قال عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة لسعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص - لما سأله: يا
عم لم كان صفو الناس إلى علي؟ - قال: يا ابن أخي إنّ علياً كان له ما شئت من ضرس
قاطع في العلم، وكان له البسطة في العشيرة والقدم في الاسلام، والصهر لرسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم)، والفقه في السنة، والنجدة في الحرب والجود بالماعون.
عامر بن عبد الله بن الزبير
قال عامر بن عبد الله بن الزبير لابن له ينتقص علياً: يا بني إياك والعودة إلى ذلك،
فإن بني مروان شتموه ستين سنة، فلم يزده الله بذلك إلاّ رفعة، وإنّ الدين لم يبن
شيئاً فهدمته الدنيا، وإنّ الدنيا لم تبن شيئاً إلاّ عاودت على ما بنت فهدمته.
محمد بن أبي بكر
كتب محمد بن أبي بكر بن أبي قحافة إلى معاوية بن أبي سفيان: فكان أوّل من أجاب
وأناب وآمن وصدق وأسلم وسلّم أخوه وأبن عمه علي بن أبي طالب، صدقه بالغيب المكتوم،
وآثره على كل حميم، ووقاه بنفسه كل هول، وحارب حربه، وسالم سلمه، فلم يبرح مبتذلاً
لنفسه في ساعات الليل والنهار، والخوف والجزع، حتى برز سابقاً لا نظير له فيمن
اتبعه، ولا مقارب له في فعله، وقد رأيتك تساميه وأنت أنت وهو هو ; أصدق الناس نية،
وأفضل الناس ذرية، وخير الناس زوجة وأفضل الناس ابن عم، وأخوه الشاري بنفسه يوم
هجرته، وعمه سيد الشهداء يوم اُحد، وأبوه الذاب عن رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) وعن حوزته.. فكيف يا لك الويل تعدّ نفسك بعلي وهو وارث رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) ووصيه، وأبو ولده ، أوّل الناس له اتباعاً وأقربهم به عهداً، يخبره
بسرّه ويطلعه على أمره.
الشعبي
قال الشعبي: كان علي بن أبي طالب في هذه الامة مثل المسيح بن مريم في بني إسرائيل ;
أحبه قوم فكفروا في حبه، وأبغضه قوم فكفروا في بغضه.
وقال أيضاً: كان أسخى الناس، وكان على الخلق الذي يحبه الله: السخاء والجود، ما
قال: لا لسائل قط.
عمر بن عبد العزيز
قال عمر بن عبد العزيز: ما علمنا أنّ أحداً من هذه الامة بعد رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) أزهد من علي بن أبي طالب، وما وضع لبنة على لبنة، ولا قصبة على
قصبة.
معاوية بن يزيد
خطب معاوية بن يزيد بن معاوية على المنبر فقال: ألا إنّ جدي معاوية قد نازع في هذا
الامر من كان أولى به منه ومن غيره، لقرابته من رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم)، وأعظم فضله وسابقته، اعظم المهاجرين قدرا، واشجعهم قلبا، وأكثرهم علماً،
وأولهم إيماناً، وأشرفهم منزلة، وأخوه، زوجّه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
ابنته فاطمة، وجعله لها بعلاً بإختياره لها، وجعلها له زوجة بإختيارها له، أبو
سبطيه سيدي شباب أهل الجنة، وأفضل هذه الامة، تربية الرسول، وابني فاطمة البتول، من
الشجرة الطيبة الطاهرة الزكية، فركب جدي معه ما تعلمون، وركبتم معه مالا تجهلون.
أبو قيس الاودي
قال أبو قيس الاودي: أدركت الناس وهم ثلاث طبقات: أهل دين يحبون علياً، وأهل دنيا
يحبون معاوية، وخوارج.
ابن شبرمة
قال ابن شبرمة: ليس لاحد من الناس أن يقول على المنبر سلوني غير علي بن أبي طالب.
ابن إسحاق
قال إبن إسحاق: أوّل ذكر آمن بالله ورسوله علي بن أبي طالب وهو يومئذ ابن عشر سنين.
سفيان بن عيينة
قال سفيان بن عيينة: ما بنى علي (رضي الله عنه) لبنة على لبنة، ولا قصبة على قصبة.
الاحنف بن قيس
قال الاحنف بن قيس لمعاوية: لله در ابن أبي طالب، لقد جاد من نفسه بما لم تسمح به
أنت ولا غيرك.
خالد بن معمر
قال خالد بن معمر لمعاوية - لما سأله: على ما أحببت علياً؟
قال: على ثلاث خصال: على حلمه إذا غضب، وعلى صدقه إذا قال، وعلى عدله إذا حكم.
ثابت بن قيس بن شماس
قال له ثابت بن قيس بن شماس الانصاري بعدما بويع (عليه السلام) بالخلافة: والله يا
أمير المؤمنين لئن كانوا تقدموك في الولاية فما تقدموك في الدين، ولئن كانوا سبقوك
أمس لقد لحقتهم اليوم، ولقد كانوا وكنت لا يخفى موضعك، ولا يجهل مكانك، يحتاجون
إليك فيما لا يعلمون وما احتجت إلى أحد مع عملك.
خزيمة بن ثابت
قال خزيمة بن ثابت الانصاري - ذو الشهادتين - بعدما بويع (عليه السلام) بالخلافة:
يا أمير المؤمنين ما أصبنا لامرنا غيرك، ولا كان المنقلب إلاّ إليك، ولئن صدقنا
انفسنا فيك لانت أقدم الناس إيماناً، وأعلم الناس بالله، وأولى المؤمنين برسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم)، لك مالهم وليس لَهُم مالك.
مالك الاشتر
قال مالك الاشتر بعدما بويع (عليه السلام) بالخلافة: أيها الناس هذا وصي الاوصياء ،
ووارث الانبياء، العظيم البلاء، الحسن العناء، الذي شهد له كتاب الله بالايمان
ورسوله... الخ.
أنس بن مالك
سُئل أنس بن مالك من كان آثر الناس عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما
رأيت؟
قال: ما رأيت أحداً بمنزلة علي بن أبي طالب، إن كان يبعث في جوف الليل إليه فيستخلي
به حتى يصبح ; هذا كان له عنده حتى فارق الدنيا.
وقال: ولقد سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يقول: يا أنس تحب علياً؟
قلت: والله يا رسول الله أني لاحبه كحبك إياه.
فقال: «أما إنّك إن أحببته أحبك الله، وإن أبغضته أبغضك الله وإن أبغضك الله أولجك
النار».
أمّ سلمة
قالت أمّ سلمة: والله إنّ علي بن أبي طالب لعلى الحق قبل القوم، عهداً معهوداً
مقضيّا.
أحمد بن حنبل
ولقد كانت كل هذه الفضائل لعليّ بن أبي طالب، وأُثرت عنه بما صح أن يقال: إنه ليس
لاحد من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مثله.
أخرج السلفي في الطبوريات، عن عبد الله بن احمد بن حنبل قال: سألت ابي عن علي
ومعاوية، فقال: اعلم ان علياً كثير الاعداء ففتّش له اعداؤه شيئاً فلم يجدوه، فجاؤا
إلى رجل قد حاربه وقاتله فاطروه كيداً منهم له.
الخليل بن احمد الفراهيدي
استغناؤه عن الكل، واحتياج الكل إليه، دليل على أنه إمام الكل.
ابن سينا
وله في أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله:
علي بين الناس كالمعقول بين المحسوس.
الخواجه نصير الدين الطوسي
علي أعلم الناس بعد الرسول، وأعبدهم وأفصحهم، وأحكمهم رأياً، واحفظهم لكتاب الله
وإجراء أحكامه، وألصقهم بهديه (صلى الله عليه وآله وسلم) في حياته وبعد مماته،
ومحبته واتباعه واجبان، ورتبته مساوية لرتبة الانبياء، وهو النبع الفياض الذي طالما
اغترف منه المغترفون.
الزمخشري
ماذا أقول في رجل أخفى أعداؤه فضائله حقدا وحسداً، وأولياؤه خوفاً فظهر من بين ذين
ما ملا الخافقين.
محمد بن إسحاق الواقدي
ما جاء لاحد من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الفضائل ما جاء لعلي
بن أبي طالب.
الفخر الرازي
... ومن اتخذ علياً إماماً لدينه فقد استمسك بالعروة الوثقى في دينه ونفسه.
الشيخ بهاء الدين العاملي
هو الفتى الذي ما شئت فقل في مقامه، إلا ما قاله النصارى في المسيح (عليه السلام)،
وكيف لا يكون كذلك وهو ولي كل مؤمن ومؤمنة بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
فهو أمل الناس، وأعظمهم، وأطهرهم سلالة.
السيد عبد الحسين شرف الدين
كان الامام يتحرى السكينة في بث النصوص عليه، ولا يقارع بها خصومه احتياطاً على
الاسلام، واحتفاظاً بريح المسلمين، وربما اعتذر عن سكوته وعدم مطالبته - في تلك
الحالة - بحقه فيقول: لا يعاب المرء بتأخير حقه، إنما يعاب من أخذ ماليس له، وكان
له في نشر النصوص عليه طرق تجلت الحكمة فيها بأجلى المظاهر ألا تراه ما فعل يوم
الرحبة إذ جمع الناس فيها أيام خلافته لذكرى يوم الغدير، فقال لهم: أنشد الله كل
امرئ مسلم سمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، يقول يوم غدير خم ما قال، الا
قام فشهد بما سمع، ولا يقوم إلا من رآه؟ فقام ثلاثون من الصحابة فيهم اثنا عشر
بدرياً، فشهدوا بما سمعوه من نص الغدير، وهذا غاية ما يتسنى له في تلك الظروف
الحرجة بسبب قتل عثمان، وقيام الفتنة في البصرة والشام، ولعمري إنه قصارى ما يتفق
من الاحتجاج يومئذ مع الحكمة في تلك الاوقات، ويا له مقاماً محموداً بعث نص الغدير
من مرقده، فأنعشه بعد أن كاد، ومثل لكل من كان في الرحبة من تلك الجماهير موقف
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم خم، وقد أخذ بيد علي فأشرف به على مئة الف أو
يزيدون من أمته، فبلغهم أنه وليهم من بعده وبهذا كان نص الغدير من أظهر مصاديق
السنن المتواترة، فانظر إلى حكمة النبي إذ أشاد به على رؤوس تلك الاشهاد، وانتبه
إلى حكمة الوصي يوم الرحبة إذ ناشدهم بذلك النشاد، فأثبت الحق بكل تؤدة اقتضتها
الحال، وكل سكينة كان الامام يؤثرها، وهكذا كانت سيرته في بث العهد إليه، ونشر النص
عليه، فإنه إنما كان ينبه الغافلين بأساليب لا توجب ضجة ولا تقتضي نفرة.
شبلي الشمّيل
الامام علي بن أبي طالب عظيم العظماء نسخة مفردة لم يَر له الشرق ولا الغرب صورة
طبق الاصل قديماً وحديثاً.
عباس محمود العقاد
«... وإنّك لتنحدر مع أقاب الذرية في الطالبيين أبناء عليّ والزَّهراء مائة سنة
ومائتي سنة وأربعمائة سنة، ثم يبرز لك رجل من رجالها فيخيَّل إليك أنَّ هذا الزَّمن
الطويل لم يبعد قط بين الفرع وأصله في الخصال والعادات، كأنَّما هو بعد أيّام
معدودات لابعد المئات وراء المئات من السِّنين، ولا تلبث أن تهتف عجباً: إنَّ هذه
لصفات علويَّة لا شك فيها، لانَّك تسمع الرَّجل منهم يتكلَّم ويجيب من كلِّمه،
وتراه يعمل ويجزي من عمل له، فلا يخطئ في كلامه، ولا في عمله، تلك الشجاعة
والصَّراحة، ولا ذلك الذكاء والبلاغ المسكت، ولا تلك اللوازم التي اشتهر بها علي
وآله وتجمعها في كلمتين اثنتين تدلان عليها أو في دلالة وهما: (الفروسيَّة
الرِّياضية).
طبع صريح، ولسان فصيح، ومتانة في الاسر يستوي فيها الخلق والخلق، ونخوة لا تبالي ما
يفوتها من النفع إذا هي استقامت على سنَّة المروءة والاباء».
الدكتور نوري جعفر
من كتابه (علي ومناوئوه) ينقل بعضها الدكتو طه حسين:
أما اذا نظر الباحث الى مواقف الامام نفسه في حماية الدعوة الاسلامية وصاحبها من
مؤامرات كفار قريش، تلك المواقف التي دلت على كفاءته لتسلم خلافة الرسول (صلى الله
عليه وآله وسلم) بعد وفاته من جهة، والتي اهلته لتسنم ذلك المنصب الرفيع من جهة
أخرى. فإنه يجد تلك المواقف المشرفة كثيرة العدد «تتزاحم بالمناكب وتتدافع بالراح»
بحيث يصبح أمر الموازنة بينها «لاختيار بعضها للاستشهاد به» من أصعب الامور. وقبل
أن نتطرق إلى ذكر أهمها، يجمل بنا أن نشير إلى الظروف الخاصة التي ربطت بين علي
والاسلام من جهة، وبينه وبين النبي من جهة أخرى، وبقدر ما يتعلق الامر بصلة الاسلام
بعلي، أو صلة علي بالاسلام، يمكننا أن نقول مع العقاد: «لقد ملا الدين الجديد قلباً
لم ينازعه فيه منازع من عقيدة سابقة، ولم يخالطه شوب يكدر صفاءه ويرجع به إلى
عقابيله، فبحق ما يقال: إن علياً كان المسلم الخالص على سجيته المثلى، وأن الدين
الجديد لم يعرف قط أصدق إسلاما منه ولا أعمق نفاذاً فيه».
فقد بعث النبي على ما يقول الدكتور طه حسين: وعليٌّ عنده صبي فأسلم.. وظل بعد
إسلامه في حجر النبي يعيش بينه وبين خديجة أم المؤمنين وهو لم يعبد الاوثان قط..
فامتاز بين السابقين الاولين بأنه نشأ نشأة إسلامية خالصة. وامتاز كذلك بأنه نشأ في
منزل الوحي بأدق معاني هذه الكلمة».
أما الاثار العميقة التي تركتها هذه البيئة الاسلامية الصافية في خلق الامام، في
عقله، وقلبه، ولسانه، ويده، فتعتبر من أوليات الامور المسلم بها عند الباحثين
الحديثين في علم النفس، وعلم الاجتماع.
إن علياً كان مهيئاً للخلافة بعد الرسول، هذا إذا نظرنا للخلافة من جوانبها
الزمنية، وأن صلاته بالرسول وبالاسلام، وصلات الاسلام والرسول به تؤهله لذلك.
ولو احتج المسلمون أثناء السقيفة بعد وفاة النبي: «أن علياً كان أقرب الناس إليه،
وكان ربيبه، وكان خليفته على ودائعه، وكان أخاه. بحكم تلك المؤاخاة، وكان ختنه وأبا
عقبه، وكان صاحب لوائه، وكان خليفته في أهله، وكانت منزلته منه بمنزلة هارون من
موسى بنص الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه.
