|
|
الباب السادس فيما يتعلق
بمباهلة سيد أهل الوجود لذوى الجحود ، الذى لا يساوى ولا يجازى ، وظهور حجته
على
الصالحة ، لا حاجة الى ذكر اسمائهم ، لأن المقصود ذكر كلامهم ، قالوا : لما فتح النبي صلى الله عليه وآله مكة ، وانقادت له العرب ، وارسل رسله ودعائه الى الامم ، وكاتب الملكين ، كسرى وقيصر ، يدعوهما الى الاسلام ، والا أقرا بالجزية والصغار ، والا أذنا بالحرب العوان (1) ، أكبر شأنه نصارى نجران وخلطاؤهم من بنى
عبدالمدان وجميع بنى الحارث بن كعب ، ومن ضوى إليهم (1) ، ونزل بهم من دهماء الناس (2) على اختلافهم هناك في دين النصرانية من الا روسية والسالوسية واصحاب دين الملك والمارونية والعباد والنسطورية ، واملأت قلوبهم على تفاوت منازلهم رهبة منه ورعبا ، فانهم كذلك من شأنهم . إذا وردت عليهم رسل رسول الله صلى الله عليه وآله بكتابه ، وهم عتبة بن غزوان وعبد الله بن أبى امية والهدير بن عبد الله اخو تيم بن مرة وصهيب بن سنان اخو النمر بن قاسط ، يدعوهم الى الاسلام ، فان اجابوا فاخوان ، وان ابوا واستكبروا فالى الخطة (3) المخزنية (4) الى اداء الجزية عن يد ، فان رغبوا عما دعاهم إليه من احد المنزلين (5) وعندوا فقد آذانهم على سواء ، وكان في كتابه صلى الله عليه وآله : ( قل يا اهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم الا نعبد الا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا اربابا من دون الله ، فان تولوا فقولوا اشهدوا بانا مسلمون ) (6) . قالوا : وكان رسول الله صلى الله عليه وآله لا يقاتل قوما حتى يدعوهم ، فازداد القوم لورود رسل نبى الله صلى الله عليه وآله وكتابه نفورا وامتزاجا ، ففزعوا لذلك الى بيعتهم العظمى وامروا ، ففرش أرضها وألبس جدرها بالحرير والديباج ، ورفعوا الصليب الأعظم ، وكان من ذهب مرصع ، انفذه إليهم قيصر الأكبر ، وحضر ذلك بنى الحارث بن كعب ، وكانوا ليوث الحرب فرسان
الناس ، قد عرفت العرب ذلك لهم في قديم ايامهم في الجاهلية . فاجتمع القوم
جميعا للمشورة والنظر في امورهم ، واسرعت إليهم القبائل من مذحج ، وعك وحمير
وانمار ، ومن دنا منهم نسبا ودارا من قبائل سبا ، وكلهم قد ورم انفه غضبا
