المنتخب للطريحي

 
 

الصفحة (185)

ما شجاني النوى فاستوقف iiالحادي      ولا  أحـبـس الـركـاب قـليلا
بل شجاني ناعي الحُسين iiفأجريت      دمـوعـاً لـمّا شـجاني iiهـمولا
كـيف  لا أنـدب الغريب iiالوحيد      الـمـستظام  الـمشرد iiالـمقتولا
كيف لا أساعد البتول على iiالحزن      وقــد بــات قـلـبها مـبتولا
يـوم ذاقـت مـر الـمذاق iiوكان      الـسـبط فـي حـجره مـحمولا
والـنبي الـهادي بـه قرح iiيحنو      عـلـيـه  ويـكـثر iiالـتـقبيلا
فـأتـاه الأمـين جـبريل iiيـنعاه      بــه فـاغتدى يـطيل iiالـعويلا
فـأتـت فـاطـم إلـيه iiوقـالت      قـد تـبينت مـنك أمـراً iiمهمولا
سـيدي مـا الـذي دهـاك iiولـم      تعرض ما دمت بي رحيماً iiوصولا
قـال  إنّـي أأبى لقلبك أن iiيصبح      يــومـاً لـلـنائبات iiهـمـولا
إن  هـذا الحُسين يضحي iiبأرض      الـطف مـن بـعدنا طريحاً iiقتيلا
بـعد  أن يـطلب الـنصير iiفـلا      يـنـظر إلاّ مـحـارباً iiوخـذولا
والـعزيزات  مـن بناتك iiيشهرن      حـزوناً بـين الـورى iiوسـهولا
فـدعت عـند قـوله وا iiغـريباه      وواعـظـم  ذاك خـطباً iiجـليلا
مـن تـرى يلحد الغريب ومن iiذا      يـتـولى الـتـكفين iiوالـتغسيلا
مـن ترى يعمل العزاء ومن iiيبكي      عـليه ومـن يـراعي iiالـرسولا
فـبكى  المُصطفى فأوحى إليه iiالله      قــل  لـلـبتول قـولاً iiجـميلا
سـوف  أنشئ قوماً كراماً iiيقيمون      عـزاء  الـحُسين جـيلاً iiفـجيلا
وأجـازيهم عـلى الـود لـلقربى      وأعـطـيهم الـعـطاء الـجزيلا
فـتولت  تـثني على الشيعة iiالغر      وتـدعـو  دعـاءهـا iiالـمقبولا
فـإذا كـان قـلبها مـن كلام قبل      لاقــى أســى وداء iiدخـيـلا
كيف لو أبصرته ملقى على iiالترب      تـجيل  الـعدى عـليه iiالـخيولا
والـسبايا مـن حـوله iiيتصارخن      وقـد  نـالت الـجيوب iiالـذيولا
والـيتامى كـل تخفي من iiالخوف      وتـدمـي بـاللطم خـداً iiأسـيلا
وبدور السما صرعى على الأرض      تـلاقـي عـنـد الـتمام iiأفـولا
وقـدود  الـغصون مـن بعد ذاك      الـلين فـوق الثرى تعاني iiالذبولا


الصفحة (186)

والإمـام السجاد في الأسر iiموثوقاً      بـنفسي أفـدي الأسـير iiالـعليلا
إذ  رأت زيـنب تـمرغ iiخـديها      عـلـيه وتـسـتغيث iiالـجـليلا
وتـنادي  وا فـجعتي وا شـقائي      يـا لـها حـسرة وحـزناً iiطويلا
لـيتني  كـنت فدته لك من iiكرب      الـمـنايا وكــان ذاك iiقـلـيلا
يـا  أخـي ما ترى سكينة iiخوف      الـسبي  تـومي إليك طرفاً iiكليلا
يـا  أخـي هـل لفاطم من iiكفيل      حـيث  قـد أعوز الزمان iiالكفيلا
يـا  أخـي مـا تـرى علياً iiبذل      وبـرغم يـضحى الـعزيز iiذليلا
لـو رأت صـفوة النساء iiكريمات      حـسين عـلى الـمسير عـجولا
مـتعبات  يعثرن في بهرج iiالسير      وحـادي  الـسرى يـجد الرحيلا
أو رأت رأسه على الرمح مشهوراً      إلــى  أرذل الـورى iiمـحمولا
لـرأت  ما يسؤها من جوى الثكل      وأمـسـى لـها الـعراء iiنـزيلا
وروى  الـحميري وهـو iiصدوق      قـال عـاينت فـي المنام iiالبتولا
مـع  لفيف من الملائكة قد iiزارت      ضـريح الـحُسين عـبرى ثكولا
ثـم قـالت ووابل الدمع لا iiيطفي      لـهـيـباً  ولا يـبـل iiغـلـيلا
لــم  تـقلبه يـوم أردي iiكـف      غـيـر  كـفي نـجيه iiجـبريلا
يـا بـني أحـمد ذكـرتم iiفـرعاً      عـطرات الـحنا وطـبتم iiأصولا
وشـرعتم مـحجة الـرشد iiللناس      ولـولاكـم لـضـلوا iiالـسـبيلا
شـهد  الله جـاهداً فـي iiيـميني      وكـفـى  الله شـاهـداً ووكـيلا
مـا  أراقـت أرجـاس حرب iiدم      الـسبط وأغرت به الطغاة iiالنغولا
واسـتطالوا إلاّ بـمن جحد iiالنص      وفــي  حـكمه غـداً iiمـستقيلاً
وبـيـوم الـتناد فـهو iiالـمنادي      لـيتني  لـم اتـخذ فـلاناً iiخليلا
فـإلـيكم جـواهـر مـن iiولـي      عـارف  يـتبع الـمقال iiالـدليلا
لازم  مـا أمـرتموه مـن iiالتقوى      مـقيم عـلى الـولاء لـن iiيحولا
تـعـس  الـقائلون أن الـخليعي      بـغـى بـالـهداة يـوماً iiبـديلا
حـاش  لـله لـيس يـدعي لبيباً      مـن يـاسوي بالفاضل iiالمفضولا


الصفحة (187)

 

الباب الثّالث

 

قابلوا رحمكم الله نعمة الموالاة بالشّكر والحمد ، وابذلوا في ذلك أوسع الطّاقة والجهد ، وأحسنوا إلى الذّريعة النّبوية , وأطيعوا الله فيما أمركم بحقّهم من الوصيّة ، وتمسّكوا بحبلهم المتين , واجعلوهم جنناً واقية من العذاب المهين ، ولا شيء لعمري , أدعى إلى حصول الثّواب العظيم وإزالة العقاب الأليم ، وأقرب إليهم صلوات الله عليهم من إظهار شعائر الأحزان وإجراء الدّمع الهتان ، على ما أصابهم في ذلك الزّمان ، فكم لهم رأس على سنان وبدن بلا رأس بين الأبدان ؟ فيا لها من رزية ما أجل خطبها بين الأنام ، ومن مصيبة ما أعظمها في الإسلام .

