المنتخب للطريحي

 
 

الصفحة (11)

ولا يبرح الوفاد زوار قبره      يفوح عليهم مسكها وعبيرها

وممّا يحسن في هذا الباب , ذكرُ مَن قتله الرّشيد من أولاد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) , بعد قتله لموسى بن جعفر (عليه السّلام) بالسّم في ليلة واحدة , سوى مَن قُتل منهم في الليالي والأيّام :

روي عن عبد الله البزاز النّيسابوري , قال : كان بيني وبين حميد بن قحطبة الطّائي معاملة , فدخلت في بعض الأيّام فبلغه قدومي , فاستحضرني للوقت وعليّ ثياب السّفر لم أغيّرها , وذلك في شهر رمضان وقت صلاة الظّهر , فلمّا دخلت عليه , رأيته في بيت يجري فيه الماء , فسلّمت عليه وجلست , فأتى بطشت وإبريق فغسّل يده وأمرني فغسلت يدي , واُحضرت المائدة وذهب عنّي , فقلت : إنّي صائم وإنّي في شهر رمضان . ثمّ ذكرت فأمسكت يدي , فقال حميد : مالك لا تأكل ؟ فقلت : أيّها الأمير , هذا شهر رمضان ولست بمريض ولا بي علّة توجب الإفطار , وإنّي لصحيح البدن . ثمّ دمعت عيناه وبكى , فقلت له ـ بعدما فرغ من طعامه ـ : ما يبكيك أيّها الأمير ؟ فقال : أنفذ إليّ هارون الرّشيد وقت كونه بطوس في بعض الليل أن أجب الأمير ، فلمّا دخلت عليه , رأيت بين يديه خادماً واقفاً , فلمّا قمت بين يديه , أذِن لي بالانصراف , فلم ألبث في منزلي حتّى عاد إليّ الرّسول وقال : أجب الأمير . فقلت في نفسي : إنّا لله وإنّا إليه راجعون . وأخاف على نفسي أن يكون قد عزم على قتلي , وإنّه لمّا رآني , استحى منّي فعدت إلى بين يديه , فرفع رأسه وقال : كيف طاعتك لأمير المؤمنين ؟ قلت بالنّفس والمال والأهل والولد . فتبسّم ضاحكاً ، ثمّ قال : أذنت لك بالإنصراف . فلمّا دخلت منزلي , لم ألبث أن عاد إليّ الرّسول , فقال : أجب أمير المؤمنين . فحضرت بين يديه وهو على حاله , فرفع رأسه وقال : كيف طاعتك لأمير المؤمنين ؟ فقلت : بالنّفس والمال والأهل والولد والدّين . فضحك ثمّ قال : خُذ هذا السّيف , وامتثل ما يأمرك به هذا الخادم .

قال : فتناول الخادم السّيف وناولنيه , وجاء إلى بيت بابه مُغلق ففتحه , فإذا فيه بئر في وسطه , وثلاث بيوت أبوابها مُغلقة , ففتح باب بيت منها , فإذا فيه عشرون نفساً عليهم الشّعور والذّوائب , شيوخ وكهول وشبّان مقيّدون , فقال لي : إنّ أمير المؤمنين يأمرك بقتل هؤلاء . ـ وكانوا كلّهم علويين من ولد عليّ وفاطمة (عليهم السّلام) ـ فجعل يخرج إليّ واحداً بعد واحد


الصفحة (12)

فاضرب عُنقه , حتّى أتيت على آخرهم , فرمى بأجسامهم ورؤوسهم في البئر .

 ثمّ فتح باب آخر , فإذا فيه أيضاً عشرون نفساً من العلويين من ولد عليّ وفاطمة مقيّدون , فقال لي : إنّ أمير المؤمنين يأمرك بقتل هؤلاء . فجعل يخرج إليّ واحداً بعد واحد , فاضرب عُنقه ويرمي به في تلك البئر , حتّى اتيت على أخرهم .

