اختر اللون المناسب لأرضية الصفحة

- إقبال الأعمال - السيد ابن طاووس الحسني ج 2 ص 324 : -

قال العاقب : افلح من سلم للحق وصدع به ولم يرغب عنه وقد احاط به علما ، فقد علمنا وعلمت من ابناء الكتب المستودعة علم القرون وما كان وما يكون ، فانها استهلت بلسان كل امة منهم معربة مبشرة ومنذرة بأحمد النبي ، العاقب الذى تطبق

امته المشارق والمغارب يملك وشيعته من بعده ملكا مؤجلا يستأثر (1) مقتبلهم (2) ملكا على الاحم (3) منهم بذلك النبي وتباعة وسيما ، ويوسع من بعدهم امتهم عدوانا وهضما ، فيملكون بذلك سبتا (4) طويلا حتى لا يبقى تجزيرة العرب بيت

الا وهو راغب إليهم أو راهب لهم . ثم بدال بعد لأى منهم ويشعث (5) سلطانهم حدا حدا وبيتا فبيتا ، حتى تجيى امثال النعف (6) من الاقوام فيهم ، ثم يملك أمرهم عليهم عبداؤهم وقنهم ، يملكون جيلا فجيلا ، يسيرون في الناس بالقعسرية (7)

خبطا (8) خبطا ، ويكون سلطانهم سلطانا عضوضا ضروسا ، فتنقص الأرض حينئذ من اطرافها ويشتد البلاء وتشتمل الافات حتى يكون الموت اعز من الحياة الحمراء (9) ، أو احب حينئذ الى احدهم من الحياة (10) ، وما ذلك الا لما يدهنون

به من الضر والضراء والفتنة العشواء وقوام الدين يومئذ وزعماؤهم يومئذ اناس ليسوا من أهله ، فمج (11) الدين بهم وتعفو آياته ويدبر توليا وامحاقا ، فلا يبقى منه الا اسمه حتى ينعاه ناعيه والمؤمن يومئذ غريب والديانون قليل ماهم ، حتى

يستأنس الناس من روح الله وفرجه الا اقلهم ، وتظن اقوام ان لن ينصر الله رسله ويحق وعده .
 

 

* هامش *

 

 

(1) الاستيثار : الاستبداد .
(2) اقتبل امره : استأنفه ، اقتبل الخطبة : ارتجلها .
(3)
أي اقربهم .
(4)
سبتا : دهرا .
(5)
يشعث : يتفرق .
(6) النعف : الدود الذى في انوف الابل والغنم .

(7)بالقهرية ( خ ل ) ، اقول : القعسرية : الصلابة .
(8)
الحمراء : الشديدة .
(9)
الخبط : الجماعة .
(10)
من الحبوة الى المعافاة السليم ، حبوة التسليم ( خ ل ) .
(11)
فمج ( خ ل ) . ( * )

 

- ص 325 -

فإذا بهم الشصائب (1) والنقم واخذ من جميعهم بالكظم تلافى الله دينه وراش (2) عباده من بعدما قنطوا برجل من ذرية نبيهم احمد ونجله ، يأتي الله عز وجل به من حيث لا يشعرون ، وتصلى عليه السماوات وسكانها وتفرح به الأرض وما عليها من

سوام (3) وطائر وانام ، وتخرج له امكم - يعنى الأرض - بركتها وزينتها وتلقى إليه كنوزها وافلاذ كبدها ، حتى تعود كهيئتها على عهد آدم عليه السلام ، وترفع عنهم المسكنة والعاهات في عهده والنقمات التى كانت تضرب بها الامم من قبل ،

وتلقى في البلاد الامنة وتنزع حمة كل ذات حمة ، ومخلب كل ذى مخلب ، وناب كل ذى ناب ، حتى ان الجويرية اللكاع لتعب بالافعوان (4) ، فلا يضرها شيئا ، وحتى يكون الاسد في الباقر (5) كأنه راعيها ، والذئب في البهم (6) كأنه ربها .

