احتمالات شذوذها ، وضعف نقلها ، فإنّه لولم يكن العمل بها جائزاً كانت بدعة ،
وزيادة في شريعة الإسلام ، وحوشي ذلك الشيخ العظيم المقام أن يُودع كتابه بدعة
ليست من الشريعة المحمدية ، بل كان يسقطها أصلاً ويحرّمها على عادته في
المجاهرة وترك التقية ، ولأنّ الشيخِ المفيد ذكر في خطبة كتاب المقنعة أنّه ألف ذلك
ليكون إماماً للمسترشدين ، ودليلاً للطالبين
(1) .
فصل :

وبيان ما قلناه من الاعتذار ، وأن شيخنا المفيد ما كانت هذه الرواية
(2)
التي كشفنا شذوذها وضعفها من باب الانكار ، أنّ جدّي السعيد أبا جعفر
محمد بن الحسن الطوسي رضوان الله عليه شرح كتاب المقنعة بتهذيب
الأحكام كما ذكرناه ، وما ذكر قول شيخنا المفيد : أنّها شاذة ، ولا تعرض
لذلك برواية ولا كلام ، بل أورد روايات الاستخارات بالرقاع الست وغيرها
على وجه واحد عن الثقات ، وهو أعرف باسرار شيخنا المفيد ، ولو كَان
يعرف منه إنكاره لمجرّد العمل بالرقاع في الاستخارات لذكره ، أو نبّه عليه ،
أو أشار إليه ، مع أنّ كتاب الاستبصار عُمل لأجل ما اختلف من الأخبار ، فلو
كان في هذه الاستخارة بالرقاع خلاف في التحقيق لذكره في الاستبصار ،
وهذا واضح لأهل التوفيق .
فصل :

وأما كلام الشيخ الفقيه محمد بن إدريس رحمة الله جلّ جلاله عليه
فهذا لفظ ما وجدناه عنه ، بعد ما حكيناه من اختياره للاستخارة بمائة مرة في
باب الاستخارة بمائة مرة .
____________
(1) أنظر المقنعة : 1 .
(2) لعل الأنسب : هذه الرواية عنده .
( 290 )
قال رحمه الله : والروايات في هذا الباب كثيرة ، والأمر فيها واسع .
والأولى ما ذكرناه .

قال : فامّا الرقاع والبنادق والقرعة فمن أضعف أخبار الآحاد ، وشواذ
الأخبار ، لأن رواتها فَطَحِيّة
(1) ملعونون ، مثل زُرْعة
(2) وسماعة
(3) وغيرهما ،
____________
(1) الفَطَحِية : فرقة قالت بإمامة عبد الله بن جعفر الصادق بعد أببه عليه السلام ، واعتلوا في ذلك
بانه كان أكبر ولد أبي عبد الله عليه السلام ، وان أبا عبد الله عليه السلام قال : الإمامة لا
تكون الآ في الأكبر من ولد الإمام . وقال الشيخ المفيد في رد الفطحية : إن عبد الله كانت به
عاهة في الدين ، وورد أن الم الإمامة تكون في الأكبر ما لم يكن به عاهة . وسموا بالفطحية أو
الأفطحية لأن رئيساً لهم من أهل الكوفة يسمى عبد الله بن أفطح ، ويقال أنه كان أفطح
الرجلين أي عريضهما ، ويقال بل كان أفطح الرأس ، ويقال أن عبد الله كان هو الأفطح ،
وسميت أيضاً : العمارية ، نسبة الى زعيم منهم يسمى عماراً . وروي أن عبد الله توفي بعد
أبيه عليه السلام بسبعبن أو تسعين يوماً .
أنظر « الفَرق بين الفِرَق : 62/ 59 ، الملل والنحل 1: 148 ، مجمع البحرين 2 :
400 ، سفينة البحار 2: 373 » .
(2) زُرْعة بن محمد ، أبو محمد إلحضرمي ، وثقه النجاشي وقال : روى عن أبي عبد الله وأبي
الحسن عليهما السلام ، وكان صحب سماعة وأكثر عنه ووقف ، ولم تذكر كتب التراجم أنه
كان فطحي المذهب ، بل اجمعت المصادر أنه كان واقفياً ، ونقل الكشي رواية صريحة
الدلالة على أن زرعة كذب في ما رواه عن سماعة بتصريح الإمام الرضا عليه السلام ، الأ أن
السيد الخوئي في المعجم ضعفها سنداً .
انظر « رجال النجاشي : 176/ 466 ، رجال الشيخ : 350/ 2 ، وفهرسته : 75/ 303،
اختيار معرفة الرجال : 476/ 904 ، نقد الرجال : 137 ، تنقيح المقال 1: 446/
4217 ، معجم رجال الحديث 7: 261/ 4667 » .
(3) سماعة بن مهران بن عبد الرحمن الحضرمي مولى عبد بن وائل بن حجر الحضرمي ، يكنى أبا
ناشرة ، وقيل : أبا محمد ، كان يتجر في القز ويخرج به الى حران ، روى عن أبي عبد الله
وأبي الحسن عليهما السلام ، ومات بالمدينة ، وثقْه النجاشي مرتين ، ولم تذكر المصادر أنه
كان فطحياً ، وانما ذكر الصدوق والشيخ أته كان واقفياً ، مع العلم أن السيد الخوئي يؤيد
عدم وقفه بادلة ذكرها في ترجمة الرجل ، وأن الشيخ المفيد عده في رسالته العددية من
الأعلام الرؤساء المأخوذ عنهم الحلال والحرام والفتيا في الأحكام الذين لا يطعن عليهم ولا
=
( 291 )
فلا يلتفت إلى ما اختصّا بروايته ، ولا يعرّج عليه .

ثم قال ما معناه - فإنّ لفظه فيه طول لا حاجة إلى إيراده - : إنَّ أصحابنا
يذكرون في كتب الفقه ما اختاره هو رحمه الله من الاستخارة ، ولا يذكرون
البنادق والرقاع والقرعة ، إلآ في كتب العبادات
(1) .