 ثمّ فتح باب البيت الثّالث , فإذا فيه مثلهم عشرون نفساً من ولد عليّ وفاطمة مقيّدون , عليهم الشّعور والدّوائب , فقال لي : إنّ أمير المؤمنين يأمرك بقتل هؤلاء أيضاً . أتيت على تسعة عشر نفساً منهم , وبقي شيخ منهم عليه شعر , فقال لي : تبّاً لك يا ميشوم , أيّ عذر لك يوم القيامة إذا قدمت على جدّنا رسول الله , وقد قتلت من أولاده ستّين نفساً من ولد عليّ وفاطمة (عليها السّلام) ؟! ثمّ قال : فارتعشت يدي وارتعدت فرائصي , فنظر إليّ الخادم فزجرني , فاتيت على ذلك الشّيخ أيضاً فقتلته ورميت به في تلك البئر , فإذا كان فعلي هذا وقد قتلت ستّين نفساً من ولد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) , فما ينفعني صومي ولا صلاتي , وأنا لا أشكّ إنّي مُخلد في النّار . كذا في (عيون أخبار الرّضا) .

فيا إخواني , أيّ قلب يستر بعد قتلهم ؟! وأيّ فؤاد يفرح بعد فقدهم ؟! أم أيّة عين تحبس دمعها وتبخل بأنّهما لها ودفعها ؟! كيف وقد بكت لهم ؛ السّبع الشّداد والجبال والأوتاد , والأرض بأرجائها والأشجار بأغصانها , والحيتان في لجج البحار , ومَن في جميع الأمصار والأقطار , والملائكة المقرّبون وأهل السّماوات أجمعين , وكيف لا , وقد أصبح أهل البيت ؛ مطرّدين مشرّدين مذوّدين عن الدّيار , والأوطان والأهل والولدان .

فيا إخواني , اجتهدوا في النّياحة والعويل , وتساعدوا على إقامة هذا المصاب الجليل , والبسوا لباس الأحزان , وتخلّقوا بجلباب الأشجان , وخاطبوا السّلوة خطاب الهجر متمثّلين بقول مَن قال : أيا سلوة الأيّام موعدك الحشر .

فعلى الأطائب من أهل بيت الرّسول فليبك الباكون , وإيّاهم فليندب النّادبون , أو لا تكونون كبعض مادحيهم حيث عرته الأحزان والأشجان , فنظم وقال فيهم .

 

القصيدة للشيخ الخليعي (رحمه الله)

 

لـم أبـك ربعاً للأحبّة قد iiخلا      وعـفا وغـيره الجديد iiوامحلا
كـلا ولا كـلفت صحبي iiوقفة      في الدار إن لم أشف صباً عللا


الصفحة (13)

ومـطارح  الـنادي وغزلان iiالنقا      والـجزع لـم أحـفل بها iiمتغزلا
وبـواكر  الأضـعان أسـكب iiلها      دمـعاً ولا خـل نـأى iiوتـرحلا
لـكـن بـكيت لـفاطم iiولـمنعها      (فـدكاً) وقـد أتت الخؤون iiالأولا
إذ طـالبته بـإرثها فـروى iiلـها      خـبراً  يـنافي الـمحكم iiالمتنزلا
لـهفي لـها وجـفونها فرحى وقد      حـملت مـن الأحزان عبئاً iiمثقلا
وقـد  اعـتدت مـنفية iiوحـميها      مـتـطيراً  بـبـكائها iiمـتـثقلا
تـخفي تـفجعها وتخفض iiصوتها      وتـظل نـادبة أبـاها iiالـمرسلا
تـبكي عـلى تكدير دهر ما iiصفا      مـن  بـعده وقرير عيش ما iiحلا
لـم  أنـسها إذ أقـبلت في iiنسوة      مـن قـومها تروي مدامعها iiالملا
وتـنفست صـعداً ونـادت أيـها      الأنـصار يـا أهل الحماية والكلا
أخـذ الإله لك العهود على iiالورى      فـي  الذر لما أن يرى وبك iiابتلى
فـي يـوم قال لهم : ألست iiبربكم      وعـلي  مـولاكم معاً قالوا : iiبلى
قـسماً بوردي من حياض iiمعارفي      وبشربتي  العذب الرحيق iiالسلسلا
ومـن اسـتجارك من نبي iiمرسلا      ودعـى  بـحقك ضارعاً iiمتوسلا
لـو قـلت إنـك رب كل iiفضيلة      مـا كـنت فـيما قـلته iiمـتنحلا
أو بحت بالخطر الذي أعطاك رب      الـعرش  كـادوني وقالوا قد iiغلا
فـإليك  مـن تقصير عبدك iiعذره      فـكـثير مـا أبـكي أراه iiمـقللا
بـل كـيف يبلغ كنه وصفك iiقائل      وأبـيه فـي عـلياك أبـلغ مقولا
ونـفائس  الـقرآن فـيك iiتنزّلت      وبـك اغـتدى مـتحلياً iiمـتجملا
فـاستحلها بـكراً فـأنت iiمـليكها      وعـلى سواك تجل من أن iiيجتلى
ولـئن  بـقيت لأنـظمن iiقـلائداً      يـنسى تـرصعها الـنظام iiالأولا
شـهـد الإلــه بـأني iiمـتبرئ      مـن  حـبتر ومـن الدلام ونعثلا
وبـراءة الخلعي من عصب iiالخنا      تـبنى عـلى أن البرا أصل iiالولا

