الصفحة (107)
وعن ابن
مسعود , قال : بينما نحن جلوس عند رسول الله في مسجده
, إذ دخل علينا فتية من قُريش
ومعهم عمر بن سعد لعنه الله
, فتغيّر لون رسول الله
, فقلنا له : يا رسول الله
, ما شأنك ؟
فقال : (( إنّا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على
الدُنيا , وإنّي ذكرت ما يلقى أهل بيتي
من اُمّتي من بعدي من
؛ قتل وضرب وشتم وسبّ وتطريد وتشريد
, وإنّ أهل بيتي سيشرّدون ويطردون
ويقتلون ، وإنّ أوّل رأس يُحمل على رمح في الإسلام رأس ولدي
الحُسين , أخبرني بذلك أخي
جبرائيل عن الرّبّ الجليل
)) . وكان
الحُسين حاضراً عند جدّه في ذلك الوقت ، فقال : (( يا جدّاه , فمَن يقتلني من اُمّتك
؟ )) . فقال
: (( يقتلك شرار النّاس )) . وأشار النّبي (صلّى الله عليه وآله) إلى عمر بن سعد لعنه الله
, فصار أصحاب رسول الله إذا رأوا عمر بن سعد داخلاً من باب المسجد , يقولون : هذا قاتل
الحُسين (عليه السّلام) . قال : وجعل عمر بن سعد كلّما لقي
الحُسين يقول : يا أبا عبد الله , إنّ في قومنا اُناساً سفهاء يزعمون إنّي أقتلك . فيقول
له الحُسين (عليه السّلام) : (( والله إنّهم ليسوا سفهاء
, ولكنّهم اُناس حُلماء ، أما إنّه ستقرّ
عيني حيث لا تأكل من برّ الرّي من بعد قتلي إلاّ قليلاً ،
ثمّ تُقتل من بعدي عاجلاً
)) .
وكان الباقر (عليه
السّلام) يقول : (( إنّ قاتل يحيى بن زكريا ولد زنا ، وقاتل
الحُسين ولد زنا , ولم تمطر
السّماء دماً إلاّ يوم قتلهما
, ولم يحمر الاُفق إلاّ في قتلهما ، وإنّ
هذه الحمرة التي تظهر في
السّماء لم تر قبل قتل
الحُسين ولا رؤيت بعد قتله
)) .
قال الرّاوي
: فلمّا نزل الحُسين يوم الطّفّ في أرض كربلاء
, أوّل من حال بينه وبين ماء الفُرات عمر بن
سعد لعنه الله تعالى
, فاشتدّ العطش بالحُسين وأطفاله وأهل بيته (عليهم السلام) ، فقام
رجل من أصحاب الحُسين قال : يابن رسول الله
, أتأذن لي أن أمضي إلى ابن سعد فاكلّمه في
أمر الماء , وأعرّفه بعطش الحرم والأطفال
؛ فعساه يرتدع عن القتال ؟ فقال
(عليه السّلام)
: (( ذلك إليك , افعل ما شئت
)) .
قال : فجاء الهمداني ووبّخه بكلام ـ قد مرّ ذكره سابقاً ـ
, فكان من عذره أن قال : يا أخا همدان
, والله
إنّي أَعرف النّاس بحقّ
الحُسين وحرمته عند
رسول الله , ولكنّي حائر في أمري ما أدري كيف أصنع
, وفي هذا الوقت كنت اتفكّر في أمري
بين ترك ملك الرّي وقتل
الحُسين . ثمّ قال : نفسي لأمّارة بالسّوء ما تحسن لي ترك مُلك
الرّي ، وإنّي إذا قتلت حُسيناً أكون أميراً على سبعين ألف فارس .
قال : فنهض
الصفحة (108)
من عنده
مكسور القلب ورجع إلى الحُسين (عليه السّلام) , وقال : يا مولاي
, إنّ القوم استحوذ عليهم
الشّيطان , وإنّ عمر بن سعد قد عزم على قتلك وقتل أصحابك وأهل بيتك
, ورضي بدخول
النّار بولاية الرّي
:
(
ذَلِكَ
هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ )(1) .
فيا إخواني
, كيف لا يبكيهم مَن يزعم أنّ له بهم الاتصال
حتّى تنقطع منه عليهم الأوصال ؟ وكيف لا
يتحمّل الحزن عليهم في هذا الحال وفي كلّ حال
حتّى المآل ؟ فعلى الأطائب من أهل بيت
الرّسول فليبك الباكون ، وإيّاهم فليندب النّادبون
, ولمثلهم تذرف
الدّموع من العيون ، أو
لا تكونون كبعض مادحيهم حيث عرته الأحزان وتتابعت عليه الأشجان
, فنظم وقال فيهم :
القصيدة
للشيخ نعمان (رحمه الله تعالى)
جزع بكى وأخو الصبابة iiيجزع وجـرت بـوادر دمـعه iiتندفع
صـب إذا هـل المحرم هاجه وجـد تفيض العين منه iiوتدمع
وجـوى لـمّا نال الحُسين وآله نـيرانه بـين الأضـالع iiتسفع
فـي كربلاء في كربها iiوبلائها لـمّا اسـتجابوا حوله iiوتجمعوا
واتـوه بالبيض الصوارم iiوالقنا والـخيل مـسرجة تعد iiوتمنع
بـغياً وعـدواً لم يخافوا iiحاكماً عـدلاً يرى ما يفعلون iiويسمع
مـن بـعدما كتبوا إليه iiخديعة مـنهم وهـم من كل قوم iiأجدع
حـتى إذا مـا جاءهم iiمتحملاً خـدعوا بـه وكأنهم لم iiيسمعوا
بـالأمس مـا قال النّبي iiمُحمّد فـيه ومـا أوصاهم بل iiضيعوا
وحموه عن ماء الفرات وقد شكا ظـمأ ولم يخشوا ولما iiيفزعوا
ويـل لهم باعوا الهداية iiبالعمى وتـرددوا فـي غيهم iiوتسلعوا
والله مـا عـاد بـأعظم iiحرمة مـنهم ولا فـعلت ثـمود iiوتبع
قـوم كـفعلهم الشنيع وما iiأتوا بـل فـعلهم من كل فعل iiأشنع
نـاداهم لـمّا بـه حـفوا iiمعاً زمـراً ولم يك من لقاهم iiيجزع
يـا شـر خلق الله ما من iiمسلم مـنكم لـه ديـن يكف iiويردع
حرم النّبي تموت من حر iiالظمأ والوحش في ماء الشريعة iiيترع
ـــــــــــــــــ
(1)
سورة الحجّ / 11 .
الصفحة (109)
ألـكم طـلائب عـندنا iiتـبغونها اُمّ مـا عـرفتم ويلكم ما iiتصنعوا
انـفـذتم كـتـباً إلـي iiفـجئتكم فـالآن إذ خـنتم دعـوني ارجع
قـالوا لـه هـيهات بـل iiلاميرنا تـعطى الـقياد وتستكين iiوتخضع
أو بـالسيوف الـمرهفات iiوبالقنا نـوليكم طـعناً وضـرباً iiيـفظع
فـهـناك جـرد سـيفه لـقتالهم وهـو الـشجاع اللوذعي iiالسلفع
فـي فـتية بـذلوا نـفوسهم iiمعاً مـن دون مهجته إلى أن iiصرعوا
مـن حـوله فـوق التراب iiكأنهم أقـمـار أدحـية ضـياها iiيـلمع
وبـقي حـبيب مُـحمّد بين iiالعدا فـردا يـذب عـن الحريم iiويمنع
كـالليث مـنصلتاً إلـى أن غاله سـهم الـمنون فخر وهو iiالموجع
عـن سـرجه يرنو إلى iiفسطاطه والـعين مـنه تـستهل iiوتـدمع
أسـفي على النسوان في ذل iiالسبا إذ لـم يـعد أحـد هـنالك iiيسمع
ومضى الجواد إلى الخيام iiمحمحماً يـنعي الـحُسين ودمـعه iiيـتدفع
فـسمعن رنـته الـنساء فقلن iiقد وقــع الـذي كـنا لـه نـتوقع
فـخرجن من فسطاطهن iiصوارخا جـزعاً صراخاً للصخور iiيصدع
وأتـينه والـشمر جـاث iiفـوقه بـحسامه لـلرأس مـنه iiيـقطع
فـرقى الحُسين وقلن ويلك يا عدو الله مــاذا بـالـمطهر تـصنع
هـذا جـزاء مُـحمّد فـي iiآلـه مـنكم لـفعلك يـا أمـية iiاشـنع
فـاحتز رأس الـسبط يا لك لوعة لـم يـبق لـلإسلام شـمل يجمع
فـاهتز عـرش الله جل iiوسبحت أمـلاكه وبـكوا أسـى iiوتفجعوا
وهـوت نجوم عند ذاك من iiالسما وبـكت دمـا بعض لبعض iiتتبع
والأرض مادت والجبال تزعزعت والـجو مـسود هـنالك iiاسـفع
والـطير فـي جو السّماء بكت له أسـفاً وا عرضت الوحوش iiالرتع
عـن وعيها جزعاً عليه ولم يزل لـلجن نـوح فـي الأماكن iiيسمع
وعـلى سنان الرمح شالوا iiرأسه كـالبدر يـزهو نـوره iiويشعشع
وجـرت خـيولهم عـلى iiجثمانه حـتّى تـحطم صـدره iiوالأضلع
وتـناهبوا رحـل الحُسين iiوسلبوا نـسوانه بـاخبث مـا قد iiصنعوا
الصفحة (110)
يـا عـين أبـكي للحسين iiوأهله بـدم إذا مـا قـل مـنك iiالمدمع
ابـكي غـريب مُـحمّد iiوجـيبه فـمـصابه مـما سـواه iiأفـظع
ابـكي عـليه مـفرداً بين iiالعدا والـبيض فـيه والأسـنة iiتشرع
ابـكي عـليه ورأسـه في iiذابل والـجسم مـنه بالسيوف مبضع
ابـكي لـه مـلقى بلا غسل iiولا كـفن ولا نـعش هـناك iiيشيع