لو قال المسلمون هذا كله واختاروا علياً بحكم هذا كله، لما أبعدوا ولا انحرفوا.
وكان كل شيء يرشح علياً للخلافة... قرابته من النبي، وسابقته في الاسلام ، ومكانته
بين المسلمين، وحسن بلائه في سبيل الله، وسيرته التي لم تعرف العوج قط، وشدته في
الدين، وفقهه بالكتاب والسنة، واستقامة رأيه».
«لقد كان عليّ موفقاً كل التوفيق، ناصحاً للاسلام كل النصح.. صبر نفسه على ما كانت
تكره. وطابت نفسه للمسلمين بما كان يراه حقاً.. بايع على ثاني الخلفاء كما بايع
أولهم كراهية للفتنة.. ونصحاً للمسلمين.
ولم يظهر مطالبته بما كان يراه حقاً له. ونصح لعمر كما نصح لابي بكر.. وقد بايع
عثمان كما بايع الشيخين. وهو يرى أنه مغلوب على حقه. ولكنه على ذلك لم يتردد في
البيعة، ولم يقصر في النصح للخليفة الثالث، كما لم يقصر في النصح للشيخين من قبله..
فكان طبيعياً إذن حين قتل عثمان أن يفكر علي في نفسه، وفيم غلب عليه من حقه.
ولكنه مع ذلك لم يطلب الخلافة، ولم ينصب نفسه للبيعة إلا حين استكره على ذلك
استكراهاً.
وقد أوجز الامام سياسته العامة في أول خطبة خطبها حين استخلف فقال: «إن الله أنزل
كتاباً هادياً يبين فيه الخير والشر. فخذوا الخير ودعوا الشر والفرائض أدوها. اتقوا
الله عباد الله في عباده وبلاده.. وإنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم».
كلمات قصار ولكنها تتضمن إجراء تغيير واسع المدى، وعميق الغور في علاقات المسلمين
ببعضهم وبالخليفة.
ومما تجدر الاشارة إليه في هذا الصدد أن الامام - كما يحدثنا مؤرخوه - قد اعتذر
مراراً عن قبول الخلافة على الرغم من إلحاح المسلمين عليه.
وقد مر بنا طرف من ذلك.
ولقد أشار الامام نفسه إلى ذلك في مواطن شتى من «نهج البلاغة»، قال يصف تزاحم
المسلمين عليه وإلحاحهم الشديد على مبايعته:
«دعوني والتمسوا غيري. فإنا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان، لا تقوم له القلوب ولا
تثبت عليه العقول، وإن الافاق قد أغامت، والمحجة قد تنكرت. واعلموا أني إن أجبتكم
ركبت بكم ما أعلم، ولم أصغ إلى قول القائل، وعتب العاتب».
منذ أربعة عشر قرناً واسم الامام علي (عليه السلام) يحتل الصدارة في بحوث
المؤرِّخين، والمتتبعين، والباحثين، حين يجيء ذكر الايمان، والاستقامة، والعدل،
والشجاعة، والجهاد في سبيل الله، والصبر على المكاره، أو حين يجيء ذكر المعرفة
والحكمة، والادب والشعر والخطابة، فتمر سيرته في صور مزدانة بألوان من الصفات التي
لم تجتمع في شخصيَّة إنسان عبقري موهوب كما اجتمعت في هذه الشخصيَّة الفذة العجيبة
التي خلبت العقول، وحيَّرت الالباب، وكانت من القوَّة والرسوخ من حيث هذه المزايا -
مزايا العلم والحكمة والمعرفة وسمو الخلق والانسانية الحقَّة - بحيث تمرَّدت على
العوامل الفعّالة التي من شأنها إبادة أي شيء - مهما عظم - إذا ما وقف أمامها.
كان علي أمَّةً مستقلةً بذاتها، تحكي عقليَّة الدَّهر، وتعبِّر عن نضج الزمان،
وتصوِّر نهاية المراحل من سموِّ البشريَّة، وقمَّة المجد، فليس من الصحيح أن يقاس
علي بالافراد فهو نسيج وحده، ومن الخطأ أن يقال عن علي: إنَّه كان أورعهم، وأتقاهم،
وأنبلهم، وأسخاهم وأنت تعرض لسيرة العظماء والمزايا الانسانية فكما أنَّك لا تستطيع
أن تقرن الارض بالقمر بهاءً، وتقرن معدن الراديوم بالمعادن الاخرى جوهراً، وتقيس
عليه، فإنَّك لا تستطيع أن تقرن اسم علي بأسماء العظماء - باستثناء من خصُّوا برتبة
النبوة - وهو غير نبي طبعا - لانَّ مزايا علي قد تجاوزت الحدود المألوفة، ولانَّ
شخصيته بلغت القمَّة من الامجاد والمثل العليا في دنيا البشريَّة.
وحين يستعرض المرء المبادئ والملكات والمزايا فلا يصح أن يأتي بعلي مثلاً ، ذلك
لانَّ علياً - كما قلت - أمَّة مستقلة ليس لها بين الافراد من شبيه، وإنَّه قد سما
بما جاء به من موازين، وما أعرب به من مزايا، وما عبَّر به عن صفات الانسان الكامل
العديم النظير، حتّى صارت كلمة علي وحدها تكفي لترسم أمام العين كلَّ الصور
الجذّابة من معاني الانسانية.
ولعلَّ كلمة (علي) التي يكتبها البعض فوق مخازنهم، وحوانيتهم، أو يعلِّقونها في
إطار الالواح الفنية المزخرفة في بيوتهم، أو التي ينقشونها على أبواب العمارات،
والمساجد، والمعاهد والمؤسسات، أقول: لعل هذه الكلمة ضرب من ضروب البديع ورمز من
رموز الفن المعروف في علم البديع (بالاكتفاء) وهي صريحة المنطوق، واضحة المفهوم،
فلا حاجة لان يضاف إليها شيء ليفهم الناس: أنَّ علياً يحكي المجموعه الكاملة من
فضائل الدُّنيا ومزاياها.
يقول محمد مهدي الجواهري:
تعداد مجد المرء منقصة إذا * * * فاقت مزاياه عن التعداد
ولقد فاقت مزايا عليٍّ حدود التعداد، وتحدَّت عوامل الزمن التي تجرف أمامها الماضي
والحاضر فتجعله أثراً بعد عين.
لقد تحدَّت مزايا علي عوامل الزَّمن بقوَّة لم يُعرف لها نظير في تاريخ العظماء حتى
أصبحت شخصيَّته كالشمس التي إذا ما حجبها الضّباب أو السَّحاب أو الغبار ، أو حال
القمر بينها وبين الارض مرَّة فلن يستطيع أن يحجبها مرّات، ولن يقوى على تغيير
جوهرها، ونفوذ عملها وأثرها في الارض وفي الطبيعة.
هذه الشخصيّة - شخصيَّة الامام عليٍّ - التي تحدَّت الزَّمن، وتحدَّت كلَّ الوسائل
الفعالة التي يكفي أن يغير بعض مفعولها حقيقة الاُمم وواقعها، ويبدِّل مجرى التاريخ
وحقيقته، هذه الشخصيَّة كانت ولم تزل ملء العين، وملء القلب، والقدوة المثاليَّة
عند ذوي الادراك والعقول النيِّرة، والباحثين عن الانسانيَّة الكاملة في دنيا
البشريَّة، هذه الشخصيَّة التي لم تكتف بأن تصمد وتثبت كالجبل أمام تلك الزَّعازع
والعواصف والرعود والبروق التي نسجتها الدِّعاية بكل ألوانها وأصنافها من وعد ووعيد
وحسن جزاء، وصبِّ نقمة، بل أصبحت مبعثَ الحياة ومأمل الامل على رغم كل تلك الحروب
التي شُنَّت عليها - حتى ألِّفت فيها الكتب ، ووضعت عنها الدِّراسات، ونقلت عنها
الشواهد والامثلة، فكانت نبراساً يهتدي به التائه في ظلمات الدنيا، واستوى الباحثون
في حقيقتها، والمتتبعون لاثارها، والذائبون فيها: الشرقيون منهم والغربيون، العرب
وغير العرب، المسلمون وغير المسلمون.
وهذه مقتطفات من كتابه: مشاهد وقصص من أيام النبوة. كتب عن زواج النور من النور،
فقال:
شاع الخبر في المدينة سريعاً كما يشيع الاريجُ العابقُ في كلّ مكان مع النَّسم
النّديِّ، فكانت ميمونةُ لا تمرُّ بمحلَّة من دور الانصار إلاّ وترى المرأة تميل
إلى المرأةِ، وتقول لها في بِشْر ظاهر:
أما بلغك النّبأُ؟ عليٌّ (عليه السلام) خطب فاطمة (عليها السلام)، وبارك النبيُّ
(صلى الله عليه وآله وسلم) العقد، وإنّه لَنِعْم الحدثُ. ليس لهذه السّيّدةِ
المصطفاة إلاّ هذا السيّد المصطفى. وهي ربيبةُ الوحي والرِّسالة، وهو ربيبُ الوحي
وبطلُ الرِّسالة.
وفي استدارتها صوبَ منزلها سمعت رجلاً يسمر إلى آخر في ناحية من الحيِّ ويقول:
إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يزوِّج عليّاً (عليه السلام)، وإنّما كرّم
البطولة الخالدة المظفّرة في شخص البطل الخالدِ المظفَّر، وإنَّ من حقِّ البطولة
تكريمها، وما فات النبيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يكرِّم البطولة بأعزِّ ما
عنده وأقرب ما هو إلى قلبه، فإنّ فاطمة (عليها السلام) قلب النبيّ (صلى الله عليه
وآله وسلم)مصوَّراً في إنسان ملاكِيٍّ أو ملاك إنسانيٍّ. وليس في هذا معناه بل معنى
التّكريم، فإنّ محمَّداً (صلى الله عليه وآله وسلم)، في حقيقته، رسالةٌ ودعوةٌ وهو
المبتدأ، وإنّ عليّاً (عليه السلام)، في حقيقته ، إيمانٌ وإجابةٌ وهو الخبر، ولا
شكَّ في أنّ فاطمة (عليها السلام) رابطةُ الاسناد.
وما فات ميمونَةَ أن تسمع ما ردَّ به الاخرُ - وكان من المهاجرين الاوَّلينَ، كما
تقول -: وأيضاً لقد كرَّم النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا القران بطولةً
أخرى هانئةً في أبديَّتها المشرفة الواعية، إنّه كرّم أبا طالب النّصير البرَّ
والمجاهد الاوَّل.
قال الانصاريُّ: فهذا القران إذا تكريمٌ مزدوجٌ ضاعف معناه، وأخلد بهذا اليوم يوم
تكريم البطولات، إنّه ليستخفُّني بمعناهُ الكبيرِ...
وأيضاً:
وكان معنى اختيار عليٍّ (عليه السلام) إلى جنب النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم)
جمعَ كلِّ الانسانيّة فيه، وجاء معه علامةً على أنّ الانسانيَّة بكلّ ما ثبت فيها،
لن تنحرف عن النبوَّة الجديدة بكل ما ثبت فيها. فكانت فاطمةُ (عليها السلام) منهما
بين مصدر إشراقِ النُّورِ ومجلى انعِكاسِهِ، وموجاتُ الشُّعاع تمور متألِّقَةً في
جَوِّ نفسِها المتساميَةِ أبداً.
وأيضاً:
يضلّ الزَّمانُ حقيقةً موهومةً، لولا بعضُ الاعمالِ الخالدةِ الّتي تؤرِّخُهُ...
وتكون هذه الاعمال أكبر من الزَّمَنِ، لانّ حقيقته بعض هباتِها...
فيومُ عليٍّ (عليه السلام) وفاطمة (عليها السلام) أكبر من الزّمن، وأخلد من
التّاريخ!...
أثبتت النُّبوَّةُ معناها الخالد في روحيَّةِ الانسان على وجه...
وأثبتت النُّبوَّةُ ذاتيَّتها الخالدة في دم الانْسان على وجْه...
وأيضاً:
كانت النبوَّةُ ستظلُّ ذكرى فقط...
ولكن شاء اللهُ أن تكون حياةً أيضاً...
فيوم عليٍّ (عليه السلام) وفاطمة (عليها السلام) إبقاءٌ لحياةِ النبوَّةِ على
الدُّهور...
وأيضاً:
تضعُ الحقيقة الكبرى خصائص معناها في النَّواةِ لانّها تريد البقاء
والنَّواةُ لا تختلف في خصائصها إلاّ إذا كان لناموس الوراثة الطّبيعيِّ أن يختلف.
فيومُ عليٍّ (عليه السلام) وفاطمة (عليها السلام) يوم بروز النَّواةِ لتمثل خصائصها
في شكل آخر.
تذهب النَّواةُ الّتي هي مخزون الخصائصِ، تتمُّ دورتها وتعطي أشياءها.
والنُّبوَّةُ فكرةُ السّماءِ المصلحة في محيط البشر...
فيوم عليٍّ وفاطمةَ، طبعٌ لعقليَّةِ النبوَّةِ في عقل النّاسِ.
اجتمعت في عليٍّ قابليّاتٌ لاحدَّ لها...
واجتمعت في فاطمة إشراقاتٌ لاحدَّ لها...
فيومُ عليٍّ (عليه السلام) وفاطمةَ (عليها السلام) يوم نظر النُّبوَّةِ إلى نفسها
في المِرْآة.
وأيضاً قوله:
وهو في مقياس كلِّ عصر مبرَّر، تنحّى واعتزل واعصم في حدود هذا التَّنحّي
والاعتزال. ولكنّ عليّاً، مع كلِّ ماهو عاتبٌ وواجدٌ، لم يزل يقدِّر ويذهب في مدى
تقديره بعيداً، فينتهي إلى الكارثة ويتراءى له شبحها، فيرهبُ هولَها ويخشى وقوعها.
يجب إذاً أن لا يظلَّ بعيداً، وإن توارى من الميدان إزاء موقف بطانة عثمان من
الجمهورِ، هذا الموقف النّابي المُثير، فبادر الى تقديم ولديه - لاعتباراتِها
التّقديريّة - ومواليه، كي يُنَهنِهوا عواديَ الاحداثِ وطائِشاتِ الخطوبِ. وحين
بلغهُ: «أنّ النّاس حصروا داره ومنعوه الماء بعث إليه بثلاث قِرب ، وقال للحسن
والحسين: اذهبا بسيفَيْكُما حتّى تقوما على بابه ولا تدعا أحداً يصلُ إليه بمكروه،
وكان أنْ خُضِّبَ الحسنُ بالدِّماء وشُجَّ قنبرُ مولاهُ».
وقوله:
في طبيعة البحر رشاقةُ الحركةِ، وفي طبيعة الصَّخْرِ سكونٌ بليدٌ، وأيضاً قاس
متجهِّم، وبينهما وقف إنسانٌ فيه وعي السكون وقصد الحركة، يصل أسباب أحدهما بأسباب
الاخر. وكانتِ كبرياءُ الصَّخرِ عمياءَ فلم تقنعْ بغيرِ وجودِها، فانطلقت أعاصير
البحر تزأرُ في مثل الفحيح.