ويظهر الله عبده على الدين كله فيملك مقاليد الاقاليم الى بيضاء الصين (7) ، حتى لا يكون على عهده في الأرض أجمعها الا دين الله الحق ارتضاه لعباده وبعث به آدم بديع فطرته واحمد خاتم رسالته ومن بينهما من أنبيائه ورسله . فلما أتى العاقب

على اقتصاصه هذا أقبل عليه حارثة مجيبا فقال : اشهد بالله البديع يا ايها النبيه الخطير والعليم الأثير لقد ابتسم الحق بقلبك واشرق الجنان بعدل منطقك وتنزلت كتب الله التى جعلها نورا في بلاده وشاهدة على عباده بما اقتصصت من سطورها حقا

فلم يخالف طرس (8) منها طرسا ولا رسم من آياتها رسما فما بعد هذا . قال العاقب : فانك زعمت زعمة اخا قريش (9) فكنت بما تأثر من هذا حق غالط ،
 

 

* هامش *

 

 

(1) الشصائب : الشدائد .
(2) أي أصلح .
(3)
السوام : الوحوش .
(4)
الافعوان : ذكور الأفاعى .
(5)
الباقر : جماعة البقر .

(6) البهم : الولاد الضأن .
(7)
بيضاء الصين : كورة بالمغرب .
(8)
الطرس : الصحيفة .
(9)
زعمت اخا قريش ( خ ل ) . ( * )

 

- ص 326 -

قال : وبم ، ألم تعترف له بنبوته ورسالته الشواهد ؟ قال العاقب : بلى لعمروالله ولكنهما نبيان رسولان يعتقبان بين مسيح الله عز وجل وبين الساعة ، اشتق اسم احدهما من صاحبه محمد واحمد ، بشر بأولهما موسى عليه السلام وثانيهما عيسى عليه

السلام ، فأخو قريش هذا مرسل الى قومه ويقفوه من بعده ، ذو الملك الشديد والأكل الطويل ، يبعثه الله عز وجل خاتما للدين وحجة على الخلائق اجمعين ، ثم تأتى من بعده فترة تتزايل فيها القواعد من مراسيها فيعيدها الله عز وجل ويظهره على

الدين كله ، فيملك هو والملوك الصالحون من عقبه جميع ما طلع عليه الليل والنهار من أرض وجبل وبر وبحر ، يرثون أرض الله عز وجل ملكا كما ورثهما أو ملكهما الابوان آدم ونوح عليهما السلام ، يلقون وهم الملوك الأكابر في مثل هيئة

المساكين بذاذة واستكانة . فاولئك الأكرمون الأماثل لا يصلح عباد الله وبلاده الا بهم ، وعليهم ينزل عيسى بن البكر عليه السلام على آخرهم ، بعد مكث طويل وملك شديد ، لا خير في العيش بعدهم ، وتردفهم رجرجة (1) طغام (2) في مثل

أحلام العصافير وعليهم يقوم الساعة ، وانما تقوم على شرار الناس واخابثهم ، فذلك الوعد الذى صلى (3) به الله عز وجل على أحدكما صلى به خليله ابراهيم عليه السلام في كثير مما لأحمد صلى الله عليه من البراهين والتأكيد الذى خبرت به كتب

الله الاولى . قال حارثة : فمن الاثر المستقر عندك ابا واثلة في هذين الاسمين انهما لشخصين لنبيين مرسلين في عصرين مختلفين ، قال العاقب : أجل ، قال : فهل يتخالجك في ذلك ريب أو يعرض لك فيه ظن ؟ قال العاقب : كلا والمعبود ان هذا

لاجلي من بوح (4) ، واشار له الى جرم الشمس المستدير ، فاكب حارثة مطرقا وجعل ينكث في الارض عجبا ، ثم قال : انما الافة ايها الزعيم المطاع ان يكون المال عند من يخزنه لامن ينفقه
 

 

* هامش *

 

 

(1) الرحرجة : من لا عقل له ، الجماعة الكثيرة في الحرب .
(2) الطغام : رذال الناس .

(3) أي جعله صلة .
(4)
بالياء والباء المضومة كلاهما اسم للشمس . ( * )

 

- ص 327 -

والسلاح عند من يتزين به لامن يقاتل به والرأى عند من يملكه (1) لامن ينصره . قال العاقب : لقد اسمعت يا حويرث فاقذعت (2) وطفقت فاقدمت فيه ؟ قال : (3) اقسم بالذى قامت به السماوات والارضون باذنه وغلبت الجبابرة بأمره انهما اسمان

مشتقان لنفس واحدة ، واحد لنبى وواحد رسول ، واحد انذر به موسى بن عمران وبشر به عيسى بن مريم ومن قبلهما اشار به صحف ابراهيم عليه السلام ، فتضاحك السيد ، يرى قومه ومن حضرهم ان ضحكه هزؤ من حارثة وتعجب وانتشط العاقب

