صدر هذا الكتاب آليا بواسطة الموسوعة الشاملة
(اضغط هنا للانتقال إلى صفحة الموسوعة الشاملة على الإنترنت)
الكتاب : يتيمة الدهر |
وكان يبغض الشطرنج ويذمها ولا يقارب من يشتغل بها ويطنب في ذكر عيوبهم ويقول: لا ترى شطرنجاً غنياً إلا بخيلا ولا فقيراً إلا طفيليا، ولا تسمع نادرة باردة إلا على الشطرنج، فإذا جرى ذكر شيء منها قيل: جاء الزمهرير، ولا يتمثل بها إلا فيما يعاب ويذم ويكره، فإذا خرى السكران قيل: قد فرزن، وإذا كان مع الغلام الصبيح المليح رقيب ثقيل: قيل معه فرزان بيدق، وإذا استحقر قدر الإنسان قيل: كأنه بيدق، ولا سيما إذا اجتمع فيه قصر القدر وصغر القدر كما قال الناجم: (2/2)
ألا يا بيدق الشطرنج في القيمة والقامة
وإذا ذكر وقوع الإنسان في ورطة وهلكة على يد عدو قيل كما قال عبد الله بن المعتز وأجاد:
قل للشّقي وقعت في الفخّ ... أدوت بشاهك ضربة الرخّ
وإذا رؤي طفيلي يسيء الأدب على المائدة قيل: انظروا إلى يد الكشحان كأنها في الرقعة وإذا رؤي زيادة لا يحتاج إليها قيل: زاد في في الشطرنج بغلة، وإذا سب دخيل ساقط: قيل من أنت في الرقعة؟ وإذا ذكر وضيع ارتفع قيل كما قال أبو تمام:
قل لي متى فرزنت سر ... عة ما أرى يا بيدق
ويروى أنه دخل يوماً على عبد الله محمد بن يعقوب الفارسي وقد ولد له مولود فأنشد:
هنئت نجم سعادة ... قد حلّ أوّل أمس رحلك
فأحلّه المولى من ال ... أدب والعليا محلًك
وأطال عزّكما وعمركما ... وأكثر منك مثلك
فأمر له بثلثمائة دينار.
وكتب إلى بعض الرؤساء رسالة في الهز والاقتضاء وفي آخرها قوله:
فرأى الشيخ مولى المجد في أن ... يشرفني بإحدى الحسنيين
بنقد أرتجيه أو بيأس ... فإن اليأس إحدى الراحتين
وله من قصيدة:
كسبت ما شئت من مال فأتلفه ... كفّ كسوب بعون الله متلاف
لن يلبث المال عندي أو يفرقه ... طبع امرى همّه بذل وإسراف
إنّ عادتي فيما حوته يدي ... وعاده الله جلّ الله إخلاف
فهذه عادتي فيما حوته يدي ... وعادة الله جلّ الله إخلاف
إنّ الحقوق ليفني المال واجبها ... وفي قضاء حقوق الناس إنصاف
وله:
كفاك مذكراً وجهي بأمري ... وحسبي أن أراك وأن تراني
وكيف أحثّ من يعنى بشأني ... ويعرف حاجتي ويرى مكاني
أبو بكر محمد بن عثمان
النيسابوري الخازن
وقع إلى بخارى وتصرف بها وتقلد الحزن، وكان من أدباء الكتاب وفضلائهم، واهدى جزءاً بخطه يشتمل على ملح وغرر بخاريه به ولغيره ممن جاورهم بالحضرة، فمما كتبه قوله:
لكلب عقور أسود اللون رابض ... على صدر سوداء الذوائب كاعب
أحبُّ إليها من معانقة الذي ... له لحية بيضاء فوق الترائب
وله:
وعنينٍ يريد قيام أير ... بأدويةٍ لأوقات الجماع
فقلت له هلاك الزقِّ يوماً ... إذا ما احتيج فيه إلى الرقاع
ومما وجدته بخطه، ولست أذكر أكتبه لنفسه أم لغيره من كتاب عصره لغيبة ذاك الجزء عني، هذه الأبيات:
وهت عزماتك عند المشيب ... وما كان من حقها أن تهي
وأنكرت نفسك لما كبرت ... فلا هي أنت ولا أنت هي
فإن ذكرت شهوات النفوس ... فما تشتهي غير أن تشتهي
الحسين بن علي المروروزي
من آدب أصحاب الجيوش بخراسان وأشعرهم وأكرمهم، وفيه يقول بعض الشعراء لما صرف عن مرو بأحمد بن سهل ويذكر دار الإمارة فيها:
أقام بصحنها لؤم ابن سهل ... وفارق ربعها كرم الحسين
وكانت جنّة فغدت جحيماً ... فيا بعد اختلاف الحالتين
ومن سائر شعر الحسين قوله في أبي الفضل البلغمي لما تلطف لإطلاقه من حبس القمندر بهراة:
ألا اسقني من زبيب شمس ... عدّو همّي حبيب نفسي
أرقّ من دين آل تيم ... ومن عديّ وعبد شمس
أشرب بتذكار من تولّى ... بناء مجدي بهدم حبسي
وقوله:
ثنتان يعجز ذو الرياضة عنهما ... رأي النساء وإمرة الصبيان
أما النساء فميلهن إلى الهوى ... وأخو الصبا يجري بغير عنان
وقوله من أبيات في بعض قواده: (2/3)
وجيش يكون أميراً لهم ... قصارى أولئك أن يهزموا
محمد بن موسى الحدادي البلخي
كان يقال: أخرجت بلخ أربعة من الأفراد: أبا القاسم الكعبي في علم الكلام، وأبا زيد البلخي في البلاغة والتأليف، وسها بن الحسن في شعر الفارسية، ومحمد بن موسى في شعر العربية، وكان يكتب للحسين بن علي وشعره سائر مدون كثير الأمثال والغرر، كقوله::
إن كنت أشكو من يرقّ ... عن الشكاية في القريض
فالفيل يضجر وهو ... أعظم ما رأيت من البعوض
وقوله:
ألقحت منه حرمة ... متوقعاً ما تنتج
فإذا رعايته لها ... والله سقط مخدّج
وقوله:
لا غرو إن كنت بحراً لا يفيض ندىً ... فالبحر غمر ولكن ليس بالجاري
أمسيت جاري من بين الأنام فلا ... تغفل وصاة رسول الله بالجار
وقوله من قصيدة:
كم فيك من رشا أغن كأنّما ... خلقت مفاصله بغير عظام
كم قد غللت يد النديم بقهوة ... سهدت بأن الغلّ من إكرامي
ومن أخرى:
ما بال فرقة شملنا لا تجمع ... وإلى متى يصل الزمان ويقطع
كم خلّقت يلطم خدّه وجداً بنا ... وعيون نرجسه علينا تدمع
فالورد يلطم خدَّه وجداً بنا ... وعيون نرجسه علينا تدمع
ومنها:
ولربّ كرم قد رضعت ثديه ... ومن العجائب أن كهلاً يرضع
ومن أخرى:
أذلّت فيما بيننا حرمةً ... كحرمة الإبريق والكأس
قدّك أما يمنعك الفضل أن ... رحت على عرش كناّس
ومن أخرى:
وحكى سواداً في شقائق حمرة ... صلب الغوالي في خدود الروم
ومن أخرى:
إن كان أغلق دوني بابه فلقد ... أعددت صبري لذاك الباب مفتاحاً
ومن أخرى:
يسرني من حسد الناس لي ... أنّي فيهم غير محروم
وأنّني من كرم لا بس ... وأنّني عار من اللوم
أبو الفضل السكري المروزي
أحمد بن محمد بن زيد