ابـكي لنسوان الحُسين iiحواسراً فـي الـبيد مـا فيهن من iiيتقنع
ابـكي لـهن يـسقن بعد iiصيانة قـسراً وهـن إذاً عطاشى جوع
ابـكي عـلى السجاد وهو iiمقيد بـالقيد مـكتوف الـيدين iiمكنع
ابـكي لـزينب إذ تقول iiلاختها لـمّا تـنادوا لـلرحيل iiوازمعوا
يـا أخت قد عزوا عليّ ترحالهم قـومي إلـى جسد الحُسين iiنودع
قـومي إلـيه فـما لنا من iiنظرة مـنه سـوى هذي العشية iiنطمع
يـا أخـت هذا اليوم آخر iiعهدنا لا يــوم فـيه بـعده iiنـتجمع
هـذا بـآل مُـحمّد فـعل iiالعدى أفـبـعده لـهم نـحب iiونـتبع
بـل مـنهم نـبرأ ونـلعنهم iiمعاً لـعناً يـدوم مـجدداً لا iiيـقطع
فــالأولان هـما لـهذا iiأسـساً والآخـرون بـنوا عليه iiورفعوا
والله لـو لا نكث عهد iiالمُصطفى يـوم الغدير وظلم حيدر iiفاسمعوا
مـا اسـتنهضت آل النّبي iiأمية كـلا ولا لـخلافة يـوم iiدعـوا
لا زال لـعن الله يـغشاهم iiومن يـرضى بـفعلهم الشنيع iiويقنع
وعـلى بني الزّهراء صلّى iiربهم مـا دام صـبح خلف ليل يصدع
يـا آل بـيت مُـحمّد إنّـي iiلكم يـوم الـقيامة فـي السلام أطمع
أنـا عـبدكم نـعمان حبكم iiمعاً ذخـري إذا ظـم الأنام iiالمضجع
والـيتكم لأكـون تـحت iiولائكم وغـدا إذا فـرغ الورى لا iiأفزع
وإذا مـنعتم حـين يـشتد iiالظمأ أعـداءكم مـن حوضكم لا iiامنع
مـني الـسلام عليكم ما iiغردت ورقاء نهتف في الغصون وتسجع
الباب الثّالث
أيّها
المؤمنون النّاصحون
والإخلاء الصّالحون ، عجّوا بالبكاء والعويل ،
الصفحة (111)
واندبوا
أهل الإيمان والتّنزيل ، ويا أهل الأمانة والطّاعة , ساعدوا أهل الكرامة والشّفاعة
، أو لم تسمعوا يا ذوي العقول بمصيبة آل الرّسول ؟! فوا عجباه من هذه المصائب التي
تسكب العبرات ! ويا تعجّباه ممّن لا يساوي مواليه في النّكبات ! فكيف يدّعي المحبّة
مَن لا ينوح على أولاد الرّسول وثمرة فؤاد البتول ؟ فهل تحسن المراثي والنّدب إلاّ
على المقتولين من غير سبب ؟
فيا وقعة ما أمرّها ! ويا قتلة ما أحرّها
! منعوهم من الماء
المباح وسقوهم السّيوف والرّماح ، فليت شعري ما كان السّبب لذلك
حتّى أوردوهم تلك
المهالك , مشرّدين عن البلاد مفجوعين في الأهل والأولاد ؟ فمنهنّ من تخمش وجهها بيديها
، ومنهنّ من ينزع قرطيها من أذنيها .
فيا لها من مصيبة في الأنام تضعضعت لها سائر
بلاد الإسلام ! فنحتسب أجرها عند الله
، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العليّ العظيم .
نُقل عن
اُمّ
سلمة , قالت : كان رسول الله
(صلّى الله عليه وآله) ذات يوم معي
, فبينما هو
راقد على الفراش ، جاعل رجله اليمنى على اليسرى وهو على قفاه
, وإذا بالحُسين
(عليه السّلام) ـ وهو ابن ثلاث سنين وأشهر
ـ أتى إليه
, فلمّا رآه (صلّى الله عليه وآله)
, قال : (( مرحباً بقرّة عيني مرحباً بثمرة فؤادي
)) . ولم يزل يمشي
حتّى ركب على صدر جدّه فأبطأ ، فخشيت أنّ
النّبي تعب فأحببت أنحيّه عنه ، فقال :
(( دعيه يا اُمّ سلمة
, متى أراد
الانحدار ينحدر ، واعلمي مَن آذى منه شعرة فقد آذاني
)) . قالت : فتركته ومضيت فما
رجعت إلاّ ورسول الله يبكي
, فعجبت من بعد الضّحك والفرح ، فقربت منه وقلت : يا
سيّدي , ما يبكيك لا أبكى الله عينك ؟ وهو ينظر لشيء بيده ويبكي ، قال :
(( ما تنظرين ؟
)) . فنظرت
وإذا بيده تربة
, فقلت : ما هي ؟ قال :
(( أتاني بها جبرائيل هذه السّاعة ، وقال لي : يا
رسول الله , هذه طينة من أرض كربلاء
, وهي طينة ولدك
الحُسين وتربته التي يُدفن فيها
.
فصيّريها عندك في قاروره
, فإذا رأيتها قد صارت دماً عبيطاً ، فاعلمي أنّ ولدي
الحُسين قد قُتل , وسيصير ذلك من بعدي وبعد أبيه واُمّه وجدّته وأخيه
)) .
قالت : فبكيت وأخذتها من
يده وائتمرت بما أمرني
, وإذا لها رائحة كأنّها المسك الأذفر ، فما مضت الأيّام والسّنون
إلاّ وقد سافر
الحُسين إلى أرض كربلاء ، فحسّ قلبي بالشّر وصرت كلّ يوم اتجسّس القارورة
, فبينما أنا كذلك
, وإذا بالقارورة انقلبت دماً عبيطاً
, فعلمت أنّ
الحُسين قد
الصفحة (112)
قُتل ، فجعلت
أنوح وأبكي يومي كلّه إلى الليل
, ولم اتهنّ بطعام ولا منام إلى طائفة من الليل ،
فأخذني النّعاس
, وإذا أنا بالطّيف برسول الله
(صلّى الله عليه وآله) مُقبل وعلى
رأسه ولحيته دم كثير
, فجعلت انفضّه بكمّي وأقول : نفسي لنفسك الفداء
! متى أهملت نفسك
هكذا يا رسول الله
؟ من أين لك هذا التّراب ؟ قال :
(( هذه السّاعة فرغت من دفن ولدي
الحُسين )) .
قالت اُمّ سلمة : فانتبهت مرعوبة لم أملك على نفسي
, فصحت : وا حسيناه
! وا
ولداه ! وا مهجة قلباه
! حتّى علا نحيبي , فأقبلت إليّ نساء الهاشميات وغيرهن
, وقلنّ : ما الخبر
يا اُمّ المؤمنين ؟ فحكيت لهنّ بالقصّة
, فعلا الصّراخ وقام النّياح ، وصار كأنّه حين ممات
رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وسعين إلى قبره مشقوقة الجيب ومكشوفة
الرّأس , فصحن : يا رسول الله قُتل
الحُسين ! . فو الله الذي لا إله إلاّ هو ، فقد حسسنا كأنّ
القبر يموج بصاحبه
حتّى تحرّكت الأرض من تحتنا
, فخشينا أنّها تسيخ بنا
, فانحرفنا بين
مشقوقة الجيب ومنشورة الشّعر وباكية العين .
فيا إخواني
, مصابهم هو الذي أحرمنا الهجوع وأسكب من أعيننا سحائب
الدّموع , وقلّل صبرنا وأذهل
فكرنا , وهدّ منّا الأركان وأسلمنا الذّل والهوان
, فالحكم لله ولا حول ولا قوة إلاّ
بالله :
غـريبون عن أوطانهم iiوديارهم تنوح عليهم في البراري iiوحوشها
وكـيف ولا تبكي العيون iiلمعشر سيوف الأعادي في العلاء تنوشها
بـدور تـواري نورها iiفتغيرت مـحاسنها تـرب الـفلا iiنعوشها
وروي : أنّ
المتوكل من خلفاء بني العبّاس ، كان كثير العداوة شديد البغض لأهل بيت الرّسول ، وهو
الذي أمر الحارثين بحرث قبر الحُسين (عليه السّلام) , وأن يجروا عليه الماء من
نهر
العلقمي ، بحيث لا يبقى له أثر ولا أحد يقف له على خبر ، وتوعّد النّاس بالقتل لِمَن
زار قبره , وجعل رصداً من أجناده وأوصاهم
: كلّ مَن وجدتموه يريد زيارة
الحُسين فاقتلوه ؛
يريد بذلك إطفاء نور الله وإخفاء آثار ذرّيّة رسول الله
. فبلغ الخبر إلى رجل من أهل
الخير يُقال له زيد المجنون
, ولكنّه ذو عقل شديد ورأي رشيد ، وإنّما لُقّب بالمجنون
؛ لأنّه
أفحم كلّ لبيب ، وقطع
حجّة كلّ أديب ، وكان لا يعبأ من الجواب ولا يملّ من الخطاب ،
فسمع بخراب قبر
الحُسين وحرث مكانه , فعظم ذلك عليه واشتدّ حزنه وتجدّد مصابه
الصفحة (113)
بسيّده
الحُسين (عليه السّلام) , وكان يومئذ بمصر
, فلمّا غلب عليه الوجد والغرام لحرث قبر الإمام
(عليه السّلام) , خرج من مصر ماشياً هائماً على وجهه شاكياً وجده إلى ربّه ، وبقي
حزيناً كئيباً حتّى بلغ الكوفة وكان البهلول يومئذ بالكوفة , فلقيه زيد المجنون
وسلّم عليه فردّ عليه السّلام , فقال له البهلول : من أين لك معرفتي ولم ترني قط ؟
فقال زيد : يا هذا , اعلم أنّ قلوب المؤمنين جنود مجنّدة , ما تعارف منها ائتلف وما تناكر
منها اختلف .