ووقف هذا الانسان عند الشّاطئ ينظرُ متفجِّعاً، فإذا الوجود المخدوعُ - الّذي أضحى
غوراً - ترقُصُ فوقَهُ موجةٌ مارجةٌ... في نغمة تخبرُ: أنّه كان هنا شيءٌ فيما
زعموا.
مضى ذلك الانسان - وقد أبصرَ وسمِعَ - مطرقاً مردِّداً: بهذا نطقَ الحقُّ في صدى
الموْج...
وروى هذا الانسان لولده أمثولةَ البحرِ، فلبِثَ متأمِّلاً يعبِّرُ عن أنّه وعى.
ولم يكن طويلاً، حتّى كان بنفسه رجفةَ رعشاتِ وخلجات، ورجعةَ أصداءِ الموج.
وشرع النّاس يروونَ، بعد ذلك، أمثولَة ابنِ الانسان.
وبقي في سمع التّاريخ وبصره ماثلاً حيّاً:
أنّ عليّاً بطلُ الحقِّ في السِّلمِ وفي الحرب، وهو الانسانُ الّذي استحال إلى طاقة
في وجود الحقِّ وكيانه.
بقي طابِعُ الانْسانِ الكامِلِ عليًّ، الّذي لا يحرِّكُهُ الحِقْدُ، ولا تميلُ به
النَّزغاتُ والنَّزوات، طابعاً لابنائِه، فقد قيل لابنِهِ محمَّد، دسّاً، توليداً
للموجدةِ:
لِمَ يدفَعُ بك أبوك في الحربِ ولا يدفَع بالحسن والحسين؟
لما كانت واقعة الغدير من الحقائق الثابتة التي لا تقبل الجدل فقد نظر إليه بعض رجال المسلمين نظره تخالف منعقد الاجماع.
ويقول في مقدّمة شرح وتحقيق (مقاتل الطالبيين) لابي الفرج الاصفهاني:
«ولا يعرف التاريخ أُسرة كأُسرة أبي طالب بلغت الغاية من شرف الارومة، وطيب
النَّجار، ضلَّ عنها حقها - إلى أن يقول - وقد أسرف خصوم هذه الاُسرة الطاهرة في
محاربتها، وأذاقوها ضروب النَّكال، وصبوا عليها صنوف العذاب، ولم يرقبوا فيها إلاًّ
ولا ذمة، ولم يرعوا لها حقّاً ولا حرمة، وأفرغوا بأسهم الشَّديد على النِّساء،
والاطفال، والرِّجال جميعاً في عنف لا يشوبه لين، وقسوة لا تمازجها رحمة ، حتّى غدت
مصائب أهل البيت مضرب الامثال في فظاعة النَّكال، وقدّ الافئدة، وتضرب الامثال
للمدى الذي يستطيع الانسان أن يبلغه من ذروة المجد فتعود الالسن تلهج بذكر عليٍّ،
وتمجِّد افضاله».
ليست القرابة، في ذاتها، فضيلة. ولا رابطة الدم، فضيلة. ولا في الاسلام نسب يرفع
وآخر يخفض إلا إذا اقترن بعمل مقبول أو بعمل مرذول، فيتقدم من يحق حقوق الله،
ويتوقى نواهيه، وان كان عبدا أسود أفطس، ويتخلف الثاني إلى آخر الصفوف وان كان ذا
حسب وسؤدد وجاه..
وإمرة المؤمنين أسمى وأرفع من أن يرتقي إليها امرؤ في سلم الصلات الاسرية التي
تجيئه عفوا بغير تقوى تطهر، وجهل يشكر، وعمل يثاب، ويبتغي بها صاحبها وجه ربه ونفع
الناس، وصالح أخراه قبل دنياه..
ومنزلة علي في الاسلام، وفي نفس رسوله الكريم، أمكن وأعظم من أن تقاس بمقياس القربى
لانها محصلة مزاياه، وخلاصة جهاده لاعلاء كلمة الله..
ونكاد نلم بعض إلمام بجانب من جوانب هذه الشخصية حين نستحضر في بالنا قوله:
«لا شرف أعلى من الاسلام، ولا عز أعز من التقوى، ولا معقل أحصن من الورع، ولا شفيع
أنجح من التوبة، ولا كنز أغنى من القناعة، ولا مال أذهب للفاقة من الرضا بالقوت..».
فهو أعجل الناس قربة إلى الله بتقواه، وحرصهم على مرضاته، أعبدهم عبادة، وأكثرهم
صلاة، وأشدهم على نفسه رياضة بالقيام والصيام، ولا نحسب أن عبادته إلا عبادة حر
يشكر لربه آلاءه، ويحمد نعماءه، لا عبادة خائف من عقوبة ، أو تاجر طامع في مثوبة
على نحو ما صنف لنا العباد والعبادات.
يقول في هذا التصنيف:
«إن قوما عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وإن قوماً عبدوا الله رهبة فتلك عبادة
العبيد، وإن قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الاحرار..».
ولا نحسب أيضاً أن صورة كلامية أجمل من هذه التي رسم بها حلاوة التقوى رسماً يفتن
بها النفوس فرحا، ويستطير القلوب شوقاً إلى تذوق طعمها الشهي الذي لا تدانيه كل
أطايب المحسوسات والمعنويات.
سئل علي بن الحسين، وهو غاية الغايات في العبادة، وزين من عبدوا الله وعاشوا على
تقواه:
«أين عبادتك من عبادة جدك؟».
فقال: «كعبادة جدي من عبادة رسول الله».
ولا غرو.. فالكمال الانساني لمحمد عليه الصلاة والسلام في كل سجية وخصلة لا يضاهيه
إلى أبد الابدين كمال..
وكم كان الامام يتهجد ويتنفل فيكثر، ويلازم الاوراد، ويستغرق في التسبيح حمدا وقربة
لله.. لان النوافل - تسبيحا كانت أو دعاء أو صلاة - هي خير ما يملا به المسلم وقت
فراغ وراحة، وأكرم على الله من أن يدع صاحبها ملهاة في يد إبليس يرمي به في نزعة شر
تلوث طهره، أو يجنح به إلى باطل يوبقه وينتقص حسناه لحساب سوءاه.
وكان يقول:
«ما كان الله ليفتح على عبد باب الشكر ويغلق عنه باب الزيادة، ولا ليفتح على عبد
باب الدعاء ويغلق عنه باب الاجابة، ولا ليفتح لعبد باب التوبة ويغلق عنه باب
المغفرة..».
وهل النافلة سوى شكر واستغفار؟
ولم يعرف امرؤ أزهد منه زهادة، ولا أقنع قناعة.. فهو سيد الزهاد، وأقنع القانعين.
يتحرى في معيشته الاشظف والاقشف..
ما ارتدى في حياته لباساً جديداً، ولا اقتنى ضيعة ولا ريعا، إلا شيئاً كان له بينبع
مما تصق به وحبسه، بل كان يلبس من الثياب الاغلظ المرقوع وينتعل نعلين من ليف.
وما شبع قط من طعام، فأكله أخشن مأكل، فإذا ائتدم فبملح أو خل، فإن ترقى عن ذلك
فبعض نبات الارض. فإن ارتفع فبقليل من لبن الابل.. أما اللحم فنادراً ما كان يذوقه.
وكان يقول - وقوله يصدق فعله - وإن لم تخل عبارته من دعابة ساخرة تخز الذين
يستكثرون من هذا الصنف من الاطعمة، أو يعلون عليه كمأكل أثير:
«لا تجعلوا بطونكم مقابر الحيوان».
ولم يكن أيضاً كالالى يدلون بما يفعلون إظهاراً لقدرتهم على التحكم في النفس،
وأخذها بما يحبون أن يشيع ذكره عنهم ولعا بالذكر أو رثاء الناس، بل كان يرى - كنص
ألفاظه - أن «أفضل الزهد إخفاء الزهد».
وكانت رياضته نفسه بهذا التقشف الشديد عن إيمان واقتناع. كانت حليفة كل سني عمره
الجافة واليانعة على السواء، وليست قرينة مرحلة بذاتها من مراحل حياته قل فيها
النشب ونضب المال، بل إنا لنجده أحرص على التزام هذه الرياضة عندما تملكت يمينه
سلطة الدولة، وغدا مقدوره، ومن حقه، أن يتحول إلى معيشة لا توصف بأنها أرفه وانما
بأنها ليست أشظف، ولا أدل على هذه من صور السلوك الذي يطالعنا به بعد أن آلت اليه
إمرة المؤمنين وأصبح صاحب الرأي الاول في توجيه سياسة المال توجيهه سياسة الحكم
والسلطان.
وإنما إقبال الدنيا عليه وإدبارها عنه سيان.. ما أتاه من عروضها كما ولى عنه ، وما
ولى كما أتاه، كلاهما لا يساوي مثل خردلة، لا يهفو منها إلى شيء، ولا يهتم منها
بشيء، ولا يثق منها في شيء، بل هو كما يقول: «أوثق بما في يد الله منه بما في يده»،
وهو غني عنها لانه على إغرائها عزيز، وبملكها مستهين، وعن نشبها راغب، وهو -
اعتزازاً بقدره - تحصن بمعقل القنوع والتأبي والزهد دون سطوة إغرائها، وزخرف عطائها
فلم يشغله عن وعيه بزيف دعوتها، وتفه أمرها، وهو ان شأنها على الله شاغل ولو كان
مجرد أمنية تراود الخيال.
فكأنما كان شعاره حكمته المعروفة:
«من كرمت عليه نفسه هانت عليه شهواته..».
وهو، إلى زهده، أكرم وأسخى من يحسبون في عداد الكرام الاسخياء ومن عرفهم الكرم
والسخاء، ولعله كان أسخى لانه كان أزهد، أو لعله كان أزهد لانه كان أسخى، فهو يخرج
مما يملك عن قنوع وزهادة كما يخرج منه عن سخاء وجود.
إنه لا يسخو فقط وماله كثر يفيض عن حاجته، بل يسخو وماله أيضاً قل، وأقل القل، يضيق
عن البذل، ولا يحمل الكل، وينوء بأغث ضرورات حياته حتى ليوشك ألا ينهض بأوده وأود
عياله.
وهل كانت الدنيا كلها تساوي - في حسابه - سوى قلامة ظفر أو قدر صفر لا يجدي عليه أن
يأخذ منها، ولا ينقصها أن ينفق؟ فلماذا اذن يضن وهو الذي ضرب للناس بفعله مثلاً
للبذل، ودعا الكرام إلى محاولة سلوك مسلكه، حين اليسر وحين العسر على السواء، وسعهم
اللحاق به على النهج أو لهثوا دون أن يقطعوا نفس شوطه؟
أثر أنه كان يعمل عند يهودي في المدينة، فلا يزال يكد ويكدح حتى تتشقق يداه، فإذا
فرغ من عمله، فإنه لا يلبث، في أغلب الاحايين، أن يتصدق بكل أجره كأنما كان يتعب
لغيره.
بل كأنما يسعى إلى الخصاصة، فما أكثر ما كان ينزل هانئ القلب راضيا، لمسكين، أو
يتيم، أو أسير، عن قوته وقوت عياله..
كان يصوم ويطوي، ويطوي معه أهله، ليؤثر بزادهم وزاده. دائما الحرمان طريقه، والجوع
رفيقه.
وكما كانت أريحيته تدفعه إلى الجود بالمال وإن هو أعوز وعانى الجوع، فقد كانت أيضاً
تدفعه إلى الكرم بالحلم وإن هو ضيع حقه وغص بالاذى والكنود.
إنها الاريحية التي تسخو بالماديات، وتسخو بالمعنويات، إنها عطاء ومنح وإنفاق، تهب
الدرهم واللقمة والكساء، كما هي حلم وصفو وعفو تهب الكرامة والامن والحرية.
فهو أقبل الناس لانابة منيب تائب، وأسرعهم لغفران زلة خاطئ مذنب. إن ناله من عدوه
ضرر، كان أعجل إليه بالعفو منه بالعقوبة، وبالصفح منه إلى رد الصاع. أثبت من أن
يخرجه من حلمه غضب على خصم جاحد، وأسمح بالتجاوز عن شنآن غريم حاقد، يصفح وهو
الموتور، ويعفو وهو القادر، ويغفر قربة إلى الله.
وكان يقول:
«إذا قدرت على عدوك، فاجعل العفو عنه شكراً للقدرة عليه..».
ويقول:
«العفو زكاة الظفر..».
وكم أدى من أمثال هذه الزكاة..
ملك عليه معاوية وعسكره في صفين شريعة الفرات، ومنعوه وجنده الماء، فلما سألهم أن
يشرب الجيشان على سواء، أبى طاغية الشام ورجاله ما أراد، وأجابوه عتوا وصلفا،
قائلين: «لا والله.. ولا شربة ماء حتى تموت ظمأ كما مات عثمان...»
فحمل عليهم، فأزالهم عنوة عن مراكزهم، وأجلاهم إلى الفلاة حيث الصدى والجفاف. عندئذ
قال له أصحابه: «... امنعهم الماء يا أمير المؤمنين، كما منعوك، ولا تسقهم منه
قطرة... واقتلهم بسيوف العطش...».
لكن أريحيته أبت أن يصغي لغضبهم وغضبه على أولئك القوم المارقين من طاعته الغالين
في عداوته. وقال: «لا أكافئهم بمثل فعلهم. أفسحوا لهم عن بعض الشريعة».
وخلى بينهم وبين الماء..
وأسر، يوم الجمل، عبد الله بن الزبير، وكان الناهض ظلما في حربه، الموغل غيا في
بغضه. ، المسرف إفكا في سبه. فلما جيء به إليه عفا عنه ورد عليه حريته.. وقال له:
«اذهب فلا أرينك..».
ولم يزد على ذلك..
وبمثل هذا عامل مروان بن الحكم، وطائفة غيره كثيرة من مناوئيه.
وبمثله عامل قبلهم الخارجين عليه من أهل البصرة، بعد أن أظفره الله بهم. فوهبهم
الامن والسلامة. لم يقتل منهم، ولم يغنم مالا، ولا سبى ذرية.
وكان، إلى هذه الاريحية الكريمة، لا يقرن صفحه بمن، ولا يتطلع من ورائه لشكر. وكيف
لا وصفحه تقدمة إلى الله وحده تترفع عن مثوبة العبيد؟
بل لم يكن ليغيب عن فطنته أن معظم من أظلهم حلمه ووهبهم الحياة والحرية لن يلبثوا
أن ينكصوا على الاعقاب فيقابلوه بالكفران دون الشكران، وبالجحود دون العرفان ما إن
تتاح لهم فرصة للتنكر وللتنمر. ومع ذلك فقد كان دائما يتوقى مدافعة الاساءة
بالاساءة، ومغلبة العيب بالعيب، متنزها عن تناول سير شانئيه بالقدح والتجريح. وتلك
لا ريب مكرمة تعز في الخلائق وتستعصي على أنفس البشر إلا من طهر الله قلبه من الغل،
وعصم لسانه وفمه عن نهش الجيف ، ولعق الاوحال.