يقول علي بن موسى بن جعفربن محمد بن محمد بن الطاووس : قوله
رحمه الله : « والأولى ما ذكرناه » كاشفٌ عن أنّه ما أنكر العمل في الاستخارة
بالرقاع ، وانما ذكر أنّ الأولى ما اختاره هو رحمه الله وارتضاه ، وقد ذكرنا في
باب ترجيح العمل بالرقاع الست
(2) ما فيه بلاغ لمن عرف معناه ، فانظر في
المواضع الذي ذكرناه .

وأما قوله رحمه الله : « فأمّا الرقاع والبنادق والقرعة فمن أضعف أخبار
الأحاد ، وشواذ الأخبار ، لأن رواتها فطحية ملعونون ، مثل زُرْعة وسماعة
وغيرهما ، فلا يلتفت إلى ما اختصّا بروايته ، ولا يعرّج عليه » فإذا كان إنّما
كانت أخبار الاستخارة بالرقاع عنده رحمه الله شاذة لأجل أنّ
(3) رواتها فطحيّة
مثل زُرْعة وسماعة فما روينا فيما ذكرناه عن زرعة وسماعة شيئاً
أبداً ، بل ما ذكرنا رواية مسندة إلا عن من يصحّ العمل بما رواه ، فقد زالت
العلة التي لأجلها كانت عنده الأخبار شاذة وضعيفة ، وما روينا أخبار استخارة
الرقاع إلآ عن من اعتمد عليهم ثقات أصحابنا العارفين بالأخبار ، وقد أوضحنا
____________
=
طريق الى ذم أحدهم .
انظر « الفقَيه 2: 75 ذيل حديث 21 ، رجال النجاشي : 193/ 517 ، رجال الشيخ :
351/ 4 ، جامع المقال : 160 ،تنقيح المقال 2: 67/ 5271 ،معجم رجال الحديث
8: 297/ 5546 » .
(1)السرائر : 69 .
(2) تقدم في الباب التاسع ص 209 .
(3)في « د » : لأن بدل لأجل أن .
( 292 )
ذلك لأهل
(1) الاعتبار ، وليس كلّ أخبار الفطحيّة وفرق الشيعة باطلة بالكلية ،
بل فيهم من يعرف منه الثقة في الروايات ، وقد اعتمد شيوخ أصحابنا على
رواية جماعة منهم في كثير من الأحكام الواجبات والمندوبات ، وهذا واضح
بين أهل المعارف ، فلا يحتاج إلى زيادة قول كاشف .

وأما قوله رحمه الله : « إن أصحابنا ما ذكروا الاستخارة بالرقاع والبنادق
والقرعة في كتب الفقه ، بل في كتب العبادات » فلعلّ هذا يكون
سهواً من الناسخين لكتابه ، أو يكون له عذرٌ لا أعرفه ، وإلاّ فكتب الفقه
متضمّنة للقرعة ، وأنها في كلّ أمرٍ مشكل ، والاستخارة بها إنما كانت لأنّ
المستخير بها كان وجه الصواب عنده مشكلاً مجهولاً ، وما أحتاج مع أهلِ
العلم إلى ذكر القرعة في كتب الفقه ، إلى أن أحكي هاهنا ما وجدته مسطوراً
أو منقولاً .

وأمّا الاستخارة بالرقاع ، فيكفي ذكرها في كتاب الكليني ، وكتاب
تهذيب الأحكام ، وهما من أعظم كتب الفقه كما قدمناه ، وقد ذكرنا ذلك
وأوضحناه فيما ذكرناه ورويناه.

وأمّا قوله : « بل في كتب العبادات » فهذا لعله يكون له فيه عذر غير
ظاهر ، لأن الفقه إنّما كان له حكمٌ في الشرائع والديانات ، لأنه من جملة
العبادات ، ولولا ذلك كان عبثاً أو ساقط الروايات
(2) ، فالفقه من جملة
العبادات ، ولعله أراد أنّ العرف يقتضي أن الفقه عبارة عن ذكر مسائل الفقه
خالية من الأسانيد ومن العمل بالعبادات ، أو لعله أراد بذكر كتب العبادات أي
في كتب العمل ، فتكون الثانية قد ذكر عوض لفظ العمل العبادات .

وعلى كلّ حال ، سواء كان ذكرها في كتب العبادات أو كتب
____________
(1)في « د » : لأجل .
(2)ليس في « د » .
( 293 )
ـ
العمل والطاعات ، فإنَ المصنّف إذا كانت كتبه على سبيل الرواية احتمل أن
يقال عنه أنّه ما قصد بذلك الفتوى ولا الدراية
(1)، وأما إذا كان تصنيفه في
العبادات والعمل وللطاعات ، فقد ضمن على نفسه أنّ الذي يذكره في ذلك
من جملة الأحكام الشرعية ، وإلا كان قد دعا الناس إلى العمل بالبدع ،
ومخالفة المراسم الإلهية والشرائع النبوية ، فصار على هذا كتب العبادات
وكتب العمل والطاعات أظهر في الاحتجاَج بما تتضمّنه من كتب الفقه . أو
كتب الروايات .

وقد انكشف بذلك أن الشيخ محمد بن إدريس ما خالف مخالفة لا
تحتمل التأويل فيما أشرنا إليه ، وإنّما طعن على ما يختص بروايتة الفطحية
وأمثالها من ذوي العقائد الردية ، وهذا واضح فيما أوردناه
(2) من هذا الباب ،
وكافٍ لذوي الألباب .
الفريق الخامس : قومٌ يستخيرون الله جلّ جلاله فيما يُشْغِلُ عنه ،
ويعتقدون أنَّ ذلك ممّا يستخار الله فيه ، ومن المعلوم عند العارفين أنَّ الله جلّ
جلاله لا يستخار فيما يُشْغِلُ عنه ، وأنّ الاستخارة في ذلك خلاف عليه
سبحانه ، وعلى سيد المرسلين ، فإذا لم يجدوا استخارتهم في مثل هذا
الحال موافقة لما استخاروا فيه من السلامة والظفر بالآمال ، يعتقدون أنَّ هذا
لضعف الاستخارة ، أو للطعن في روايتها
(3) ، وإنّما هو لضعف بصائرهم ،
وقلة فائدتها
(4) .