روي عن بعض الثُقاة : أنّ يزيد (لعنه الله تعالى) دعا برأس الحُسين (عليه السّلام) وكان بيده قضيب خيزران , فجعل ينكث ثناياه ويفرق بين شفتيه وجلساؤه ينظرون إليه ، فقال زيد بن أرقم (رض) : يا يزيد , ارفع قضيبك عن شفتي حبيب الله , فو الله , لقد رأيت رسول الله يقبّلهما مراراً كثيرة , ويقول له ولأخيه الحسن : (( اللّهمّ إنّ هذين وديعتي عند المُسلمين )) . وأنت يا يزيد مثل هذا تفعل بودائع رسول الله ؟! . ثمّ إنّ يزيد جعل يبكي وينوح ، وفي هذا المعنى قال الشّاعر :

كـان  الـنّبي يـحب يـلثم iiثغره      قـعد  الـلعين يـدق أكـرم iiملثم
وغـدا  يـعفر خـده فوق iiالثرى      ظـلماً وضـرج عـارضيه iiبالدم
قـتل  الـحُسين فيا سماء iiتفطري      حـزناً ويـا دار الـسرور تهدمي
يا أعين السحب اقتدي بي في البكا      يـا ورق مـن نوحي عليه iiتعلمي

عن ابن عبّاس (رض) , قال : عطش المُسلمون في مدينة الرّسول في بعض السّنين عطشاً شديداً , حتّى أنّهم عادوا لا يجدون الماء في المدينة , فجاءت فاطمة الزّهراء بولديها الحسن والحُسين (عليهما السّلام) إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) , فقالت : (( يا أبتي , إنّ ابني الحسن والحُسين صغيران لا يتحمّلان العطش )) . فدعا النّبي (صلّى الله عليه وآله) بالحسن فأعطاه لسانه حتّى روي , ثمّ دعا بالحُسين فأعطاه أيضاً لسانه فمصّه حتّى روي ، فلمّا رويا , وضعهما على ركبتيه وجعل يُقبّل هذا مرّة وهذا اُخرى , ثمّ يلثم هذا لثمة وهذا لثمة , ثمّ يضع لسانه الشّريف في أفواههما وهو معهما في غبطة


الصفحة (188)

ونعمة , فبينما هُم كذلك , إذ هبط الأمين جبرائيل بالتّحية من الرّب الجليل إلى النّبي (صلّى الله عليه وآله) , فقال : يا مُحمّد , ربّك يقرؤك السّلام ويقول : (( إنّ هذا ولدك الحسن يموت مسموماً مظلوماً ، وهذا ولدك الحُسين يموت عطشاناً مذبوحاً )) . فقال : (( يا أخي جبرائيل , مَن يفعل ذلك بهما ؟ )) . قال : قوم من بني اُميّة يزعمون أنّهم من اُمّتك , يقتلون أبناء صفوتك ويشرّدون ذرّيّتك . فقال : (( يا جبرائيل , هل تفلح اُمّة تفعل هذا بذرّيّتي ؟ )) . قال : لا والله , بل يبليهم الله في الدُنيا بمن يقتل أولادهم ويسفك دماءهم ويستحيي نساؤهم , ولهم في الآخرة عذاب أليم ، طعامهم الزّقوم وشرابهم الصّديد ، ولهم في درك الجحيم عذاب مكيد ، ويُقال لجهنّم هل امتلأت ؟ فتقول هل من مزيد ؟ ثمّ قال جبرائيل (عليه السّلام) : يا مُحمّد , إنّ الله عزّ وجلّ حمد نفسه عند هلاك الظّالمين , حيث قال : ( فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ )(1) . قال : فجعل النّبي (صلّى الله عليه وآله) تارة ينظر إلى الحسن وتارة ينظر إلى الحُسين وعيناه تهملان من الدّموع , ويقول : (( لعن الله قاتلكما , ولعن الله من غصبكما حقّكما من الأولين والآخرين )) .

فيا لها من مرتبة ما نالها إلاّ الفائزون , ويا لها من درجة لم يحظ بها إلاّ الفائزون , فيا طول حزني عليهم واشتياقي إليهم :

لـو فهم الورق حـنيني نحـوهم         ناحـت مـعي وقـطعت أطواقـها

ولـو يـذوق عـاذلي صـبابتي         صـبا مـعي لـكنه مـا ذاقـها

روي عن الإمام الصّادق (عليه السّلام) , أنّه قال : (( كان الحُسين (عليه السّلام) يوماً في حجر جدّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) , وهو يلاعبه ويلاطفه ويقبّله ويضاحكه , فقالت له عائشة : ما أشدّ حبّك لهذا الصّبي , وما أشغفك به وما أشدّ اعجابك به ؟ فقال لها : ويلك ! وكيف لا أحبّه ولا أعجب به وهو ثمرة فؤادي وقرّة عيني ومهجة قلبي , ولكن اعلمي يا عائشة , إنّ قوماً من أشرار اُمّتي تقتله من بعدي , ويكون قاتله مُخلّداً في النّار , وعليه غضب من الله تعالى , ومَن زاره بعد وفاته , كتب الله له الثّواب حجّة من حجّتي . فقالت عائشة : يا رسول الله , حجّة من حججك يكتبها الله لزائر الحُسين ؟ قال : نعم وحجّتين . قالت عائشة : وحجّتين من حججك ؟! قال : نعم بل ثلاث حجج )) .