لقومهم ، ونكص (1) من تكلم منهم بالاسلام ارتدادا . فخاضوا وافاضوا في ذكر المسير بنفسهم وجمعهم الى رسول الله صلى الله عليه وآله والنزول به بيثرب لمناجزته (2) ، فلما رأى أبو حامد حصين بن علقمة - اسقفهم الأول وصاحب مدارسهم وعلامهم ، وكان رجلا من بنى بكربن وائل - ما ازمع (3) القوم عليه من اطلاق الحرب ، دعا بعصابة فرفع بها حاجبيه عن عينيه ، وقد بلغ يومئذ عشرين ومائة سنة . ثم قام فيهم خطيبا معتمدا على عصى وكانت فيه بقية وله رأى وروية وكان موحدا يؤمن بالمسيح وبالبنى عليهما السلام ويكتم ذلك من كفرة قومه واصحابه . فقال : مهلا بنى عبدالمدان مهلا ، استديموا العافية والسعادة ، فانهما مطويان في الهوادة (4) ، دبوا (5) الى قوم في هذا الأمر دبيب الزور ، واياكم والسورة العجلى ، فان البديهة بها لا يبجب (6) ، انكم والله على فعل ما لم تفعلوا اقدر منكم على رد ما فعلتم ، الا ان النجاة مقرونة بالاناة ، الارب احجام (7) افضل من اقدام ، وكائن من قول ابلغ من وصوله . ثم امسك ، فأقبل عليه كرزبن سبرة الحارثى ، وكان يومئذ زعيم بنى الحارث بن كعب ، وفى بيت شرفهم ، والمعصب فيهم وأمير حروبهم ، فقال : لقد انتفخ (8) سحرك واستطير قلبك ابا حارثة ، فضلت كالمسبوع النزاعة الهلوع (9) ، تضرب لنا الأمثال وتخوفنا النزال (10) ، لقد علمت وحق المنان بفضيلة الحفاظ بالنوء باللعب ، وهو عظيم ، وتلقح (11) الحرب وهى عقيم تثقف اورد الملك الجبار ولنحن اركان الرايس وذى المنار الذين
شددنا ملكهما وامرنا مليكهما ، فأى ايامنا ينكرام لايهما ويك تلمز (1) ، فما اتى على آخر كلامه حتى انتظم نصل نبلة كانت في يده بكفه غيظا وغضبا وهو لايشعر . فلما امسك كرزبن سبرة أقبل عليه العاقب ، واسمه عبدالمسيح بن شرحبيل ، وهو يومئذ عميد القوم وامير رأيهم وصاحب مشورتهم ، الذى لا يصدرون جميعا الا عن قوله ، فقال له : افلح وجهك وانس ربعك (2) وعز جارك وامتنع ذمارك (3) ، ذكرت وحق مغبرة الجباه (4) حسبا صميما ، وعيصا (5) كريما وعزا قديما ، ولكن ابا سبرة لكل مقام مقال ، ولكل عصر رجال ، والمرء بيومه أشبه منه بأمسه ، وهى الأيام تهلك جبلا ، وتديل قبيلا ، والعافية أفضل جلباب ، وللافات اسباب ، فمن أوكد اسبابها لتعرض لأبوابها ، ثم صمت العاقب مطرقا . فأقبل عليه السيد واسمه اهتم بن النعمان ، وهو يومئذ اسقف نجران ، وكان نظير العاقب في علو المنزلة ، وهو رجل من عاملة وعداده في لخم (6) ، فقال له سعد : جدك وسما جدك ابا وائلة ، ان لكل لامعة ضياء ، وعلى كل صواب نورا ، ولكن لا يدركه وحق واهب العقل الا من كان بصيرا ،انك افضيت وهذان فيما تصرف بكما الكلم الى سبيلى حزن وسهل ، ولكل على تفاوتكم حظ من الرأى الربيق (7) والأمر الوثيق إذا اصيب به مواضعه ، ثم ان اخا قريش قد نجدكم لخطب عظيم وأمر
جسيم ، فما عندكم فيه قولوا وانجزوا (8) ، أبخوع
(9) واقرار ام نزوع (10)
.