ومثال استخارة هذا الفريق أنّ أحدهم يكون له مال يريد أن يزرع منه
زرعاً ، أو يعمل منه تجارة ، أو يسافر لأجله سفراً ، وما يقصد بالزرع ولا
____________
(1) في « د » و « ش » : ولا الرواية .
(2) في « ش » : أردناه .
(3) في « د » : رواتها .
(4)في « د » : فائدتهم .
( 294 )
التجارة ولا السفر أنّه يتقرّب بذلك إلى الله جلّ جلاله ولا لامتثال أمره
سبحانه ، بل لمجرّد ميل الطباع إلى الغنى ، ولأجل أنه يأنف
(1) أن يرإه
الناس فقيراً ، أو يرى أحد عياله محتاجين ، أو ليكون معظّماً محترماً بكثرة
المال ، وأمثال هذه الخواطر والأحوال ، التي تقع من المستخيرين وهم
غافلون عن الخدمة بهذه الحركات لسلطان العالمين ، فالعقل والنقل يقتضيان
أنّ هذا لايُستخار الله جلّ جلاله فيه ، وأنَّ المستخير في ذلك على هذه
الوجوه بعيد من الله جلّ جلاله ومن مراضيه ، ولعلك تجد أكثر الاستخارات
المعكوسة من هذا القبيل ، وقد عرّفك الله جلّ جلاله هذه الجملة ، وهوجلّ
جلاله أهلٌ أن يهديك إلى التفصيل .
الفريق السادس من الذين أنكروا الاستخارة : قوم زادوا على ما
قدّمناه من الاستخارة فيما يُشْغِلُ عن الله جل جلاله ، وفيما لا يتقرّبون به إلى
الله جلّ جلاله ، واستخاروا في معصية الثه تعالى ، وهم يعتقدون أنّها ليست
معاصي ، ومثال هؤلاء أن يستخيروا في معونة ظالم بوكالةٍ عنه ، وتكون تلك
الوكالة معونةً له على ظلمه ، أو تجارةً لظالم ، وتكون تلك التجارة معونةً له
على ظلمه ، أو في خدمة للظالم ، وتكون تلك الخدمة معونةً له على ظلمه ،
أو دخول على الظالم وهو يعلم من نفسه أنّه ما يقوم لله جل جلاله ولرسوله
صلّى الله عليه وآله بما يقدر عليه من إنكار ما يجده عند ذلك الظالم من
منكَر ، أو لا يوافق الله جل جلاله ورسوله صلى الله عليه وآله في كراهة تلك
المنكرات بقلبه إذا أقبل الظالم عليه وأدنى مجلسه وقضى حاجته .

ومثال ذلك أن يستخير الله جلّ جلاله في أن يتوِكّل لغير الظالم أو
يخدمه بنيّة أنّه يغشه أو يخونه أو يمكر به ، أو يغش أحداً لا يجوز غشه ، أو
____________
(1) في « د » : بخاف . ويأنف من الشيء يأنف أنفاً وأنفة ، أي استنكف « الصحاح -أنف - 4 :
1333 » .
( 295 )
يخونه أويمكر به لموكله ، أو لمن يخدمه .

ومثال آخر أن يستخير- كما قدّمته - في زرع يعلم من نفسه أنّه يؤثر فيه
بقلبه ظلم الوالي الأكرة
(1) في حفر نهر ( أو بيته يبق عن زرعه )
(2) بغير وجه
مشروع ، أو يوكل على الأكرة غلاماً يعلم أنّه يظلمهم ، وهو يستخير في
الزرع على هذه الوجوه وأمثالها التي لا يحلّ معها الزرع ، فكيف يجد
الاستخارة فيه .

فلعلك تجد من يستخيرفي مثل هذه المعاصي
(3) ويغفل عن كونها
معصية ، وإذا انعكس عليه أمره في الاستخارة في ذلك ، نسب العكس إلى
الاستخارة ، وإنّما العكس كان منه ، بطريقه
(4) وسوء توفيقه.
الفريق السابع من الذين ينكرون الاستخارة : لأجل ما رأوا فيها
من إكدار وانعكاس ، ولعلّ سبب اكدارها وانعكاسها عليهم أنّهم ما عملوا
شروط إجابة دعاء الاستخارات ، ولا تركوا الشروط المانعة من إجابة الدعوات
كما رويناه بإسنادنا في كتابنا التتمّات من تقدّم المدحة للّه جلّ جلاله في
الدعاء .

وكما رويناه بإسنادنا إلى مولانا علي عليه السلام أنّه قال : « إنّ الله
تبارك وتعالى أوحى إلى المسيح عليه السلام : قل للملأ من بني إسرائيل : لا
تدخلوا بيتاً من بيوتي إلا بقلوب طاهرة ، وأبصار خاشعة ، وأكفّ نقيّة ، وقل
____________
(1)الأكَرة : جمع أكار ، وهو الحرّاث « لسان العرب - أكر - 4 : 26 » .
(2) كذا في « م » ، وفي « د » : أو عنه هو عن زرعة . وفي « ش » : او سه تو عن زرعه ، ولعل
المناسب : نيته بيع زرعه .
(3)ليس في « م » و « ش ».
(4) في « ش » : وبطريقه .
( 296 )
لهم : إنّي غيرمستجيب لأحد منكم دعوة ، ولأحد من خلقي قِبَله
مظلمة»
(1).

وكما رويناه بإسنادنا هناك إلى الصادق عليه السلام قال : « أوحى اللّه
تبارك وتعالى إلى داود عليه السلام : قل للجبّارين لا يذكروني ، فإنّه لا
يذكرني عبد إلآ ذكرته ، وإنْ ذكروني ذكرتهم فلعنتهم »
(2).