الباب الثّاني

 

أيّها الإخوان , الطّريق واضح والحقّ بيّن لائح , لا يضلّ عنه إلاّ مَن دان الله على قلبه , وطبع على عقله ولبّه .

علم النّبي فيما اُوحي إليه , أنّ أصحابه من بعده


الصفحة (14)

يبتزّون نحلة ابنته ويشجعون ببلغة ذرّيّته , قال : (( فاطمة بضعة منّي , مَن آذاها فقد آذاني )) . فلم يسمعوا , وقال : (( فاطمة يغضب الله لغضبها )) . فلم يرتدعوا ، ثمّ علم أنّ آله يُشرّدون عن الأوطان , ويُقتلون في كلّ مكان ، فقال ـ بعدما ورد في حقّهم من القُرآن ـ : (( مَن أحبّ أن ينسى له في أجله , وأن يُمتّعه الله بما خوّله الله ؟ فليخلفني في أهلي خلافة حسنة , فمَن لم يخلفني فيهم , بتر الله عمره , وورد عليّ يوم القيامة مسودّاً وجهه )) . فلم يرجعوا .

 فصبروا (عليهم السّلام) على مضض الأحزان , واحتسبوا ذلك في جنب الرّحمن , وكان القادر على هلاكهم ذو الجلال على استئصالهم في الحال دون المآل , إلاّ أنّ الحكم من الحكيم اقتضت تأخيرهم من العذاب الأليم ؛ رجاء أن يخرج من أصلابهم قوم , يعبدون الله ويسبّحونه ويهلّلونه ويقدّسونه .

 قيل : لمّا بلغ فاطمة (عليها السّلام) إصرار أبي بكر على منعها فدكاً والعوالي , قامت ولاثت خمارها واشتملت بإزارها , وأقبلت في لمّة من حفدتها ونسائها تطأ في أذيالها من شدّة الحياء , حتّى دخلت على أبي بكر وهو في مسجد أبيها وحوله جمع من المهاجرين والأنصار , فأمرت أن يُضرب بينها وبينهم ستر ، ثمّ إنّها أنّت أنّة أجهش القوم بالبكاء والنّحيب ؛ رحمة لها ، ثمّ أمهلت حتّى سكنوا من فورتهم , فقالت : (( يا معشر المُسلمين , كيف ابتزّ إرث أبي وأنتم الآن تزعمون إنّه إرث لي : أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ(1) ؟! . فكيف اُحرم ميراث أبي وأنت ( تعني أبا بكر ) ترث أباك : لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا(2) ؟! )) . فقال لها : ما أرّثك أبوك شيئاً , وإنّه قال : إنّ الأنبياء لا يورّثون شيئاً . فقالت : (( لهذا يُخالف ما أنزل في كتابه العزيز , حيث يقول : يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ(3) . ولم يجعل ذلك خاصّاً بالاُمّة دونه , وكيف تروي عن أبي (صلّى الله عليه وآله ) أنّه قال : نحن معاشر الأنبياء لا نورّث , وقد قال تعالى : وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ(4) . وقال تعالى عن زكريا , قَالَ رَبّ : فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ(5) ؟! )) .