فقال له البهلول : يا زيد
, ما الذي أخرجك من بلادك بغير دابّة ولا مركب
؟ فقال : والله , ما خرجت إلاّ من شدّة وجدي وحزني , وقد بلغني أنّ هذا اللعين أمر بحرث
قبر الحُسين (عليه السّلام) وخراب بنيانه وقتل زوّاره ، فهذا الذي أخرجني من موطني
ونغّص عيشي , وأجرى دموعي وأقلّ هجوعي . فقال البهلول : وأنا والله كذلك
. فقال له : قم
بنا نمضي إلى كربلاء لنشاهد قبور أولاد عليّ المُرتضى .
قال : فأخذ كلّ بيد صاحبه
حتّى وصلا إلى قبر
الحُسين , وإذا هو على حاله لم يتغيّر وقد هدموا بنيانه ، وكلّما أجروا عليه الماء , غار
وحار واستدار بقدرة العزيز الجبّار ، ولم يصل قطرة واحدة إلى قبر الحُسين (عليه
السّلام) , وكان القبر الشّريف إذا جاءه الماء
, ترتفع أرضه بإذن الله تعالى
، فتعجّب زيد المجنون مما شاهده
, وقال : انظر يا بهلول (
يُرِيدُونَ
أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ
يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ )(1)
. قال : ولم
يزل المتوكل يأمر بحرث قبر
الحُسين مدّة عشرين سنة ، والقبر على حاله لم يتغير ولا
تعلوه قطرة من الماء ،
فلمّا نظر الحارث إلى ذلك ، قال
: آمنت بالله وبمُحمّد رسول الله
، والله , لاهربنّ على وجهي وأهيم في البراري ولا أحرث قبر
الحُسين ابن بنت رسول الله ، وإنّ لي مدّة عشرين سنة أنظر آيات الله وأشاهد براهين آل
بيت رسول الله ، ولا اتعظ ولا اعتبر . ثمّ أنّه حلّ الثّيران وطرح الفدان وأقبل يمشي
نحو زيد المجنون وقال له : من أين أقبلت يا شيخ ؟ قال : من مصر . فقال له : ولأيّ
شيء جئت إلى هُنا وإنّي أخشى عليك من القتل , فبكى زيد وقال : والله قد بلغني حرث
قبر الحُسين (عليه السّلام)
, فأحزنني ذلك وهيّج حزني ووجدي
. فانكبّ الحارث على أقدام زيد يقبّلهما
, وهو يقول : فداك
أبي واُمّي ! فو الله يا شيخ
, من حين ما أقبلت إليّ
, أقبلت إليّ الرّحمة واستنار قلبي بنور
ـــــــــــــ
(1) سورة
التّوبة / 32 .
الصفحة (114)
الله
, وإنّي
آمنت بالله ورسوله
, وإنّ لي مدّة عشرين سنة وأنا أحرث هذه الأرض ، وكلّما أجريت الماء
إلى قبر الحُسين , غار وحار واستدار ولم تصل إلى قبر
الحُسين منه قطرة ، وكأنّي كنت في
سكر وأفقت الآن ببركة قدومك إليّ
. فبكى زيد وتمثّل بهذه الأبيات :
تالله إن كـانت أمـية قـد iiأتت قـتل ابـن بنت نبيها iiمظلوما
فـلقد أتـاه بـنو أبـيه بـمثله هـذا لـعمرك قـبره iiمـهدوما
اسفوا على أن لا يكونوا شاركوا فــي قـتله فـتتبعوه iiرمـيما
فبكي الحارث
وقال : يا زيد , قد أيقظتني من رقدتي وأرشدتني من غفلتي , وها أنا الآن ماض إلى المتوكل
بسر من رأى أعرّفه بصورة الحال , إن شاء أن يقتلني وإن شاء يتركني . فقال له زيد :
وأنا أيضاً أسير معك إليه وأساعدك على ذلك . قال : فلمّا دخل الحارث إلى المتوكل
وأخبره بما شاهد من برهان قبر الحُسين (عليه السّلام) , استشاط غيظاً وازداد بغضاً لأهل
بيت رسول الله
, وأمر بقتل الحارث
, وأمر أن يشد حبل في رجليه ويسحب على وجهه في
الأسواق ، ثمّ يُصلب في مجتمع النّاس
؛ ليكون عبرة لِمَن اعتبر ، ولا يبقى أحد يذكر أهل
البيت بخير أبداً .
أمّا زيد المجنون فإنّه ازداد حزنه واشتدّ عزاؤه وطال بكاؤه ، وصبر
حتّى انزلوه من الصّلب وألقوه على مزبلة هُناك ، فجاء إليه زيد فاحتمله إلى دجلة
وغسّله وكفّنه وصلّى عليه ودفنه ، وبقي ثلاثة أيّام لا يفارق قبره وهو يتلو كتاب الله
عنده ، فبينما هو ذات يوم جالس
, إذ سمع صراخاً عالياً ونوحاً شجياً وبكاء عظيماً
, ونساء بكثرة منشرات الشّعور مشققات الجيوب مسودّات الوجوه ، ورجالاً بكثرة يندبون
بالويل والثّبور
, والنّاس كافّة في اضطراب شديد
, وإذا بجنازة محمولة على أعناق الرّجال
وقد نشرت لها الأعلام والرّايات
, والنّاس من حولها أفواجاً قد انسدّت الطّرق من الرّجال
والنّساء ، قال زيد
: فظننت أنّ المتوكل قد مات
. فتقدّمت إلى رجل منهم وقلت له : مَن
يكون هذا الميت
؟ فقال : هذه جنازة جارية المتوكل
, وهي جارية سوداء حبشية وكان اسمها
ريحانة ، وكان يحبّها حبّاً شديداً
.
ثمّ إنّهم عملوا لها شأناً عظيماً
, ودفنوها في قبر
جديد وفرشوا فيه الورد والرّياحين والمسك والعنبر
, وبنوا عليها قبّة عالية ،
فلمّا نظر
زيد إلى ذلك , ازدادت
الصفحة (115)
أشجانه
وتصاعدت نيرانه , وجعل يلطم وجهه ويمزّق أطماره , وحثى التّراب على رأسه وهو يقول : وا
ويلاه ! وا أسفاه عليك يا حُسين ! أتقتل بالطّفّ غريباً وحيداً ظمآناً شهيداً ، وتُسبى
نساؤك وبناتك وعيالك وتُذبح أطفالك , ولم يبك عليك أحد من النّاس , وتُدفن بغير غسل ولا
كفن , ويُحرث بعد ذلك قبرك ؛ ليطفئوا نورك وأنت ابن عليّ المُرتضى وابن فاطمة
الزّهراء , ويكون هذا الشّأن العظيم لموت جارية سوداء
, ولم يكن الحزن والبكا لابن
مُحمّد المُصطفى .
قال : ولم يزل يبكي وينوح
حتّى غشي عليه والنّاس كافّة ينظرون إليه ، فمنهم من رقّ له
ومنهم من جثى عليه
, فلمّا أفاق من غشوته ، أنشأ يقول :
أيحرث بالطف قبر الحُسين ويـعمر قـبر بني iiالزانية
لـعل الزمان بهم قد iiيعود ويـأتـي بـدولتهم iiثـانية
ألا لـعن الله أهـل الفساد ومـن يـأمن الدنية iiالفانية
قال : ثمّ
إنّ زيداً كتب هذه الأبيات في ورقة وسلّمها لبعض حجّاب المتوكل , قال : فلمّا قرأها
, اشتدّ
غيظه وأمر باحضاره , فاُحضر , وجرى بينهما من الوعظ والتّوبيخ ما أغاظه حتّى أمر بقتله ،
فلمّا مثل بين يديه , سأله عن أبي تراب : مَن هو ؟ استحقاراً له ، فقال : والله , إنّك عارف
به وبفضله وشرفه وحسبه ونسبه ، فوالله , ما يجحد فضله إلا كلّ كافر مرتاب ولا يبغضه
إلا كلّ منافق كذّاب . وشرع يعدّد فضله ومناقبه , حتّى ذكر منها ما
أغاظ المتوكل , فأمر بحبسه فُحبس
, فلمّا أسدل الظّلام وهجع ، جاء إلى المتوكل هاتف ورفسه برجله ، وقال له : قُم
وأخرج زيداً وإلاّ أهلكك الله عاجلاً . فقام هو بنفسه وأخرج زيداً من حبسه وخلع
عليه خلعة سنية , وقال له : اطلب ما تريد . قال : أريد عمارة قبر الحُسين وأن لا
يتعرض أحد بزوّاره . فأمر له بذلك ، فخرج من عنده فرحاً مسروراً , وجعل يدور في
البلدان وهو يقول : مَن أراد زيارة قبر الحُسين , فله الأمان طول الأزمان .