وكما رويناه بإسنادنا هناك أيضاً ، عن الصادق عليه السلام : « انّ رجلا
كان في بني إسرائيل ، فدعا الله أن يرزقه غلاماً ، يدعو ثلاث سنين ، فلّما
رأى أنَّ الله لا يجيبه ، قال : يا ربّ أبعيدٌ أنا منك فلا تسمعني أم قريب أنت
منّي فلا تجيبني ؟ قال : فاتاه آتٍ في منامه ، فقال له : إنّك تدعو منذ ثلاث
سنين بلسان [ بَذِيّ ]
(3) وقلب عاتٍ غير نقي ، ونيّة غير صادقة ، فاقلع عن
ذلك ، وليتّق الله قلبك ، ولتحسُن نتتك ، قال : ففعل الرجل ذلكَ ثمّ دعا الله
فوُلد له غلام »
(4) .

وكما رويناه بإسنادنا إلى الصادق عليه السلام قال : « قال اللهّ تبارك
وتعالى : وعزّتي وجلالي لا أجيب دعوة مظلوم في مظْلَمة ظُلِمَها ، ولأحد
عنده مثل تلك المَظْلمَة »
(5) .

وكما روِيناه في حديث اخر : أنّ رجلاً قال للصادق عليه السلام : إنّنا
____________
(1) رواه الصدوق في الخصال : 337/ 40 ، وورام في تنبيه الخواطر 1 : 254 ، وأورده
المصنف في فلاح السائل : 37 ، وابن فهد في عدة الداعي : 130 .
(2)أورده المصنف في فلاح السائل : 37 .
(3)ما بين المعقرفين من الكافي .
(4) رواه الكليني في الكافي 2 : 244/ 7 ، والراوندي في قصص الأنبياء : 181 ، وأورده
المصنف في فلاح السائل : 37 ، وابن فهد الحلي في عدة الداعي : 137 .
(5)أورده المصنف في فلاح السائل : 38 .
( 297 )
ندعو فلا يستجاب لنا ، فقال : « إنّكم تدعون من لا تعرفونه »
(1) .

وفي حديث آخر معناه عن الصادق عليه السلام : إنّ العبد يدعو وهو
مصرٌ على معصية الله تعالى ، فالله جلّ جلاله يطالبه بالتوبة ، والعبد يطالبه
بإجابة دعائه . فإذا ردّه الله جلّ جلاله عن الإِجابة في جواب ردّه عن الإِجابة
إلى التوبة ، فقد رحمه وعفا عنه .

أقول : فإذا استخار العبد اللهّ جلّ جلاله ، وهو على صفات ، أو صفة
تمنع من إجابة الدعاء ، فإذا لم تنعكس استخارته يكون ذلك من باب الفضل
الذي لا يستحقّه العبد ، وللّه جلّ جلاله أن يفعله وأن لا يفعله ، فإذا انعكست
الاستخارة كان ذلك من باب العدل الذي للهّ جلّ جلاله أن يفعله ( وأن لا
يفعله )
(2) مع عبده ، فربّما تنعكس في مثل هذه الأسباب استخارات ،
ويكون عكسها من باب العدل ، فيعتقد العبد أنّ ذلك لضعف الروايات . .
الفريق الثامن من الذين تركوا الاستخارة وتوقّفوا عنها حيث
لم يظفروا بالمراد منها : وهم قوم كانوا يستخيرون اللّه جلّ جلاله مثلاً
استخارة صحيحة ، ولكنْ ما كانوا يتحفّظون بعد الاستخارة من المعاصيِ
الظاهرة والباطنة ، إمّا جهلاً بالمعاصي ممّا لا يعذرون
(3) بجهله ، او عمداً
لاعتقادهم أنّ ذلك ما يبطل
(4) الاستخارات ، ولا يحول بينهم وبين ما
استخاروا فيه ، فيقع منهم بعد الاستخارة من المعاصي للهّ جلّ جلاله ما
يقتضي عكس الاستخارة ، بعد أن كان الله جلّ جلاله قد أذن في قضاء
حاجتهم .
____________
(1) رواه الصدوق في التوحيد : 288 / 7 .
(2)ليس في « ش ».
(3) في « د » و « م » : مما يعذرون .
(4)في « د » : ما لايبطل .
( 298 )