من ذلك ، فأقبل على حارثة مؤنبا (4) ، فقال : لا يغررك باطل أبى قرة فانه وان ضحك لك فانما يضحك منك . قال حارثة : لئن فعلها لأنها لاحدى الدهارس (5) أو سوء أفلم تتعرفا راجع الله بكما من موروث الحكمة لا ينبغى للحكيم ان يكون عباسا

في غير ادب ولا ضحاكا في غير عجب أو لم يبلغكما عن سيد كما المسيح عليه السلام ، قال : فضحك العالم في غير حينه غفلة من قلبه أو سكره ألهته عما في غده . قال السيد : يا حارثة انه لا يعيش والله احد بعقله حتى يعيش بظنه (6) ، وإذا أنا

لم أعلم الا ما رويت فلا علمت أو لم يبلغك انت عن سيدنا المسيح علينا سلامه ان لله عبادا ضحكوا جهرا من سعة رحمة ربهم وبكوا سرا من خفية ربهم ؟ قال : إذا كان هذا فنعم ، قال : فماهنا فليكن مراجم ظنونك بعباد ربك ، وعدبنا الى ما نحن

بسبيله ، فقد طال التنازع والخصام بيننا يا حارثة ، قالوا : وكان هذا مجلسا ثالثا في يوم ثالث من اجتماعهم للنظر في أمرهم .
 

 

* هامش *

 

 

(1) يهلكه ( خ ل ) .
(2) اقذعه : رماه بافحش وسوء القول .
(3)
يعنى حارثة .

(4) انبه : عنفه ولامه .
(5)
دهرس : الداهية والحنفة والنشاط .

(6) أي التعيش بالظنون الفاسدة اكثر من التعيش بالعقل ، وهذا كناية ان هكذا الكلام صادر من الظن الفاسد ، ومراده ان ضحكه لم يكن عبثا

 

- ص 328 -

فقال السيد : يا حارثة ألم ينبؤك أبو واثلة بأفضح لفظ اخترق (1) اذنا ودعا ذلك بمثله مخبرا ، فالقاك مع غرمانك (2) بموارده حجرا وهاجما أنا ذا آكد عليك التذكرة بذلك من معدن ثالث ، فانشهدك الله وما أنزل الى كلمته من كلماته ، هل تجد

في الزجرة المنقولة من لسان اهل سوريا الى لسان العرب يعنى صحيفة شمعون بن حمون الصفا التى توارثها عنه اهل النجران ؟ قال اسيد : ألم يقل بعد نبذ طويل من كلام فإذا طبقت وقطعت الارحام وعفت (3) الاعلام بعث الله عبده الفارقليطا

بالرحمة والمعدلة ، قالوا : وما الفار قليطا يا مسيح الله ؟ (4) قال : احمد النبي الخاتم الوارث ذلك الذى يصلى عليه حيا ويصلى عليه بعدما يقبضه إليه بابنه الطاهر الخاير ، ينشره الله في آخر الزمان بعدما انقضت (5) عرى الدين وخبت

مصابيح الناموس ، وافلت (6) نجومه فلا يلبث ذلك العبد الصالح الا امما حتى يعود الدين به كما بدء ، ويقر الله عز وجل سلطانه في عبده ثم في الصالحين من عقبه وينشر منه حتى يبلغ ملكه منقطع التراب . قال حارثة : كلما قد انشدتما حق لا

وحشة مع الحق ولا انس في غيره ، فمه ؟ قال السيد : فان من الحق ان لا حظ في هذه الا كرومة للابتر ، قال حارثة : انه لكذلك أليس بمحمد ؟ قال السيد : انك ما عملت الا لدا (7) ألم يخبرنا سفرنا وأصحابنا فيما تجسسنا من خبره ان ولديه

الذكرين القرشية والقبطية بادا (8) وغودر (9) محمد كقرن الاغصب (10) موف
 

 

* هامش *

 

 

(1) احرق ( خ ل ) .
(2) عرفائك ( خ ل ) .
(3)
علقت ( خ ل ) .
(4)
يا روح الله ( خ ل ) .
(5)
انغمضت ، انفصمت ( خ ل ) .