فلمّا ألحّت عليه بالجدال , قال : هاتي أسود وأبيض يشهدا لك بذلك . فقام إليه رجل من المؤمنين وقال له : مَن شهد لعلي ببيعته يوم الغدير من ذلك , الجم الغفير حتّى يشهد لفاطمة بفدك والعوالي ؟ فجاءت اُمّ أيمن وشهدت لها بذلك , قال : هذه امرأة لا يُقبل قولها . مع أنّ جميع الصّحابة رووا أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله ) قال : (( إنّ اُمّ أيمن من أهل الجنّة )) . ثمّ جاء عليّ

ــــــــــــــــ

(1) سورة المائدة / 50 .  

(2) سورة مريم / 27 .

(3) سورة النّساء / 11.

(4) سورة النّمل / 16 .

(5) سورة مريم / 5 - 6 .


الصفحة (15)

(عليه السّلام) وشهد لها بذلك , فقال : هذا بعلك يجرّ النّفع إلى نفسه ولا نحكم بشهادته لك . مع أنّهم رووا جميعاً , إنّ رسول الله قال : (( عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ , يدور حيث ما دار , لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض )) .

قال : فعند ذلك غضبت فاطمة (عليها السّلام) وانصرفت , وحلفت أن لا تكلّمه وصاحبه , حتّى تلقى أباها وتشكو إليه ما نالها منهما .

 

وروي من كرامتها (عليها السّلام) وعظمتها عند الله.

لمّا مُنعت حقّها , اخذت بعضادتي حجرة رسول الله (صلّى الله عليه وآله ) , وقالت : (( ليست ناقة صالح عند الله بأعظم منّي )) . ثمّ رفعت جنب قناعها إلى السّماء وهمّت أن تدعو , فارتفعت جدران المسجد عن الأرض وتَدلّ العذاب , فجاء أمير المؤمنين (عليه السّلام) فمسك يدها الشّريفة وقال : (( يا بنت الصّفوة وبقيّة النّبوة وشمس الرّسالة ومعدن الرّحمة , إنّ أباك رحمة للعالمين , فلا تكوني عليهم نقمة , أقسمت عليك بالرّؤوف الرّحيم أن ترجعي )) . فعادت إلى مصلاها (عليها السّلام) , ولله درّ مَن قال :

دكدك القوم مسجدك      مـنعوا فاطماً iiفدك
فـعلى الـقوم لعنة      كـلما  حرك iiالفلك

فلمّا حضرتها الوفاة , أوصت إلى عليّ (عليه السّلام) أن يدفنها ليلاً ولم يدعُ أحداً منهم يصلّي عليها , مع أنّهم رووا جميعاً أنّ النّبي (ص) قال : (( فاطمة بضعة منّي , مَن آذاها فقد آذاني )) . كما تقدّم القول فيه .

ولو كان قول أبي بكر صحيحاً فيما رواه من : نحن معاشر الأنبياء لا نورّث . ما كان ترك البغلة والسّيف والعمامة عند عليّ (عليه السّلام) , وما كان حكم بها لعلي لمّا ادّعاها العبّاس , مع أنّ الأمر على خلاف ذلك .

وتفكّروا يا معاشر الإخوان , كيف أنّ المرأة لمّا حاربت عليّاً أطاعها على حربها عشرات الألوف , وساعدوها على الحرب , ولم يساعد أحد منهم سيّدة نساء العالمين لمّا طالبت بحقّها , وسمّوا المرأة اُمّ المؤمنين ولم يسمّوا مُحمّد بن أبي بكر خال المؤمنين ؛ حيث كان مُلازماً لعليّ (عليه السّلام) , وسمّوا أخته اُمّ المؤمنين , وسمّوا معاوية خال المؤمنين مع أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله ) قال : (( لعن الله معاوية الطّليق ابن الطّليق )) . وقال (( إذا رأيتم معاوية على منبري , فاقتلوه )) . وكان معاوية من المؤلّفة


الصفحة (16)