كما رويناه بإسنادنا في كتاب التتمات
(1) عن الحسن بن محبوب ، عن
أبي أيوب ، عن محمد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال : « إن
العبد يسأل الله تبارك وتعالى الحاجة من حوائج الدنيا ، قال : فيكون من شان
اللّه قضاؤها إلى أجل قريب ووقت بطيء ، قال : فيذنب العبد عند ذلك
الوقت ذنباً ، فيقول للملك الموكل بحاجته : لا تنجز له حاجته ، واحرمه
إيّاها ، فإنّه قد تعرّض لسخطي ، واستوجب الحرمان مني »
(2) .
الفريق التاسع من الذين توقّفوا عن الاستخارة ، وأنكروا
العمل بها : وهم قوم ما كانوا يعرِفون كيف يستخيرون ، زيادةً على ما
قدّمناه ، فوجدوا الاستخارات كما لا يريدون ، فاعتقدوا أن ذلك لبطلان
الرواية بالاستخارة الربانيّة ، وإنّما كان لعدم معرفتهم بشروطها المرضية ،
وذلك أنّ أقل مراتب المستخير أن يسلّم إلى الله تعالى طرفي التدبير : نعم
ولا ، وهو ربما يستخير وأحد الطرفين في يد هواه ، لا يتركه ولا يسلّمه إلى
مولاه .
ومن آداب المستخير : أن تكون صلاته للاستخارة صلاة مضطر إلى
معرفة مصلحته التي لا يعلمها إلآ
(3) علام الغيوب ، فيتأدب في صلاته كما
يتأدب السائل المسكين المضطر إلى نجاح المطلوب.
ومن آداب المستخير : أن يكون عند سجوده للاستخارة وقوله :
« أستخير الله برحمته خيرة في عافية » بقلب مقْبِل على الته جل جلاله ، ونية
حاضرة صافية ، فإنّه يعلم أنّه ما كان يبلغ أمله إلى
(4) أن يشاور الله في كل ما
____________
(1) في النسخ : السمات ، والصواب ما في المتن .
(2) رواه الكليني في الكافي 2 : 208 / 14 ، والمفيد في الاختصاص : 31 ، وأورده المصنف
في فلاح السائل : 38 .
(3) في « ش » زيادة : من .
(4)في « د » : إلا .
( 299 )
يُمْكِن مشاورته فيه ، ولعلّه في وقت مشاورته فيه على خلاف مراضيه ، فلا
أقل من أن يكون قلبه مقبلا عليه ، كما لو شاور واستشار بعض ملوك الدنيا إذا
احتاج إليه ، وقدر أن يقف بين يديه .
ومن آداب المستخير : أنّه إذا عرف من نفسه وقت سجوده
للاستخارات أنّها قد غفلت عن ذكر أنّها بين يدي عالم الخفيات ، أن يستغفر
ويتوب في الحال من ذلك الإهمال ، لأنه إذ اغفل عن الله جلّ جلاله وهو
يستشيره في أمره ، كان كمن حضر بين يدي مولاه ، ثمّ جعل يحدّثه
ويشاوره ، وقد جعل سيده وراء ظهره . .
ومن آداب المستخير: أنّه إذا رفع رأسه من سجدة الاستخارات أنّه
يُقْبل بقلبه على الله جل جلاله بصدق النيات ، ويتذكّر أنّه يأخذ رقاع
الاستخارة من لسان حال الجلالة الإِلهية ، وأبواب الإِشارة الربانية ، فإن
الرقاع تضمّنت أنّها خيرةٌ من الله العزيز الحكيم ، لفلان بن فلان إفعل ، أفلا
ترى أن رقاع الاستخارة مكتوبات من الله جلّ جلاله أعظم مالكٍ ، وأحقّه
بالمراقبات إلى عبده المضطر إليه في سائر الأوقات ، فلا أقل أن يكون امتدادُ
يده لأخذ رقاع الاستخارات بتأدب وذُلٍّ وإقبال السرائر ، كما لو أخذها من
سلطان في الدنيا قاهرٍ ، فما يعلم أنه ياخذها ممّن كتبها إليه ، وهو الله مالك
الأوائل والأواخر .
ومن آداب المستخير: أنّه لا يتكلم بين أخذ رقاع الاستخارة مع غير
الله جل جلاله ، كما تقدم روايتنا له . عن مولانا الجواد صلوات الله عليه
(1) ،
فإن العبد لو كان يشاور ملكاً من ملوك الدنيا ما قطع مشاورته له وحادث غيره
ممن هو دونه ، بل كان يُقْبل بقلبه وقالبه وجنانه ولسانه مدة وقت المشاورة
____________
(1) تقدم في ص 143 .
( 300 )
عليه ، فلا يكون الله جلّ جلاله دون عبده من ملوك الدنيا المشار إليه .
ومن آداب المستخير : أنّه إذا خرجت الاستخارة مخالفة لمراد
المستخير ولهواه ، فإنّه لا يقابل مشورة الله جلّ جلاله بالكراهة ومخالفة
رضاه ، بل يقابل ذلك بالشكر لله جلّ جلاله كيف جعله أهلاً أن يستشيره ،
وجعله أهلاً أن يجيبه في الحال ، بمصلحة دنياه واُخراه ، ما كان العبد يحسن
أن يتمنّاه .

وللاستخارة آدابٌ غير ما ذكرناه ، وقد رأينا الاقتصار على ما أوضحناه ،
فربما ترك العبد شيئاً من هذه الآداب أو غيرها ، ممّا يكون شرطاً في مراقبة
مالك الأسباب ، فما يؤمنه من إعراض الله جلّ جلاله عنه ، ويكون الذنب
للعبد حيث أغضب الله جلّ جلاله عليه بما وقع من سوء الأدب منه .
الفريق العاشر ممن يتوقف عن الاستخارة أو ينكرها : قوم من
عوام العباد ، ما في قلوبهم يقين ، ولا قوة معرفة ، ولا وثوق بسلطان
المعاد ، لأنّهم ما تسكن نفوسهم إلآ إلى مشاورة من يشاهدونه ويأنسون به
ويعرفونه من الأنام ، والله جلّ جلاله ما تصحّ عليه المشاهدة ، وليس لهم
اُنس
(1) قوة المعرفة له ، ولا لذة الوثوق به ، ولا يعرفون للمشاورة له فائدة
عندهم من قصور الأفهام.
وَمَنْ يكُ ذا فمٍ مرّمريضٍ * يجد مراً به الماء الزلالا

وهؤلاء من قبيل الذين ذكرهم مولانا أمير المؤمنين عليه السلام في بعض
خطبه الرائقة : « همج رَعاع ، لا يعبا الله بهم ، أتباع كل ناعق وناعقة »
(2) .
____________
(1)ليس في « م ».
(2)قال أمير المؤمنين عليه السلام في وصيته لكميل بن زياد : الناس ثلاثة : فعالم رباني ، ومتعلم
على سبيل نجاة ، وهمج رعاع أتباع كل ناعق . « نهج البلاغة :495/ 147 » .
( 301 )
الفريق الحادي عشر : قومٌ يسمعون أن بعض أهل الاستخارات
يستخير في قصد مشاهد لزيارات أو في بعض المندوبات ، أو بعض
المواصلة
(1) بالصدقات ، فيسبق إلى خواطرهم أن المستخير في هذه الأسباب
يستخير الله جل جلاله ليستعلم منه سبحانه هل هذه مندوبات واداب أم لا ؟
فيقولون هذه قد وردت في الأخبار بانها مندوبات ، وأنها قربات وطاعات ،
فكيف يحتاج الانسان أن يستخير الله جل جلاله ويستعلم منه ما قد ورد في
الروايات ، ولو كانوا قد عرفوا أن المستخير في هذه الأحوال أعرف منهم بما
ورد في تلك القربات من الأخبار ، والحث على حث صواب الأعمال ، وأنه
ما يستخير فيما سبقت خواطرهم إليه ، كانوا عسى قد عرفوا بعض أنعام الله
جل جلاله بالاستخارة عليهم وعليه .