شاعر مرو وظريفها، وله شعر مليح خفيف الروح كثير الملح والأمثال، كقوله:
لا تعتبنّ على الزمان وصرفه ... مادام يقنع منك بالأطراف
وفذا سلمت فلا تكن لك همة ... إلاّ دوام سلامة الألاّف
وقوله:
ما أعجب الزرق وأسبابه ... كلّ له في رزقه بابه
مقدوره من بابه واصل ... والمرء لا يعرف أسبابه
وقوله:
أشرف القصد في المطا ... لب للناس أربعه
كثرة المال والولا ... ية والعز والدعة
فارض منها بواحد ... تلف ما دونه معه
دعة النفس بالكفا ... ف وإن لم تكن سعه
كلّ ما أتعب النفو ... س فما فيه منفعه
وقوله من مزدوجة ترجم فيها أمثالاً للفرس من الرجز
من رام طمس الشمس جهلاً أخطا ... الشمس بالتطيين لا تغطى
أحسن ما في صفة الليل وجد ... الليل حبلى ليس يدري ما يلد
من مثل الفرس ذوي الأبصار ... الثوب رهنّ في يد القصّار
إنّ البعير يبغض الخشاشا ... لكنه في أنفه ما عاشا
نال الحمار بالسقوط في الوحل ... ما كان يهوى ونجا من العمل
نحن على الشرط القديم المشترط ... لا إلزقّ منشقّ ولا العير سقطّ
في المثل السائر للحمار ... قد ينهق الحمار للبيطار
والعنز لا يسمن إلاّ بالعلف ... لا يسمن العنز بقول ذي لطف
البحر غمر الماء في العيان ... والكلب يروى منه باللسان
لا تلك من نصحي في اريتاب ... ما بعتك الهرّة في الجراب
من لم يكن في بيته طعام ... فما له في محفل مقام
منّيتي الإحسان دع إحسانك ... اترك بحشو الله باذنجانك
كان يقال من أتى خوانا ... من غير أن يدعي إليه هانا
وكان مولعاً بنقل الأمثال الفارسية إلى العربية، فمما اخترته من ذلك بعد المزدوجة قوله: (2/4)
إذا وضعت على الرأس التراب فضع ... من أعظم التلّ إن النفع منه يقع
وقوله:
إذا الماء فوق غريق طما ... فقاب قناة وألف سوا
وقوله:
إذا لم تطق أن ترتقي ذرة الجبل ... لعجز فقف في سفحه هكذا المثل
وقوله:
في كلّ مستحسن عيب بلا ريب ... ما يسلم الذهب الإبريز من عيب
وقوله:
إذا حاكم بالأمر كان له خبر ... فقد تم ثلثاه ولم يصعب الأمر
وقوله:
ما كنت لو أكرمت أستعصي ... لا يهرب الكلب من القرص
وقوله:
أدّعى الثعلب شيئاً وطلب ... قيل هل من شاهد قال الذنب
وقوله:
هو الثعلب الروّاغ في مهمه سلك ... يرى التّو فيه وما أن يرى الشبك
وقوله:
من مثل الفرس سار في الناس ... التين يسقى بعلّة الآس
وقوله:
تبختر إخفاءً لما فيه عرج ... وليس فيما تكلّفه فرج
وقد ذكرتني هذه الأمثال الفارسية قصيدة لبعض من ذهب عني اسمه وكتبت ما اخترت منها ليقترن بما تقدمها وذلك:
ما أقبح الشيطان لكنّه ... ليس كما ينقش أو يذكر
يكفي قليل الماء رطب الثرى ... والطين رطباً بلّه أيسر
إلى شفا النار أماشي أخي ... لكنني إن خاضها أصبر
انتهز الفرصة في وقتها ... وألقط الجوز إذا ينثر
يطلب اصل المرء من فعله ... ففعله عن أصله يخبر
كم ماكر حاق به مكره ... وواقع في بعض ما يحفر
قررت من قطر إلى مثعب ... عليّ بالوابل يثعنجر
إن تأت عوراً فتعاور لهم ... وقل أتاكم رجل أعور
خذه بموت تغتنم عنده ... الحيّ لا تشكو ولا تجأر
الباب فانصب حيث ما يشتهي ... صاحبه فهو به أخبر
والكلب لا يذكر في مجلس ... إلا تراءى عندما يذكر
أبو عبد الله الضرير الأنبوردي
له شعر ذكر في أهل أنبورد، وله القصيدة التي ترجم فيها أمثال الفرس أولها:
صيامي إذا أفطرت بالسّحب ضلّة ... وعلمي إذا لم يجد ضرب من الجهل
وتزكيتي مالا جمعت من الربا ... رياءّ وبعض الجواد أخزى من البخل
كسارقة الرمّان من كرم جارها ... تعود به المرضى وتطمع في الفضل
ألا ربّ ذئب مرّ بالقوم خاوياً ... فقالوا: علاه البهر من كثرة الأكل
وكم عقعق قد رام مشية قبجة ... فأنسي ممشاة ولم يمش كالحجل
يواسي الغراب الذئب في كل صيده ... وما صاده الغربان في سعف النحل
ومن سائر شعره قوله:
وإذا أراد الله رحلة نعمة ... عن دار قوم أخطأوا التدبيرا
ومن ملحه قوله:
أردت زيارة الملك المفدّى ... لأمدحه وآخذ منه رفدا
فعّبس حاجباً فقرأت أما ... من استغنى فأنت له تصدّى
أبو محمد السلمي
كاتب متصرف في الأعمال، حسن التصرف في ملح الشعر وظرفه، كثير النوادر وسائر النتف، لا يسقط له بيت واحد.
أنشدي غير واحد له من أهل الأدب في الحاكم الجليل قوله:
لا رواء لا بهاء ... لا بيان لا عباره
لا يرى ردّ سلام الناس إلاّ بالإشارة
أنا أهواك ولكن ... أين آلات الوزارة
وله أيضاً:
أكلّ من كان له نعمة ... أوسع من نعمة إخوانه
أم كلّ من كان له جوسق ... مشرف شيد بأركانه
أم كل من كان له كسوة ... يبذلها في بعض أحيانه
يرى بها مستكبراً تائهاً ... على أدانيه وخلانه
وله:
قد كانت الضيعة فيما مضى ... تغلّ من يملكها دائبه
فأضحت الضيعة في يومنا ... مهجة من يملكها ذائبه
يستغرق الغلّة في خرجها ... ويعرض الكلفة والنائبه
فإن يقم صاحبها كلّ ذا ... ينج وإلا نتفوا شاربه (2/5)
وله:
يا أبا مالك النا ... س أسباب التصافي
يا دعياً باتفاق ... عربياً باختلاف
هبك في أشرف بيت ... لبني عبد مناف
أنا ما ذنبي إذا ما اطردت فيك القوافي؟
وله:
وكنت أذمُّ أبا جعفرٍ ... وأعجبت من أمره المهمل
فلما بلونا أبا جعفرٍ ... أطلت البكاء على الأول
وله:
لو طبخت قدرٌ بمطمورةٍ ... بالروم أو أقصى حدود الثغور
وأنت بالصين لوافيتها ... يا عالم الغيب بما في القدور
وله:
قد كان أراؤكم فيما مضى كرّةٌ ... كأنَّما خرَّطتها كفُّ خرَّاط
فالآن تسعون رأياً من وزيركم ... في السوق لا تشترى منكم بقيراط
وله:
رأيت ملكاً كبيراً ... كثير مالٍ وشحنه
يسوس ذاك وزيرٌ ... قليل عقلٍ وفطنه.
