صدر هذا الكتاب آليا بواسطة الموسوعة الشاملة
(اضغط هنا للانتقال إلى صفحة الموسوعة الشاملة على الإنترنت)


الكتاب : يتيمة الدهر
المؤلف : الثعالبي
مصدر الكتاب : الوراق

[ الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع ]

ومهفهفٍ يهفو بلبِّ المرء منه شمائل
فالردف دعص هائل ... والقدُّ غصن كائل
والخد نور شقائق ... تنشقّ عنه خمائل
والعرف مثل حدائقٍ ... نمَّت بهن شمائل
والطرف سيف ما له ... إلا العذار حمائل
وقال في مخمور جمش وجهه:
هبه تغيّر حائلاً عن عهده ... ورمى فؤادي بالصدود فأزعجا
ما بال نرجسه تحوّل وردةً ... والورد في خدّيه عاد بنفسجا
وقال:
ومهفهفٍ أبدى الجما ... ل بخدّه روضاً مريعا
فقد الطبيب ذراعه ... فجرى له دمعي ذريعا
وأمّّني رقع الحديد ... بعرقه ألما وجيعا
فأريته من عبرتي ... ما سال من دمه نجيعا
وقال:
وغزال منحته خالص الو ... دَّ فجازى بالصدّ والإجتناب
لم ألمه أن أتقى بحجابٍ ... ردّني واله الفؤاد لما بي
هو روحي وليس ينكر للرو ... توارٍ عن الورى بالحجاب
وله:
كتبت إليه أستهدي وصالاً ... فعلّلني بوعدٍ في الجواب
ألا ليت الجواب يكون خيراً ... فيشفي ما أحاط من الجوى بي
وقال من الرجز:
ظبيٌ يحار البرق في بريقه ... غنيت عن إبريقه بريقه
فلم أزل أرشف من رحيقه ... حتى شفيت القلب من حريقه
وقال:
شافه كفّي رشاً ... بقبلةٍ ما شفت
فقلت إذ قبَّلها ... يا ليت كفّي شفتي
وقال:
من لي كفيلا بشمل الأنس أجمعه ... بشاذن حلّ فيه ألأنس أجمعه
ما زال يعرض عن وصلي فأخدعه ... فالآن لي لان بعد الصدّ أخدعه
وقال:
ويح جسمي من غزالٍ ... مقلتاه شفتاه
هو إن جاد بلثم ... شفتاه شفتاه
وقال:
صدف الحبيب وصله ... فجفا رقادي إذ صدف
ونثرت لؤلؤ أدمع ... أضحى له جفني صدف
وقال من الرجز:
ماذا عليه لو أباح ريقه ... لقلب صبٍّ يشتكي حريقه
وقال:
بنفسي غزال صار للحسن كعبةً ... يحجُّ من الفجِّ العميق ويعبد
دعاني الهوى فيه فلبيت طائعاً وأحرمت بالإخلاص والسعي يشهد
فجفني للتسهيد والدمع قارن ... وقلبي فيه بالصبابة مفرد
؟؟قطعة من شعره في الأوصاف والتشبيهات
قال في الريحان:
أعددت محتفلاً ليوم فراغي ... روضاً غدا إنسان عين الباغ
روضاً يروض هموم قلبي حينة ... فيه لكأس الإنس أي مساغ
وإذا بدت قضبان ريحان به ... حيث بمثل سلاسل الأصداغ
يصوغ لنا كفُّ الربيع حدائقاً ... كعقد عقيق بين سمط لآلي
وفيهن أنوار الشقائق قد حكت ... خدود عذاري نقِّطت بغوالي
وقال فيه:
كأنّ الشقائق إذ برّزت ... غلالة لاذٍ وثوباً أحمّ
قطاع من الجمر مشبوبةٌ ... بأطرافها لمع من حمم
وقال:
لاح لي في الرياض نور الشقيق ... فحكى لي غلائلاً من عقيق
ما يشقّ الهموم مثل شقيقٍ ... عند راحٍ لكلِّ روحٍ شقيق
وقال في النرجس:
وما ضمَّ شمل الأنس يوماً كنرجسٍ ... يقوم بعذر اللهو عن خالع العذر
فأحداقه أقداح تبرٍ وساقه ... كقامة ساقٍ في غلائله الحضر
وقال:
أهلاً بنرجس روضٍ ... يزهي بحسنٍ وطيب
يرنو بعينيّ غزالٍ ... على قضيب رطيب
وفيه معنىً خفيٌّ ... يزينه في القلوب
تصحيفه إن نسقت الحروف برٌّ حبيب وقال في التيمن بالبنفسج من المنسررح:
يا مهدياً لي بنفسجاً أرجاً ... يرتاح صدري له وينشرح
بشرني عاجلاً مصحفه ... بأنّ ضيق الأمور ينفسح
وقال في ضد ذلك:
يا مهدياً بنفسجاً سمجاً ... وددت لو أنّ أرضه سبخ
ينذرني عاجلاً مصحفه ... بأن عهد الحبيب ينفسخ
وقال:

(2/105)


ومدامة زفَّت إلى سلسال ... يختال بين ملابس كالآل
فبنى بها حتى إذا ما افتضّها ... بالمزج أمهرها عقود لآلي
وقال في اقتران الزهرة والهلال من الرجز:
أما ترى الزهرة قد لاحت لنا ... تحت هلال لونه يحكي اللهب
ككرةٍ من فضّة مجلوّةٍ ... أوفى عليها صولجان من ذهب
وقال في الفجر:
أهلاً بفجر قد نضا ثوب الدُّجى ... كالسيف جرّد من سواد قراب
أو غادة شقّت صداراً أزرقاً ... ما بين ثغرتها إلى الأتراب
وقال في وصف الثلج الساقط على غصون الشجر:
نثر السحاب على الغصون ذريرةً ... أهدت لها نوراً يروق ونورا
شابت ذوائبها فعدن كأنها ... أجفان عينٍ تحمل الكافورا
وقال في الجمد من الرجز:
ربَّ جنينٍ من جنى نمير ... مهتّك الأستار والضمير
سللته من رحم الغدير ... كأنه صحائف البلور
أو أكر تجمّست من نور ... أو قطع من خالص الكافور
لو بقيت سلكاً على الدهور ... لعطّلت قلائد النحور
وأخجلت جواهر البحور ... وسمّيت ضرائر الثغور
يا حسنه في زمن الحدور ... إذ فيضه مثل حشى المهجور
يهدي إلى الأكباد والصدور ... روحاً تحاكى نفثة المصدور
وقال في مدية وألقاه على طريق الإلغاز:
مأسورة أبدع في ... تركيبها أصحابها
تركبها الأيدي وفي ... هاماتها أذنابها
وقال في الخمر:
عيّرتني ترك المدام وقالت ... هل جفاها من الكرام لبيب
هي تحت الظلام نورٌ وفي الأكباد ... برد وفي الخدود لهيب
قلت يا هذه عدلت عن النصح ... أما للرشاد فيك نصيب
إنها للستور هتك وبالألباب فتك وفي المعاد ذنوب
وقال في السيف:
لي رفيق شهم الفؤاد يماني ... غزل في قصافة القضبان
لا يعني في العظم إلا إذا أصبح نشوان من نجيعٍ قاني
وقال فيه:
خير ما استعصمت به الكفُّ يوماً ... في سواد الخطوب عصب صقيل
عن سؤال اللئام مغنٍ وفي العظم ... مغنٍ وللمنايا رسول
وقال الفرس:
خير ما استظرف الفوارس طرف ... كلُّ طرفٍ لحسنه مبهوت
هو فوق الجبال وعل وفي السهل عقاب وفي المعاير حوت
؟؟غرر من شعره في الإخوان
قال:
وأخٍ إذا ما شطّ عنّي رحله ... أدنى إليَّ على النور معروفه
إذا غاب يوماً لم ينب عنه شاهد ... وإن شهد ارتاحت إليه المشاهد
وقال فيه:
قد أتاني من صديق كلام ... كلآلٍ وانهنّ نظام
فسرى في القلب مني سرورٌ ... مطرب يعجز عنه المدام
مثلما يرتاح شيخ بناتٍ ... حوله من جمعهنّ زحام
فدعا الله طوبلاً يرجّى ... خلفاً من نسله ما يرام
وآتاه بعد يأسٍ بشير ... قال يا بشراي هذا غلام
وقال:
بنفسي أخ قد برّني بشكاته ... ولم يجعل الحمى دون ماله
فطاب ثناءً بين أثناء سقمه ... كطيب نسيم الريح عند اعتلاله
بودّي لو نفّست عنه سقامه ... بنفسي لو نافسته في احتماله
فلم تصب الأوصاب راحة جسمه ... ولم تخطر الأشجان يوماً بباله
وقال:
تمّت محاسنه فما يزري بها ... مع فضله وسخائه وكماله
إلاّ قصور وجوده عن جوده ... لا عون للرجل الكريم كماله
؟؟لمع من شعره في المداعات
وما يشاكلها
كتب إلى كاتب له:
أبا جعفر هل فضضت الصّدف ... وهل إذ رميت أصبت الهدف
وهل جئت ليلاً بلا حشمة ... لهول السّرى سدفاً في سدف
وقال:
يريد يوسّع في بيته ... ويأبى به الضّيق في صدره
فتىً سخط النصب في قدره ... كما رضي الخفض في قدره
وقال:

(2/106)


لنا صديق يجيد لقما ... راحتنا في أذى قفاه
ما ذاق من كسبه ولكن ... أذى قفاه أذاق فاه
وقال:
يا من دهاه شعره ... وكان غضّاً أمردا
سّيان فاجأ أمرداً ... في الخدّ شعر أم ردى
وقال:
لنا مغنّ سمج وجهه ... أبدع في القبح أبازيره
رام غناءً فأبى صوته ... ورام ضرباً فأبى زيره
وقال:
هو السؤل لا يعطيك وافر منّة ... يد الدهر إلاّ حين أبصرته جلد
وفي
؟؟المراثي
قال يرثي أبا بكر بن حامد البخاري:
يا بؤس للدهر أيّ خطب ... دها به الناس في ابن حامد
قد استوى الناس منذ تولّى ... فما يرى موقف الحامد
يبكي على فقده ثلاث ... العلم والزهد والمحامد
وله من قصيدة يرثي بها أبا القاسم علي بن محمد الكرخي:
هل إلى سلوة وصبر سبيل ... كيف والرزء ما علمت جليل
فجعتني الأيام لمّا ألمّت ... بصديق وجدي عليه طويل
بأبي القاسم الذي أقسم المجد ... يميناً أن ليس منه بديل
كان معنى الوفاء والبرّ إن حال ... زمان فودّه ما يحول
كان زين الندى في العلم والآن ... داب ترعى رياضهنّ العقول
كان بدر النهى فحان أفول ... كان شمس الحجى فحان أصيل
ومنها:
خلق كالزلال زلّ عن الصخر ... ونفس للعيب عنها زليل
واجتناب لما يعيب من الأمر ... وعرض عن الدنايا صقيل
من يكن بعده العزاء جميلاً ... فاجتناب العزاء فيه جميل
ومنها:
أيّ مرأى ومنظر لا يهول ... من خليل عليه ترب مهيل
فعليه سلام ذي العرش يهديه ... إلى حشو قبره جبريل
وأتاه من رحمة الله كفل ... هو بالخلد في الجنان كفيل
وقال في غلام له توفي في دهستان:
لي في دهستان لا جاد الغمام لها ... إلا صواعق ترمي النار والشّهبا
ثاو ثوى منه في قلبي جوى ضرم ... يشبّ كالسيف حدّاً والسنان شباً
دعاه داعي المنايا غير محتسب ... فراح يرفل عند الله محتساً
هلال حسن بدا في خوط أسلحة ... قد كاد يقمر بأنفس لولا أنه غرباّ
لو يقبل الموت عنه فديةً سمحت ... نفسي بأنفس ذخر دون ما سلبا
لكن أبي الدهر أن ترزا فجائعه ... إلاً عقائل ما نحويه والنخبا
تراه قد نشبت فينا مخالبه ... فليس يبقي لنا علقاً ولا نشباً
لئن أناخ على وفري بنكبته ... فالدين والعرض موفوران ما نكب
أقابل المرّ من أحكامه جلداً ... بالحلم والصبر حتى يقضي العجب
وفي
؟؟التوجع وشكوى الدهر
قال:
يا دهر ما أقسى يا دهر ... لم يحظ فيك بطائل حرّ
أما اللئام فأنت صاحبهم ... ولهم لديك العطف والنصر
يبقى اللئيم مدى الحياة فلا ... يرتاح منه لحادث صدر
تصفو له الدنيا بلا كدر ... ويطيعه في عيشه اليسر
فمرامه سهل وكوكبه ... سعد وغصن سروره نضر
وعلى الكريم يد يسلّطها ... منك الجفاء المرّ والقسر
إن ناب حطب فهو عرضته ... يفريه منه الناب والظفر
أو يبغ معروفاً لديك غدا ... ينجي عليه حادث نكر
وجناه شوك والبحور له ... وشل وحشو فؤاده جمر
يا دهر دع ظلم الكرام فهم ... عقد لنحرك لو درى النذحر
سالمهم واستبق ودّهم ... فهم نجوم ظلامك الزّهر
وله في النكبة كفاناها الله تعالى:
جفون قد تملّكها السهاد ... وجنب لا يلائمه مهاد
وأحداث أصابتني وقومي ... يذلّ من الحليم لها القياد

(2/107)


فقد شطّت بنا وبهم ديار ... وفرّق جامع الشّمل البعاد
أقول وفي فؤادي نار وجد ... لها ما بين أحشائي اتّقاد
وللأحزان في صدري اعتلاج ... وللأفكار في قلبي اطّراد
ألا هل بالأحبة من لمام ... وهل شمل السرور بهم معاد
ولا والله ما اجتمعت ثلاث ... فراقهم وجفني والرقاد
فإن تجمع شئيت الشمل منّاً ... وفي اليام جور واقتصاد
تنجّزنا من الأحداث عهداً ... أكيداً لا يزاغ ولا يكاد
وكيف يصح للأيام عهد ... وشيمتها التغّير والفساد
وقال:
ما لليالي ولي كأنّ لها ... في مهجتي إن لقيتها غرضاً
أظنّها قد تراهنت جملاً ... في رميها واتخذنني غرضاً
وفي
؟؟الحكمة والأمثال والزهد
قال في معنى لم يسبق إليه:
كم والمد يحرم أولاده ... وخيره يحظى به الأبعد
كالعين لا تبصر ما حولها ... ولحظها يدرك ما يبعد
وقال في معنى آخر اخترعه:
لا تمنع الفضل من مال حبيت به ... فالبذل ينميه بعد الأجر يدخر
والكرم يؤخذ من أطرافه طمعاً ... في أن يضاعف منه الكل والثمر
وقوله:
أخوك من إن كنت في ... نعمي وبؤس عادلك
وإن بدا لك منعماً ... بالبرّ منه عادلك
وقوله:
جامل الناس في المعش ... وخلّ المزاحمة
وتنصّح وقل لمن ... يتعاطى المزاح منه
وقوله:
يشقى الفتى بخلاف كلّ معاند ... يؤذيه حتى بالقذى في مائه
يهوى إذا أصفى الإناء لشربه ... ويروغ عنه عند صبّ إنائه
وله:
دع الحرص واقنع بالكفاف من الغنى ... فزرق الفتى ما عاش عند معيشه
وقد يهلك الإنسان كثرة ماله ... كما يذبح الطاووس من أجل ريشه
وقوله:
أمتع شبابك من لهو ومن طرب ... ولا تصخ لملام سمع مكترث
فخير عيش الفتى ريعان جدّته ... فالعمر من فضة والشيب كالخبث
وقوله:
أتركض في ميادين التصابي ... وقد ركض المشيب على الشباب
وتأمن نوبة الحدثان نفسي ... وما ناب لها عني بنابي
وكيف تلذّ طعم العيش نفس ... غدت أترابها تحت التراب
وقوله:
قد أبى لي خضاب شيبي فؤاد ... فيه وجد بكتم سرّي ولوع
خاف أن يعقب الخضاب نصول ... ونصول الخضاب سير بديع
وقوله:
ذو الفضل لا يسلم من قدح ... وإن غدا أقوم من قدح
وقال وقد نظم كلام سيدنا علي أبي طالب رضي الله عنه:
تقصيرك الذيل حقّاً ... أبقى ولأتقى وأنقى
وقال:
عمر الفتى ذكره لا طول مدَّته ... وموته خزيه لا يومه الداني
فأحي ذكرك بالإحسان تودعه ... تجمع بذلك في الدنيا حياتان
الباب االتاسع
في ذكر الطارئين على نيسابور
من بلدان شتى على اختلاف مراتبهم
فمنهم من فارقها، ومنهم من استوطنها وسياقة الملح من كلامهم سوى من تقدم ذكره منهم في سائر الأبواب
أبوعبد الله الوضاحي
البشري محمد بن الحسين
شاعر ظريف الجملة والتفصيل، ورد نيسابور فاستوطنها إلى أن توفي بها، وله شعر كثير أخرجت منه ملحاً قليلة، كقوله في وصف الشموع.
وهو معنى مبتذل:
عرائس تستضيء بها الكؤوس ... كأنّ ضياء أوجهها الشموس
لنا من حسنها أبداً نعيم ... لها منه مدى الأيام بوس
تذوق الموت ما سلمت وتحيا ... إذا ما قطِّعت منها الرءوس
وقوله في الغزل:
بمثل هواك تنتهك الستور ... ويبدو ما تضمّنه الضمير
يسرُّ بما يسرُّرك كلُّ شيءٍ ... يرى حتى يسرَّ بك السرور
ولست البدر لكن فيك حسن ... تلاشى في دقائقه البدور
وله من أخرى:
وما الناس إلا الرقُّ منه مصاحف ... ومنه بأعناق النساء طبول
وله من قصيدة:

(2/108)


