السلسلة الصعودية بالأيام، هو أنّ اليوم عبارة عن بروز النور
وظهوره وشدّته، والليل عبارة عن الظلمة والغسق وضعف النور وقلّته.
فإذا صدر الأمر ونزل من المبدأ إلى هذا العالم،
كأ نّه بَعُدَ متدرجاً عن مطلع شمس الحقيقة وأدبر عنه، فحين الوصول إلى
كلّ عالم كان ذلك العالم ليلا بالنسبة إليه; إذ النور ضعيف بالإضافة
إلى عالم الفوق، إلى أن يصل الأمر إلى عالم المادّة، يعني عالمنا هذا،
وهذا العالم لمّا كان عالم الظلمة والهيولى، وكان قسطه من مطلق الكمال
والنور قوة الكمال والنور، كان في غاية الانظلام والانعدام بالقياس إلى
العوالم الطولية، فكان ليلا مظلماً، ولهذا قال المولوي(رحمه
الله):
در شب دنيا كه محجوبست شيد *** ناظر حق بود و ز آن
بودش اميد
چشم من ده برد شب خودرا شناخت *** جمله شب باروى
ماهش عشق باخت
ثمّ إذا صعد الأمر في قوس الصعود إلى الله تعالى،
كما قال: (إلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ
الطَّـيِّبُ وَالعَمَلُ الصَّالِـحُ يَرْفَعُهُ)(11)،
وقال: (كَمَا بَدَأكُمْ تَعُودُونَ)(12)
فحين الوصول إلى كلّ عالم من العوامل المذكورة، كان ذلك العالم يوماً
بالنسبة إلى ما دونه، إذ النور فيه أبهر وأقهر، إلى أن يصل إلى يوم
القيامة ـ ووقف عند الله تعالى ـ وهو يوم الواحدية، كما تيسر هذا
الوصول التام والبلوغ التمام لسيّدنا وسيّد الكونين: محمّد(صلى
الله عليه وآله وسلم) وأوصيائه(عليهم
السلام)، وذلك مقام (قَابَ
قَوْسَيْنِ أوْ أدْنَى )(13).
وقيل في وصفه(صلى الله عليه وآله وسلم):
دو سر خط حلقه هستى *** در حقيقت بر هم تو پيوستى
فعلى ما عرفت من تأويل اليوم والليل، فكأنّ السائل
أراد بقوله: (في هذه الليلة) هذا العالم، يعني: اغفر لي ذنوبي وخطيئاتي
في الدنيا، حتى اُجرّد منها ومن معاقبتك عليها يوم القيامة.
والمراد بالساعة في قوله: (وفي هذه الساعة) مجموع
سلسلة الزمان، كما قال(صلى الله عليه وآله وسلم):
(الدنيا ساعة، فاجعلها طاعة)(14).
وقيل:
كشش سلسلة دهر بود آنى چند
(كلّ جرم أجرمته)
أي كلّ ذنب أذنبته.
(وكلّ ذنب أذنبته)
تفنن في العبارة، استقصاء لجميع الألفاظ الّتي
اُستعملت في الذنوب، ولعاً لغفرانه تعالى جميعها.
(وكلّ قبيح أسررته)
أي أخفيته، وعملته في الخفاء عن أعين الناس.
(وكلّ جهل عملته)
أي كلّ جهل مركّب أو بسيط عملت بهما، وما اجتهدت في
تعلّمه; غفلةً وغروراً.
(كتمته)
من عيون الناس في عمله.
(أو أعلنته)
أي عملته على رؤوس الأشهاد، وما استحييت منك ومنهم،
كما قيل:
در مقاميكه كنى قصد گناه *** گر كند كودكى از
دورنگاه
شرم دارى ز گنه در گذرى *** پرده عصمت خودرا ندرى
شرم بادت ز خداوند جهان *** كه بود واقف أسرار نهان
بر تو باشد نظرش بيگه وگاه *** تو كنى در نظرش قصد
گناه
(أخفيته أو أظهرته)
أي عندما عملت المعصية أخفيتها في نفسي، أو أظهرت
عند عبادك فعلها، فلذلك سهل عليهم فعل المعاصي، وتجرأوا فيها، فصدر
عنهم المعصية أيضاً.
(وكلّ سيئة أمرت بإثباتها الكرام الكاتبين)
الضمير راجع إلى السيّئة.
الكرام: جمع كريم، و (الكرام الكاتبين) هم الملائكة
الّذين كتبوا ما صدر عن الناس في الألواح العالية من صحائف الدهور
الأربعة، وهم من جنود إسرافيل الّذي هو أحد حوامل العرش، فيصورون
الأفعال الحسنة على الصور المناسبة لها، ويضاعفون لها في التصويرات،
ويصوّرون الأفعال السيئة على الصور المناسبة لها، ويقلّلون في
التصويرات; ولهذا سُمّوا (الكرام الكاتبين).
