المنتخب للطريحي الجزء الثاني

 
 

الصفحة (232)

من كندة على وجهه , وآخر ضربه على مفرق رأسه , وحمل عليه جوشن(1) فقطعه وأصاب السّيف رأسه فسال الدّم منه وأخذ منه البرنس ، فقال له الحُسين (عليه السّلام) : (( لا أكلت بيمينك ولا شربت بها وحشرك الله مع القوم الظّالمين )) .

قال : فأقبل الكندي بالبرنس إلى منزله , فقال لزوجته : هذا برنس الحُسين فاغسليه من الدّم ، فبكت وقالت له : ويلك قتلت الحُسين وسلبت برنسه ! والله لا صبّحتك أبداً . فوثب إليها ليلطمها فانحرفت عن اللطمة , فأصابت يده الباب التي في الدّار , فدخل مسمار في يده فعملت عليه حتّى قطعت من وقته , ولم يزل فقيراً حتّى مات لا رضي الله عنه .

 وطعنه سنان بن أنس النّخعي برمح , وبادر إليه خولّى بن يزيد ليجتز رأسه , فرمقه بعينيه فارتعدت فرائصه منه فلم يجسر عليه وولّى عنه . ثمّ ابتدر إليه أربعون فارساً كلّ يريد قطع رأسه , وعمر بن سعد لعنه الله يقول : عجّلوا عليه عجّلوا عليه . فدنا إليه شبث بن ربعي وبيده سيف ليجتز رأسه , فرمقه (عليه السّلام) بطرفه فرمى السّيف من يده وولّى هارباً وهو ينادي : معاذ الله يا حُسين أن ألقى أباك بدمك .

 قال : فأقبل إليه رجل قبيح الخلقة كوسج اللحية أبرص اللون يُقال له سنان , فنظر إليه (عليه السّلام) فلم يجسر عليه وولّى هارباً وهو يقول : ما لك يا عمر بن سعد غضب الله عليك , أردت أن يكون مُحمّد خصمي .

فنادى ابن سعد : من يأتيني برأسه وله ما يتهنى به ؟ فقال الشّمر : أنا أيّها الأمير . فقال : اسرع ولك الجائزة العُظمى . فأقبل إلى الحُسين ـ وقد كان غشي عليه ـ فدنا إليه وبرك على صدره , فحسّ به (عليه السّلام) وقال : (( يا ويلك من أنت فقد ارتقيت مرتقى عظيماً ؟! )) . فقال : هو الشّمر . فقال له : (( ويلك مَن أنا ؟! )) . فقال : أنت الحُسين بن عليّ وابن فاطمة الزّهراء وجدّك مُحمّد المُصطفى . فقال الحُسين : (( ويلك إذا عرفت هذا حسبي ونسبي , فلِمَ تقتلني ؟! )) . فقال الشّمر : إن لم أقتلك فمَن يأخذ الجائزة من يزيد ؟ فقال (عليه السّلام) : (( أيما أحبّ إليك الجائزة من يزيد أو شفاعة جدّي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ؟ )) . فقال اللعين : دانق من الجائزة أحبّ إليّ منك ومن جدّك . فقال الحُسين (عليه السّلام) : (( إذا كان لا بدّ من قتلي فاسقني شربة من الماء )) . فقال له : هيهات والله لا ذقت قطرة واحدة من الماء حتّى تذوق الموت غصّة بعد غصّة . فقال له : (( ويلك اكشف لي عن وجهك وبطنك ! )) . فكشف له , فإذا هو أبقع أبرص

ـــــــــــــــ
(1) هكذا هو الوارد في هذا الكتاب , ولكن الوارد في شرح الأخبار 3/163 : من كندة يُقال له مالك بن بشير . وفي الإرشاد 2/110 : مالك بن النّسر الكندي . وفي روضة الواعظين /188 : رجل يقال له مالك بن انس . وفي مثير الأحزان /55 : مالك بن النّثر . وفي أعلام الورى بأعلام الهدى 1/467 : مالك الكندي . وغيرهم قالوا غير ذلك . (معهد الإمامين الحسنين) .

الصفحة (233)

له صورة تشبه الكلاب والخنازير , فقال الحُسين (عليه السّلام) : (( صدق جدّي فيما قال )) . فقال : وما قال جدّك ؟ قال : (( يقول لأبي : يا عليّ , يقتل ولدك هذا رجل أبقع أبرص أشبه الخلق بالكلاب والخنازير )) . فغضب الشّمر من ذلك وقال : تشبّهني بالكلاب والخنازير , فو الله لأذبحنّك من قفاك . ثمّ قلبه على وجهه وجعل يقطع أوداجه روحي له الفداء وهو ينادي : (( وا جدّاه ! وا مُحمّداه ! وا أبا قاسماه ! وا أبتاه وا عليّاه ! أأقتل عطشاناً وجدّي مُحمّد المُصطفى ؟! أأقتل عطشاناً وأبي عليّ المُرتضى واُمّي فاطمة الزّهراء ؟! )) . فلمّا احتزّ الملعون رأسه , شاله في قناة فكبّر وكبّر العسكر معه , وشرع الحُسين في سلبه(1) , فأخذ سراويله بحر بن كعب , وأخذ عمامته أحبش بن يزيد ، وأخذ سيفه رجل من بني دارم , وانتهبوا رحله , فتزلزلت الأرض وأظلم الشّرق والغرب , وأخذت النّاس الصّواعق والرّجفة من كلّ جانب , وأمطرت السّماء دماً ، وانكسفت الشّمس لقتله ، وفيه يقول الشّاعر :

ألم تر أن الشمس أضحت مريضة      لـقتل حـسين والـبلاد iiاقشعرت
وإن قـتيل الـطف من آل iiهاشم      أذلّ رقــاب الـمسلمين iiفـذّلت

فيا فؤادي القريح من الكآبة والحزن لا تستريح ، أو ما يحقّ لهذا الرّزء الجليل أن تشقّ عليه القلوب فضلاً عن الجيوب .

نُقل : أنّه لمّا قُتل الحُسين (عليه السّلام) , جعل جواده يصهل ويحمحم ويتخطّى القتلى في المعركة واحداً بعد واحد ، فنظر إليه عمر بن سعد , فصاح بالرّجال : خذوه وآتوني به . وكان من جياد خيل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) , قال : فتراكضت الفرسان إليه , فجعل يرفس برجليه ويمانع عن نفسه ويكدم بفمه , حتّى قتل جماعة من النّاس ونكس فرساناً عن خيولهم ولم يقدروا عليه , فصاح ابن سعد : ويلكم تباعدوا عنه ودعوه لننظر ما يصنع ! فتباعدوا عنه ، فلمّا أمن الطّلب , جعل يتخطّى القتلى ويطلب الحُسين (عليه السّلام) , حتّى إذا وصل إليه , جعل يشمّ رائحته ويقبّله بفمه ويمرّغ ناصيته عليه , وهو مع ذلك يصهل ويبكي بكاء الثّكلى حتّى أعجب كلّ من حضر ، ثمّ انفلت يطلب خيمة النّساء وقد ملأ البيداء صهيلاً , فسمعت زينب صهيله , فأقبلت على سكينة وقالت : هذا فرس أخي الحُسين(ع) قد أقبل لعلّ معه شيئاً من الماء . فخرجت متخمّرة من باب الخباء تتطلّع إلى الفرس , فلمّا نظرتها , فإذا هي عارية من راكبها(2) والسّرج خال منه , فهتكت عند

ـــــــــــــــ

(1) هذا ما ورد في الكتاب , ولكن ورد في الكامل في التاريخ 4/78 , وتاريخ الطبري 4/346 , وغيرهم هو : وسُلب الحُسين ما كان عليه ... (معهد الإمامين الحسنين) .
(2) الأصح أن يقال : فلمّا نظرته , فإذا هو عار من راكبه . المقوّم .

الصفحة (234)

ذلك خمارها ونادت : والله قُتل الحُسين ! فسمعت زينب قولها فصرخت وبكت وأنشأت تقول :

شـرقت بـالريق في أخٍ فجعت iiبه      وكنت من قبل أرعى كل ذي جاري
فـالـوهم أحـسبه شـيئاً iiفـأندبه      لـولا الـتخيل ضاعت فيه iiأفكاري
قـد  كـنت آمـل آمـال أسر iiبها      لولا  القضاء الذي في حكمه iiجاري
جـاد  الـجواد فـلا أهـلاً بمقدمه      إلاّ بـوجه حـسين مـدرك iiالـثار
مـا لـلجواد لـحاه الله مـن فرس      أنـلا يـجد دون الـضيغم iiالجاري
يـا نفس صبراً على الدُنيا iiومحنتها      هـذا الـحُسين قتيل بالعرى عاري

قال : فخرجن النّساء فلطمن الخدود وشققن الجيوب وصحن : وا محمداه ! وا عليّاه ! وا فاطماه ! وا حسناه ! وا حُسيناه ! وارتفع الضّجيج وعلا الصّراخ , فصاح ابن سعد : أضرموا عليهم النّار في الخيمة . فقيل : يا ويلك يا عمر ! ما كفاك ما صنعت بالحُسين وتريد أن تحرق حرم رسول الله بالنّار ؟! لقد عزمت أن تخسف بنا الأرض . فأمرهم بعد ذلك بنهب ما في الخيم .