 قال : (( ولم تزل عائشة تزيده بالقول وهو (صلّى الله عليه وآله) يُضاعف لها الحجج , حتّى بلغ سبعين حجّة من حجج رسول الله ، ثمّ قال (صلّى الله عليه وآله) : يا

ـــــــــــــــــ
(1) سورة الأنعام / 45 .

الصفحة (189)

عائشة , مَن أراد الله به الخير , قذف في قلبه محبّة الحُسين (عليه السّلام) وحُب زيارته . ومَن زار الحُسين عارفاً بحقّه , كتبه الله من أعلى علّيين مع الملائكة المقرّبين )) .

وعن سُليمان الأعمش , أنّه قال : كنت نازلاً بالكوفة وكان لي جار , وكنت آتي إليه وأجلس عنده , فأتيت ليلة الجُمُعة إليه , فقلت له : يا هذا , ما تقول في زيارة الحُسين (عليه السّلام) ؟ قال لي : هي بدعة وكلّ بدعة ضلالة وكلّ ذي ضلالة في النّار . قال سُليمان : فقمت من عنده وأنا ممتلئ عليه غيظاً , فقلت في نفسي : إذا كان وقت السّحر , آتيه وأحدّثه شيئاً من فضائل الحُسين (عليه السّلام) , فإن أصرّ على العناد قتلته . قال سُليمان : فلمّا كان وقت السّحر , أتيته وقرعت عليه الباب ودعوته باسمه , فإذا بزوجته تقول : إنّه قصد إلى زيارة الحُسين من أوّل الليل . قال سُليمان : فسرت في أثره إلى زيارة الحُسين (عليه السّلام) , فلمّا دخلت إلى القبر , فإذا أنا بالشّيخ ساجد لله عزّ وجلّ , وهو يدعو ويبكي في سجوده ويسأله التّوبة والمغفرة , ثمّ رفع رأسه بعد زمان طويل فرآني قريباً منه , فقلت : يا شيخ , بالأمس كنت تقول , زيارة الحُسين بدعة وكلّ بدعة ضلالة وكلّ ضلالة بالنّار ، واليوم أتيت تزوره ؟! فقال : يا سُليمان لا تلمني , فإنّي ما كنت أثبت لأهل البيت إمامة حتّى كانت ليلتي تلك , فرأيت رؤيا هالتني وروّعتني . فقلت له : ما رأيت أيّها الشّيخ ؟ قال : رأيت رجُلاً جليل القدر , لا بالطّويل الشّاهق ولا بالقصير اللاصق , لا أقدر أن أصفه من عظم جلاله وجماله وبهائه وكماله , وهو مع أقوام يحفّون به حفيفاً ويزفّونه زفيفاً , وبين يديه فارس وعلى رأسه تاج , وللتاج أربعة أركان وفي كلّ ركن جوهرة تضيء من مسيرة ثلاثة أيّام , فقلت لبعض خدّامه : مَن هذا ؟ فقال : هذا مُحمّد المُصطفى . قلت : ومَن هذا الآخر ؟ فقال : عليّ المُرتضى , وصي رسول الله . ثمّ مددت نظري , فإذا أنا بناقة من نور وعليها هودج من نور وفيه امرأتان , والنّاقة تطير بين السّماء والأرض , فقلت : لِمَن هذه النّاقة ؟ فقال : لخديجة الكبرى وفاطمة الزّهراء . فقلت : ومَن هذا الغُلام ؟ فقال : هذا الحسن بن عليّ . فقلت : وإلى أين يريدون بأجمعهم ؟ فقال : لزيارة المقتول ظُلماً شهيد كربلاء , الحُسين بن عليّ المُرتضى . ثمّ إنّي قصدت نحو الهودج الذي فيه فاطمة الزّهراء , وإذا أنا برقاع مكتوبة تتساقط من السّماء , فسألت : ما هذه الرّقاع ؟ فقال : فيها أمان من النّار لزوّار الحُسين (عليه السّلام) في ليلة الجُمُعة .


الصفحة (190)

فطلبت منه رقعة , فقال لي : إنّّك تقول زيارته بدعة , فإنّك لا تنلها حتّى تزور الحُسين وتعتقد فضله وشرفه . فانتبهت من نومي فزعاً مرعوباً , وقصدت من وقتي وساعتي إلى زيارة سيّدي الحُسين (عليه السّلام) , وأنا تائب إلى الله تعالى ، فو الله يا سُليمان , لا أفارق قبر الحُسين (عليه السّلام) حتّى تُفارق روحي جسدي .

وعن داود بن كثير , عن أبي عبد الله (عليه السّلام) , قال : (( إنّ فاطمة بنت مُحمّد (صلّى الله عليه وآله) تحضر زوّار قبر الحُسين فتستغفر لهم )) . :

فـيا نـكبة هـدت قـوى دين iiأحمد      وعـظم  مصاب في القلوب له iiسعر
أيـرتفع الـرأس الـكريم على iiالقنا      ويـهدى إلى الرجس قد اغتاله iiالكفر
ويـمنع  شـرب الـماء عمداً iiوكفه      بـه  مـن عـطايا جود أنعامه iiبحر
ويـقـتل ضـمـآناً كـئيباً iiوجـدّه      نـبي  لـه الاقـبال والعز iiوالنصر
حـبـيب أجـل الـمرسلين مـقامه      رسـول بـه ترجى الشفاعة iiوالبشر
ووالـده  الـهادي الـوصي iiخـليفة      النّبي  أبو الأطهار والصنو iiوالصهر
إمـام لـه الـسر الـعظيم iiوشـأنه      الـقديم  وفـي أوصـافه نزل iiالذكر
لـه  الشرف العالي له النور iiوالبهاء      لـه  الـرتبة لـه الـمجد iiوالـفخر
إذا مـا انـتضى يوم الكريهة iiعزمه      فمن ذا ترى زيداً ومن ذا ترى عمرو