(6) فافلقت ( خ ل ) .
(7)
لدا : خصومته شديدة .
(8)
بادا : هلكا .
(9)
غودر : ترك .
(10)
أي غنم مكسور القرن . ( * )

 

- ص 329 -

على ضريحه (1) ، فلو كان له بقية كان لك بذلك مقالا إذا ولت انباؤه الذى تذكر . قال حارثة : العبر لعمرو الله كثيرة والاعتبار بها قليل ، والدليل موف على سنن السبيل ان لم يعش عنه ناظر وكما ان ابصار الرمدة لا تستطيع النظر في قرص

الشمس لسقمها (2) ، فكذلك البصائر القصيرة لا تتعلق بنور الحكمة لعجزها ، الا ومن كان كذلك فلستماه - واشار الى السيد والعاقب - انكما ويمين الله لمحجوجان بما أتاكما الله عزوجل من ميراث الحكمة واستودعكما من بقايا الحجة ، ثم بما أوجب

لكما من الشرف والمنز لة في الناس ، فقد جعل الله عز وجل من أتاه سلطانا ملوكا للناس واربابا وجعلكما حكما وقواما على ملوك ملتنا وذادة (3) لهم يفزعون اليكما في دينهم ولا تفزعان إليهم وتامرانهم فيأتمرون لكما وحق لكل ملك أو مؤطأ

الاكناف ان يتواضع لله عز وجل إذ رفعه ، وان ينصح لله عز وجل في عباده ولا يدهن في امره وذكرتما محمدا بما حكمت له بالشهادات الصادقة وبينة فيه الاسفار المستحفظة ، ورأيتماه مع ذلك مرسلا الى قومه لا الى الناس جميعا وان ليس

بالخاتم الحاشر (4) ولا الوارث العاقب النكما زعمتماه ابترأ ليس كذلك ؟ قالا : نعم . قال : أرأيتكما لو كان به بقية وعقب هل كنتما ممتريان لما تجدان وبما تكذبان (5) من الواراثة والظهور على النواميس انه النبي الخاتم والمرسل الى كافة البشر ؟

 قالا : لا ، قال : أفليس هذا القيل لهذه الحال مع طول اللوائم والخصائم عندكما مستقرا ؟ قالا : أجل ، قال : الله أكبر ، قالا : كبرت كبيرا فما دعاك الى ذلك ؟ قال حارثة : الحق أبلج والباطل لجلج ، ولنقل ماء البحر ولشق الضحر أهون من

اماتة ما أحياه الله عزوجل واحياء ما أماته الان ، فاعلما ان محمدا غير أبتر وانه الخاتم الوارث والعاقب الحاشر حقا ، فلا نبى بعده وعلى امته تقوم الساعة ، ويرث الله الأرض ومن عليها وان من ذريته الأمير الصالح
 

 

* هامش *

 

 

(1) موف على ضريحه : مشرف على الموت .
(2) بسقمها ( خ ل ) .
(3)
زادة ( خ ل ) ، ذاده : منعه .

(4) الحاشر من اسماء النبي صلى الله عليه وآله لانه يحشر الناس ممن على دينه خلفه .
(5)
تمتريان لما تجدان وبما تذكران ( خ ل ) . ( * )

 

- ص 330 -

الذى بينتما ونبأتما انه يملك مشارق الأرض ومغاربها ويظهره الله عز وجل بالحنيفة الابراهيمية على النواميس كلها ؟ قالا : اولى لك يا حارثة لقد اغفلناك (1) وتأبى الا مراوغة كالثعالبة فما تسأم المنازعة ولا تمل من المراجعة ، ولقد زعمت مع

ذلك عظيما فما برهانك به ؟ قال : اما وجدكما لانبئكما ببرهان يجير من الشبهة ويشفى به جوى (2) الصدور . ثم أقبل على أبى حارثة حصين بن علقمة شيخهم واسقفهم الأول ، فقال : ان رأيت أيها الاب الاثير ان تؤنس قلوبنا وتثلج صدورنا

باحضار الجامعة والزاجرة ، قالوا : وكان هذا المجلس الرابع من اليوم وذلك لما خلقت (3) الأرض وركدت الشمس وفى زمن قيظ (4) شديد ، فاقبلا على حارثة ، فقالا : ارج هذا الى غد فقد بلغت القلوب منا الصدور فتفرقوا على احضار