فيا ويلهم , ما أجرأهم على الله وعلى انتهاك حرمة رسول الله من غير جرم اجترموه ولا مكروه ارتكبوه ! فيا لها من مصيبة ما أوجعها ومن رزية ما أفجعها ! فكيف لا يحزن المحبّون وقد ذبح المبغضون ذرّيّة رسول الله من غير سبب ، وداروا برؤوسهم البلدان من غير أمر قد وجب ، وسبوا نساءهم على الجمال واُدخلوهم على يزيد في أذلّ الأحوال ؟! ما هو إلاّ شيء ( تَكَادُ السّماوَاتُ يَتَفَطّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقّ الْأَرْضُ وَتَخِرّ الْجِبَالُ هَدّاً )(1) :

ولـم  أنس من بين النساء سكينة      تـقول  ودمع العين يهمي ويهمل
أبـي يـا أبي يا خير ذخر iiفقدته      فيا  ضيعتي من ذا لضيمي iiأؤمل
أبـي يا أبي ما كان أسرع فرقتي      لـديك  فمن لي بعدك اليوم iiيكفل
أبـي  يا أبي من للشدائد iiيرتجي      ومن لي إذا ما غبت كهف وموئل
أبـي يـا أبي هل لا تعود iiلثاكل      تـعلّ  من الأحزان طوراً iiوتنهل
ومـن لـليتامى بعد بعدك iiسيّدي      ومـن  لـلأيامى كـافل iiومتكفل
فـعذب حـياتي بعد فقدك iiوالدي      ومـا دمـت حتّى للقيامة iiحنظل

ـــــــــــــــ
(1) سورة مريم / 90 .

الصفحة (235)

وتـشكو إلـى الزّهراء بنت iiمُحمّد      بـقـلب  حـزين بـالكآبة iiمـقفل
أيـا  جدتا قومي من القبر iiوانظري      حـبيبك  مـتروب الـجبين iiمرمل
عـرايا عـلى عادي العرى iiمتعفراً      قـتيلاً  خـضيباً بـالدماء iiمـغسل
وقـد قـطعوا دون الـوريد iiوريده      وديس ومنه الرأس في الرمح يحمل
وقـد حـرموا مـاء الفرات iiعتاوة      عـلينا وسـلب الـفاطميات iiحللوا
وتـلك الـوجوه المشرقات iiبرغمها      تـهتك مـا بـين الأنـام وتـهزل
وتـلك  الجباه الشامخات على iiالقنا      تـشج  وتـرمي بـالتراب iiوترمل
وسـاروا  بـنا يـا جـدّه iiحواسرا      وأوجـهـنا  بـعد الـتخفر تـبذل
سـبايا عـلى الأقتاب تبدو جسومنا      عـرايا  بـلا ظـل بـه iiنـتظلل

وقال آخر :

وزيـنب من فرط الأسى تكثر iiالبكا      تـقول أخي من لي إذا نابني iiالدهر
أخـي  يابن أمي يا حسين أما iiترى      نـساءك  حسبرى عز عندهم الستر
أخـي  يـا كفيلي يا شقيقي iiوعدتي      ومـعتمدي إن مسني العسر iiواليسر
أخـي  كنت ركني في الشدائد iiملجأ      وعوني ومن في حكمه النهي والأمر
أخـي قد رمانا الدهر بالضر iiوالعنا      أخـي  قد علانا بعدك الذل iiوالكسر
أخي قل صبري واحتمالي ومن iiتكن      فـقيداً  لها من أين يلقي لها iiالصبر
أخـي  بعدك السجاد في قيد iiأسرهم      فـلهفي لـمن قد مضه القيد والأسر
أخـي  لـو ترانا فوق أقتاب iiبدنهم      يـسار بـنا حـسرى يعالجنا iiالقهر
أخـي كـل خطب هان عند iiحلوله      سـوى يـومك الجاري فمطعمه iiمرّ
فـيا  نـكبة هـدّت قوى دين iiأحمد      وعـظم مصاب في القلوب له iiشعر

قال آخر : (ويُنقل : أنّه لزينب بنت فاطمة (عليهما السّلام) :

تـمسك  بالكتاب ومن iiتلاه      فأهل البيت هم أهل الكتاب
بهم  نزل الكتاب وهم iiتلوه      وهم  أهل الهداية iiللصواب
إمـامي وحد الرّحمن iiطفلاً      وآمـن قبل تشديد iiالخطاب
عـلي  كان صديق iiالبرايا      عـليّ  كان فاروق iiالعذاب


الصفحة (236)

شـفيعي  في القيامة عند iiربي      نـبيي والـوصي أبـو iiتراب
وفـاطمة الـبتول وسـيدا من      يـخلد  في الجنان من iiالشباب
عـلى الـطف السلام وساكنيه      وروح  الله فـي تـلك iiالقباب
نفوس  قدست في الأرض iiقدماً      وقد خلصت من النطف العذاب
مـضاجع فـتية عهدوا iiفناموا      هـجوداً فـي الفوافد والشعاب
عـلتهم فـي مضاجعهم iiكعاب      بــأرواق  مـنعمة iiرطـاب
وصـيرت  القبور لهم قصوراً      مـناخاً  ذات أفـنية iiرحـاب
بـنات  مُـحمّد أضحت iiسبايا      يـسقن  مع الأسارى iiوالتهاب
مـعـثرة الـذيول iiمـكشفات      كـسبي  الـروم دامية iiالكعاب
لـئن  أبرزن كرهاً من حجاب      فـهن مـن التعفف في iiحجاب
أيـبخل بـالفرات على iiحسين      وقـد  أضـحى مباحاً iiللكلاب
فـلي قـلب عـليه ذو iiالتهاب      ولـي جـفن عليه ذو iiانسكاب

نُقل عن زينب بنت عليّ (عليهما السّلام) قالت : في اليوم الذي أمر ابن سعد بسلبنا ونهبنا , كنت واقفة على باب الخيمة , إذ دخل الخيمة رجل أزرق العينين وأخذ جميع ما كان فيها وأخذ جميع ما كان عليّ , ونظر إلى زين العابدين فرآه مطروحاً على نطع من الأديم وهو عليل , فجذب النّطع من تحته , وجاء إليّ وأخذ قناعي وقرطين كانا في أذني , وهو مع ذلك يبكي ,  فقلت له : لعنك الله هتكتنا وأنت مع ذلك تبكي ؟! قال : أبكي مما جرى عليكم أهل البيت . قالت زينب : فقد غاضني , فقلت له : قطع الله يديك ورجليك وأحرقك بنار الدُنيا قبل الآخرة . فوالله ما مرّت به الأيّام حتّى ظهر المختار وفعل به ذلك ، ثمّ أحرقه بالنّار .

 وأمّا عليّ بن الحُسين (عليهما السّلام) , فإنّه أقبل إليه الشّمر مع جماعة وأرادوا قتله ، فقيل له : صبيّ عليل لا يحلّ قتله . ثمّ أقبل عليهم عمر بن سعد لعنه الله , فضجّ النّساء في وجهه بالبكاء والنّحيب حتّى ذهل اللعين وارتعدت فرائصه , وقال لهم : لا تقربوا هذا الصّبي . ووكّل بعليّ بن الحُسين وعياله من حضر , وقال لهم : أحفظوا واحذروا أن يخرج منهم أحد . فلمّا رأت اُمّ كلثوم ما حلّ بهم , بكت وأنشأت :

يا سائلي عن فتية صرعوا     بالطف أضحوا رهن أكفاني


الصفحة (237)

وفـتية  ليس يجارى iiبهم      بـنو  عقيل خير iiفرسان
ثـم بـعون وأخـيه iiمعاً      فـذكرهم  هـيج أحزاني
من كان مسروراً بما مسنا      أو شـامتاًَ يوماً بنا iiشاني
لـقد ذلـلنا بـعد عز فما      أرفع  ضيماً حين iiيغشاني
لـقد هتكنا بعد صون iiلنا      وسامني  وجدي وأشجاني

قال : ثمّ إنّ عمر بن سعد اللعين نادى بأصحابه : مَن يبتدر إلى الحُسين فيوطئ ظهره وصدره بفرسه ؟ فابتدر من القوم عشرة رجال منهم إسحاق بن حنوة الحضرمي(1) وهو الذي يقول : نحن رضضنا الصّدر بعد الظّهر [بكلّ يعبوب شديد الأسر](2) فداسوه بخيولهم حتّى هشموا صدره وظهره ، ورجع عمر بن سعد من ذلك . وقيل : أقام إلى الغد , فجمع قتلاه فصلّى بهم ودفنهم وترك الحُسين وأصحابه ، فلمّا ارتحلوا إلى الكوفة وتركوهم على تلك الحال , عمد أهل الغاضرية من بني أسد , فكفّنوا أصحاب الحُسين وصلّوا عليهم ودفنوهم ، وكانوا اثنين وسبعين رجلاً .

ثمّ إنّ عمر بن سعد أمر بالرّحيل , فأخذوا السّبايا على الجمال , وحملوا عليّ بن الحُسين أسيراً , وحملوا الرؤوس على الأسنّة , وتركوا القتلى مطرحين بأرض الغاضريات .

ونُقل عن الشّعبي أنّه قال : سمع أهل الكوفة ليلة قتال الحُسين قائلاً يقول :

وفـتية  ليس يجارى iiبهم      بـنو  عقيل خير iiفرسان
ثـم بـعون وأخـيه iiمعاً      فـذكرهم  هـيج أحزاني
من كان مسروراً بما مسنا      أو شـامتاًَ يوماً بنا iiشاني
لـقد ذلـلنا بـعد عز فما      أرفع  ضيماً حين iiيغشاني
لـقد هتكنا بعد صون iiلنا      وسامني  وجدي وأشجاني

قال : ثمّ إنّ عمر بن سعد لمّا أذن للناس بالرّحيل إلى الكوفة , وأمر بحمل السّبايا من بنات الحُسين وإخوته وذراريهم , فمرّوا بجثّة الحُسين ومَن معه , صاحت النّساء ولطمن وجوههن , ونادت زينب بنت عليّ : يا مُحمّداه ! صلّى عليك مليك السّماء , هذا حُسين بالعراء مرمّل بالدّماء معفّر بالتّراب مقطّع الأعضاء , يا محمداه ! بناتك في العسكر سبايا وذرّيّتك مقتّلة تسفى عليهم الصّبا , هذا أبيك(3) محزوز

ــــــــــــــــ
(1) هكذا ورد في الكتاب , ولكن الوارد في بحار الأنوار 45/59 , والعوالم ، الإمام الحسين (ع) /303 , ولواعج الأشجان /195 , وأعيان الشّيعة 1/612 , واللهوف في قتلى الطّفوف /80 , وغيرهم , هو : أسيد بن مالك . وفي بعض غيرهم غيره . (معهد الإمامين الحسنين) .
 (2) كما في مثير الأحزان /60 , ولواعج الأشجان /195 , وغيرهم . (معهد الإمامين الحسنين) .
(3) هكذا ورد في الكتاب , ولكن الوارد في بحار الأنوار 45/59 , والعوالم ، الإمام الحسين (ع) /303 ,  واللهوف في قتلى الطّفوف /78 , وغيرهم , هو : وهذا حسين ... (معهد الإمامين الحسنين) .