وعلى الأطائب من أهل بيت الرّسول فليبك الباكون
, وإيّاهم فليندب
النّادبون ، ولمثلهم تذرف الدّموع من العيون ، أو لا تكونون كبعض مادحيهم حيث عرته
الأحزان والأشجان , فنظم وقال فيهم :
الصفحة (116)
القصيدة
للشيخ مُحمّد بن السّمين (رحمه الله)
أيـعذب مـن ورد الـجفاء ورود أيـزهر مـن ورد الـوفاء iiورود
ويـنبع مـن غرس الوداد ثمارها ويـورق مـن غصن المودة iiعود
فـيا من بدا ذا الود بالصد والجفا أيـحمل مـن بعد الوصال iiصدود
فإن تبخلوا بالوصل إنّي iiمواصل وبـالنفس إن ضـن الجواد iiأجود
وإن عـدتم يـوماً بـما قد iiبدأتم مـن الـغدر إنّـي بالوفاء iiأعود
وحـبل ذمـامي لا تـحل iiعقوده إذا حـل مـن حـبل الذمام عقود
وإن نـقضوا عـهد الوداد iiفإنني مــراع لأسـباب الـوداد iiودود
ومـا حال حال العهد عما iiعهدتم وإن رث عـقد الـعهد فهو iiجديد
ومـا كـادني أمـر يكيد احتماله ولـكـما نـقض الـعهود iiيـكيد
ولا بـدع إن أبدعتم نقض iiعهدكم فـقد نـقضت لابـن النّبي iiعهود
فكم تنقض الأرجاس عهداً iiوعقده وثـيق عـلى كـل الـعباد iiوكيد
وقـد جـاءه تترى صحائف iiجمة كـأوجههم عـند الـتوجه iiسـود
يـقولون إن الـضد باد وفي iiغد لـه فـي لظى بعد الدخول iiخلود
ونـحن بـلا وال وأنـت iiولـينا وأولـى بـنا مـنا ونـحن عبيد
فسر قصدنا قصداً فلا زلت مقصداً فـقصدك فـي كـل الأمور حميد
فإن لم تسر فارسل من الآل iiسيداً فـأنت لـسادات الأنـام iiعـميد
فـأرسل سـهماً مـن كـنانة iiآل مـصيباً لـدفع الـنائبات iiعـتيد
فـبـايعه مـنهم ألـوف iiتـألفت عـليه ولا يـحصى لـهن iiعديد
فـلم يـأتي إلاّ الليل حتّى تخاذلوا وبـان لـهم بـعد الوفاء iiصدود
وألـقوه مـذ ألـقوه قد جاء iiرائداً لـمرعى يولي في الصدور بزود
عـتواً مـن القصر المشيد iiمبوءاً لـه قـصر در في الجنان iiمشيد
فـفرق جـند الـحق من بعد قتله وجـمع مـن جند الضلال iiجنود
لـها ابـن زيـاد مرسل iiومجهز وأمـا ابـن سـعد لـلجنود iiيقود
إلـى حـرب مولانا الحُسين iiوآله تـسـارع مـنهم قـائد iiومـقود
طـبولهم فـي الـخافقين خوافق وتـخـفق رايـات لـهم وبـنود
الصفحة (117)
يـذاد عـن الـماء المباح وقد iiغدا لـجـل عـبـاد الله مـنـه iiورود
ويـمـنـعه مــن ورده ووروده كــفـور لآلاء الإلــه iiكـنـود
ولـست بـناس قـوله حال ما بدا يـخـاطبهم بـالـطف ثـمّ iiيـعيد
يـقول وقـد أبـدأ مـقالة مـعذر ويـعـلم أن الـقول لـيس iiيـفيد
إلـى سـبل فـيها الهداية iiفاعدلوا وعـن طـريق فيها الضلالة حيدوا
ولا تـكحلوا الأبصار بالبغي iiأعيناً مـراضـاً بـأميال الـعتو iiثـمود
وكـونوا أناساً أصلحوا ذات iiبينهم وآرائـهم فـي ابـن الـنّبي iiسديد
ألـم تـعلموا إنّـي الإمـام iiعليكم وإنــي لـلـه الـشـهيد iiشـهيد
وإن لـنـا حـكم الـمعاد iiوامـره يــؤول إلـينا والـحساب iiيـعود
وإن أبي يسقي على الحوض معشراً ويـطـرد عـنه مـعشراً iiويـذود
ولـولاه لـم يـخضر للدين iiعوده ولا قــام لـلإسلام قـط iiعـميد
وقـد قـلت هـذا القول والله عالم وقـاض بـه والـعالمون iiشـهود
فـقالوا عـلمنا مـا تقول فلا iiتزد فـقـولك هـذا مـا عـليه مـزيد
ولـكـنما انـفـاذ أمـر iiأمـيرنا يـزيـد لــه دون الأنـام iiنـريد
نـريد بـأن تـأتي يـزيد iiمـبائعاً فـرشدك أن تـأتي يـزيد iiنـريد
فـقال ولـلعين الـمبرح في iiالحشا كـلام وفـي الـقلب الـكليم iiوقود
سـلام عـلى الإسـلام بعد رعاته إذا كـان راعـي الـمسلمين iiيزيد
وكـيـف وأبـناء الـكرام iiبـذلة تـسـام وأبـنـاء الـلئام iiتـسود
وآب إلـى أنـصاره يطلب iiالرجا ويـوعد إذ حـقت لـديه iiوعـود
يـقول ابشروا فالقول من بعد iiهذه مـهد وعـيش فـي الجنان iiرغيد
وحـور حـسان مـا لـهن iiمناظر يـضاهي وفـي دار الـخلود خلود
وبـاتـوا ومـنهم ذاكـر iiومـسبح وراع ومـنـهم ركــع iiوسـجود
فـمذ بـزغت شمس الهياج مضيئة بـأفق سـماء الـبغي وهـو مديد
بـه الـنقع غـيم والبروق بوارق بـه الـويل نـبل والصراخ iiوعود
دعـاهم فـثابوا لـلثواب iiتـسابقاً إلـى الـموت إذ فـيه الحياة iiتعود
حـفـو حـفـيفاً مـقدمين iiكـأنهم لـيوث الـشرى عـند اللقاء iiأسود
الصفحة (118)
فـأورد كـل نـفسه مـورداً iiله صـدور ومن بعد الصدور iiورود
إلـى أن تـفانوا واحـد بعد واحد لـديـهم فـمنهم قـائم iiوحـصيد
وظـل بأرض الطف فرداً iiوحوله لآل زيـــاد عــدة iiوعـديـد
وتـنظره شـزراً من السمر والقنا نـواظـر إلاّ أنـهـن iiحـديـد
يـنادي أمـا مـن مسلم ذي حمية يـحامي وعـن آل الرسول يذود
أمـا من شهاب ثاقب يحرق iiالعدا بـنار فـشيطان الـطغاة iiعـنيد
أما من نصير ينصر الفرد iiنصرة لـينصر يـوم الـجمع وهو iiفريد
أمـا واحـد يأتي الوحيد iiموصلاً لـيوصل يـوم الفصل وهو iiوحيد
أمـا جـابر يأتي مجيراً iiويجيره إذا حـق فـي يـوم الوعيد iiوعيد
أمـا مـن شـقي والنفوس iiتخوفه تـوافيه إن وافـى لـدي iiسـعود
أمـا أكـمه في ليل غي فإن iiوفي أرى الفخر فخر الرشيد وهو رشيد
أمـا فـاسد رأيـاً إذا آب iiناصراً يـبلج وجـه الـرأي وهو iiسديد
فـلما رمـى عن قوس حقد iiبأسهم حــداد وكــل لـلجلاد iiمـريد
ثـنى صـده قـصد الخيام iiمودعاً لـهم مـوصياً بـالثبر وهو iiحميد
يـقول اصـبروا فالله جلّ iiجلاله يـوف لأجـر الـصابرين iiمزيد
وصـبراً جـميلاً آل بـيت مُحمّد فـمجدكم والـفضل لـيس iiيـبيد
إذا مـات مـنا سـيّد قـام iiسـيّد رقـيب عـلى كـل الأنـام شهيد
وبـعد فـزين الـعابدين iiخليفتي عـلى من له في ذا الوجود iiوجود
واسـتودع الرحمن ولدي iiوعترتي ومـن جـاء مـنهم والـد iiووليد
وألـوى على جيش العداة iiبعزمه تـكاد لـها شـم الـجبال iiتـميد
فـفر العدى من بأسه خيفة iiالردى كـما فـر من بأس الأسود iiصيود
فـغادرهم صـرعى لـديه iiومنهم جـريح تـولى هـارباً وطـريد
فـمذ حان حين أرسل القوم iiاسهما أصـيب بـها نـحر لـه ووريد
هـوى ثـاوياً فوق الثرى iiومحله لـه فـوق آفـاق السّماء iiصعود
وظـل صـريعاً بالطفوف iiونفسه بـها من سياق الموت وهو iiيجود
إلى أن قصى نحباً وعهداً iiوموعداً بـه جـاء مـن سر النّبي iiوعود
الصفحة (119)
تـقي نـقي طاهر ، طاهر iiالوفا وفـي مـجيد فـي الفعال iiحميد
ولـما غـدا الحر الجواد iiوسرجه خـلـى ولـلحر الـجواد فـقيد
بـرزن نـساء الهاشميات iiحسراً عـليهن مـن نسج الثكول iiبرود
تـوادين يـخدشن الوجوه iiتفجعاً وتـلطم بـالأيدي لـهن iiخـدود
وفـاطمة الـصغرى تعانق iiاختها سـكينة خـوف السبي وهو iiمكيد
وزيـنب مـا بـين النساء iiوقلبها قـريح وبـالأحزان فـهو iiكـميد
تـقول وللأحزان في القلب مبدع ومـبد لأسـرار الـهموم مـعيد
أخـي يابن أمي يا شقيقي iiوسيدي ومـن لـي من دون الأنام iiعميد
عـليك جفوني الذاريات iiذوارف وأمـا دمـوعي المرسلات تجود
أخـي مهجة الإسلام مقضي كآبة ومـتن الـهدى قد قدّ وهو iiعميد