عالم الغيب شاهد أنّ غيبي ... لك كالظاهر الذي ترتضيه
ليس فخري ولااعتدادي بشيء ... غير أني في عالم أنت فيه
أبو طاهر بن الخبز أرزي
قد تقدم ذكره عن ذكر أبيهوعمه، وكان - على انتحاله كثيراً من أشعار أهل عصره - شاعراً لا بأس بكلامه، ونقب في بلاد خراسان، وأقام بنيسابور مدة، ومن شعره السائر بنيسابور قوله لحاكمها:
كم من سعيدٍ على الأيام قد نحسا ... وصاعدٍ قد رماه الدهر فانتكسا
وحاكمٍ ظنَّ أنّي دون ثروته ... مذبذب فقرا لي وجه عبسا
سنستجدُّ خلاف الحالتين فلا ... أبقى فقيراً ولا تبقى لكم نسا
وقول:
ليَّ ثياب فوق قيمتها الفلس ... وفيهمَّ نفس دزن قيمتها الإنس
ثوبك مثل الشمس من تحتها الدجى ... وثوبي مثل الغيم من تحته الشمس
وقوله:
وروضة راضها الندى فغدت ... لها من الزّهر أنجم زهر
تنشر فيها أيدي الربيع لنا ... ثوباً من الوشي حاكه القطر
كأنما شقّ من شقائقها ... على رباها مطارف خضر
ثم تبدت كأنها حدق ... أجفانها من دمائها حمر
أبو الحسن أحمد بن أيوب البصري
المعروف بالناهي
ورد نيسابور فأقام بها سنين يشعر، ثم فارقها إلى جرجان، وألقى عصاه بها مدة إلى أن سار منها، فأنشدني الدهخذا أبو سعيد محمد بن منصور،قال: أنشدني الناهي لنفسه في البعوض والبرغوث:
لا أعذر اللّيل في تطاوله ... لو كان يدري ما نحن فيه نقص
لي والبراغيث والبعوض إذا ... ألحفنا حندس الظلام قصص
إذا تغنّى بعوضه طرباً ... ساعد برغوثه الغنا فرقص
المعنى جيد وفي اللفظ خلل.
وقوله:
كنت إذا أصبحت في حاجةٍ ... أستعمل التقويم والزيجا
فأصبح الزيج كتصحيفه ... وأصبح التقويم تعويجا
أبو الحسين محمد بن الحسين
الفارسي النحوي
أحد أفراد الدهر، وأعيان العلم، وأعلام الفضل، وهو الإمام اليوم في النحو بعد خاله أبي الحسن بن أحمد الفارسي، ومنه أخذ، وعليه درس، حتى استغرق علمه، واستحق مكانه، وكان أبو علي أوفده على الصاحب فارتضاه، وأكرم مثواه، وقرب مجلسه.
وكتب إليه في بعض أيامه عنده هذه المعماة ليستخرجها.
ما اسود غريب، بعيد الدار قريب، يقدم فحواه على نجواه، ويتأخر لفظه عن معناه. لهطرفان فأحدهما جناح نسر، والآخر خافية صقر، يلقاك من مياسره سانح، ومن ميامنه بارح. تجودك أنواؤه والسنون جماد، وتسقيك سماؤه والعيش جاد، بينا تراه علىكواهل الجبال، حتى يتهيل الرمال، قد تجافى قطراه عن واسطته، وانضم ساقاه على راحلته. يخونك إن وفى لك الشباب، ويفي لك إن جهدك الخضاب، رفعته رفعة المنابر، ورفقته رفقة المحابر، يروي عن الأحمر، وإن شئت عن يحيى بن يعمر. قد أفضى بك إلى روضة غناء ينعم رائدها، وشريعة زرقاء يكرع واردها، أخرجه أبا الحسين، أسرع من خطفة عين:
وذاك له إذا العنقاء صارت ... مربّيةً وشبّ ابن لخصيِّ!
ولما استأذنه للصدر وقع في رقعته: لا استدلال يا أخي على الملال، أقوى من سرعة الارتحال، لكنا نقبل العذر وإن كان مرفوضاً، ونبسطه وإن كان مقبوضاً، ولا أمنعك عن مرادك ووفاقك. وإن منعت نفسي مرادها بفراقك، فاعزم على ذلك وفقك الله في اختيارك، ووصل النجح بإيثارك.
وأصحبه كتاباً إلى خالة أبي علي هذه نسخته:

(2/109)


كتابي أطال الله بقاء الشيخ، وأدام جمال العلم والأدب بحراسة مهجته، وتنفيس مهلته، وأنا سالم والله حامد، وإليه في الصلاة على النبي وآله راغب، ولبر الشيخ أيده الله كتابه الوارد شاكر، فأما أخونا أبو الحسين قريبه أيده الله فقد ألزمني بإخراجه إلى أعظم منه، وأتحفني من قربه بعلق مضنة، لولا أنه قلل الأيام، واختصر المقام، ومن هذا الذي لا يشتاق إلى ذلك المجلس؟ وأنا أحوج من كافة حاضرته إليه، وأحق منهم بالمثابرة عليه، ولكن لأمور مقدرة،وبحسب المصالح ميسرة، غير أنا ننتسب إليه على البعد، ونقتبس فوائده عن قرب، وسيشرح هذا الأخ هذه الجملة حق الشرح بإذن الله، والشيخ أدام الله عزه يبرد غليل شوقي إلى مشاهدته، بعمارة ما افتتح من البر بمكاتبته. ونقتصر على الخطاب الوسط، دون لخروج في إعطاء الرتب إلى الشطط، كما يخاطب الشيخ المستفاد منه التلميذ الآخذ عنه، وينبسط إلي في حاجاته، فإنني أظنني أجدر إخوانه بقضاء مهماته، إن شاء الله تعالى.
وتصرفت بأبي الحسين أحوال جميلة في معاودته حضرة الصاحب، وأخذه بالحظ الوافر من حسن آثارها، ثم وروده خراسان ونزوله نيسابور دفعات وإملائه بها في الأدب والنحو ما سارت به الركبان، ثم قدومه على الشار صاحب غرسسان وحظوته عنده ووزارته له، ثم وزارته للأمير إسماعيل بن سبكتكين، ثم اختصاصه بعده بالشيخ أبي العباس الفضل بن أحمد الإسفرائيني وأبنائه بغزنة ورجوعه منها إلى نيسابور وإقامته بإسفارئين، ثم مفارقته إياها إلى جرجان واستقراره بها الآن، ومحله يكبر عن الشعر إلا أن بحر علمه ربما يلقى الشعر على لسان فضله.
فمما أنشدنيه وحدثينيه أن مرور الروز سأله أن يجيز قول الشاعر:
سرى يخبط الظلماء والليل عاكف ... غزال بأوقات الزيارة عارف
فقال:
وما خلت أنّ الشمس تطلع في الدجى ... وما خلت أنّ الوحش للإنس آلف
ولجلج إذ قال السلام عليكم ... ولا عجب إن لجلج القول خائف
وقمت أفدِّيه وقلبي كأنّه ... من الرعب مقصوص من الطير جادف
ولما سرى عه اللثام بدت لنا ... محاسن وجهٍ حسنه متناصف
وطال تناجينا ورقّ حديثنا ... ودارت علينا بالرحيق المراشف
ولا غرو أن لا باخل بخياله ... يسامحنا في وصله ويجازف
فيا لك لبلاً قد بلغت به المنى ... يمانعني طوراً وطوراً يساعف
كأنّ يد الأيام عندي بوصله ... أيادي ابن حسانٍ لديَّ السّوالف
إذا ادخر الأموال قوم فذخره ... صنائع إحسانٍ له وعوارف
ومن شغف البيض الأوانس قلبه ... فليس له إلاّ المكارم شاغف
وله من قصيدة في الشيخ أبي الحسن علي ابن الشيخ أبي العباس الإسفرائيني:
فتىً ساد في عصر الفتاء وقد حوى ... شتيت من ساد عصر فتائه
يصدِّق ظنّ المرتجى ويزيده ... بأدنى لهاه فوق أقصى رجائه
فلا مطله يمتدُّ قدَّام نيله ... ولا منَّه يشتدُّ خلف عطائه
من الشد، وهو: العدو ومنها:
ألا أبلغ الشيخ الجليل رسالةً ... مترجمةً عن شكره وثنائه
تقلَّبت في نعماك عشراً كواملاً ... حلبت بهن العيش ملء إنائه
وأنقذت شلوي من يد الموت بعدما ... ترامته من قدامه وورائه
وسببت لي عيشاً يسدّ خصاصتي ... ووجهي محقون صبابة مائه
أأكفر من صغري أياديه مهجتي ... وبلغة عيشي من دقاق حبائه
أعدت قوى حبلي وشيَّدت بنيتي ... وكم رمَّ بان مسترمُّ بنائه
وتربية المعروف شرط تمامه ... وهل تمّ شرط دون ذكر جزائه
الشرط والجزاء في النحو معروفان.
ولا بدّ من سرٍّ إليك أبثُّه ... ففي نفثة المصدور بعض شفائه
تمادى عليَّ في الجفاء ولم أكن ... خليقاً بما أبداه لي من جفائه
كأنّي يوماًعقته عن سماحه ... كأني يوماً لمته في سخائه؟

(2/110)


طوى كشحة من دون عتبٍ أسرُّه ... وجهل أمرىءٍ بالداء جهل دوائه
تكدّر بالإدمان صفو وداده ... فحاولت بالإعتاب عود صفائه
فإن جرّ تخفيفي عليَّ قطيعةً ... فربّ سقيمٍ سقمه لاحتمائه
وله من قصيدة:
ولا غصن إلاَّ ما حواه فباؤه ... ولا دعص إلاّ ما خبته مآزره
وأمضى من السيف المنوط بخصره ... إذا شيم سيف تنتضيه محاجره
وله من أخرى في الأمير خلف:
وما كتبت سطراً من الوجد أدمعي ... لنحوك إلاّ وهو بالدم معجم
وما لي ألقى في جنابك غلَّةً ... وحوضك للعافين غيري مفعم
وقد يغتدي الورّاد يبغون نجعةً ... فيرزق مرتاد وآخر يحوم
وله من أخرى:
كم أعقبت نوب الزمان جميلاً ... وكفين خطباً قد ألمّ جليلا
لا تستقل جميل دهرك إنّه ... ليس القليل من الجميل قليلا
واسأل بي الأيام حين جسسنني ... بخطوبها جسّ الطبيب عليلا
أقريتها لمّا نزلن بساحتي ... صبراً على ريب الزمان جميلا
ومنها:
يرعى محياه الجميل رواؤه ... ثمر القلوب محبّةً وقبولا
حلو الكلام كأنّما أنفاسه ... ألقت عليه خلقه المعسولا
ومنها:
يا راكباً والجوسقان قصاره ... يجفو مبيتاً دونه ومقيلا
قل للأمير إذا سعدت بوجهه ... وقضيت حقّ بساطه تقبيلا
لا تيأسن من الإله فروحه ... إن لم يغادك بكرةً فأصيلا
وأمل لطائف صنعه فلطالما ... كشف الهموم وبلّغ المأمولا
يا ربَّ مكروهٍ تعذَّر حلُّه ... ليلاً فأصبح عقده محلولا
وملمّةٍ أعيا نهاراً خطبها ... أمست فسهّل خطبها تسهيلا
ذكّرتك الصبر الجميل وإنّني ... كمذكّرٍ غزل النسيب جميلا
وله في وصف الفرس من قصيدة:
ومطهّم ما كنت أحسب قبله ... أن السروج على البوارق توضع
وكأنّما الجوزاء حين تصوّبت ... لبب عليه والثريّا برقع
أبو سعد نصر بن يعقوب
تعقد عليه الخناصر بخراسان في الكتابة، والبراعة في الصناعة. وله في الأدب تقدم محمود،وفي المروءة قدم مشهورة، وفي المعالي همة بعيدة، وشهادة الصاحب له بالفضل، تسجل بها أحكام العدل. وفيما أحكيه من كتابه إليه في ارتضاء تآليفه ونظمه ونثره، غنى عن الإسهاب في ذكره، والإطناب في وصفه.
ولما بعث إلى حضرته بكتابه المترجم بروائع التوجيهات، من بدائع التشبيهات، مقروناً بكتاب على كل صواب، وقصيدة في فنها فريدة، ورد عليه كتاب هذه نسخته: كتابي - أطال الله بقاءك يا ولدي - وقد شارفت أصبهان سالما، والحمد لله حمداً دائماً. ووصل كتابك أيدك الله فأنبأ من محاسنك عن مجال فسيح، ونطق في فضائلك بلسان فصيح، وأذكر بحرماتك وإنها لمحصدة المرائر. وخبِّر بقرباتك وإنها لخالصة السرائر. فأما كتاب التشبيهات فقد فرعت به كافة الأشباه، وأنبهت على سبقك كل الإنباه. إذ تعاطاه ابن أبي عون فلم يطاول يدك. وحمزة بن الحسن فلم يبلغ أمدك، وهذا شيخان مقدمان، وفحلان مقرمان، وما ظنك بكتاب نفرته على نظائره، وصار ألزم لمجلسي من مساوره، وحين هزني نثرك حتى كأنه نثر الورد، عطفت على نظمك فإذا هو نظم العقد. وإني ليعجبني أن يكون الكاتب شاعراً، كما يعجبني أن يكون الشعر سائراً فها نحن ندعيك في فضلاء هذا الصقع، ونجتذبك اجتذاب لأصل للفرع، فاكتب متى شئت، عامراً من الحال ما أسست، ومستثمراً من الخصوص ما غرست، إن شاء الله. خاطبت أيدك الله في معنى الضيعة وليس حلها لك بمستنكر، ولا إطعامك إياها بمستكثر إلا ن الرأي والرسم أوجبا أن يجعل بدء النظر تسويغا، يعود من بعد تمليكا وتخويلا. فليقبض المرسوم، لينتظر الموعود، إن الهلال يدور بعد ليال بدراً كاملا، والطل يكسب ثم يعود وابلا، والحمد لله وصلواته على النبي محمد وآله.

(2/111)


ولأبي سعد كتب كثيرة سوى ما تقدم ذكره، فمنها كتاب ثمار الأنس في تشبيهات الفرس، وكتاب الجامع الكبير في التعبير،وكتاب الأدعية، وحقة الجواهر في المفاخر، وهي من مزدوجة بهجة في الأمير خلف، وهو الآن يتولى عمل الفرض والإعطاء بنيسابور، وإذا احتاج السلطان المعظم يمين الدولة وأمين الملة الإجابة عن كتب الخليفة القادر بالله أطال الله بقاءهما اعتمد فيها عليهن لما يتحققه من حسن كلامه، وقوة بيانه، وغزارة بحره، وشرف طبعه.
وله شعر كثير قد كتبت منه ما حضرني الآن إلى أن الحق به أخواته.
فمن ذلك قوله للصاحب من قصيدة أولها:
أبى لي أن أبالي بالليالي ... وأخشى صرفها فيمن يبالي
حلولي في ذري ملكٍ كطودٍ ... رفيع مشرف الأعلام عالي
إلى شمس الشتاء إلى ظلال المصيف إلى الغمام إلى الهلال
إذا ما جاءه المذعور يوماً ... وحلّ ببابه عقد الرحال
تبوّأ من ذراه خير دارٍ فلم يخطر لمكروهٍ ببال ومنها عند ذكر القصيدة:
بودّي لو نهضت بها ولكن ... ضعفت عن الحراك لضعف حالي
وله إليه في صدر كتابه من الرجز:
نعمر رسول الخادم المحتشم ... إلى الوزير السيد المحترم
الصاحب البرّ الأجل الاكرم ... كافي الكفاة وليِّ النعم
مدبّر الأرض وراعي الأمم ... بلّغه الله أقاصي الهمم
ما في الكتاب من ثمار القلم وله من قصيدة إلى أبي محمد الخازن:
أتاني كتاب الشيخ مولاي بغتة ... فطار له غمّي كما طاب موردي
وفيه معانٍ لا تدين لكاتبٍ ... وتعنو لعبد الله أعني ابن أحمد
لا أسكرن حتّى دونها خمر بابلٍ ... وأطربن حتى دونها لحن معبد
قرأت سواداً في بياضٍ كأنَّه ... طراز عذارٍ لاح في خدِّ أمرد
وله من أبيات ي وصف الزلزلة:
أسقني كأساً كلون الذهب ... وأمزج الريق بماء العنب
فقد ارتجَّت بنا الأرض ضحىً ... كارتجاج الزئبق المنسرب
وكأنّ الأرض في أرجوحةٍ ... وكأنا فوقها في لولب
وقوله في كسوف القمر من الرجز:
كأنما البدر به الكسوف ... جام لجينٍ رائقٍ نظيف
في نصفه بنفسج قطيف
أبو نصر سهل بن المرزبان
أصله من أصبهان. ومولده ومنشؤه قاين ومستوطنه الأن نيسابور وهو غرة في جبهة عصره، وتاج على رأس أهل مصره، وخارج بمحاسنه وفضائله عن المعتاد، إلى مالا يدرك بالاجتهاد. واقف من الآداب على أسرارها، قاطف من العلوم أحلى ثمارها، وبلغ من غلوه في محبتها، وشدة حرصه على اقتناء كتبها. أن ركب إلى قرارتها بغداد الشقة، وتحمل فيها المشقة، ولم يرض بذلك مرة، حتى كر إليها كرة، ليس له بها غير الأدب أرب، ولا سوى الكتب طلب، أنفق على تلك الفوائد، من الطارف والتالد، ما عوضه عنه صنوف المحامد، وقديما قيل: إنفاق الفضة، على كتب الآدب، يخلفك عليها ذهب الألباب.
وليس اليوم بنيسابور ديوان شعر غريب يجري مجرى التحف، ولا كتاب جديد يشتمل على بدائع الطرف، إلا ومن عقده انتثر، ومن يده انتشر، ولا بها سواه من تسمو همته على يساره، لا رتباط الوراقين في داره، وله من مؤلفاته كتاب أخبار أبي العيناء وفيه يقول من الهرج:
تفاءلت على علمٍ ... بأخبار أبي العينا
إذا ما قرأ القاري ... بها قرَّ بها عينا
وله كتاب أخبار ابن الرومي مما ألفه لي، وكتاب أخبار جحظة البرمكي، وكتاب ذكر الأحوال في شعبان وشهر رمضان وشوال، وكتاب الآداب في الطعام والشراب، وله شعر كثير النكت، وقد كتبت أنموذجا منه، كقوله:
كم ليلة أحييتها ومؤانسي ... طرف الحديث وطيب حثِّ الأكوش
شبِّهت بدرٍ سمائها دنت ... منه الثريا في قميصٍ سندسي
ملكاً مهيباً قاعداً في روضةٍ ... حيّاه بعض الزائرين بنرجس
وقوله:
قال لما قلت لم تهجرنا ... إن أتى بردٌ وإن ثلج وقع
أنا كالحيّة أشتو كامناً ... ثم أنساب إذا الصيف رجع
وقوله لبعض الرؤساء:
إذا ما سكت على ما أسام ... فنفسي بتكليفه لا تفي

(2/112)


وإمّا نطقت فعيبٌ يمضُّ ... ولومٌ يجدُّ ولم أنصف
فهل من سبيلٍ إلى ثالثٍ ... لأسلكه وهو عني خفي
وقوله:
ولم ألق مثل أبي بكرٍ معدلكم ... في الآدميين شباناً ولا شيبا
حكى عليَّ أحاديثاً أكاذيباً ... وفي اختلاس حقوقي قد حكى ذبيا
وقوله:
تسبّ صديقي في المجالس عائباً ... ومن عابه يوماً كمن هو عائبي
فدع مثل هذا جانباً في الملاعب ... وإلاّ فدعني مثله في الملاعب
وقوله في لدغة عقرب أصابته:
تداويت من أوجاع لدغٍ أصابني ... براحٍ شفتي من سموم العقارب
فحمداً للطف الله حين أزالها ... ومن بعده حمدٌ لفعل العقاربي
وله من كتاب الذخيرة:
لإذا أنت عالجت ذا علّةٍ ... فخذ لعلاج كتاب الذخيره
فنعم الذخيرة للمقتني ... ونعم الغياث نفسٍ خطيره
وله:
لا تجزعن من كلَّ خطب عرى ... ولا تر الأعداء ما يشمت
أما سمعت الله في قوله ... إذا تقيتم فئة فاثبتوا
وقوله:
مجاوزة الحدّ والاعتدال ... إلى ما يقود المنايا سريعه
فلا تفرطن في جميع الأمور ... فكلُّ كثيرٍ عدوُّ الطبيعة
وقوله:
تجنَّب شرا الناس واصحب خيارهم ... لتحذوهم في جلِّ أفعالهم حذوا
فإنّ لأخلاق الرجال وفعلهم ... إلى غيرهم عدوى توافيهم عدوا
وكتب إليه مؤلف هذا الكتاب يحاجيه من الرجز:
حاجيت شمس العلم فرد العصر ... نديم مولانا الأمير نصر
ما جاجةٌ لأهل كلِّ مصر ... في كلّ ما دار وكلِّ قصر
ييباع في الأسواق بعد العصر فكتب إليه من الرجز:
يابحر آداب بغير جزر ... وحظه في العلم غير نزر
حزّرت ما قلت وكان حزري ... أنّ الذي عنيت دهن البزر
يعصره ذو قوةٍ وأزر
أبو محمد الحسن بن أحمد اليروجردي
كاتب حقه وصدقه، منبحر في ترسله، منقطع القرين في كتاب عصره، آخذ بأزمّة الكلام البارع يقودها كيف أراد ويجذيها كيف شاء، قد خدم الصاحب في عنفوان شبابه، وتأدب بآدابه، واختص به، وراض طبعه على أخذ نمطه، ومن جانبه وقع إلى بلاد خراسان فاشتهر بها، وسار كلامه فيها، وهو الآن صدر كتاب الأمير أبي نصر أحمد بن علي الميكالي، ولعل ما قد ارتفع من سواد رسائله إلى هذه الغاية يقع في أربعة آلاف ورقة وتزيد أبوابها على خمسة وعشرين، وله محاضرة حسنة مفيدة. وشعر كتابي كثير المحاسن مستمر النظام، ومن أوائله أن الصاحب اتهم بعض المرد في مجلسه بسرقة كتبه، فقال:
سرقت يا ظبي كتبي ... ألحقت كتبي بقلبي
وأمر أبا محمد بإجازته فقال:
فلو فعلت جميلاً ... رددت قلبي وكتبي
وأنشدني بحضرته يوما هذا البيتان:
يا نسيم الريح في بلدٍ ... خبَّري بالله كيف هم
ليس لي صبر ولا جلد ... ليت شعري كيف صبرهم
فأمره بإجازتهما، فقال:
ولسان الدمع يشهد لي ... وهو ممّن ليس يتهم
ومن ملحه قوله:
قد سمعنا بكل آبدةٍ نك ... راء تبلى بمثلها الأحرار
وغفرنا الجميع للدهر لكن ... ما سمعنا بكاتبٍ يستعار
وقوله في حوض لبعض الرؤساء:
حوض يجود بجوهرٍ متسلسل ... ساد الجواهر كلَّها بنفاسته
لا زال عذاباً جارياً ببقاء من ... هو مثله في طبعه وسلاسته
وقوله من مزدوجة كتب بها إلى أبي سعد نصر بن يعقوب من الرجز:
أهلاً بمن أهدى إلينا الجونه ... ولا عدمنا أبداً مجونه
فقد أعاد منزلي خصيباً ... وازددت في الخير به نصبيا
فمن فراخٍ رخصةٍ مسمَّنة ... قد جعلت برسمها مطجنه
وباقلاء كالليالي عظمت ... معقودة في سلكها قد نظمت
إذا التقطت حبّها من الأقط ... حسبتني بها اللآلي ألتقط
وبعضها في خلّه منقوع ... جوع الفتى بطيبه مدفوع