حُكي عن رجل كوفي حداد قال : لمّا خرج العسكر من الكوفة لحرب الحُسين بن عليّ (عليه السّلام) , جمعت حديداً عندي وأخذت آلتي وسرت معهم , فلمّا وصلوا وطنبوا خيمهم , بنيت خيمة وصرت أعمل أوتاداً للخيم ، وسككاً ومرابط للخيل , وأسنّة للرماح , وما اُعوج من سنان أو خنجراً أو سيف كنت بكلّ ذلك بصيراً , فصار رزقي كثيراً وشاع ذكري بينهم حتّى أتى الحُسين مع عسكره , فارتحلنا إلى كربلاء وخيّمنا على شاطئ العلقمي , وقام القتال فيما بينهم وحموا الماء عليه وقتلوه وأنصاره وبنيه , وكان مدّة إقامتنا وارتحالنا تسعة عشر يوماً , فرجعت غنيّاً إلى منزلي والسّبايا معنا , فعُرضت على عُبيد الله فأمر أن يشهروهم إلى يزيد إلى الشّام ، فلبثت في منزلي أيّاماً قلائل , وإذا أنا ذات ليلة راقد على فراشي , فرأيت طيفاً :

كأنّ القيامة قامت والنّاس يموجون على الأرض كالجراد إذ فقدت دليلها , وكلّهم دالع لسانه على صدره من شدّة الظّمأ , وأنا اعتقد أنّ فيهم أعظم منّي


الصفحة (191)

عطشاً ؛ لأنّه كلّ سمعي وبصري من شدته , هذا غير حرارة الشّمس تغلي منها دماغي , والأرض تغلي كأنّها القير إذ اُشعل تحته نار , فخلت أنّ رجلي قد تقلّعت قدماها , فو الله العظيم , لو أنّي خُيّرت بين عطشي وتقطيع لحمي حتّى يسيل دمي لأشربه , لرأيت شربه خيراً من عطشي ، فبينما أنا في العذاب الأليم والبلاء العميم , إذ أنا برجل قد عمّ الموقف نوره وابتهج الكون بسروره راكب على فرس , وهو ذو شيبة قد حفّت به ألوف من كلّ ؛ نبيّ ووصيّ وصديق وشهيد وصالح , فمرّ كأنّه ريح أو سيران فلك ، فمرّت ساعة وإذا أنا بفارس على جواد أغر , له وجه كتمام القمر , تحت ركابه ألوف إن أمر ائتمروا وإن زجر انزجروا ، فاقشعرّت الأجسام من لفتاته وارتعدت الفرائص من خطواته , فتأسفت عن الأوّل ما سألت عنه خيفة من هذا , وإذا به قد قام في ركابه وأشار إلى أصحابه وسمعت قوله : خذوه . وإذا بأحدهم قابض بعضدي كلبّة حديد خارجة من النّار , فمضى بي إليه , فخلت كتفي اليمنى قد إنقلعت , فسألته الخفّة فزادني ثقلاً , فقلت له : سألتك بمَن أمرك عليّ , مَن تكون ؟ قال : ملك من ملائكة الجبّار . قُلت : ومَن هذا ؟ قال : عليّ الكرار . قُلت : والذي قبله ؟ قال : مُحمّد المُختار . قُلت : والذين حوله ؟ قال : النّبيون والصّديقون والشُهداء والصّالحون والمؤمنون . قُلت : أنا ما فعلت حتّى أمرك عليّ ؟ قال : إليه يرجع الأمر وحالك حال هؤلاء . فحقّقت النّظر وإذا بعمر بن سعد أمير العسكر وقوم لم أعرفهم , وإذا بعنقه سلسلة من حديد والنّار خارجة من عينيه وأذنيه , فأيقنت بالهلاك , وباقي القوم منهم مغلّل ومنهم مقيد ومنهم مقهور بعضده مثلي , فبينما نحن نسير , وإذا برسول الله الذي وصفه الملك , جالس على كرسي عال يزهو أظنّه من اللؤلؤ , ورجُلين ذي شيبتين بهيتين عن يمينه , فسألت الملك عن الرّجلين , فقال : آدم ونوح . وإذا برسول الله يقول : (( ما صنعت يا عليّ ؟ )) . قال : (( ما تركت أحداً من قاتلي الحُسين إلاّ وأيت به )) . فحمدت الله تعالى بأنّي لم أكن منهم وردّ إليّ عقلي , وإذا برسول الله يقول : (( قدّموهم )) . فقدّموهم إليه وجعل يسألهم ويبكي ويبكي كلّ مَن في الموقف لبكائه ؛ لأنّه يقول للرجل : (( ما صنعت بطفّ كربلاء بولدي الحُسين ؟ )) . فيجيب : يا رسول الله , أنا حميت الماء عليه . وهذا يقول : أنا قتلته . وهذا يقول : أنا سلبته . وهذا يقول : أنا وطأت صدره بفرسي . ومنهم يقول :


الصفحة (192)

أنا ضربت ولده العليل . فصاح رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وقال : (( وا ولداه ! وا قلّة ناصراه ! وا حُسيناه ! وا عليّاه ! هكذا صدر عليكم بعدي أهل بيتي ؟ انظر يا أبي يا آدم ! انظر يا أخي يا نوح ! كيف أخلفوني في ذرّيّتي )) . فبكوا حتّى ارتجّ المحشر , فأمر بهم زبانية جهنّم يجرّونهم أوّلاً فأوّلاً إلى النّار , وإذا بهم قد أتوا برجل , فسأله (ص) , قال : ما صنعت شيئاً . قال : (( أما أنت نجّار ؟ )) . قال : صدقت يا سيّدي , لكنّي ما عملت شيئاً إلاّ عموداً لخيمة الحصين بن نمير ؛ لأنّه انكسر من ريح عاصف فوصلته . فبكى (صلّى الله عليه وآله) وقال : (( كثّرت السّواد على ولدي , خذوه للنار )) . وصاحوا : لا حكم إلاّ لله ولرسوله ووصيه . قال الحداد : فأيقنت بالهلاك . فأمر بي فقدّموني , فاستخبرني فأخبرته , فأمر بي إلى النّار , فلمّا سحبوني , إلاّ وانتبهت وحكيت لكلّ من لقيته . وقد يبس لسانه ومات نصفه وتبرّأ كلّ من يحبّه ومات فقيراً لا رحمه الله تعالى ( وَسَيَعْلَمُ الّذِينَ ظَلَمُوا أَيّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ )(1) .