أخي ثل عرش الدين وانهد iiركنه وعـطل مـنه إذا أصـبت حدود
أخـي مـن يلئم الشمل بعد iiشتاته ومـن لـبناء الـمكرمات iiيـشيد
أخـي مـن تـرى للجود iiوالندى إذا سـار وفـد أو أقـام iiوفـود
فـأنت لمن يبغي الوفادة iiوالجدي بـأنفس مـا يـسخو المفيد iiتفيد
وإن أجـدبت أرض فأنت iiربيعها وإن ضن صوب المزن أنت مجيد
وكـل مـصاب جـاء بعدك هين ومـا هان في هذا المصاب شديد
فيا شيعة المختار نوحوا iiلمصرع الـشهيد وبـالدمع الغزير iiفجودوا
تـطأه خـيول المجريات iiتجبراً ويـسفي عـليه بـعد ذاك iiصعيد
وآل رسـول الله يشهرن في الملأ وآل ابـن هـند في الخدور رقود
يـسار بآل المُصطفى فوق iiضمر وتـرفعهم بـيد وتـخفض iiبـيد
ورأس إمام السبط في رأس iiذابل طـويل عـلى رأس السنان iiيميد
ويـنـكثه بـالخيزران iiشـماتة بــه وسـروراً كـافر iiوعـنيد
ويـؤتى بـزين العابدين iiمصفداً وفــي قـدميه لـلحديد iiحـدود
فـقوموا بـأعباء الـعزاء iiفـإنه جـلـيل وأمـا غـيره iiفـزهيد
لأي مـصاب يذرف الشأن iiماءه وتـقضى نـفوس أو تـفت كبود
لأعـظم من هذا المصاب iiوخطبه عـظيم عـلى أهل السّماء iiشديد
الصفحة (120)
مـصاب لـه فـي كل قلب مصيبة سـهـام لـحـبات الـقلوب تـبيد
ولـلـهم هــم والـرزايا iiرزيـة ولـلـحزن حـزن زائـد iiويـزيد
إليكم يا بني الزّهراء يا من سمت بهم إلـى الـمجد آبـاء لـهم iiوجـدود
أوجـه وجـه الـمدح مـنّي iiلأنـه قـلائد فـي جـيد الـعلى iiوعـقود
لأنـي لـكم عـبد مـحب iiوحـبه قـديـم فـمـنه طــارف iiوتـليد
ومـا قـدر مـدح قـاله في iiعلاكم ومـدحكم فـي الـمحكمات iiعـتيد
ولـكن يـسر الأولـياء iiاسـتماعه ويـكـبت أعــداء لـكم وحـسود
فـيا مـن هـم فلك النجاة ومن iiهم هـداة وغـوث فـي الأنـام iiوجود
فـمذ كـان بدء الفضل منكم iiتفضلوا وجـودوا على نجل السمين وعودوا
فـأنتم لـه ذخـر إذا جـاء في iiغد ومـع كـل نـفس سـائق iiوشـهيد
عـليكم سـلام الله حـيث iiثـناؤكم حـكى نـشره نـد يـضوع iiوعود
وحـيث بـكم هـبت نسيم iiونسمت هـبـوب ولـلعيدان رنـح iiعـود
وأزهـر مـن زهر البروج iiزواهر وورد مـن زهـر الـمروج iiورود
الصفحة (121)
المجلس
السّادس
من الجزء
الثّاني في اليوم الثّامن من عشر المُحرّم
وفيه أبواب
ثلاثة
الباب الأوّل
أيّها
المؤمنون جودوا بماء العيون المخزون ، وأيّها السّامعون جدّدوا ثياب الأشجان والحزون
، وتساعدوا على النّياحة والعويل ، واسكبوا العبرات على الغريب القتيل
, واندبوا لِمَن
اهتزّ لفقده عرش الجليل
, ونوحوا
أيّها المحبّون لآل الرّسول وابكوا على مصاب أبناء
البتول ، وسحوا عليهم بالدّموع
, فإنّهم أعلام الأنام وأئمة أهل الإسلام
؛ فلعلّكم
تواسونهم في المصاب بإظهار الجزع والاكتئاب
والإعلام بالحنين والانتحاب ، فيا خيبة
من جهل فضلهم وأنكر قدرهم
, ولكنّها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصّدور
:
وقـفت عـلى الدار التي كنتم iiبها فـمغناكم مـن بـعد مـعناكم iiقفر
وقـد درست منها الرسوم iiوطالما بـها درس الـعلم الإلهي iiوالذكر
فـراق فـراق الـروح بعد iiبعدكم ودار برسم الدار في خاطري الفكر
روي عن زين
العابدين عليّ بن الحُسين (عليه السّلام) , قال : (( لمّا أتوا برأس أبي إلى يزيد
, فكان يتّخذه
بمجالس الشّراب ويأتي برأس أبي ويضعه بين يديه ويشرب عليه
, فحضر في مجلسه ذات يوم
رسول ملك الرّوم وكان من أشرافهم وعظمائهم ، فقال : يا ملك العرب
, هذا رأس مَن ؟ قال
يزيد لعنه الله : مالك بذلك
حاجة . قال : إنّى إذا رجعت إلى مَلكنا يسألني عن كلّ شيء
رأيته ,
الصفحة (122)
فأحببت أن
أخبره بقصّة هذا الرّأس
؛ حتّى يشاركك في الفرح والسّرور
. فقال له يزيد : هذا رأس
الحُسين بن عليّ بن أبي طالب
. قال : ومَن اُمّه ؟ قال : فاطمة
الزّهراء بنت مُحمّد المُصطفى . قال
النّصراني : أما تراني إذا حقّقت النّظر إليه يقشعرّ جسمي ، واسمعه يقرأ آيات من كتابك
, اُفّ لك ولدينك ، ديني خير من دينك ،
اعلم أنّ أبي من حوافد داود
(عليه السّلام)
, وبيني وبينه آباء كثيرة
, والنّصارى يعصمونني ويأخذون من تراب أقدامي
؛ تبرّكاً فيّ , وأنتم
تقتلون ابن بنت نبيّكم رسول الله
, وما بينكم وبينه إلاّ
اُمّ واحدة ؟ فأيّ دين أحسن من
دينكم , أما سمعت يا يزيد كنيسة الحافر
؟ فقال : لا والله
. قال له : اعلم أنّ بين
عمان والصّين بحر مسيرة سنة
, ليس فيه عمران إلاّ بلدة واحدة في وسط الماء
, طولها
ثمانون فرسخاً وعرضها مثله
, ما على وجه الأرض بلدة أكبر منها
, ومنها يحمل الكافور
والياقوت , وأشجارهم العود والعنبر
, وهي في أيدي النّصارى لا ملك عليهم
, وفيها كنائس
كثيرة , لكن أعظمها كنيسة الحافر في محرابها حقّة من ذهب ، معلّق بها حافر يزعمون أنّه
حمار عيسى (عليه السّلام) , وقد زخرفوا حول الحقّة بالذّهب والدّيباج
, يقصدها في كلّ عام
عالم من النّصارى
, يطوفون حولها ويقبّلونها ويرفعون حوائجهم إلى الله تعالى ، وأنتم
تقتلون ابن بنت نبيّكم
؟! لا بارك الله فيكم ولا في دينكم
.
فاغتاظ يزيد لعنه الله وقال
: اقتلوا هذا النّصراني
؛ لكي لا يفضحنا في بلاده . فلمّا أحسّ
النّصراني بذلك
, قال : أمرت بقتلي ؟ قال : نعم
. فخرّ ساجداً إلى الأرض شكراً لله
تعالى ، وقال : اعلم
إنّي رأيت البارحة نبيّكم في المنام وهو يقول :
يا نصراني
, أنت من
أهل الجنّة . فعجبت غاية العجب ، فوثب إلى الرّأس وضمّه إلى صدره ونادى : السّلام عليك
يا أبا عبد الله
الحُسين ورحمة الله وبركاته ،
اشهد لي عند ربّك وجدّك وأبيك واُمّك
وأخيك , بأنّي : أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ مُحمّداً رسول
الله ، وأنّ عليّاً ولي الله
)) . فغاروا عليه بالسّيوف وقطّعوه رحمه الله تعالى :
هدأت العيون ودمع عينك iiيهمل سحاً كما وكف الضباب المخضل
وكـأنما بـين الـجوانح والحشا مـما تـأويني شـهاب iiمـدخل
الصفحة (123)
وجـداً على النفر الذين تتابعوا يـوماً بـموته اسندوا لم iiيقفلوا
فـتغير الـقمر الـمنير لفقدهم والشمس قد كسفت وكادت تأفل
قـوم عـلا بـنيانهم من هاشم فـرع اشـم وسـؤدد ما iiينقل
قـوم بهم نصروا الإله iiرسوله وعـليهم نـزل الكتاب المنزل
وبـهديهم رضـي الإله لخلقه وبـجدهم نصر النّبي المرسل
روي
: أنّ
رجلاً مؤمناً من أكابر بلاد بلخ
, كان يحجّ بيت الله الحرام ويزور قبر
النّبي في أكثر
الأعوام ، وكان يأتي
عليّ بن الحُسين فيزوره ، ويحمل إليه الهدايا والتّحف ويأخذ مصالح
دينه منه ثمّ يرجع إلى بلاده ، فقالت له زوجته : أراك تهدي تحفاً كثيرة ولا أراه
يجازيك عنها بشيء
؟ فقال : إنّ الرّجل الذي نهدي إليه هدايانا هو ملك
الدُنيا والآخرة
، وجميع ما في أيدي النّاس تحت مُلكه
؛ لأنّه خليفة الله
في أرضه وحجّته على عباده ، وهو ابن رسول الله ، وهو إمامنا ومولانا
ومقتدانا
.