(2/113)


وفلكٍ بالروع يدعى رازي ... خطفته باللقم خطف البازي
وبعد هذا كلّه شهد العسل ... ينزع عن ذائقه ثوب الكسل
شكرت مولاي على ما حمَّلا ... ولا يساوي كلّ هذا جملا
وكتب إلى صديق له:
بساط الأرض مسك أو عبير ... وزهر الروض وشي أو حرير
وللعيدان عيدان عليها ... بمنطق طيرها بمٌّ وزير
وقد صفّى الزمان الخمر حتى ... لقد عادت لدينا وهي نور
ومن يرد السرور يعش هنيئاً ... إذ العيش الهنيء هو السرور
وعندي اليوم فتيان كرام ... وجوههم شموس أو بدور
وقطب الأمر أنت وهل لأمرٍ ... بغير القطب فيه رحىً تدور
فرأيك في الحضور فحقِّ يومي ... عليك وقد دعيت له الحضور
وكتب إلى آخر:
حضرت مولاي للسلام ... وقت الضجر وهو في المنام
فقلت هذا دليل صدقٍ ... عندي على جودة المدام
والعتب في تركه دعاني ... إليه في جملة الندام
كتب:
يوم الثلاثا للسرور فلا تكن ... عنه بغير السرور مشتغلا
والدهر في غفلة وعيشك لا ... يطيب إلاّ والدهر قد غفلا
عجّل وبادر بدار مغتنمٍ ... فالدست والله لأمري عجلا
وله في سكين:
سكين عزّ لمن مداه ... في العزّ يغنيه عن مداه
فلو سطا ضارب بعود ... لعاد سيفاً على عداه
؟؟أبو النصر محمد بن عبد الجبار العتبي
هو لمحاسن الأدب وبدائع النثر ولطائف النظم ودقائق العلم كالينبوع للماء، والزند للنار، يرجع معها إلى اصل كريم، وخلق عظيم.
وكان فارق وطنه في اقتبال شبابه. وقدم خراسان على خاله أبي نصر العتبي،وهو من وجوه العمال بها وفضلائهم، فلم يزل عنده كالولد العزيز عند الوالد الشفيق، إلى أن مضى أبو نصر لسبيله، وتنقلت بأبي النصر أحوال وأسفار في الكتابة للأمير أبي علي، ثم للأمير أبي منصور سبكتكين مع أبي الفتح البستي، ثم النيابة بخراسان لشمس المعالي، واستوطن نيسابور، وأقبل على خدمة الآداب والعلوم.
وله كتاب لطائف الكتاب وغيره من المؤلفات. وله من الفصول القصار شيء كثير، كقوله: تعز الدنيا، الشباب باكورة الحياة، للهم في وحز النفوس، أثر النفوس في خزّ السوس، لسان التقصير قصير.
ولا بأس أن أورد أنموذجاً من سائر نثره البهج. وكلامه الغنج الأرج.
؟؟نماذج من نثره رقعة في إهداء نصل خير ما تقارب به الأصاغر إلى الأكابر. ما وافق شكل الحال، وقام مقام الفال، وقد بعثت بنصل هندي إن لم يكن له في قيم الأشياء خطر، فله في قمم الأعداء أثر، والنصل أخوان، والإقبال والقبول قرينان والشيخ أجل من أن يرى إبطال الفال، ورد الإقبال.
رقعة في الاستزارة يوم النحر أمتع الله مولاي بهذا العيد واليوم الجديد، وأطال بقاءه في الجد السعيد والعيش الرغيد. هذا يوم كما عرفه التاريخ العام، وغرة الأيام، قد قضيت فيه المناسك، وأقيمت المشاعر، وأديت الفرائض والنوافل، وحطت عن الظهور بها الأصار والمثاقل، فالصدور مشروحة، وأبواب السماء مقتوحة والرغبات مرفوعة، والدعوات مسموعة. وليت المقادير أسعدتنا بتلك المواقف الكرام والمشاعر العظام، فنحظى بعوائد خيراتها، ونستهم في محاسن بركاتها، وإذ قد فاتنا ذاك فما أحوجنا إلى أن نحرم من ميقات الطرب. ونغتسل من دنس الكرب، ونلبس إزار المجون، ونلبي على تلبية الأوتار، ونطوف بكعبة المزاح، ونستلم ركن النشاط، ونسعى بين صفاء القصف ومروة العزف، ونقف بعرفة الخلاعة، ونرمي جمرات الهموم، ونقضي تفث الوساوس، ونضحي ببدن الأفكار في العواقب، فإن رأى أن يتفضل بالحضور، لتتميم حجة السرور، فعل إن شاء الله.
رقعة في خطبة الود

(2/114)


أنا خاطب إلى مولاي كريمة وده، على صداق قلب معمور بذكره، مقصور على شكره. معترف بفضله، عالم بتبريز خصله. على أن أصونها من غواشي الصدر في سجوف. وأمسكها مدى الدهر بمعروف، وأنحلها من عادة الرفق، ودماثة الخلق، ووطاة الجناب، ولطافة العشرة والاصطحاب، ما لاتكتسي معه نفوراً وانقباضاً، ولا تشتكي نشوزاً وإعراضاً، فإن وجدني مولاي كفؤاً له بعد أن جئت راغباً، وبلسان الخطبة خاطباً، أنعم بالإسعاف، وجعل الجواب مقدمة بين يدي هذه النجوى صدقة، طلبا للتحاب لا على حكم الاستحقاق والاستيجاب، ومهما أنعم مولاي بقبولها أيقنت استكفاءه إياي لوده، واستغرقت الوسع والإمكان في شكره. والتحدث بعظيم بره، إن شاء الله تعالى.
وله كتاب هذا كتاب من ديوان العتب والاستبطاء، إليك يا عامل الصدود والجفاء. أما بعد، فقد خالفت ما أوجه التقدير فك، وأخلفت ما وعده الظن بك، وافتتحت ما توليته من عمل الوداد بهجران أطار وادع القرار. وأودع القلب أحر من النار. وتقبته بخلع عذار الوفاء أصلاً، ومعاقرة ندمان الجفاء نهاراً وليلاً.وشغلك خمر الهجران، وخمار النسيان، عن ترتيب أمور المودة وتهذيب جرائد الوصال والمقة، واستعراض روزنامجة الكرم، واسترفاع ختمات العهد المقدم، وتأمل مبلغ اورد والإخراج من الود، تعرف مقدار الحاصل والباقي من أثر الرعاية في القلب، وسلطت أيدي خلفائك، وهم عدة من إعراضك وصدك وجفائك، على رعية النفس وهي التي جعلت أمانة عندك ووديعة قبلك، فأسرفوا في استيكالها، وهموا باجتياحها واغتيالها، غير راع لحرمة الثقة بك، ولا واف بشرط الاعتماد عليك، ولا قاض حق الإيثار لك، والاستنامة أليك، ولا ناظر لغدك إذل استعدت إلى الباب، وطولبت برفع الحساب، واستعرضت جريدة أفعالك، واستقريت صحيفة أعمالك، هنالك يتبين لك ما جنى عليك سوء صنيعك، وما الذي جاش إليك فرط تضيعك، فتصحو تارة عن سكرو جفائك، وتسكر أخرى عن سورة أحبائك، وكم تقرع من ندم اسنانك، وتعض من سدم بنانك. هيهات! لا ينفع اذ ذاك إلا القلب السليم، والعهد الكريم، والعمل القويم، والسنن المستقيم، من لك بها وقد ودت وجوه آثارك، وتلقيت أمانة العهد بسوء جوارك، وقبح إخفارك، لولا التأميل لفيأتك وارعوائك، وانتهائك عن تماديك في غلوائك لأتاك من أشخاص الإنكار ما يقفك على صلاحك، ويكفك عن فرط جماحك، فأجل أعزك الله الغشاء عن عين رعايتك، واطرح القذى عن شرب مخالصتك، وارع ما استحفظته من أمانة الفؤاد، واعلم بأنك مسئول عن عهدة الوداد، واكتب في الجواب بما نراعيه منك، وتعذر إن كان فيما أقدمت عليه لك، إن شاء الله تعالى.
رقعة استزارة هذا يوم رقت غلائل صحوه، وخنثت شمائل جوّه، وضحكت ثغور رياضه، واطرد زرد الحسن فوق حياضه. وفاحت مجاهر الأزهار، وانتثرت قلائد الأغصان عن فرائد الأنوار. وقام خطباء الأطيار. فوق منابر الأشجار ودارت أفلاك الأيدي بشموس الراح، في بروج الأقداح، وقد سيبنا العقل في مرج المجون، وخلعنا العذار بأيدي الجنون. فمن طالعنا بين هذه البساتين وأنواع الرياحين، طالع فتيانا كالشياطين، ونصارى يوم الشعانين، فبحق الفتوة التي زان الله بها طبعك، والمروة التي قصر عليها أصلك وفرعك، إلا تفضلت بالحضور ونظمت لنا بك عقد السرور.
رقعة أخرى أمتع الله الشيخ بعنوان الشتاء، وباكورة الديم والأنواء، وهنأه الله اليوم الذي هو نسخة جوده، ومجاجة ماء أرواه الله بماء المجد من عوده. وعرفه من بركاته، أضعاف قطر السماء بأقطاره وساحاته، وأضحك قلوبنا ببقائه، كما أضحك الرياض بأندائه، وحجب عنه صروف الأيام، كما حجب السماء عنا بأجنحة الغمام، قد حضرني أيد الله الشيخ عدة من شركائي في خدمته، فارتحت لاشتراكهم إياي فيما آردعته من فضل نعمته، وأشفقت منسمة التقصير لديه، فقدت هذه الرقعة جنيبة عذر بين يدي عارض التقدير إليه، وفي فائض كرمه ما حفظ شمل الأنس على خدمه، لا زال مأنوس الجناب، بالنعم الرغاب، مأهول المعاهد، بالقسم الخوالد.
فصل في الإنكار على من يذم الدهر

(2/115)


عتبك على الدهر داع إى العتب عليك، واستبطاؤك إياه صارف عنان اللوم إليك، فالدهر سهم من سهام الله منزعه عن مقابض أحكامه، ومطلعه من جانب ما حررته مجاري أقلامه. والوقيعة فيه بمرس بحكم خالقه وباريه، ومجاري الأشياء على قدر طباعها، وبحسب ما في قواها وأوضاعها. ومن ذا الذي يلوم الأراقم على النهش بالأنياب، والعقارب على اللسع بالأذناب، وأنى لها أن تذم، وقد أشربت خلقتها السم، وحكم الله في كل حال مطاع، وبأمره رضى واقتناع، فاعف الزمان عن قوارص لسانك، واضرب عليها حجاب الحرص بأسنانك، واذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر " وعليك بالتسليم، لحكم العلي العظيم، فذاك أحمد عقبى،وأرشد ديناً ودنيا.
رقعة إلى صديق له قامر على كتب لها خطر فقمر المحن - أيدك الله - معلقة بين جناحي تقدير، وسوء تدبير. فأما التي تطلع من جانب المقدار، فالمرء فيه معفى عن كلفة الاعتذار، وأما التي أوكتها يده ونفخها فوه، فليس لخرقها أحد يرفوه. وفي فصوص الأفلاك الدائرة، ما يغني عن فصوص العظام الناخرة، اللهم إلا إذا عميت عين الإختبار،وصمت أذن الروية والاعتبار، والله ولي الإرشاد إلى طريق الصواب والسداد. وبلغني ما كان من خطارك بما اعتددته غرة الغرر، ودرة الدرر.ونهبة الأدب، وزبدة الحقب، حتى قمرته الأيدي الخاطفة،واختطفته الأطماع الجارفة، فأعدمت من غير لص قاطع، وأصبت بغير موت فاجع. فيا له من غبن يلزم المغرم، ويحرق الأرم. ويقطع البنان،ويحير العين واللسان، نعم يا سيدي قد مسني من القلق لسوء اختيارك، وقبح آثارك، ما يمس من يراك بضعة من لحمه، ودفعة من دمه، ولا يميزك عن نفسه، في حالتي وحشته وأنسه، لكن من طباع لنفوس الناطقة أن تنفر عمن يسيء لنظر لذاته، وتذهب عمن يعمل الفكر في مصالح أموره وجهاته.
ومن غفل عن صلاح نفسه فهو أغفل عن صلاح من سواه، ومن عجز عن تدبير يخصه فهو أعجزعن تدبير من عداه. والله يلهمك الصبر على ما جنته يدك، ويدرعك اسلوة عما أورطتك فيه نفسك، ويجعل هذا الواحدة منبهة لك من سنة الضلال، ومزجرة عن سنة الجهال. وبعد فلم ينقص من عمرك ما أيقظكن ولا ذهب من مالك ما وعظك، فإياك أن يطمعك اللجاج في معاودة تلك الخطة الشوهاء فإنها تأخذ منها أكثر مما تعطيك، وتسخطك فوق ما ترضيك، وإن يرد الله بك خيراً يهدك، ويسعدك بيومك وغدك.
ملح وغرر من شعره قال:
له من الهلال لنصف شهرٍ ... وأجفان مكحّلة بسحر
فعند الابتسام كليل بدرٍ ... وعند الانتقام كيوم بدر
وقال:
بنفسي من إذا ضيفاً عزيزاً ... عليَّن وإن لقيت به عذابا
ينال هواه من كبدي كباباً ... ويشرب من دمي أبداً شرابا
وقال:
أيا ضرَّة الشمس المنيرة بالضحى ... ومن عجزت عن كنهها صفة الورى
عذرتك إن لم أحظ منك برؤيةٍ ... فأنت لعمري الروح والروح لا ترى
وقال:
لي شادن ما أطيق الدهر هجرته ... أمَّن يجرعني داءً يداويني
شمس تظلِّلني، نجم يضلِّلني ... ماء يسكّرني، راح تصحيني
وقال:
إنّي أضنُّ على سقمي ... وليس والله داء الحبِّ بالأمم
قال الطبيب اقتصد يوماً فقلت له ... أخشى خروج هواه مع خروج دمي
وقال:
فتكت بمهجتي عمداً، فهلا ... طويت الجرم في ثني اعتذارك
أرى نار الصدود على فؤادي ... فما بال الدخان على عذارك
وقال:
بنفسي من نفسي لديه رهينة ... يجرّعها صبراً ويمنعها الصبرا
أغار على قلبي فلما استباحه ... أغار على دمي فنظمَّه ثغرا
وقال:
وقائلةٍ ما بال حدّك كلّما ... رآني يلقاني بصفرة جلباب
فقلت كذا بدر السماء إذا بدا ... أفاض على الغبراء صفرة زرياب
وقال:
عجبت لفاقع سحنتي ومدامعي ... منهلّة، ورأته قبل مورَّدا
فأجبتها لا تعجبنَّ فإنّه ... يصفرُّ لون الزعفران من الندا
وقال:
يا ذا الذي فتن الورى وبوجهه ... أخيا رسوماً للمحاسن عافيه

(2/116)


يحكي محياه خلال عذاره ... علم السلامة في طراز العافيه
وقال:
إذا رمت من سيِّد حاجةً ... فراع لديه الرضا والغضب
فإن التهجُّم ليل المنى ... وإنّ الطلاقة صبح الأدب
وقال:
لا تحسبنّ هشاشتي لك عن رضىً ... فوحق فضلك إنني أتملَّق
ولقد نطقت بشكر برّك مفصحاً ... ولسان حالي بالشكاية أنطق.
وقال:
شكرتك طول الدّهر غير مقابلٍ ... ندىً لك، بل جرياً على طول منتي
ومن لك بالطرف الجواد بمسكه ... بلا سنبلٍ يرعاه في أرض تبَّت
وقال:
أدل على ثقة بالهوى ... وقلبٍ تضمَّن صفو المقه
فلا تنكرن دلالاً له ... فإنّ الدلال دليل الثقه
وقال:
أدّى الخلاف لك الخلاف تشابهاً ... وكلاهما في الاختيار ذميم
لو كان خيراً في الخلاف لزانه ... ثمر، ولكن الخلاف عقيم
وقال:
الله يعلم أنّي لست ذا بخل ... ولست مطّلباً في البخل لي عللا
لكن طاقة مثلي غير خافيةٍ ... والنمل يعذر في القدر الذي حملا
وقال:
ما أنت في الأخذ من دون العطاء سوى ... صابون غاسلة معنىً ومرتسما
فما ترى دسماً يوماً بظاهره ... ودأبه أن يغسل الدّسما
وقال:
لما سئلت عن المشيب أجبتهم ... قول امرىءٍ في أمره لم يمذق
طحن الزمان بريبه وصروفه ... عمري فثار طحينه في مفرقي
وقال:
شيبي عزيز غير أنَّ شبيبتي ... علق كريم لا يجاوزه الأمل
من ذا الذي ساوى سواد لحاظه ... ببياض عينيه وحسبك ذا المثل
وقال:
تعلّم من الأفعى أمالي طبعها ... وآنس إذا أوحشت تعف عن الذَّم
لئن كان سمٌّ ناقع تحت نابها ... ففي لحمها ترياق غائلة السُّم
وقال:
يا من يقابل ديناري بدرهمه ... أقصر فدعواك طاووس بلا ريش
وأي عيبٍ لعين الشمس إن عميت ... أو قصرت عنه أبصار الخفافيش
وقال:
عليك بإغباب الوصال فضدُّه يعيد حبال الودّ منك رثاثا
ولو كلف الإنسان رؤية وجهه ... لطلَّقه بعد الثلاث ثلاثا
وقال:
أظنُّ زمان سوء قارف أبنةً ... فإني أراه يتبع العلج والغمرا
زففت إلى دهري عروس كفايتي ... فطلّقها قبل الدخول بها عشرا
وقال يعزي الشيخ أبا الطيب سهل بن أحمد بن سليمان عن ابنه:
من مبلغ شيخ أهل العلم قاطبةً ... عنّي رسالة محزون وأوَّاه
أولى البرايا بحسن الصبّر ممتحناً ... من كلِّ فتياه توقيع عن الله
وقال:
عليك عند اعتراض الهمِّ بالقدح ... فإنه أبداً قدّاحه الفرح
وقال من الرجز:
عبس لما أن مسست نقله ... كأنّني نزعت منه مقله
وقال له يوماً أبو الفتح البستي: يا شيخ، ما تقول في الكرنب؟ فقال مرتجلا: أطعمه إن لم يكن كري بي
أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري
من أعاجيب الدنيا، وذلك أنه من الفارابإحدى بلاد الترك، وهو إمام في علم لغة العرب، وخطه يضرب به المثل في الحسن ويذكر في الخطوط لمنسوبة لخط ابن مقلة ومهلهل واليزيدي، ثم هو من فرسان الكلام، وممن آتاه الله قوة وبصيرة، وحسن سريرة وسيرة، وكان يؤثر السفر على الوطن،والغربة على السكن والمسكن، ويخترق البدو والحضر، ويدخل دريار ربيعة ومضر، في طلب الأدب، وإتقان لغة العرب. وحين قضى وطره من قطع الآفاق، والاقتباس من علماء الشام والعراق، عاود خراسان، وتطرق الدامغان، فأنزله أبو علي الحسن ابن علي - وهو من أعيان الكتاب وأفراد الفضلاء - عنده وبذل في إكرام مثواه وإحسان قراه جهده. وأخذ من أدبه وخطه حظه، ثم سرحه بإحسان إلى نيسابور فلم يزل مقيماً بها على التدريس والتأليف وتعليم الخط الأنيق وكتابة المصاحف، والدفاتر اللطائف، حتى مضى لسبيله، عن آثار جميلة،وأخبار حميدة.