وللأمير وزيرا ... ن يرميان بأبنه
فلعنة الله تترى ... على كليلٍ ودمنه
وله:
تشكىَّ فقلنا ثابتٌ ويزيد ... وأنَّ فقلنا آن منه خمود
هي العلة الموصول بالموت حبلها ... فإن ذهبت يوماً فسوف تعود
وله، ويروى لغيره:
تفاقر كي يخفي على الناس أمره ... وللناس أبصارٌ على الغيب نافذه
فأبلغ دهاة النّاس في كلِّ بلدة ... بأنَّا وإن كنتم دهاة جهابذه
أبو ذر البلخي الحاكم
قال من قصيدة في أبي العباس المأموني، وقد وثبت رجله:
إن الجبائر منك قد شدّت على ... قدم لها في المكرمات تقدّم
ولئن غدت مجبورة فلطالما ... جبر الكسير بها وريش معدم
أبو أحمد اليمامي البوشنجي
شاعر بوشنج وغرتها، وشعره مدون سائر، وبلغني أن الصاحب كان يحفظ خائية أحمد، ويتعجب من حسنها وجودتها، وهي:
أقول ونوّار المشيب بعارضي ... قد افترّ لي عن ناب أسود سالخ
أشيباً وحاجات الفؤاد كأنّما ... يجيش بها في الصدر مرجل طابخ
وما كان حزني للشباب وإن هوى ... به الشيب عن طود من الأنس شامخ
ولكن يقول الناس شيخ وليس لي ... على نائبات الدهر صبر المشايخ
ومما يستحسن من شعره:
إنّ تمام السرور للمرء أن ... يأكل من طّيبات غرس يده
وأن يغنًى بشعره ويلي ... خدمته من يحبّ من ولده
وقد حوى بعضنا الثلاث وقد ... نغّصها كلّها ضنى جسده
وقوله:
لقد فكّرت في أمري طويلاً ... فما أدري أأبخل أم أجود
أخاف البخل من غيري ومنّي ... وأعلم أنّه عار عتيد
ويعجبني السخاء وأشتهيه ... وذاك لأنّه خلق حميد
فأخشى الفقر إن طاوعت جودي ... وعدم المال في الدينا شديد
فأفضل ما أرى خلق وسيط ... لذات يدي ينقّص أو يزيد
وقوله، وهو منقول من كلام بعض السلف:
غالبت كلّ شديدة فغلبتها ... والفقر غالبني فأصبح غالي
إن أبده يفصح، وإن لم أبده ... يقتل فقّبح وجهه من صاحب
وقوله لأبي الفضل البلغمي وقد عرض عليه الشراب:
لو كنت واجد عقل أشتريه إذا ... جالست من زينة الدينا محّياه
لكنت أطلبه جهدي وأجمعه ... إلى الذي هو عندي حين ألقاه
فكيف أشرب شيئاً لا يفارقني ... حتى أفارق عقلي حين أسقاه
وكتب إلى صديق له في آخر يوم من شعبان:
فديتك هذا اليوم يوم وراءه ... ثلاثون يوماً للّذاذة تفتك
فإن شئت فأحضرنا وإن شئت فأدعنا ... إليك فما للّهو في اليوم مترك
وفي الغد إن لم تدفع الشكّ مجزع ... ومبكى فدعنا اليوم نبكي ونضحك
وله في وصف رامسية آذريون ناوله إياها عبد الحميد الحاكم وأمره بأن يصفها. فقال:
أعطاني الحاكم من كفّه ... رامسية تخبر عن ظرفه
من نور آذريون تزجى بأن ... جاءت بما حازته من عرفه (2/6)
شبّهتها حين تأمّلتها ... تأمل المبدع في وصفه
بمدهن من ذهب أحمر ... مضمّناً مسكاً إلى نصفه
أبو علي السلامي
من رستاق بيهق من نيسابور، كاتب مؤلف الكتب، موفق للتجويد منخرط في سلك أبي بكر بن محتاج وبأنه أبي علي. وله كتاب التاريخ في أخبار ولاة خراسان، وكتاب نتف الظرف. وكتاب المصباح، وغيرها، وشعره في أشعار مؤلفي الكتب كشعر الصولي، ومن أشف ما وجدته له:
هذّب ما يكتب من يعتقد ... أنّ جميع الناس يلقونه
وهم مصيخون إلى لفظه ... فرام من قول الخنا صونه
البيتان لم أسمعهما منه، وإنما وجدتهما في نسخته
أبو القاسم علي بن محمد الإسكافي النيسابوري
لسان خراسان وغرتها، وعينها وواحدها، وأوحدها في الكتابة والبلاغة، ومن لم يخرج مثله في البراعة والصناعة. وكان تأدب بنيسابور عند مؤدب بها يعرف بالحسن بن المهرجان من أعرف المؤدبين بأسرار التأديب والتدريس، وأعلمهم وأدراهم بطريق التدريج في التخريج، ثم حرر مديدة في بعض الدواوين، فخرج منقطع القرين، وواسطة عقد الفضل، ونادرة الزمان، وبكر الفلك، كما قال فيه الهريمي من قصيدة:
سبق الناس بياناً فغدا ... وهو بالإجماع بكر الفلك
أصبح الملك به متسقاً ... لسليل الملك عبد الملك
ووقع في ريعان عمره، وعنفوان أمره، إلى أبي علي الصاغاني فاستأثره فحسن أثره واستخلصه لنفسه، وقلده ديوان الرسائل فحسن خبره، وسافر أثره، وكانت كتبه ترد على الحضرة، في نهاية الحسن والنضرة. وتقع المنافسة فيه، ويكاتب أبو علي في إيثار الحضرة به، فيتعلل ويتسلل لو إذا ولا يفرج عنه، إلى أن كان من كشف أبي علي قناع العصيان، وانهزامه في وقعة جرجيل إلى الصغانيان كما كان. وحصل أبو القاسم في جملة الأسرى من أصحاب أبي علي، فحبس في القمندر وقيد مع حسن الرأي فيه وشدة الميل إليه، ثم إن الأمير الحميد نوح بم نصر أراد أن يستكشفه عن سره، ويقف على خبيئة صدره فأمر أن تكتب إليه رقعة على لسان بعض المشايخ ويقال له فيها: إن أبا العباس الصاغاني قد كتب إلى الحضرة يستوهبك من السلطان ويستدعيك إلى الشاش لتتولى له كتابة الكتب السلطانية، فما رأيك في ذلك؟ فوقع تحته في الرقعة ربّ السجن أحبّ إليّ مما يدعونني إليه.