ماهية الملائكة وحقيقتها
ثمّ إنّ الناس اختلفوا في ماهية الملائكة وحقيقتها،
وذكر صدر المتألهين الشيرازي(قدس سره)
في مفاتيح الغيب وجه ضبط لأقوالهم، فلنذكره تبصرة للناظرين في هذا
الشرح، فقال: «اعلم أنّ الناس اختلفوا في ماهية الملائكة وحقيقتها،
وطريق الضبط أن يقال: إنّ الملائكة لابدّ وأن يكون لها ذوات قائمة
بأنفسها في الجملة، ثمّ إنّ تلك الذوات إمّا أن تكون متحيزة أو لا
تكون.
أمّا الأوّل ففيه أقوال:
أحدها: أ نّها أجسام
لطيفة هوائية، تقدر على التشكل بأشكال مختلفة، مسكنها السماوات، وهو
قول الظاهريين.
وثانيها: قول طوائف
من عبدة الأصنام: أنّ الملائكة في الحقيقة هي هذه الكواكب الموصوفة
بالإنحاس والإسعاد، فإنّها عندهم أحياء ناطقة، وأنّ السعدات منها
ملائكة الرحمة، والنحسات منها ملائكة العذاب.
وثالثها: قول معظم
المجوس والثنوية، وهو أنّ هذا العالم مركب من أصلين أولين، وهما النور
والظلمة، وهما في الحقيقة جوهران شفافان قادران مختاران، متضادا النفس
والصورة، مختلفا الفعل والتدبير، فجوهر النور فاضلٌ خيرٌّ نقي، طيب
الريح، كريم الأصل والنفس، يسر، ولا يضر وينفع، ولا يمنع، ويحيي
ولا يبلى. وجوهر الظلمة على ضدّ ذلك في جميع هذه الصفات.
ثمّ إنّ جوهر النور لم يزل يولد الأولياء، وهم
الملائكة، لا على سبيل التناكح، بل على سبيل تولد الحكمة من الحكيم،
والضوء من المضيء، وجوهر الظلمة لم يزل يولد الأعداء، وهم الشياطين،
على سبيل تولد السفه من السفيه، لا على سبيل التناكح. فهذه أقوال من
جعل الملائكة أشياء متحيزة.
وأمّا الثاني ، وهو
أنّ الملائكة ذوات قائمة بأنفسها، وليست بمتحيزة ولا بأجسام، فهاهنا
قولان:
أحدهما: قول النصارى،
وهو أنّ الملائكة في الحقيقة هي الأنفس الناطقة بذاتها، المفارقة
لأبدانها على نعت الصفاء والخيرة، وذلك لأنّ هذه النفوس المفارقة إن
كانت صافية خالصة فهي الملائكة، وإن كانت خبيثة كدرة فهي الشياطين.
وثانيهما: قول
الفلاسفة، وهو أ نّها جواهر قائمة بأنفسها ليست بمتحيزة، وأ نّها
بالماهية مخالفة لأنواع النفوس الناطقة البشرية، وأ نّها أكمل قوة منها
وأكثر علماً، وأ نّها للنفوس البشرية جارية مجرى الشمس بالنسبة إلى
الأضواء.
ثمّ إنّ هذه الجواهر على قسمين:
منها: ماهي بالنسبة
إلى أجرام الأفلاك والكواكب كالنفوس الناطقة بالنسبة إلى أبداننا.
ومنها: ماهي أعلى
شأناً من تدبير أجرام الأفلاك، بل هي مستغرقة في معرفة الله ومحبته
مستقلة بطاعته. وهذا القسم هم الملائكة المقربون، ونسبتهم إلى الملائكة
الّذين يدبّرون السماوات كنسبة اُولئك المدبّرين إلى نفوسنا الناطقة.
فهذان القسمان قد اتفق الفلاسفة على إثباتهما،
ومنهم من أثبت نوعاً آخر من الملائكة، وهي الملائكة الأرضية المدبّرة
لأحوال هذا العالم السفلي.
ثمّ إنّ مدبرات هذا العالم إن كانت خيّرة فهم
الملائكة، وإن كانت شريرة فهم الشياطين، فهذا تفصيل المذاهب في
الملائكة»(15) انتهى.
وفي بعض الكتب الكلامية،
قال صاحبه: «إنّ الجواهر الغائبة عن الحواس الإنسانية إمّا أن تكون
مؤثرة في الأجسام، أو مدبّرة للأجسام، أو لا تكون مؤثرة ولا مدبّرة
لها.
والأوّل: هو العقول السماوية عند الحكماء،
والملأالأعلى في عرف الشرع.