(2/117)


وله كتاب الصحاح في اللغة، وهو أحسن من الجمهرة، وأوقع من تهذيب اللغة، وأقرب متناولا من مجمل اللغة، وفيه يقول أبو محمد إسماعيل بن محمد النيسابوري وعنده الكتاب بخط مؤلفه:
هذا كتاب الصحاح سيِّد ما ... صنِّف قبل الصحاح في الأدب
يشمل أنواعه ويجمع ما ... فرّق في غيره من الكتب
وللجوهري شعر العلماء، لا شعر مفلقي الشعراء، وأنا كاتب من لمعه ما أنشدنيه أبو سعد دوست وإسماعيل بن محمد، فمن ذلك قوله:
لو كان لي بدٌّ من الناس ... قطعت حبل الناس بالياس
العزُّ في العزلة لكنَّه ... لا بدّ للناس من الناس
وقوله من نتفة:
فها أنا يونس في بطن حوتٍ ... بنيسابور في ظلل الغمام
فبيتي والفؤاد ويوم دجنٍ ظلام في ظلامٍ في ظلام
وقوله:
رأيت أشقراً أزرقا ... قليل الدماغ كثير الفضول
يفضل من حمقه دائماً ... يزيد بن هندٍ على ابن البتول
وقوله:
يا صاحب الدّعوة لا تجزعن ... فكلُّنا أزهد من كرز
والماء كالعنبر في قومسٍ ... من عزّه يجعل فب الحرز
فسقِّنا ماءً بلا منّةٍ ... وأنت في حلٍّ من الخبز
أبو منصور أحمد بن محمد اللجيمي
أديب كاتب شاعر، خدم الصاحب ومدحه ورثاه، ووقع من الدينور إلى نيسابور فتصرف بها وتأهل، ومما أنشدنيه لنفسه قوله:
وقفت يوم النوى منهم على بعد ... ولم أودعهم وجداً وإشفاقا
إنّي خشيت على الأظعان من نفسي ... ومن دموعي إحراقاً وإغراقا
وقوله:
ودّعت إلفي وفي يدي يده ... مثل غريقٍ به تمسكت
فرحت عنه وراحتي عطرت ... كأنّني بعده تمسكت
وقوله من قصيدة كتب بها إلى ابن بابك:
يا من يجدّدني مع الأوهام ... عهداً ويطرقني مع الأحلام
ومجال ودّك إنّه متحصنّ ... بمجال أفكاري مع اللّوام
ا أومضت نحو العراق تحيةً ... تحيي قتيل صبابةٍ وغرام
ومخيّم للأنس حفَّ بفتيةٍ ... بيض الخلائق والوجوه كرام
تابعت فيه بادّكارك مترعاً ... حامى بوابل دمعي السجَّام
وتركت عرضته بذكرك روضةً ... نابت عن النسرين والنّمام
بأبي خلائفك التي لو أنها ... في الراح لم يك شربها
أوفى الزمان غداً نهاراً كلّه ... لا يعقب الإصباح بالإظلام
أهدى إليَّ لك الحجيج عرائساً ... تجلي فتجلو نقبة الأفهام
غرّاً إذا شدخ الرواة بها الفلا ... أغنت مجاهلها عن الأعلام
فسرحت فيها ناظريَّ مفدِّياً ... خلاَّ يصون على البعاد ذمامي
وغدت صحيفتها عليَّ تميمةً ... تشفي من الأسقام والآلام
فاجعل أخاك لأختها أهلاً فما ... يخشى عليك عوائق الإفحام
وقوله في مرثية الصاحب وقد حمل تابوته من الري إلى أصبهان ودفن في ملحة تعرف بباب ذرية:
مضى من إذا أعوز العلم والندى ... أصيبا جميعاً من يديه وفيه
مضى من إذا أفكرت في الخلق كلِّهم ... رجعت ولم أظفر له بشبيه
ثوى الجود والكافي معاً في حفيرةٍ ... حفيرة ليأنس كلُّ منهما بأخيه
هما اصطحبا حيين ثم تعانقا ... ضجعين في قبرٍ بباب ذريه
وقال أيضاً فيه:
أكافينا العظيم إذا وردنا ... ومولينا الجسيم إذا فقدنا
أردنا منك ما أبت الليالي ... فأبطل ما أرادت ما أردنا
شققت عليك جيبي غير راضٍ ... به لك فاتّخذت الوجد خدنا
ولو أنّي قتلت عليك نفسي ... لكان إلى قضاء الحق أدنى
أفدنا شرح أمرٍ فيه لبس ... فإنّا طالما كنّا استفدنا
ألم تك منصفاً عدلاً فأني ... عمرت حفيرةً وقلبت مدنا
وكيف تركت هذا الخلقحالتخلائقهم فليس كما عهدنا

(2/118)


تملكنا اللئام وصيَّرونا ... عبيداً بعد ما كنّا عبدنا
لئن بلغت رزيته قاوباً ... فذبن منّا فجدنا
لما بلغت حقائقها ولكن ... على الأيام نعرف من فقدنا
وله من صيدة:
ولربَّ مخطفة تضمُّ جفونها ... عيني مهاة بالصريمة خاذل
تغتال رامقها بقدٍّ رامحٍ ... وتصيد وامقها بطرفٍ نابل
ومن أخرى:
يا ليلة حزنت فيها كواكبها ... وضاعفت كمدي أذيالها السّود
أنت الفداء لليلٍ شرّدت حزني ... فيع الأغاريد والغيد الأماليد
وقهوةٍ في احمرار الورد شعشعها ... مورَّد الثوب في خديه توريد
تمرُّ محثوثةً حث الركاب بنا ... تحدو بها نغم القينات والعود
ما أنس لا أنس ذات الخال إذاحسرت ... قناعتها فبدت تلك العناقيد
وأطلعت بمحيّاها وجمّتها ... شمساً عليها رواق الليل ممدود
بي من هواها رسيس لا يزال له ... في حبّه القلب تصويب وتصعيد
ومن أخرى:
لا تلمني على الدموع التي لو ... لاك لم تدم من جفوني غربا
طرف الغصن لا تلام على القطر إذا النار شعِّلت فيه رطبا وله:
لو ضمَّ قلب الدهر ما ضمّه ... قلبي من حرِّ النوى والبعاد
لاحترق الحوتان من دونه ... فصار ما بينهما كالرماد
أبو جعفر بن الحسين القمي
كاتب، شاعر، أقام بنيسابور يكتب للعمال، ويتصرف في الأعمال، وهو القائل:
أرى عمال نيسابور ... دهر الله في النّحس
فمن يعمل بها يوماً ... يقع شهرين في الحبس
بها يضرب بالقلس أعزُّ الناس في فلس
وقال في معقل وكان بندار نيسابور:
يا أيها الشيخ الكبير المفضَّل ... أقبض يديه فمعقل لا يعقل
ظلموه إذ ودعوا دواة عنده ... ولديه يوضع منجل أو معول
وقال لأبي محمد بن أبي سلمة:
أيها الشيخ الذي كلّ الورى ... يتلقى وجهه بالتفديه
هل يوازي فضلك المشهر أن ... تحضر الديوان يوم الترويه
وقال:
يا من إليه المعالي ... من كلِّ أوبٍ تحاز
إن لم يكن لي فيه ... شغل لديكم فجازوا
وقال:
يقول الناس لي جامع ... خطيب المسجد الجامع
ومن ذا يأكل الميتة ... إلا الجائع النائع
وقال:
أبو الغطاريف عملاق بن غيداق العثماني
أعرابي جهوري، متقعر في كلامه، كثير الشعر، قليل الملح، وممن ثقل حتى خف، وقبح حتى ملح، طرأ على نيسابور أطواراًن وأقام بها في المرة الأولى بضع سنين ينتسب إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه، ويقرأ القرآن بجهارة شديدة، ويشعر ويتعاطى الفواحش، فإذا قيل له: كيف أصبحت أيها الشريف؟ قال: أصبحت جوالا في السكك، حلالاً للتك، على رأسه طائركم معكم سرمدا، وعلى جبينه ولن تفلحوا إذاً أبدا، وكثيراً ما ينشد لنفسه:
تلبَّس عملاق بن غيداق للشقا ... وللحزن والإفلاس أثواب حارس
يطوف بنيسابور في كلّ سكةٍ ... خليفة مولاه طفيل العرائش
وذلك أن طفيل العرائس الذي ينسب إليه الطفيليون من موالي عثمان بن عفان رضي الله عنه.
ومدح عملاق فائق الخاصة بقصيدة أولها وهو أمير شعره:
يا دولةً أيّدت بخالقها ... وبالأمير الجليل فائقها
فأمر بإثبات اسمه في جملته واستصحبه ووصله ولم يزل معه إلى أن فرق الدهر بينهما، ثم إن الشيخ الجليل أبا العباس أحسن النظر لهن وأجرى إنعامه عليه، ووصله وهو الآن ممن يعيش في كنفه، ومما سمعته ينشد لنفسه قصيدة أولها:
لبسنا لهذا الفصل حمر المطارف ... وفيه انسلخنا من لباس المصايف
وفاقم صقلاب وأفتاك خدلج حذار رياح الزمهرير العواصف
وسنجاب خرخيد وسمور بلغر ... وأوبار عباء الحصين التوالف
مع الخز والديباج حيكا بتستر ... وبالسقلاطوني تحت الملاحف
أبو المعلى بن الصلت
المعروف بناقد الكلام اليماني

(2/119)


ورد نيسابور متطرفاً لها إلى غزنة، وادعى أكثر مما يحسن، وأنشد لنفسه شعراً كثيراً أخرجت منه قوله في ممهد الدولة هذه:
بعدت صفاتك يا ممهد وأدَّنت ... كغموض معنىً في كلامٍ ظاهر
خفيت وأظهرها الطباع خفيّة ... كالنور يوجد في سواد الناظر
ويقول:
لم يكفني بالريِّ خيبة مطلبي ... حتى حرمت لذاذة الإيناس
كالأعور المسكين أعدم عينه ... وأعيض عنها بغضة في الناس
وقوله:
إذا فكر الإنسان فكرة عاقلٍ ... رأى عيشه معنىً لمغنى مماته
إذا نال يوماً زائداً في معاشه ... فذلك يوم ناقص من حياته
وقوله:
أنت لعمري خير شرِّ الورى ... ترضاك من ترضى بإقلال
والأعور المقوت مع قبحه ... خير من الأعمى على حال
وقوله:
في ثغر عبد الكريم شيء ... من فمه ليس بالكريم
تحسب طول الحياة فاه ... يمجُّ خمراً بغير ميم
وقوله:
ربَّ صديقٍ قدمت من سفرٍ ... فجئت من مقدمي أهنيه
لا حق لي عنده فيقضيه ... وحقَّه لا أزال أقضيه
وقوله:
ظلم امرؤ ندب التجار إلى العلى ... حسب التجار دفاتر الحسبان
همم لهم بين النقود وصرفها ... والسعر والمكيال والميزان
وقوله:
لسان الحقُّ أفصح من لساني ... وصمتي عن كلامي ترجماني
وأنت لمن رماه الدهر عون ... فكن عوني على صرف الزمان
عبد القادر بن طاهر التميمي أبو منصور
فقيه وجيه، نبيه قليل الشبيه، يفقه على مذهب الشافعي، ويتكلم على مذهب الأشعري، ويرجع إلى رأس مال في الأدب، والنحو، وكان أبوه عبد الله انتقل من بغداد إلى نيسابور ومعه أبو منصور فتفقه بها وبرع وبلغ ما بلغن وله شعر يحذو في أكثره حذو منصور الفقيه البصرين كقوله:
يا سائلي عن قصتي ... دعني أمت بغصتّي
المال في أيدي الورى ... واليأس منهم حصّتي
وقوله:
يا ماجداً فاق الورى ... لا زلت مأوىً للقرى
عليَّ دين مانع ... عينيَّ من طيب الكرى
فكن لديني قاضياً ... يا خير من فوق الثرى
وقوله:
ألا إنّ دنياك مثل الوديعه ... جميع أمانيك فيها خديعه
فلا تغترر بالذي نلت منها ... فما هو إلاّ سراب بقيعه
وقوله:
إذا ضاق صدري وحفت العدى ... تمثّلت بيتاً بحالي يليق
فبالله نبلغ ما نرتجي ... وبالله ندفع ما لا نطيق
وقوله:
سقتني لتروي الروح راحاً وحققّت ... مواعدها ذات الوشاح بإنجاز
على نرجسٍ حيَّت به فكأنّما ... أناملها أنضمت على حدق البازي
أبو علي محمد بن عمر البلخي الزاهر
كان فراق بلدته في صباه، وركب الأسفار إلى العراق والشام، تلقب بالزاهر مقتديا بقوم من الشعراء تلقبوا بالناجم والناشي والنامي والزاهي والطالع والطاهر، ثم كر إلى خراسان، وألقى عصاه بنيسابور، وتكسّب بالشعر، واستكثر منه، فمما علق بحفظي مما أنشدنيه لنفسه قوله ويروي لأبي الحسن علي بن محمد الغزنوي:
أقول وقد فارقت بغداد مكرهاً ... سلام على عهد القطيعة والكرخ
هواي ورائي والمسير خلافه ... فقلبي إلى كرخٍ ووجهي إلى بلخ
وقوله:
قولوا لقومٍ بنيسابور أمدحهم ... عند الضرورة والإفلاس والضيق
أصبحت فيهم وحقِّ الله خالقنا ... كمصحف دارسٍ في بيت زنديق
أبو القاسم يحيى بن علي البخاري الفقيه
من أبناء التجار ببخارى، وورد مع أبيه نيسابور متفقهاً، وهو من آدب الفقهاء وأحفظهم لما يصلح للمحاضرة، فبقي بها مدة، واختير للامامة في المسجد الجامع ولم يزل يتولاها إلى أن آثر العزلة فقاده زهده وورعه إلى المرابطة بدهستان وهو بها الآن، وكأن أنشدني وكتب لي من شعره غرراً لا يحضرني منها إلا قوله:
أيا من همّه الجمع لما حاصله القوت
كأني بك يا نائم قد أيقظك الموت
فصل

(2/120)


كان من هذا الباب أن يتضمن ذكر أبي الحسين الرخجي، وأبي الحسن الممتاخي صاحب كتاب من غاب عند النديم، وأبي الحسن الحنظلي السهروردي، وأبي سعيد البلدي، وأبي القاسم علي بن محمد الكرخي، وأبي الحسن محمد بن عيسى الكرخي، وأبي المظفر الكمال بن آدم الهروي، وأبي الحسن علي بن محمد الحميري، ولكن لم يحضرني شيء من أشعارهم في هذه الغربة، وإن نفس الله المهل، وعاودت الوطن، جبرت كسره بما يصلح له من كلامهم، وإن عاق محتوم الأجل عن ذلك فإني أرغب إلى من ينظر بعدي في هذا الكتاب من الفضلاء الذين يصيدون شوارد الكلم وينظمون قلائد الأدب، أن ينوب عن أخيه فيه، ويلحق ما يجده منه بمواضعه من هذا الباب، إن شاء الله تعالى، وربه التوفيق، ومنه الإعانة.
الباب العاشر
النيسابوريون ومحاسن اقوالهم
في ذكر النيسابوريين الذين تقع محاسن أقوالهم في هذا الباب وكتبة لطائفهم وظرائفهم.
رئيس نيسابور
أبومحمد عبد الله بن إسماعيل الميكالي
هو أشهر، وذكره أسير، وفضله أكثر، من أن ينبه وله - مع كرم حسبه وتكامل شرفه - فضيلة علمه وأدبه. وكان من الكتابة والبلاغة بالمحل الأعلى، وله من سائر المحاسن القدح المعلى، فكان يحفظ مائة ألف بيت للمتقدمين والمحدثين يهذها في محاضرته، ويحلها في مكاتباتهن وله شعر كتابي يشير لشرف قائله، لا لكثرة طائله، فمن ذلك ما قاله على لسان كاتبه أبي الطيب:
يوم دجنٍ قد تناهى طيبه ... وحقيق أن يجينا بالمطر
والثلاثاء ينادي غدوةً ... ما للهو بعد هذا منتظر
هل يجوز الصحو في أثنائه ... إن هذا الرأي من إحدى الكبر
وقوله في النكبة التي عرضت له في آخر أيامه:
خانني الأير حين خان زماني ... وجفاني كأنّه إخواني
وثنى عنّي العنان غزال ... كان قبل المشيب طوع عناني
يتجنّى عليَّ من غير جرمٍ ... يراني كأنّه لا يراني
كيف يصبو إليَّ وهو عليم ... أن أيري كعظمة الصولجان
ليس يرجى له انتباه من النو ... م ولا صبوة لذكر الغواني
كان من قبل سامعاً مستجيبا ... مسعداً لي فعقّني وجفاني
بل رآني مصادراً مستكينا ... فرثى لي من انقلاب الزمان
ولوى جيده فأصبح لدناً ... يتثنّى تثنّي الخيزران
لا يجيب الصريح في غسق الليل ولا دعوة الوجه الحسان
لم أكلّفه حمل غرمٍ ثقلٍ ... لا ولا دفع معضلٍ قد عراني
إنما الغرم والوبال على الما ... ل فماذا عليه ممَّا دهاني
هل سمعتم بمقمعٍ من حديد ... ذاب من فرط خيفة السلطان
ليته عاد تابعاً لمرادي ... فأسلّي به جوى الأحزان
أيها العاذلان حسبي ما بي ... فدعاني من الملام دعاني
وارثيا لي من البلاء وكفَّا ... إنّني في يد الحوادث عاني
إن يكن خانني الأحبَّة طرّاً ... فشجاني جفاؤهم وبراني
فعلى الله في الأمور اتكالي ... وبه الاعتصام ممّا أعاني
ابنه
أبو جعفر محمد بن عبد الله بن إسماعيل
كان متقدماً في الأدب. متبحراً في علم اللغة والعروض، مصنفاً للكتب مستكثراً من قول الشعر، ولعل شعره يربى على عشرة آلاف بيتن ولما أنشد أباه قوله في مقصورة له هذا البيت من الرجز:
إذا ركبت كنت خير راكبٍ ... وإن نزلت كنت خير من مشى
قال له: استحييت لك يا بني، ما تركت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وأمره بإسقاط هذا البيت من القصيدة، فلم يفعل، وعندي أن أمير شعره قوله من الرجز:
إذا أراد الله أمراً بامرئٍ ... وكان ذا عقلٍ ورأيٍ وبصر
وحيلةٍ يعملها في كلِّ ما ... يأتي به جميع أسباب القدر
أغراه بالجهل وأعمى قلبه ... وسلَّه من رأيه سلَّ الشعر
حتى إذا أنفذ فيه أمره ... ردّ عليه عقله ليعتبر
الأستاذ أبو سهل محمد بن سليمان
الصعلوكي