قلوبهم , وقد قاتل عليّاً , وعليّ عندهم إنّه رابع الخُلفاء , وهو إمام حقّ , وكلّ مَن حارب إماماً حقّاً فهو باغ وطاغ , وسمّوا معاوية كاتب الوحي ولم يكتب كلمة واحدة منه , وإنّما نُقل إنّه كان من كتّاب الرّسائل , والذين كانوا يكتبون الوحي أربع عشرة نفساً , أخصّهم وأقربهم عليّ ، وأمّا معاوية , فلم يزل مُشركاً مدّة كون النّبي مبعوثاً , وكان يُكذّب بالوحي ويستهزئ بالشّرع , وكان في بلاد اليمن يوم فتح مكّة , وكان يطعن على رسول الله (صلّى الله عليه وآله ) , وكان يكتب إلى أبيه صخر يعيّره بإسلامه , ويقول له : صبوت إلى دين مُحمّد بن عبد الله , بئس ما فعلت ! وكان يراسله بالشّعر قبل إسلامه وينهاه عن ذلك .

 وكان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قد فتح مكّة في شهر رمضان لثمان سنين من قدومه إلى المدينة , ومعاوية يومئذ مُقيم على شركه , هارب من النّبي إلى بلاد اليمن ؛ لأنّ النّبي كان قد هدر دمه فهرب على وجهه , فلمّا لم يجد له مأوى , صار إلى النّبي مضطرّاً وأظهر الإسلام , وكان إسلامه قبل وفاة النّبي بخمسة أشهر , وطرح نفسه على العبّاس عمّ رسول الله , فتشفّع فيه رسول الله فعفى عنه , ثمّ إنّ العبّاس تشفّع لمعاوية عند الرّسول (ص) أن يجعله من جُملة كتّاب الرّسائل , وكان النّبي (ع) لا يحب مُخالفة عمّه العبّاس , فأجابه إلى ذلك . 

 ولو سُلّم أنّه كان من كتّاب الوحي , فكم يستحق من الكتابة المُتداولة بين أربع عشرة نفساً حتّى استحقّ أن يوصف بذلك دون غيره ، كيف وقد حكى عبد الله بن عمر قال : أتيت النّبي وهو في مسجده , فسمعته يقول لجلسائه : (( الآن يطلع عليكم رجل يموت على غير سنّتي )) . فما استتم كلامه إذ طلع معاوية وجلس معناً في المسجد , فقام النّبي يخطب , فأخذ معاوية بيد ابنه يزيد وخرج ولم يسمع الخطبة , فلمّا رآه النّبي خارجاً مع ابنه , قال : (( لعن الله القايد والمقود )) .

ثمّ إنّ معاوية بعد وفاة الرّسول بالغ في محاربة الإمام عليّ , وقتل جمعاً كثيراً من خيار الصّحابة , وطال حربه معه حتّى هلك عالم كثير , ثمّ إنّه استمرّ مع قومه على سبّ عليّ ثمانين سنة , ولم يكفه ذلك حتّى سمّ الحسن الزّكي (عليه السّلام) .

 ولمّا هلك معاوية , تولّى من بعده ولده يزيد (لعنه الله) , فنهض إلى حرب الحُسين (عليه السّلام) , وجهّز له العساكر وجيّش له الجيوش , وأمّر عليهم عُبيد الله بن زياد , وأمرهم بقتل الحُسين (ع) وقتل رجاله وذبح أطفاله , وسبى عياله ونهب أمواله , ولم يقنعهم ذلك حتّى إنّهم بعد قتله رضّوا أضلاعه وصدره بحوافر الخيول , عادمي الرّأي والعقول ,


الصفحة (17)

وحملوا رؤوسهم على القنا وحريمهم على أقتاب الجمال في أشدّ العنا , مع أنّ مشايخهم رووا : إنّ يوم قُتل الحُسين قطرت السّماء دماً .