أما مواهبه وقدراته فأعسر على الالمام والاحاطة. ألم تر كيف تدعيه كل فرقة وتتجاذبه
كل طائفة، وتتمسح فيه كل مدرسة فكرية تريد أن تفضل غيرها في ميادين الحكمة والعلم،
وتبز كل ما عداها من ذوات المذاهب والنظرات؟.. وهل ثمة بين العلماء من قد أوتي من
بسطة العلم ما يبلغه من العلوم الربانية والبشرية مثل مبلغ الامام؟ وإنه لهو الذي -
بعصارة ذهنه الملهم الخصيب - روى جذورها، ونمى دوحها، وقوى فروعها، وخضر ورقها،
ونضر زهرها، وأينع ثمرها، وأدنى قطوفها.
وكان ذا نظرة نفاذة، وروح نقية، وفكر عملاق. يتعمق ما انتهى إليه من معارف الذين
سبقوه، فلا يتقبلها على نفس وجهها، ولا يختزنها في واعيته كخرنة المال الا أن يعاير
وينقد، فيقر منها ما يقر، ويضيف إليها ما يضيف، أو يغير فيها ما يغير، ويتأمل آيات
الله في ملكوته، فينبهر ويعتبر ويفكر، ويشهد ظواهر الخلائق وخصائصها شهود متدبر
يسير ويخبر ويفسر، ويغوص في أغوار الانفس، مترحلا في خفاياها وهو يحل ويقدر ويبرر.
فكره المتوقد النفّاد أداته، وروحه الشفيفة الصافية هاديه. أحاد بمعارف الاولين،
وارتاد للاخرين، ممتثلاً في كل خطوة يخطوها على هذا النهج القويم أمر الله للانسان
أن ينهض العقل من سباته، ويدفعه إلى النظر والتفكير تلمسا للعلم حيثما يكون.
وكم عرف الامام، وكم تفرعت به المعرفه وانشعبت سبلا، فمشى منها في كل سبيل إلى
مداه، وكم ألم منها بقديم، واهتدى إلى جديد.
والذي أحاط به خبرا عالم من العلم فسيح فسيح، كشفه وراده، ظاهراً وباطنا، جهد ذهني
متقحم دؤوب. وعى جزئياته وكلياته وأشربها عقلاً المعيا لماحاً فلقد كان على عبقرية
ذهنية لا تتكرر، وكان عقله لا يمل النظر فيما انتقل إليه من تراث البشرية الفكري
عبر الاجيال في الروايات والاسفار، كما لا يكل من الطواف بمشاهد الكون ومرئياته، لا
يكتفي منها بحصيلة البصر، وإنما يمضي إلى ما وراء المنظور كشفا عن غوامض المبهم
وأسرار المستور. لم يتوان قط عن الترحل في البحث إلى أغواره، ولم يكف قط عن التعلم،
ولم يضق قط عن معلوم ثقفه أو استخرجه من مجهول. كل ما علمه وعاه، وكلما وعى استزاد،
وكلما تقاطرت عليه المعارف وجد فيضها لديه سعة في عقله المنهوم الصديان الذي كان
كأرض رمضاء لا يكاد يطفئ ظمأها وينقع غلتها كل ماء السماء.
وكيف يوصد العقل بابه في وجه العلم وإنه لات يأتيه بزاد جديد؟ في هذا يقول الامام:
«كل وعاء يضيق بما فيه إلا وعاء العلم فإنه يتسع». فما أحكم قولته، وأدق وصفه.
فالعلم الالهي، وهو أشرف العلوم لاتصاله بأشرف معلوم، إنما «اقتبس من كلامه، عنه
نقل، وإليه انتهى، وبه ابتدأ. فإن المعتزلة - الذين هم أهل التوحيد والعدل، وأرباب
النظر، ومنهم تعلم الناس هذا الفن - تلامذته وأصحابه لان كبيرهم واصل بن عطاء تلميذ
أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية، وأبو هاشم تلميذ أبيه، وأبوه تلميذه عليه
السلام، وعن المعتزلة أخذت الاشعرية. وأما الامامية والزيدية فأنتماؤهم إليه ظاهر».
وليس أحد تحدث عن عقيدة التوحيد فأفاض فيها إفاضته، ولا تناول صفات الله فأحسن
البيان عنها إحسانه، ولا عرض لقضائه وقدره فقربهما إلى العقول تقريبه، «فالله تعالى
واحد أحد، ليس كمثله شيء، قديم لم يزل ولا يزال... لا يوصف بما توصف به
المخلوقات... من قال فيه سبحانه بالتشبيه كان بمنزلة الكافر به، الجاهل
لحقيقته...».
فتوحيد الله، ينزه الاسلام الذات الالهية عن مخالطة الاحياز: زمانية ومكانية، وعن
المشاركة في الملك بالاجتزاء أو المشورة، وفي القدرة بالقول أو الفعل، وعن المقارنة
بالنظائر أو الاشباه ولو مقارنة تمثيل. فتنزيهه الله خالص كامل، وقاطع مانع، يجل عن
الوصف، ويعلو فوق تطاول العقول.
وقد صور على هذا التنزيه ببيان رأى، أمام كماله سبحانه، أن ينهى فيه عن وصف ذاته،
لقصور الافهام عن الاحاطة بحقيقته، وعجز الكلام عن رسم صفاته.
يقول:
«... كمال توحيده الاخلاص له. وكمال الاخلاص له نفي الصفات عنه، لشهادة كل صفة أنها
غير الموصوف، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة. فمن وصف الله فقد قرنه، ومن قرنه فقد
ثنّاه، ومن ثنّاه فقد جزّأه، ومن جزّأه فقد جهله ، ومن جهله فقد أشار إليه، ومن
أشار إليه فقد حدّه، ومن حدّه فقد عدّه...».
بحسه الجمالي المتميز، وذهنه الالمعي الثاقب، وإدراكه الروحي المشرق، قرأ القرآن
فأحسن ترتيله، وجمعه فاستظهر مافيه، وتدبره فبلغ أعماقه ووعى لباب معانيه.
وما تكشف للامام من كنوز «الالهيات» لم ينبثق له عفوا، بل كان النتيجة اللازمة
لتبصره في خلق الله، وتدارسه آيات كتابه، وتفهمه حكمه وأحكامه بروح شفيف ونفس وضاءة
وذهن محيط، فلا مشاحة في نقاء الجوهر، ورهافة الحس، وحدة الذكاء، ودقة النظر، وعمق
الوعي لديه وكلها الادوات القادرة على الدراسة والبحث والاستقصاء، والضامنة
لاستقامة التفكير وسلامة الاستقراء. ولا مشاحة أيضاً في أنه كان مهيأ لهذا الذي قدر
له وأداه بحكم ملازمته - منذ طفولته - رسول الله، ومعايشته مقدمات الرسالة، قبل
تنزل الوحي، والنبي عندئذ يخلو إلى نفسه، يتحنث ويتعبد بالغار وبداره، متأملا ما
يرى من جلائل الايات الكونية، وحركة الزمن، وقوانين العدم والوجود، وما إليها من
ظواهر وخوارق، تشهد بقدرة قاهرة أزلية ليست ككل القدرات، قدرة تحكم التقدير
والتدبير، وتكون لمن يتفكر فيها ابتغاء الاهتداء أقرب إلى الاستجلاء.
عايش على هذه الفترة من نشدان الحقيقة الواحدة، فإذا هو يعجب لمحمد، ثم يعجب به. ثم
يتابعه على نفس نهجه متابعة تلميذ لاستاذه، ومستهد لهاديه، حتى ليدرك، في سنه
الغضة، عن الموجد المدبر، مالم يدرك غيره من الناس أجمعين. وحتى لنسمعه يتحدث بما
هداه إليه حسه المرهف، وروحه الشفيف فيقول: «كنت أسمع الصوت وأبصر الضوء سنين سبعا»
ويقول: «لقد عبدت الله قبل أن يعبده أحد من هذه الامة سبع سنين»
وتلك هي المدة التي قضاها منذ كفله محمد حتى نزلت الرسالة، وأذن للنبي في الانذار
والتبليغ.
لهذا لاندهش إذ يصفه أبو الحسن البصري، فيقول: «كان ربانيّ هذه الامة»
ولا ندهش حين نعلم أنه على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان وحده
الحافظ للقرآن العارف به، المحيط بأسراره.
ثم لا ندهش ونحن نراه أول من اشتغل بجمعه.
اشتغل علي بحفظ كتاب الله اشتغال من يحرص الحرص كله على هذا النور الذي أنزله ربه
هدىً ورحمة للعالمين، أن تشرد منه عبارة، بل لفظة، بل اشارة. وعنى بجمعه عناية من
يخشى أن تتبعثر بعض آياته وسوره في الصدور على غير نسقها المقدور، فتختلط وتتداخل،
يتأخر منها ماهو أولى بالتقديم ويتقدم ماهو أولى بالتأخير. وأكب على الترسل في
قراءته ترسل ذي حس أدبي مرهف بلا نظير، تفتنه البلاغة، وتشغفه الفصاحة، ويولع ولوع
متشه سحر بيانه، يتطرق فيه من تذوق حلاوة المتعة العاطفية الشعورية من جمال عباراته
إلى التنعم بكمال المتعة الروحية العقلية من جلال معانيه.
فماذا عسى يتهيأ أجتناؤه للناس من ثمار هذا الاستيعاب؟
ما الذي يمكن أن يطالعهم به من له كالامام وضاءة النفس، ودقة الحس، وشمول النظرة،
وتفتح القريحة، وألمعية الفكر، ونقاوة الجنان؟
إنه ليخلو إلى القرآن خلوَّ خاشع متعبد، سجي الليل، أو هدأ السحر، أو أسفر الفجر،
أو علت ضحوة النهار فلا يكاد يشغله في خلوته هذه، التي يرجو بها وجه ربه شيء من
شواغل دنياه أن يرتل ويعيد، ويردد ويزيد، وجوارحه جميعها في ملاك بيانه العذب
الاسر، وأسلوبه السماوي الساحر.
وإنه ليقبل عليه إقبال متأمل متدبر، يأخذ بمجامع المدلولات في سياق العبارات وفي
مباني الكلمات وفيهن الجلي والخفي. والصريح والغيبي، فلا يفوته أن يحيط بظاهرها
وباطنها إحاطة شمول.. ويتبصر مختلف عظائم السور وجلائل الايات ومنهن آيات محكمات هن
أم الكتاب وأخر متشابهات، فلا يغيب عنه استجلاء ما بها من الحكم والاحكام.
وإنه ليجهر بتلاوته، تلاوة محب مشوق، فيتحرى صحة الضبط، وسلامة النطق، ودقة الاداء،
مستمتعا بعذوبة كلماته وفقراته مرنمة منغمة.
فإذا هو يجمع إلى إحكام الوصل والوقف، والمد والامالة، والاظهار والادغام، والتحريك
والتسكين، والتخفيف والتنوين ألواناً من الصور الصوتية التي توافق كل حرف وكلمة
وآية، وتطابق مغزاها، حتى لتوشك المعاني أن تتجسد أمام العيون والنواظر قبل أن تطرق
الاسماع إلى القلوب..
بحسه الجمالي المتميز، وذهنه الالمعي الثاقب، وإدراكه الروحي المشرق. قرأ القرآن
فأحسن ترتيله، وجمعه فاستظهر مافيه، وتدبره فبلغ أعماقه ووعى لباب معانيه.
وعنت له اللغة العربية كما لم تعنُ لغيره، لان صعبها، وذل غريبها، وتفتحت أبوابها،
فإذا هو مشرع الفصاحة وموردها، ومنشأ البلاغة ومولدها به ظهر مكنونها، وعنه أخذت
قوانينها.
فالمعلوم الثابت أنه هو الذي استولدها قواعدها، واستنبطها أسسها، وحدد لها جوامع
الاصول التي لابد أن تنهض عليها لتظل كحالها عند أهلها الاوائل، سليمة التركيب،
مبرأة من عيوب اللحن والخطأ، ومناقص التحريف والالتواء.
إنه صاحب «علم النحو» الذي حفظ بناء العربية قائما، ولولاه لمال، ولشابها من لكنة
الشعوب الغريبة التي دخلت الاسلام ما يغلب على نقاء جوهرها الاصيل، ولتبدلت لغة
أخرى غير لغة القرآن. ولاندثرت اندثار اللغات القديمة، وماتت كاللاتينية التي غدت
طللا دارسا بعد أن تبلبلت بها لهجات الاوروبيين.
ابتدع الامام هذا العلم. وأملى على أبي الاسود الدؤلي أصوله الجامعة، فقسم له
الكلام كله إلى اسم وفعل وحرف، وقسم الكلمة إلى معرفة ونكرة، وقسم وجوه الاعراب إلى
الرفع والنصب والجر والجزم، فكان هذا الذي ابتدعه أس السياج الواقي الذي درأ عن
العربية عوادي العجمة واللحن، وأبقى لها اللب والسمت، وضمن صحة الضبط واستقامة
اللسان.
ولم يكن بين أبنائها من هو مثله أدرى بها، وأعرف بأساليبها. فاق فيها كل ناطق
وكاتب. فإذا هو أخطب من خطب، وبه اقتدى أدباؤها في الكتابة. لا يباريه في فنونها
التعبيريه مبار حاكى وقلد أو جدد وابتكر. إذا خطب شدت الاسماع إلى طرف لسانه، وسكتت
الانفاس تصغي إليه، وإذا كتب فأقدر من بيّن أو أمر أو زجر ، وإذا جادل فأبرع من حاج
وقارع ودلل، وإذا حدث فأخبر من هدى ووعظ وذكر.
والحق أن ما عرف من إحاطته الشاملة بخصائص اللغة، وثورته الابداعية الطاغية في
أساليبها هو بديهية البديهيات. وبحسبنا - للتدليل على تفرده بالدقة في سبك العبارات
وبالاحكام في رسم صورها الجمالية، وبالقدرة الفائقة على تضمينها نظراته المعجزات،
وآرائه الخوارق في أعضل المسائل وأعصاها - أن نشير إلى ما انتقل إلينا من آثاره
الادبية والفكرية فيما حفظه الناس، وتداولوه، وترنموا به، من خطب مئين كان يوردها
ارتجالا عفو الخاطر، دون إعداد، وأن نومئ إلى ما حوته كتب الدارسين والعلماء
والمؤرخين من رسائله ومأثوراته وحكمه ووصاياه. وبعض هذه وتلك من كنوز قد جمعه لنا
الشريف الرضي في «نهج البلاغة» معالم وآيات على حضور بديهة، وتوقد ذهن، ونفح إلهام.
وهو صاحب السيف الذي كان الظفر دائما معلقا بطرف ذؤابته أينما جال وصال.
شجاع كما لم تكن قط شجاعة الشجعان، فارس كما لم تكن قط فروسية الفرسان. ما تحرف إلا
لقتال، ولا فر في موطن نزال، ولا ارتاع من كتيبة فضلا عن إنسان، ولا بارز إلا صرع
وجندل، ولا هاجم إلا أصمى وقتل. كرته لا ترتد ولا ترد. وضربته لا تحتاج إلى ضربة
ثانية. ومن كتبت لهم النجاة من أعدائه ومناجزيه في معاركه، وامتد بهم الاجل ظلوا
طوال عمرهم يفاخرون بشرف وقوفهم في الحرب في مقابلته.