(2/121)


معلوم أنه كان في العلم علمان وفي الكمال عالماً، ومن شاهد الآن ابنه الشيخ الإمام أبا الطيب سهل بن محمد بن سليمان رأى شجرة للعلم نمت على عروقها ونفسا غذيت في حجر الفضل فحرت على سنن أولها. وأحيت فضائله بفضائلها. وولدا أشبه والده في الإمامة، عند الخاصة والعامة. وله شعر كثير يذكر في شعر الأئمة ويروى لشرف صاحبه وتحسين الكتب بذكره، فمن ذلك ما أنشدنيه الشيخ الإمام أبو الطيب قال: أنشدني والدي لنفسه:
سلوت عنالدنيا عزيزاً فنلتها ... وجدت بها لمّا تناهت بآمالي
علمت مصير الدهر كيف سبيله ... فزايلته قبل الزوال بأحوال
وأنشدني له أبو الحسن الفارسي الماوردي الفقيه:
دع الدنيا لعاشقها ... ستصبح من ذبائحها
ولا تغررك رائحة ... تصيبك من روائحها
فمادحها بغفلته ... يصير إلى فضائحها
علي بن أبي علي العلوي
كان في نهاية النجابة فاحتضر في عنفوان شبابه، وله شعر علق بحفظي منه ما أنشدنيه أخوه أبو إبراهيم له:
همم الرجال تبين في أفعالهم ... والفعل عدل شاهد للغائب
ولنا تراث المجد حزنا فضله ... عن خير ماشٍ في الأنام وراكب
والآن أخوه أحمد نعم العوض عنه، والخلف منه: والشمس تسليك عمَّا حلَّ بالقمر وله شعر حسن لا يحضرني منه إلا قوله:
هواك من الدنيا نصيبي، وإنّني ... إليك لمشتاق كجفني إلى الغمض
فزرني وبادر يوم ثلجٍ كأنّه ... شمائم كافورٍ نثرن على الأرض
أبو البركات علي بن الحسين العلوي
يزين تالد أصله، بطارف فضله، ويحلي طهارة نسبه، ببراعة أدبه، ويرجع من حسن المروءة وكرم الشيمة وعفة الطعمة إلى ما تتواتر به أخباره. وتشهد عليه آثاره، ويقول شعراً صادراً عن طبع شريف، وفكر لطيف كقوله من قصيدة:
مدامعي تهتك أستاري ... تعلن بين الناس أسراري
أنكرت ما بي، غير أن البكا ... قرَّر بالإقرار إقراري
ومنها:
أحببت خشفاً ليس في مثله ... تحمُّل العار من العار
ومنها:
كأنّما إبريقنا طائر ... يحمل ياقوتاً بمنقار
ومنها:
كأنّ ريح الروض لما أتت ... فتَّت علينا مسك عطّار
وقوله:
وأغيد سحّار بألحاظ عينه ... حكى لي تثنيّه من البان أملودا
سلخت بذكراه عن الصبح ليلةً ... أنادمه والكأس والناس والعودا
ترى أنجم الجوزاء والنجم فوقها ... كباسط كفيّه ليقطف عنقودا
وله:
مكذَِب الظنِّ ناقص الأمل ... يقطر من خدِّه دم الخجل
يكاد ينفض فصّ وجنته ... إذا علاه الحياء للقبل
وقوله:
يا عصبة الأتراك أولادكم ... من يوسف الحسن وبلقيس
ألحاظكم تحيي وتردي الورى ... وحسنكم فتنة إبليس
لا تقربوا منّي ففي قربكم ... هلاك دين المرء والكيس
وقوله من قصيدة:
وكأنّي ركبت للصيد ريحاً ... لا يبالي بحزنها والسهول
أدهم اللون مثل ليلٍ بهيمٍ ... ذي صباحٍ من غرّة وحجول
فهو يطوي البسيط كالبسط طيّاً ... بيديّ طالبٍ ورجليّ عجول
وقوله من نتفة:
الشيخ ينجز وعداً منه قد سبقا ... وليس الغصن من إفضاله الورقا
إنّي غريق ببحر المطل منتظر ... حالاً تكشّف عنّي الموج والغرقا
أبو الحسن محمد بن ظفر العلوي
شريف فاضل، عالم زاهد، يلبس الصوف، وكان في صباه يقول الشعر، فمن ذلك قوله:
أسكرني طرفه ولكن ... خمار أجفانه حمام
إنَّ دمي عنده حلال ... وهو لدى غيره حرام
وهكذا سحر كلِّ طرفٍ ... يصنع ما تصنع المدام
وله من الرجز:
وأمرد أزهد من صهيب ... في علم موسى وتقى شعيب
إذا رأى شعر أبي ذؤيب ... أو فارسيات أبي شعيب
تحسبه أشعر من نصيب ... إن لم تساعدني فوي بي وويبي
وله:

(2/122)


إذا عضَّك الدهر الخؤون بنابه ... وأسلمك الخدن الشّفيق إلى الهجر
فلا تأسفن يا صاح واصبر تجلَّداً ... فلا شيء عن الهجر أجدى من الصبر
أبو العباس محمد بن يحيى العنبري
من أبناء نيسابور، وأهل البيوتات بها، وله شعر كثير، منه:
لا يشغلنك حديث ما في الكاس ... شرب المدام محلَّل في الناس
الله حرّم سكرها لا شربها ... فاشرب هنيئاً يا أبا العباس
صفراء صافيةً كأنّ شعاعها ... ضوء الصباح وشعلة المقباس
تنفي بها داءً وحزناً كامناً ... في القلب ليس بشربها من باس
وإذا قميصك بلّلته مدامة ... وعرتك منه وساوس الخنّاس
فدع القميص يشمُّ منه ريحها ... واغسل فؤادك من أذى الوسواس
وقوله:
متفقه شغف الفؤاد بحبّه ... خضعت محاسن وجهه لمحبِّه
أحببت كروة زوزون من أجله ... ورجالها ونساءها من حبّه
وله:
يقول الناس لي رجل سديد ... وما فعلي بفعل فتىً سديد
إذا ما كنت لا أخشى وعيدا ... فما يغني مقالي بالوعيد
أبو سلمة بن أحمد المعاذي
حضر بعض مجالس الأنس بنيسابور فانصبت محبرة فتى مليح على ثوبه فخجل الفتى، فقال أبو سلمة:
صبَّ المداام وما تعمّد صبَّه ... فتورّد الحدُّ البديع الأزهر
يا من يؤثر حبره في ثوبنا ... تأثير لحظك في فؤادي أكثر
أبو سهل سعيد بن عبد الله التكلي
من أدباء نيسابور وفضلاء المتصرفين بها، يقول:
وكان فؤادي جامحاً في عنانه ... إذا انتابه العذال في غيّه أبى
وأقصر عن قصد التصابي وصدَّه ... مقال بنيٍّ بعد خمسين يا أبا
وقوله:
هموم تفيض وصبر يغيض ... وجسم صحيح وقلب مريض
يبيِّض ما اسود من لمتي ... خطوب حداهن سود وبيض
ورؤية من يدّعي أنّه ... علا فلك الشمس وهو الحضيض
فإن سكتوا فشفاه تغيض ... وإن نطقوا فبظور تحيض
وأمتع من شرب كأس الحمام ... حياة يشارك فيها بغيض
وقوله:
ألا قالت أمامة إذ رأتني ... وماء الوجه بالجاديّ شيبا
تعرتك الهموم فقلت حقّاً ... هموم اجعل الولدان شيبا
وقوله:
إن المقص في الحضور لخدمةٍ ... في مثل هذا اليوم للمعذور
يوم كأنّ الأرض فيه سنجنجل ... والجو فيه صارم مأثور
القاضي أبو بكر عبد الله بن محمد البستي
آدب قضاة نيسابور وأشعرهم، ولما تقلد قضاءها في أيام شبيبته مضافاً إلى ما كان يليه من قضاء كورة نسا لقب بالكامل، وله شعر كثير كتب لي بخطه صدرا منه وأنشدني بعضهن فمن ذلك قوله:
أنظر إلى النفس وهي واقفة ... نصب عيون الوشاة والحرس
يخفى على الناظرين موقفها ... كأنها نفس آخر النّفس
وله:
قل للذي حبس الفؤاد بصدّه ... فوددت أنّي عند ذاك فؤادي
مسترخص المبتاع لا يغلى به ... ولذاك ما أرخصت بيع ودادي
وقوله:
يقولون أبل العذر فيما ترومه ... فإبلاء عذرٍ في الأمور نجاح
فقلت لهم إبلاء عذرٍ وخيبة ... نجاح كما افتضَّ العروس نجاح
وله في وصف طين الأكل من الرجز:
وتحفةٍ نقلنيها غاليه ... ذو همم في المكرمات عاليه
شبّهتها من بعد ما أهدى ليه ... قطاع كافورٍ عليها غاليه
وله في البندق:
وبندق لبُّه عجيب ... للدر والمسك فيه شركه
أشبه شيء به يقينا ... لؤلؤة ضمّخت بمسكه
وله في الورد الموجه:
حباني بوردٍ جامعٍ بين وصفه ... ووصفي لمّا زرتهم وجفوني
على جانبٍ منه تورّد خدُّه ... وفي جانب منه تلوّن لوني
وله في البهار:
حكاني بهار الروض حتى ألفته ... وكلُّ مشوقٍ للبهار مصاحب
وقلت له ما بال لونك شاحباً ... فقال لأني حين أقلب راهب

(2/123)


وله:
يا من قنعت بحس رأ ... يٍ منه لو أعطيت رايه
إن قمت في أمري برأ ... يٍ أعطيت رايه
وله:
مستبد برأيه ... عازب الرأي معجب
وتماديه بعد ما ... عرف الغيَّ أعجب
وله من الرجز:
يعجبني من كلّ شعرٍ جزل ... جيِّد جدٍّ وركيك هزل
أبو سعد عبد الرحمن بن محمد
بن دوست
من أعيان الفضلاء بنيسابور وأفرادهم، يجمع من الفقه والأدب، بين التمر والرطب.ومن النظم والنثر، بين الياقوت والدر، وشعره كثير الملح والنكت، حسن الديباجة، كأنه عن طباع المفلقين من شعراء العراق وهذا أنموذج منه:
ألا يا ريم خبّرني ... عن التفاح من عضّه
وحدِّث بأبي عن حسنك البكر من افتضَّه
وختم الله بالورد ... على خدّك من فضّه
لقد أثّرت العضّه في وجنتك الغضّه
ولاح الدرّ إذ بضّ ... على جلدتك البضّه
كلون العنبر الورديّ ... إذا فضَّ عن الفضَّه
وله:
ولقد مررت على الظباء فصادني ... ظبي وعهدي بالظباء تصاد
نفذت لواحظه إليَّ بأسهمٍ ... أغراضها الأرواح والأجساد
وله:
جعلت هديتي لكم سواكاً ... ولم أقصد به أحداً سواكا
بعثت إليك عوداً من أراكٍ ... رجاءٍ أن أعود وأن أراكا
وله:
ومهفهفٍ ملك القلوب وحازا ... خطَّ الجمال بعارضيه طرازا
شبّهته قمراً فكان حقيقةً وغدا له قمر السماء مجازا
ما باع بزّاً قطُّ إلاّ أنّه ... بزَّ القلوب فلقب البزّازا
وله:
وشادن نادمت في مجلسٍ ... قد مطرت راحاً أباريقه
طلبت ورداً فأبى خدّه ... ورمزت راحاً فأبى ريقه
وله:
وشادنٍ قلت له ... هل لك في المنادمه
فقال ربَّ عاشقٍ ... سفكت بالمنى دمه
ول:
يغيب البدر يوماً ثم يبدو ... فما لك غبت عن عيني ثلاثا
فإن لم تطلع الأثنين عصراً ... فلست بواجدي يوم الثلاثا
وله:
وقالوا اصفرّ وجهك إذ تراءى ... وقد صارالفؤاد له شعاعا
فقلت لأنّني قابلت بدراً ... فقد ألقى على وجهي الشّعاعا
وله:
الدهر دهر الجاهلين وأمر أهل العلم فاتر
لا سوق أكسد فيه من ... سوق المحابر والدفاتر
وله:
عليك بالحفظ دون الجمع في كتب ... فإنّ للكتب آفات تفرِّقها
الماء يغرقها، والنار تحرقها ... والفار يخرقها، واللصُّ يسرقها
وله في الفصد من الرجز:
لما رأيت الجسم ذا اعتلال ... ودبَّت الآلام في أوصالي
دعوت شيخاً من بني الجوالي ... بطريق عمٍّ جاثليق خال
فسلّ سيفاً ليس للقتال ... ومرهفاً ليس من العوالي
أدقّ في العين من الخيال ... أقطع من هجر ومن ملال
أحسن من وصل ومن إقبال ... كأنّه نصف من الهلال
ففتّح القفل عن القيفال ... بضربة تشبه نصف الدال
أو شكلةٍ في موضع الأشكال ... ولجَّ دمع العرق في انهمال
كقهوةٍ تبزل بالمبزال ... فولّت العلة في انفلال
فأقبلت عساكر الإقبال ... محفوفةً بالبرء والإبلال
ومثل الجسم من المثال ... كأنما أنشط من عقال
وله:
قل للأمير الأريحي الذي ... نفديه بالأنفس إن جازا
جودك قد أورق لي موعداً ... فكيف لا يثمر إنجازا
وقوله:
أيها البدر الذي يجلو الدجى ... قل لنجمي في الهوى كم تحترق
أنا من جملة أحرار الهوى ... غير أنّي من هواكم تحت رق
أبو عبد الرحمن محمد بن عبد العزيز النيلي
هو وأخوه أبو سهل من حسنات نيسابور ومفاخرها، فأبو عبد الرحمن من الأعيان الأفراد في الفقه، وأبو سهل من الأعيان الأفراد في الطب. وما منهما إلا أديب شاعر آخذ بأطراف الفضائل، فمن ملح شعر أبي عبد الرحمن قوله:

(2/124)


وذي جدالٍ لنا كشفت له ... عن خطأٍ كان قد تعسَّفه
فلم يجبني بغير ما ضحكٍ ... والضحك في غير حينه سفه
وله:
أدرك بقية نفسٍ روحها رمق ... فقد أذابت هموم الناس أكثرها
وإنّما سلمت منها بقيتها ... لأنّها خفيت ضعفاً فلم ترها
وله:
أعرضت لمّا عرضت ... سهام تلك الحدق
ظننت أنّي هاب ... منها بأدنى رمق
فقال لي فيها الهوى ... هيهات ممّا تتّقي
إن سهام الحدق ... لا تتَّقى بالدّرق
وله:
نحن في مجلس أنس ... بك تحقيق مجازه
لطف الدّهر عزيز ... فتجلّد لانتهازه
قد نسجنا الأنس ثوباً ... فتفضَّل بطرازه
وله:
يوم غيمٍ زاد قلبي شجناً ... ذو نشيجٍ وهو قد أنشجنا
وسحابٍ قد حكى لمّا بكى ... يوم قالواعارض ممطرنا
وله:
تغاض عن البخيل ولا تلمه ... ودع ما في يديه ولا ترمه
ومن لم يحو غير المال فضلاً ... وجاد بفضله جهلا فلمه
وله:
خلعت خفّي من خلع ذا السحاب عذاره
فاليوم ليل ظلامٍ ... والأرض حشُّ قذاره
من حق ذا العقل فيه ... أن لا يفارق داره
وله:
أما تراني على بغي العلاء لأحمال العناء حمولاً دائم النصب
فما استوى شرف إلاّ على كلفٍ ... ولا صفا ذهب إلاّ على لهب
وله:
أفدي الذي أكره أن أفديه ... لأنّه جلّ عن التفديه
يقتل بالعين، ولا بدّ لي ... من طلبي من شفتيه الدِّيه
وله:
إذا رأيت الوداع فاصبر ... ولا يهمنَّك البعاد
وانتظر العود عن قريبٍ ... فإنّ قلب الوداع عادوا
وله من نتفة:
للنار في وجه من أحببته أثر ... فاللون في خدِّه والفعل في كبدي
أبو سهل بكر بن عبد العزيز النيلي
قد تقدم ذكره، وجاء الآن شعره، قال:
قد رضيت باليأس نفسي ... فعل اللبيب الحكيم
قنعتها بكفافٍ ... وفيه كلُّ النعيم
فما يد لكريمٍ ... عندي ولا للئيم
وللقناعة روح ... يا طيبه من نسيم
وقال:
يا مفدَّى العذار والخدِّ والقد بنفسي وما أراها كثيرا
ومعيري من سقم عينيه سقماً ... دمت مضنى به ودمت معيرا
سقِّني الراح تنف لوعة قلبٍ ... بات مذ بنت للهموم سميرا
هي في الكأس خمرة فإذا ما ... أفرغت فيالحشى استحالت سرورا
وقال:
رجوت دهراً طويلاً في التماس أخٍ ... يرعى ودادي إذا ذو خلَّة خانا
فكم ألفت وكم آخيت غير آخٍ ... وكم تبدّلت بالإخوان إخوانا
فما زكى لي على الأيام ذو ثقةٍ ... ولا رعى أحد ودِّي ولا صانا
فقلت للنفس لما عزَّ مطلبها ... بالله لا تألفي ما عشت إنسانا
وقال:
دب المشيب إلي فوديَّ مبتكراً ... وللشباب رداء ليس بالخلق
فقلت يا نفس حثّي للرحيل ضحىً ... فأقصر الليل أدناه من الفلق
وقال:
نشر الربيع الغضُّ قبل أوانه ... لما نشرت كتاب فرد زمانه
أنوار لفظٍ من جناب جنابه ... ونسيم وردٍ من غراس بنانه
فأراح أنساً عازباً بوروده ... وأراح قلب الصبِّ من أشجانه
وأرى بني الآداب معجز نظمه ... أن ليس في الإمكان نيل مكانه
فأسرَّت الآلباب إجلالاً له ... وفدي المسامع ترجمان جمانه
وقوله:
رقّ لمن قد ملكت رقَّه ... حقٌّ له لو رعيت حقَّه
ذاب فما مثله خلال ... ولا هلال ضياً ورقه
وقال:
الله في متيّمٍ ... عذّبته فراقب
يكفيك ما أبقيته ... من ألم الفراق بي
وقال من الرجز:

(2/125)