والثاني: ينقسم إلى: علوية تدبّر الأجرام الفلكية،
وهي النفوس الفلكية عند الحكماء، والملائكة السماوية عند أهل الشرع.
وإلى سفلية تدبّر عالم العناصر، وهي إمّا أن تكون
مدبّرة للبسائط الأربعة: النار، والهواء، والماء، والأرض، وأنواع
الكائنات، وهم يسمّون: ملائكة الأرض وإليهم أشار صاحب الوحي(صلى
الله عليه وآله وسلم) وقال: (جاءني ملك البحار
وملك الجبال وملك الأمطار وملك الأرزاق).
وإمّا أن تكون مدبّرة للأشخاص الجزئية، وتسمّى
نفوساً أرضية، كالنفوس الناطقة.
والثالث: وهي الجواهر الغائبة الّتي لا تكون مؤثرة
ولا مدبّرة للأجسام، تنقسم إلى: خيّرة بالذات، وهم الملائكة الكروبيون
عند أهل الشرع، وإلى شريرة بالذات، وهم الشياطين، وإلى مستعد للخير
والشرّ، وهم الجنّ»(16) انتهى.
وقال صدر المتألهين السبزواري(قدس سره):
«اعلم أنّ المبادئ الفاعلة إمّا لا علاقة لها مع الأجسام، ولو علاقة
التدبير، فهي الأنوار القاهرة، فإمّا مترتّبة وهي الطبقة الطولية من
القواهر الأعلين، وإمّا متكافئة وهي الطبقة العرضية من القواهر
الأدنين، وكلّهم مهيمون في مشاهدة جماله، عبّر عنهم القرآن الكريم بـ
(وَالصَّافَّاتِ صَفّاً)(17)
و(فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً )(18).
وإمّا لها علاقة مع الأجسام، فكلّ منها إمّا مبدأ
أفعال مختلفة، وإمّا مبدأ فعل واحد.
وعلى كلّ واحد من التقديرين; إمّا مع الشعور، وإمّا
عديم الشعور. فمبادئ الأفعال المختلفة بلا شعور هي النفوس النباتية،
ومع الشعور الجزئي أو الكلّي هي النفوس الناطقة والنفوس الحيوانية
الحساسة المتحرّكة.
ومبادئ الفعل الواحد الّذي على وتيرة واحدة مع
الشعور هي النفوس السماوية، ومبادئ الفعل الواحد بلا شعور إن لم يقوّم
المحلّ هي المبادئ العرضية، وإن قوّمت; فإمّا في البسيط فهي الطبائع،
وإمّا في المركّب فهي الصور النوعية.
فجميع تلك المبادئ ملائكة سماوية وملائكة أرضية،
ولكن باعتبار جهاتها النورية، وباعتبار أ نّها متدلّيات بالحقّ»(19)
انتهى.
وقال بعض العرفاء موافقاً بعض الأخبار: «إنّ لكلّ
فرد من أفراد الإنسان ملكين موكلين به، وهما مَلَك العمّالة ومَلَك
العلاّمة، أحدهما حافظ الأعمال الصادرة عنه، والآخر خافظ الصور العلمية
الّتي يكتسبها».
(الّذين وكلتهم بحفظ ما يكون منّي)
أي يوجد ويحصل منّي من الأفعال والأعمال.
(وجعلتهم شهوداً عليَّ)
جمع «شاهد»: وهو الحاضر المطّلع على الأمر، أو
العالم به.
(مع جوارحي)
جمع «جارحة»، وهي العضو كما مرّ، قال تعالى:
(يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ
ألْسِنَتُهُمْ وَأيْدِيهِمْ وَأرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(20).
وذلك لأنّ جميع الأعضاء والقوى والمشاعر الّتي أنعم الله تعالى بها على
النفوس الإنسانية وجعل خوادمها ملائكةُ الله وأيديه الفعّالة، ولها
جهات ووجوه إلى الله وجهات إلى النفوس، فجهاتها النورية شواهد ورقباء
عند الله على جهاتها الظلمانية ووجوهها النفسانية.
(وكنت أنت الرقيب عليَّ من ورائهم)
كقوله تعالى: (وَاللّهُ
مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ)(21).
يريد أ نّهم حجب جماله وجلاله تعالى، وليس الوراء
بمعنى الخلف هنا، إذ (من حدّه تعالى فقد عدّه)(22).
(والشاهد لما خفي عنهم)
كالخواطر السيئة والنيّات الفاسدة الكاسدة الّتي لا
يدركها الموكّلون، ويعلمها الله.
(وبرحمتك أخفيته)
من الملائكة.
(وبفضلك سترته)
على الخلائق.
(وأن توفّر حظي)
معطوفة على قوله: (أن تهب لي).