فعلى الأطائب من أهل بيت الرّسول فليبك الباكون , وإيّاهم فليندب النّادبون , ولمثلهم تذرف الدّموع من العيون , أو لا تكونون كبعض مادحيهم حيث عرته الأحزان والأشجان , فنظم وقال فيهم :

 

القصيدة للشيخ ابن حماد (رحمه الله تعالى)

 

زر  ضـريحاً (بجورقان) iiونائي      الـحُسين بـن فـاطمة iiالزهراء
لـغريب بـكربلا يـا iiصـريع      طـال كـربي لـذكره iiوبـلائي
ووحـيد بـين الأعـادي غريب      جـرعته الـعدى كؤوس iiالرداء
فـإذا  زرتـه فـقل يـا iiقـتيلا      حـزنه  قـاتلي بـسيف شجائي
يـا  غـريباً لأجله صرت iiأبكي      أسـفـاً بـعده عـلى iiالـغرباء
يا خضيب المشيب خضبت خدي      بـدمـوع  مـمـزوجة iiبـدماء
لـيتني  بـالطفوف كـنت iiفداء      لـك يـا سـيّدي وقـلّ فـدائي
بـأبي جـسمك الـذي iiوطـأته      الـخيل  مـن بـعد لين iiالوطاء
بـأبي  رأسك المسير في iiالرمح      كـبـدر يـلوح فـي iiالـظلماء
بـأبي أخـتك التي هتكت iiبعدك      مــن  بـعد سـرها iiوالـخباء
تـستر الـوجه وهـي تعثر iiفي      فـاضل  أذيـالها لـفرط iiالحياء
ثـم  تـدعوك يا أخي كم iiأناديك      تـشـجو فـلا تـجيب iiنـدائي

ـــــــــــــــــ
(1) سورة الشّعراء / 227 .

الصفحة (193)

يا  أخي لو رأيتنا لرأت iiعيناك      فـيـنا  شـمـاتة الأعــداء
كـنت أرجـوك لـلشدائد كهفاً      فـأبى الـدهر أن يحق رجائي
لـيتني  مـت قـبل هـذا فقد      كـان  مـماتي أحق من iiبقائي
لأنـوحن  مـا حييت على من      نـاح  حـزناً طـير iiالـسماء
وكـذا الأرض والـسماء iiبكته      وقـلـيل لـه كـثير iiالـبكاء
وبكى جبرائيل في الملأ العلوي      أيـضاً وكـل مـن في السماء
وبـه  عـزي الـنّبي iiوعزي      فـيه مـولاي سـيّد الأوصياء
وغـدت فـاطم الـبتولة تبكيه      بـثـكل قـريـحة iiالأحـشاء
لـعـن الله عـصـبة iiقـتلته      ولـحـاها  بـكـرة iiوعـشاء
لـيس  تـهنى الحياة بعد iiقتيل      الـطف إلاّ امـرؤ قليل iiالحياء
وسـيبكي  له ابن حماد في كل      صـباح  مـن عـمره iiومساء


الصفحة (194)

 

المجلس العاشر

في اليوم الخامس من عشر المُحرّم

وفيه أبواب ثلاثة

 

الباب الأوّل

 

لو علم النّاس فضل هذا المقام لأجلوه عن الوطء بالأقدام , ولجعلوا هذا الرّغام شفاءاً وافياً من الأسقام , وكيف لا , وفيه تُقام مآتم الآل وما جرى عليهم من الأسر والقتال من الكفرة الفجرة الأنذال .

فيا إخواني , أكثروا من التّلهّف والأسف على أهل الفضائل والشّرف ، وكيف الصّبر لِمَن يمثل مولاه الحُسين (عليه السّلام) واقفاً يُنادي في ميدان القتال : (( ألا هل من نصير ينصر الآل ؟ ألا هل من معين يعين عترة المختار ويذبّ عن الذرّيّة الأطهار ؟ أين من حقّنا عليه ؟ أين من الوصية فينا من الرّسول (صلّى الله عليه وآله) حيث يقول : قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلّا الْمَوَدّةَ فِي الْقُرْبَى(1) )) .

فالعجب كلّ العجب من غفلة أهل الزّمان عن إقامة العزاء وإثارة الأحزان , على الشّهيد العطشان المدفون بلا غسل ولا أكفان ، كيف لا تبكي لِمَن بكته الزّهراء ؟ وكيف لا تنوح على المنبوذين بالعراء ؟ لعلّنا نفوز بثواب المصاب , ونحوز بدخول الجنّة يوم المرجع والمآب :

يحق لي أن أدم ما عشت في حزن      أذري  الدّموع على الخدين iiوالذفن
يـا آل أحـمد مـاذا كـان iiفعلكم      كـأن  خـيركم في الناس لم iiيكن
رجـالكم  قتلوا من غير ذي iiسبب      وأهـلكم هـتكوا جهراً على البدن

روي : أنّ عمر بن العاص قال لمعاوية بن أبي سفيان : يا معاوية , لِمَ لا تأمر

ـــــــــــــــــ
(1) سورة الشّورى / 23 .