من وجهه يطلع نجم المشتري ... ياقوتةً تثمر شهداً فاشتر
يا من نضا باللحظ سيف الأشتر ... إذاوجدت الحرَّ عبداً فاشتر
أبو محمد إسماعيل بن محمد الدهان
أنفق ماله على الأدب، فتقدم فيه، وبرع في علم اللغة والنحو والعروض، وأخذ عن الجوهري الذي تقدم ذكره، واستكثر منه، وحصل كتابه كتاب الصحيح في اللغة بخطه، واختص بالأمير أبي الفضل الميكالي ومدحه وأباه بشعر كثير، ثم آثر عن أعراض الدنيا، وقال لما أزمع الحج والزيارة:
أتيتك راجلاً ووددت أنّي ... ملكت سواد عيني امتطيه
وما لي لا أسير على المآقي ... إلى قبرٍ رسول الله فيه
وقال:
أيا خير مبعوثٍ إلى خير أمّةٍ ... نصحت وبلّغت الرسالة والوحيا
فلو كان بالإمكان بمقلتي ... إليك رسول الله أنضيتها سعيا
وقال:
عبد عصى ربّه ولكن ... ليس سوى واحدٍ يقول
لا سوق أنفق فيه من ... سوق المكارم والمعالي
وقال لصديق له:
نصحتك يا أبا إسحاق فاقبل ... فإنّي ناصح لك ذو صداقه
تعلَّم ما بدا لك من علومٍ ... فما الآداب إلا في الوراقه
وقال من قصيدة في مرثية البديع:
وما الإنسان في دنياه إلاّ ... كبارقةٍ تروق إذا تلوح
نفيسة نفسه نفس توالى ... ومدّته مدىً، والروح ريح
وقال من أخرى:
عز الغزال بمسكه لا مسكه ... والصرف للدينار لا الصرّفان
شبه الزمرّذ لا يكون زمرذاً ... ولئن تقارب منهما اللونان
وقال:
خف إذا أصبحت ترجو ... وارج إن أمسيت خائف
ربّ مكروهٍ مخوفٍ ... فيه لله لطائف
ولولا أنه سألني أن لا أورد في كتابي هذا شيئاً من شعره في الغزل والمدح لكتبت من ذلك جملة صالحة، لكنني انتهيت إلى رأيه، وعملت بما سألني به ولم أتعده.
أبو حفص عمر بن علي المطوعي
شاب لبس برد شبابه على عقل مكتهل،وفضل مقتبل. وسما إلى مراتب أعيان الأدباء والشعراء، التي لا تدرك إلا مع الانتهاء، واتصل بخدمة الأمير أبي الفضل الميكالي، فتخرج بالاقتباس من نوره، والاغتراف من بحره، وألف كتاب درج الغرر، ودرج الدرر، في محاسن نظم الأمير ونثره وحين ألف صاحب هذا الكتاب كتاب فضل من اسمه الفضل عارضه بكتاب حمد من اسمه أحمد وله كتاب أجناس التجنيس وغيرهن وشعره كثير الملح والظرف، لا يكاد يخلو من لفظ أنيق، ومعنى بديع، كقوله في وصف النارنج:
أهلاً بنارنج أتانا غدوةً ... في منظرٍ مستحسنٍ مرموق
أصبحت أعشقه ويحكي عاشقاً ... يا حسنه من عاشقٍ معشوق
وقال:
ومعشوق الشمائل قام يسعى ... وفي يده رحيق كالرّحيق
فسقاني عقيقاً حشو درًّ ... ونقلني بدرًّ في عقيق
وقال:
ألست ترى أطباق وردٍ وحولها ... من النرجس الغضّ الطري قدود
فتلك خدود ما عليهن أعين ... وهذي عيون ما لهنَّ خدود
وقال:
وشادن ما مثله في الصبِّاح ... كالشمس أو كالبدر أو كالصباح
لي من ثناياه ومن طرفه ... وخدِّه راح وراح وراح
وقال:
سحر العيون غداة خطَّت كفُّه ... في رائق القرطاس رائق سطره
فأتى بمثل الوشي واحد نسجه ... أو مثل زهر الروض ثاني قطر،
خطٌّ يحاكي منه سحر جفونه ... وطراز عارضه ولؤلؤ ثغره
وقال:
بنفسي من تمَّت محاسن وجهه ... فما هو إلاّالبدر عند تمام
وأرسل صدغاً فوق خطٍّ كأنّه ... جناح غرابٍ فوف طوق حمام
وقال:
انظر إلى وجه صديق لنا ... كيف محا الشوك به النقشا
قد كتب الدهر على خدِّه ... بالشعر والليل إذا يغشى
وقال:
غدا منذ التحى ليلاً بهيماً ... وكان كأنّه البدر المنير
فقد كتب السواد بعارضه ... لمن يقرأ وجاءكم النذير
وقال:
تكبَّر لمّا رأى نفسه ... على هيئة الشمس قد صورِّت

(2/126)


سيندم ألفا على كبره ... إذا الشمس في خده كوِّرت
وقال:
قل للذي يهواه ... أذاقني كأس صاب
تركتني مستهاماً ... أصلي بحرِّ التّصابي
ما بين دمعٍ مصوب ... وبين قلب مصاب
وقال:
إنّي علقت غزالاً قلبه علق ... بمثله في كمال الحسن واللين
فالحمد لله حمداً لا أنقضاء له ... أصبحت جدّاً وسني دون عشرين
وقال:
لما استقلّت بهم غير النوى أصلاً ... وشتّتهم صروف البين تشتيتا
جلست أنظم في وصف الهوى درراً ... والعين تنثر من دمعي يواقيتا
وقال:
أيا منية المشتاق فيم تركتني ... كئيباً بلا عقلٍ قتيلاً بلا عقل
فإن كنت أنكرت الذي بي من الهوى ... أقمت به من أدمعي شاهدي عدل
وقال:
يا ليل هل للصبح فيك وميض ... فعليَّ غم من دجال عريض
ليل حكى الغربان سوداً لونه ... وكأنَّ أنجمه البزاة البيض
وقال:
يكفيك أن الهوى لم يبق في جسدي ... من الجوارح عضواً غير مجروح
إنّي نحلت الهوى قلبي فأنحلني ... حتى غدا جسدي أخفى من الروح
وقال:
نفسي فداء غزالٍ ما اكتحلت به ... إلاّ تصوّرته أنموذج الحور
وكلما رام نطقاً وهو مبتسم ... فالدرُّ ما بين منظومٍ ومنثور
أضحى جنى النحل ممزوجاً بريقته ... لكنّما الخصر منه زنبور
وقال:
أرى الفطر عيد الناس في كلِّ بلدة ... ووجهم لي عيدٌ ورؤيته فطري
إذا ما أعدّ الناس للفطر عطرهم ... فحسبي بما في عارضيك من العطر
وقال:
قم إلى الراح فاسقنيها ففيها ... قوة للفتى وقرّة عين
ما ترى الصوم صار بالأسودين ... وأتانا شوال بالأحمرين
وقال:
صديقك قد ألمّ به صديق ... وأعوزه الشراب الأرجواني
وقد بعثا إليك وليس شيئاً ... سوى معهود فضلك يرجوان
وقال:
لا تعرضنَّ على الرواة قصيدةً ... ما لم تبالغ قبل تهذيبها
فمتى عرضت الشّعر غير مهذبٍ ... عدّوه منك وساوساً تهذي بها
وله من نتفة في ذكر جوين حين كان بها مع الأمير أبي الفضل الميكالي:
طابت جوين لنا وطاب هواؤها ... فسقى السحاب الجون أرض جوين
أرض أقام بها الأمير فألبست ... بمقامه فيها ملابس زين
فكأنّما أنهارها من كفَّه ... تجري وقد جادت لنا بلجين
وكأنّ زهر رياضها من بشره ... يهدي الضياء لكلِّ ناظر عين
وله فيها:
ومرّت في جوين لنا ليالٍ ... عددناهنّ من عيش الجنان
رضعنا في حجور الأمن فيها ... بأفواه الرضى ثدي الأماني
لدى قرمٍ خلائقه نجوم ... ولكن وجهه للبدر ثاني
أبو العباس الفضل بن علي الإسفرائيني
إسفرائين من كور نيسابور، مخصوصة بإخراج الأفراد، كأنو شروان الذي افتخر به النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " ولدت في زمن الملك العادل " فهو أفضل ملوك العجم وأعدلهم بالإجماع وإن كانت لأزدشير فضيلة السبق. ومسقط رأس أو شروان مشهور بإسفرائين.
وكأبي جعفر حمويه بن علي الذي أحيا دولة آل ساسان وحاطها، واجتاح أعداءها، وتولى لهم أربعين حربا لم ترد له فيها راية، ولم تفته من مطالبه غاية، حتى وطأ الله لهم على يده مهاد الملك، وجبى إليهم ثمرات الأرض، هذا مع رجوعه إلى نفس أمارة بالعدل والخير، بعيدة منالجور والشر، مدلولة على سبل البر، تشهد بها آثاره بنيسابور وأوقافه وأخباره.

(2/127)


وكالشيخ الجليل أبي العباس الفضل بن أحمد، فإنه هو الذي ربى الملك السلطان المعظم أبي القاسم محمود بن سبكتكين، أدام الله تأييده! كما يربى الطفل الصغير حتى يشتد عظمه، ويؤنس رشده. وما زال يدرجه بحسن هدايته وكفايته إلى الزيادة،وبلوغ الإرادة، حتى تثبت أركانه، وما زال يدرجه بحسن هدايته وكفايته إلى الزيادة، وبلوغ الإرادة، حتى تثبت أركانه، وعلا مكانه. وتلاحقت رجاله، وتكاثرت أمواله. وتوالت فتوحه، وارتقت فتوقه وكأبي حامد بن أحمد بن أبي طاهر الإسفرائيني إمام أصحاب الحديث ببغداد وصدر فقهائها، فإنه بلغ من الفقه والتدريس مبلغا تنثني به الخناصر، وتثني عليه الأفاضل.
وكأبي العباس علي، فإنه من بقية الكرام الأجواد الذين لا تخرج أوصافهم إلا من الدفاتر وكتب المآثر، فهو من حسنات نيسابور ومفاخرتها وهو الآن الحاكم والزعيم باسفرائين والناظرين في أمورها، والمناضل عن أهلها، والمتكفل بمصالخها ومناجحها، يرجع إلى أدب غزير، وفضل كثير، وطبع كريم وخلق عظيم، ومن حسن أثره ويمن نقيبته أن إسفرائين حرم أمن، وجنة عدن، عامرة به، وقد شمل سائر كور نيسابور نواحيها الخراب وعمها الاختلال وكانت إسفرائين فيها لمعة في ظلم وغرة في غرر، ومن عجيب شأنه أنه - على إقلاله وكثرة ديونه وقصور دخله عن خرجه - يقيم من المروءة وسعة الرحل ما لا عهد لمن فوقه في الجاه والمال بمثله، ويبذل للزوار والعفاة ما لا يقدم أجواد المياسير على بذله، وكأن الأشجع السلمي عناه بقوله:
وليس بأوسعهم في الغنى ... ولكنَّ معروفه أوسع
وله كتابه حسنة، ومحاضرة مفيدة، وفصاحة مرضية، وشعر كثير لا يحضرني منه الآن إلا قوله:
وكنت إذا ما سّرح المشط عارضي ... رأيت سحيق المسك بين يديَّا
فصرت إذا ما خلَّلته أناملي ... تناثر كافور بهنَّ عليَّا
وقوله لبعض أصدقائه:
أراني إذا ما سرت نحوك زائراً ... خطاي وساع، والمسير ذميل
وإن ما ارح بالإنصراف مودّعاً ... فأدم مشياً والحراك قليل
وقوله في شمعة نصبت في بركة:
وشمعة وسط أيمن البرك ... تميس في الماء ميس مرتبك
كأنها البدر في السماء سرى ... فحار في أوجه من الفلك
وقوله في فوارة أقلت تفاحة:
وفوارةٍ سائل ماؤها ... بتفاحةٍ مثل خدِّ العشيق
كمنفخةٍ من رقيق الزّجاج ... تدار بها كرة من عقيق
أبو الفتح أحمد بن محمد بن يوسف الكاتب
من رستاق جوين، وقع إلى بخارى في آخر الدولة السامانية،واتصل بالخانية، فتولى ديوان الرسائل لبغرا قراخان ونازع أبا علي الدامغاني في الرتبو، ثم زال أمره وانحطت حاله، قصد غزنة فلم يحظ بطائل، وعاود نيسابور فمات بها، وكان أعطاني من شعره مجلدة أخرجت منها قوله:
تزوجت ويحك عوّادةً ... ليطعمك الناس من أجلها
لقد جئت في اللوم أعجوبة ... أرى الكلب يأنف من مثلها
وقوله:
شعري متين وخطي حين تلحظه ... كالروض حسناً وما في منزلي قوت
لا الدرُّ عندهما درٌّ إذا جمعا ... عند الأديب ولا الياقوت ياقوت
لكنّ عيبي أني لست ذا قحةٍ ... لذاكم أنا مهجور وممقوت
وله:
ما للبراغيث طول الليل راتعةٌ ... أجل وطول نهار الصيف في جسدي
بليت منها بما تبلى الكرام به ... من اللئام وأهل البغي والحسد
وله:
لما رأيت الشيخ قد ملّني ... وأزورّ عني واذدرى قدري
رضيت بالفقر ولازمته ... في منزلٍ أضيق من صدري
وله:
سقاك الله نيسابور غثياً ... يبرّد غلَّة الهيم العطاش
فقد أحدثت كتّاباً ظرافاً ... لطافاً طاب بينهم معاشي
إذا أبصرتهم أنشدت بيتاً ... رواه لنا زهير عن خراش
خريتم في البياض وكان عهدي ... بكم تخرون قبل على الفراش
وله:
جفاني وهاجاني ولم يخش صولتي ... ولا سطوتي الشيخ العميد أبو نصر
وكان حريٌّ ألاّ يكاشف شاعراً ... وفي داره يجري من الخزي ما يجري

(2/128)


وقد خاف أولاد العفائف جانبي ... فما أمنه إياي وهو ابن من يدري
وله:
ولحيةٍ للشيخ إن تلقها ... لقيت من حاملها مائقا
سلط عليها ربُّنا نادفاً ... بل ناتفاً بل حالقاً حاذقا
وله:
سيرة الشيخ سيرة مذكوره ... وأياديه بيننا مشكوره
إذ لديه محلُّ كلِّ كريمٍ ... كمحلِّ الكلاب في المقصوره
وله:
من كان ذا جاريةٍ بضَّةٍ ... ولحمها عارٍ من الشّحم
فهذه يا إخوتي فاعجبوا ... جاريتي عظم بلا لحم
عظم بلا لحمٍ ولكنَّها ... مولعة بالمضغ للحم
وله:
أقول للشيخ إذا جئته ... والشيخ لا يفكر في الهجو
سبحان من أعطاك هلّوفة ... تصلح للهجو وللنجو
وله:
لقد جلَّ ارتياحي واغتباطي ... بما يلقاه من ألم السقام
وأرجو أن يتَّمم لي سروري ... بما سقاه من كأس الحمام
وحاشا أن يذوق الموت إلاَّ ... بحدِّ مهنّدٍ ذكرٍ حسام
على أن الحسام يزلّ عنه ... ولكن بالحجارة والسلام
وله:
جهل الرئيس وحقِّ الله يضحكنا ... وفعله وإله الناس يبكينا
أبو القاسم الحسين بن أسد العامري
من رستاق خواف، أحد الأدباء المذكورين، والمؤدبين المشهورين بنيسابور وكان يؤدب أولاد الرؤساء بها، وله شعر كثير اقتصرت منهعلى قوله:
يدي على كبدي من شدَّة الكمد ... كأنّما حلقت كفَّاي من كبدي
نظرت فاحترقت أحشاي من نظري ... فمن ألوم وقد أحرقتها بيدي
الشوق يجمعني والهمُّ في قرنٍ ... جمعاً يفرِّق بين الروح والجسد
جودي لي اليوم أو عودي غداً دنفاً ... أو آندبي لقتيل الحبِّ بعد غد
وقوله من الرجز:
فرسكة حمراء كالعقيق ... هدية جاءتك من صديق
ابنه أبو النصر طاهر بن الحسين
كتب إلى أبي الحسين بن فراسكين، وكان يؤدب ولده:
حثُّ الكريم على التفضُّل بدعة ... يا خير من يمشي على وجه الثرى
جاء الشتاء ولست أملك درهماً ... والاعتماد عليك، فانظر ما ترى
أبو عبد الله الغواص
من قرية الجنيد، من رستاق بنيسابور، أديب متبحر في اللغة شاعر باللسانين كثير المحاسن، وهو الآن حي يرزق، وله نعمة ودهقنة وديوان شعره عظيم الحجم، ومن ملحه قوله:
من عذيري من عذولي في قمر ... قامر القلب هواه فقمر
قمر لم يبق منّي حبّه ... وهواه غير مقلوب قمر
وقوله في دار السيد أبي جعفر الموسوي:
يا دار سعدٍ قد علت شرفاتها ... بنيت شبيهة قبلةٍ للنّاس
لورود وفدٍ، أو لدفع ملمّةٍ ... أو بذل مالٍ، أو إدارة كاس
وقوله في قوم من المتفقهة وسخى الثياب جيدي الأكل:
أناس نتنهم يربى ... على نتن الظرابين
وأكل لهم يربى ... على أكل الثعابين
وقوله:
الخيبريون في أستاههم سعة ... وفي أكفِّهم ما شئت من ضيق
ومنهم أحمد المذموم، مذهبه ... بلع الأيور بلا ريق على الريق
أبو حاتم الوراق
من قرية من رستاق نيسابور، ورق نيسابور خمسين سنة، وهو القائل:
إنّ الوراقة حرفة مذمومة ... محرومة، عيشي بها زمن
إن عشت عشت وليس لي أكل ... أو متُّ متُّ وليس لي كفن
ومن ملحه قوله في نور الخلاف المسكي من الرجز:
كأنّ نور شجر الخلاف ... أكفٌّ شنورٍ بلا خلاف
أبو جعفر البحاث
محمد بن الحسين بن سليمان
من زوزن إحدى كورنيسابورن مشهور بالأدب والعلم، وكان له محل من الشعر وتصرف في القضاء ببلاد خراسان، وأنشد قول ابن المنجم:
فلا تجعلنِّي للقضاة فريسةً ... فإنّ قضاة العالمين لصوص
مجالسهم فينا مجالس شرطةٍ ... وأيديهم دون الشصوص شصوص
فقال مجيزاً لهما:
سوى عصبةٍ منهم تخصّ بعفةٍ ... ولله في حكم العموم خصوص

(2/129)