ونُقل عن الشّافعي في شرح الوجيز : أنّ هذه الحمرة إلتي ترى في السّماء , ظهرت يوم قُتل الحُسين ولم تُرى قبله أبداً . ونُقل عنه أيضاً : إنّه ما رُفع حجر في الدّنيا يوم قُتل الحُسين , إلاّ وجد تحته دم عبيط . ولقد مطرت السّماء يوم قتله دماً , حتّى بقي أثره على النّبات حتّى فني :

واخـجلتا  مـن أبيهم يوم يشهدهم      مـضرّجين نـشاو مـن دم iiقـان
يـقول  يـا اُمّة حف الضلال iiبها      واسـتبدلت لـلعمى كـفراً iiبإيمان
مـاذا جـنيت عـليكم إذ iiأتـيتكم      بـخير مـا جـاء من آي iiوفرقان
ألـم أجـركم وأنـتم في iiضلالتكم      عـلى  شـفا حفرة من حر iiنيران
قـتلتم  ولـدي صـبراً على iiظمأ      هذا وترجون عند الحوض إحسائي
قـتلتم  ولـدي صـبراً على iiظمأ      هذا وترجون عند الحوض إحسائي
سـبـيـتم ثـكـلتكم iiأمـهـاتكم      بـني  البتول وهم لحمي iiوجثماني
ومـاذا تجيبون والزهراء iiخصمكم      والـحاكم الله لـلمظلوم iiوالـجاني

عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله ) : (( تُحشر ابنتي فاطمة الزّهراء يوم القيامة ومعها ثياب مصبوغة بدم , فتعلّق بقائمة من قوائم العرش , فتقول : يا عدل يا جبّار , احكم بيني وبين قاتل ولدي )) . قال رسول الله (ص) : (( فيحكم لابنتي وربّ الكعبة )) .

وعنه (صلّى الله عليه وآله ) , أنّه قال لسلمان : (( يا سلمان , مَن أحبّ فاطمة ابنتي فهو في الجنّة معي , ومَن أبغضها فهو في النّار . يا سلمان , حُبّ فاطمة ينفع مئة موطن من المواطن , أيسر تلك المواطن ؛ الموت والقبر والميزان , والمحشر والسّراط والمُحاسبة , فمَن رضيت عنه ابنتي فاطمة رضيت عنه , ومَن رضيت عنه رضي الله عنه , ومَن غضبت عليه غضبت عليه , ومَن غضبت عليه غضب الله عليه . يا سلمان , ويل لمَن يظلمها ويظلم بعلها ! وويل لمن يظلم ذرّيّتها ! )) .

 وعنه (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال : (( أنا شجرة وفاطمة فرعها وعليّ لقاحها , والحسن والحُسين ثمرتها وشيعتنا ورقها , فالشّجرة أصلها في جنّة عدن , والأصل والفرع واللقاح , والورق والثّمر في الجنّة )) :

يـا حـبّذا دوحة في الخُلد iiنابتة      ما مثلها نبتت في الخُلد من شجر
المصطفى  أصلها والفرع iiفاطمة      ثـمّ الـلقاح عـليّ سـيّد البشر


الصفحة (18)

والـهاشميان  سـبطاه لـها iiثمر      والـشيعة الـورق الملتف iiبالثمر
إنـي بـحبهم أرجـو النجاة iiغداً      والفوز في زمرة من أفضل الزمر
هـذا مـقال رسـول الله جاء iiبه      أهل  الرواية في العالي من الخبر

فيا إخواني , كيف لا نبكي على اُمناء الرّحمن وسادات أهل الزّمان ؟ وكيف لا نُجدّد النّوح والأحزان في كُلّ آن ومكان , على الشّهيد العطشان النّائي عن الأهل والأوطان , المدفون بلا غسل ولا أكفان ؟

 فعلى الأطائب من أهل بيت الرّسول (ص) فليبك الباكون , وإيّاهم فليندب النّادبون , ولمثلهم تذرف الدّموع من العيون , أو لا تكون كبعض مادحيهم حيث عرته الأحزان , فنظم وقال فيهم .