فلمّا سمعت ذلك منه ,
أمسكت عن ملامته ، قال :
ثمّ إنّ الرّجل تهيّأ للحج مرّة
اُخرى في السّنة
القابلة وقصد
عليّ بن الحُسين , فاستأذن له فدخل فسلّم عليه وقبّل يديه
, ووجد بين يديه
طعاماً فقرّبه إليه وأمره بالأكل معه ، فأكل الرّجل حسب كفايته ،
ثمّ استدعى بطشت وإبريق فيه ماء , فقام الرّجل فأخذ الإبريق وصبّ الماء على يدي الإمام
، فقال الإمام : (( يا شيخ , أنت ضيفنا فكيف تصبّ على يدي الماء ؟
)) . فقال : إنّي أحبّ ذلك . فقال الإمام
(عليه السّلام) : (( حيث أنّك أحببت ذلك
, فوالله لأريك ما تحبّ وترضى به وتقرّ به عيناك
)) . فصبّ الرّجل
الماء على يديه
حتّى امتلأ ثلث الطّشت ، فقال الإمام للرجل :
(( ما هذا ؟ )) . قال : ماء
.
فقال الإمام :
(( بل هو ياقوت أحمر
)) . فنظر الرّجل إليه
, فإذا هو قد صار ياقوتاً أحمر
بإذن الله تعالى ،
ثمّ قال الإمام (عليه
السّلام) : (( يا رجل , صبّ الماء أيضاً
)) . فصبّ الماء
على يدي الإمام مرّة
اُخرى
حتّى امتلأ ثلثي الطّشت ، فقال له :
(( ما هذا ؟ )) . قال : هذا
ماء . فقال الإمام :
(( بل هذا زمرّد أخضر
)) . فنظر الرّجل إليه
, فإذا هو زمرّد أخضر ،
ثمّ قال الإمام أيضاً :
(( صبّ الماء يا رجل
)) . فصبّ الماء على يدي الإمام
حتّى امتلأ الطّشت ،
فقال للرجل :
(( ما هذا ؟ )) .
فقال : ماء . قال :
(( بل هذا درّ أبيض
)) . فنظر الرّجل إليه
, فإذا
هو درّ أبيض بإذن الله تعالى ، وصار الطّشت ملآناً
الصفحة (124)
من ثلاثة
ألوان ؛ درّ ، وياقوت ، وزمرّد
, فتعجّب الرّجل غاية العجب وانكبّ على يدي الإمام يقبّلهما
، فقال له : (( يا شيخ
, لم يكن عندنا شيء نكافيك على هداياك إلينا
, فخذ هذه الجواهر
فإنّها عوض هديتك
, واعتذر لنا عند زوجتك
؛ لأنّها عتبت علينا
)) .
فأطرق الرّجل رأسه خجلاً ،
وقال : يا سيّدي , مَن أنبأك بكلام زوجتي ؟ فلا شكّ أنّك من بيت النّبوة
.
ثمّ إنّ الرّجل ودّع
الإمام وأخذ الجواهر وسار بها إلى زوجته وحدّثها بالقصّة ، قالت : ومَن أعلمه بما قُلت
؟ فقال : ألم أقل لك إنّه من بيت العلم والآيات الباهرات
؟ فسجدت لله شكراً وأقسمت
على بعلها بالله العظيم
, أن يحملها معه إلى زيارته والنّظر إلى طلعته ،
فلمّا تجهّز
بعلها للحج في السّنة القابلة
, أخذها معه فمرضت المرأة في الطّريق وماتت قريباً من
مدينة الرّسول ، فجاء الرّجل إلى الإمام باكياً حزيناً وأخبره بموت زوجته
, وإنّها كانت
قاصدة إلى زيارته وزيارة
جدّه رسول الله ، فقام الإمام وصلّى ركعتين ودعا الله
سبحانه بدعوات لم تحجب ،
ثمّ التفت إلى الرّجل ، فقال له :
(( قُم وارجع إلى زوجتك
, فإنّ
الله عزّ وجلّ قد أحياها بقدرته وحكمته
, وهو
يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ(1)
)) .
فقام الرّجل مسرعاً
وهو فرح بين مصدّق ومكذّب ، فدخل إلى خيمته ، فرأى زوجته جالسة في الخيمة على حال
الصّحة , فزاد سروره واعتقد ضميره ، وقال لها : كيف أحياك الله تعالى ؟ فقالت : والله
, لقد جاءني ملك الموت وقبض روحي وهمّ أن يصعد بها
, وإذا برجل صفته كذا وكذا
, وجعلت
تعدد أوصافه الشّريفة وبعلها يقول لها
: نعم صدقتي , هذه صفة
سيّدي ومولاي عليّ بن الحُسين
(عليهما السّلام) , قالت : فلمّا رآه ملك الموت مُقبلاً
, انكبّ على قدميه يقبّلهما ويقول
: السّلام عليك يا
حجّة الله في أرضه ، السّلام عليك يا زين العابدين
. فردّ عليه السّلام
وقال له : (( يا ملك الموت
, أعد روح هذه المرأة إلى جسدها
؛ فإنّها قاصدة إلينا
, وإنّي قد
سألت ربّي أن يبقيها ثلاثين سنة
اُخرى ويحييها حياة طيّبة
؛ لقدومها إلينا زائرة لنا
, فإنّ
للزائر علينا حقّاً واجباً
)) . فقال له الملك
: سمعاً وطاعة لك يا وليّ الله
.
ثمّ أعاد
روحي إلى جسدي وأنا أنظر إلى ملك الموت قبّل يده الشّريفة وخرج عنّي
. فأخذ الرّجل بيد
زوجته وأتى بها إلى مجلس الإمام وهو بين أصحابه ، وانكبّت على ركبتيه تقبّلهما وهي
تقول : هذا والله
سيّدي ومولاي , هذا الذي أحياني الله
ـــــــــــــــ
(1)
سورة يس / 78 .
الصفحة (125)
ببركة دعائه
.
قال : ولم تزل المرأة مع بعلها مجاورين عند الإمام بقية أعمارهما
, بعيشة طيّبة في
البلدة الطّيبة إلى أن ماتا رحمة الله عليهما
.
فيا إخواني : إذا كان الإمام زين
العباد هذه حالته عند الله
, كيف يستحقّ أن تغل يداه وتسبى نساؤه ويحملنّ على أقتاب
الجمال بغير وطاء
, ويُطاف بهنّ البلدان بين أهل العناد حزب الشّيطان
, فلا حول ولا قوة
إلاّ بالله وعلى ظالمي أهل البيت لعنة الله .
روي عن حذلم
بن بشير , قال : قدمت الكوفة في المحرّم سنة إحدى وستين , وقت منصرف عليّ بن الحُسين
(عليه السّلام) بالنّسوة من كربلاء ومنهم الأجناد يحيطون بهم
, وقد خرج النّاس لينظروا إليهم ،
فلمّا اُقبل بهم على الجمال بغير وطاء ولا غطاء
, جعلنّ نساء الكوفة يبكين ويندبن ،
فسمعت عليّ بن الحُسين وهو يقول ـ وقد
نهكته العلّة وفي عنقه الجامعة ويده مغلولة إلى عنقه ـ : (( إنّ هؤلاء النّسوة يبكين
, فمَن
قتلنا ؟ )) . قال : ورأيت زينب بنت عليّ (عليهما السّلام) ولم أر خفرة أنطق منها ، كأنّها تفرغ من لسان أمير المؤمنين
(عليه السّلام) ،
قال : وقد أومت إلى النّاس أن اسكتوا ، فارتدّت الأنفاس وسكنت الأصوات
, فقالت : الحمد
لله والصّلاة على أبي رسول الله
(صلّى الله عليه وآله) , أمّا بعد , يا أهل
الكوفة , فلا رقّت لكم العبرة ولا هدأت الرّنة ، فإنّما مثلكم كالتي نقضت غزلها من بعد
قوّة أنكاثا ، تتخذون
أيمانكم دخلاً بينكم ، ألا وهل فيكم إلاّ الصّلف الظّلف ،
والصّرم السّرف ، خوّارون في اللقاء عاجزون عن الأعداء
, ناكثون في البيعة مضيّعون
للذمّة ، فبئس ما قدّمت لكم أنفسكم إن سخط الله عليكم
, وفي العذاب أنتم خالدون ،
أتبكون ؟ أي والله
, فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً ، فلقد فزتم بعارها وشنارها ،
ولن تغسلوا دنسها عنكم أبدا ، فسليل خاتم الرّسالة وسيّد شباب أهل
الجنّة , وملاذ
خيرتكم ومفزع نازلتكم
, وإمارة محجّتكم ومدرجة حجّتكم
, خذلتم وله قتلتم ، ألا ساء ما
تزرون فتعساً ونكساً
, ولقد خاب السّعي وتبّت الأيدي وخسرت الصّفقة
, وبؤتم بغضب من الله
, وضربت عليكم الذّلة والمسكنة
, ويلكم أتدرون أيّ كبد لمُحمّد فريتم
؟! وأيّ دم له سفكتم
؟ وأيّ
كريمة له أبرزتم
؟ لقد جئتم شيئاً إدّا (
تَكَادُ
السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ
هَدًّا )(1)
ولقد أتيتم بها
؛ خرقاء شوهاء بلاغ الأرض والسّماء ، أفعجبتم أن قطرت
السّماء دماً ،
ولعذاب الآخرة
ـــــــــــــــــ
(1) سورة
مريم / 90 .