الصفحة (195)

الحسن بن عليّ أن يصعد المنبر فيخطب يوم الجُمُعة ؛ فلعلّه يحصل له خجل وحصر , فيكون ذلك نقصاً لقدره عند النّاس . قال : فلمّا غصّ المسجد بالنّاس , أمر معاوية الحسن أن يصعد المنبر , قال : فقام الحسن (عليه السّلام) وصعد المنبر وحمد الله وأثنى عليه , ثمّ قال : (( أيّها النّاس ، مَن عرفني فقد عرفني , ومَن لم يعرفني فساُبيّن له نفسي ، أنا الحسن بن عليّ بن أبي طالب ، أنا ابن أوّل القوم إسلاماً وأوّلهم إيماناً ، أنا ابن عليّ المُرتضى وابن فاطمة الزّهراء بنت المُصطفى , أنا ابن البشير النّذير , أنا ابن السّراج المنير , أنا ابن مَن بُعث رحمة للعالمين وسوط عذاب على الكافرين . أيّها النّاس , لو طلبتم ابناً لنبيّكم , لم تجدوا غيري وغير أخي الحُسين )) . قال : فناداه معاوية , وقال : يا حسن , حدّثنا بنعت الرّطب كيف يكون ؟ أراد بذلك أن يخجّله ويقطع عليه كلامه ، فقال الحسن : (( نعم يا معاوية ، إنّ الرّطب أوّلاً تلقحه الشّمال وتخرجه الجنوب ، وتنفحه الشّمس ويصبغه القمر ، وتنفحه الرّيح والحرّ ينضجه , والليل يبرّده والبرودة تحلّيه وتطيّبه )) . ثمّ استمر في كلامه , وقال : (( أيّها النّاس , أنا ابن المروة والصّفا , أنا ابن النّبي المُصطفى , أنا ابن مَن على الجبال الرّواسي علا ، أنا ابن من كسى محاسن وجهه الحيا ، أنا ابن فاطمة الزّهراء ، أنا ابن سيّدة النّساء ، أنا ابن عديمات العيوب , أنا ابن نجيّات الجيوب ، أنا ابن أزكى الورى وأعظمهم أمراً وكفاني بهذا فخراً )) . قال : ثمّ إنّ معاوية أمر المؤذّن أن يؤذّن ليقطع كلامه , فلمّا قال المؤذّن : أشهد أنّ مُحمّداً رسول الله , قال الحسن : (( يا معاوية , مُحمّد أبي أم أبوك ؟ فإن قُلت إنّه ليس بأبي فقد كفرت , وإن قُلت نعم فقد أقررت بحقّي , وأنت تغصبنا ما هو لنا ولا ترد إلينا حقّنا )) . فقال معاوية : يا حسن , أنا خير منك . فقال الحسن : (( وكيف ذلك يابن هند , يابن آكلة الأكباد ؟! )) . فقال معاوية :  لأنّ النّاس أجمعوا عليّ ولم يجمعوا عليك . فقال الحسن (عليه السّلام) : (( هيهات هيهات ، إنّ هذا شرّ علوت به يابن هند , ألم تعلم أنّ المُجمعين عليك رجلان ؛ مطيع ومكره , فالطّائع لك عاص لله , والمكره معذور عند الله , وحاشا لله أن أقول أنا خير منك ؛ لأنّك لا خير فيك ، وإنّ الله برّأني من الرّذائل كما برّأك من الفضائل يا معاوية )) . قال : فقام يزيد بن معاوية , وقال : يا حسن , إنّي منذ صرت أبغضك . فقال الحسن : (( يا يزيد , اعلم أنّ إبليس شارك


الصفحة (196)

أباك في نكاحه حين علقت فيك اُمّك , فاختلط الماءان , فولدت على ذلك وصرت من تلك النّطفتين ؛ فلأجل ذلك تبغضني وتحمّلت أنت وأبوك عداوتي , وكذلك الشّيطان , شارك جدّك حرباً عند نكاحه , فولد جدّك صخر , فلذلك جدّك يبغض جدّي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لقوله تعالى : وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوالِ وَالأَولاَدِ(1) واعلم يا يزيد , لا يبغضنا إلاّ من خبث أصله وكان من إبليس نسله )) .  فقال معاوية : يا عمرو بن العاص , هذه مشورتك لنا . فقال عمرو : والله , ما ظننت أنّ مثله هذا على صغر سنّه يقدر يتكلم فوق المنبر بكلمة واحدة , ولكنّه لا شك من معدن الفصاحة ومن بيت الكرم والسّماحة . قال معاوية : وأنا أيضاً أفتخر وأقول : أنا ابن بطحاء مكّة وأغزرها جوداً وأكرمها جدوداً , أنا ابن من ساد على قُريش ناشئاً وكهلاً . فقال الحسن : (( يا معاوية , أعليّ تفتخر وأنا ابن مأوى التّقى , وأنا ابن مَن جاء بالهُدى , وأنا ابن مَن ساد على أهل الدّين بالفضل السّابق والحسب الفائق , وأنا ابن مَن طاعته طاعة الله ومعصيته معصية الله ؟! فهل لك أب كأبي تباهيني به ؟! أو لك قدم كقدمي تساميني به ؟ هل تقول نعم يا معاوية أو تقول لا ؟ )) . فقال : بل أقول لا , وهي لك تصديق . فتعجّب الحاضرون من كلام الحسن (عليه السّلام) وأجوبته وحسن براعته .

فانظروا يا إخوتي إلى هذا النّور الجسماني والشّخص الرّباني , كيف تفوح آثار النّبوة منه والإمامة ، ومن غيره آثار المكر والخدع واللئامة , ولكنّها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصّدور :

والله لو لا نكث عهد المُصطفى      يوم الغدير وظلم حيدر iiفاسمعوا
مـا  استضهدت آل النّبي iiأمية      كـلا  ولا لـخلافة يوماً iiدعوا

روي : أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كان يوماً مع جماعة من أصحابه مارّاً في بعض الطّرق , وإذا هُم بصبيان يلعبون في ذلك الطّريق , فجلس النّبي عند صبي منهم وجعل يُقبّل ما بين عينيه ويلاطفه , ثمّ أقعده في حجره وهو مع ذلك يكثر تقبيله , فقال له بعض الأصحاب : يا رسول الله , ما نعرف هذا الصّبي الذي قد شرّفته بتقبيلك وجلوسك عنده وأجلسته في حجرك ؟ ولا نعلم ابن مَن هو ؟ فقال النّبي : (( يا أصحابي لا تلوموني , فإنّي رأيت هذا الصّبي يوماً يلعب مع الحُسين , ورأيته يرفع التّراب من تحت أقدامه ويمسح به وجهه وعينيه مع صغر سنّه , فأنا من ذلك

ـــــــــــــــــ
(1) سورة الإسراء / 64 .