الصفحة (238)

الرّأس من القفا , لا هو غائب فيُرجى ولا جريح فيداوى . فما زالت تقول هذا القول حتّى أبكت كلّ صديق وعدو , حتّى رأينا دموع الخيل تنحدر على حوافرها . ولله درّ بعض المحبّين حيث يقول :

قـفوا  ودعـونا قـبل بعدكم iiعنا      وداعاً فإن الجسم من أجلكم iiمضني
فـقد نقضت منّي الحياة وأصبحت      على فجاج الأرض من بعدك سجنا
سـلامي  عـليكم مـا أمرّ فراقكم      فيا  ليتنا من قبل ذاك اليوم قد iiمتنا
وإنـي  لارثـي لـلغريب iiوإنني      غريب بعيد الدار والأهل iiوالمعنى
إذا طـلعت شـمس النهار ذكرتكم      وإن غربت جددت من أجلكم iiحزنا
لـقد  كـان عيشي بالأحبة iiصافياًَ      ومـا كنت أدري أن صحبتنا iiتفنى
زمـان  نعمنا فيه حتّى إذا انقضى      بـكينا  عـلى أيـامنا بـدم iiأقنى
فـوالله قـد زاد اشـتياقي iiإلـيكم      ولـم يدع التغميض لي بعدكم جفنا
وقـد بارحتني لوعة البين والأسى      وقد صرت دون الخلق مقترعاً سنا
وقـد رحـلوا عني أحبة iiخاطري      فـما أحـد منهم على غربتي iiحنا
عـسى  ولـعل الدهر يجمع iiبيننا      وتـرجع أيـام الـهنا مثل ما iiكنا

فيا إخواني , كيف لا نلبس جلابيب الأحزان وسرابيل الأشجان على سادات الزّمان واُمناء الملك الدّيان ,  المبرّئين من الزّيادة والنّقصان , الممدوحين بكلّ جارحة ولسان ! فتعساً لمن أرداهم وسحقاً وخيبة لمن خالفهم وعصاهم ! وليتني حضرتهم يوم الطّفوف ووقيتهم بنفسي من الحتوف , ولكن الأمر ما أراد الله ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله .

روى الثّقاة من أصحاب الحديث بأسانيدهم عن هند بنت الحرث , قالت : نزل رسول الله خيمة خالتي اُمّ سعد فنام ، ثمّ قام عن رقدته فدعا بماء يغسل يديه ، ثمّ تمضمض ومجّ في عوسجة إلى جانب الخيمة , فأصبحنا فإذا هي أعظم دوحة , وجاءت بثمر كأعظم ما يكون في لون الورس ورائحة العنبر وطعم الشّهد , ما أكل منها جائع إلاّ شبع ولا ظمأ إلاّ روي ولا سقيم إلاّ بريء , ولا أكلت من ورقها شاة إلاّ درّ لبنها , فكنّا نسمّيها المباركة , حتّى أصبحت ذات يوم تساقط ثمرها واصفر ورقها , ففزعنا ممّا رأينا , فما راعنا إلاّ نُعي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) , ثمّ إنّه بعد ثلاثين سنة , أصبحت ذات شوكة من أسفلها إلى أعلاها ,


الصفحة (239)

وتساقط ثمرها وذهبت نضرتها , فما شعرنا إلاّ بقتل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليهما السّلام) ، فما أثمرت بعد ذلك وكنّا ننتفع بورقها ، ثمّ أصبحنا وإذا بها قد نبع من ساقها دم عبيط وقد ذبل ورقها , فبينما نحن فزعين مهمومين , إذ أتانا مقتل الحُسين السّبط ويبست الشّجرة على أثر ذلك وذهبت .

وروي عن ابن عباس , قال : كنت نائماً في منزلي في المدينة قابلة الظّهر , فرأيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وهو مقبل من نحو كربلاء , وهو أشعث أغبر والتّراب على شيبته وهو باكي العين حزين القلب , ومعه قارورتان مملؤتان دماً ، فقلت له : يا رسول الله , ما هذه القارورتان المملؤتان دماً ؟ فقال : (( هذه فيها من دم الحُسين , وهذه الاُخرى من دم أهل بيته وأصحابه , وإنّي رجعت الآن من دفن ولدي الحُسين )) . وهو مع ذلك لا يفيق من البكاء والنّحيب .

قال ابن عباس : فاستيقظت من نومي فزعاً مرعوباً حزيناً على الحُسين ولم أعلم بقتله , فبقيت في الهمّ والغمّ أربعة وعشرين يوماً , حتّى جاء النّاعي إلى المدينة بقتل الحُسين (عليه السّلام) , فحسبت من يوم الرؤيا إلى ذلك اليوم , فإذا هو يوم قتل الحُسين وفي تلك السّاعة كان مقتله , فتعجبت من ذلك وتزايدت أحزاني وتصاعدت أشجاني .

 فعلى الأطائب من أهل بيت الرّسول فليبك الباكون , وإيّاهم فليندب النّادبون , ولمثلهم تذرف الدّموع من العيون، أو لا تكونوا كبعض مادحيهم حيث عرته الأحزان , فنظم وقال فيهم :

القصيدة لمحمد بن حماد (رحمه الله)

لغير  مصاب السبط دمعك iiضائع      ولم  نحظ بالحظ الذي أنت iiطامع
ولا  أنـت فيما تدعيه من iiالولاء      إذا لم يذب من لوعة الحزن سامع
فكل  مصاب دون رزء ابن iiفاطم      حـقير ورزء الـسبط والله iiفازع
فـدعني  عـذولي والبكاء iiفإنني      اراك  خـلياً لـم ترعك iiالفواجع
لأي مـصـاب اُمّ لأي iiرزيــة      تـصان لها دون الحُسين iiالمدامع
لـحا  الله طـرفاً لم يسح iiدموعه      بـقان فما دمع على السبط iiضائع
فـأين ادعاك الود والعهد iiوالولاء      وقـولـك إنّـي تـابع iiومـتابع
يبيت  حسين ساهر الطرف iiخائفاً      وطـرفك ريـان من النوم iiهاجع


الصفحة (240)

وجـسم  حـسين بـالدماء iiمرمل      وجسمك في ثوب من الحزن دارع
أيـا عين ابكي للحسين وما iiجرى      عـليه  ومـا جرت عليه iiالخدائع
لـقد  كـاتبوه الـناكثون iiوكثروا      لـقـولهم أقـدم فـسعدك iiطـالع
ولـيس لـنا إلاك يـابن iiمُـحمّد      إمـاماً  وإن الـدين والحق ضائع
وأنـفسنا دون الـنفوس iiوأهـلها      وأمـوالنا  تـفديك والـكل iiطائع
فـأقبل  مـولاي الـحُسين iiبأهله      يـحدبهم  حدب الظهور iiالجراشع
فـلم  يـلق إلاّ غـادراً iiومـنافقاً      وكـل  لـعين أحـرقته iiالمطامع
يـسائله مـاذا الـذين أنت iiطالب      وفـي أي قـول جئت فيه وطامع
فـقال لـهم كـتب لـكم ورسائل      تـخبر أن الـكل لـلحق iiطـائع
فـأبدوا  جحوداً واغتدوا iiوتجبروا      وبـاحوا  بما كانوا بذكراه iiطالعوا
وأصـبح  ممنوعاً من الماء iiورده      وقـد ملكت دون الحُسين iiالشرائع
فـيا  لـهف قـلبي للشهيد iiوأهله      وأصـحابه كـل هـناك iiيـطالع
إلـى  الماء يجري واللئام iiتحوطه      كـلون  سـماء مـوجه iiمـتدافع
ولـلـفاطميات  الـعفاف تـلهف      على  شربه والذئب والكلب iiشارع
فـلما  رأى السبط الشهيد iiضلالهم      وكـل  لـكل فـي الـغواية تابع
أتـى  نـحوهم فـي نعله وردائه      ولا راعـه مـن كثرة القوم iiرائع
وقـال  لـهم يـا قوم أي iiشريعة      مـبـدلها  اُمّ أي بـدعـة بـادع
يـحل  لـكم قـتلي بـغير جناية      ألا  فـانسبوني من أنا ثمّ iiراجعوا
نـفوسكم قـبلي الـندامة iiوالأسى      فـما  الحزن من بعد التفرط iiنافع
إذا لـم تـكونوا ترتضون iiقدومنا      دعـوني  عـنكم إنّي الآن iiراجع
فـقالوا لـه خـل الـتعل والمنى      وصـحبك  جمعاً سلموا ثمّ iiبايعوا
وإلاّ فـكـاسات الـمنون iiمـليئة      بـها الـسم من زرق الأسنة iiناقع
فـشأنك  والـحالين أي iiكـلاهما      تـريد فـأخبرنا بـما أنت iiصانع
فـقال  لهم كفوا عن الحرب iiإنني      أفـكـر  فـيـما قـلتم وأطـالع
ولـما دجـي الـليل البهيم iiعليهم      وطـاب لخالين القلوب iiالمضاجع
دعـا الـسبط أنصاراً كراماً iiأعفة      ومـا  مـنهم إلاّ حـمى iiوطـائع


الصفحة (241)