إنما على العبد الذي يستخير في ذلك خدمة الله جلّ جلاله وطاعات إن
أقام عند العيال ومهمات وعليه خدمة بالسفر إلى الزيارات ولا يمكن الجمع
بين ما هو مكلف به في الحضر والسفر في وقت واحد ، فيحتاج أن يعرف
مشاورة الله أيهما يقدم الان وأيهما يترك ، وهذا واضحٍ للأعيان ، ولأن العبد
ما يدري هل
(2) اذا توجه الى السفر يكون . متمكنا من التفرغ بالعافية ،
وإخلاص النيات ، وزوال الحوائل والحادثات ، واذا أقام عند عياله يكون
(3)
أبلغ في التفرغ والسلامة من المكروهات ، كما قدمناه ، ولا يعلم أيضاً ما
يلقاه في طريق الأسفار من الأكدار ، ولا ما يلقاه إن أقام في الدار من
الأخطار ، فيحتاج أن يستعلم بالاستخارة عاقبة ما يستقبله من الأوقات ، وهذا
لا يعلمه الآ من عالم الخفيات ، وقد قدمنا ما أردنا ذكره فيما مضى من
____________
(1)في « د » : الموصلة .
(2)ليس في « م ».
(3)في « د » : لم يكن .
( 302 )
الأبواب من صواب الاستخارة في المندوبات والآداب ، ممّا فيه بلاغ لذوي
الألباب .
( 303 )
الباب الرابع والعشرون:
فيما أذكره من أنّ الاعتبار في صواب العبد في
الأعمال والأقوال على ما وهب اللّه جلّ جلاله من
العقل [ في المعقول ، وعلى ما نبّه صلوات اللّه
عليه في المنقول ](1) دون من خالف في ذلك على
كل حال

إعلم أنّني وجدت التكاليف المرادة من العباد ، جملتها إمّا عقلية واما
نقلية ، فاقا العقلية ، فإنني ما وجدت العقلاء كلهم اتفقوا أبداً ، لا على
البديهية ولا على الضرورية ، فكيف ما دونها من الأمور العقلية ، بل خالف
في ذلك قوم ، يقال لهم : السوفسطائية ، واللا أدرية وغيرهم من المذاهب
الردية ، بل وجدت الذين سلِمُو من جحود تلك المعقولات قد أطبق منهم
الخلق الكثير والجم الغفير على أنهم لا يعرفون أن الفعل الصادر عنهم أنه
واقع منهم ، وقالوا هو من الله جل جلاله ، وزعموا أنَ هذا معلوم عندهم على
اليقين ، وأن من قال غير ذلك فهو من المكابرين.
____________
(1) ما بين المعقوفين أثبتناه من فهرس الكتاب الذي أورده المصنف في مقدمة الكتاب .
( 304 )

ثمّ رأيت وعرفت خلقاً كثيراً ، وجمّاً غفيراً ، زعموا أنّ أعقل العباد،
وأفضل أهل الإِصدار والإيراد ، وهو محمد رسول سلطان المعاد صلوات الله
عليه كان أعظم الناس على أُمته شفقة ، وعرّفهم
(1) أنّهم يفترقون بعده ثلاثاً
وسبعين فرقة متمزقة
(2) ، ويهلك منهم اثنان وسبعون فرقة ، ولا ينجو منهم إلا
فرقة واحدة محقّة ، ومع هذا فذكروا أنّ عقولهم قد قَبِلت أنّه ما عيّن لهم علياً
وصياً يرجعون إليه بعد وفاته، وعند اختلافهم وافتراقهم الذي قد علم به في
حياته ، ولا قال لهم اختاروا أنتم من تريدون ، وأنه تركهم يختلفون ، ويقتل
بعضهم بعضاً على شبهات الاختلاف والتأويلات ، وكلّهم يقولون : إنّه لو عين
لهم علياً وصياً بعده ، أو قال لهم : اختاروا ، ما كانوا خالفوا قوله ، ولا
افترقوا ، ولا حصلوا في الهلكات ، فلا مثل قولهم وهو الحق أنّه أعظم الأنبياء
عليهم شفقة صلوات اللهّ عليه وعليهم أجميعن ، ولا مثل قولهم أنه لو أوصى
الى وصي ، أو قال اختاروا أنتم ، ما كانوا مختلفين ولا مثل قولهم الذي ما
تقبله العقول أنه أهملهم ولم يعيّن لهم على من يقوم مقامه ، وتركهم
هالكين ، فهل بقي للعاقل عياراً واعتباراً بعقول هذا القبيل ، وهم أكثر
الخلائق ، أو أن يقال له فلان أو فلان مخالف لك في المعقول أو موافق ،
وإنما بقي الاعتبار والعيار في المعقولات على ما وهب الله نجلّ جلاله للعبد
المكلّف من العقل ، فهو الحجة عليه وله فيما طريقه العقل ، ولو خالفه في
ذلك من عدا المعصومين من أهل المقالات .

وأما التكاليف النقلية ، فوجدت العقل قد دلّ على أنّ المرجع فيها الى
الرسول صلّى الله عليه واله ، والى من يجري مجراه في عصمته وكماله ، وإن
خالف في ذلك من عداهما ، من كلّ عبد موجود أو مفقود ، فهل ترى للكثرة
أثراً من المادحين أو اللائمين إذا كانوا غير محقّين ؟ وهل للعبد تفرغ وقت
____________
(ا) في « م » : وعرف.
(2) ليس في « د » .
( 305 )
ـ
يضيعه في تحصيل مدح العباد له وثنائهم عليه ، ووزن حركاته وسكناته
بحسب رضاهم ، فيما يقربه إليهم ، أو يقرّبهم إليه ، مع ما كُلِّف العبد من
دوام مراقبة مالك الأولين والاخرين ، المطّلع على أسرار العالمين ، ومع ما
كُلِّف في سائر الحركات والسكنات من العمل بمراسم واداب سيّد المرسلين ؟

ومما رويناه بإسنادنا أنّ محمد بن يعقوب الكلينيّ في كتاب الإيمان
الكبير من كتاب الكليني ، بإسناده عن حفص بن غياث ، قال : سمعت أبا
عبد الله عليه السلام يقول : « إن قدرت ألأ تُعْرَف فافعل ، وما عليك ألآ يثنى
عليك الناس ، وما عليك أن تكون مذموماً عند الناس ، إذا كنت محموداً عند
الله عز وجل »
(1) .