قال عتبة والهدير والنفر من اهل نجران ، فعاد كرزبن سبرة لكلامه وكان كميا (1) ابيا ، فقال : أنحن نفارق دينا رسخت عليه عروقنا ومضى عليه آباؤنا وعرف ملوك الناس ثم العرب ذلك منا ، أنتهالك (2) الى ذلك أم نقرب الجزية وهى الخزية حقا ، لا والله حتى نجرد البواتر (3) من أغمادها ، ونذهل الحلائل (4) عن أولادها ،أو تشرق (5) نحن محمد بدمائنا ، ثم يديل (6) الله عز وجل بنصره من يشاء . قال له السيد : اربع (7) على نفسك وعلينا أباسبرة ، فان سل السيف يسل السيف ، وان محمدا قد بخعت (8) له العرب ، وأعطته طاعتها وملك رجالها واعنتها ، وجرت أحكامه في أهل الوبر (9) منهم والمدر (10) ، ورمقه (11) الملكان العظيمان كسرى وقيصر ، فلا أراكم والروح لو نهد (12) لكم ، الا وقد تصدع عنكم من خف معكم من هذه القبائل ، فصرتم جفاء كأمس الذاهب أو كلحم على وضم (13) . وكان فيهم رجل يقال له : جهير بن سراقة البارقى من زنادقة نصارى العرب ، وكان له منزلة من ملوك النصرانية ، وكان مثواه بنجران ، فقال له اباسعاد (14) : قل في أمرنا وانجدنا برأيك ، فهذا مجلس له ما بعده . فقال : فانى
أرى لكم أن تقاربوا محمدا وتطيعوه في بعض ملتمسه عندكم ،
ولينطلق وفودكم الى ملوك اهل ملتكم الى الملك الأكبر بالروم قيصر ، والى ملوك هذه الجلدة السوداء الخمسة ، يعنى ملوك السودان ، ملك النوبة وملك الحبشة وملك علوه وملك الرعا (1) وملك الراحات ومريس والقبط ، وكل هؤلاء كانوا نصارى . قال : وكذلك من ضوى (2) الى الشام وحل بها من ملوك غسان ولخم وجذام وقضاعة ، وغيرهم ، من ذوى يمنكم فهم لكم عشيرة وموالى واعوان وفى الدين اخوان ، يعنى انهم نصارى ، وكذلك نصارى الحيرة من العباد وغيرهم ، فقد صبت الى دينهم قبائل تغلب بنت وائل وغيرهم من ربيعة بن نزار ، لتسير وفودكم . ثم لتخرق إليهم البلاد اغذاذا (3) ، فيستصرخونهم لدينكم فيستنجدكم (4) الروم وتسير اليكم الاساودة (5) مسير اصحاب الفيل ، وتقبل اليكم نصارى العرب من ربيعة اليمن . فإذا وصلت الامداد واردة ، سرتم انتم في قبائلكم وسائر من ظاهركم وبذل نصره وموازرته لكم ، حتى تضاهئون (6) من انجدكم (7) واصرخكم ، من الاجناس ، والقبائل الواردة عليكم ، فاموا (8) محمدا حتى تنجوا به جميعا ، فسيعتق اليكم وافدا لكم من صبا (9) إليه ، مغلوبا
مقهورا ، وينعتق به من كان منهم في مدرته (10)
مكثورا (11) ، فيوشك ان تصطلموا
(12) حوزته وتطفؤوا جمرته . ويكون لكم بذلك الوجه
والمكان في الناس ، فلا تتمالك العرب حيئنذ حتى
تتهافت دخولا في دينكم ، ثم لتعظمن بيعتكم هذه ، ولتشرفن ، حتى تصير كالكعبة المحجوجة (1) بتهامة ، هذا الرأى فانتهزوه (2) ، فلا رأى لكم بعده . فاعجب القوم كلام جهيربن سراقة ، ووقع منهم كل موقع ، فكاد أن يتفرقوا على العمل به ، وكان فيهم رجل من ربيعة بن نزار من بنى قيس بن ثعلبة ، يدعى حارثة بن اثال على دين المسيح عليه السلام ، فقام حارثة على قدميه واقبل على جهير ، وقال متمثلا : متى ماتقد بالباطل الحق بابه * وان
قلت بالحق الرواسى ينقد ثم استقبل السيد والعاقب والقسيسين والرهبان وكافة نصارى نجران بوجهه لم تخلط معهم غيرهم ، فقال (3) : سمعا سمعا يا ابناء الحكمة وبقايا حملة الحجة ، ان السعيد والله من نفعته الموعظة ولم يعش (4) عن التذكرة ، ألا وانى أنذركم واذكركم قول مسيح الله عز وجل - ثم شرح وصيته ونصه على وصيه شمعون بن يوحنا وما يحدث على امته من الافتراق . ثم ذكر عيسى عليه السلام وقال : ان الله جل جلاله أوحى إليه : فخذ يابن امتى كتابي بقوة ثم فسره لأهل سوريا بلسانهم ، واخبرهم انى انا الله لا اله الا انا ، الحى القيوم البديع الدائم الذى لا أحول ولا أزول ، انى بعثت رسلي ونزلت كتبي رحمة ونورا عصمة لخلقي ، ثم انى باعث بذلك نجيب رسالتي ، احمد صفوتي من بريتى البار قليطا عبدى ارسله في خلو من الزمان ، ابعثه بمولده فاران من مقام أبيه ابراهيم عليه السلام ، انزل