بل كانت العرب - وإن أثخن فيها فأيتم منها من أيتم، وأيّم منها من أيّم - تتباهى
بسقوط صناديدها صرعى بحد سيفه.
قالت أخت عمرو بن عبد ود - فارس العرب الاول، وصريعه يوم الخندق - مباهيه وهي
ترثيه:
لو كان قاتل عمرو غير قاتله * * * بكيته أبدا ما دمت في الابد
لكن قاتله من لا يعاب به * * * من كان يدعن قديماً بيضه البلد[1]
وكان دائما سبّاقاً إلى الجهاد في سبيل الله، مشغوفاً في ميادينه بلقاء الاعداء،
يقبل ويقتحم حين يؤثر غيره من الابطال أن يتردد ويحجم، ويصبر على استعار القتال
حيثما يستعصي الصبر على كل جلد صبور، ويغالب الموت بالارتماء بين أنيابه فيهرع
الموت إلى الفرار. سيفه من سرعة دورانه في المعامع يبدو كغابة من سلاح، ويمينه
تباري الكتائب في حش رقاب الاعداء، حتى لكأنه جيش موفور العدد والعتاد. سقط على أرض
بدر الكبرى سبعون مشركا صرعى، قتل وحده منهم النصف، وقتل جند الاسلام كلهم يومئذ
النصف الاخر.
وطار ذكر بلائه في الحرب فملا الافاق قرونا عدة، حتى اتخذه الفرنج والروم رمزا
للتفوق الحربي الذي لا يضارع، فرسموا صوره في بيعهم ومعابدهم، حاملا سيفه، مشمرا
للقتال، مجسدا لبطولة الابطال وفروسية الفرسان.. وصوّره الترك والديلم على سيوفهم
تفاؤلا به، واستجلابا للنصر الذي كان حليفه في كل ميدان.
واقترنت شجاعته بهيبة وثقت له في الظفر، كانت تتزلزل لها القلوب في الصدور، وتدور
العيون في المحاجر، وتلتوي الاقدام.
والذين يزعمون أنه لم يكن صاحب سياسة ولا دهاء، إنما يرون السياسة على غير وجهها
الحقيقي، ويجردونها من مضمونها الاصيل. فليست أخذا بالغدر، ومقارفه للفجر، أو تكون
إذن نوعا من الخسة النفسية والخبث الرخيص الذي يتردى بإنسانية الانسان وكرامته إلى
الحضيض، ولا يستعصي انتهاجها على أي وغد خسيس.. قيل في دهاء معاوية ما قيل، فكان رد
علي على هذا الزعم المأفوك: «والله ما معاوية بأدهى مني. ولكنه يغدر ويفجر، وأنا
امرؤ لا أحب الغدر».
وإذا كانت الشجاعة قد اقترنت فيه بالهيبة فقد اجتمعت له إليهما قوة بدنية «قرهقلية»
كما يقال في الاساطير. فهو الذي خلع باب حصن ناعم وتترس به وبثقله تنوء العصبة أولو
الايد من الرجال. وهو الذي اقتلع الصخرة التي آدت اقتلاعها العشرات وتفجر من تحتها
الماء. وهو الذي أسعفته يقظته كما أسعفته قوته فمد إحدى يديه إلى فارس هم أن يقتله،
فخطفه بها من فوق جواده، وجلد به الارض جلدا شديداً حتى حطمه، وأحاله كتلة هامدة من
اللحم والدم وهشيم العظام.
ولا شك في أن شجاعته في حلبات الصراع الحربي - وسيفه بيمينه - إنما نبعت من جنان
ثابت، لا يهتز أمام الخطوب والقوارع وإن تراءى له خطر الموت كاشراً عن أنيابه يطل
عليه من وراء لقاء سافر أو تآمر متستر دارعاً كان في عدة الحرب أو صفر اليدين أعزل
من السلاح. وليس أبين على جسارته، وقوة قلبه وثبات جأشه من مبيته ليلة الهجرة في
فراش محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وإنه ليعلم تمام العلم أنه عندئذ أدنى إلى
ألاّ يسلم من أسياف أولئك الفتية الاجلاد الالى أعدتهم قريش للانقضاض على الراقد
وفي حسبانهم أنه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
وقلما اجتمعت براعة القتال إلى براعة السياسة في إنسان، ولكنه كان المحارب وكان
السياسي في آن، بل هو - بتعبيرنا المعاصر - «رجل الدولة» الذي يرسم خطة العمل في
الداخل وفي الخارج على صعيد أوليائه وصعيد أعدائه، فيحذق سياسة الناس كما يحذق
سياسة الامور، ويطوع كليهما لمقابلة كافة الاحتمالات في تطورات الاحداث وتغيرات
الظروف بالحكمة وسعة التفكير وحسن التقدير، ومرونة المداولة بين مختلف أساليب
المجابهة ليكبح شرة الازمات ثم يلقاها بأنجع الحلول.
والواقع أن الامام لم يدع سيرة عماله في الناس تمضي عفواً بغير معالم واضحة على
الطريق، أو حدود مرسومة تبين الجادة السواء للسلوك في كلا أمور الدنيا والدين.
وبحسب من شاء الرجوع إلى دلالة، أن يستعيد عهده للاشتر النخعي حين ولاه مصر، ليعرف
أي دستور وضع لسياسة الامور والناس، يدرك كل من يدرسه أنه وليد فكر سياسي عملاق عرف
كيف يضع خطة متكاملة تتناول كل أوجه النشاط الانساني في مختلف الجوانب الاجتماعية
والاقتصادية، عمادها المواطن الكريم الحر الذي لا يفضله غيره إلا بالعمل الجاد
المثمر الذي يتناسق الافراد في أدائه يدا واحدة، وفكراً واحداً، على طريق واحد في
هداية الدين.
ولقد نعجب حين نرى الامام، في عهده هذا، قد حدد المبادئ العامة للحكم التحديد
الواضح الذي ظلت المذاهب السياسية تصطرع وتتبارى للاهتداء إليها على مدى قرون
طويلة، وأخذ كل مذهب يدعى لنفسه بلوغه منها مالم يبلغه سواه.. وكفى أن أكد ضرورة
التئام أبناء الامة وحدة اجتماعية وسياسية، وثيقة العرى بغير تفرقة، وإنما في
مساواة كاملة بين كافة المواطنين وإن تباينت أوضاعهم الاجتماعية، واختلفوا رأيا
وعقيدة. فالناس - كما يسجل العهد -: «إما أخ في الدين أو نظير في الخلق»، والرعية:
«طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض، ولا غنى لبعضها عن بعض».
ومع ذلك فإن «العهد» يقرر أن القاعدة «الجماهيرية» العريضة التي تؤلف غالبية الشعب،
أحق بالرعاية ; لان العامة من الامة: «هم عماد الدين وجماع المسلمين، والعدة
للاعداء». ومن ثم فإنه يرتب لهم على الدولة واجبا قبلهم: أن تكفل لهم مستوى كريما
من المعيشة يحفظ عليهم شرف آدميتهم. «فلكل على الوالي حق يقدر ما يصلحه». ويوجب
عليها أيضاً رعاية «من لا حيلة لهم» من المساكين والمحتاجين والمتعطلين وذوي
العاهات والمرضى وأمثالهم، ففرض لهم قسما من بيت المال، وقسما من غلات صوافي
الاسلام.
ويطول المدى بمن يحاول تعقب ما حواه عهد علي للاشتر. فكفى أنه دستور لسياسة الحكم
جاء من المبادئ بكل ما يناسب مجتمع عصره، وبكل ما يبدو وكأنه وضع ليوافق مجتمعنا
الحديث. وكفى أنه يعرض لكافة المشكلات ويصف لها الحلول. وكفى أنه يطوف بكل ما يشغل
الناس في رحلات حياتهم اليومية ويتصل بجوانبها الروحية والعقلية من عقيدة وعلم
وتربية نفسية وسلوك اجتماعي ونظرات ، ويتصل بجوانبها المادية والاقتصادية من تجارة
وصناعة وزراعة وإدارة وجهاد وتنمية مالية في مختلف مجالات الاستثمار.
ولا غرو وللامام هذه المقدرة - بل الحاسة السياسية المرهفة التي تستبطن أدواء
المشكلات، وتجهز دواء لكل داء - أن نجده ملاذاً للالى عرفوه، يستلهمونه الرشاد. لا
فرق فيهم بين كبير وصغير، ولا بين حاكم ومحكوم. وكم استلهمه الخلفاء فألهم، وكم
استشاروه فأشار.
عزم عمر بن الخطاب على الشخوص بنفسه لقتال الفرس، ثم رأى أن يسأله رأيه في هذا
العزم، فقال له الامام: «... كن قطبا، واستدر الرحى بالعرب. فإنك إن شخصت من هذه
الارض، انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها حتى يكون ما تدع وراءك من العورات
أهم إليك مما بين يديك... إن الاعاجم إن ينظروا إليك غدا يقولوا: هذا أصل العرب
فإذا قطعتموه استرحتم، فيكون ذلك أشد لكلبهم عليك، وطمعهم فيك.».
وقال له مرة أخرى في مقام كهذا المقام: «إنك متى تسر إلى هذا العدو بشخصك فتنكب، لا
تكن للمسلمين كانفة دون أقصى بلادهم. فابعث إليهم رجلا محربا، واحفز معه أهل البلاء
والنصيحة، فإن أظهر الله فذاك ما تحب وإن تكن الاخرى كنت ردء الناس».
حاسة سياسية فوق القدرة، ترفعه من الساسة إلى مكان الصدارة، وتشرف به السياسة، لانه
ينزهها عن الغدر والفجر، ويطوع أساليبها لتوافق نهج الدين وتطابق مكارم الاخلاق.
فهل مثله في الفضائل والقدرات امرؤ من الناس؟
أن يكون ثمة طائفة يرون أن يفضلوا عليه هذا الصاحب من أصحاب رسول الله أو ذاك،
فرأيهم جديد بالمراجعة والتعديل ; ذلك لاننا نجد من وراء هؤلاء المتشيعين لابي بكر
متشيعين يقرون بأفضلية علي، ويظاهرهم على هذه الافضلية الكثرة الغالبة من العلماء
وإن تفرقت بهم المذاهب، وتباينت الاراء.
عبد الرحمن الشرقاوي:
وقال في مقدمة كتابه: علي إمام المتقين:
ليس هذا الكتاب بحثاً تاريخياً، ولا هو كتاب سيرة، ولا هو مفاضلة بين الصحابة رضي
الله عنهم.. ولا هو بدفاع عن حق أحد في الخلافة قبل الاخر.
فمن كان يلتمس في هذا الكتاب شيئاً من هذا فليعدل عنه إلى غيره..
ما أردت بهذا الكتاب إلا أن أصطنع شكلا فنيا أقرب إلى الفن القصصي أعتمد فيه على
حقائق التاريخ الثابتة، لاعرف مبادئ الاسلام وقيمه، من خلال تصوير فني للامام علي
((رضي الله عنه)).
ذلك أن الامام علياً تجسدت فيه أخلاق الاسلام، ومثله، فقد تعهده الرسول (صلى الله
عليه وآله وسلم) طفلاً، ورباه صبيا، وثقفه فتى، وقال عنه: أنا مدينة العلم وعلي
بابها.
ثم إن عليا قد كرم الله وجهه: فلم يسجد لغير الله تعالى، وما دخل قلبه منذ الطفولة
شيء غير الاسلام ثم كان هو المجاهد العظيم في سبيل الله، وما صارع أحدا إلا صرعه.
وقد علم الصحابة (رضي الله عنهم) مكانة علي (عليه السلام) عند الرسول (صلى الله
عليه وآله وسلم)وأنهم ومعهم المسلمون في كل مكان وزمان ليقولون في كل صلاة: اللهم
صل على محمد وعلى آل محمد.. وبارك على محمد وعلى آل محمد..
وبعد.. فأرجو أن أكون قد وفقت في رسم صورة مضيئة للاسلام، ولقدرته على مواجهة
مشكلات اعصر، من خلال تصويري للامام علي (عليه السلام) بطلا خارقاً، ومفكراً،
وحكما، وعالماً، وزاهداً، وإنساناً عظيماً.
ويا لهذا البطل المثالي الذي كان يواجه بنبالة الفروسية، وبعظمة الزهد وبسمو الفكر،
كل ما طالعته به الحياة الجديدة من أطماع، وجحود، ودسائس، وحيل، وأباطيل.
وأنا أدعو الله مخلصاً أن ينتفع القراء بهذا الكتاب. وفي سبيل الله ما كابدت فيه من
مشقة وجهد وكيد!!.. وفقنا الله إلى مافيه خير الاسلام والامة، والانسانية، والله
ولي التوفيق.
وقوله أيضاً:
وصدق رسول الله حين قال لعلي (عليه السلام): «أنت سيد في الدنيا، سيد في الاخرة. من
أحبك فقد أحبني، وحبيبك حبيب الله، ومن أبغضك فقد أبغضني، وبغيضك بغيض الله، وويل
لمن أبغضك من بعدي!».
وقبل أن يموت كان قد أوصى بربع أرضه التي في الحجاز لاصحاب الحاجات.
فقضى، ولم يخلِّف تراثاً غير الحكمة، والقدوة الحسنة، وما مات أحد من رعيته إلا
خلَّف من المال أكثر مما ترك الامام.
عاش يناضل دفاعاً عن الشريعة، والعدل، والحق، والمودة، والاخاء والسلام، والمساواة
بين الناس. فسلام عليه!
سلام عليه يوم قال فيه رسول الله عليه الصلاة والسلام: «رحم الله علياً اللهم أدر
الحق معه حيث دار».
ودار الحق معه حيث دار، وما عاداه في حياته وبعد موته الاّ البغاة، وفرسان الضلال،
وعبيد الشهوات، وأهل البدع والشح والاهواء.
سلام عليه يوم قال عنه الرسول عليه الصلاة والسلام: «من اتخذ عليا إماماً لدينه،
فقد استمسك بالعروة الوثقى».
وعبر أجيال متطاولة تعاورت فيها الاحداث والمآسي العظام، والهزائم التي تقصم الظهر
وتكسر القلب، والانتصارات التي تثير الكبرياء في النفس.. عبر تلك الازمان اتخذه
المتقون إماما.. فقد كان دعاؤه مع عباد الله الصالحين: «واجعلنا للمتقين إماما».
واتخذه المساكين إماماً.. واتخذه الفتيان والنساك والزهاد والعلماء والمجاهدون
والشجعان إماما. سلام عليه، عليه السلام.
قبض الشهيد الرائع البطولة، الاسطوريّ، المثالي، واستقر في ضمير الزمن، إنه كلما
نطق أحد باسم أمير المؤمنين فحسب فهو الامام علي بن أبي طالب أمير المؤمنين، على
الرغم من كثرة الخلفاء في كل عصور الاسلام، فكل خليفة بعد أبي بكر هو أمير
المؤمنين.. ذلك أن علياً اجتمع له من عناصر القدوة وشرفها، واجتمع فيه من مقومات
القيادة ونبالتها وشرفها ما لم يجتمع قط لحاكم.