التوفير: التكثير، من الوفور.
الحظّ: النصيب والقسمة.
(من كلّ خير تنزله)
من السماء إلى الأرض.
(أو إحسان تفضله)
تعطيه إلى عبادك.
(أو برٍّ تنشره)
على الخلق.
البر: الإحسان.
النشر: البثّ والاتساع في الشيء.
(أو رزق تبسطه)
والرزق أعمّ من رزق البدن وقواه وآلاته وأدواته،
ومن رزق النفس والقلب والروح، والسرّ والخفي والأخفى، فجميعها مرزوقة
من الله، بلا وهن وفترة وتجوّز، بل لكلٍّ رزق مخصوص معيّن، كما مرّ في
أوائل الشرح.
بسط الرزق: انتشاره واتساعه.
(أو ذنب تغفره)
أي توفّر حظي في المغفرة أيضاً، بأن تغفر ذنوبي على
أسرع الحال، من دون أن يعثر عليه أحد، وتوفّقني لترك الذنب بعد
الغفران.
(أو خطأ تستره)
الخطأ: ضدّ الصواب، وهم أعمّ من الخطأ في العلم أو
في العمل.
(يا ربّ يا ربّ يا ربّ)
منادى بحذف ياء المتكلم وإبقاء الكسر، دليلا على
حذفها.
(ياإلهي وسيّدي ومولاي ومالك رقّي)
الرِقّ: العبدية ـ بكسر الراء ـ خلاف الحرية.
(يامن بيده ناصيتي)
الناصية: شعر مقدّم الرأس فوق الجبهة، والمراد بها
هنا وكذا في قوله تعالى: (مَا مِنْ
دَابَّة إلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَـتِهَا)(23)
: المهجة، أي مهجتي بيد قدرته.
(يا عليماً بضري ومسكنتي)
قد مرّ معنى الضرّ والمسكنة.
(يا خبيراً بفقري وفاقتي)
نصب المنادى فيهما على أ نّه نكرة في اللفظ لا في
المعنى.
و «الخبير» من أسمائه تعالى، وهو بمعنى العالم بما
كان وما يكون، لايعزب عنه شيء ولا يفوته أحد; إذ قد مرّ أنّ علمه تعالى
فعلي حضوري، وهو وجودات الأشياء وحضورها عنده تعالى، فكيف يعزب عن علمه
شيء أو يفوته أحد؟!
(يا ربّ يا ربّ أسألك بحقّك)
على ذاتك وعلى عبادك.
(وقدسك)
وبحقّ قدسك وتنزّهك.
(وأعظم صفاتك وأسمائك)
وبحقّ أعظم صفاتك، وهو صفة الرحمانية والرازقية
الّتي كانت مسبوقة بالعلم والحياة والقدرة والإرادة.
بيان أعظم الصفات
وقيل: أعظم صفاته القيّومية; لأنّ جميع صفاته
الإضافية ترجع إليها، كالعالم والقادر والخالق والرازق وغيرها.
وقيل: أعظم صفاته هو صفة وجوب الوجود، إذ جميع
الصفات الحقيقية ترجع إليها، وهو ـ أي وجوب الوجود ـ تأكّد الوجود
وشدّة النورية، والصفات الحقيقية هي الصفات المحضة كالوجوب والحياة
ومبادئ الصفات الإضافية، كالعلم فإنّه مبدأ صفة العالمية، والقدرة
فإنّها مبدأ صفة القادرية، والإرادة فإنّها مبدأ صفة المريدية، جميعها
عين ذاته تعالى وليست زائدة على ذاته كما زعمته الأشاعرة(24)
وإلاّ يلزم تعدد القدماء، ولا الذات نائبة منابها كما زعمته المعتزلة(25);
لأنّ حقيقة الصفات فيه تعالى ولا يصح سلبها عنه; إذ كما مرّ في القدرة
للصفات مراتب، ومرتبة منها ذات مستقلة واجبة.
والبرهان على عينية الصفة الحقيقية ومبادئ الصفات
الإضافية كما قال الحكماء(26) العظام: أ نّه لو لم تكن عين
الذات يلزم أن تكون ذاته تعالى من جهة واحدة فاعلة وقابلة، وهو محال،
ولم يكن بذاته مستحقاً لحمل «عالم» و «قادر» و «خالق» وغيرها، بل يكون
عالماً بالعلم وقادراً بالقدرة، وهكذا.
وبيان الملازمة: أ نّه على تقدير الزيادة كان ذاته
في مرتبة ذاته عارية عن الكمال، فكان له إمكانه، والإمكان إذا كان
موضوعه أمراً تعمّلياً كالماهية من حيث هي كان ذاتياً، وأمّا إذا كان
أمراً واقعياً كالمادّة كان استعدادياً، والموضوع هنا عين الوجود
الصرف.