عليه توراة حديثة ، افتح بها أعينا عميا ، واذنا صما ، وقلوبا غلفا
(5) ، طوبى لمن شهد ايامه وسمع كلامه ، فامن به
واتبع النور الذى جاء به ، فإذا ذكرت يا عيسى ذلك النبي
فصل عليه فانى وملائكتي نصلى عليه . قال : فما أتى حارثة بن اثال على قوله هذا حتى اظلم بالسيد والعاقب مكانهما ، وكرها ما قام به في الناس معربا ومخبرا عن المسيح عليه السلام بما اخبر وقدم من ذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنهما كانا قد أصابا بمواضعهما من دينهما شرفا بنجران ووجها عند ملوك النصرانية جميعا ، وكذلك عند سوقتهم وعربهم في البلاد ، فاشفقا ان يكون ذلك سببا لا نصراف قومها عن طاعتهما لدينهما وفسخا لمنزلتهما في الناس . فأقبل العاقب على حارث فقال : امسك عليك ياحار ، فان راد هذا الكلام عليك اكثر من قابله ، ورب قول يكون بلية على قائله ، وللقلوب نفرات عند الاصداع (1) بمظنون الحكمة ، فاتق نفورها ، فلكل نبأ اهل ، ولكل خطب محل ، وانما الدرك (2) ما اخذ لك بمواضى النجاة ، وألبسك جنة السلامة ، فلا تعدلن بهما حظا ، فانى لم آلك لا أبا لك نصحا ثم ارم (3) . فأونحب السيد ان يشرك العاقب في كلامه ، فأقبل على حارثة فقال : انى لم أزل أتعرف لك فضلا تميل اليك الالباب ، فاياك ان تقعد مطية اللجاج ، وان توجف الى السراب (4) ، فمن عذر بذلك فلست فيه ايها المرء بمعذور ، وقد اغفلك أبو واثلة ، وهو ولى أمرنا وسيد حضرنا عتابا فأوله (5) اعتبارا (6) . ثم تعلم ان ناجم (7) قريش يعنى رسول الله صلى الله عليه وآله يكون رزؤه (8) قليلا ، ثم ينقطع ويخلو ، ان بعد ذلك قرن يبعث في آخره النبي المبعوث بالحكمة والبيان والسيف والسلطان ، يملك ملكا مؤجلا ، تطبق فيه امته المشارق والمغارب ، ومن ذريته الأمير
الظاهر يظهر على جميع الملكات والأديان ، ويبلغ ملكه ما طلع عليه الليل والنهار ، وذلك ياحار أمل من ورائه أمد ومن دونه أجل ، فتمسك من دينك بما تعلم وتمنع لله أبوك من أنس متصرم بالزمان أو لعارض من الحدثان ، فانما نحن ليومن ولغد أهله. فأجابه حارثة بن اثال فقال : ايها (1) عليك ابا قرة ، فانه لا حظ في يومه لمن لادرك له في غده ، واتق الله تجد الله جل وتعالى بحيث لا مفزع الا إليه ، وعرضت مشيدا بذكر أبى واثلة ، فهو العزيز المطاع الرحب الباع ، واليكما معا ملقى (2) الرحال ، فلو أضربت التذكرة عن أحد لتبزين (3) فضل لكنتماه ، لكنها ابكارا لكلام (4) تهدى لأربابها ، ونصيحة كنتما أحق من أصغى بها ، انكما مليكا ثمرات قلوبنا ، ووليا طاعتنا في ديننا . فالكيس الكيس يا أيها المعظمان عليكما به ، أريا مقاما يذهكما نواحيه واهجر سنته التسويف (5) فيما انتما بعرضة ، آثر الله فيما كان يؤثركما بالمزيد من فضله ، ولا تخلدا فيما اظلكما الى الونيه (6) ، فانه من اطال (7) عنان الأمر اهلكته الغرة ، ومن اقتعد مطية الحذر كان سبيل أمن من المتألف ، ومن استنصح عقله كانت العبرة له لابه ، ومن نصح لله عز وجل انسه الله جل وتعالى بعز الحياة وسعادة المنقلب . ثم أقبل على العاقب معاتبا فقال : وزعمت أبا واثلة ان راد ما قلت اكثر من قائله ، وانت لعمرو الله حرى الا يؤثر هذا عنك ، فقد علمت وعلمنا امة الانجيل معا بسيرة ما قام به المسيح عليه السلام في حواريه ، ومن آمن له من قومه ، وهذه منك فقة (8) لا يد حضها (9) الا التوبة والاقرار بما سبق به الانكار .