فلما عرض التوقيع على الحميد حسن موقعه منه، فأعجب به، وأمر بإطلاقه وخلع عليه وأقعده في ديوان الرسائل خليفة لأبي القاسم، وعند ذلك قال بعض مجّان الحضرة:
تبظرم الشيخ كلّه ... ولست أرضى ذاك له
كأنه لم ير من ... أقعد عنه بدله
والله إن دام على ... هذا الجنون والبله
فإنّه أوّل من ... ينتف منه السبله
وكان أبو القاسم يهجوه كما تقدم ذكره في الجزء الثاني من هذا الكتاب ومن شعره قوله:
هذا الذي يدعى كله ... ما شأنه إلا البلة
في رأسه عمامة ... مكفوفة مزّمّله
كأنها في لونها ... قدر على سفرجله
ولما توفي أبو عبد الله تولى أبو القاسم العمل برأسه، وعلا أمره، وبعد صيته، وجمعت رسائله أقسام الحسن والجودة، وازداد على الأنام تبحراً في الصناعة، وقدرة على الإنشاءات التي يؤنس مسمعها، ويؤنس مصنعها.
ويحكى أن الحميد أمره ذات يوم أن يكتب إلى بعض أصحاب الأطراف كتاباً وركب إلى متصيده، واشتغل أبو القاسم عن ذلك بمجلس أنس عقده وإخوان جمعهم عنده، وحين رجع الحميد من متصيده استدعى أبا القاسم وأمره بإحضار الكتاب الذي رسم له كتبه ليعرض عليه، ولم يكن كتبه، فأجاب داعية وقد نال منه الشراب ومعه طومار أبيض أوهم أنه مكتوب فيه الكتاب المرسوم له، فقعد بالبعد منه فقرأ عليه كتاباً طويلاً سديداً بليغاً أنشأه في وقته وقرأه عن ظهر قلبه، فارتضاه الحميد وهو يحسب أنه قرأه من مسودات مكتوبة، وأمره بختمه، فرجع إلى منزله وحرر ما قرأه وأصدره على الرسم في أمثاله.
ومن عجيب أمره أنه كان أكتب الناس في السلطانيات، فإذا تعاطى الإخوانيات كان قاصر السعي قصير الباع، وكان يقال: إذا استعمل أبو القاسم نون الكبرياء، تكلم من في السماء. وكان من علو الرتبة في النثر وانحطاطها في النظم كالجاحظ، ورسائله كثيرة مدونة سائرة في الآفاق لا يسع هذا الكتاب إلا الأنموذج مما يجري مجرى الغرر والأمثال منها. (2/7)
وهذه فقر من كلامه الحمد لله الذي لم يستفتح بأفضل من ذكره كلام، ولم يستمنح بأحسن من صنعه مرام للزمان صروف تحول، وأمور تجولالأخلاق تنميها الأعراق، والثمار تنزعها الأشجارالشكر به ذكاء النعمى، والوفاء معه صلاح العقبيالسعيد من تحلى بزينة الطاعة، واقتدح بزند الجماعة العامة لا تقفه حقائق المذاهب، ولا تعرف عواقب التألب والتجاربلا يشوقنك غرارة الصبا، ولا يروقنك زخرف المنىاستعذ بالله من نزعات الشيطان ونزقات الشبانمن خلا له الجو باض وصفر، ومن تراخى له الليث نزا وطفر المخذول يرفع رأسا ناكسا، ويبل فماً يابساً.
وهذه ملح من شعره كتب إلى بعض إخوانه يستدعيه:
كتبت من الباغ يوم الفراغ ... وذا نعمة آذنت بالبلاغ
فأقبل فما دون لقياك للزمان وإحسانه من مساغ
لأنّك صفوة أبنائه ... وسائرهم فكمثل الرداغ
رداغ بخاري ولا سيما ... إذا المرء لم يحتجز بالجناغ
وقال على لسان ماوردية فضة:
الحسن من ظاهري يلوح ... والطيب من باطني يفوح
فالنصف مني نصيب جسم ... والنصف منّي نصيب روح
وكتب إلى أبي أحمد العارض مع حب بلور مخلوط أهداه له:
بعثت للفأل حباّ ... يسقيك صفو المحّبة
فعش لزرع المعالي ... ما أنبت الزرع حّبة
وكتب إلى بعض الرؤساء:
صديقك غير محتشم ... وأنت فغير مغتنم
وقد أهدى كما يهدي ... أخو ثقة لذي كرم
فرأيك في قبول العذر ... في السّكين والقلم
ذكر آخر أمره لما انقضت أيام الأمير الحميد وملك عبد الحميد أقر أبا القاسم على ديوان الرسائل، وخلع عليه، وزاد في مرتبته، فلم تطل به المدة حتى مرض مرضه الذي احتضر فيه.
فحدثني أبو جعفر بن محمد بن علي بن الحسين الفارسي قال: كان أبو جعفر محمد بن العباس بن الحسين الوزير وأبو القاسم المقانعي من خلص أصدقاء الإسكافي وممن يكبرون عنده، فلما مرض الإسكافي كتب إليه اللحام وكان أبو جعفر يلقب بطويس والمقانعي بقاشر:
طويس إحدى الفواتر ... شؤماً و قاشر و قاشر
ومنهما يا أبا قا ... سم عليك أحاذر
فلا يكن واحد منهما ببابك عابر
إن لم يكن بك شوق ... إلى الثرى والمقابر
ثم إنه دخل عليه عائداص فوجده عنده أبا جعفر بن العباس بن الحسين وأبا القاسم المقانعي وابن مطران، فقال من الرجز:
ثلاثة أودوا بفذّ عصره ... أودوا به في عنفوان أمره
قصدته يوماً بعيد فجره ... وكان قلبي مولعاً بذكره
لفضله ونبله وفكره ... إذا طويس جالس في نحره
وقاشر قد انبرى من قشره ... عن سلة الشؤم وعن قمطره
فقلت قد أعوز جبر كسره ... من بعد ما كان دنا من جبره
وقد تقضّى فاطوه بغيره ... الشأن فيمن هم على ممّره
ولما انتقل إلى جوار ربه أكمل ما كان شباباً وآداباً وغدت لفراقه الكتابة شعثاء. والبلاغة غبراء، أكثر فضلاء الحضرة رزيته، وأكثروا مرثيته، فمما أحاضر به الآن قول الهرثمي الأبيوردي من قصيدة، منها:
ألم تر ديوان الرسائل عطّلت ... لفقدانه أقلامه ودفاتره
كثغر مضى حاميه ليس يسدّه ... سواه، وكالكسر الذي عزّ جابره
ليبك عليه خطّه وبيانه ... فذا مات واشيه إذا مات ساحرة
الباب الثاني
في ذكر
العصريين المقيمين بالحضرة البخارية
والطارئين عليها والمتصرفين في أعمالها
وتوفية الكتاب شرطه من ملح أشعارهم وظرف أخبارهم.
كانت بخاري في الدولة الساماينة مثابة المجد، وكعبة الملك، ومجمع أفراد الزمان، ومطلع نجوم أدباء الأرض، وموسم فضلاء الدهر. (2/8)
فحدثني أبو جعفر محمد بن موسى الموسوي قال: اتخذ والدي أبو الحسن دعوة بخاري في أيام الأمير السعيد جمع فيها أفاضل غربائها كأبي الحسن اللحام، وأبي محمد بن مطران، وأبي جعفر بن العباس بن الحسن، وأبي محمد ابن أبي الثياب، وأبي النصر الهرثمي، وأبي نصر الظريفي، ورجاء بن الوليد الأصبهاني، وعلي بن هرون الشيباني، وأبي إسحاق الفارسي، وأبي القاسم الدينوري، وأبي علي الزوزني، ومن ينخرط في سلكهم، فلما استقر بهم مجلس الأنس أقبل بعضهم على بعض يتجاذبون أهداب المذاكرة، ويتهادون رياحين المحاضرة، ويقتفون نوافذ الأدب، ويتساقطون عقود الدر، وينفثون في عقد السحر. فقال لي أبي: يا بني هذا يوم مشهود مشهور، فاجعله تاريخاً لاجتماع أعلام الفضل وأفراد الوقت، وأذكره بعدي في أعياد الدهر، وأعيان العمر، فما أراك ترى على السنين أمثال هؤلاء مجتمعين، فكان الأمر على ما قال، ولم تكتحل عيني بمثل ذلك المجمع.