وهكذا كان فريداً حقا عالماً وحاكما.
فسلام عليه يوم ولد، ويوم يموت، ويوم يبعث حيا.
وسلام عليه إذ توارى جسده في التراب، وبقيت كلماته منارات إشعاع ومنابع حكمة، ومثار
عزائم، وعدة للمتقين والمساكين، بعد كتاب الله والاحاديث النبوية الشريفة.
وسيظل القلب ينبض بما قال، وتشرق به النفس، ويزهو به العقل.
وقوله:
ولكن صوته العظيم اخترق الاماد والمسافات والقرون، لتضيء كلماته الرائعة ظلمات
النفوس، وتنير طريق الهداية للسالكين.
وقتل اللعين ابن ملجم، وحل الحسن بن علي محل أبيه.. وياله من أب للصالحين في عصره،
وفي كل العصور!
وهكذا، ووري التراب جسده النبيل.
جسد رجل لم تعرف الانسانية حاكماً ابتلي مثل ما ابتلي به من فتن، على الرغم من حرصه
على إسعاد الاخرين، وحماية العدل وإقامة الحق ودفع الباطل!
فإنَّ الامام علياً (عليه السلام) شأن جميع الانبياء الباصرين الذين يأتون الى بلد
ليس ببلدهم وإلى قوم ليسوا بقومهم، في زمن ليس بزمنهم، وإن علياً لمن عمالقة الفكر
والروح والبيان في كل زمان ومكان.
تصدى بولس سلامة للكتابة عن نفسه، فلنستمع إليه يحدثنا:
نشرت مجلة الاديب الغراء في خلال سنة 1947 إحدى قصائدي القديمة (حمدان البدوي) وكأن
طريقتي في سرد تلك القصة المنظومة لفتت الادباء، فتمنى عليّ فضيلة العلامة الشيخ
عبد الله العلايلي في العدد نفسه أن أنظم (أيام العرب) في ملحمة لافتقار الادب
العربي إلى الملاحم. وفي أعقاب خريف سنة 1947 اقترح عليَّ حضرة الامام الشريف، صاحب
السماحة السيد عبد الحسين شرف الدين نظم (يوم الغدير) فتزاحمت عليَّ الفِكَر وايقظت
كوامن الوجدان وتآلفت كما تتآلف المويجات على صفحات اليمّ، ثم تتكشف عن أمواج ترقض
على الشاطئ، فصحت عزيمتي على نظم ملحمة عنوانها (عيد الغدير).
إلى أن قال:
ورُبَّ معترض قال: ما بال هذا المسيحي يتصدى لملحمة إسلامية بحتة؟ أجل انني مسيحي
ولكن التاريخ مشاع للعالمين.
أجل إني مسيحي ينظر من افق رحب لا من كوة ضيقة، فيرى في غاندي الوثني قديساً، مسيحي
يرى (الخلق كلهم عيال الله) ويرى أن (لا فضل لعربي على عجمي إلاّ بالتقوى).
مسيحي ينحني أمام عظمة رجل يهتف باسمه مئات الملايين من الناس في مشارق الارض
ومغاربها خمساً كل يوم. رجل ليس في مواليد حواء أعظم منه شأناً، وأبعد أثراً، وأخلد
ذكراً. رجل أطلّ من غياهب الجاهلية فأطلت معه دنيا أظلها بلواء مجيد، كُتب عليه
بأحرف من نور: لا إله إلاّ الله! الله أكبر!
إن العروبة المستيقظة اليوم في صدور أبنائها، من المغرب الاقصى إلى آخر جزيرة
العرب، لاحوج ما تكون إلى التمثل بأبطالها الغابرين، وهم كثر، على أنه لم يجتمع
لواحد منهم ما اجتمع لعلي من البطولة والعلم والصلاح. ولم يقم في وجه الظالمين أشجع
من الحسين فقد عاش الاب للحق وجرّد سيفه للذياد عنه منذ يوم بدر، واستشهد الابن في
سبيل الحرية يوم كربلاء، ولا غرو فالاول ربيب محمد والثاني فلذة منه.
قد يقول قائل: ولمَ آثرت علياً دون سواه من اصحاب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)
بهذه الملحمة؟ ولا اجيب على هذا السؤال إلاّ بكلمات، فالملحمة كلها جواب عليه،
وسترى في سياقها بعض عظمة الرجل الذي يذكره المسلمون فيقولون: رضي الله عنه، وكرّم
وجهه، وعليه السلام) ويذكره النصارى في مجالسهم فيتمثلون بحكمه ويخشعون لتقواه،
ويتمثّل به الزهّاد في الصوامع فيزدادون زهداً وقنوتاً، وينظر إليه المفكر فيستضيء
بهذا القطب الوضاء، ويتطلع إليه الكاتب الالمعي فيأتم ببيانه، ويعتمده الفقيه
المدره فيسترشد باحكامه.
أما الخطيب فحسبه أن يقف على السفح، ويرفع الرأس الى هذا الطود لتنهلّ عليه الايات
من عَلِ، وينطلق لسانه بالكلام العربي المبين الذي رسّخ قواعده ابو الحسن، إذ دفعها
إلى أبي الاسود الدؤلي فقال: أنح هذا النحو. وكان علم النحو. ويقرأ الجبان سيرة علي
فتهدر في صدره النخوة وتستهويه البطولة، إذ لم تشهد الغبراء، ولم تظل السماء أشجع
من ابن أبي طالب، فعلى ذلك الساعد الاجدل اعتمد الاسلام يوم كان وليداً، فعليّ هو
بطل بدر وخيبر والخندق وحنين ووادي الرمل والطائف واليمن.
وهو المنتصر في صفين، ويوم الجمل، والنهروان، والدافع عن الرسول يوم أُحد، وقيدوم
السرايا ولواء المغازي.
وأعجب من بطولته الجسدية بطولته النفسية، فلم يُرَ أصبر منه على المكاره. إذ كانت
حياته موصولة الالام منذ فتح عينيه على النور في الكعبة حتى اغمضهما على الحق في
مسجد الكوفة.
وبعد فلم تسائلني بأبي الحسن؟ أو لم تقم في خال العصور فئات من الناس تؤلّه الرجل؟
ولا ريب إنها الضلالة الكبرى، ولكنها ضلالة تدلك على الحق إذ تدلك على مبلغ افتتان
الناس بهذه الشخصية العظمى.
ولم يستطع خصوم عليّ ان يأخذوا عليه مأخذاً فاتهموه بالتشدّد في احقاق الحق، أي
إنهم شكوا كثرة فضله فأرادوه دنيوياً يماري ويداري، وأراد نفسه روحانياً رفيعاً
يستميت في سبيل العدل، لا تأخذه في سبيل الله هوادة. وانما الغضبة للحق ثورة النفوس
القدسية، التي يؤلمها أن ترى عوجاً.
فيا أبا الحسن! ماذا أقول فيك؟ وقد قال الكتّاب في المتنبي: (إنه مالئ الدنيا وشاغل
الناس) وإن هو إلا شاعر له حفنة من الدرّ إزاء تلال من الحجارة. وما شخصيته حيال
عظمتك إلا مَدَرَة على النيل خجلى من عظمة الاهرام.
حقاً ان البيان ليسفّ، وإن شعري لحصاة في ساحلك يا أمير الكلام، ولكنها حصاة مخضوبة
بدم الحسين الغالي، فتقبل هذه الملحمة وانظر من رفارف الخلد إلى عاجز شرّف قلمه
بذكرك.
إن بطولات الامام علي ما اقتصرت يوماً على ميادين الحرب، فقد كان بطلاً في صفاء
بصيرته وطهارة وجدانه، وسحر بيانه، وعمق انسانيته وطررة إيمانه وسمو دعته ونصرته
للمحروم والمظلوم من الحارم والظالم وتعبده للحق اينما تجلى له الحق.
وقوله:
ما أظن أن التاريخ عرف رجلين ترافقا في طريق النور والخير والصلاح مثل ترافق محمد
بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي بن أبي طالب، فكأنهما منذ ولادتهما
كانا على موعد مع النور والخير والصلاح، وماهي قرابة الدم والرحم التي جمعت بينهما،
بل هي قرابة الروح وأين من قرابة الدماء والارحام والذي له العلم بما تضمره الضمائر
وتنطوي عليه النفوس وبما تسجله الدقائق في سجلات الوجود هو وحده يعلم ماذا دار بين
ذينك الرفيقين الحميمين العظيمين في خلواتهما، وفي غدواتهما وروحانهما من أحاديث
ومساجلات ومطارحات وهو وحده يعلم كيف أثر كلا الرفيقين في رفيقه وكيف تأثر به، ومما
لا شك فيه هو ان النور الذي أشرق في روح النبي الكريم لم يلبث ان أشرق في روح ابن
عمه العظيم، وذلك بفضل فطرته العظيمة وبصيرته النيرة وذهنه المتوقد ووجدانه المتوهج
وشوقه اللافح الى النور، حتى أكاد أجزم بأن الرسول لم يجد نفسه في أي يوم مكرها على
اللجوء الى الجدل أو الى الحجة والبرهان لاقناع ابن عمه ليصدق كلمة من كلماته أو
صواب نيه من نياته، بل اكاد أجزم كذلك بأن علياً كرم الله وجهه كان لفرط ما به من
رهافة الحس بالجمال ومن الشوق الى النور يبصر الجمال قبل ان يسفر الجمال عن وجهه،
ويلمح سناه قبل ان ينبلج النور لعينه، فكانه كان كمن يشهد بزوغ الشمس قبل ان تشرق
الشمس.
وانقضى أجل الرسول ورسالته ما تخطت بعد حدود الجزيرة العربية وهي ما نبتت في
الجزيرة لتنحصر فيها، فلم يكن بد من رجال يشدون أزرها ويمضون بها بعيداً عن نباتها
فكان (علي) أبرز الذين انبروا للذود عنها، والكفاح في سبيلها، وذلك بما اوتيه من
فهم لغاياتها ومن حماسة تأججه لنشرها في الناس، ومن بلاغة خارقة في التعبير عن
معانيها ومقاصدها، والكشف عن مكنوناتها، وأنا انما أتحدث عن بلاغة امام البلاغة لا
أجد ما أشبهها به غير ومضات البروق التي تمزق أكباد الظلمات، فتكشف لك في مثل رفة
جفن عوالم من السحر ما كانت لتخطر لك في بال.
ان الحكمة في أروع مظاهرها لتترقرق فيما وصلنا من بيان الامام ترقرق الماء الزلال
على الحصى، وان المروءة والشهامة والبطولة والتقوى وحب الخير والعدل لجميع الناس
لتطالعك في جميع أقواله وأفعاله، لقد كان من بعد النبي خير بنية أبنتها ارضنا
العربية حتى الان، وهو اليوم وغداً وبعد الغد قمة شاهقة بين القمم التي تشع من
اعاليها انوار الخير والصلاح والهداية للناس، فلتكن ذكراه حافزاً لنا لاقتفاء أثره
في طريق النور والخير والصلاح أعاد الله هذه الذكرى الكريمة عليكم وعلى العرب
والمسلمين اعواماً بعد اعوام وشملكم والعالم بنعمة الوئام والسلام.
وهذه مقدّمة له لكتاب «صوت العدالة الانسانية، علي وحقوق الانسان» لجورج جرداق.
لنا في حياة العظماء معين لا ينضب من الخبرة والعبرة والايمان والامل. فهم القمم
التي نتطلّع بشوق إليها ولهفة، والمنارات التي تكشّح الدياجير من أمام أرجلنا
وأبصارنا. وهم الذين يجدّدون ثقتنا بأنفسنا وبالحياة واهدافها البعيدة السعيدة.
ولولاهم لتولاّنا القنوط في كفاحنا مع المجهول، ولرفَعْنا الاعلام البيض من زمان
وقلنا للموت: نحن أسراك وعبيدك يا موت. فافعل بنا ما تَشاء.
إلاّ اننا ما استسلمنا يوماً للقنوط، ولن نستسلم. فالنصر لنا بشهادة الذين انتصروا
منّا. وابن ابي طالب منهم. وهم معنا في كل حين، وإن قامت بيننا وبينهم وهدات سحيقة
من الزمان والمكان. فلا الزمان بقادر ان يخنق اصواتهم في آذاننا، ولا المكان بماح
صورهم من أذهاننا.
وهذا الكتاب الذي بين يديك خير شاهد على ما أقول. فهو مكرّس لحياة عظيم من عظماء
البشرية، أنبتته أرض عربية، ولكنها ما استأثرت به. وفجّر ينابيع مواهبه الاسلام،
ولكنه ما كان للاسلام وحده. وإلاّ فكيف لحياهت الفذّة أن تلهب روح كاتب مسيحيّ في
لبنان[2]، وفي العام 1956، فيتصدّى لها بالدرس والتمحيص والتحليل، ويتغنّى تغني
الشاعر المتيّم بمفاتنها ومآثرها وبطولاتها؟
وبطولات الامام ما اقتصرت يوماً على ميادين الحرب. فقد كان بطلاً في صفاء بصيرته،
وطهارة وجدانه، وسحر بيانه، وعمق إنسانيته، وحرارة ايمانه، وسموّ دعته، ونصرته
للمحروم والمظلوم من الحارم والظالم وتعبُّده للحق أينما تجلّى له الحق. وهذه
البطولات، ومهما تقادم بها العهد، لا تزال مقلعاً غنياً نعود إليه اليوم وفي كل يوم
كلما اشتدّ بنا الوجد الى بناء حياة صالحة، فاضلة.
لست أريد أن استبق القارئ الى الكشف عن مواطن المتعة في هذا الكتاب. فهي كثيرة منها
بيانٌ مشرق يسمو هنا وهناك إلى سوامق من الصور الشعرية، المشبوبة العاطفة، الزاهية
اللون، العذبة الرنّة. ومنها اتّزان في التقدير والتفسير. ومنها محاولة جريئة في
نقل عليٍّ وآرائه السياسية والدينية والاجتماعية والاقتصادية الى مسرح الحياة التي
نحياها اليوم. وهي محاولة بارعة وموفّقة، ما فطن لها الذين كتبوا في الموضوع من
قبل. ناهيك باجتهادات جديدة في تفسير بعض الاحداث التي رافقت حياة الامام تفسيراً
يغاير النمط الذي درج عليه مؤرّخوه حتى اليوم.
إنه ليستحيل على أي مؤرخ أو كاتب، مهما بلغ من الفطنة والعبقرية، ان يأتيك حتى في
ألف صفحة بصورة كاملة لعظيم من عيار الامام عليّ، ولحقبة حافلة بالاحداث الجِسام
كالحقبة التي عاشها. فالذي فكّره وتأمّله، وقاله وعمله ذلك العملاق العربي بينه
وبين نفسه وربّه لممّا لم تسمعه اذن ولم تبصره عين. وهو اكثر بكثير ممّا عمله بيده
أو أذاعه بلسانه وقلمه. واذ ذاك فكل صورة نرسمها له هي صورة ناقصة لا محالة. وقصارى
ما نرجوه منها أن تنبض بالحياة.