فـقال  لـهم بـالحل أمضوا iiواسلكوا      سـبيل  الـنجا بـالليل فـالبر واسع
فـقالوا  جـميعاً لا رعـى الله iiعيشة      نـعيش بـها والـسبط للموت iiجارع
فـقاموا يـرون الـموت أكـبر iiمغنم      ومـا  مـنهم إلاّ عـن الـسبط iiدافع
وقـام  لـهم سـوق من الموت حامياً      وتـجـاره سـمر الـقنا iiوالـقواطع
وبـادي مـنادي الموت واشتجر iiالقنا      وقـد  نـشرت لـلبيع ثـمّ iiالبضائع
فـكم بـائع نـال الـسعادة iiوالـمنى      وكـم  خـاب ذاك الـيوم شار iiوبائع
فـلـله مـن أقـمار ثـمّ iiتـساقطت      على الأرض صرعى فهي فيها طوالع
وآسـاد  غـيل بـعد بـأس iiوسطوة      مـذلـلة مـن بـعد عـز خـواضع
وعـاد  حـسين مـثل ما قال iiشاعر      كـما  مـثل كف طار عنها iiالأصابع
ونـسوانه  مـن بـين سـبي iiوغارة      حـزانا  حـيارى نـادبات iiجـوازع
وبـنت عـليّ لا تـمل مـن iiالـبكا      بـقلب  لـها قـلب الأحـبة iiلاسـع
تـقول  أخـي هـذا الفراق متى اللقا      وفـي  أي وقـت يجمع الشمل iiجامع
أخـي  مـن لـنا من بعد فقدك iiكافل      وفـيمن تـلوذ الـبائسات iiالـضوائع
وصاح ابن سعد إذ رأى السبط iiوسلبه      ونـهـب خـيام الـنساء وسـارعوا
ألا  عـجلوا قـتل الـحسين وسـلبه      ونـهـب خـيام الـنساء وسـارعوا
فـمال عـليه الـقوم بـالبيض والقنا      ورشــق  سـهـام رمـيه iiمـتتابع
فـأردوه  مـخضوب الـثياب iiكـأنه      شـمام  هـوى مـن سرجه أو iiمقالع
كـأني بـشمر جـالساً فـوق iiصدره      لــرأس حـسـين بـالمهند قـاطع
وعـلى سـنان رأسـه فـي iiسـنانه      ونـور  حـسين السبط كالبدر iiساطع
فـيا  لـك مـن يـوم عظيم iiمصابه      عـجيب أمـور لـلشواهق iiضـارع
فـفحم الـغوى والجهل والبطل iiجامع      ونـهر  الـهدى والدين والحق iiضائع
وفـيـه حـسـين بـالدماء iiمـرمل      وفـيـه يـزيـد بـالـمسرة iiرائـع
وزواره  عــود وخـمـرة iiوقـينة      وزوار  مـولاي الـحُسين iiالـجوامع
وطـفـل  يـزيـد بـالمهود iiمـمهد      وطـفـل حـسين بـالمنية iiراضـع
وأطــلال أولاد الـدعـي iiعـوامر      وأطــلال أولاد الـنّـبي iiبـلاقـع
وآل زيـــاد بـالـستور iiأعــزة      وآل  رســول الله فـيها iiضـوارع


الصفحة (242)

كـمثل لـمّا يضربن من كل iiجانب      وقـد أخـذت عن رؤوسهن iiالمقانع
إذا  نـظروا رأس الـحُسين iiإمامهم      إلى  الأرض من فوق المطايا iiتواقع
ولـم أنـس زيـن الـعابدين iiمكبلاً      وشـمر  له بالسب والضرب iiواجع
وفـخـذاه نـضاخان قـان iiوقـلبه      مـن  الـوجد والتبريح بالذل خاشع
فـكل مـصاب هـان دون مصابهم      وكــل بــلاء دونـه iiمـتواضع
أيـا سـادتي يـا آل طـه iiعـليكم      سـلام مـتى نـاح الحمام iiالمراجع
فـوالله  مـا لـي في المعاد iiذخيرة      ولا عـمل فـيه انمحى الذنب طائع
سوى حبكم يا خيرب من وطأ الثرى      وإنـي بـذاك الـذخر راض iiوقانع
لـعل ابـن حـماد مُـحمّد عـبدكم      لـه  فـي غـد خـير البرية iiشافع
عـليكم سـلام الله مـا هبت iiالصبا      ومـا لاح نجم في دجى الليل لا iiمع

الباب الثّاني

يا إخواني ,  وكيف لا تحزنون على حبيب ربّ العالمين ، وثمرة فؤاد الزّهراء بنت خاتم النّبيين ، وقرّة عين عليّ أمير المؤمنين ؟! وكيف لا يكون كذلك وقد ورد في الخبر عن سيّد البشر , أنّه قال في الحسن والحُسين : (( اللّهمّ , أحبّهما وأحبّ من يحبّهما )) . وقال : (( مَن أحبّ الحسن والحُسين أحببته , ومَن أحببته أحبّه الله , ومَن أحبّه الله أدخله الجنّة , ومَن بغضهما بغضته , ومَن أبغضته أبغضه الله , ومَن أبغضه الله أدخله النّار )) .

فوا عجباه ممّن يحبّهما رسول الملك الخلاق , كيف يقع بهما أهل الضّلال والنّفاق ! فأيّ فؤاد لا يحزن لفقدهم ؟ وأيّ عين تحبس دمعها من بعدهم ؟ وكيف تستقرّ القلوب وقد أصبح أهل بيت الرّسول مطرودين على(1) الأوطان , مشرّدين في البراري والبلدان , شاسعين في الأمصار كأنّهم مع سبايا الكفّار , من غير جرم اجترموه أو مكروه ارتكبوه . فكم من ورع اُريق دمه وذي كمال نكس علمه , فلو سمعتم كيف ينوح عليه(2) لسان الصّلوات ويحنّ إليهم إنسان الخلوات , وتبكيهم محاريب المساجد وتناديهم أندية الفوائد , لشجاكم سماع تلك الواعية النّازلة , وعرفتم تقصيركم في هذه المصيبة الشّاملة . ولله درّ مَن قال من الرّجال : 

ولم أنس مولاي الحُسين وقد غدا        يودع أهليه ويوصي ويعجل

ـــــــــــــــ
(1) الأنسب : عن . المقوّم .
(2) الأنسب : عليهم . المقوّم .

الصفحة (243)

يـنادي  ألا يـا أهـل بيت iiمُحمّد      أصـيغوا  لـمّا أوصيكموا iiوتقبلوا
عـلـيكم بـتقوى الله لا iiتـتغيروا      لـعـظم رزايـاكـم ولا iiتـتبدلوا
ودومـوا  عـلى أعمالكم iiوانتهالكم      وقـوموا إذا جـن الـدجى iiوتنفلوا
وإن نـابكم خطب فلا iiتتضعضعوا      لـوقع الـرزايا واصبروا iiوتحملوا
وفـاطمة  الـصغرى تقول iiلأختها      هـلمي إلـى التوديع فالأمر iiمهول
ألـى  والـدي يوصني بنا iiأخواته      وعـيناه مـن حزن تفيض iiوتهمل
وتـدعو  ألا يـا سيّدي بلغ iiالعدى      بـنا  مـا تمنوا في النفوس iiوأمّلوا
وقـمن  الـنساء الـفاطميات iiولهاً      فـأبصرن مـنه مـا يسوء iiويذهل
وخـرت  عـليه زيـنب iiمستغيثة      ومـعـجزها مـن نـحره مـتبلل
وتـشكو إلـى الزّهراء فاطم iiحالها      وتـنـدب  مـما نـالها iiوتـولول
أيا اُمّ قومي من ثرى القبر وانظري      حـبيبك مـلقى في الثرى لا يغسل
وهـل أنـت يا ست النساء iiعليمة      بـأنا حـيارى نـستجير iiونـسأل
وهـل  لـك عـلم مـن عليّ فإنه      أسـير عـليل فـي الـقيود iiمغلل
عـلمتم  ومـا أعـلمتمونا iiبرزئكم      وحـملتمونا  الـيوم ما ليس iiيحمل
فـيا حـسرة لا تـنقضي iiومصيبة      لـقد نـزلت بالناس دهياء iiمعضل

نُقل : أنّ الحُسين لمّا أراد الخروج إلى العراق , قالت له اُمّ سلمه : يا مولاي لا تخرج , قد سمعت جدّك رسول الله يقول : (( يُقتل ابني الحُسين بالعراق )) . وعندي تربة دفعها إليّ في قارورة ، فقال : (( والله إنّي مقتول كذلك , وإن لم أخرج إلى العراق يقتلوني أيضاً )) . ثمّ أخذ تربة فجعلها في قارورة وأعطاها إيّاها وقال : (( اجعليها مع القارورة التي أعطاك ايّاها جدّي , فإذا فاضتا دماً , فاعلمي أنّي قد قُتلت )) .  قالت اُمّ سلمه : فلمّا كان يوم عاشوراء , نظرت إلى القارورتين بعد الظّهر , فإذا هُما قد صارتا دماً . فصاحت وأعلمت من كان عندها , فصرخوا وأقاموا عليه العزاء . ولم يُقلب ذلك اليوم حجر ولا مدر إلاّ ووجد تحته دم عبيط .

علم جدّه (صلّى الله عليه وآله) أنّه مقتول فأوعز إليه , فاستقرّ ذلك في الخاطر وانعقدت عليه السّرائر , فهان عليه ما يلقاه في طاعة ربّه ومولاه حتّى جاهد على الضّلال ممتثلاً لرضا ذي الجلال . فويل لمن خصماؤه شفعاؤه وشفعاؤه خصماؤه !

 فيا إخواني , لا تساموا في إقامة


الصفحة (244)

الأحزان ولا ترغبوا عن إظهار الجزع والأشجان , فإنّه قليل في جنب هذا الخطب الجليل .