الصفحة (126)
أخزى ، فلا
يستخفنّكم المهل
, فإنّه لا يحقره البدار
ولا يخاف عليه فوت النّار :
( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ )(1)
.
قال : ثمّ سكتت ، فرأيت النّاس حيارى قد ردّوا أيديهم على أفواههم ، ورأيت شيخاً قد
بكى حتّى اُخضبت لحيته وهو يقول :
كهولهم خير
الكهول ونسلهم إذا عد نسل لا يخيب ويخزي
وعلى الأطائب من أهل بيت الرّسول فليبك الباكون
, وإيّاهم فليندب
النّادبون ، ولمثلهم تذرف الدّموع من العيون ، أو لا تكونون كبعض مادحيهم حيث عرته
الأحزان والأشجان , فنظم وقال فيهم :
القصيدة
للشيخ صالح بن العرندس (رحمه الله)
طـوايا نـظامي في الزمان لها iiنثر يـعطرها مـن طـيب ذكركم iiنشر
قـصائد مـا خـابت لـهن iiمقاصد ظـواهرها حـمد ، بـواطنها شكر
مـطالعها تـحكي الـنجوم iiطوالعاً وأنـوارها زهـر واخـلاقها iiزهر
عـرائس تـجلى حين تجلى iiقلوبنا أكـالـيلها در وتـيـجانها iiتـبـر
حـسان لـها حسان بالفضل iiشاهد عـلى وجـهها بشر يدين لها iiبشر
أنـظمها نظم اللئالي وأسهر iiالليالي لـيـحيى لـي بـكم وبـها iiذكـر
فـيا سـاكني أرض الطفوف iiعليكم سـلام مـحب مـا له عنكم iiصبر
نـشرت دواويـن الـثنا بعد iiطيبها ففي كل طرس من مديحي لكم سطر
فـطابق شـعري فيكم دمع iiناظري فـسر غـرامي شـائع بـكم iiجهر
لـئالي نـظامي في عقيق iiمدامعي فـمبيض ذا نـظم ومـحمر ذا iiنثر
فــلا تـتهموني بـالسلو iiفـإنما مـواعيد سـلواني وحـقكم iiالحشر
فـذلي بـكم عـز وفقري بكم iiغنى وكسري بكم جبر وعسري بكم iiيسر
تروق بروق السحب لي من دياركم فـينهل مـن دمـعي بيارقها iiالقطر
فـعيناي كـالخنساء تجري iiدموعها وقـلبي شـديد فـي محبتكم iiصخر
وقـفت عـلى الـدار التي كنتم بها ومـغناكم مـن بـعد مـعناكم iiقفر
وقـد درسـت منها الرسوم iiوطالما بـها درّس الـعلم الإلـهي iiوالذكر
فـراق فراق الروح من بعد iiبعدكم ودار برسم الدار في خاطرى iiالفكر
ــــــــــــــ
(1)
سورة الفجر / 14 .
الصفحة (127)
وسـالت عليها من دموعي iiسحائب إلى أن تروي ألبان بالدكمع iiوالسدر
وقـد أقلعت عنها السحاب ولا iiتجد ولا در مـن بـعد الـحُسين لها iiدر
إمـام الـهدى سـبط الـنبوة iiوالد الأئـمة رب الـنهى مولى له iiالأمر
أبـوه إمـام الـمُرتضى علم iiالهدى وصي رسول الله والصنو iiوالصهر
إمـام بـكته الإنـس والجن iiوالسما ووحـش الفلا والطير والبر iiوالبحر
لـه الـقبة البيضاء بالطف لم iiتزل يـطوف بـها حـزناً مـلائكة iiغر
وفـيـه رسـول الله قـال iiوقـوله صـحيح صريح ليس في ذلكم iiنكر
حـي بـثلاث مـا أحـاط iiبـمثلها ولـي فـمن زيد سواه ومن iiعمرو
لــه تـربة فـيها الـشفاء iiوقـبة يـجاب بـها الداعي إذا مسه iiالضر
وذريــة ذريــة مـنـه iiتـسعة أئـمة حـق لا ثـمان ولا iiعـشر
أيـقـتل ظـمآناً حـسين بـكربلا وفـي كـل عـضو من أنامله iiبحر
ووالده الساقي على الحوض في iiغد وفـاطمة مـاء الـفرات لـها iiمهر
فـوا لـهف نفسي للحسين وما جنى عـليه غداة الطف في حرية iiالشمر
رمــاه بـجيش كـالظلام iiقـسيه الأهـلة والـخرصان أنجمه iiالزاهر
لـراياته نـصب وأسـيافه iiجـزم ولـلنقع رفـع والـرماح لـها iiجر
تـجـمع فـيه مـن طـغاة iiأمـية عـصائب غـدر لا يـقوم لها iiعذر
وأرسـلها الـطاغي يـزيد iiلـيملك الـعراق ومـا اغنته شام وما iiمصر
وشـد لـهم أسـراً سـليل iiزيادها فـحل بـهم مـن شد أزرهم iiالوزر
وأمّـر فـيهم نـجل سـعد iiلنحسه فـما طال في الري اللعين له iiعمرو
فلما التقى الجمعان في أرض iiكربلا تـباعد فـمل الـخير واقترب الشر
فـداروا بـه في عشر شهر iiمحرم وبيض للمواضي في الأكف لها شمر
فـقام الـفتى لـمّا تـشاجرت القنا وصـال وقـد أودى بـمهجته iiالحر
وجـال يـطوف فـي المجال iiكأنه دجـى الـليل في لألاء غرته iiالفجر
لـه أربـع لـلريح فـيهن iiأربـع لـقد زانـه كـر ومـا شـأنه iiالفر
فـفرق جـمع الـقوم حـتّى كأنهم طـيور بـغاث شت شملهم iiالصقر
فـأذكـرهم لـيل الـهرير فـأجمع الـكلاب عـلى ذاك الهرير وقد iiهر
الصفحة (128)
هـناك فـدته الـصالحون iiبـأنفس يضاعف في يوم الحساب لها الأجر
وحـادوا عـن الكفار طوعاً iiلنصره وجـادله بـالنفس مـن سعده iiالحر
ومــدوا إلـيـه ذبـلاً iiسـمهرية لـطول حياة السبط من مدها iiجزر
فـغادره فـي مـأزق الحرب مارق بـشهم لـنحر السبط من وقعه iiنحر
فمال عن الطرف الجواد أخو iiالندى الـجواد قـتيلاً حوله يصهر iiالمهر
سـنان سـنان خارق منه في iiالحشا وصـارم شـمر في الوريد له iiشمر
تـجر عـليه الـعاصفات iiذيـولها ومـن نسج أيدي الصافنات له iiطمر
زجـت لـه السبع الشداد iiوزلزلت رواسي جبال الأرض والتطم البحر
فـيا لـك مـقتولاً بـكته السما iiدماً فـمغبر وجـه الأرض بالدم iiمحمر
مـلابسه في الحرب حمر من iiالدما \وهن غداة الحشر من سندس iiخضر
ولـهفي لـزين العابدين وقد iiسرى أسـيراً عـليلاً لا يـفك لـه iiأسر
وآل رسـول الله تـسبى نـساؤهم ومـن حـولهن الستر يهتك iiوالخدر
سـبايا بـأكوار الـمطايا حـواسراً يـلاحظهن الـعبد في الناس iiوالحر
ورمـلة فـي ظل القصور iiمصانة يـناط عـلى أقـراطها النير iiوالدر
فـويل يـزيد مـن عـذاب iiجهنم إذا اقـبلت في الحشر فاطمة iiالطهر
مـلابسها ثـوب مـن الـسم iiأسود وآخـر قـان من دم السبط iiمحمرد
تـنادي وأبـصار الأنـام iiشواخص وفـي كـل قـلب من مهابتها iiذعر
وتـشكو إلـى الله الـعلي iiوصوتها عـليّ ومـولانا عـليّ لـها iiظهر
فـلا يـنطق الطاغي يزيد بما iiجنى وإنـي لـه عـذر ومن شأنه iiالغدر
فـيؤخذ مـنه بـالقصاص iiفـيحرم الـنعيم ويصلّى في الجحيم له iiقعر
أيـقرع جـهراً ثـغر سـبط iiمُحمّد وصاحب ذاك الثغر يحمى به iiالثغر
ويـشدو لـه الـشادي فيطربه iiالغنا ويسكب في الكأس النظار له iiالخمر
فـداك الغنا في البعث تصحيفه iiالعنا وتصحيف ذاك الخمر في قلبه الجمر
ولـيـس لأخـذ الـثار إلاّ iiخـليفة يـكون لـكسر الدين من عدله iiجبر
تـطوف بـه الأملاك من كل جانب ويـقدمه الإقـبال والـعز iiوالنصر
عـوامله فـي الـدار عين iiخوارق وحـاجبه عـيسى وناصره iiالخضر
تـظـلله حـقـاً غـمـامة iiجـدّه إذا مـا الـملوك الصيد ظللها iiالحتر
الصفحة (129)
مـحيط عـلى عـلم الـنبوة iiصـدره فـطوبى لـعلم ضـمه ذلـك iiالـصدر
هـو ابـن الإمـام الـعسكري iiمُـحمّد الـتقي الـنقي الـعالم الـعلم iiالـحبر
سـليل عـليّ الـهادي نـجل مُـحمّد الـجواد ومـن بـأرض طوس له iiقبر
علي الرضا وهو ابن موسى الذي قضى فـفاح عـلى بـغداد مـن نشره iiعطر
وصـادق قـول إنـه نـجل صـادق إمـام بـه فـي الـعلم يـفتخر الفخر
نـتـيجة مـولانـا الإمــام iiمُـحمّد إمــام لـعـلم الأنـبـياء بـه iiبـقر