فالخلوّ عن الكمال ليس بمجرّد كما في الماهية، بل
أمر واقعي، فالإمكان استعدادي، وحامل الاستعداد والقوة مادة، والمادة
تلازم الصورة، والمركب من المادة والصورة جسم، تعالى عن الجسمية علوّاً
كبيراً. والأحاديث في هذا الباب ـ أي عدم الزيادة ـ كثيرة.
(أن تجعل أوقاتي في الليل والنهار بذكرك معمورة)
قال تعالى في القدسي لموسى(عليه السلام):
(يا موسى اُذكرني، فإنّ ذكري حسن على كلّ حال) أي على كلّ الأحوال
والأوضاع، قائماً كان أو قاعداً، راكعاً كان الذاكر أو ساجداً،
مستلقياً كان أو منبطحاً أو مضطجعاً، وسواء كان الذاكر على الطهارة أو
على القذارة، في المسجد كان أو في الحمّام، والسوق أو في الخلاء
والملاء، ففي كلّ حال ذكره مستحسن، ولذا قال تعالى: (وَالذَّاكِرِينَ
اللّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ)(27).
وقد ذكر في مواضع من القرآن ذكره تعالى مقروناً
بلفظ الكثرة، وأمر عباده بكثرة التذكر، إشعاراً بأنّ كثرة تذكّره يطرد
الشيطان عن نفس الإنسان، ويقرّبه إلى الرحمن، كما قال المولوي(رحمه
الله) في المثنوي:
ذكر حق پاكست چون پاكى رسيد *** رخت بريندد برون
آيد پليد
المعمورة: خلاف الخروبة.
(وبخدمتك موصولة)
أي تجعل أوقاتي في الليل والنهار بخدمتك موصولة
ومتصلة، كقول الشاعر:
ورث الوزارة كابراً عن كابر *** موصولة الأسناد
بالأسنادِ
أي متصلة الأسناد، بحيث لم يفصل بين أكابره غير
الوزير أحد.
(وأعمالي عندك مقبولة)
يريد: أن توفقني لأن أعمل عملا تقبله في الغابر،
فخير الأعمال وأحسنها وأشرفها طاعة الله تعالى، فإنّها جُنّة ووقاية من
امتساس النيران، كما ورد: (إنّ طاعة الله حرز من أوار نيران موقدة) وفي
الحديث أيضاً: (ما من صلاة يحضر وقتها إلاّ ونادى ملك بين يدي الناس:
قوموا إلى نيرانكم الّتي أوقدتموها وراء ظهوركم فأطفئوها بصلاتكم).
(حتى تكون أعمالي وأورادي كلها ورداً واحداً)
الوِرد ـ بالكسر ـ الخير، والجمع: أوراد.
(وحالي في خدمتك سرمداً)
السرمد ـ كفرقد ـ : الدائم المستمر الّذي لا ينقطع.
(يا سيّدي يامن عليه معولي)
أي معتمدي، مصدر ميمي من التعويل، كما قال الشاعر:
فيا ربّ هل إلاّ بك النصر يرتجى *** عليهم وهل إلاّ
عليك المعوّل
أي الاعتماد.
(يامن إليه)
لا إلى غيره.
(شكوت أحوالي)
قد مرّ الكلام في الشكوى.
(يا ربّ يا ربّ يا ربّ، قوّ)
أمر من التقوية.
(على خدمتك جوارحي، واشدد)
أمر من : شدّه يشدّه: إذا قوّاه.
(على العزيمة جوانحي)
العزيمة: القصد على الفعل أو ما قبله.
واعلم أنّ الإنسان إذا أراد أن يفعل أمراً يتصوّره
أولا، ثمّ يصدّق بفائدته تصديقاً ظنياً أو تخيّلياً أو يقينياً، أنّ
فيه منفعة أو محمّدة أو صلاحاً، وبالجملة: خيراً ما من الخيرات بالقياس
إلى جوهر ذاته، فينبعث من القوة الشوقية لذلك شوق إلى ذلك الأمر، ويصير
الشوق بعد الجزم عزماً وعزيمة، وإذا حصل العزم يصير قصداً، فالقصد كان
الجزء الأخير الّذي لا يتخلف عنه التحرك والفعل، فالعزيمة ما قبل
القصد.
ولعل السائل لم يفرق بينهما وأراد منها القصد.
والجوانح: جمع الجانحة، وهي الضلع مما يلي الصدر.
(وهب لى الجدّ في خشيتك)
أي أعطني الجِدّ، وهو بالكسر: الاجتهاد في الأمر،
خلاف التقصير.
الخشية والخوف بمعنىً واحد.