 

القصيدة للشيخ مُحمّد , وكأنّه لابن حماد:

 

مـصاب شهيد الطف جسمي iiانحلا      وكـدر  من دهري وعيشي ما iiحلا
فـما هـلّ شهر العشر إلاّ iiتجددت      بـقلبي أحـزان تـوسد فـي البلا
واذكـر  مولاي الحُسين وما iiجرى      عليه  من الأرجاس في طفّ iiكربلا
فـو  الله لا أنـساه بـالطفّ iiقائلاً      لـعترته الـغر الـكرام ومـن تلا
ألا فانزلوا في هذه الأرض واعلموا      بـأني بـها أمـسي صريعاً iiمجدلا
وأسـقى بها كأس المنون على ظما      ويـصبح  جـسمي بالدماء iiمغسلا
ولـهفي لـه يـدغو الـلئام iiتأملوا      مـقالي  يـا شـر الأنـام iiوارذلا
ألـم تـعلموا إنـي ابن بنت محمّد      ووالـدي  الـكرار لـلدين iiكـملا
فـهل سـنّة غـيرتها أو iiشـريعة      وهـل  كـنت في دين الإله iiمبدلا
أأحـللت مـا قد حرّم الطهر iiأحمد      أحـرمت مـا قـد كان قبل iiمحللا
فـقالوا  لـه دع مـا تـقول iiفإننا      سنسقيك كأس الموت غصباً iiمعجلا
كـفعل  أبـيك المرتضى iiبشيوخنا      ونـشفي صدوراً من ضغاينكم iiملا
فـاثنى  إلـى نـحو النساء iiجواده      وأحـزانه مـنها الـفؤاد قد iiامتلى
ونـادى ألا أهـل بـيتي iiتصبروا      عـلى الضر بعدي والشدائد iiوالبلا
فـإني بـهذا الـيوم أرحـل iiعنكم      عـلى الرغم مني لا ملال ولا iiقلى
فـقوموا جميعاً أهل بيتي واسرعوا      أودعـكم  والـدمع في الخد iiمسبلا
فـصبراً  جـميلاً واتـقوا الله iiإنه      سـيجزيكم  خـير الجزاء iiوأفضلا
فـاثنى عـلى أهـل العناد iiمبادراً      يـحامي عن دين المهيمن ذي العلا


الصفحة (19)

وصـال عـليهم كـالهزبر مـجاهداً      كـفـعل أبـيه لـن يـذل iiويـخذلا
فـمال  عـليه الـقوم من كل iiجانب      فـألقوه عـن ظـهر الـجواد معجلا
وحـز  كـريم الـسبط يـا لك iiنكبة      بـها أصـبح الـدين الـقويم iiمعطلا
فـارتجت  الـسبع الـشداد وزلزلت      وناجت  عليه الجن والوحش في الفلا
وراح جـواد الـسبط نـحو iiنـسائه      يـنوح ويـنعي الـظامي iiالـمترملا
خـرجن بـنيات الـبتول iiحـواسراً      فـعاينّ مـهر السبط والسرج قد iiخلا
قـادمـين  بـاللطم الـخدود iiلـفقده      واسـكبن  دمـعاً حره ليس iiيصطلى
ولـم أنـس زيـنب تستغيث iiسكينة      أخي  كنت لي حصناً حصيناً iiوموئلا
أخـي  يـا قـتيل الأدعياء iiكسرتني      وأورثـتني  حـزناً مـقيماً iiمـطولا
أخـي  كنت أرجو أن أكون لك iiالفدا      فـقد خـبت فـيما كـنت فيه iiأؤملا
أخـي  ليتني أصبحت عميا ولا أرى      جـبينك والـوجه الـجميل iiمـرملا
وتـدعو إلـى الـزهراء بنت iiمحمّد      أيـا اُمّ ركـني قـد وهـى iiوتزلزلا
أيـا اُم قـد أمـسى حـبيبك بالعرى      طـريـحاً ذبـيحاً بـالدماء iiمـغسلا
أيـا  أم نـوحي فـالكريم على iiالقنا      يـلوح  كـالبدر الـمنير إذا iiانـجلا
ونوحي على النحر الخضيب واسكبي      دمـوعاً  عـلى الخد التريب المرملا
ونـوحي على السجاد في الأسر iiبعده      يـقاد إلـى الـرجس الـلعين iiمغللا
فـيا حـسرة مـا تـنقضي ومصيبة      إلـى أن نـرى المهدي بالنصر أقبلا
إمــام مـقيم الـدين بـعد iiخـفائه      إمـام  لـه رب الـسماوات iiفـضلا
أيـا  آل طـه يـا رجـائي iiوعدتي      وعـوني  ويـا أهل المفاخر iiوالعلى
يـميناً  بـأني مـا ذكـرت مصابكم      أيــا سـادتـي إلاّ أبـيت iiمـقلقلا
فـحـزني عـليكم كـل آن iiمـجدد      مـقيم إلـى أن أسـكن الترب والبلا
عـبـيدكم  الـعبد الـحقير iiمـحمّد      كـئيب وقـد أمـسى عـليكم iiمعولا
يـؤملكم يـا سـادتي تـشفعوا iiلـه      إذا مـا أتـى يـوم الـحساب ليسألا
فـو الله مـا أرجـو الـنجاة iiبغيركم      غـداً  يـوم آتـي خـائفاً iiمـتوجلا
إذا فـر مـني والـدي iiومـصاحبي      وعـاينت مـا قـدّمت في زمن iiخلا