نُقل : أنّه لمّا ارتحل عمر بن سعد لعنه الله ومن معه من أرض كربلاء متوجهاً إلى الكوفة , ومعهم حرم رسول الله ورؤوس العلويين ورأس الحُسين بمقدمهم , سمعوا هاتفاً يقول :

نُقل : أنّ الأبيات لسُليمان بن قتيبة

مـررت عـلى أبـيات آل مُحمّد      فـلم  أرهـا أمـثالها يـوم حلت
فـلا  أبـعد الله الـديار iiوأهـلها      وإن أصـبحت عنها برغم iiتخلت
وكـانوا رجـاء ثمّ صاروا iiرزية      لـقد عـظمت تلك الرزايا iiوجلت
ألا  أن قـتل السبط من آل iiهاشم      أذل رقــاب الـمسلمين iiفـذلت
ألم تر أن الشمس أضحت مريضة      لـقتل حـسين والـبلاد iiاقشعرت
فـليت الـذي أهـوى إليه iiبسيفه      أصـاب  بـه يـمنى يديه iiفشلت

عن مُسلم الجصاص , قال : دعاني ابن زياد لإصلاح دار الإمارة بالكوفة , فبينما أنا أجصص الأبواب , وإذا بالزّعقات قد ارتفعت من جنبات الكوفة ، فأقبلت على خادم وكان يعمل معنا , فقلت : ما لي أرى الكوفة تضجّ ؟ قال : السّاعة أتوا برأس خارجي , خرج على يزيد بن معاوية . فقلت : مَن هذا الخارجي ؟ قال : الحُسين بن عليّ . قال : فتركت الخادم حتّى خرجت ولطمت وجهي حتّى خشيت على عيني أن تذهبا , وغسلت يدي من الجص وخرجت من ظهر القصر وأتيت إلى الكناس , فبينما أنا واقف والنّاس يتوقعون وصول السّبايا والرّؤوس , إذ قد أقبلت نحو أربعين شقة تحمل على أربعين جملاً فيها الحرم والنّساء وأولاد فاطمة , وإذا بعليّ بن الحُسين على بعير بغير وطاء وأوداجه تشجب(1) دماً وهو مع ذلك يبكي ويقول :

يا  أمة السوء لا سقياً iiلربعكم      يـا أمـة لم تراعي جدنا فينا
لـو  أننا ورسول الله iiيجمعنا      يـوم  القيامة ما كنتم iiتقولونا
تسيرونا  على الأقتاب iiعارية      كـأننا  لـم نـشيد فيكم iiدينا
بني أمية ما هذا الوقوف iiعلى      تلك المصائب لا تبلون داعينا

ـــــــــــــ
(1) هكذا ورد في هذا الكتاب , ولكن الوارد في الكتب الاُخرى : تشخب . المقوّم .

الصفحة (245)

تـصفقون عـلينا كـفكم iiفرحاً      وأنتم  في فجاج الأرض iiتسبونا
ألـيس  جدّي رسول الله iiويلكم      أهدى  البرية من سبل المضلينا
يا وقعة الطف قد أورثتني حزناً      والله  يـهتك أسـتار iiالمسيئينا

قال : وصار أهل الكوفة يناولون الأطفال الذين على المحامل بعض التّمر والخبز والجوز , فصاحت بهم اُمّ كلثوم وقالت : يا أهل الكوفة , إنّ الصّدقة علينا حرام . وصارت تأخذ ذلك من أيدي الأطفال ومن أفواههم وترمي به إلى الأرض , قال : كلّ ذلك والنّاس يبكون على ما أصابهم ، ثمّ إنّ اُمّ كلثوم أطلعت رأسها من المحمل وقالت لهم : يا أهل الكوفة , تقتلنا رجالكم وتبكينا نساؤكم , فالحاكم بيننا وبينكم الله يوم فصل القضاء . فبينما هي تخاطبهم , وإذا بضجّة قد ارتفعت , وإذا هُم بالرّوؤس بمقدمهم رأس الحُسين , وهو رأس أزهري قمري أشبه الخلق برسول الله , ولحيته كسواد التّيح قد اتصل بها الخطاب , ووجهه دائرة قمر طالع , والرّيح تلعب بها(1) يميناً وشمالاً ، فالتفتت زينب فرأت رأس أخيها , فنطحت جبينها بمقدم المحمل حتّى رأينا الدّم يخرج من تحت قناعها , وأومت إليه بحرقة وجعلت تقول :

يـا هـلالاً لـمّا اسـتتم iiكمالاً      غـاله  خـسفه فـأبدى iiغروبا
مـا  تـوهمت يا شقيق iiفؤادي      كــان  هـذا مـقدراً iiكـتوبا
يـا  أخي فاطم الصغرى iiكلمها      فـقـد كـاد قـلبها أن iiيـذوبا
يـا أخـي قـلبك الشفيق علينا      مـا  لـه قد قسا وصار iiصليبا
يا أخي لو ترى علياً لدى الأسر      مـع  الـيتم لا يـطيق iiوجوبا
كـلما  أوجعوه بالضرب iiناداك      بـذل يـفيض دمـعاً iiسـكوبا
يـا أخـي ضـمه إليك iiوقربه      وسـكـن فــؤاده الـمرعوبا
مـا  أذل الـيتيم حـين iiينادي      بـأبـيه  ولا يــراه iiمـجيبا

قال : ثمّ إنّ ابن زياد اللعين جلس في قصر الإمارة وأذن للناس أذناً عامّاً , وأمر بإحضار رأس الحُسين , فاُحضر بين يديه وجعل ينظر إليه ويبتسم وكان بيده قضيب , فجعل يضرب به ثناياه . قال : وكان إلى جانبه رجل من الصّحابة يُقال له

ـــــــــــــــ
(1) الظّاهر أنّه يقصد لحيته . المقوّم .

الصفحة (246)

زيد بن أرقم وكان شيخاً كبيراً ، فلمّا رآه يفعل ذلك , قال له : ارفع قضيبك عن هاتين الشّفتين , فوالله الذي لا إله إلاّ هو , لقد رأيت ثنايا رسول الله ترشف ثناياه . ثمّ انتحب وبكى , فقال ابن زياد : أتبكي , أبكى الله عينك ؟ والله لولا أنّك شيخ قد خرفت وذهب عقلك , لأضربنّ عنقك . فنهض عنه مولّياً .

 ثمّ دخلت عليه زينب بنت عليّ وهي متنكّرة وعليها أرذل ثيابها ، فجلست ناحية وقد حفّ بها إماؤها , فقال ابن زياد : مَن هذه ؟ فلم تجبه , فأعاد القول ثانية ، فقال له بعض الخدم : زينب بنت عليّ . فأقبل عليها ابن زياد وقال لها : الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم . فقالت : الحمد لله الذي أكرمنا بنبيّه مُحمّد وطهّرنا من الرّجس تطهيراً ، إنّما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر وهو أنت يا عدو الله وعدو رسوله . فقال لها : كيف رأيت صنع الله بأخيك وأهل بيته ؟ فقالت : كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم , وسيجمع الله بينك وبينهم وتتحاجّون وتتخاصمون عنده ، وإنّ لك يا بن زياد موقفاً فاستعد له جواباً وإنّي لك به(1) . فغضب ابن زياد واستشاط , فقال له عمرو بن حريث : إنّها امرأة والمرأة لا تؤاخذ بشيء من خطاياها . فقال ابن زياد : قد شفى الله نفسي من طاغيتك والعصاة من أهل بيتك . فرقّت زينب وبكت وقالت : لعمري , لقد قتلت كهلي وأبرزت أهلي وقطعت فرعي واجتثت أصلي , فإن يشفك هذا فقد اشتفيت ؟ فقال ابن زياد : هذه سجّاعة , ولعمري , كان أبوها أسجع منها . فقالت : ما للمرأة والسّجاعة , وأنّّى لي السّجاعة , وأنّي لفي شغل عنها ولكن صدري نفث بما قُلت .

ثمّ عُرض عليه عليّ بن الحُسين ، فقال له : مَن أنت ؟ قال : أنا عليّ بن الحُسين ، وقد كان لي أخ أكبر منّي قتلوه النّاس . فقال له ابن زياد : قتله الله . فقال عليّ بن الحُسين : الله يتوفّى الأنفس حين موتها . قال : فغضب ابن زياد وقال : ألك جرأة على جوابي وفيك بقيّة الرّد عليّ ؟! اذهبوا إليه(2) فاضربوا عنقه . فتعلّقت به زينب وقالت : يا بن زياد , حسبك من دمائنا . واعتنقته وقالت : والله لا أفارقه , وإن قتلتموه فاقتلوني معه . فنظر ابن زياد وقال : واعجباً للرحم ! والله إنّي لأظنّها تودّ أن أقتلها دونه ، دعوه فإنّي أراه لما به مشغول .

ثمّ قام من مجلسه وخرج من القصر وجاء المسجد وصعد المنبر وقال : الحمد لله الذي أظهر الحقّ وأهله ,

ـــــــــــ
(1) هكذا ورد في هذا الكتاب , ولكن الوارد في اللهوف في قتلى الطّفوف /94 , وغيره , فقالت : ما رأيت إلا جميلا ، هؤلاء قوم كتب عليهم القتال فبرزوا إلى مضاجعهم , وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاج وتخاصم , فانظر لمن يكون الفلج يؤمئذ , هبلتك اُمّك يا بن مرجانة . (معهد الإمامين الحسنين) .
(2) هكذا ورد في هذا الكتاب , ولكن الوارد في اللهوف في قتلى الطفوف /95 , وغيره : به . (معهد الإمامين الحسنين) .