يريد السائل: أعطني توفيق تحصيل العلوم والمعارف،
وقضاء الطاعات حقها، حتى يحصل لي حق خشيتك، إذ بالعلم والعمل يحصل
الخشية من الله تعالى كما قال: (إنَّمَا
يَخْشَى اللّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ)(28).
وفي الحديث: (أعلمكم بالله أخشاكم من الله).
وفي دعاء الصباح: (من ذا يعرف قدرتك فلا يخافك، ومن
ذا يعلم ما أنت فلا يهابك).
(والدوام في الاتصال بخدمتك)
أي هب لي المداومة في خدمتك، يعني: وفقني لأن أصرف
جميع عمري في العبادة. والباء بمعنى: في.
(حتى أسرح إليك في ميادين السابقين)
أسرح: أي أسير وأمشي إلى طلبك وطلب القربة عندك،
بالتخلق بأخلاقك، والاتصاف بصفاتك، إذ ليس القرب منه تعالى بالقرب
الذاتي والزماني والمكاني; ولا القرب الرتبي; لأنّ جميع تلك القربات ما
يتحقق بين شيئين أصليين، لا بين شيئين أحدهما هو الشيء بحقيقة الشيئية
ووجوبها وتأكدها، والآخر هو الشيء بمجاز الشيئية وضعفها وإمكانها، كما
في الحقّ تعالى ومخلوقه، فإن اثنينيتهما كأثنينية العكس مع العاكس،
والنور مع الظل والفيء.
ومعلوم أنّ العكس والظل والفيء ليست أشياء على
حيالها، بل وجودها بوجود العاكس والنور.
ميادين: جمع «ميدان»، وهو مكان التحرك والجولان،
ماد الشيء يميد ميداً ـ من باب باع ـ وميداناً، إذا تحرك.
ومنه قول الشاعر:
دنياك ميدان وأنت بظهرها *** كرة وأسباب القضاء
صوالج
سبق الكرام إلى مواطن عزّهم *** وبقى لئام نُكّس
وفوالج
ما بالنا كنّا سقاماً في الهوى *** ونجيبنا سفن
النجاة عوالج
أراد أهل البيت(عليهم السلام);
لأ نّهم سفن النجاة وسفّان السفينة، كما قال(صلى الله عليه
وآله وسلم): (مثل أهل بيتي كسفينة نوح، من تمسك
بهم نجا، ومن تخلّف عنهم غرق).
والمراد بالسابقين: هم الأنبياء والأوصياء الّذين
ساروا إلى الله تعالى من الدنيا كالبرق الخاطف، كما ورد: أنّ من النفوس
يمرّون على الصراط كالبرق الخاطف.
وقال(صلى الله عليه وآله وسلم):
(سيروا فقد سبق المفرّدون) وقال: (جزناها وهي خامدة).
(واُسرع إليك في المبادرين)
السرعة: نقيض البطء، يقال: عجبت من سرعة فلان، أي
من عجلته، وفلان أسرعَ في السير: أي خفَّ.
المبادرة: المسابقة، كقوله تعالى: (وَلا
تَأكُلُوهَا إسْرَافاً وَبِدَاراً)(29).
والمبادرين: المسابقين في العلم والعمل، وهم الّذين
سبقت من الله فيهم الحسنى، قال الله تعالى: (وَسَارِعُوا
إلَى مَغْفِرَة مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّة عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ
وَالأرْضُ )(30).
(واشتاق إلى قربك في المشتاقين)
أي حتى أشتاق.
الاشتياق: منازعة النفس إلى الشيء.
والفرق بين الشوق والعشق: أنّ الشوق وجدان وفقدان،
بخلاف العشق، فإنّه تأكد ميل النفس إلى الشيء المحبوب.
وعن الغزالي: معنى كون الشيء محبوباً هو ميل النفس
إليه، فإن قوي الميل سُمّي عشقاً.
وقال جالينوس: العشق من فعل النفس، وهي كامنة في
الدماغ والقلب والكبد، فالسائل المشتاق إلى الله تعالى حصل له من القرب
شيء، ويطلب أشياء اُخر لم تحصل له بعد.
(وأدنو منك دنو المخلصين)
أي أقرب منك نوع قرب المخلصين.
المخلص ـ بكسر اللام ـ : من أخلص لله في العلم
والعمل والمحبة والعشق، وبالفتح: هو من أفنى نفسه في محبة الله وعشقه.
ولعل الثاني مراد السائل، لأ نّه لم يحصل له بُعدٌ يطلبه من الله تعالى
أن يرزقه.
(وأخافك مخافة الموقنين)
الموقن: من أيقن بالله، سواء كان بالعلم والبرهان،
أو بالشهود أو العيان، وبالتحقق بحقيقة الإيمان.