أبو الحسن علي بن الحسن اللحام الحرانّي
من شياطين الإنس، ورياحين الأنس، وقع إلى بخاري في أيام الحميد، وبقي بها إلى آخر أيام السديد، يطير ويقعن ويتصرف ويتعطل، ويهجو وقلما يمدح، وكان غزير الحفظ، حسن المحاضرة، حاد البوادر، سائر الذكر، ساحر الشعر، خبيث اللسان، كثير الملح والغرر. رامياً من فيه بالنكت، لا يسلم أحد من الكبراء والوزراء والرؤساء من هجائه إياه، وكان لا يهجو إلا الصدور.
فحدثني أبو بكر الخوارزمي قال: تحككت وأنا أحدث باللحام فقلت فيه:
رأيت للّحام في حلقه ... للشعر تطبيقاً وتجنيساً
نخوة فرعون ولكنّه ... جانس في حمل العصا موسى
قرينه إبليس لكنّه ... خالف في السجدة إبليسا
ورأدت بذلك فتح باب إلى مهاجاته، فلم يجبني وجرى على قضية قول المنتبي:
وأغيظ من ناداك من لا تجيبه
قال مؤلف الكتاب: لم أر للحام ديوان شعر مجموعاً، فعنيت بجمع تفاريقه وضم منتشرة، ثم اخترت منه ما يصلح لكتابي هذا، فمن ذلك قوله في الشكوى:
قد نفدت لا عدمتك النفقة ... منذ ثلاث فمهجتي قلقة
وليس في البيت ما يباع وما ... يرهن إلاّ درّاعة خلقه
وقوله:
كنت من فرط ذكاء واشتعال ... كتلظّي النار في الجزل اليبيس
فتلّبدت ولا غرو إذا ... خفّ كيس المرء مع خفّة كيس
وقوله:
أنا من وجوه النحو فيكم أفعل ... ومن اللغات إذا تعد المهمل
حتام لا ينفك لي بفنائكم ... أمل يخيبوعود ظن يذيل
حال ترشفت الليالي ماءها ... وتجمل لم يبق فيه تحمل
هذا واف أقفلت باب مطامعي ... دوني خما لله باب يقفل
ذابت على قوم سماؤك بالندى ... ويدي تردد تحت غيم جامد
وأنا الذي إن وجدت لي أو لم تجد ... لك في الثناء على طريق واحد
وقوله لما صرف عن بريد الترمذ بابن مطران:
قد صرفنا وكلّ من ... كان قلبا صرف
وصرفنا بشاعر ... نعته ليس ينصرف
أي أنه أحمق، والأحمق لا ينصرف.
وقوله لما تقلد عمل الإحصاء دفعات:
قد صار هذا الإخصاء رسماً ... علي كالرسم في المظالم
وصرت أدعي به كأني ... ولدت في طالع البهائم
وقوله:
وأرجو أن يسّهل لي وصول ... إلى المنشور من قبل النشور
مدحه قوله في أبي جعفر العتبي:
الشيخ أكبر من قولي وإكثاري ... لكن أحلّي بذكر الشيخ أشعاري
وأعتب الدهر إذ عاتبته بفتىً ... من آل عتبة نفّاع وضرّار
كأنما جاره في كلّ نائبة ... جار الأراقم في أيام ذي قار
يجري المكارم في لا وفي نعم ... فالناس في جنّة منه وفي نار
وقوله في الحسن بن مالك:
لبسنا كل داجي اللون حالك ... وقطّعنا المسالك والممالك
وأعملنا السّرى حتى نولنا ... بزمّ في ذرى الحسن بن مالك
فتى قد حاز إفضالاً وفضلاً ... ولم يحلل بها إلاّ لذلك (2/9)
فقل للدهر كد غيري رجالاً ... فلسنا بعد هذا من رجالك
ما يستملح من أهاجيه قال في الحاكم الجليل من الرجز:
قولاً لنوح ثم للفتكين ... لشؤم هذا الحاكم اللعين
سللتما عن مثل ملك الصين ... كسلّة الشعر من العجين
وقال في القحطبي:
أما الهمام فهمّه ... في صون ملك المشرق
والقحطبي فللذي ... يهواه غير موفّق
ومتى يوفّق من له ... في طّي ذاك اليلمق
شره يبيع الدين فيه ... بفلذة أو جردق
ويد كأنّ بنانها ... قطعت مخازن زبئق
لو دقّ كلتا مرفيه ... لحّبه لم يرقق
أو شكّ حّبة قلبه ... في حّبه لم ينطق
يختال بين مخنث ... ومواجر مسترزق
فكأن من يغشاهماً ... في جنح ليل مغسق
من ذاكر أضياف جفنة في الزمان الأسبق
وقال وأبدع في تضمين هجائه بيتاً للنابغة في وصف الأقحوان:
يا سائلي عن جعفر علمي به ... رطب العجان وكفّه كالجلمد
كالأقحوان غداة غبّ سمائه ... جفّت أعاليه وأسفله ندي
وقال في أبي جعفر العتبي من الرجز:
تغّيرت أخلاق هذا العتبي ... وصار لا يعرف غير العتب
وغير ضرب دائم وسبّ ... وقد حشا فصار مثل الدبّ
عليه ألف لعنة من ربي وقال فيه:
ما لقينا من ... القيصرالعريض الملزّز
كان حرّاً فصار ... نبراً على كلّ أنبر
عذب الله نفسه في حبوس القمنذر
وقال فيه:
برئت من وائل وبكر ... ومفجر وابل وبكر
إن جئتكم طالباً لشغل ... وأحمد بن الحسين صدر
وقال في قوم من صنائعه وأصحابه:
صنائع الشيخ سوى حمد ... بيادق الشطرنج والنّرد
منهم أبو نصر وسبحان من ... براه من أسطمة البرد
ولعنة الله على بعضهم ... وهو أبو بكر بن شهمرد
وبعد لولا الحفظ للعهد ... لقلت في المضطرب القدّ
فارجع إلى حمد فما فيهم ... يا سيدي أنذل من حمد
ويحكى أن حمد بن شاهمرد لما سمع الأبيات اهتز لإخراجه إياه من جملة من هجاهم فلما سمع البيت الأخير استرجع وقال: ليته أجراني مجراهم ولم يخصني بالذم.