أقول : ومثال ذلك أن الإنسان لو كان في حبس سلطان ، وقد رتب
السلطان عليه في الحبس شخصين ، وهما معه موكلان ، ينقلان حركاته
وسكناته إليه ، وما قنع بالشخصين الموكلين به حتى جعل جوارحه شهوداً
أيضآَ عليه ، وما قنع السلطان أيضاً بذلك حتى جعل بينه وبين قلب هذا
المحبوس منظرة يطّلع منها على ضمائر العبد وأسراره ، وقيل للمحبوس إنّه إن
أخفى شيئاً أو أبداه في ليله أو نهاره فإنّ السلطان يحاسبه به ولا يلتفت الى
أعذاره ، فهل يقبل العقل أنّ هذا المحبوس إذا علم هذا كلّه من صعوبة حاله
يترك الاشتغال بنفسه وصواب أعماله ، ويهتم تحصيل مدح أهل الحبس له
لاقبالهم عليه ، أو يفكر في ذمهم وقله ميلهم إليه ؟!

فهكذا حال العبد المكلّف ، بل أصعب في الحياة الدنيوية ، فإنّه
المسكين في الحبس ، لأنّ الدنيا سجن أهل الإِيمان ، ومعه الملكان الحافظان
الموكّلان ، ومع ذلك له فلم يقنع له بهذه الحال حتى جعل اللّه جلّ جلاله
____________
(1) الكافي 2: 0 33/ 5 و 8: 128/ 98 ، ورواه الصدوق في الأمالي : 531 ، وورام في
تنبيه الخواطر 2 : 136 .
( 306 )
جوارحه شهوداً عليه يوم الحساب والسؤال ، وما قنع له أيضاً بهذا الاستظهار
عليه ، حتى كان الله جلّ جلاله عالماً بسره ، خيره وشرّه ، ومطلعاً عليه ،
وقال له مع ذلك قولا لو فهمه وصدقه وعَمِل به صَعُب عليه الحياة ، فقال
تعالى :(
إن تُبْدُوا مَا فِي اَنْفسِكُمْ اَوْتُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّه )
(1) فهل ينبغي للعبد
مع هذا أن يكون له اشتغال بغير مراد الله جل جلاله ، وغير مراد رسوله سيد
المرسلين ونائبه صلوات اللهّ عليهما دون الخلائق أجمعين ؟
فصل :

وهَبْ أنّ الإنسان يقول أنه ما تميل نفسه الى شرف هذا المقام ، فإنّ
طبعه ما يميل إلاَ الى مدح الأنام ، والاجتهاد في السلامة من ذمهم ،
ويهتمّ بذلك غاية الاهتمام ، ويقدم الاجتهاد في ذلك على الاجتهاد في مدح
الله جلّ جلاله له
(2) ، ومدح رسوله ونائبه عليهما أفضل الصلاة والسلام ، ولا
يحزنه استحقاق ذم الله جلّ جلاله وذم رسوله وخاصته ، كما يحزنه ذم غيرهما
من أهل صداقة هذا العبد ، أو ذم أهل معرفته ، فهل يتهيأ لهذا العبد إذا
خالف ما قلناه ، ولم يُشْغَل بمولاه ، أن يحصل له رضى العباد عنه ، ومدحهم
له ، وترك مذمتهم ، أما يعلم أن هذا أمر مأيوس منه ، فلأي حال يضيع
عمره ، وهو رأس مال بضاعة الدنيا والأخرة ، فيما لا يصحّ ولا يملك ، أما
سمع قول الحق والصدق : رضا العباد غاية لا تدرك
(3) .
____________
(1)البقرة 2 : 284 .
(2)ليس في « د » و « ش ».
(3) قال علقمة : فقلت للصادق عليه السلام : إن الناس ينسبونا الى عظائم الأمور وقد ضاقت
بذلك صدورنا ، فقال عليه السلام : إن رضا الناس لا يملك ، وألسنتهم لا تضبط ، وكيف
تسلمون مما لم يسلم منه أنبياء الله ورسله ، الحديث « وسائل الشيعة 18 : 293 » .
( 307 )
فصل :

وسوف نذكرحكايات نعرضها على عقله وفضله ، وهي وإن كانت
مشهورة ، إلا أن الإنسان يحتاج إلى أن يُذكر نفسه كلّ وقتَ بما يقرّبها الى
صلاح فعله .

قال بعض العلماء : حادثوا هذه النفوس ، فإنّها سريعة الدُثُور
(1) ،
وإنكم إلا تحادثوها . تنزع بكم الى شرِّغاية .
فمن الحكايات في تعذّر رضى العباد ، حكاية عن لقمان وولده نذكر
معناها ، فهوكافٍ في المراد :

قد روي أن لقمان الحكيم قال لولده في وصيّته : لا تعلّق قلبك برضا
الناس ومدحهم وذمّهم ، فإنّ ذلك لا يحصل ، ولو بالغ الإنسان في تحصيله
بغاية قدرته .

فقال له ولده ما معناه : اُحب أن أرى لذلك مثلاً أو فعالاً أو مقالاً .

فقال له : أخرج أنا وأنتَ .

فخرجا ومعهما بهيم ،فركبه لقمان وترك ولده يمشي خلفه
(2)، فاجتازا
(3)
على قوم ، فقالوا : هذا شيخ قاسي القلب ، قليل الرحمة ، يركب هو
الدابة ، وهو أقوى من هذا الصبي ، ويترك هذا الصبي يمشي وراءه ، إن هذا
بئس التدبير .

فقال لولده : سمعت قولهم وإنكارهم لركوبي ومشيك ؟ فقال : نعم ، فقال :
إركب أنت يا ولدي حتى أمشي أنا . فركب ولده ومشى لقمان ، فاجتازا
(4)
____________
(1) دُثُور النفس : سرعة نسيانها « مجمع البحرين - دثر- 3 : 298 ».
(2) في « د » و « ش » : وراءه .
(3 -4) في « م » : فاجتازوا .
( 308 )
على جماعة أخرى ، فقالوا : هذا بئس الوالد ، وهذا بئس الولد ، أمّا أبوه ،
فإنّه ما أدّب هذا الصبيّ حتى ركب الدابة ، وترك والده يمشي وراءه ، والوالد
أحقّ بالاحترام والركوب ، وأمّا الولد ، فإنه قد عقّ والده بهذه الحال ،
فكلاهما أساء في الفعال .