الصفحة (247)

ونصر الأمير يزيد بن معاوية وحزبه , وقتل الكذّاب ابن الكذّاب وشيعته . فقام إليه عبد الله بن عفيف الأزدي وكان من شيعة عليّ (عليه السّلام) , وقال بأعلى صوته : يا عدو الله , الكذّاب أنت وأبوك والذي ولاك وأبوه , يا بن مرجانة , تقتل أولاد الأنبياء وتقوم مقام الصّديقين الأتقياء ؟! قال ابن زياد : عليّ به . فأخذته الجلاوزة , فنادى : معاشر الأزد . فاجتمع منهم جمع كثير فانتزعوه من أيديهم ، فلمّا كان الليل , أمر ابن زياد من يأتيه به وقد كان كفّ بصره , فهجموا عليه ولم يكن عنده غير ابنته , فقال لها : يا بنيّة , ناوليني سيفي وقولي : خلفك وأمامك وعن يمينك وعن شمالك . فقتل منهم مقتله عظيمة ، ثمّ ظفروا به واخذوه أسيراً إلى ابن زياد , فقال له : الحمد لله الذي أعمى عينيك . فقال له : الحمد لله الذي فتح عينيك وأعمى قلبك . فأمر به فضربت عنقه وصلب رحمة الله عليه . قال من حضر : رأيت ناراً قد خرجت من القصر كادت تحرقه , فقام ابن زياد عن سريره هارباً ودخل بعض بيوته . كلّ ذلك ولم يرتدع اللعين عن غيّه وشقاوته .

 ثمّ التفت إلى السّبي فرأى زينب وهي تتخفّى بين النّساء وتستر وجهها بكمّها ؛ لأنّ قناعها اُخذ منها , فقال لها : يا زينب , كلّميني بحقّ جدّك رسول الله . فقالت : وما الذي تريد وقد هتكتني بين النّساء ؟ قال : كيف رأيت صنع الله بأخيك , أراد أن يكابر الأمير يزيد في مكّة , فخيّب الله أمله وقطع رجاه ؟ فقالت زينب : ويلك يابن مرجانة ! كم تسحب علينا أثواب غيّك , فإنّ أخي إن طلب الخلافة فلا عدوان عليه , فإنّه طلب ميراث جدّه وأبيه , وإنّه أحقّ بالأمر منك وممّن أمّرك , لكنّك استجرت الجحيم لنفسك , فاستعد لله جواباً إذا كان هو القاضي والخصم جدّي رسول الله والسّجن جهنّم .

قال : فغار عليّ بن الحُسين على عمّته , فقال لابن زياد : إلى كم تهتك عمّتي بين من يعرفها ومَن لا يعرفها , قطع الله يديك ورجليك ؟ قال : فاستشاط ابن زياد وأمر بضربه , فمنع من ذلك .

قال : ثمّ إنّ اللعين دعا بالشّمر وخولّى وشبث بن ربعي وعمر بن الحاج وضمّ إليهم ألف فارس وزوّدهم , وأمرهم بأخذ السّبايا والرّؤوس إلى دمشق عند يزيد , وأمر أن يشهروهم في كلّ بلدة يدخلونها , فساروا على الفرات واخذوا على أوّل منزل نزلوا وكان المنزل خراباً , فوضعوا الرّأس بين أيديهم والسّبايا قريباً منه , وإذا بكفّ خارج من الحائط وقلم يكتب بدم هكذا :


الصفحة (248)

أتـرجو  أمة قتلت iiحسيناً      شـفاعة جدّه يوم iiالحساب
فـال والله لـي لهم iiشفيع      وهم يوم القيامة في العذاب

قال : ففزعوا من ذلك وارتاعوا ورحلوا من ذلك المنزل , وإذا بهاتف يسمعونه ولا يرونه وهو يقول :

مـاذا تـقولون إذ قـال النّبي لكم      مـاذا فـعلتم وأنـتم آخـر iiالأمم
بـعترتي وبـأهلي عـند iiمفتقدي      مـنهم أسارى ومنهم ضرجوا iiبدم
ماكان  هذا جزائي إذ نصحت iiلكم      أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي.

قال : فلمّا وصلوا إلى تكريت , أنفذوا إلى صاحب البلد : أن تلقانا فإنّ معنا رأس الحُسين وسباياه . فلمّا أخبرهم الرّسول بذلك , نُشرت الأعلام وخرجت الغلمة(1) يتلقونهم ، فقالت النّصارى : ما هذا ؟ فقالوا : رأس الحُسين . فقالوا : هذا رأس ابن بنت نبيّكم ؟ قالوا : نعم . قال : فعظم ذلك عليهم وصعدوا إلى بيعهم وضربوا النّواقيس ؛ تعظيماً لله ربّ العالمين , وقالوا : اللّهمّ , إنّا إليك براء ممّا صنع هؤلاء الظّالمون .

قال : فلمّا رحلوا من تكريت وأتوا على وادي النّخلة , سمعوا بكاء الجنّ وهن يلطمن الخدود على وجوههن ويقلنّ :

مسح النّبي جبينه فله بريق في الخدود        أبواه من علياً قريش جدّه خير الجدود

واُخرى تقول :

ألا  يا عين جودي فوق خدي      فمن يبكي على الشّهداء بعدي
عـلي رهـط تقودهم iiالمنايا      إلـى مـتكبر في الملك iiعبد

قال : فلمّا وصلوا إلى بلدة يُقال لها مرشاد , خرج المشايخ والمخدرات والشّبّان ؛ يتفرّجون على السّبي والرّؤوس , وهُم مع ذلك يصلّون على مُحمّد وآله ويلعنون أعداءهم وهو من العجائب ، ثمّ رحلوا عنه إلى مدينة يُقال لها بعلبك , وكتبوا إلى صاحبها : بأن تلقانا فإنّ معنا رأس الحُسين بن عليّ . فأمر بالرّايات فنشرت , وخرج الغلمان يتلّقونهم على نحو من ستة أميال فرحاً بهم .

قال : فدعت عليهم

ــــــــــــــــ
(1) الظّاهر يريد  : الغلمان . المقوّم .

الصفحة (249)

اُمّ كلثوم , فقالت : أباد الله كثرتكم وسلّط عليكم من يقتلكم . قال : فعند ذلك بكى عليّ بن الحُسين وقال :

هـو الـزمان فلا تفنى iiعجائبه      عـن الـكرام وما تهدأ iiمصائبه
فليت  شعري إلى كم ذا iiتجاذبنا      فـنونه  وتـرانا كـم iiنـجاذبه
يسري بنا فوق أقتاب بلا iiوطاء      وسائق العيس يحمي عنه غاربه
كـأننا مـن أسارى الروم بينهم      كـأنما قـاله الـمختار iiكـاذبه
كـفرتم  بـرسول الله iiويـحكم      فـكنتم مـثل من ضلت iiمذاهبه

قال : ونصبوا الرّمح الذي فيه الرّأس إلى جانب صومعة راهب , فسمعوا هاتفاً يقول :

والله  مـا جئتكم حتّى بصرت iiبه      بـالطف  مـنعفر الخدين منحورا
وحـوله فـتية تـدمى iiنـحورهم      مثل المصابيح يغشون الدجي نورا
كـان الحُسين سراجاً يستضاء iiبه      الله أعـلم إنّـي لـم أقـل iiزورا

فقالت اُمّ كلثوم : من أنت يرحمك الله ؟ قال : أنا ملك من الجنّ , أتيت أنا وقومي لننصر الحُسين فصادفناه وقد قُتل . قال : فلمّا سمعوا بذلك , رعبت قلوبهم وقالوا : إنّنا علمنا أنّنا من أهل النّار بلا شك . فلمّا جنّ الليل , أشرف الرّاهب من صومعة ونظر إلى الرأس وقد سطع منه نور وقد أخذ في عنان السّماء , ونظر إلى باب قد فُتح من السّماء والملائكة ينزلون وهم ينادون : يا أبا عبد الله عليك السّلام . فجزع الرّاهب من ذلك , فلمّا أصبحوا وهمّوا بالرّحيل , أشرف الرّاهب عليهم وقال : ما الذي معكم ؟ قالوا : رأس الحُسين بن عليّ . فقال : ومَن اُمّه ؟ قالوا : فاطمة بنت مُحمّد . قال : فجعل الرّاهب يصفق بكلتا يديه وهو يقول : لا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم , صدقت الأحبار فيما قالت . فقالوا : وما الذي قالت الأحبار ؟ قال : يقولون إذا قُتل هذا الرّجل , مطرت السّماء دماً ، وذلك لا يكون إلاّ لنبي أو ولد وصي . ثمّ قال : وا عجباه من اُمّة قتلت ابن بنت نبيّها وابن وصيه ! ثمّ إنّه أقبل على صاحب الرّأس الذي يلي أمره , وقال له : أرني الرّأس لأنظر إليه . فقال : ما أنا بالذي أكشفه إلاّ بين يدي الأمير يزيد ؛ لأحظى عنده


الصفحة (250)

بالجائزة وهي بدرة عشرة آلاف درهم . فقال الرّاهب : أنا أعطيك ذلك . فقال : احضره . فاحضر له ما قال ، ثمّ أخذ الرّأس وكشف عنه وتركه في حجره , فبدت ثناياه , فانكبّ عليها الرّاهب وجعل يقبّلها ويبكي ويقول : يعزّ عليّ يا أبا عبد الله لاكون أوّل قتيل بين يديك , ولكن إذا كان في الغد , فاشهد لي عند جدّك إنّي أشهد أن لا إله إلاّ الله , وأنّ محمداً عبده ورسوله . ثمّ ردّ الرّأس بعد أن أسلم وأحسن إسلامه ، فسار القوم ثمّ جلسوا يقتسمون الدّراهم , فإذا هي خزف مكتوب عليها : ( وَسَيَعْلَمُ الّذِينَ ظَلَمُوا أَيّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ )(1) . قال : ثمّ ساروا إلى أن قربوا من دمشق , وإذا بهاتف يقول :

رأس  ابن بنت مُحمّد iiووصيه      يـا  لـلرجال على قناة iiيرفع
والـمسلمون بـمنظر iiوبمشهد      لا  جـازع فـيهم ولا iiمتوجع
كحلت  بمنظلك العيوم iiعماءها      وأصـم رزؤك كل أذن iiتسمع
مـا روضـة إلاّ تـمنت iiأنها      لك  تربة ولخط جنبك iiمضجع
مـنعوا زلال الـماء آل مُحمّد      وغـدت  ذئاب البر فيه iiتكرع
عين علاها الكحل فيه تفرقعت      ويـد تصافح في البرية iiتقطع