الزاجرة والجامعة من غد للنظر فيهما والعمل بما يتراان منهما . فلما كان من الغد صار أهل نجران الى بيعتهم لاعتبار ما أجمع صاحباهم مع حارثة على اقتباسه وتبينه من الجامعة ، ولما رأى السيد والعاقب اجتماع الناس لذلك قطع بهما (5)

لعلمها (6) بصوا قول حارثة واعترضاه ليصدانه عن تصفح الصحف على أعين الناس وكانا من شياطين الانس . فقال السيد : انك قد أكثرت وأمللت قض الحديث لنا مع قصه (7) ودعنا من تبينانه ، فقال حارثة : وهل هذا الا منك وصاحبك ،

فمن الان فقولا ما شئتما ، فقال العاقب : مامن مقال الاقلنا وسنعود فنخبر بعض ذلك تخبيرا غير كاتمين لله عز وجل من حجة ولا جاحدين له آية ولا مفترين مع ذلك على الله عزوجل لعبد انه مرسل منه وليس
 

 

* هامش *

 

 

(1) اغفلني فلان : اعيانى أمره .
(2) الجوى : الضيق الصدر .
(3)
تخليق الشمس : ارتفاعها .
(4)
قاظ اليوم : اشتد حرها .

(5) قطع بفلان : عجز عن سفره من نفقة الذهاب أو فات راحلته .
(6)
بعلمهما ( خ ل ) .
(7)
فض عنا : تترك الكلام ، قض عنا : من قض الجناح انقطع الحديث والكلام . ( * )

 

- ص 331 -

برسوله ، فنحن نعترف يا هذا بمحمد صلى الله عليه وآله انه رسول من الله عزوجل الى قومه من بنى اسماعيل عليهم السلام في غير ان تجب له بذلك على غيرهم من عرب الناس ولا اعاجهم تباعة ولا طاعة بخروج له عن ملة ولا دخول معه في

ملة الا الاقرار له بالنبوة والرسالة الى اعيان قومه ودينه . قال حارثة : وبم شهدتما له بالنبوة والأمر ؟ قالا : حيث جائتنا فيه البينة من تباشير الأناجيل والكتب الخالية ، فقال : منذ وجب هذا لمحمد صلى الله عليه وآله عليكما في طويل الكلام وقصيره

وبدئه وعوده ، فمن أين زعمتها انه ليس بالوارث الحاشر ولا المرسل الى كافة البشر ؟ قالا : لقد علمت وعلمنا فمانترى بان حجة الله عزوجل لم ينته (1) أمرها وآنهاكلمة الله (2) جارية في الاعقاب مااعتقب الليل والنهار وما بقى من الناس شخصان

وقد ظننا من قبل ان محمدا صلى الله عليه وآله ربها وانه القائد بزمامها ، فلما اعقمه وجل الباقية ونبيه الخاتم بشهادة كتب الله عزوجل المنزلة ليس بأبتر ، فإذا هو نبى يأتي ويخلد بعد محمد صلى الله عليه وآله اشتق اسمه من اسم محمد وهو احمد

الذى نبأ المسيح عليه السلام باسمه وبنبوته ورسالاته الخاتمة ويملك ابنه القاهرة الجامعة للناس جميعا على ناموس الله عزو جل الأعظم ليس بمظهرة دينه ولكنه من ذريته وعقبه يملك قرى الأرض وما بينهما من لوب (3) وسهل وصخر وبحر ملكا

مورثا موطا (4) وهذا نبأ احاطت سفرة الاناجيل (5) به علما وقد أوسعناك بهذا القيل سمعا وعدنا لك به انفة بعد سالفة فما اربك (6) الى تكراره .
 

 

* هامش *

 

 

(1) لن ينتهى ( خ ل ) .
(2) كلمة لله ( خ ل ) .
(3)
لوب - جمع لابه ، هو الحرة من الأرض ذات أجمر سود .

(4) موطا : مهيا .
(5)
سفرة الاناجيل : كتب الأناجيل .