فلما أتى على هذا الكلام صرف الى السيد وجهه فقال : لا سيف الا ذو نبوة ولا عليم الا ذو هفوة ، فمن نزع عن وهلة واقلع فهو السعيد الرشيد ، وانما الافة في الاصرار ، واعرضت (1) بذكر نبيين يخلقان زعمت (2) بعد ابن البتول ، فأين يذهب بك عما خلد في الصحف من ذكرى ذلك ، ألم تعلم ما أنبأ به المسيح عليه السلام في نبى اسرائيل ، وقوله لهم : كيف بكم إذا ذهب بى الى أبى وأبيكم وخلف بعد أعصار يخلو من بعدى وبعدكم صادق وكاذب ؟ قالوا : ومن هما يا مسيح الله ؟ ، قال : نبى من ذرية اسماعيل عليهما السلام صادق ومتنبى ممن بنى اسرائيل كاذب ، فالصادق منبعث منهما برحمة وملحمة ، يكون له الملك والسلطان مادامت الدنيا ، واما الكاذب ، فله نبذ يذكر به المسيح الدجال ، يملك فواقا (3) ثم يقتله الله بيدى إذا رجع بى قال حارثة : واحذركم يا قوم ان يكون من قبلكم من اليهود اسوة لكم ، انهم انذروا بمسيحين : مسيح رحمة وهدى ومسيح ضلالة ، وجعل لهم على كل واحد منهما آية وأمارة ، فجحدوا مسيح الهدى وكذبوا به وآمنوا بمسيح الضلالة الدجال واقبلوا على انتظاره ، واضربوا في الفتنة وركبوا نتجها (4) ، ومن قبل نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم وقتلوا أنبياءه والقوامين بالقسط من عباده ، فحجب الله عز وجل عنهم البصيرة بعد التبصرة بما كسبت أيديهم ، ونزع ملكتهم منهم ببغيهم ، والزمهم الذلة والصغار ، وجعل منقلبهم الى النار . قال العاقب : فما أشعرك ياحار ان يكون هذا النبي المذكور في الكتب هو قاطن (5) يثرب ، ولعله ابن عمك صاحب اليمامة ، فانه يذكر من النبوة ما يذكر منها اخو قريش ، وكلاهما من ذرية اسماعيل ولجميعهما اتباع واصحاب ، يشهدون بنبوته ويقرون له برسالته ،
فهل تجد بينهما في ذلك من فاصلة فتذكرها ؟
قال حارثة : أجل والله أجدها ، والله أكبر وأبعد مما بين السحاب والتراب ، وهى الاسباب التى بها وبمثلها تثبيت حجة الله في قلوب المعتبرين من عباده لرسله وانبيائه ، واما صاحب اليمامة فيكفيك فيه ما اخبركم به سفرائكم وغيركم والمنتجعة (1) منكم ارضه ومن قدم من أهل اليمامة عليكم ، ألم يخبركم جميعا عن رواد (2) مسيلمة وسماعيه ، ومن أوفده (3) صاحبهم (4) الى احمد بيثرب وبئارنا ثماد (6) ومياهنا ملحة ، وكنا من قبله لا نستطيب ولا نستعذب ، فبصق في بعضها ومج (7) في بعض ، فعادت عذابا محلولية وجاش (8) منها ماكان ماؤها ثمادا فحار (9) بحرا . قالوا : وتفل محمد في عيون رجال ذوى رمد وعلى كلوم (10) رجال ذوى جراح ، فبرأت لوقته عيونهم فما اشتكوها واندملت جراحاتهم فما ألموها في كثير مما ادوا ، ونبؤوا عن محمد صلى الله عليه وآله من دلالة وآية ، وأرادوا صاحبهم مسيلمة على بعض ذلك ، فأنعم لهم كارها وأقبل بهم الى بعض بئارهم فمج فيها وكانت الركى معذوبة ، فصارت ملحا لا يستطاع شرابه ، وبصق في بئر كان ماؤها وشلا (11) فعادت فلم تبض بقطرة من ماء ، وتفل في عين رجل كان بها رمد