والإيقان: المصدر للنوع، أي نوع مخافة الموقنين.
(وأجتمع في جوارك مع المؤمنين)
الجوار ـ بالكسر ـ : مصدر جاورت فلاناً، إذا لاصقته
في المسكن.
وهنا المراد: جوار عباده تعالى وأوليائه; إذ
مجاورتهم مجاورة الله تعالى، كما في حديث العامة: من أراد أن يجلس مع
الله فليجلس مع أهل التصوف.
قال المولوي في الحديث القدسي الّذي قال تعالى: (يا
موسى إنّي مرضت ولم تعدني):
آمد از حق سوس موسى اين عتب *** كى طلوع ماه ديده
تو ز حبيب
شرقت كردم ز نور ايزدى *** من حقم و نجور كشتم
نامدى
كفت سبحانا تو پاكى از زيان *** اين چه وفر است اين
بكن يا رب بيان
باز فرنئذش مع ذر رتحئرين *** چون نپرسيدى تو از
روى كرم
كفت يا رب نيست نقصانى تورا *** عقل كم شد اين سخن
را برگشا
كفت ارى بنده خاص كزين *** كشت ونجورا و منم نيكو
]...[
هست معذورش معذورى من *** هست رنجوريش رنجورى من
هر كه خواهد همنشينى باخدا *** تا نشينيد در حضور
أوليا
از حضور اولياكر يكسلى *** تو هلاكى ز آنكه جز وى
بى كلى
هر كس اد يو از كريمان وابرد *** بيسرش يابد سرش را
وابرد
(اللّهمّ ومن أرادني بسوء فأرده)
الإرادة هنا: القصد على الفعل، لا بمعنى المشيئة
والمحبة، أي مَن قصد إليَّ بالسوء والخيانة فأرده واقصده به.
(ومن كادني)
بالسوء والأذى.
(فكده)
كلاهما فعل المقاربة، أي مَن قرب منّي بسوء فاقرب
منه بالجزاء والمكافأة، لأ نّي قد فوضت أمري إليك، وأنت بصير بعبادك،
عليم بأقوالهم وأفعالهم، خبير بنياتهم وأحوالهم.
(واجعلني من أحسن عبيدك نصيباً عندك)
أحسن عباده تعالى وأكرمهم: هو المتقي بتقوى الأخص،
كما قال تعالى: (إنَّ أكْرَمَكُمْ
عِنْدَ اللّهِ أتْقَاكُمْ)(31).
وإنّما قلنا: تقوى الأخص: إذ مراتب التقى كمراتب
التوبة، ثلاثة: تقوى العام، وتقوى الخاص، وتقوى الأخص.
الأوّل: هو الاجتناب
عن المحرمات، وهو تقوى العوام.
والثاني: هو الاجتناب
عن الحلال، إلاّ بقدر الذريعة والبلغة إلى الآخرة، وهو تقوى الخواص.
والثالث: هو الاجتناب
عمّا سوى الله، وهو تقوى الأخصين الّذين قسطهم وقسمتهم من الله تعالى
هو حقّ اليقين.
(وأقربهم منزلة منك)
أي أقربهم درجة عندك.
والمنزلة: هي مقام النزول.
(وأخصهم زلفة لديك)
الزلفة والزلفى: القربى والمنزلة عنده تعالى.
(فإنّه)
أي أحسن عبادك وأقربهم وأخصهم.
(لا ينال ذلك)
النصيب والمنزلة والزلفة.
النيل: الوصول إلى الشيء.
(إلاّ بفضلك)
وموهبتك.
ما بدان مقصد عالى نتوانيم رسيد *** هم مگر لطف شما
پيش نهد گامى چند
(وجد لي بجودك واعطف عليَّ بمجدك)
المجد: هو الشرف الواسع المنيع عند العرب، ومنه
قوله تعالى: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ
مَجِيدٌ)(32).
العطوفة: الشفقة.
(واحفظني برحمتك، واجعل لساني بذكرك لهجاً)
أي ناطقاً، مولعاً في التنطق بذكرك.
(وقلبي بحبّك متيماً)
أي عاشقاً متذلّلا.
(ومُنَّ عليَّ بحسن إجابتك)
أمرٌ من المنّة، أي أنعم عليَّ.
وحسن الإجابة: سرعة قضاء الحاجات، واستيفاء جميع
المسألات، وإعطاء الجميع إلى السائل.
(وأقلني عثرتي)
أي أزل عنّي ذنوبي واعفها منّي، من الإقالة.
(واغفر لي زلتي)
أي أزل عنّي ذنوبي واعفها منّي، من الإقالة.
(فإنّك قضيت على عبادك بعبادتك)
الفاء للسببية.