سـلالة زيـن الـعابدين الـذي iiبـكى فـمن دمـعه يـبس الأعاشيب iiمخضر
سـلـيل الـحُسين الـفاطمي iiوحـيدر الـوصي فـمن طهر نمى ذلك iiالطهر
لـه الـحسن الـمسموم عـم iiفـحبذا الإمـام الـذي عـم الورى جوده الغمر
سـمـي رســول الله وارث iiعـلمه إمــام عـلـى آبـائه نـزل iiالـذكر
هـم الـنور نـور الله جـل iiجـلاله هـم الـتين والـزيتون والشفع iiوالوتر
مـهـابط وحــي الله خـزان عـلمه مـيامين فـي أبـياتهم يـقبل iiالـنذر
وأسـمـاؤهم مـكتوبة فـوق iiعـرشه ومـكنونة مـن قـبل أن يـخلق iiالذر
فـلـولاهم لــم يـخـلق الله iiآدمـاً ولا كـان زيـد فـي الأنام ولا iiعمرو
ولا سـطحت أرض ولا رفـعت iiسماً ولا طـلعت شـمس ولا أشـرق iiالبدر
ونـوح بـهم فـي الـفلك لمّا دعا iiنجا وغـيض بـه طـوفانه وقضي iiالأمر
ولـولا نـارهم نـار الخليل لمّا iiغدت سـلاماً وبـرداً وانـطفأ ذلـك iiالجمر
ولـولاهـم يـعقوب مـا زال iiحـزنه ولا كـان عـن أيـوب يكشف iiالضر
ولان لـــداود الـحـديد iiبـسـرهم فـقدر فـي سـرد يـحير لـه iiالفكر
ولـمـا سـليمان الـبساط بـهم iiدعـا أسـيلت لـه عـين يـفيض بها القطر
وسـخـرت الـريح الـرخاء بـأمره فـغـدوتها شـهـر وروحـتها iiشـهر
ولـولاهم مـا كـان عـيسى بن iiمريم لـغادر مـن طـي الـلحود لـه نشر
سـرى سـرهم فـي الكائنات iiوفضلهم فـكل نـبي فـيه مـن سـرهم iiسـر
مـصـابكم يــا آل طــه iiمـصيبة ورزء عـلى الإسـلام أحـدثه iiالـكفر
سـأنـدبكم يـا عـدتي عـند iiشـدتي وأنـدبـكم حـزناً إذا أقـبل iiالـعشر
وأبـكيكم مـا دمـت حـياً فـإن iiأمت سـتبكيكم بـعدي الـمراثي iiوالـشعر
الصفحة (130)
وكيف يحيط الواصفون iiبمدحكم وفي مدح آيات الكتاب لكم iiذكر
ومـولدكم بـطحاء مكة iiوالصفا وزمزم والبيت المحرم iiوالحجر
جـعلتكم يـوم الـمعاد iiذخيرتي فطوبى لمن أمسى وأنتم له iiذخر
عرائس فكر الصالح بن عرندس قـبولكم يـا آل طـه لها iiمهر
سـيبلى الجديدان الجديد iiوحبكم جـديد بقلبي ليس يخنقه iiالدهر
عـليكم سـلام الله ما لاح iiبارق وحلت عقود المزن وانتثر القطر
الباب الثّاني
العجب من
يرضى من ذوي العقول بالدُنيا داراً بعد آل الرّسول
! غدرت بمواليها فلا خير والله ولا
بركة فيها ، فرحم الله من اتخذ فيها الزّاد ليوم الحشر والمعاد
, وجعلها إلى ما تقدم
من صالح الأعمال بعد انقضاء الأعمار والآجال . ولعمري
, لا عمل فيها أعظم من موالاة
الآل ؛ لدفع تلك الأثقال العضال والمشاق والأهوال .
فوا عجباه ممّن مال من الحقّ إلى
الباطل ، وارتكب مثل هذا الخطب الهائل
, وتجرّئ على انتهاك ذرّيّة الرّسول وأولاد فاطمة
البتول ، وما ذاك إلاّ لطلب
الدُنيا ونعيمها , وما قدره لو صح بالنّسبة إلى
النّار وجحيمها :
هب الدُنيا تساقي إليك عفواً أليس مصير ذاك إلى زوال
وهـل دنياك إلاّ مثل iiفيء أضـلك ثـمّ أذن iiبـانتقال
فما ترجو لشيء ليس iiيبقى سريع لا يدوم على iiالليالي
لعلّهم ما
عرفوا حالاتهم ولم يبلغهم شيء من معجزاتهم
, بلى والله , لقد سمعوا وعرفوا وعاهدوا وما
وفوا ( وَسَيَعْلَمُ
الّذِينَ ظَلَمُوا أَيّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ )(1)
.
نُقل
: أنّه لمّا رجع النّبي من غزاة خيبر إلى المدينة
, جاءته امرأة يهودية قد أظهرت له
الإسلام , ومعها لحم ذراع جمل مشوي فيه سمّ
, فوضعته بين يديه
, فقال لها : (( ما هذا ؟
)) . فقالت
له : فداك أبي واُمّي يا رسول الله
! لقد همّني أمرك في غزوتك إلى خيبر
, فإنّي أعرفهم
رجالاً شجعاناً
, وهذا لحم ذراع جمل لي قد ربّيته صغيراً
, وعلمت أنّ أحبّ الأطعمة إليك
الشّواء من لحم الذّراع
, فنذرت لله نذراً إن سلّمك الله من وقعة خيبر وظفرك الله بهم
, لأذبحنّ جملي واجعل لحمه صدقة عنك
, وقد جئت بهذا منه إليك
؛ لأوفي نذري ، قال : وكان من
جلساء رسول الله رجل يُقال
ــــــــــــــ
(1)
سورة الشّعراء / 227 .
الصفحة (131)
له البرّاء(1) فمدّ يده وأخذ من ذلك اللحم فوضعها في فيه ، فقال له
عليّ : (( يا برا , لا تتقدّم على
رسول الله أبداً
)) . فقال البرّاء ـ وكان أعرابياً
ـ : يا
عليّ , كأنّك تبخل رسول الله ؟ فقال
عليّ : (( لا والله
, ما أبخل رسول الله ، ولكنّي
اُبجّله واُوقّره واُعظّمه ، وليس لي ولا لك
ولا لأحد من خلق الله أن يتقدّم على رسول الله
؛ بقول ولا فعل ولا أكل ولا شرب
)) . فقال
البرّاء : لست تريد هذا
, ولكنّك تبخل رسول الله
. فقال
عليّ : (( يا برا , هذا طعام جاءت به
امرأة وكانت من قبل يهودية ولسنا نعرف حالها
, فإذا أكلت به بأمر رسول الله فهو
الضّامن لسلامتك منه
, وإذا أكلت بغير إذنه وكّلك الله نفسك
, فربما يكون هذا الطّعام
مسموم )) . قال : فبينما
عليّ يخاطب البرّاء بهذا الكلام والبرّاء يلوك اللقمة في فمه
, إذ أنطق
الله الذّراع بلسان فصيح يقول : يا رسول الله
, لا تأكلني فإنّي مسموم
. فسقط البرّاء
مغشيّاً عليه , ولم يرفع من مكانه إلاّ ميتاً .
فقال رسول الله :
(( ائتوني بالمرأة
)) . فأتوا
بها , فقال لها بلطف ورفق
: (( ما حملك على ذلك ؟
)) . فقالت :
يا مُحمّد , قد قتلت أبي وعمّي وأخي
وبعلي وولدي , فهذا الذي حملني على ذلك
, فجئت إليك بهذا السّم وقُلت في نفسي
: إن كان
مُحمّد نبيّاً حقّاً , فسيمنعه الله من أكله أو يأكله ولا يضرّه السّم ، وإن كان كاذباً
, فإنّي
أنتقم منه حيث قتل قومي ورجالي
. فقال رسول الله
(صلّى الله عليه وآله) : (( يا
هذانة , لن يضرّنا موت البرّاء
, فإنّما امتحنه الله
؛ لتقدّمه عليّ , ولو أنّه كان يأكل بأمري
, لكفاه الله أذية السّم
)) .
ثمّ إنّ رسول الله
(صلّى الله عليه وآله) قال : (( هلمّ يا
سلمان ويا عمار ويا مقداد ويا أبا ذر
, هلمّوا جميعاً فكلوا من هذا الطّعام
)) . فمدّ رسول
الله يده وقال :
(( بسم الله الشّافي
, بسم الله الكافي
, بسم الله المعافي
, بسم الله الذي
لا يضرّ مع اسمه شيء في الأرض ولا في
السّماء وهو السّميع العليم
)) .
ثمّ أكل مع جميع
أصحابه حتّى شبعوا والمرأة واقفة تنظر إليهم ، فقال لها رسول الله
(صلّى الله عليه وآله) : (( أليس أكلنا بحضرتك من هذا الطّعام المسموم
, فكيف رأيت دفع الله عن
نبيّه وأصحابه أذية السّم ؟
)) . فقالت : يا رسول الله
,
إنّي كنت شاكّة في نبوّتك
, والآن قد
أيقنت أنّك رسول الله حقّاً وصدقاً
, وأنا : أشهد أن لا إله إلاّ الله
, وأنّك مُحمّداً رسول
الله . وأسلمت وأحسنت
إسلامها .
قال :
فلمّا حُملت جنازة البرّاء إلى رسول الله
ـــــــــــــ
(1) الظّاهر
أنّه ليس ابن عازب ، لأنّه بقي إلى أن قُتل
الحُسين , كما تقدّم القول فيه في الباب الثّالث
من المجلس الثّامن ، من مجالس هذا الكتاب في الجزء الأوّل . |