خصوصهم زان البلاد، وإنّما ... يزين خواتيم الملوك فصوص
ومن ملحه السائرة قوله:
هدية بنسبةٍ ... أذيّة أو بليَّه
بالله قل لي أكانت ... هدية أم وصيّه
إن أخّرت عن حياتي ... وعاجلتني المنيّه
فأعطها بعد موتي ... أقاربي بالسويّه
وهذه قصيدة له كتبتها كلها لحسن ديباجتها:
شباب كلامع برقٍ رحل ... وشيب كمثل غريمٍ نزل
وقدٌّ قويم جفاه الزمان ... كخوطٍ تحاني وغصنٍ ذبل
وشعر تطاير فيه البياض ... يحاكي سواه خضاب نصل
وثغر تناثر كالأقحوا ... ن غازله الليل رشَّ وطل
ووجه نبت عنه بجل العيون ... وقد كان روضاً لحور المقل
وخطو كخطو القطا في الرما ... ل من بعد وثبٍ كوثب الإبل
وجسم تراجع بعد النماء ... كزرعٍ تناهى وبردٍ سمل
ترحَّل ما سرَّ مستعجلاً ... وشيك الرحيل وما ساء حلّ
مضت وانقضت غفلات الشباب ... وجاء الكشيب وبئس البدل
كأنّي رأيت الصبا في المنام ... خيالاً تمثّل ثمَّ اضمحل
أمالك فيما ترى عبرةً ... وشاهد صدقٍ بقرب الأجل
إلى كم تطوف بباب الملوك ... كطير الفراش بضوء الشّعل
فطوراً تجلّ وطوراً تغلّ ... وطوراً تعزّ وطوراً تذل
أتغفل عن نائبات الزمان ... وهنَّ سراع إلى من غفل
زمان يدير على أهله ... بسعدٍ ونحسٍ كؤوس الدول
فإحدى يديه تمجُّ الذعانف ... وإحدى يديه تمجُّ العسل
ألم تعتبر بقصور الملوك ... خلت منهم بوشيك الرحل
فسلها وقل اين سكانها ... وأين الملوك وأين الخول
وأين الجيوش وأين الخيول ... وأين السيوف وأين الأسل
وأين الجيوش وأين الخيول ... وأين السيوف وأين الأسل
وأين الذين حكوا بالقدود ... غصوناً ثناها الندى والبلل
كجنٍّ على الجنِّ قد أقبلوا ... بسود القلانس حشو الحلل
طوتهم عن الأرض آجالهم ... ولم تغن عنهم صنوف الحيل
وما ذاك من كوكبٍ قد بدا ... من الشرق أو كوكب قد أفل
ولا الخير يأتي به المشتري ... ولا الشرّ يقضي علينا زحل
وما الأمر إلاّ لرب السماء ... وقاضي القضاة تعالى وجلّ
قليل جميع متاع الغرور ... وطالبه من قليل أقلّ
وضل عن الرشد جمّاعه ... وحاسده منه فيه أضلّ
سباع حواليه زرق العيون ... كلاب وأسد وذئب أذلّ
فهذا يجاذب ما قد حواه ... وهذا يخالسه ما فضل
إذا وضعوه على نعشه ... اشاعوا البكا وأسّروا الجذل
وإن دفنوه نسوه معاً ... وكلٌّ بميراثه مشتغل
فهذا قصارى جميع الأنا ... م من جلَّ أو قلَّ منهم وذلّ
أقول وللدمع في وجنتي ... سوابق قطرٍ له مستهلّ
سلام على طيب عيشٍ مضى ... وأنسٍ بإخوان صدقٍ نبل
سلام على قوتي للقيام ... إلى الفرض في وقته والنفل
سلام على الختم في ليلةٍ ... بقلب كئيب حليف الوجل
سلام على الكتب ألّفتها ... ووشّحتها بصحاح العلل
سلام على مدحٍ صغتها ... وحبرَّتها ي الليالي الطول
سلام امرىءٍ ما اشتهى لم يجد ... وما رام مجتهداً لم ينل
أناب إلى ربه تائباً ... ومستغفراً للخطا والزَّلل
وله وقد حلم بخيال حبيب له فنبهه ذلك الحبيب فقال:
يا من ينبِّهني عن رقدةٍ جمعت ... بيني وبين خيال منه مأنوس

(2/130)


دعني فإنّك محروس ومرتقب ... وخلَّني وخيالاً غير محروس
أبو منصور محمد بن علي
الإسماعيلي الجويني
أحد أفاضل الأدباء، بل أوحدهم، يجمع تفاريق المحاسن بناحيه إلى دهقنة وكفاية، ويتحلى بستر وقناعة، وله شعر كثير يحضرني منه قوله:
يا واصفاً لي شوقه ... وما سما منه فوقه
حسوت من ذاك مالاً ... مشنوق يستطيع ذوقه
وفوق ظهري منه ... ما يشتكي قدس أوقه
وقوله:
إن الزيارة يزري ... إدمانها بالمحبَّه
وعادة الغبِّ فيها ... ألوى بحسن المغبّه
وقوله:
ما أبين العذر في كتابٍ ... في الظهر حيث البياض يعوز
أليس عند افتقاد ماء ... تيمّم بالصعيد يجوز
وقوله:
اعذر صديقاً في بياض حكى ... كاتبه في دقة الجسم
كأنّما أعدته أشواقه ... فصيرته ناحل الجرم
أبو نصر بن علي بن أبي بكر الزوزني
كان غرة في وجه زوزن، وورد نيسابور وهو غلام يتناسب وجهه وشعره حسنا، فأخذته العيون، وقبلته القلوب، وارتاحت له الأرواح، واستكثر من أبي بكر الخوارزمي وأخذ عنه الفصاحة حتى كاد يحكيه، وتفتحت له أبواب الشعر وتفتقت أنواره فقال، من قصيدة الطويل:
ولا أقبل الدنيا جميعاً بمنّةٍ ... ولا أشتري عزّ المراتب بالذُّل
وأعشق كحلاء المدامع خلقةً ... لثلاّ يرى في عينها منَّة الكحل
وقال:
ألا حلّ بي عجب عاجب ... تقاصر وصفي عن كنهه
رأيت الهلال على وجه من ... رأيت الهلال على وجهه
وحدثني أبو نصر سهل بن المرزبان قال: أنفذ إلى أبو نصر الزوزني رقعة وسألني أن أعرضها على والدي فإذا فيها هذه الأبيات:
يا أيها السيّد المرجّى ... إن حلّ صعب وجلَّ خطب
عندي ضيف وليس عندي ... ما هو للمهليات قطب
فالصدر مني لذاك ضيق ... لكن رجائي لديك رحب
أقم علينا سماء لهوٍ ... أنجمها بالمزاح شهب
نشرب ونوقظ به قلوباً ... ويصبح الجسم وهو قلب
ولما استوى شبابه وشعره ورد العراق وانخرط في سلك شعراء عضد الدولة، فهب عليه نسيم الثروة، وتمهد له فراش العمة، ثم إنه احتضر أحسن ما كان شباباً، وأكمل ما كان آداباً، وكتب إلى والده قصيدة وهو في سكرة الموت أولها:
ألا أهل من فتىً يهب الهوينا ... لمؤثرها ويعتسف السّهوبا
فيبلغ والأمور إلى مجاز ... بزوزن ذلك الشيخ الأريبا
بأن يد الرّدى هصرت بأرض العراق من ابنه غصناً رطيبا
وليس يحضرني باقيها
أبو العباس محمد بن أحمد المأموني
كان من علماء المؤدبين وخواصهم، وانتقل من زوزن إلى نيسابور واشتغل بالتدريس والتأديب، وله شعر كثير وقصائد مسمطة، كقوله من قصيدة أولها:
لعل سعاد تسعد من ... أضرَّ به الفراق وأنّ
تكف يد الصبابة عن ... فؤاد شيِّق تعب
ومنها:
وفقد الغمد لا يزري ... بعضبٍ فيصل يبري
وإن الطِّرف قد يجري ... بغير ثيابه القشب
وقوله من أخرى في التوحيد ألوها:
إله الخلق معبودي ... وفي الحاجات مقصودي
ودين الكفر مردودي ... وعصمة خالقي وزري
وأنشدني لنفسه في وصف تفاحة:
وتفاحة من سوسنٍ صيغ نصفها ... ومن جلّنار نصفها وشقائق
كأنّ الذي فيها من الحسن صائح ... بأن آمنوا يا جاحدون بخالقي
وأنشدني أيضاً لنفسه:
لا العسر يبقي على حالٍ ولا اليسر ... ألا ترى أنّ من يعلو سينحدر
لا تسخطنَّ على دهر لحادثةٍ ... فكلُّ حادثةٍ يأتي بها القدر
وكن بربِّك في الأحوال ذا ثقةٍ ... بأنّه دافع الآفات لا الحذر
أبو القاسم علي بن أحمد
بن مبروك الزوزني
كان متفنناً في العلوم، قائلاً بالاعتزال والزهد والتصوف، وله شعر كثير من أشهره قوله:

(2/131)


سواد صدغين من كفر يقابله ... بياض خدّين من عدلٍ وتوحيد
قد حلّت الزنج ارض الروم فاصطلحا ... يا ويح روحي بين البيض والسود
أبو محمد عبد الله بن محمد العبدلكاني
أديب شاعر، ظريف الجملة، خفيف روح الشعر، كثير الملح والظرف، فمما أنشدني في دار الأمير أبي الفضل الميكالي قوله قوله في بعض الصدور بنيسابور:
لو كنت أعظم في الولا ... ية من يزيد بن المهلّب
أو كنت أعلم بالروا ... ية من سعيد بن المسيّب
ولقيتني بتجهّمٍ ... فالكلب منك إليّ أعجب
وقوله:
يا ربُّ وفقني للخير ... واقتل عدوي بيديّ غيري
وقوِّ أيري فإن الفتى ... لذّته في قوة الأير
وقوله:
يا سيدي نحن في زمان ... أبدلنا الله منه غيره
كلُّ خسيسٍ وكلُّ نذلٍ ... متَّع بالطيبات أيره
وكل ذي فطنةٍ وكيسٍ ... يجلد في بيته عميره
وقوله:
يا كاسباً من إسته ... ومنفقاً على الذّكر
استك تشكوك فلا ... تفرح إذا الأير شكر
وقوله:
يا مادح الشعر جهلاً ... أعن أخاك بصمت
لو كان في الشعر خيرٌ ... ما كان ينبت في استي
وقوله:
له أنف حكى خرطوم فيل ... إلى شفتين مثل الكلبتين
فلا تغررك مردته فإنّي ... رأيت القبح إحدى اللحيتين
وأنشدني الأمير أبو الفضل له:
إذا كنت معتقداً ضيعةً ... فإيّاك والشَّوه الوجوها
لأنّك تقرأ إنّ الملوك ... إذا دخلوا قرية أفسدوها
وله:
إلبس ثياباً وكن حمارا ... فإنّما تكرم الثّياب
انتهى الباب العاشر فتم به الكتابن وبقي على ذكر قوم من أهل نيسابور لم تحضرني أشعارهم، وهم: أبو سلمة المؤدب، وأبو حامد الخارزنجي، وأبو سهل البستي، وأبو الحسن العبدوني الفقيه، وأبو بكر الجلاباذي، وأبو القاسم العلوي، وأبو سعد الخيزرودي، وابو سعيد مسعود بن محمد الجرجاني، والفقيه أبو القاسم بن حبيب المذكر، وأبو القاسم الحسن بن عبد الله المستوفى الوزير، والشيخ أبو الحسن الكرخي، والشيخ أبو نصر بن مشكان، وأبو العلاء بن حسولة أيده الله تعالى، وله الحمد والمنة والشكر، وصلواته على النبي المصطفى محمد وآله الطاهرين، والصحابة أجمعين، والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، والصلاة على جميع الأنبياء والمرسلين، والحمد لله رب العالمين، آمين.
وهذه زيادة ألحقها الأمير أبو الفضل عبيد الله بن أحمد الميكالي رحمه الله تعالى! بخطه في آخر المجلدة الرابعة من نسخته على لسان المؤلف ولقد قال الشيخ أبو منصور رحمه الله تعالى لبعض تلامذته أوان القراءة: قد أجزت ما فعله الأمير، وإن شئت أن تثبته في موضعه من الكتاب فاعل فقد أجزتك بذلك.
أبو الحسن علي بن محمد
الغزنوي مولدا، الأصبهاني منشأ، حسنة أرضه، ونادرة دهره، ونجم أفقه، وعقد قلائد الفضل وأهله، والجامع بين كرم الخيم والخير، والمكتفي بالفهم الثاقب والطبع الغزير، والمتفنن في محاسن الآداب والعلوم، والناظم حواشي المنظوم والمنثور، ومما حضر في الوقت من بارع نظمه:
إذا سلَّم الله دين امرىءٍ ... وعرضاً له من دواعي الخلل
فما بعد هذين من حادثٍ ... تلقّاه أو ريب دهرٍ جللل
وقوله في بغداد:
سقى الله بغداد مجنى العلوم ... ومغنى الأماني ومثوى الأدب
على أنّها حسرة المفلسين ... وجنّة عدنٍ لأهل النشب
إذا ما استتبّت لنا عودة ... إليها قضينا أقاصي الأرب
وقوله:
سقى الله أياماً ببغداد لي مضت ... خلت فألذَّت وانقضت فأمضّت
ولم يك إلاّ عقد عمري وعلقة ... تقضّى فكانت عيشتي قد تقضَّت
وقوله في نكبته:
ليس إلا الرضى بما قدّر الله وإلا الإذعان والتسليم
والعزاء الجميل والصبر والإيقان أنّ المولى رحيم كريم
ومصير المظلوم عقبى نجاةٍ ... ومعاد البغاة مرعى وخيم

(2/132)


ومصير المظلوم عقبى نجاةٍ ... ومعاد البغاة مرعى وخيم
ليس فيما مضى من الخير خير ... إنّما الخير في الذي لا يريم
وكذا الشر ينقضي ليس شرّاً ... إنّما الشرَّ شرُّ من يستديم
فاحمد الله إن حصلت مصيراً ... واشكرنه أن لست ممّن تضيم
واتق الله واستعنه وأيقن ... إن أجر الصبور أجر عظيم
وقوله:
الزجر والفأل والرؤيا تعاليل ... وللمنجّم أحكام أباطيل
والله بالغيب والتقدير منفرد ... وما سوى حكمه غيٌّ وتضليل
فلا معجّل للمقضيِّ آجله ... وليس للعاجل المقضي تأجيل
ثق بالعليم الذي يقضي الأمور ولا ... يغررك ما دونه فالكلُّ تعليل
وقوله::
يا من يثمِّر للحوادث ماله ... فوَّتَّ نفسك حظَّها من مالها
كن واحداً منها لسهمٍ واحدٍ ... لك إن حرمت سهامها بكمالها
وقوله في مرثية وجيه بن أحمد:
أتى نبأ من نحو دينور مصعداً ... أقام جميع السامعين وأقعدا
وأورث أحناء القلوب تململاً ... وأودع أحشاء الضلوع توقّدا
وذوب من بحر المدامع جامداً ... وجرّد من سيف الكآبة مغمدا
وغادر وجه الفضل والنبل أغبراً ... وطرف الحجى والعقل واللبِّ أرمدا
وأبقى أساه كلَّ دمعٍ مهلهلاً ... وأبقى بكاه كلَّ خدٍّ مخدّدا
فعاد به شمل الهموم مجمَّعاً ... وآض به شمل السرور مبدّدا
ففي كلِّ دارٍ منه نوح ورنّة ... وفي كلِّ قلبٍ منه كلم تجدّدا
بأن الردى أنحى على المجد والعلى ... وأودى بحزم العلم والحلم والندى
بمن كان للإحسان والفضل مألفاً ... ومن كان للإنعام والطول معهدا
فويح الردى كيف انبرى دفعةً له ... وكان به من قبل يستدفع الرّدى
عساه أتاه في معارض سائلٍ ... فراوده عن روحه باسطاً يدا
فما ردَّه لما اجتداه تكرُّماً ... وكان قديماً لا يردُّ من اجتدى
عفاء على دهرٍ عفا رسم مجده ... فغادر شلو المكرمات مقدَّدا
وأنف المعالي والكمال مجدّعاً ... ووجه المساعي والفعال مسوّدا
لقد كان حقاً غرَّةً في جبينه ... فعاد بهيماً بعد أكلف أربدا
سلام عليه فائض بركاته ... من الله والرضوان مثنى وموحدا
ولا زال ريحان الجنان وروحها ... يصافحه في كلِّ ممسى ومغتدى
وقوله في علة عرضت له فحلف الطبيب أنها سليمة:
حلف الطبيب لأبرأنَّ من علتي ... ومتى يريح من الممات يمين
هون عليك فكلُّ ما هو كائن ... سيكون إمّا حان منه الحين
ولئن نجوت مسلَّماً من هذه ... إنّي بأخرى بعدها لرهين
وقوله:
سقى الله الصّبا ونعيمها ... إذ القلب صابٍ في هوى المرد شيِّق
وإذ لا أحاشى لذَة كيفما انبرت ... وأني ويم العيش غضّان ريّق
لئن كان عذري في شبابي واسعاً ... عليَّ فصبري في مشيبي ضيِّق
وله في نكبة:
لئن غصبت أيدي المظالم ضيعتي ... فلم تغتصب ديني وعلمي وأخلاقي
وإن ثمدت مالي الجوائح فالذي ... تكفّل بالأرزاق يوسع أرزاقي
فديني موفور، وعقلي راجح ... ووزري منزور، وعلمي لي باقي
وعرضي مصون عن مخازٍ تظاهرت ... على هاضمي، والحمد لله خلاقي
وما أرتجي في آجلي من مثوبةٍ ... وذخر جزيلٍ فهو أنفس أعلاقي
فسبحان من في كلِّ عارض محنةٍ ... له منحة يقضي لها الشّكر أطواقي
/بسم الله الرحمن الرحيم

(2/133)


أما بعد حمدا لله الذي وفقنا لغرس الدر والياقوت في ارض الكتاب واستثمار الغرر والنكت من أنوار الصحف والاستظهار على كرب الدهر بتنسم الأدب والصلوة على سيدنا محمد غرة العالم وسيد بني آدم فاني لما رأيت كتأبي المعنون بيتيمة الدهر في محاسن أهل العصر يسحر العقول ويملك القلوب ويعجب الملوك كما يعجب الرعية ويحسن أثره على الشعراء كما يطيب ثمره للكتاب ويسير في الآفاق مسير الأمثال ويسري في البلاد مسرى الخيال ولقيت أعيان الفضل وأفراد الدهر أطلب له من طير الماء للماء و احرض عليه من المرضى على الشفاء ووقع إلي على الأيام ما ينخرط في سلكه ويصلح للالحاق به ولا يسوغ تأخيره عن أخواته، لا سيما وقد خلا منه مكان قوم من السادة و الكبرا لامتك لثمار خواطرهم ووسائط قلائدهم عن لي حذو كتاب لطيف على تمثيله وترتيبه وايداعه ما شذ عنه من طرزه وجنسه اجراؤه مجرى الفرخ له والعلاوة عليه فعملت من ذلك مالم اخمر الرأي فيه ولم أوفيه حقه من التهذيب لاستعجالي وايثاري اتحاف الشيخ أبي الحسن محمد بن عيسى الكرجي أيده الله تعالى به وهو على جناح السفر ناهض النية سائر العزيمة فارتفع كعجالة الراكب فانضم إلى ما صحبه من أخائر الدفاتر وقد أنشأته الآن نشأة أخرى وسبكته ثانية بعد أولى وكررت فيه ابناء قوم سبق ذكرهم في اليتيمة ولم يحضرني في وقت تاليف اليتيمة الا القطر من سيح وابلهم واللمعة اليسيرة من أبكار أفكارهم كأبي المطاع ذي القرنين من ناصر الدولة أبي محمد الحمداني وأبي العباس خسرو فيروز بن ركن الدولة وأبي علي مكسويه، وأبي بكر القاضي السكي وأبي القاسم بن العلاء الاصبهاني وأبي سعد بن خلف الهمذاني وأبي البركات العلوي وأبي محمد منصور بن محمد الهروي وغيرهم، فاردت الآن أن أسد الثلم واجبر الكسر وأتمم النقص وأورد ذكر كل منهم في مكانه على الرسم في مثله، وقد قررت عنوان الكتاب تتمة - اليتيمة ولم اخله من ملح النوادر وفصوص الفصول وبنيته على الانتخاب والاختصار والاقتصار على اللبوب وعيون العيون وسلوك طريق منصور الفقيه في قوله:
قالو خذ العين من كل فقلت لهم ... في الفصل عين ولكن ناظر العين
حرفين من ألف طومار مسودة ... وربما لم تجد في الألف حرفين
والعذر في تأخير المقدم وتقديم المؤخر وكتبة مالا يتم المعنى دون وما يشرف بالانتساب إلى قائله لا بكثرة طائله ما سبق ذكره ملخصا صدر كتاب اليتيمة ومن هاهنا سياق أبواب الكتاب:
تتمة القسم الأول في
محاسن أهل الشام والجزيرة
الأمير أبو المطاع قد قدمت العذر في تكرير ذكره وكتبت ما لم يقع في التيمة من شعره فمن ذلك ما أنشدني أبو محمد خلف بن محمد بن يعقوب الشرمقاني بها، قال أنشدني أبو المطاع لنفسه:
افدي الذي زرته بالسيف مشتملاً ... ولحظ عينيه أمضى من مضاربه
فما خلعت نجادي في العناق له ... حتى لبست نجاداً من ذوائبه
وكان أسعدنا في نيل بغيته ... من كان في الحب أشقانا بصاحبه
وأنشدني الشرمقاني عن الجوهري عن أبي المطاع لنفسه:
لما التقينا معاً والليل يسترنا ... من جنحه ظلم في طيها نعم
بتنا أعف مبيت باته بشر ... ولا مراقب إلا الظرف والكرم
فلا مشى من وشى عند العدو بنا ... ولا سعى بالذي يسعى بنا قدم
وأنشدني أيضا ًبهذه الاسناد:
تقول لما رأتني ... نضوا كمثل الخلال
هذا اللقاء منام ... وأنت طيف الخيال
فقلت كلا ولكن ... أساء بينك حالي
فليس يعرف مني ... حقيقتي من محالي
وأنشدني أيضاً بهذه الاسناد:
ترى الثياب من الكتان يلمحها ... نور من البدر أحياناً فيبليها
فكيف تنكر أن تبلى معاجرها ... والبدر في كل وقت طالع فيها
وأراه أخذ هذا المعنى من أبي الحسن بن طباطبا العلوي في قوله من نتفة:
لا تعجبوا من بلى غلالته ... إذا زر كتانها على القمر
وأخذه أيضاً الرضى بن الموسوي النقيب فقال من قصيدة:
كيف لا يتبلى غلالته ... وهو بدر وهي كتان