(6)
اربك : حاجتك . ( * )

 

- ص 332 -

قال حارثة : قد اعلم انا واياكما في رجع من القول منذ (1) ثلاث وما ذاك الا ليذكر ناس ويرجع فارط (2) وتظهر لنا الكلم (3) وذكرتما نبيين يبعثان يعتقبان بين مسيح الله عز وجل والساعة قلتما وكلاهما من بنى اسماعيل ، أولهم محمد بيثرب

وثانيهما احمد العاقب ، واما محمد صلى الله عليه وآله اخو قريش هذا القاطن بيثرب فآياته حق مؤمن أجل وهو والمعبود احمد الذى نبأت به كتب الله عز وجل ودلت عليه آياته وهو حجة الله عزوجل ورسوله صلى الله عليه وآله الخاتم الوارث

حقا ولا نبوة ولا رسول الله عزوجل ولا حجة بين ابن البتول والساعة غيره ، بلى وم كان منه من ابنته البتولة البهلولة (4) الصديقة فامنتما (5) ببلاغ الله لكنكما من نبوة محمد صلى الله عليه وآله في أمر مستقر ، ولولا انقطاع نسله لما ارتبتما فيما

زعمتما به انه السابق العاقب ؟ قالا : أجل ان ذلك لمن أكبر اماراته عندنا . قال : فأتنما والله فيما تزعمان من نبى ثان من بعده في أمر ملتبس والجامعة يحكم في ذلك بيننا ، فتنادى الناس من كل ناحية وقالوا : الجامعة يا ابا حارثة الجامعة ، وذلك

لما مسهم في طول تحاور الثلاثة من السأمة والملل ، وظن القوم مع ذلك ان الفلج (6) لصاحبيهما لما كانا يدعيان في تلك المجالس من ذلك ، فأقبل أبو حارثة الى علج (7) واقف منه فقال : امض يا غلام فات بهما ، فجاء بالجامعة يحملها على

رأسه وهو لا يكاد يتماسك بها الثقلها . قال : فحدثني رجل صدق من النجزانية ممن كان يلزم السيد والعاقب ويخف لهما في بعض امورهما ويطلع على كثير من شأنهما ، قال : لما حضرت الجامعة بلغ ذلك من
 

 

* هامش *

 

 

(1) منك ( خ ل ) .
(2) فارط : مقصر .
(3)
يطمئن لنا الكلم ، تطهر لنا الكلام ( خ ل ) .
(4)
البهلولة ( خ ل ) ، أقول : البهلول : السيد الجامع لكل خير .

(5) فانتما ( خ ل ) .
(6)
أفلج الله حجته : أظهرها .
(7)
العلج : رجل من كفار عجم ، قيل من مطلق الكفار . ( * )

 

- ص 333 -

السيد والعاقب كل مبلغ لعلمهما بما يهحمان عليه في تصفحهما من دلائل رسول الله صلى الله عليه وآله وصفته وذكر أهل بيته وازواجه وذريته وما يحدث في امته واصحابه من بوائق الأمور من بعده الى فناء الدنيا وانقطاعها . فأقبل أحدهما على

صاحبه فقال : هذا يوم ما بورك لنا في طلوع شمسه ، لقد شهدته اجسامنا وغابت عنه آراؤنا بحضور طغاتنا وسفلتنا ولقل ما شهد سفهاء قوم مجمعة الا كانت لهم الغلبة ، قال الاخر : فهم شر غالب لمن ان احدهم ليفيق بأدنى كلمة ويفسد في بعض

ساعة مالا يستطيع الاسى الحليم له رتقا ولا الخولى (1) النفيس اصلاحا له في حول محرم له ذلك ، لان السفيه هادم والحليم بان وشتان بين البناء والهدم . قال : فانتهز حارثة الفرصة فارسل في خيفة (2) وسر الى النفر من اصحاب رسول

الله صلى الله عليه وآله فاستحضرهم استظهارا بمشهدهم ، فحضروا فلم يستطيع الرجلان فض ذلك المجلس ولا ارجاؤه ، وذلك لما بينا من تطلع عامتها من نصارى نجران الى معرفة ما تضمنت الجامعة من صفة رسول الله صلى الله عليه وآله

وانبعاث له مع حضور رسل رسول الله صلى الله عليه وآله لذلك وتأليب (3) حارثة عليهما فيه وصفو (4) أبى حارثة شيخهم إليه . قال : قال لى ذلك الرجل النجرانى ، فكان الرأى عندهما ان ينقادا لما يدهمهما من هذا الخطب ولا يظهران

شماسا (5) منه ولا نفورا ، حذار ان يطرقا الظنة فيه اليهما وان يكونا ايضا اول معتبر للجامعة ومستحث لهما لئلا يفتات (6) في شئ من ذك المقام والمنزلة عليهما ثم يستبين ان الصواب في الحال ويستنجد انه ليأخذان بموجبه فتقدما لما تقدم في

أنفسهما من ذلك الى الجامعة وهى بين يدى أبى حارثة وحاذاهما حارثة بن اثال
 

 

* هامش *

 

 

(1) الخولى : الراعى الحسن القيان على المال .
(2) خفية ( خ ل ) .
(3) التأليب : التحريض .