الصفحة (20)

ومنوا على الحضار بالعفو في غد      لأن بـكم قـدري وقـدرهم iiعلا
عـليكم  سـلام الله يـا آل iiأحمد      سـلام  عـلى مرّ الزمان iiمطولا

الباب الثّالث

 

اعلموا أيّها الاُمّة , إنّ الأئمّة كثيرة جمّة , كلّما كتمها المبغضون نمت اشتهاراً , وكلّما سترها الحاسدون انكشفت إظهاراً , حتّى من الخصوم في مصنفاتهم وأخبارهم ورواياتهم , وفي ذلك تكمل الحجّة وتستتم عليهم المحجّة , ولله درّ مَن قال :

ومليحة شهدت لها ضرائها      والفضل ما شهدت به الضراء

روي من طريق الخصم ، عن البلخي يرويه متصلاً عن مشايخه , قال : كانت فاطمة عند رسول الله في شكاته التي قُبض فيها , فبكت حتى ارتفع صوتها , فرفع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) طرفه إليها فقال : (( حبيبتي فاطمة , ما الذي يبكيك ؟ )) . قالت : (( أخشى الضّيعة من بعدك )) . فقال : (( يا حبيبتي , أما علمت أنّ الله قد اطّلع إلى الدّنيا اطلاعة , فاختار منها أباك فبعثه برسالته , واطّلع إطلاعة اُخرى فاختار منها بعلك , وأوحى إليّ أن أزوّجك به . يا فاطمة , نحن أهل بيت قد أعطانا الله سبع خصال , لم يعطها لأحد قبلنا ولا يعطي لأحد بعدنا , أنا خاتم النّبيين وأكرم النّبيين على الله وأحبّ المخلوقين إليه , ووصيي خير الأوصياء وأحبّهم إلى الله تعالى وهو بعلك , وشهيدنا خير الشّهداء وأحبّهم إلى الله تعالى , وهو حمزة بن عبد المُطلب عمّ أبيك وبعلك ، ومنّا مَن له جناحان أخضران , يطير بهما في الجنّة مع الملائكة حيث يشاء , وهو ابن عمّ أبيك وأخو بعلك ، ومنّا سبطا هذه الاُمّة ؛ وهما ابناك الحسن والحُسين (عليهما السّلام) , وهما سيّدا شباب أهل الجنّة , وأبوهما والذي بعثني بالحقّ , خير منهما . يا فاطمة , والذي بعثني بالحقّ , إنّ منهما مهديّ هذه الاُمّة , إذا صارت الدُنيا هرجاً ومرجاً , وتظاهرت الفتن وتقطّعت السّبل , وأغار بعضهم على بعض , فلا كبير يرحم صغيراً , ولا صغير يوقر كبيراً , فيبعث الله عند ذلك , مَن يفتح حصون الضّلالة , ويقوم بالدّين في آخر الزّمان ما قمت به أوّل الزّمان , ويملأ الأرض عدلاً كما مُلئت جوراً ، لا تحزني ولا تبكي فإنّ الله أرحم بك وأرأف عليك ؛ لمكانك منّي وموقعك من قلبي , وزوّجك

 
الصفحة السابقةالفهرسالصفحة اللاحقة

 

طباعة الصفحةأعلى