إلاّ أن العبرة في كتاب من هذا النوع هي في تفحُّص ما اتصل بنا من أعمال عليّ
وأقواله. ثم في تفهُّمه تفهُّماً دقيقاً، عميقاً. ثم في عرضه عرضاً تبرز منه صورة
الرجل كما تخيله المؤلف وكما يشاؤك أن تتخيله.
ويقيني ان مؤلف هذا السفر النفيس، بما في قلمه من لباقة، وما في قلبه من حرارة، وما
في وجدانه من إنصاف، قد نجح الى حد بعيد في رسم صورة لابن أبي طالب لا تستطيع
امامها الا ان تشهد بأنها الصورة الحية لاعظم رجل عربي بعد النبي.
بسكنتا - لبنان (ميخائيل نعيمه)
وهذا مقتطف من كلمات المؤلف جورج جرداق «الرياح السافيات».
أَلاَ إنّه علي بن أبي طالب الذي تتمزّق بسيفه الظُّلمات، وتنقصُّ على عدوّه الرعود
القاصفات، وتذروهم الرياح السافيات، فإذا به هولٌ يدفع هولاً وفي عينيه دموعٌ
تحوّلت شراراً، وفي حناياه عطفٌ توقّد ناراً!
أَلاَ إنّه مخبأُ الفقير من الريح، وسترةُ الضعيف من السيل، وموئلُ العاجز من
الزوبعة المُهلكة، وصاحب الظلِّ في الظهيرة المحرقة، كالليل!
أَلاَ إنّه عليّ بن أبي طالب الذي سيقول فيه الدهر وفي سيفه مع القائلين:
لا سيف إلاّ ذو الفقار، ولا فتىً إلاّ علي!
وبعد زمن كان معاوية في ما يزيد عن ماية وعشرين ألف مقاتل من أهل الشام يقطع الارض
الى العراق. ونزلوا عند نهر الفرات في وادي صفّين على مقربة من الرقّة سبقاً الى
سهولة الارض وسَعَة المناخ. وصفّين واد تفصله عن شاطئ الفرات أرضٌ مستنقعة يكثر
فيها الشجر والعيون.
وقدم عليّ بجيشه من الكوفة مجتازاً بالمدائن والرقّة وقصْده تأديب معاوية الى آخره
حديثه في عرض واقعة صفين وحروبها.
إن الشعب الذي امكنه أن يعبر عن عبقريته منذ أربعة عشر قرناً برجل كعلي بن أبي طالب
(عليه السلام) ثم بمجموعة من الناس كبعض تلاميذه وانصاره يوم ذاك، هو شعب يستطيع
اليوم في عصر غزو الفضاء أن يمشي مع القافلة التي تسير وهي تنظر غداً إلى الامام.
قلَّة أولئك الرجال الذين هم على نسج عليٍّ بن أبي طالب (عليه السلام)، تنهد بهم
الحياة، موزَّعين على مفارق الاجيال كالمصابيح، تمتص حشاشاتها لتفنيها هدياً على
مسالك العابرين.
وهم، على قلَّتهم، كالاعمدة، تنفرج فيما بينها فسحات الهياكل، وترسو على كواهلها
أثقال المداميك، لتومض من فوق مشارفها قبب المنائر.
وإنَّهم في كل ذلك كالرَّواسي، تتقبل هوجَ الاعاصير وزمجرة السُّحب لتعكسها من
مصافيها على السّفوح خيرات رقيقة رفيقة عذبة المدافق.
هؤلاء هم في كل آن وزمان، في دنيا الانسان، أقطابه وروّاده.
إنَّهم في حقول البحث والتنقيب مرامي حدوده، وفي كل خط ضارب في مهمَّة الوجود أقاصي
مجالاته. وإنَهم له على كلِّ المفارق إشارات ترد سبله عن جوامحها، وفي كلِّ تيه
ضوابط تلملم عن الشطط شوارده. وهم له في دجية الليل قبلة من فجر، وفوق كلاحة
الرَّمس لملمة من عزاء.
من بين هؤلاء القلَّة يبرز وجه علي بن أبي طالب (عليه السلام) في هالة من رسالة،
وفي ظلٍّ من نبوَّة، فاضتا عليه انسجاماً واكتمالاً كما احتواهما لوناً وإطاراً.
أصحيح يا سيِّدي أنَّهم بدل أن يختلفوا إليك اختلفوا فيك؟!
فمنهم من فقدوك وما وجدوك.
ومنهم من وجدوك ثمَّ فقدوك.
إنَّه لعجب عجاب!!
أربعة عشر عموداً من أعمدة القرون، بساعاتها وأيّامها وسنيّها، ذابت كما تذوب حبَّة
الملح على كفِّ المحيط، ولما يذب بعد حرف من حروف اسمك الكبير.
فكيف لهؤلاء أن يفقدوك ولا يجدوك، أو يجدوك ثم يفقدوك؟! ويا لسخرية القدر! حتى
هؤلاء الذين وجدوك كيف تراهم حدَّدوك؟!
إنَّ الحرف الذي انزلق عن شفتيك لا يزال منذ أربعة عشر قرناً يأبى أن يتقلَّص في
زمان أو مكان، لانَّه يحمل عنك نور قيم الفكر واعتلاجات حقيقة الحياة.. وهي أبعد من
أن يحصرها إطار.
إنَّ الحرف، منطلقاً من بين شفتيك، أبى أن ينزل في نطاق، فكيف بك أنت إذ حدَّدوك
بشورى تُنحِّيك عن إمارة، أو بيعة تصلك بخلافة؟! وكيف تمكنوا من أن يحشروك بين
بداية ونهاية؟ فإذا قماطك قميص عثمان، وإذا لك على كفِّ ابن ملجم دثار الكفن.
وكيف وجدوا تلك المقاييس فأخذوا يتلهَّون بها عنك وراحوا يقيسونك بها؟ فإذا أنت ربع
القامة، لست بالطويل ولا بالقصير، عريض المنكبين تميل إلى سمنة ولست بالغليظ،
وعيناك على دعج، وعنقك كإبريق فضَّة لك ساعدان مفتولان ليس للسَّيف فقط، بل حتى
لاقتلاع المزاليج.
ثم كيف أقحموك بين المشاكل والاحداث فإذا بها تتلقفك كما تتلقف الحلبة مناجزة
المتصارعين؟
تبتدئ هكذا يوم الجمل بعرقبة عسكر وجندلة طلحة والزبير، وتنتهي بصفّين، حيث تتحوّل
المسرحية إلى مهزلة تختتم بمأساة.
أهكذا نقشت على حدودك تخوم وحوِّط كيانك بسوار؟.. وأنت أنت الوسيم ، ليس لدعج في
عينيك، بل للهب في بصيرتك. ولا لبهاء في طليعتك، بل لصفاء في سريرتك.. ولا لغيد في
عنقك، بل لجبروت في شيمك.
وأنت أنت البطل، صلب السَّيف والترس في كفيك، ليس لفتلة في زنديك أو لعرض في
منكبيك، بل لفيض رجح على أصغريك، ثم فاض على نهجيك.
وأنت أنت الناهج الاول، نسجت للدنيا قميصاً على غير النّول الذي حيك عليه قميص
عثمان. وصغت للدين حساماً كان من غير معدن سيف عشيق قطام.
وأنت أنت الذي ابتدأت الرَّكيزة وشهقت بها، تطل على الدُّنيا فوق حدودها وفوق
مداها، تحمل في يدك مصحف الرِّسالة، تلوح به على غير النمط الذي لوِّح به في صفين
مشعلاً يتجاوز وهجه سنام الجمل ومجرى الفرات، ليعبر من مكة والمدينة، ليس إلى نفوذ
الجزيرة وربعها الخالي وحسب، بل ليتجاوزها مع الشمس إلى حيث يبزغ الشروق، وإلى حيث
يرتطم الغروب.
لو أدرك الذين فقدوك، وحتى الذين وجدوك، أنّك العملاق ولو بقامة قصيرة وأنَّ وجهك
ولو من التراب هو من لون الشمس، لما وصفوك، ولما صدَّقوا حتى اليوم أنَّهم فقدوك.
وقوله:
إلى أين يستطيع أن يطوف بك الفكر وقد تخلَّيت عن كلِّ القيود التي كانت تشد بك عن
تلك المطاوف التي كانت تهتز تحت مقارع قبضتيك؟
وكيف أصبحت تنظر إليك الدنيا بعد أن نبذت إليها كلَّ ما كان لك منها كما ينبذ الليل
أمام الفجر آخر ذيل من ذيول عتماته؟
وكيف بدأت تنظر إليك ساحات الجهاد بعد أن تركت لها السيف الصقيل والرمح الاسيل؟
لعمري، إنَّ التاسع عشر من رمضان لم يكن اليوم الاوحد الذي فيه رزمت حقائبك وشددت
رحلك للسَّفر الطويل.
فلقد تهيّأت لاعتلاء المطيَّة البهيَّة منذ اليوم الاول الذي به تكحَّلت عيناك بذلك
الفيض الذي من غار حراء، دُفقت عليك غموره.
ومنذ ذلك اليوم والدنيا تطأطئ رأسها بين يديك، وتلقي بكلِّ جبروتها تحت نعليك.
ومنذ تلك اللحظة، أصبحت خطواتك تتجه نحو الاقاصي، لا تستوقفها الاعاصير، ولا تلهيها
رغوات الزبد؟
والدنيا التي قابلتها بخشونة كفِّك، وصدفت عنها بشمم أنفك، ورميت إليها بطيِّ كشحك
هي اليوم التي ترنو إليك، كأنَّها أدركت أنّك أنعم وشي لبرودها، وأنَّك أطرى سحابة
مرَّت تلطف النشفة في أجوائها. وأنَّك كنت أعقل معدَّل في صماماتها، تارة يطبق
عليها الشح فتسد به على اختناق، وطوراً يغور بها البطر فتحبل به على انفتاق.
وأنَّك كنت أجرأ من مدَّ إلى خدِّها المبرّج يداً فهتك عنه الازرار، ودخل خدرها
المنمَّق فمزَّق عنه السَّتار، فإذا بالوجه السافر تفضح الشمس مساحيقه، وبالخدر
المدلل المغطى بالسجف الوثيرة يتعرّى عن كلِّ مفاتنه الوبيئة.
وهكذا أخضعت الدُّمية الكبيرة، وسلختها من أغلفة الاوهام لتلبسها الثوب البسيط
المعفف، وسحقت عن أجفانها سقم المراود، وعرَّضتها للنور تستجمع منه مفاتن الكحل.
وإنَّ الدنيا هذه إذ تخسر تحت عينيك بريقها الوابق، تكتسب بين راحتيك وهجها
الدافق.. فإذا هي دروب آمنة الجوانب، يتمشّى عليها العابرون على اتزان.. يحدوهم
الشوق العفيف، والامل اللطيف، والمسعى النظيف.. في سبيل الوصول إلى غفوة قريرة، لم
تنغِّصها لا دلجة الطمع ولا لمز الجشع، ولم تهتكها تخاريب الفجور أو تجاويف الغرور،
ولم تؤرِّقها دبابيس المظالم. وليس الفقر فيها بمنء عن الفضائل، وليس الغنى منها
بمغن عن الشمائل.
وهكذا صنت حدود الدنيا إذ كشفت حدودها، وأسبغت عليها الكنوز من حيث بعثرت كنوزها.
لذلك، فإنَّها أصبحت ترجع إليك في كلِّ سانحة تشعر فيها بأنَّه قد غصّ بها الطريق،
وفي دستورك كان لها ذلك المرجع الوثيق.
ودستورك كان ذلك الالمام الفسيح بكل أُمور الحياة، مشاكلها ولواعجها. فلم تعالج
شأناً من شؤونها إلا سبرت منه الاغوار وسلَّطت عليه الانوار.
أخذت الرسالة، فإذا هي من نور ربِّك الكبير هداية ما فاتك منها قبس، جمعت إليها
حجاك، فشعَّ بها منك الحجى، وضممتها إلى قواك فإذا صدرك منها كظهر المجن فرحت تغرف
وتفرغ، دون أن يوهيك الغرف أو يوهنك التوزيع. كأنَّك اليم، ما ملّت من مدِّك
الشطآن. ولم تأخذ كبيرة إلا عالجتها بكبر، ولم تتناول صغيرة إلا أعرتها كلَّ
الفكر.. فكأنَّك كنت على البعد وعلى القرب كالنور، جوّاد البصيرة جوّاب النظر.
وتهافتت حول حياضك الفضائل مترابطة كما تترابط ببعضها البعض خطوط القوافل فإذا بها
مشدودة الرصف، منسَّقة القوالب، موزونة الايقاع، سلسة المدارج فكنت الجائد الجوّاد
من حيث كنت الزاهد الزهّاد.
وعجنت الدنيا بماء الزهد وخبزتها، فإذا موائد الجود تتفتَّح على حقيقة السخاء.. حتى
إذا تناولت الرغيف المقدَّد تأكله بحبَّة ملح، كانت لك فيه كل العوافي.. ورغيفك كان
كفافك، لانَّه كان من الزهد عجينه.. ولن تحسد غيرك على رغيف، لانَّه من جود زهدك
كان طحينة وزهدت بالدنيا، لانَّك لم تر لها ظلاًّ مقيماً ولا عزّاً مستديماً، ورأيت
أنَّ دروبها ليست غير معابر، ورأيت أنَّ الانسان فيها حثيثاً حثيثاً إلى الموت
سائر، وأنَّه إلى أحضان ربِّه صائر، ورأيت أنَّ الفضائل خير حلية تجمع الانسان في
دنياه، يسلكها بتقواه ويتركها بنجواه راحة في الحياة وبلغة للممات. ورأيت أنَّ
المثالب بنت المتاعب، تفسد المطالب، تحتضن الاحقاد، وتقضّ المضاجع.
ولن يكون للانسان فيها حقيقة مأرب، بل هي ملجأ العقل الواهي، ومسلك الطامع المغرور،
والجائع النَّهم... هدف صغير، وشأو حقير، لن تبني إنساناً يعي حقيقة الوجود، بل
تبقى له مصدر قلق في سباق أليم، ينهكه التَّزاحم، ويدهدهه التحايل والتراوغ. فمددت
باعك الطولي تفرض العفَّة في المسلك، والصِّدق في المنطق، والصَّراحة في الرأي،
والحق في الفصل، والعدل في التنفيذ.. فإذا بك تمد الخوان تغنيه الفضائل، وتزيِّنه
الشَّمائل، وتطيِّبه التقوى، ويشهيه الايمان.
وعجينك هو العجين المطهر، لم تمتد إليه يد البغي بأصبع وكان المأكل منه نعم
المأكل.. فيه الغذاء وفيه العزاء. فيه الرضوخ وفيه الرضا، فيه الحب وفيه السماح،
وفيه السعي على إباء. وفيه الفكر على نبالة. وفيه يقظة الوجدان، وفيه روعة الانسان.
هذا ما تركته للدنيا من حقيقة الدنيا.