(4) الصفو : الميل .
(5)
شماسا : منعا .
(6)
يفتات : من الفت وهو التكسر والتفريق والانهدام . ( * )

 

- ص 334 -

وتطاولت اليهما فيه الاعناق ، وحفت رسل رسول الله صلى الله عليه وآله بهم ، فأمر أبو حارثة بالجامعة ففتح طرفها واستخرج منها صحيفة آدم الكبرى المستودعة علم ملكوت الله عزو جل جلاله وما ذرء وما برء في ارضه وسمائه وما

وصلهما جل جلاله من ذكر عالميه ، وهى الصحيفة التى ورثها شيث من ابيه آدم عليه السلام عما دعا من الذكر المحفوظ . فقرء القوم السيد والعاقب وحارثة في الصحيفة تصلبا لما تنازعوا فيه من نعت رسول الله صلى الله عليه وآله وصفته ومن

حضرهم يومئذ من الناس إليهم مضجون (1) مرتقبون لما يستدرك من ذكرى ذلك ، فألفوا في المسباح (2) الثاني من فواصلهما : بسم الله الرحمن الرحيم انا الله لا اله الا أنا الحى القيوم ، معقب الدهور وفاصل الامور ، سبقت بمشيتي الاسباب

وذللت بقدرتي الصعاب ، فانا العزيز الحكيم الرحمان الرحيم ، ارحم ترحم ، سبقت رحمتى غضبى وعفوي عقوبتي ، خلقت عبادي لعبادتي وألزمتهم حجتى ، الا انى باعث فيهم رسلي ومنزل عليهم كتبي ، ابرم ذلك من لدن اول مذكور من بشر الى

احمد نبيى وخاتم رسلي ، ذاك الذى اجعل عليه صلواتي واسلك في قلبه بركاتي وبه أكمل انبيائي ونذرى . قال آدم عليه السلام : الهى من هؤلاء الرسل ومن احمد هذا الذى رفعت وشرفت ؟ قال : كل من ذريتك واحمد عاقبهم ، قال : رب بما أنت

باعثهم ومرسلهم ؟ قال : بتوحيدي ، ثم اقفى ذلك بثلثمائة وثلاثين شريعة ، انظمها وأكملها لاحمد جميعا فاذنت لمن جاءني بشريعة منها مع الايمان بى وبرسلي ان ادخله الجنة ، ثم ذكر ما جملته : ان الله تعالى عرض على آدم عليه السلام معرفة

الانبياء عليهم السلام وذريتهم ونظرهم آدم . ثم قال ماهذا لفظه : ثم نظر آدم عليه السلام الى نور قد لمع فسد الجو المنخرق ، فأخذ بالمطالع من المشارق ثم سرى كذلك حتى طبق المغارب ثم سمى حتى بلغ ملكوت السماء ، فنظر فإذا هو نور محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وإذا الاكناف به قد
 

 

* هامش *

 

 

(1) مصيحون ( خ ل ) .

(2) المصباح ( خ ل ) . ( * )

 

- ص 335 -

تضوعت طيبا (1) وإذا انوار اربعة قد اكتنفته عن يمينه وشماله ومن خلفه وامامه اشبه شئ به ارجا (2) ونورا ويتلوها انوار من بعدها تستمد منها ، وإذا هي شبيه بها في ضيا ئها وعظمها ونشرها ، ثم دنت منها فتكللت (3) عليها وحفت بها ونظر ،

فإذا انوار من بعد ذلك في مثل عدد الكواكب ودون منازل الاوائل جدا جدا ، وبعض هذه اضوء من بعض وهى في ذلك متفاوتون جدا ، ثم طلع عليه سواد كالليل وكالسيل ينسلون من كل وجهة وارب ، فاقبلوا كذلك حتى ملؤوا القاع (4) والاكم