قال : فلمّا وردوا إلى دمشق , جاء البريد إلى يزيد وهو مُعصب الرّأس ويداه ورجلاه في طشت من ماء حار , بين يديه طبيب يعالجه وعنده جماعة من بني اُميّة يحادثونه , فحين رآه , قال له : أقرّ عينيك بورود رأس الحُسين . فنظره شزراً وقال : لا أقرّ الله عينيك . ثمّ قال للطبيب : اسرع واعمل ما تريد أن تعمل . قال : فخرج الطّبيب عنه وقد أصلح جميع ما أراد أن يصلح ، ثمّ إنّه أخذ كتاباً بعثه إليه ابن زياد وقرأه , فلمّا انتهى إلى آخره , عضّ على أنامله حتّى كاد أن يقطعها , ثمّ قال : إنّا لله وإنّا إليه راجعون . ودفعه إلى مَن كان حاضراً ، فلمّا قرأوه , قال بعضهم لبعض : هذا ما كسبت أيديكم . فما كان إلاّ ساعة , وإذا بالرّايات قد أقبلت ومن تحتها التّكبير , وإذا بصوت هاتف لا يُرى شخصه يقول :

جاؤوا برأسك يا بن بنت مُحمّد      مـتـرملاً  بـدمائه iiتـرميلا
ويـكبرون بـأن قـتلت وإنما      قـتلوا  بـك التكبير iiوالتهليلا

ــــــــــــــ
(1) سورة الشّعراء / 227 .

الصفحة (251)

قال : ثمّ دخلوا بالسّبايا والرّؤوس إلى دمشق وعليّ بن الحُسين معهم على جمل بغير وطاء , وهو يقول :

أقـاد  ذلـيلاً في دمشق iiكأنني      من الزنج عبد غاب عنه نصير
وجدي رسول الله في كل iiمشهد      وشـيخي  أمير المؤمنين iiأمير
فيا ليت لم انظر دمشق ولم أكن      يـراني يـزيد في البلاد iiأسير

قال : ثمّ أتوا إلى باب السّاعات , فوقفوا هناك ثلاث ساعات يطلبون الإذن من يزيد , فبينما هُم كذلك , إذ خرج مروان بن الحكم , فلمّا نظر إلى رأس الحُسين (عليه السّلام) , صار ينظر إلى أعطافه جذلاً طرباً ، ثمّ خرج أخوه عبد الرّحمن , فلمّا نظر إلى الرّأس بكى ، ثمّ قال : أمّا أنتم فقد حُجبتم عن جدّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) , والله لا جامعتكم على أمر أبداً . قال : ثمّ قال : بالعزيز عليّ يا أبا عبد الله ما نزل بك . ثمّ أنشأ يقول :

سـمية أمسى نسلها عدد iiالحصى      وبـنت  رسول الله ليس لها iiنسل
إمـام  غريب الطف ادنى iiبرأسه      من ابن زياد وهو في العالم الرذل

قال : ثمّ إنّ يزيد لعنه الله بعث يطلب الرّأس , فلمّا اُوتي به إليه , وضعه في طشت من ذهب وجعل ينكث ثناياه بقضيب كان عنده , وهو يقول : رحمك الله يا حُسين , لقد كنت حسن المضحك . ثمّ أنشأ :

نـفلق هاماً من رجال iiأعزة      علينا وهم كانوا أعق واظلما

قال : ثمّ نظر إلى عليّ بن الحُسين وقال : أبوك قطع رحمي وجهل حقّي ونازعني في سلطاني , ففعل الله به ما رأيت . فقال عليّ بن الحُسين(ع) : (( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ(1) )) . فقال يزيد لولده خالد : أجب عليّ بن الحُسين على جوابه . فلم يدر خالد ما يقول , فقال أبوه : قُل له : ( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ(2) ) .  فقال عليّ بن الحُسين(ع) : (( اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا(3) )) . فسكت يزيد , وإذا بغراب ينعق ويصيح في أعلى القصر , فأنشأ اللعين يقول :

ـــــــــــــ
(1) سورة الحديد / 22 .
(2) سورة الشّورى / 30 .
(3) سورة الزّمر / 42 .

الصفحة (252)

يا  غراب البين ما شئت iiفقل      إنـما تـندب أمـراً قد iiفعل
كـل  مـلك ونـعيم iiزائـل      وبـنات  الـدهر يلعبن iiبكل
لـيت أشـياخي ببدر iiشهدوا      وقعة الخزرج من وقع الأسل
لأهـلوا  واسـتهلوا iiفـرحاً      ثـمّ قـالوا يـا يزيد لا تشل
قـد قـتلنا القوم من iiساداتهم      وعـدلـناه بـبدر iiفـاعتدل
وأخـذنا  مـن عـليّ iiثارنا      وقـتلنا الفارس الندب iiالبطل
لست  من خندف إن لم iiأنتقم      مـن  بني أحمد ما كان iiفعل
لـعبت هـاشم في الملك iiفلا      خـبر  جـاء ولا وحي نزل

قال : ثمّ إنّه التفت إلى القوم وقال : كيف صنعتم بهم ؟ فقالوا : جاءنا بثمانية عشر من أهل بيته وسبعين رجلاً من شيعته وأنصاره , فسألناهم النّزول على حكم الأمير يزيد , فأبوا , فغدونا عليهم من شرق الأرض وغربها , وأحطنا بهم من كلّ ناحية حتّى أخذت السّيوف مأخذها من هام القوم , فلاذوا بنا كما يلوذ الحمام من الصّقر , فما كان إلا ساعة حتّى أتينا على آخرهم , فهاتيك أجسادهم مجرّدة وثيابهم مرمّلة وخدودهم معفّرة , تصهرهم الشّمس وتسفى عليهم الرّيح وزوارهم العقبان والرّخم . قال : فأطرق يزيد رأسه وقال : كنت أرضى من طاغيتكم بدون قتل الحُسين . قال : ثمّ إنّ هند بنت عبد الله بن عمر زوجة يزيد , دعت برداء وتقنّعت ووقفت خلف السّتار ، فلمّا رأت الرّأس بين يدي يزيد , قالت : ما هذا ؟ فقال : رأس الحُسين بن فاطمة . فبكت هند وقالت : عزيز على فاطمة أن ترى رأس ابنها بين يديك يا يزيد , ويحك فعلت فعلة استوجبت بها النّار يوم القيامة ! والله ما أنا لك بزوجة ولا أنت ببعل , ويلك يا يزيد بأيّ وجه تلقى الله وجدّه رسول الله ؟ فقال لها : ارتدعي يا هند من كلامك هذا , والله ما أخبرت بذلك ولا أمرت به . فعند ذلك خرجت عنه وتركته , ثمّ دخل عليه الشّمر اللعين يطلب منه الجائزة وهو يقول :

إملأ ركابي فضة أو ذهباً        قتلت خير الخلق أماً وأباً

قال : فنظر إليه يزيد شزراً وقال : أملأ ركابك حطباً وناراً , ويلك إذا علمت أنّه خير الخلق اُمّاً وأباً , فلم قتلته وجئتني برأسه ؟! اخرج من بين يدي لا جائزة


الصفحة (253)

لك عندي . فخرج على وجهه هارباً قد خسر الدُنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين .

قال : وحضر عند يزيد رأس الجالوت , فرآه يقلّب رأس الحُسين بالقضيب ، فقال له : اتأذن لي أن أسألك يا يزيد ؟ فقال اسأل ما بدا لك . فقال له : سألتك بالله هذا رأس مَن , فما رأيت أحسن منه ولا من مضحكه ؟ فقال : هذا رأس الحُسين بن عليّ , خرج علينا بأرض العراق فقتلناه . فقال رأس الجالوت : فيما استوجب هذا الفعل ؟ فقال : ويلك دعوه أهل العراق وكتبوا إليه وأرادوا أن يجعلوه خليفة , فقتله عاملي عُبيد الله بن زياد وبعث إليّ برأسه ! فقال له : يا يزيد , هو أحقّ منكم بما طلب وهو ابن بنت نبيّكم , ما أعجب أمركم , إنّ بيني وبين داود نيفاً وثلاثين جدّاً , واليهود يعظّمونني ويأخذون التّراب من تحت قدمي , وأنتم بالأمس نبيّكم بين أظهركم , واليوم شددتم على ولده فقتلتموه وسبيتم حريمه وفرقتموهم في البراري والقفار , إنّكم لأشرّ قوم ! فقال له يزيد : ويلك أمسك عن هذا الكلام أو تقتل !

ثمّ إنّ اللعين أمر بإحضار السّبايا , فاحضروا بين يديه , فلمّا حضروا عنده , جعل ينظر إليهن(1) ويسأل مَن هذه ومَن هذا , فقيل : [ هذه](2) اُمّ كلثوم الكبرى وهذه اُمّ كلثوم الصّغرى , وهذه صفيّة وهذه اُمّ هانئ وهذه رقيّة بنات عليّ , وهذه سكينة وهذه فاطمة بنتا الحُسين , وهذا عليّ بن الحُسين . فالتفت اللعين إلى سكينة وقال : يا سكينة , أبوك الذي كفر حقّي وقطع رحمي ونازعني في مُلكي . فبكت سكينة وقالت : لا تفرح بقتل أبي ؛ فإنّه كان مُطيعاً لله ولرسوله ودعاه إليه فأجابه وسعد بذلك , وإنّ لك يا يزيد بين يدي الله مقاماً يسألك عنه , فاستعد للمسألة وجواباً , وأنّى لك الجواب . قال لها : اسكتي يا سكينة , فما كان لأبيك عندي حقّ .