فلا عجب أن تجوع الدنيا إلى صوانيك كلَّما غصَّت بموائدها، أو تتعطش إلى مساقيك
كلَّما غرقت في مناهلها.
والدنيا إنَّما سغبها في تخمتها، وإنَّما صداها بفيض غمرها.
أما إنَّ أطباقك كيف لا تتخم، ومشاربك كيف لا تغرق، فلانَّك الذوّاق، إذ قدمت فنَّ
المأكل وفنَّ المشرب.
وهكذا لا تزال الدنيا بأجيالها تغرف الطيب من أفاويهك، يا أيّها الوجه الكريم من
سنا ربِّك.
إن قضية الغدير لاشك في صحتها، إذ لا يمكن أن تبنى هذه الروايات المتوافرة والقصائد الطوال على شيء غير واقع، فالثابت أن موقف الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)في غدير خم مما يمكن الايمان بصحته واثباته بنصوص كثيرة تخرج من نطاق الحصر.
إنّ نهج البلاغة سواء أنظرت إليه من ناحية الشكل أو من ناحية المضمون وجدته من
الاثار التي تقل نظائرها في التراث الانساني على ضخامة هذا التراث.
فقد قيل في بيان صاحبه: إنه دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق.
بيان معجز البلاغة، تتحول الافكار فيه إلى أنغام، وتتحول الانغام فيه إلى أفكار،
ويلتقي عليه العقل والقلب، والعاطفة والفكرة، فإذا أنت من الفكرة أمام كائن حي،
متحرك، ينبض بالحياة، ويمور بالحركة.
وتلك هي آية الاعجاز في كل بيان.
ولم يكرّس هذا البيان المعجز لمديح سلطان، أو لاستجلاب نفع، أو لتعبير عن عاطفة
تافهة مما اعتاد التافهون من الناس أن يكرسوا له البيان.. إن البيان في نهج البلاغة
قد كرس لخدمة الانسان.
فلم يمجد الامام الاعظم في نهج البلاغة قوة الاقوياء، وإنما مجد نضال الضعفاء، ولم
يمجد غنى الاغنياء، وإنما أعلن حقوق الفقراء، ولم يمجد الظالمين العتاة ، وإنما مجد
الاتقياء والصلحاء.
إن الحرية والعبودية، والغنى والفقر، والعدل والظلم، والجهل والعلم، والحرب والسلم،
والنضال الازلي في سبيل عالم أفضل لانسان أفضل، هو مدار الحديث في نهج البلاغة.
فنهج البلاغة كتاب إنساني بكل ما لهذه الكلمة من مدلول، إنساني باحترامه للانسان
وللحياة الانسانية، وإنساني بما فيه من الاعتراف للانسان بحقوقه في عصر كان الفرد
الانساني فيه عند الحاكمين هباءة حقيرة لا قيمة لها ولا قدر، إنساني بما يثيره في
الانسان من حب الحياة والعمل لها في حدود تضمن لها سموها ونقاءها.
لهذا ولغيره كان نهج البلاغة، وسيبقى على الدهر أثراً من جملة ما يحتويه التراث
الانساني من الاثار القليلة التي تعشو إليها البصائر حين تكتنفها الظلمات.
وحق له أن يكون كذلك وهو عطاء إنسان كان كوناً من البطولات، ودنياً من الفضائل،
ومثلاً أعلى في كل ما يشرف الانسان.
وفي نهج البلاغة - الذي يمثل الاسلام في صفاته ونقائه كما فهمه الامام علي (عليه
السلام)وعاشه، وطبقه - في نهج البلاغة أجوبة مبدئية على كل الامور التي نعاني منها
وغيرها.
«نهج البلاغة»، إنه أثر إنساني خالد لا يحده مكان، ولا تنتهي الحاجة إليه في زمان،
لانه من الاثار الانسانية التي لم توضع لفريق دون فريق، ولم يراع فيها شعب دون شعب،
وإنما خوطب بها الانسان أنّى وجد وكان. ولانها تلامس كل قلب، وتضمد كل جرح، وتكفكف
كل دمعة، كانت ملكاً للناس أجمعين، وكانت خالدة عند الناس أجمعين.
أدب الامام عليّ (عليه السلام)
يمكن الذهاب إلى أنّ أجود نتاج أدبي عرفه التاريخ - فناً، وعمقاً، وفكراً - يتمثل
في ما كتبه الامام علي (عليه السلام). نسوق هذه الحقيقة وأمامنا وثيقتان تشهدان
بذلك أولاهما: نفس النتاج المأثور عنه (عليه السلام)، والاُخرى: وثيقة صادرة عن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)تؤكّد هذه الحقيقة. وإذا كان مؤرّخ الادب يمكنه من
خلال المتابعة الجاهدة لنتاج الامام علي (عليه السلام) أن يستخلص هذه الحقيقة، فإنّ
الملاحظ أو القارئ يمكنه أن يستخلص ذلك من الوثيقة التي قدّمها النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) في هذا الميدان، الوثيقة تقول: «أنا مدينة العلم وعلي بابها». هذا
النص التقويمي هو - إذ أخضعناه للغة الفن - «استعارة» ولكننا نعرف - كما ألمحنا إلى
ذلك - أنّ الفارق بين الادب التشريعي (القرآن الكريم، السنّة النبوية) والادب
العادي، أنّ الادب التشريعي حينما يلجأ إلى عنصر (الصورة: تشبيه، استعارة... الخ)
يختلف عن الادب العادي في أنّ التشبيه أو الاستعارة ترتكز إلى واقع وليس إلى تخيّل،
أو وَهم، أو مبالغة، فعندما يقرر القرآن الكريم: أنّ المنفِق في سبيل الله مثل
حَبّة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبّة، حينئذ لا مبالغة في الصورة ; نظراً
لكون الله تعالى مُنزَّهاً عن تقرير غير الحق، كذلك ما يقرره النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) - وهو معصوم من الخطأ - لا يبالغ في تقريره لحقيقة ما. فعندما يقول (صلى
الله عليه وآله وسلم): «من عَدّ غداً من أجله فقد أساء صحبة الموت». فإنّه لم يبالغ
في ذلك ما دام المرء يتعيّن عليه أن يحيا فكرة الموت وأن يعدّ له الزاد الذي يتناسب
مع هذه الحقيقة، وحينئذ فإنّ إحياء فكرة الموت هي: صحبة بالفعل، فإذا لم يعدّ الغد
من أجله فقد أساء هذه الصحبة، وحينئذ لا مبالغة في هذه الاستعارة، بل هي الحقيقة
ذاتها.
والان حين نتجه إلى الاستعارة القائلة (أنا مدينة العلم وعليّ بابها) نجد أنّ هذه
الاستعارة تجسّد الحقيقة دون مبالغة أيضاً، ما دام كلام النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) معصوماً من الباطل، وإذا كان من وظيفة مؤرّخ الادب أن يضع النصوص التي يدرسها
في نطاقها اتاريخي، حينئذ نجد أنّ الوثيقة النبوية القائلة: «أنا مدينة العلم وعلي
بابها» تشكّل خلفية «تاريخية» ينبغي أن نستند إلى محتوياتها عند دراستنا لادب
الامام علي (عليه السلام).
إنّ كونه (صلى الله عليه وآله وسلم) مدينة للعلم يعني: أنّ الله تعالى «ألهمه
المعرفة» التي لم يلهمها أحداً من البشر سواه حيث حصرها في مدينة تابعة له (صلى
الله عليه وآله وسلم)، وأمّا كون علي هو باب المدينة يعني: أنّ المعرفة التي ألهمها
الله للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يمكن أن يتعرف عليها أحد إلاّ من خلال علي
(عليه السلام) ; لانّه الباب الذي يُفضي إلى دخول المدينة وهذا - يعني أيضاً -: أنّ
علياً (عليه السلام) هو الذي يتكفّل ببيان ما ألهمه الله تعالى للنبي (صلى الله
عليه وآله وسلم): حيث أوصل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه المعرفة إلى علي
(عليه السلام) وجعله لساناً رسمياً يتكلّم نيابة عنه، مما يفسّر لنا واحداً من أهم
الاسباب التي جعلت النتاج الذي قدّمه علي (عليه السلام) ينطوي على طرح يجمله (صلى
الله عليه وآله وسلم) ويفصّله (عليه السلام)، أو يسكت عنه (صلى الله عليه وآله
وسلم) ويتركه لعلي (عليه السلام) بأن يضطلع بتقريره وتوصيله إلى الاخرين.
إذن: عندما نقول بأنّ أدب الامام عليّ (عليه السلام) يجسّد أفضل نتاج عرفه تاريخ
الادب، حينئذ لا نبالغ في تقرير هذه الحقيقة التي ينبغي لمؤرخ الادب أن يعيها كلّ
الوعي ; إذا كان مستهدفاً دراسة تاريخ الادب بلغة موضوعية تفرضها عليه وظيفته
العلمية. وفي ضوء هذه الحقيقة نتقدّم بعرض سريع لادب الامام عليّ (عليه السلام)بنحو
يتناسب وحجم هذه الدراسة.
وإنّ أهمية النتاج الذي قدّمه الامام علي (عليه السلام) تتمثل في المستويين: الفكري
والفني. أما الفني فيكفي أن يُطلَق على نتاجه - في المختارات التي انتخبها الشريف
الرضي - اسم نهج البلاغة أي النموذج أو المعايير أو القواعد أو الطرائق التي تجسّد
ماهو فني أو بلاغي من التعبير، وهذا يعني أنّ الامام (عليه السلام) قدّم النموذج
للفن وإن ما عداه من النتاج العام هو دونه أو تقليد له. وأما الفكري منه، فيكفي أن
نعود إلى وثيقة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لنعرف أنّه حصيلة ما أودعه (صلى
الله عليه وآله وسلم) من المعرفة لدى الامام (عليه السلام)، وهو أمر يمكن أن يلاحظه
مؤرّخ الادب حينما يجد أنّه حيال فكر متميّز يَسْتَبِقُ عصره ويتجاوزها إلى التخوم
التي لا يزال بعضها مجهولاً حتى في حياتنا المعاصرة. لقد تحدث الامام (عليه السلام)
عن المعرفة بنمطيها: المعرفة الانسانية والمعرفة البحتة، فتحدث عن نشأة الكون
وظواهره المختلفة من سماء وأرض وكواكب وملائكة وبشر وحيوان... الخ، وسائر ما يرتبط
بالمعرفة البحتة.
وتحدث عن النفس والتربية والاقتصاد والسياسة والتاريخ والاجتماع، وسائر ما يرتبط
بالمعرفة الانسانية. ومعلوم أنّ الحديث عن الظاهرة العلمية: إنسانية كانت أو بحتة
يتم عادة بلغة تقريرية، إلاّ أنّه (عليه السلام) كتبها بلغة فنية تتوسّل بالصوت
والصورة وسائر الادوات الجمالية في أرفع مستوياتها، مما جعل النتاج المأثور عنه
(عليه السلام) مطبوعاً بسمتي المعرفة والفن، ومن ثَم جعل هذا النتاج مطبوعاً بما هو
نموذجي متميّز بحيث يعكس آثاره على النتاج الذي تشهده العصور الادبيّة اللاحقة، حتى
أنّه لا يكاد خطيب أو كاتب أو مفكّر بنحو عام يتخلص من تأثير هذه الانعكاسات
الادبية والفكرية كما سنشير إلى ذلك في حينه. وأهمية هذا التأثير أو الانعكاس
تتمثّل في أن النتاج فكرياً لا طرح مماثل له في الميدان العلمي عصرئذ حيث إنّ
الازدهار العلمي بدأ بعد أكثر من مائة سنة من عصر الامام (عليه السلام)، كما أنّ
اللغة الفنية التي استخدمها (عليه السلام) كانت مكثّفة بشكل يحوِّلها إلى لغة
جمالية مَحضة تغرق في غابة من الصور التشبيهية والتمثيلية والاستعارية والرمزية
والاستدلالية والتضمينية... الخ، وتحتشد بإيقاعات هائلة تتناول كل مفردة ومركبة حتى
لا تكاد تجد من بين آلاف المفردات والتراكيب مفردة أو تركيباً خالياً من إيقاع
ملحوظ فضلاً عمّا يواكب ذلك كلّه من الادوات اللفظية والبنائية التي تحفل بما هو
مدهِش ومثير في مختلف مستوياتها. والمهم بعد ذلك أن نُصنِّف هذا النتاج إلى أشكال
متنوعة من التعبير الفني، يمكن درجها ضمن مايلي:
الخطبة، الرسالة، الخاطرة، المقالة، الدعاء، الزيارة، الحديث، المقابلة، المحاورة،
الملاحظة.
(1318 هـ - 1365 هـ)
في بدء الايجاد كنت... ! على لوح الوجود، بين آفاق النور، عندما أطل شعاع سناك
نوراً متألقاً، تومض بالشعاع، وتلظى بالابداع.
وكنت! في غاية السر ضميراً يتلالا بالالاء!
موغلاً في السمو والزهو، تتراءى بالينبوع في ضوء الشموع.
وكنت. إذ أغرق التكوين، عجين الطين، بماء التسنيم، بلفظ مبدع قديم ، على محيا
الاديم.
طيب السرى، في جباه الورى، في أصلاب طاهرات، وأرحام مطهرات، من الدنس نقيات، عن
الخبث ساميات.
وكنت إذ انفتق عنك النور، وانبثقت في الظهور، وجلاك باري النسم، في فناء الحرم عند
هيكل الصنم، ديمة الديم.
وكنت إذ نشأت كالفرقد، تغذي وتمهد، على أبهاء السؤدد، في كنف أحمد، عبقرياً يتوقد!
في الفراش الطهور، كالنجم في الظهور، فدية النور للنور. !
وكنت في مغازي النذير، أنت الامير، محور النفير.
أسمى بطل، رأى المهل، عند الجدل، يغني العلل، لدى الاجل.
وكنت على النهر نضو الغير، تري العبر، أشقى بشر.
وكنت على الصحراء بين الانواء، خلف الارزاء، تنفث الدماء، تصبغ الفضاء ، تبث في
الحفر شكوى القدر والبشر.
اختتم هذه الموسوعة الميمونة المباركة بما تيسر لي من جيد ما نظم وما نثر في حقّ
أمير الفصاحة والبلاغة أمير المؤمنين، وقائد الغر المحجلين علي بن أبي طالب صلوات
الله عليه، خلال خمسة عشر قرناً.
وفي هذا المقام لا يسعني إلاّ أن أشكر الذوات الافاضل الذين آزروني وساعدوني في
إخراجه، وتبويبه، ومراجعته حتى ظهر بهذه الحلّة القشيبة.
سائلاً المولى القدير أن يقبل مني هذا اليسير ويعفو عني الكثير فإنه سميع بصير.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله
الطاهرين.
تم ذلك في بلدة قم المقدسة، عش آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)العبد المنيب
الفاتح من محرم الحرام سنة 1418 هـ
حسين الشاكري
الهوامش
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] قال ابن منظور في لسان العرب : 7/127 ، بيضة البلد : علي بن أبي طالب (عليه
السلام) أي انه فردٌ ليس مثله في الشرف .
[2] يقصد جورج جرداق .