وقال يوماً أبو أحمد بن منصور للحام: قد هجوتني؟ قال:لا، قال: فاهجني وخلاك الذم، وقدم إليه القرطاس والدواة، فكتب:
قالوا أبو أحمد حرّ فقلت لهم ... حرّ لعمري ولكن فاكسروا الحاء
فإن أردتم محالاً أو به سفهاً ... فأبدلوه بياء وانقطوا الراء
وقال لأبي طلحة قسورة بن محمد:
إنّي أمرء يا أبا طلحة بنصحك صبّ
هذا زمانك فاختم ... بالطين، والطين رطب
وقد وعظتك إن كنت للمواعظ تصبو
وإن رجوتك من ... بعدها فإني كلب
أحسن فمالك عذر ... وما على الدهر عتب
فإنّ سقيا الليالي ... فيها أجاج وعذب
وقال:
يا أبا طلحة استمع ... قول من فيك قد صدق
لك وجه كأنّه ... صيغ من قمقم خلق
وخلال إخالها ... من كنيف قد انبثق
قم فلا خير فيك ... يا خلق الخلق و الخلق
وقال في بطة بن كوسيد وفي أبي مازن قيس بن طلحة وأبي يحيى الحمادي:
ملك الديوان قيس ... وأبو يحيى وبطّه
كلّهم أخزاهم الله على الأحرار سخطه
ليس فيهم من يساوي ... في نفاق السوق ضرطه
وفي أبي يحيى:
تكذب الكذبة جهلاً ... ثم تنساها قريبا
كن ذكوراً يا أبا يحيى ... إذا كنت كذوبا
وقال في بطة:
ولا تدع قطّ قفا بطّة ... فإنه قد صار كالبطه
أثري بمرو بعد أن لم يكن ... يملك إذ حلّ بها ضرطه
قال في ابن حسان: (2/10)
بالراح أقسم صرفاً ... والعود والسرناء
أن ابن حسان في حا ... ل لشدّة ورخاء
ما آثر الباغ إلاّ ... لفرط داء البغاء
حتى إذا عزّ أير ... أنحى على القثاء
وقال في تميم بن حبيش:
يا تميم بن حبيش ... كل ذاك الطيش أيش
غنما أنت وكيل الباب ... لا صاحب جيش
قد تبظرمت وقدماً ... كنت في أنكد عيش
كنت ذمياً فصرت اليوم في أعلى قريش
وقال من نتفه:
ويبرز للرائين وجهاً كأنّما ... كساه إهاباً من قشور الخنافس
وقال في أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين:
محمد بن عليّ ... سبط الحسين بن حامد
وافى فسّر ولي ... به وأكمد حاسد
قد قلت لما بدا لي ... في مسك بعض الأساود
الحمد لله شكراً ... قد زاد في الزطّ واحد
وقال في أبي علي البلعمي:
وزارة البلعميّ منقلبة ... وهو كفقل غدا على خربهْ
لم يرع للأولياء حرمتهم ... فيها ولا للوجوه والكتبهْ
قد قلبت وجه كلّ مكرمة ... متى تراها عليه منقلبهْ
فهو أحق الورى بداهية ... تضحي لها راسه على خشبهْ
وقال فيه والعتبي منفي إلى بست من الرجز:
متى أرى الشيخ الذي ببست ... كالبدر يبدو طالعاً في الدّست
لحية هذا البلعمي في استي وقال فيه:
أبا عليّ أنلني بعض آمالي ... يرضيك أيري وإن لم ترض أقوالي
إن كان ساءك أقوال نطقت بها ... فسوف يرضيك عني حسن أفعالي
وقالفي ابن عزيز:
إذا فقد البؤس في بلدةٍ ... وأعوز وجدانه في العوير
ولم يوجد الجود في مجلسٍ ... سحيق الأقاصي ولا قعر دير
فمعدن وجدانه حاضر ... خوان محمد بن العزيز
خوان عظيم ولكنه ... خلي الجوانب من كل خير
فتى لا يرجّى على الحادثات ... لتقريب خير ولا دفع ضير
كثير التنقُّل في داره ... فمن أصل أيرٍ إلى أصل أير
فغلمته بقناديلهم ... يطوفون من دبره حول دير
وقال فيه:
طعام محمد بن عبد العزيز ... تداوى به المعدة الفاسده
حشائش بقراط معجونة ... به وعقاقيره الفارده
جرداقة درّة ذرَّة ... على عدد الفتية الوارده
على عدد القوم رغفانه ... فلست ترى لقمةً زائده
ارى الصوم في أرضه للفتى ... إذا حلّها أعظم الفائده
وقال فيه:
لقيت أشأم طير ... وسرت أنكد سير
مواصلاً كلَّ شرٍ ... إذا مجانباً كلَّ خير
طارت عليك نحوس ... تجري بأشأم طير
فأنت خنزير خلقٍ ... تغدو بأخلاق عير
وليس يعرف ما قد ... حوى قميصك غيري
إن ساء فيك مقالي ... فسوف يرضيك أيري
وقال في غيره من البسط:
تثنّى بما فيك من سوء التناشيم ... يأوي إليها الخنا والجهل والبكم
حماك حلّ ومن يأويه مبتذل ... لنايكيك وما في كفّك الحرم
قسمت نصفين علو شأنه بخل ... عند السؤال وسفل زانه كرم
يا كاتباً كلّما أفنى أدراجه ... دس الطوامير في وجائعه الخدم
إن الكتابة أمست غير طاهرة ... مذ حاض في يدك القرطاس والقلم
حدثني أبو القاسم الأليماني، قال: بني أبو الفضل القاشاني داراً سرّ بها فلما فرغ منها سأل اللحام وقد دخل إليها مهنئاً أن يدور فيها ويتأملها ففعل وأنشأ يقول من البسط
متى أراها ينادي حولها البوم ... وللنساء بها نوح وتلطيم
متى أراها يباباً لا أنيس بها ... متى يقام على الشيخ المآتيم
إسمع أبا الفضل لا أسمعت صالحةً ... يا كلب يا قرد يا خنزير يا بوم
وأنشدني أبو القاسم قال: أنشدني الحام لنفسه في علي بن الحسين: (2/11)
إلى الله أشكو أهل يزد بأسرهم ... وألعن شخصاً جاء من جانبيّ يزد
زنيماً إلى أبناء ساسان ينتمي ... بوجه عريق اللؤم في نسب الهند
إذا عدَّ أهل الخير بضدهم ... وإنّ عدَّ أهل الشرِّ لم يك بالضدِّ
لسان إلى البهتان أهدى من القطا ... وكفّ على العدوان أعدى من الفهد
فأخرسه ربّ على ذاك قادر ... وأفرد كفيّه جميعاً من الزند
وأنشدني غيره له في الحاكم الجليل:
بعد الخمول غدوت صدر المواكب ... وجررت كبراً ذيل كل تسحب
يامن يمر على الورى متبظرما ... أنظر إلى أطلال دار المصعبي
وله في أبي مازن لما صرف عن الديوان وأمر بلزوم منزله:
أبو مازنٍ لازم منزله ... وأصبح في الناس لا ذكر له
رماه الزمان بأحداثه ... ومن حيث أخرجه أدخله
وله فيه وفي أبي بكر محمد بن سباع من البسط:
مضى أبو مازن لا ضير وارتفعت ... تهبّ لا بن سباع ريح إقبال
كذلك الدهر في تصريفه عجب ... ما زوال يبدل أنذالاً بأنذال
وله في أبي جعفر بن العباس وابن مطران:
عاد إلى الحضرة إثنان ... طويس والنذل ابن مطران
اثنان ما إن لهما ثالث ... إلاّ عصا موسى بن عمران