(5) فإذا هم أقبح شئ صورا وهيئة وانتنه ريحا . فبهر (6) آدم عليه السلام ما رأى من ذلك وقال : يا عالم الغيوب وغافر الذنوب وياذا القدرة القاهرة والمشية الغالبة من هذا الخلق السعيد الذى كرمت ورفعت على العالمين ومن هذه الأنوار المنيفة

المكتنفة له ؟ فأوحى الله عزو جل إليه : يا آدم هذا وهؤلاء وسيلتك ووسيلة من اسعدت من خلقي ، هؤلاء السابقون المقربون والشافعون المشفعون ، وهذا احمد سيدهم وسيد بريتى ، اخترته بعلمي واشتققت اسمه من اسمى ، فانا المحمود وهو محمد ،

وهذا صنوه (7) ووصيه ، آزرته به وجعلت بركاتي وتطهيري في عقبه ، وهذه سيدة امائى والبقية في علمي من احمد نبيى ، وهذان السبطان والخلفان لهم ، وهذه الاعيان المضارع نورها انوارهم بقية منهم ، الا ان كلا اصطفيت وطهرت وعلى كل

باركت وترحمت ، فكلا بعلمي جعلت قدوة عبادي ونور بلادي . ونظر فإذا شبح في آخرهم يزهر في ذلك الصفيح (8) كما يزهر كوكب الصبح لأهل
 

 

* هامش *

 

 

(1) ضوع المسك : انتشرت رائحته .
(2) ارجا : طيبا .
(3) تكللت : احاطت .
(4)
القاع : المستوى من الأرض .

(5) الاكم : التلال .
(6)
بهره : قهره .
(7)
صنوه : اخوه .
(8)
الصفيح : السماء ووجه كل شئ عريض . ( * )

 

- ص 336 -

الدنيا ، فقال الله تبارك وتعالى : وبعبدي هذا السعيد افك عن عبادي الاغلال واضع عنهم الاصار (1) ارضى به حنانا ورأفة وعدلا كما مئلت من قبله قسوة وقشعرية وجورا .

قال آدم عليه السلام : رب ان الكريم من كرمت وان الشريف من شرفت ، وحق يا الهي لمن رفعت واعليت ان يكون كذلك ، فياذا النعم التى لا تنقطع والاحسان الذى لا يجازى ولا ينفد ، بم بلغ عبادك هؤلاء العالون هذه المنزلة من شرف عطائك

وعظيم فضلك وحبائك ، وكذلك من كرمت من عبادك المرسلين ؟ قال الله تبارك وتعالى : انى أنا الله لا اله الا أنا الرحمان الرحيم العزيز الحكيم عالم الغيوب ومضمرات القلوب ، اعلم ما لم يكن مما يكون كيف يكون ، وما لا يكون كيف لو كان

يكون ، وانى اطلعت يا عبدي في علمي على قلوب عبادي فلم أر فيهم اطوع لى ولا انصح لخلقي من انبيائي ورسلي ، فجعلت لذلك فيهم روحي وكلمتي والزمتهم عب‌حجتى واصطفيتهم على البرايا برسالتى وولى ، ثم القيت بمكانتهم تلك في

منازلهم حوامهم (2) واوصيائهم من بعدى ودائع حجتى والسادة في بريتى ، لأجبر بهم كسر عبادي واقيم بهم اودهم ذلك ، انى بهم وبقلوبهم لطيف خبير ، ثم اطلعت على قلوب المصطفين من رسلي ، فلم اجد فيهم اطوع ولا انصح لخلقي من محمد

خيرتي وخالصتي ، فاخترته على علم ورفعت ذكره الى ذكرى ، ثم وجدت قلوب حامته (3) اللاتى من بعده على صبغة قلبه فألحقهم به وجعلتهم ورثة كتابي ووحيى وأوكار حكمتي ونورى ، وآليت (4) بى الا اعذب بناري من لقيني معتصما بتوحيدي

وجعل مودتهم ابدا . ثم امرهم أبو حارثة ان يصيروا الى صحيفة شيث الكبرى التى انتهى ميراثها الى ادريس النبي عليه السلام ، قال : وكان كتابتها بالقلم السرياني القديم ، وهو الذى كتب
 

 

* هامش *

 

 

(1) الاصار : الذنوب .
(2) حوامهم : اقربائهم .

(3) حامته : أقربائه .
(4)
آليت : حلفت . ( * )


 

   

الصفحة التالية

   

 

 

الصفحة الرئيسية

 

أعمال أشهر السنة

 

فهرس الكتاب