(2/134)


وللقمر خاصية في قرض الكتان ولذلك قال من ذكر عيوب القمر: يهدم العمر ويحل الدين ويوجب أجره المنزل ويسخن الماء ويفسد اللحم ويشحب الألوان ويقرض الكتان ويضل الساري لأنه يخفي الكواكب ويعين السارق ويفضح العاشق الطارق. ولأبي محمد طاهر بن الحسين المخزومي البصري في نظم نبذة من معايب البدر وتحذير بعض الرؤساء سوء أثر هجاءه من قصيدة:
لو أراد الأديب أن يهجو البد ... ر رماه بالخطه الشنعاء
قال يا بدر أنت تغدر بالسا ... ري وتغري بزورة الحسناء
كلف في شحوب وجهك يحكي ... نكتاً فوق وجنة برصاء
ويريك السرار في آخر الشه ... ر شبيه القلامة الحجناء
وإذا البدر نيل الهجو فليخ ... ش أولو العقل ألسن الشعراء
وأنشدني أبو يعلى محمد بن الحسن الصوفي قال أنشدني أبو المطاع لنفسه:
لو كنت ساعة بيننا ما بيننا ... وشهدت حين نكرر التوديعا
أيقنت أن من الدموع محدثاً ... وعلمت أن من الحديث دموعاً
وله في هذا المعنى بعينه:
غير مستنكر وغير بديعٍ ... أن يبين الذي تجن ضلوعي
لي دموعٌ كأنها من حديثٍ ... وحديثٌ كأنه من دموعي
وكنت احسب أن شعره مقطعات دون القصايد حتى مطلع علينا الشيخ أبو بكر على بن حسن فأعارني من ديوان شعره ما نقله بالشام من خطه وفيه الطوال والقصار ولم يكن رفع إلى خراسان من ذلك غير ما كتبة، فمن احاسنه ولطايفه قوله:
ومفارق نفسي الفداء لنفسه ... ودعت صبري عنه في توديعه
ورأيت منه مثل لؤلؤِ عقدهِ ... من ثغرهٍ وحديثه ودموعه
وقوله في معناه:
رأيت عند الفراق لما ... جم لحيني وشؤم جدي
اربعةً مالها شبيه ... فيمن به صبوتي ووجدي
من در لفظٍ ودر ثغرٍ ... ودر دمعٍ ودر عقدٍ
وقوله:
اليوم يوم السرور والطرب ... فاقض به على ما تحب من أرب
أما ترى الجو في سحائبه ... وبرقه المستطير في السحب
يختال في حلة ممسكةٍ ... قد طرزتها البروق بالذهب
ولأبي المطاع من قصيدة:
ولما اجتمعنا للتفرق سلمت ... سلام فراق لا سلام تلاق
فحليت من نظم الصبابة ... جيدها فريد دموعٍ في عقود عناق
فيا ليت روحينا جرت في دموعنا ... تسيل باجفان لنا ومأاق
فقد يستلذ الصب فرقة نفسه ... إذا جد بالأحباب وشك فراق
وله ايضاً:
أيها الشادن الذي صاغه الل ... ه بديعاً من كل حسنٍ وطيبٍ
ظل بين اللحاظ لحظك يحكي ... سقم قلبي عليك بين القلوب
وله في يوم مضى في دير دمشق:
ما انس لا انس يوم الدير مجلسنا ... ونحن في نعم توفي على النعم
وافيته غلساً في فتيةٍ زهرٍ ... مارشئت من ادب فيهم ومن كرم
والفجر يتلو في أثره زهرته ... كطاعن بستان إثه منهزم
قال كانت الزهرة تطلع في ذلك الوقت قبيل طلوع الفجر:
فلم نزل بمطي الراح نعملها ... محدودة بيننا بالزمر والنغم
حتى إانثنينا ونور الشمس يطرده ... جنح من الليل في جيش من الظلم
وليس فينا لفعل الخندريس بنا ... من تستقل به ساقٌ على قدم
وله من قصيدة:
جناحي إن رمت النهوض مهيض ... وحبة قلبي للهموم مفيض
وقد هاج لي حزناً تألق بارقٌ ... له بأعالي الرقمتين وميض
كما سارقت بالحظ مقلة ارمد ... يقلبها جفن عليه غضيض
فلو أن ما بي بالحديد إذا به ... أو الصخر عاد الصخر وهو رضيض
ولي همة لو ساعدتها سعادة ... لكانت سماءً والسماء حضيض
وتحكم في مالي حقوق مروة ... نوافلها عند الكرام فروض
أبو الحسين أحمد بن محمد المعري

(2/135)


معرة النعمان من بلاد الشام، وكان يلقب بالقنوع لأنه قال يوماً في كلام له قد قنعت والله من الدنيا بكسرة وكسوة ووصف بعض العمال فقال: ما هو إلا ماء كدر وعود وقفل عسر، وأنشدني أبو يعلى محمد بن الحسن البصري قال أنشدني القنوع لنفسه ملحاً وغرراً ونكتاً وطرقا وكان قد استكثر منه وروى جل شعره عنه، فمن ذلك قوله:
رب همٍ قطعته من دجى اللي ... ل بهجر الكرى ووصل الشراب
والثريا قد غربت تطلب البد ... ر بسير المروع المرتاب
كزليخاً وقد بدت كفها تط ... لب اذيال يوسف بالباب
وقوله في الغزل:
ومجرد ابداً عل ... قلبي حسامي مقلتيه
جسمي على حالين من ... حذرٍ ومقيمٍ في يديه
فإذا امنت الخوف من ... ه بقيت في خوفٍ عليه
وقوله في رئيس جالس على رأس بركة مع ندمائه:
قل للرئيس أبي الرضاء محمد ... قول امرءٍ يوليه حسن ولاء
من حول بركتك البهية سادة ال ... قراء والعلماء والشعراء
لو انصفوك وهم قيام اشبهت ... اشخاصهم امثالها في الماء
أي لقاموا على رؤسهم كما يتراؤون في الماء، وقوله في قوم بنوا مسجداً في محلته:
يا من بنى مسجداً ضراراً ... والبخل منه يليه لوم
لو كان إسلامكم قديماً ... كان لكم مسجد قديم
وقوله في بعض العدول:
يا بن علي قالوا ولو صدقوا ... لكنت تجري مجراه في الخلق
دينك ذا لو كشف باطنه ... أرق من طيلسانك الخلق
أبو الخير المفضل بن سعيد
بن عمرو
هو من معرة النعمان أيضاً ويلقب بالعزيزي لاختصاصه بعزيز الدولة أبي شجاع فاتك ومن شعره فيه قوله من قصيدة وقد خلع عليه وأعطاه سيفاً ومنطقة ذهب:
يا ذا الصنايع بعدهن صنايع ... وأخا الأيادي بعدهن اياد
لم ترض لي حتى ارتديت بصارمٍ ... وعقدت مربط عاتقي بنجاد
وادرت في خصري سبيكة عسجدٍ ... اوهت عداي وأمسكت من آدي
فلأرضينك من بلاغة منطقي ... ولأعجبنك من مضاء فؤادي
ولأخدمنك فاعلاً أو قائلاً ... بالضرب بين يديك والأنشاد
وإذا شككت فلا تشك بانني ... في الدهر ثالث عنتر وزياد
ومما يستحسن له قوله في جارية سوداء ويروى لغيره:
ومسكينة النشر مسكينة ال ... غدائر مسكينة المنظر
تثنى وقامتها للقضي ... ب وتنظر واللحظ للجوذر
وتحسبها في خلال الحدي ... ث تنثر عقداً من الجوهر
وقوله في الهجاء:
أبو الرضا القاري له منظر ... يعرب عن بنيه تأنيث
مخنث الطبع وليست له ... خفة أرواح المخانيث
وله ويروى لغيره:
ايرى على جسمي امير وقد ... دان له بالسمع والطاعة
تكسب أعضاي جميعاً له ... في الشهر ما ينفقا في الساعة
أبو العلاء المعري قد جمعت بين أهل معرة النعمان التي أخرجت هؤلاء الفضلاء وهي غير مشهورة بخراسان، وكان حدثني أبو الحسن الدلفي المصيصي الشاعر وهو من لقيته قديماً وحديثاً في مدة ثلاثين سنة قال لقيت بمعرة النعمان عجباً من العجب رأيت أعمى شاعراً ظريفاً يلعب بالشطرنج والنرد ويدخل في كل فن من الجد والهزل يكنى أبا العلاء وسمعته يقول انا أحمد الله على العمى كما يحمده غيري على البصر، فقد صنع لي واحسن بي إذ كفاني رؤية الثقلاء البغضاء قال وحضرته يوماً وهو يملي في جواب كتاب ورد عليه من بعض الرؤساء:
وافى الكتاب فاوجب الشكرا ... فضممته ولثمته عشرا
وفضضته وقرأته فاذا ... أحلة كتاب في الورى يفرا
فمحاه دمعي من تحدره ... شوقاً إليك فلم يدع سطرا.
فحفظتها واستعملتها كثيراً في مكاتبات الأخوان.
أبو القاسم المحسن بن عمرو
ابن المعلى
أنشدني أبو يعلى له في منتحل:
لو قيل للشعر الذي يدعي ... الحق بمن قالت يا شعر

(2/136)


لم يبق في ديوان اشعاره ... قصيدة لا لا ولا سطر
وأظرف والطف منه قول القاضي أبي الحسن بن عبد العزيزفي أبي بكر الخوارزمي:
لو نفضت اشعاره نفضة ... لانتشرت تطلب اصحابها
قال وأنشدني لنفسه واحسن واجاد جداً:
لست أدري ولا المنجم يدري ... ما يريد القضاء بالانسان
غير أني اقول قول محقٍ ... وارى الغيب فيه مثل العيان
إن من كان محسناً قابلته ... بجميل عواقب الاحسان
وأنشدني المصيصي مرة له واخرى لغيره هذين البيتين وهما مما يدخل على الأذن بلا اذن:
ليالي اللذات سقياً لك ... ما كنت إلا فرحاً كلك
عودي كما كنت مرة ... فنحن إن عدت عبيد لك
وله ايضاً:
ايا بارداً جداً ... ويا من يشبه القردا
لقد اشتبهت من بردك ... مخضراً ومسودا
لأن البرد من بردك ... أضحى يجد البردا.
أبو الحسين المستهام الحلبي غلام أبي الطيب المتنبي والببغاء أنشدني أبو يعلى له في بعض الامراء اخترت منها:
ذو منظر دل على مخبر ... دلالة اللفظ على المعنى
ما زال يبني كعبة للعلا ... ويجعل الجود لها ركنا
حتى أتى الناس فطافوا به ... واستلموا راحته اليمنى
ومنها:
تطربه الاشعار في مدحه ... ولم يضع قائلها لحنا
فليس يدري ان اتى شاعر ... ينشده انشد أم غنا
وهذا معنى حسن قد تصرف فيه العقلاء فمنهم أبو تمام حيث يقول ولعله أول من فتح هذا الباب:
ونغمة معتفٍ تاتيه احلى ... على اذنيه من نغم السماع
ثم البحتري حيث يقول:
نشوان يطرب للمديح كأنما ... غناه مالك طيئ او معبد
ثم ابن الرومي حيث يقول:
كأنه وهو مسئول وممتدح ... غناه اسحق والاوتار في الصخب
ثم القاضي ابن عبد العزيز حيث يقول في الصاحب:
نشوان يلقي المعتفى متهللاً ... يهتز من مدح به عطفاه
وإذا اصاخ إلى المديح رأيته ... وكأنه مالك طيئ غناه
وقول المستهام احسن والطف من أقوال هؤلاء كلهم وله في الخمر أنشدنيه أبو يعلى:
وقهوة ذات حبب ... كالنار ترمي باللهب
تحسب من طول الحقب ... مخلوفة قبل العنب
أبو محمد الماهر الحلبي شاعر بحقه وصدقه محسن ملء ثوبه يقول من قصيدة:
ترى منهم يوم الوغى كل ناشر ... من النقع فوق الدار عين مطاردا
ينالون ما امسى بعيداً مناله ... كأنهم أعطوا الرماح سواعدا
ومن اخرى يشبب فيها بغلام اثرت فيه الحمى ويحسن في التخلص إلى المدح ويظرف جداً:
واسيل الخد شاحبه ... كحلت عيناه بالفتن
تركت حماه وجنته ... في اصفرار اللون تشبهني
وارى خديه وردهما ... ما جني ذنباً فكيف جنى
نهبا حتى كأنهما ... ما حوت كفا أبي الحسن
ومنها:
ذو جفون تشتري ابداً ... غبرات النقع بالوسن
ويد تندى ندى وردى ... تجمع الضدين في قرن
ومن اخرى:
مجدي وقد يثبت في نفسه ... فضيلة المجدي على المجدي
لو كان من احببته بعض ما ... في يده زار بلا وعد
وله من أخرى:
إذا امتطى قلم يوماً انامله ... سد المفاقر واستولى على الفقر
وله في الغزل:
جس الطبيب يدي جهلاً فقلت له ... عني إليك فهذا يوم بحراني
فقال ماذا الذي تشكوه قلت له ... اشكو إليك هوى من بعض جيراني
فظل يعجب من قولى وقال لهم ... إنسان ظرفٍ فداووه بانسان
ومن منثور كلامه: خلص من سبل النقد خلوص الذهب من اللهب، واللجين من يد القين، والمدام من نسيج الفدام، وقوله: اين السمك من السماك والغرقد من الفرقد والسراب من الشراب.
أبو الفتح الموازيني الحلبي: لم أسمح في هجاء قوال املح من قوله:

(2/137)


ومغن عن غيره غير مغن ... جاء في لحنه القبيح بلحن
كاد في كفه القشيب من الغي ... ظ ينادي يا اثقل الناس دعني.
أنشدني المصيصي له وهو متنازع بينه وبين نفر من اهل الشام والجزيرة لجودته وأنشدني أبو يعلى البصري لبعضم وقد نسيت اسمه:
لا يظن الحسود ذلك وإن د ... ب دبيب التوريد في وجنتيه
أنما خده غلالة وردٍ ... نفضت صبغها على مقلتيه
وقوله من قصيدة:
الج العجاج إلى المقنع حاسراً ... وأزورها خوف الوشاة مقنعاً
وقد كنت قلت في صباي بيتيتن في تشبيه كسوف البدر بالتحاء الغلام وضمنها أبو سعيد بن أبي الفرج كتابه في التشبيهات وهما:
انظر إلى البدر في اسر الكسوف بدا ... متسلماً لقضاء الله والقدر
كأنه وجه معشوقٍ ادل على ... عشاقه فابتلاه الدهر بالشعر
أبو أحمد محمد بن حماد البصري: أنشدني أبو القاسم يحيى بن علاء البخاري الفقيه قال أنشدني ابن حماد البصري لنفسه بها:
إن كان لا بد من أهل ومن وطن ... فحيث آمن من أهوى ويأمنني
يا ليتني منكر من كنت أعرفه ... فلست أخشى اذى مة ليس يعرفني
لا أشتكي زمني هذا فأظلمه ... وانما أتشكى أهل ذا الزمن
وقد سمعت افانين الحدجيث فهل ... سمعت قط بحر غير ممتحنِ
وحدثني هذا أبو الفضل قال قلت يوماً بالبصرة لا بن حماد في كلام جرى بيني وبينه انت بحر وأنا نهر فقال لاجرم انت عذب وانا ملح وقرظته يوماً أخر واثنيت عليه فقال ما أحسن هذا المدح لولا أن العارية مؤداه.
أبو الحسن محمد بن عبد الواحد القصار: هو بصري المولد والمنشأ الا أنه استوطن بغداد ولما رأى سخف الزمان واهله وميلهم من الكلام إلى هزله اخذ في طريق السخف ونزع ثياب الجد وتلقب بصريع الدلاء وتشبه بابن الحجاج وهيهات، ولما أنشد فخر الملك قصيدته التي منها:
يا ذا الجلالات ويا ... ذا النعم المتسقه
يا نعمة الله على ... جميع من قد خلقه
لو فاخر الدهر الورى ... علوت منه عنقه
قد والذي يبقيك لي ... انقطعت بي النفقه
وبعت من دفاتري ... ما كان جدي ورقه
وهي هزلية طويلة اعطاه ما اغناه فهبت ريحه ونفقت سوقه ودرت الصلاة له وتداول اهل بغدادا قصيدته التي عارض بها أبي العنبس في تأخير المنفعة وذكر التميمي انه قالها واكثر شعره في داره ببغداد وانه كان يسميها باديته واول القصيدة:
قلقل احشاي تباريح الجوى ... وبان صبري حين حالفت الأسى
ومنها وهي مطمعة مويسة:
يا سادة بانوا وقلبي عندهم ... مذ غبتم قد غاب عن عيني الكرى
وسوف أسلي عنكم صبابتي ... بحمقةٍ يعجب منها من وعى
في طرف نظمتها مقصورة ... اذ كنت قصاراً صريعاً للدلا
من صفع الناس ولم يمكنهم ... أن يصفعوه بدلا قد اعتدى
من مضغ الأحجار ادمت فكه ... فالضرس لم تخلق لتليين الحصى
من نام لم يبصر بعيني راسه ... ومن تطأطأ راكعاً قد انحنى
من رامح الخيل كسرن ساقه ... ومن حدى في نومه فقد هذى
من صام اسبوعاً تماماً ليله ... مع النهار لم يوافقه الخوى
من قطع النخل وظل راجيا ... ثمارها فذاك مقطوع الرجا
ومن طلى بالحبر صحن وجهه ... حكا بما سود ليلاً قد دجا
وهي طويلة تربي على المائة وقد اعجز الشعراء ان يزيدوا فيها بيتاً من حسنها.
أبو عبد الله بن الحسين بن أحمد المفلس: قد ذكرته في كتاب اليتيمة واوردت يسيراً من شعره وهو ما ذكر أبو الحسن محمد بن الحسين الفارسي النحوي من ان له شعراً كثيراً في اللغز والاحاجي قد ظفرت الآن به وكتبت ما استحسنته واخترته وكان عمله لبهاء الدولة فاستخرجه كله، فمن ذلك قوله في نخلة على شاطئ من نهردجلة:
وغيداء تهتز طوع النسيم ... إذا جد معتله أو مزح

(2/138)