قال : فوثب رجل من لخم , وقال : يا أمير , هب لي هذه الجارية من الغنيمة , فتكون خادمة عندي ـ يعني : سكينة ـ قال : فانضمّت إلى عمّتها اُمّ كلثوم وقالت : يا عمّتاه أترين نسل رسول الله يكونون مماليكاً للأدعياء ؟! فقالت اُمّ كلثوم لذلك الرّجل : اسكت يا لُكع الرّجال , قطع الله لسانك وأعمى عينيك وأيبس يديك وجعل النّار مثواك , إنّ أولاد الأنبياء لا يكونون خدمة لأولاد الأدعياء .

قال : فوالله ما استتم كلامها حتّى أجاب الله دعاءها في ذلك الرّجل ، فقالت : الحمد لله الذي عجّل لك العقوبة في الدُنيا قبل الآخرة , فهذا جزاء من يتعرّض بحرم رسول الله .

نُقل عن

ــــــــــــــ
(1) الأنسب : إليهم . المقوّم .
(2) من إضافات المقوّم .

الصفحة (254)

علي بن الحُسين (عليه السّلام) , أنّه قال : (( لمّا وفدنا على يزيد بن معاوية لعنه الله , أتونا بحبال وربطونا مثل الأغنام , وكان الحبل بعنقي وعنق اُمّ كلثوم وبكتف زينب وسكينة والبنيات , وساقونا , وكلّما قصرنا عن المشي , ضربونا حتّى أوقفونا بين يدي يزيد , فتقدمت إليه وهو على سرير مملكته , وقلت له : ما ظنك برسول الله لو يرانا على هذه الصّفة ؟ فبكى وأمر بالحبال فقطعت من أعناقنا وأكتافنا )) .

ونُقل أيضاً : أنّ الحريم لمّا اُدخلن إلى يزيد بن معاوية , كان ينظر إليهن ويسأل عن كلّ واحدة بعينها وهن مربطات بحبل طويل , وكانت بينهنّ امرأة تستر وجهها بزندها ؛ لانّها لم تكن عندها خرقة تستر وجهها , فقال : مَن هذه ؟ قالوا : سكينة بنت الحُسين . فقال : أنت سكينة ؟ فبكت واختنقت بعبرتها حتّى كادت تطلع روحها , فقال لها : وما يبكيك ؟ قالت : كيف لا تبكي مَن ليس لها ستراً تستر وجهها ورأسها عنك وعن جلسائك ؟ فبكى اللعين ثمّ قال : لعن الله عبيد الله بن زياد , ما أقوى قلبه على آل الرّسول . ثمّ قال لها : ارجعي حتّى آمركنّ بأمري .

كـثير الـحزن من مثلي قليل      فـاقلل مـن مصابك يا iiعليل
مـاصبي  لو علمت به iiعظيم      ورزئـي  حـين تـعله جليل
أصـبت بـسيد سـاد iiالبرايا      فـليس  لـفضل سؤدده عديل
شريكي  في مصيبتي iiالرسول      وفـاطم والـوصي iiوجبرائيل
حـسين  بن النّبي فدته iiنفسي      عـلى  الرمضاء عريان iiقتيل
يـرى ماء الفرات على iiظماء      ولـيس  إلى الورود له iiسبيل
يـطاف برأسه في رأس iiرمح      وجـثته  تـرضضها iiالخيول
وقـد بـرزت حـلائله iiسبايا      كـسبي الـروم مـوقفها ذليل
فـأي مـصيبة من ذاك iiأدهى      إذا  ذكـرت تـفكرها iiالعقول
فـمـاذا  لـلـنبي إذا iiرأتـه      غـداة الـحشر أمـته تـقول
وكـلـهم  لـعـترته iiظـلوم      غـشوم  قـاتل شـأن iiخذول
سـتعلم أمـة قـتلت iiحـسيناً      بـأن  عـذاب قـاتله iiوبـيل
إذا عرضوا على الرحمن صفاً      وجـاءت ثـمّ فـاطمة البتول
وفي يدها قميص السبط iiتشكو      ظـلامتها فـينصفها iiالـجليل


الصفحة (255)

ويهوي الظالمون بها جميعاً      إلى  قعر الجحيم لهم عويل
وتشفع  في مواليها iiفتعطي      شـفاعتها كما قال iiالرسول
وتقدمهم إلى الفردوس حتّى      تـكون ثـوابهم ولهم مقيل
وإنـي  من مواليهم iiحياتي      لأن ثـواب مولاهم iiجزيل
أحـبهم وأبـغض iiشانئيهم      وذلـك لي إلى ربي iiوسيل
وأنشر  فضلهم نثراً iiونظماً      وأعـلم أن ذاك لـهم iiقليل

فانظروا يا إخواني إلى ما قد حلّ بذراري رسول الملك العلام من الطّغاة الكفرة اللئام ، أخرجوهن من خدورهن مسلّبات ؛ للشعور ناشرات وللخدود لاطمات ، وللمحامي والكفيل فاقدات ، ولمحاسن الوجوه بأيديهن ساترات . يعزّ عليّ ذكر هذا المصاب , أو يسمح بسطره بناني , أوأتمثّله في خاطري وجناني ، ولكن لا حيلة فيما صدر ممّا جرى به القضاء والقدر , إلاّ مَن فاتته نصرتهم يوم القتال , فلا ييأس من مشاركتهم في تلك الحال , فإنّ الله تعالى جعل متابعتنا لهم فيما أمكن من الأفعال , وحزننا وبكائنا بالدّموع السّجال , وبثّ عيوب أعداءهم أهل الزّيغ والضّلال , قائماً مقام الجهاد معهم يوم القتال , كما ورد في الخبر عن سيّد الأوصياء وخير الأتقياء عليّ (عليه السّلام) , أنّه قال لاصحابه : (( الزموا بيوتكم واصبروا على البلاء ولا تتحرّكوا بأيديكم وسيوفكم وهواء ألسنتكم , ولا تستعجلوا بما لم يعجّله الله لكم ؛ فإنّه مَن مات منكم على فراشه وهو على معرفة حقّ ربّه وحقّ رسوله , كان كمن مات شهيداً ووقع أجره على الله , استوجب ثواب ما نوى من صالح عمله , وقامت النّيّة مقام صلاته وجهاده بسيفه ويده , وإنّ لكلّ شيء أجلاً وانتهاء )) . وعلى مثل أهل بيت الرّسول فليبك الباكون , وإيّاهم فليندب النّادبون ولمثلهم تذرف الدّموع من العيون ، أو لا تكونون كبعض مادحيهم حيث عرته الأحزان , فنظم وقال فيهم :

القصيدة للشيخ الخليعي (رحمه الله)

ما لدمعي لم يطف حر غليلي      لـلقتيل الـظامي وأي iiقتيل
لـقتيل  أبـكى النّبي iiوأذكى      حرق الحزن في فؤاد iiالبتول


الصفحة (256)

لـقتيل  بـكت عـليه السماوات      وأمـلاكـها بـدمـع iiهـمـول
لـقتيل  عـزي بـه جـدّه وهو      ربـيب عـلى يـدي iiجـبرائيل
كـيف يـلجأ على النازح iiالثاكل      أو  يـرعـوي لـعذل iiالـعذول
أين  قلب الخلي من لوعة iiالحزن      وقـلـب  الـمـتيم iiالـمـبتول
فـضح الـدمع من تلطع iiبالحب      وصـحـت  شـواهد iiالـمعلول
لـست  أنـساه يـسأل iiالـركب      والسائل أوفى جزاء من المسؤول
مـستدلاً مـستخبراً ما أسم iiهذي      الأرض  وهـو الدليل وابن iiاليل
ناشفاً ترب كربلاء باكياً iiمستعيراً      مــؤذنـاً  لـهـم iiبـالـنزول
ثـم قـال اضربوا الخيام iiوقيلوا      ليس  من حادث الردى من iiمقيل
هـهنا تـنحر الـنحور ولم iiيبق      لـنا  فـي الـحياة غـير iiالقليل
ههنا يصبح العزيز من iiالأشراف      فـي  قـبضة الـحقير iiالـذليل
هـهنا تـهتك الـكرائم مـن آل      عــلـيّ  بـذلـة iiوخـمـول
مـن دمـي يـبلل الـثرى ههنا      واحر  قلبي على القثرى iiالمبلول
ورقـا فـوق مـنبر حـامد iiالله      يـثني عـلى الـعزيز iiالـجليل
ثـم قـال اربـعوا فـقتلي شفاء      لـصـدور  مـملوءة iiبـالذحول
فـأجابوه حـاش لـله بل iiيفديك      كـل  بـالنفس يـا بـن iiالبتول
فـجـزاهم خـيرا وقـال iiلـقد      فـزتم ونـلتم نـهاية iiالـمأمول
ومـضى  يـقصد الخيام iiويدعو      ودعـيني يـا أخت قبل iiالرحيل
ودعـيني  فـما إلى جمع iiشملي      بـكم  بـعد فـرقة مـن iiسبيلي
ودعـيني واسـتعملي الصبر iiإنا      مـن  قـبيل يـفوق كـل iiقبيل
شـأننا إن طـغت علينا iiخطوب      نـتـلقى الأذى بـصبر iiجـميل
لا تـشقي جـيباً ولا تلطمي iiخداً      فـأنا  أهـل الأذى بصبر iiجميل
واخـلفيني  عـلى بناتي iiوكوني      خـير  مـستخلف لأكـرم iiجيل
وأطـيعي  إمـامك السيد iiالسجاد      رب  الـتـحـريم iiوالـتـحليل
فـإذا مـا قـضيت نحبي iiفقولي      فــي  الإلــه خـير iiسـبيل
واذكـريني  إذا تـنفلت iiبـالليل      عـقـيب الـتـكبير iiوالـتهليل
وغـداً طـالباً قتال بني iiالزرقاء      بـبيض  الظباء وزرق iiالنصول

 
الصفحة السابقةالفهرسالصفحة اللاحقة

 

طباعة الصفحةأعلى