فعميت ، وعلى جراح - أو قالوا : جراح آخر - فاكتسى جلده برصا . فقالوا لمسيلمة
فيما ابصروا في ذلك منه واستبرؤوه ، فقال : ويحكم بئس الامة انتم
لنبيكم والعشيرة لابن عمكم ، انكم كلفتموني يا هؤلاء من قبل ان يوحى الى في شئ مما سألتم ، والان فقد اذن لى في اجسادكم واشعاركم دون بئاركم ومياهكم ، هذا لمن كان منكم بى مؤمنا ، واما من كان مرتابا فانه لا يزيده تفلتي عليه الا بلاء ، فمن شاء الان منكم فليأت لا تفل في عينه وعلى جلده ، قالوا : ما فينا وابيك احد يشاء ذلك ، انا نخاف ان يشمت بك اهل يثرب اضربوا عنه حمية لنسبه فيهم وتذمما لمكانه منهم . فضحك السيد والعاقب حتى فحصا الأرض بأرجلهما ، وقالا : ما النور والظلام ، والحق والباطل بأشد تباينا وتفاوتا مما بين هذين الرجلين صدقا وكذبا . قالوا : وكان العاقب احب مع ما تبين من ذلك ان يشيد ما فرط من تفريط مسيلمة ويؤهل منزلته ، ليجعله لرسول الله صلى الله عليه وآله كفا ، استظهارا بذلك في بقاء عزته وما طار له من السمو في أهل ملته ، فقال : ولان فخر اخو بنى حنيفة (1) في زعمه ان الله عز وجل أرسله وقال من ذلك ما ليس له بحق فلقد بر (2) في ان نقل قومه من عبادة الأوثان الى الايمان بالرحمان . قال حارثه : انشدك بالله الذى دحاها (3) واشرق باسمه قمراها ، هل تجد فيما انزل الله عز وجل في الكتب السالفة ، يقول الله عز وجل : انا الله لا اله الا أنا ، ديان يوم الدين أنزلت كتبي وأرسلت رسلي لاستنقذ بهم عبادي من حبائل الشيطان وجعلتهم في بريتى وأرضى كالنجوم الدرارى في سمائي ، يهدون بوحيى وامري ، من أطاعهم أطاعنى ومن عصاهم فقد عصاني ، وانى لعنت وملائكتي في سمائي وارضى واللاعنون من خلقي من جحد ربوبيتي أو عدل بى شيئا من بريتى ، أو كذب بأحد من أنبيائي ورسلي - أو قال : أوحى الى ولم يوح إليه شئ - أو غمص
(4) سلطاني أو تقمصه (5)
متبريا ، أو أكمله عبادي وأضلهم عنى ، الا وانما يعبدني من عرف ما أريد من
عبادتي وطاعتي من خلقي ، فمن
لم يقصد الى من السبيل التى نهجتها برسلى لم يزدد في عبادته منى الا بعدا . قال العاقب : رويدك (1) فاشهد لقد نبأت حقا ، قال حارثة : فما دون الحق من مقنع وما بعده لامرى مفزع ، ولذلك قلت الذى قلت ، فاعترضه السيد وكان ذا محال (2) وجدال شديد ، فقال : ما احرى (3) وما أرى أخا قريش (4) مرسلا الا الى قومه بنى اسماعيل دينه ، وهو مع ذلك يزعم ان الله عز وجل ارسله الى الناس جميعا . قال حارثة : أفتعلم أنت يا ابا قرة ان محمدا مرسل من ربه الى قومه خاصة ؟ قال : أجل ، قال : أتشهد له بذلك ؟ قال : ويحك وهل يستطاع دفع الشواهد ، نعم اشهد غير مرتاب بذلك ، وبذلك شهدت له الصحف الدراسة والأنباء الخالية . فأطرق حارثة ضاحكا ينكت الأرض بسبابته ، قال السيد : ما يضحك يابن اثال ؟ قال : عجبت فضحكت ، قال : أو عجب ما تسمع ؟ قال : نعم العجب أجمع ، أليس بالاله بعجيب من رجل أوتى اثرة من علم وحكمة ، يزعم ان الله عز وجل اصطفى لنبوته واختص برسالته وأيد بروحه وحكمته رجلا خراصا يكذب عليه ويقول : أوحى الى ولم يوح إليه ، فيخلط كالكاهن كذبا بصدق وباطلا بحق . فارتدع السيد وعلم انه قد وهل (5) فأمسك محجوبا قالوا : وكان حارثة بنجران حثيثا (6) ، فأقبل عليه العاقب وقد قطعه ما فرط الى السيد من قوله ، فقال له : عليك (7) اخا بنى قيس
بن ثعلبة ، واحبس عليك ذلق لسانك وما لم تزل تستحم (8)
لنا من مثابة سفهك ، فرب كلمة ( يرفع صاحبها بها رأسا ، قد القته في قعر مظلمة
، ورب كلمة لامت (9)
ورأبت قلوبا نغلة (1) ، فدع عنك ما يسبق الى القلوب انكاره ، وان كان عندك ما يبين اعتذاره . ثم اعلم ان لكل شئ صورة ، وصورة الانسان العقل ، وصورة العقل الأدب ، والأدب ادبان : طباعي ومرتاضى ، فأفضلها ادب الله جل جلاله ، ومن ادب الله سبحانه وحكمته أن يرى لسلطانه حق ليس لشئ من خلقه ، لأنه الحبل بين الله وبين عباده ، والسلطان اثنان : سلطان ملكة وقهر ، وسلطان حكمة وشرع ، فاعلاهما فوقا سلطان الحكمة قد ترى يا هذا ان الله عز وجل قد صنع لنا حتى جعلنا حكاما وقواما على ملوك ملتنا من بعدهم من حشوتهم (2) واطرافهم ، فاعرف لذى الحق حقه ، ايها المرء وخلاك ذم (3) ثم قال : وذكرت اخا قريش وما جاء به من الايات والنذر ، فأطلت وأعرضت ولقد برزت ، فنحن بمحمد وبه جدا موقنون ، شهدت لقد انتظمت له الايات والبينات ، سالفها وآنفها ، الا انه هي اشفاها (4) واشرفها ، وانما مثلها فيما جاء به كمثل الرأس للجسد ، فما حال جسد لا رأس له ، فأمهل رويدا ، نتجسس الاخبار ونعتبر الاثار ولنستشف ما الفينا مما افضى الينا ، فان انسنا الاية الجامعة لديه ، فنحن إليه أسرع وله اطوع ، والا فاعلم ما نذكر به النبوة والسفارة عن الرب الذى لا تفاوت في أمره ولا تغاير في حكمه . قال له حارثة : قد ناديت فاسمعت ، وفزعت فصدعت ، وسمعت واطعت ، فما هذه الاية التى اوحش بعد الانسة فقدها ، واعقب الشك بعد البينة عدمها ، وقال
له العاقب : قد اثلجك أبو قرة بها فذهبت عنها في غير مذهب وجاورتها فاطلت في
غير ما طائل وحاورتنا (5) ، قال حارثة ، الى ذلك
فجلها الان لى فداك ألى وامى .
|
|