وقال في ابن مطران:
مازال بالشاش فوق باكية ... يسقط حتى احتواه مسقطه
وكاد فيمن يموت من سغبٍ ... هنا لولا استه وبربطه
وله فيه:
هذا الشويشي الذي وافى ... لسانه معتقل فافا
يخلف الرحمن في قوله ... لا يسألون الناس إلحافا
وقال في بعض الحكام:
قلنسوة على رأس صليب ... مساحته جريب في جريب
وإن يدي وهامته ونعلي ... قريب من قريب من قريب
وله في أهل حوارزم:
ما أهل خارزمٍ سلالة آدم ... ما هم وحق الله غير بهائم
أترى شبيه رءوسهم ولغاتهم ... وصفاتهم وثيابهم في العالم
إن كان يقبلهم أبونا آدم ... فأنا بريء من أبينا آدم
وله فيهم وقد حصل على عمل البريد بها:
لا نال من ربه مناه ... ولا شفاه ولا رعاه
من سامني الكون في بلادٍ ... رءوس سكانها جباه
أغدو بلا مؤنسٍ وأمسي ... إمساء من ليله ضحاه
لدى خسيس يظنّ تيهاً ... أن ليس في ذا الورى سواه
له ثنايا كأنمَّا قد ... عضَّ بأطرافها خراه
وقوله:
وقائل لي دنّست النجاء بمن ... يدنّس أن أقعى وإن شردا
فقلت أنصفت لكن هل سمعت بمن ... إن هرَّ كلب عليه نازل الأسدا
وله:
يا رب لا ترضي الذي يرضى ... أخسف به وبداره الأرضا
يا رب لا ترضي الذي يرضى ... أخسف به وبداره الأرضا
إن لم يكن خسف قلا عجب ... أحله جوف حرامه عرضا
وقة له:
قلقل الله ماضغيك وفكَّي ... ك وبتَّ الكفين من زنديكا
كم تصلي على جنائر موتا ... ك أما آن أن نصلي عيلكما
وله:
عبدان هامته للصفع معتاده ... لاسيما من أكف السادة القاده
كأن أيدي الندامة في تناولها ... أيدي صيام إلى كيزان برَّاده
وله:
سبحان ذي الملكوت من متقدّس ... لم يبق شيء في الورى لم يخنس
داءان كانا في الملوك فأدبرا ... وتواضعا داء البغا والنقرس
وله في أبي عبد الله الشبلي يهجوه من الرجز:
وألف أيرً من أيور الزنج ... مضربة في رقعة الشطرنج
بلا حزامٍ وبلا برطنج ... في إست بعض الناس من بوشنج
من شعره في شتى الفنون ماعلق بحفظي في فنون شتى قوله في الغزل:0
ما على مسقمي بأل ... حاظة لو ترَّفقا
لك حل دمي فرأ ... يك فيه موفّقا
أنا لا شكَّ ميّت ... فلك العمر والبقا (2/12)
وقال في استهداء الشراب:
عندي يا سيدي ومولائي ... من بهواه قد طال بلوائي
وقد رأى أن يبيت مبتدياّ ... وكان ما قد رآه من رائي
وليس عندي من الشراب له ... وحقِّ ما بيننا سوى الماء
وقوله لبعض الوزراء:
إن الذين مشوا إليك على دمي ... لم أصغ فيك لهم وهم عذالي
حتى إذا ما استيأسوا مني سعوا ... ووشوا لم يجر قطّ ببالي
وقوله:
إني اعتللت علّة ... سقطت منها في يدي
وكان في الإخوان من ... لم أرهم في العودّ
فقلت في كلِّهم ... وقل امريءٍ مقتصد
أير الذي قد عادني ... في است الذي لم يعد
وله:
بعثت يا سيدي بقرعه ... فبلَّها لي ولو بجرعه
فعندنا أمرد قبيح ... لكنَّه في الفساد بدعه
وله من قصيدة:
ما إن أرقت بحرصي قطرةً فجرت ... من ماء وجهي إلاّ خلت ذاك دمي
ولا مشت قدمي في حظِّ مطعمةٍ ... إلا تمنّيت أنّي ما مشت قدمي
جاريت دهري زماناً راكباً طعمي ... فدمت أجري على حالٍ ولم يدم
فما رأيت بخيلاً حال عن بخلٍ ... يوماً ولم أر مطبوعاً على الكرم
ذكر نبذ من هجائه قال ابن مطران فيه:
أبا حسن ألا قل لي ... وبَّين منتهى أدبك
بأية حيلةٍ قوَّمت عطف الحاء من لقبك وقال أبو جعفر محمد بن العباس الوزير فيه:
من احتاج إلى السيف ... فما في فيك يكفيك
وما جارحة فيك ... لنا أجرح من فيك
وأطراف المساويك ... لتنبي عن مساويك
وقال فيه:
إن الذي أفنى الخطيئة بعدما ... أفنى الهجاء وباء بالآثام
وأباد هجَّاء الخلائق دعبلاً ... من بعده وفنى بني بسَّام
سيرد أعراض الكرام بمنه ... ولطيف قدرته من اللّحام
وقال أبو نصر الهزيمي:
لئم لا تبيع ولم لا تشتري اللحما ... ياشرَّ من شتم الأحرار أو شتما
لقد صددت عن القول الجميل فما ... فتحت مذ كنت إلا بالقبيح فما
عميت من طول ما تهجو الكرام ومن ... عمي الفؤاد بدا في ناظريك عمى
ذكر آخر عمره لما لم تزده الشيخوخة إلا بذاء، وتولعاً بأعراض الأحرار، ومجاهرة بالوقيعة في المحتشمين والكبار، ولم يسلم منه أحد من أصحاب السيوف والأقلام، وشاع من شنيع هجائه للبلعمي ما يبقى على الأيام، وساءت الآراء فيه، واتصلت الشكايات منه، خرج الأمر السلطاني بتأديبه وعرك أديمه. وتطهير الحضرة من خبث أقاويله، فأنفذ إليه وإلى الشرط مسودا امتثل فيه الأمر، ولزمه حتى عبر به النهر، فقال فيه ابن مطران الطويل:
لسانك يا لحاّم ألقاك في ورطه ... ومزدحم الأسواء لاقاك بالضغطه
لئن كان لم يدبغ لسانك دابغ ... لقد أحسنت بالأمس دبغ استك الشرطه
إلى كم تسوء الناس عيشك سالماً ... فمت هرماً يا كلب إن لم تمت عبطه
ولا نلت ما عمّرت خيراً ولم تزال ... لدائرة الأسواء رأسك كالنقطه
ثم إن البلعمي ندم على استحيائه، وخاف بادرة لسانه، وعلم أنه لم يتوجه إلا تلقاء نيسابور فكتب إلى صاحب الجيش أبي الحسن بن سيمجور وكان قد هجاه أيضاً في إذكاء العيون عليه، والجد في تحصيله، وكفاية شغله، ووافق ورود الكتاب قدوم اللحام نيسابور ونزوله خان وشمكير، فم يشعر إلا بهجوم من أزعجه وحمله وضبنه على البغال سائراً به إلى قائن، وهو مريض لا يقل رأسه، فلما شارف المقصد قضى نحبه، ولقي بصحيفته السوداء ربه.
أبو محمد المطراني
الحسن بن علي بن مطران
شاعر الشاش وحسنتها وواحدها، فإنها وسائر بلاد ما وراء النهر لم تخرج مثله إلا أبا عامر إسماعيل بن أحمد بعده، وكان ابن مطران بخير وحسن حال يرد الحضرة بالمدح، وينصرف بالمنح، ويتصرف في أعمال البرد بما يرتفق به ويرتزق منه، وشعره مدون كثير اللطائف.