الصفحة (197)

اليوم بقيت أحبّ هذا الصّبي , حيث إنّه يحبّ ولدي الحُسين , فأجبته لحبّ الحُسين , وفي يوم القيامة أكون شفيعاً له ولأبيه ولاُمّه كرامة له , ولقد أخبرني جبرائيل أنّه يكون هذا الصّبي من أهل الخير والصّلاح , ويكون من أنصار الحُسين في وقعة كربلاء , فلأجل هذا أحببته وأكرمته كرامة للحُسين (عليه السّلام) )) . :

على  مثلهم فليبك بالمدى iiالمدى      ويذرف  دمعاً منه كالسيل مسبل
فـما مـنهم إلاّ قـتيل وهـالك      بـسم  ومـذبوح وذاك iiمـكبل
أصابتهم أيدي المصائب فاغتدوا      أمـاثيل  فـي الدنيا لمن iiيتمثل

روي عن الحُسين (عليه السّلام) , أنّه قال : (( أتيت يوماً جدّي رسول الله , فرأيت اُبي بن كعب جالساً عنده , فقال لي جدّي : مرحباً بك يا زين السّماوات والأرض . فقال اُبي : يا رسول الله , وهل أحد سواك يكون زين السّماوات والأرض ؟ فقال النّبي : يا اُبي بن كعب , والذي بعثني بالحقّ نبيّاً , إنّ الحُسين بن عليّ في السّماوات أعظم مما هو في الأرض , واسمه مكتوب عن يمين العرش , إنّ الحُسين مصباح الهُدى وسفينة النّجاة )) .

قال : ثمّ إنّ النّبي (صلّى الله عليه وآله) أخذ بيد الحُسين (عليه السّلام) وقال : (( أيّها النّاس ، هذا الحُسين بن عليّ , ألا فاعرفوه وفضلّوه كما فضلّه الله عزّ وجلّ , فو الله , لجدّه على الله أكرم من جدّ يوسف بن يعقوب ، هذا الحُسين ؛ جدّه في الجنّة واُمّه في الجنّة , وأبوه في الجنّة وأخوه في الجنّة , وعمّه في الجنّة وعمّته في الجنّة , وخاله في الجنّة وخالته في الجنّة , ومحبّوهم في الجنّة ومحبّوا محبّيهم في الجنّة )) .

وروي في بعض الأخبار : أنّ الحُسين (عليه السّلام) مرّ على عبد الله بن عمرو بن العاص , فقال عبد الله : مَن أحبّ أن ينظر إلى أحبّ أهل الأرض إلى أهل السّماء ؟ فلينظر إلى هذا المختار , وإنّي ما كلّمته قط منذ وقعة صفّين . فقال له الحُسين : (( يا عبد الله , إذا كنت تعلم إنّي أحبّ أهل الأرض إلى أهل السّماء , فلم تقاتلني وتقاتل أبي وأخي يوم صفّين ؟ فو الله , إنّ أبي خير منّي عند الله ورسوله )) . قال : فاستعذر إليه عبد الله وقال : يا حُسين , إنّ جدّك رسول الله أمر النّاس بإطاعة الآباء , وإنّي قد أطعت أبي في حرب صفّين . فقال الحُسين (عليه السّلام) : (( أما سمعت قول الله


الصفحة (198)

تعالى في كتابه المُبين : وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى‏ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا(1) ؟ فكيف خالفت الله تعالى وأطعت أباك وحاربت أبي وقد قال رسول الله : إنّما الطّاعة للآباء بالمعروف لا بالمنكر ، وإنّه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ؟! )) . فسكت عبد الله بن عمرو ولم يرد جواباً ؛ لعلمه أنّه خسر الدُنيا والآخرة ذلك هو الخُسران المُبين .

وعن الطّبري عن طاووس اليماني : أنّ الحُسين بن عليّ كان إذا جلس في المكان المُظلم , يهتدي إليه النّاس ببياض جبينه ونحره ، وإنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كثيراً ما يقبّل الحُسين (عليه السّلام) بنحره وجبهته ، وإنّ جبرائيل (عليه السّلام) نزل يوماً إلى الأرض , فوجد الزّهراء نائمة والحُسين في مهده يبكي على جاري عادة الأطفال مع اُمّهاتهم , فجلس جبرائيل عند الحُسين , وجعل يناغيه ويسكته عن البكاء ويسليه , ولم يزل كذلك حتّى استيقظت فاطمة (عليها السّلام) من منامها , فسمعت إنساناً يُناغي الحُسين , فالتفتت إليه ولم تر أحداً , فأعلمها أبوها رسول الله أنّ جبرائيل كان يُناغي الحُسين .

وعن أنس بن مالك , قال : رأيت الحُسين (عليه السّلام) مع جنازة لبعض أصحابه , فصلّينا عليها معه , فلمّا فرغنا من الصّلاة , رأيت أبا هريرة ينفض التّراب عن أقدام الحُسين ويمسح بها وجهه , فقال له الحُسين (عليه السّلام) : (( لِمَ تفعل هذا يا أبا هريرة ؟ )) . فقال : دعني يابن رسول الله , فو الله لو تعلم النّاس مثل ما أعلمه من فضلك , لحملوك على أحداقهم فضلاً عن أعناقهم ، يابن رسول الله , في هاتي أذني سمعت من جدّك رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول على منبره : (( إنّ هذا ولدي الحُسين سيّد شباب أهل الجنّة من الخلق أجمعين , وإنّه سيموت مذبوحاً ظمآناً مظلوماً لعن الله من قتله )) .

 فيا إخواني , كيف لا نبكي لأحبّ أهل الأرض والسّماء ؟ وكيف لا نحزن على قتيل الظّماء والماء حوله ؟ قد بادروه بالسّيوف والرّماح وصادموه في ميدان الكفاح , وقالوا له لا سعة ولا فصاح , فيا ويحهم ! ما أجرأهم على الله وعلى انتهاك حرمة رسول الله .

فعلى الأطائب من أهل بيت الرّسول فليبك الباكون , وإيّاهم فليندب النّادبون ، ولمثلهم تذرف الدّموع من العيون ، أو لا تكونون كبعض مادحيهم حيث عرته الأحزان والأشجان , فنظم وقال فيهم :

ـــــــــــــــــ
(1) سورة العنكبوت / 8 .