فقال لقمان لولده : سمعت ؟ فقال : نعم . فقال : نركب معاً الدابة ،
فركبا معاً ، فاجتازا
(1) على جماعة ، فقالوا : ما في قلب هذين الراكبين
(2)
رحمة ، ولا عندهم من الله خير ، يركبان معاً الدابة ، يقطعان ظهرها ،
ويحملانها ما لا تطيق ، لو كان قد ركب واحد ، ومشى واحد ، كان أصلح
وأجود.

فقال : سمعت ؟ قال : نعم . فقال : هات حتى نترك الدابة تمشي
خالية من ركوبنا ، فساقا الدابة بين أيديهما وهما يمشيان ، فاجتازا على
جماعة ، فقالوا : هذا عجيب من هذين الشخصين ، يتركان دابة فارغة تمشي
بغير راكب ، ويمشيان ، وذمّوهما على ذلك كمّا ذموهما على كل ما كان .

فقال لولده : ترى في تحصيل رضاهم حيلة لمحتال ؟ فلا تلتفت
إليهم ، واشتغِلْ برضى الله جل جلاله ، ففيه شغل شاغل ، وسعادة وإقبال في
الدنيا ويوم الحساب والسؤال
(3) .
فصل :

ومن الحكايات ما رأيناه ورويناه أنَ موسى عليه الصلاة والسلام قال :
يا ربّ إحبس عني ألسِنة بني آدم ، فإنهم يذموني ، وقد آذوني
(4) - كما قال
____________
(ا) في « م » : فاجتازوا .
(2)في « د » : الشخصين .
(3)نقله المجلسي في بحار الأنوار 13: 433/ 27 ، و 71: 361/ 4 .
(4) في البحار : أوذي ، ولعله أنسب .
( 309 )
الله تبارك وتعالى عنهم : (
إلَا تَئهونُوا كَالّذِينَ آذَوْا مُوسَى)
(1) - قيل : فأوحى
الله جلّ جلاله إليه : يا موسى هذا شيء ما فعلته مع نفسي ، أفتريد أن أعمله
معك ؟ ! فقال : قد رضيت أن يكون لي أُسوة بك
(2) .
فصل :
ـ
ومن الحكايات فيما ذكرناه ، ما وجدناه أنّ النبي صلىٍ اللهّ عليه وآله
وسلّم قال لسلمان : « يا سلمان ، الناس إنْ قارَضْتهم قارَضوك
(3) ، وإنْ
تركتهم لم يتركوك ، وإنْ هربت منهم أدركوك » قال : فأصنع ماذا ؟ قال :
« أقْرِضْهُمْ مِنْ عِرْضَكَ ليوم فقْرِك »
(4) (5) .
فصل:(6)

فالسعيد من إذا ظفر بالحق عمل عليه ، وإنْ كثر المختلفون فيه
والطاعنون عليه ، واشتغل بشكر الله جلّ جلاله على ما هداه
(7) إليه ، فإنّ اللّه
جل جلاله قد مدح قوماً على هذا المقام اللازم ، فقال عزّ وجل : (
لايَخَافُونَ
لَوْمَةَ لائمٍ)
(8) ونحن قد عرفنا
(9) حقيقة هذه الاستخارة على اليقين الذي لا
شك فيه بسبب من الأسباب ، وكشف اللّه جلّ جلاله لنا بها وجوه ما يستقبل من
____________
(1)لأحزاب 33: 69 .
(2) نقله المجلسي في بحار الأنوار 71: 361/ 5 .
(3) أي إن ساببتهم ونلت منهم سبوك ونالوا منك ، وهو فاعَلْت من القرض . قال في النهاية 4 :
41 : ومنه حديث أبي الدرداء : إن قارضت الناس قارضوك .
(4)أي إذا نال أحد من عرضك فلا تجازه ، ولكن اجعله قرضاً في ذمته لتأخذه منه يوم حاجتك
إليه ، يعني يوم القيامة . « النهاية-قرض - 4 : 14 ».
(5) نقله النوري في مستدرك الوسائل 2: 92/ 7 و 411/ 5.
(6)ليس في « د ».
( 7) في « د » زيادة : الله .
(8) المائدة 5: 54.
(9)في « ش » زيادة : حال .
( 310 )
ـ
الصواب ، وما نقدر على القيام بشكر الله جلّ جلاله على الانعام بفتح هذا
الباب ، وإنّما نسأله العفوعن التقصير في حقّ جلاله وإفضاله اللذين لا
يحصر
(1) حقّهما بخطاب ولا جواب ولا كتاب ، فمن كان شاكاً فيما قلناه ،
فلينظر بقلبه وعقله وإنصافه ما قد اشتمل كتابنا هذا عليه ، ويذكر أنّ الله تعالى
مطّلع عليه ، ويقبل ما يهديه اللهّ جلّ جلاله لرسوله فيما نطق به الكتاب :
(
فَإنّما عَلَيْكَ البلاَغُ وَعَلَيْنَا الحِسَابُ )
(2) (
فبَشرْ عِبَادِ * الَذِينَ يَسْتَمِعُونَ
الْقَوْلَ فَيَتّبعُونَ أحْسَنَهُ أولَئكَ الّذِينَ هَدَاهُمُ اللّه وُأولَئِكَ هُمْ أوْلُوا
الآَلبَاب )
(3) . وهذا آخر ما أردنا ذكره في هذا الباب ، والله أعلم بالصواب
(4).

وفرغ من كتابته يوم الأحد ، خامس شهر جمادى الأولى سنة ثمان
وأربعين وستمائة ، وصلى اللهّ على سيّد المرسلين محمد وآله الطاهرين ،
تمت.
____________
(ا)في « ش » : لايحصى .
(2)الرعد 13 : 40.
(3)الزمر 39 : 17 ، 18 .
(4) في « ش » : والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين . بدل :
والله أعلم بالصواب .