ولئن كان للسماء دورها الرئيس في التخطيط لهذه القضية والتبليغ لها والعمل على إبقائها حية وهّاجة مهما تقدم بها السن، فإنها لقاعدتها التي تبنتها وتعهدت بالنضال في سبيلها هدفاً وفكراً ومنهجاً ورصيداً وعملاً، ودوراً لا يغفل في إدامتها وترسيخها في الألباب والقلوب، إنها ظاهرة تناغم أخّاذ بين هذه القضية التي توقد بحرارتها النفوس فتطفق تعبّر عما يجول فيها من رؤى ومشاعر وبين هذه النفوس التي جنّدت لأداء وظيفتها إزاء هذه القضية كالزيت يحترق بالنار فيموّنها لتبقى شعلتها ملتهبة وملهبة ما دام له وجود. ويبرز الشعر من بين فعاليات هذه القاعدة بما له من قوة في صياغة الفكر وقدرة في التعبير عنها وفعل في التحريك لها ليحتل مساحة مرموقة ويملأ فراغاً لا يُملأ بغيره من ألوان التصوير والتعبير. وهكذا كان للقضية منذ البداية وعلى طول الخط جيش من الشعراء رفعوا راية الدم وعلقوا أوسمة الطف وبرزوا بعد ما تشبعت بأبعاد كربلاء أذهانهم وجاشت بالمأساة نفوسهم ليصوروا في قصائدهم ما نهلوه من معين قضيةٍ كان العطش معلماً من معالم المظلومية والمأساة فيها، فكان لتلك القصائد الأثر الكبير في الدفاع عن قضية كربلاء وفي إحيائها وفي تعظيمها. ومن هنا كان تأكيد الأئمة (صلوات الله عليهم) على هذا الحقل ودعمهم للدور الرسالي الذي يمكن أن يقوم به، فهذا ـ على سبيل المثال ـ أبو هارون المكفوف يقول: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): (يا أبا هارون أنشدني في الحسين (عليه السلام) فأنشدته فقال: أنشدني كما تنشدون ـ يعني بالرّقة ـ قال فأنشدته: أمرر على جدث الحسين فقــــل لأعــظمه الزكيّة قال: فبكى ثم قال زدني فنشدته القصيدة الأخرى قال: فبكى، فسمعت بكاءً من خلف الستر فلما فرغت قال: يا أبا هارون من أنشد في الحسين شعراً فبكى وأبكى عشرة كتبت لهم الجنة، ومن أنشد في الحسين شعراً فبكى وأبكى خمسة كتبت لهم الجنة، ومن أنشد في الحسين شعراً فبكى وأبكى واحداً كتبت لهما الجنة، ومن ذكر الحسين عنده فخرج من عينه من الدمع مقدار جناح ذبابة كان ثوابه على الله ولم يرض له بدون الجنة). ويروي الكميت بن زيد فيقول: دخلت على أبي جعفر (عليه السلام) فقال: والله يا كميت لو كان عندنا مال لأعطيناك منه ولكن لك ما قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لحسان: (لا يزال معك روح القدس ما ذببت عنا). ويطالعنا الإمام الرضا (صلوات الله وسلامه عليه) فيما ورد عنه في مقام تجليل شعراء أهل البيت (عليهم السلام) بقوله: (ما قال مؤمن فينا شعراً يمدحنا به إلا بنى الله تعالى له مدينة في الجنة أوسع من الدنيا سبع مرات يزوره فيها كل ملك مقرّب وكل نبيّ مرسل). نعم إنها رسالة الشعر حين ينطق ليحرّك الناس في خط الحق وليساهم في دحر الباطل وليؤدي دوره في مسيرة خلافة الله تعالى في أرضه. و(الدموع الناطقة) حلقة من هذه الحلقات المتواصلة ذرفها شاعر موهوب من شعراء أهل البيت (عليهم السلام) وأنجبته الكاظمية المقدسة وهو الشاعر جابر الكاظمي، ويمثل الدموع الناطقة ديوانه الشعري الذي يتميز به من إبداع في التصوير وجمال في التعبير وإخلاص في العمل ورسالية في الطرح وجلال في المادة قد ملأ فراغاً كان لابدّ أن يسد تراثنا الأدبي الشعبي، الأمر الذي يبعث على أن نشدّ على يديه ونحيي جهوده ونكرم أعماله وندعو الله تعالى له بالقبول والتسديد. |
---|