الصفحة (199)

 

القصيدة للخليعي (رحمه الله تعالى)

 

سـل  جـيرة القاطنين ما iiفعلوا      وهـل  أقـاموا بالحي أم iiرحلوا
وقـف  معي وقفة الحزين عسى      أنـشد ربـعاً ضـلت به iiالسبل
ولا  تـلمني على البكاء فالدموع      ري  تـطـفى بــه iiالـغـلل
بـانـوا  فـلي مـقلة iiمـقرحة      ومـهـجة بـالـزفير iiتـشتعل
جـسمي  لـشوك القتاد iiمفترس      ونـاظـري بـالسهاد iiمـكتحل
قـد  كـان قـلبي والدار جامعة      والـعيش  غض والشمل مشتمل
مـروعـاً خـائفاً فـكيف iiبـه      غـدا  الـتنائي والركب مرتحل
فـوا ضـلالي تـبكي iiلوحشتهم      عـين وبـين الضلوع قد iiنزلوا
وأسـأل  النطق من صدى iiطلل      بـال  وأنـي يـجيبني الـطلل
فـما  لـقلبي والـنائبات iiوكـم      يـرمي  بـسهم الـنوى iiوينتبل
يـا نـفس صـبراً فـكل iiنائبة      سـوى مـصاب الحُسين تحتمل
ويـا جـفوني سـحي عليه فلي      عـن  كـل رزء بـرزئه iiشغل
لـم أنـسه يـنشد الـطغاة iiوقد      حـفت بـه الـسمهرية iiالـذبل
الا  ارجـعوا عـن قتالنا iiوذروا      سـفك  دمـاء الـنّبي iiواعتزلوا
أنـا ابـن خـير الأنـام iiقاطبة      وخـير  خـلق يـحفي iiوينتعل
بـذا  امـرتم أن تـقطعوا iiرحم      الـمختار  مـن بعده ولا iiتصلوا
لـهفي له يشتكي الأوام iiوللبيض      الـمواضي  مـن نـحره iiبـلل
لـهفي لـذلك الـجبين مـنعفراً      كـالشمس  أنـى بدا لها iiالخجل
لـهفي لـنسوانه وقـد iiكـشفت      عـن صدرهن السجوف iiوالكلل
مـسلوبة قد تقنعت فاضل iiالردن      وعـبـرى قـد شـفها iiالـثكل
هـذي تـنادي أخـي وتلك iiأبي      والـدمع فـوق الـخدود iiمنهمل
وزيـنـب  مـسـتجيرة ولـها      عـلى  أخـيها نـدب iiومرتجل
تـصيح مـن حسرة ومن iiأسف      والـقلب مـنها مـروع iiوجـل
أيـن عـليّ بـن الـحُسين iiألا      ايـن الـمحامي والفارس iiالبطل
تبكى وتستصرخ البتول وللشعت      الـيتامى  مـن حـولها iiزجـل


الصفحة (200)

يـا  أمّ قـومي وسارعي iiفمفداك      طـريح فـي الـتراب مـنجدل
قـومي  فـقد نـالنا لـفقد iiأخي      خـطب  مـهول وحـادث iiجلل
حـتـى  إذا ثـوروا iiلـرحلتهم      وحـث  بـالركب سـائق عجل
وعـلق  الرأس يستنير به iiالأفق      وسـارت  تـطوي الـفلا iiالإبل
ظلت تنادي وا ذلنا يا رسول iiالله      وصـيـتـهم  ومــا iiقـبـلوا
مـا حفظوا ما أمرت من ود iiذي      الـقربي  ولا عن ضلالهم iiعدلوا
وفـاطـم  تـسـتغيث iiعـمتها      صـارخة  دمـع عـينها خضل
يـا  عـمتي ما لهؤلاء iiوللحريم      لا يـعـطـفون إن iiســألـوا
ومـا  لـذا الـسائق العنيف iiمن      الأدلاج لا ضـجـرة ولا iiمـلل
لهفي  لزين العباد يرفل في iiالقيد      كـئـيـباً تـذيـبـه iiالـعـلل
يـجول  نـحو الـحريم محتسباً      يـدعـو  إلـى ربـه iiويـبتهل
حـتـى إذا أقـبـلت iiركـائبهم      عـلى  يـزيد يـقودها iiالـسفل
صـاح غـراب فقال قل ما iiتشأ      أو  لا تـقل فـالسرور iiمـكتمل
قـتلت  أسـماهم فخاراً وأزكاهم      تــجـاراً  وحــق iiالأمــل
قـابلت  يوماً بيوم بدر iiوعاجلت      انـتـصاري  لـمعشر iiخـذلوا
وظــل بـالعود قـارعاً iiثـغر      مـولانا سـروراً لامـه iiالـهبل
فما ترى عذر آل حرب إذ جاءوا      وقــد  أيـقـنوا لـمن iiقـتلوا
وإن  جـني المُصطفى النّبي iiلهم      بـأي  شـيء تـعارض iiالرسل
وما  يقولون في الجواب iiوقتلاهم      بـنـوه ومــا لــه فـعـلوا
يـا سـادتي يـا بني النّبي ومن      عـلـيهم  فـي الـمعاد iiأتـكل
مـا  راعـني فـقد من ألفت iiبه      ولـم  يـهجني التشبيب iiوالغزل
ولا شـجـانـي إلاّ مـصـابكم      فـمـا  بـدمعي عـليكم iiتـحل
مــا أنـا والله عـن iiمـحبتكم      ولـعـن أهـل الـعناد iiمـنتقل
والله لــي شـاهد ولـست iiإذا      اتـقيت قـوماً أرضى إذا iiجهلوا
والـعادل  الـمستدل لا iiيـدخل      الـشك عـليه قـول ولا عـمل
مــا لـلخليعي عـبد iiأنـعمكم      الا ولاكـم إذا انـقضى iiالأجـل

 
الصفحة السابقةالفهرسالصفحة اللاحقة

 

طباعة الصفحةأعلى