ومراد السائل: أنّ ما صار سبباً لدعواتي ومسألاتي
واستدعيت قضاءها عن الله تعالى، وهو حكمه على عباده بعبادته وطاعته،
كما قال في كتابه المجيد: (وَقَضَى
رَبُّكَ ألا تَعْبُدُوا إلا إيَّاهُ)(33)وقال:(وَمَا
أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللّهَ)(34)
وقال: (وَأنِ اعْبُدُونِي هَذَا
صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ)(35).
(وأمرتهم بدعائك)
كما قال: (ادْعُونِي
أسْتَجِبْ لَكُمْ)(36).
(وضمنت لهم الإجابة)
كما قال المولوي(قدس سره):
گفت حق گر فاسقى واهل صنم *** چون مرا خوانى
اجابتها كنم
الضمانة: الكفالة.
(فإليك يا ربّ نصبت وجهي)
تقديم الظرف لقصد الحصر، أي إليك لا إلى غيرك.
والنصب: الاستقامة، وهنا المراد: ارتفاع اليدين،
ومحاذاة الوجه إلى السماء حين الدعاء، كما قال تعالى لنبيّه(صلى
الله عليه وآله وسلم): (فَإِذَا
فَرَغْتَ فَانصَبْ )(37) أي
إذا فرغت عن الصلاة فانصب إلى ربّك في الدعاء.
(وإليك يا ربّ مددت يدي)
مددت: أي بسطت ورفعت، قدّم الظرف أيضاً للحصر.
(فبعزتك استجب لي دعائي)
الباء للقسم.
(وبلّغني مُناي)
أي أوصلني إلى مناي، بالحذف والإيصال، كقوله تعالى:
(وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ)(38)
أي من قومه سبعين.
(ولا تقطع من فضلك رجائي، واكفني شرّ الجنّ والإنس
من أعدائي)
اكفني: أي اغنني عن شرّهم، وادفع شرهم إليهم.
الشر عدمي هو ـ كما مرّ ـ عدم ذات، أو عدم كمال
لذات، وهو مجعول في القضاء الإلهي بالعرض.
(يا سريع الرضا)
الرضا: ضد السخط والكراهة، وهو تعالى سريع الرضا،
لأ نّه يرضى من عباده باليسير، ويعفو عنهم الكثير، ويعطيهم الجزيل
والخطير.
(اغفر لمن لا يملك إلاّ الدعاء)
أي لا يملك شيئاً من الوجود وكمالات الوجود إلاّ
الدعاء، ولكن إن أمعن النظر في الحقيقة ليس العبد مالكاً للدعاء أيضاً،
كما قال المولوي:
أى دعا از تو اجابت هم زتو *** ايمنى از تو مهايت
هم زتو
چون خدا خواهد كه غفارى كند *** ميل بنده جانب زارى
كند
(فإنّك فعّال لما تشاء)
أي أنت تفعل ما تشاء وما تريد، بمحض الإرادة
والمشيئة، لا حالة منتظرة لجنابه تعالى، كما قال: (إنَّمَا
أمْرُهُ إذَا أرَادَ شَيْئاً أنْ يَـقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(39).
(يامن اسمه دواء)
لكلّ داء وبلاء.
(وذكره شفاء)
لكلّ ألم وسقم ومرض مزمن، قد أعيت الأطباء وآيسوا
عن معالجته.
(وطاعته غنىً)
عن الخلق.
والغَناء ـ بالفتح والمد ـ : الكفاية.
وفي الحديث: (من يستغن بالله وعطائه يغنه الله) أي
يخلق في قلبه غنى.
(إرحم من رأس ماله الرجاء وسلاحه البكاء)
السلاح ـ بالكسر ـ : هو ما يقاتل به في الحرب
ويدافع، والجمع: أسلحة.
(يا سابغ النعم)
أي كاملها وتامها وواسعها.
(يا دافع النقم)
ومزيلها.
(يا نور المستوحشين في الظلم)
الظُلَم: جمع الظلمة، وهي الغسق.
المستوحش: القاعد في الخلوات، من الوحشة وهي
الخلوة، وإن عُمّم لفظ «المستوحش» فيشتمل الأجنة الّتي في غواسق
الأرحام، والواقفين في ظلمات الأوهام، والسائرين في الأسفار وفي
الليالي المظلمة والطرق المدلهمة، وهو تعالى نور جميعهم.
(يا عالماً يا يُعلّم)
من التعليم، أي غير معلّم من أحد.
(صلّ على محمّد وآل محمّد، وافعل بي ما أنت أهله)
وأنت أهل التقوى والمغفرة.
وشكراً للربّ وللوالدين
انتهينا من العمل في هذا الكتاب نهاية ربيع الأوّل
1424 هـ .
مصطفى الشيخ عبدالحميد الشيخ منصور آل مرهون
***
|