حدثني السيد أبو جعفر محمد بن موسى الموسوي قال: كنت ببخارى كثيراً ما تجمعني وابن مطران، فأرى رجلاً مضطرب الخلقة من أجلاف العجم، فإذا تكلم حكى فصحاء العرب، على حبسة يسيرة في لسانه، وكان يجمع بين أدب الدرس وأدب النفس، وأدب الأنس، فيطرب بنثره، كما يطرب بشعره، ويؤنس يهزله، كما يؤيس بجده، وقد عيره اللحام في بعض أهاجيه، وكان بينهما سوق السلاح قائمة فيتهاجيان ويتهاتران ولا يكادان يصطلحان. وكان اللحام يربي عليه في الهجاء، ولا يشق غباره في سائر فنون الشعر، وبلغني أن ديوان شعر ابن مطران حمل إلى حضرة الصاحب فأعجب به فقال: ما ظننت أن ما وراء النهر يخرج مثله، ومر له في الشراب المطبوخ: (2/13)
وراح عذَّبتها النار حتى ... وقت شرَّابها نار العذاب
يذيب الهمّ قبل الحسو لونٌ ... لها في مثل ياقوتٍ مذاب
ويمنحها المزاج لهيب خدِّ ... تشرَّب ماؤه ماء الشباب
فتعجب من حسن البيت الأول وتحفظه، وكان كثيراً ما ينشده، ويقول: كأنه مقلوب قول السرى في الخمر:
هات التي هي يوم الحشر أوزار ... كالنار في الحسن عقبى شربها النار
ومن سائر شعره قوله في أبي علي البلعمي من قصيدة أولها:
ألمَّ المشيب برأسي نذيرا ... وولّى الشباب بعيشي نضيرا
وأصبح ضوء صباح المشيب ... لغربان ليل شبابي مطيرا
كذاك إذا لاح ثور البكور ... لسود الطيور هجرن الوكورا
هو الشيب مخبره مظلمٌ ... وإن كان منظره مستنيرا
وقد كان إظلامه في العيون ... ن يجلو العيون ويشفي الصدورا
فأعجب بلون سوادٍ أنار ... ولون بياضٍ أبى أن ينيرا
كأنَّ الغواني رمد العيون ... يطالعن من شيب فوديّ نورا
إذا هنَّ قابلن نور المشيب ... أدرن على ذلك النور نورا
وإن هنّ واجهن زور الخضا ... ب أعرضن عن ذلك الزور زورا
ومنها في المدح:
بلوناك حين يرجى الوليُّ ... عرفاً ويخشى العدو النكيرا
فلم تك إلا اختياراً نفوعاً ... ولم تلك إلا اضطراراً ضرورا
ولم ترد الشر إلا جزاءً ... أراد بك الله خيراً كثيرا
ولو لم تخف سوء ظنِّ الشكور ... لما كنت باسوء يجزي الكفورا
وله من قصيدة:
ترمي مكايدة العدو ... بما التحفظ منه ضائع
من واقعاتٍ بالمقا ... تل قاتلاتٍ بالمواقع
وله من تشبيب قصيدة:
أخو الهوى يستطيل الليل في سهره ... والليل في طوله جارٍ على قدره
ليل الهوى سنة في الهجر مدَّته ... لكنّه سنةٌ في الوصل من قصره
وله في مثل هذه الصنعة وإن كانت في معنى آخر:
كان التصرُّف في خفض وفي دعةٍ ... أقلّ مدته فيما يقال سنه
فالآن قد صار من شؤمٍ ومن نكدٍ ... بالخفض من سنةٍ حتى يقال سنه
وله في استهداء العنب:
يا أحمد الأكرمين سيره ... فيهم وأذكاهم سريره
من بهمَّاته العوالي ... أضحت عيون العلا قريره
من يرى بشره بشيراً ... أمواجه ثرَّةٌ غزيره
لترمني راحتاك شهباً ... مضلعاتٍ ومستديره
أشبّ العنبر المعلّى ... مسكاً به دهمةً يسيره
بلاد مجموعها ثلاثٌ ... الهند والترك والجزيره
ولا يكن حبسها طويلاً ... عنّي وأعدادها قصيره
وله من نيروزية:
قد أتاك النيروز وهو بعيد ... مرَّ من قبله قريباً رسيل
سل سبيلاً فيه إلى راحة النفس براحٍ كأنها سلسبيل
واشتمالاً على السرور وهل يجمع شمل السرور إلاّ الشّمول
وهدايا النيروز ما يفعل النا ... س ولكن هديتي ما أقول
وله من تشبيب قصيدة:
مهفهفة لها نصف قضيب ... كخوط البان في نصف رداح
حكت ليناً ولوناً واعتدالاً ... ولحظاً قاتلاً سمر الرماح
وله أيضاً من تشبيب قصيدة أخرى:
ظباء أعارتها المهاحسن مشيها ... كما قد أعارتها العيون الجآذر (2/14)
فمن حسن ذاك المشي جاءت فقلبت ... مواطىء من أقدامهن الضفائر
أخذه من قول ابن الرومي فزاد فيه وحسنه:
ووارد فاحم يقبل ... ممشاه إذا اختال مشية عذره
وقال في استهداء حنطة في سنة قحط ببخارى من الرجز:
يا أيّها ذا السيد المؤمّل ... أرسى من الدهر عليّ كلكل
يكاد أن ينفك منه المفضل ... ثلاثة عيشي بهنّ مثقل
القحط والعيلة والتعطّل ... لي من بني الروم إمام مقول
قد باسط السادة فيما يؤكل ... ولست ممنّ لاغتنام يسأل
لكن إذا أعياني التمحلّ ... والحنطة السمراء حين تحمل
أحسن من بيضاء حين ترفل ... واللحب للنفس الحبيب الأول
فليس لي إلا به تعللّ ... تنّور داري مهمل معطّل
ومطبخي مع الخوان مهمل ... والسوق قفر ليس فيها مأكل
والضيق في ذا العام ضيق يشمل ... لا زالت من جاه ومال تبذل
أفضل حرّ يرتجى ويسأل ... لا زالت الدينا عليك تقبل
بخيرها والخير منك يقبل ... ما زرع البرّ وطال السنبل
وقال في أبي حاتم محمد بن الربيع الطوسي:
كأن أبا حاتم لا يزا ... ل يصرف في الصرف لا في العمل
إذا حلّ أرضا دنا ظعنه ... توقّع رحيلاً إذا قيل حلّ
فتى لا يبيت على بطنة ... ولا يأكل الخبز إلاّ بخل
فتى عنده أنّه يستقل ... بكل الأمور ولا يستقل
ويوجب تدبيره أن يكون ... رئيساً يعزّ ولا يستذل
وله في ثلجة سقطت بعد النيروز و برد أضر بالأنوار:
عجباً لاذر جاء في آذار ... وتفاوت الأفلاك في الأدوار
طلعت عشاءً للبيات سحائب ... أنواؤهن خسفن بالأنوار
أبدى الربيع لنا شتاءً مضمراً ... يأبى ظهور ضمائر الأشجار
ندم الشتاء على التقضّي فانثنى ... لينال منتقما بقايا الثار
وكتب إلى صديق له رأى عنده غلاماً فاستشرطه:
رأيت ظبياً يطوف في حرمك ... أغنّ مستأنساً إلى كرمك
أطمعني فيه أنّه رشأ ... يرشى ليحشى وليس من خدمك
فاشغله بي ساعة إذا فرغت ... دواته إن رأيت من قلمك
وله وقد سمع قول محمد بن عبد الله بن طاهر: ما جمشت الدينا بأظرف من النبيذ:
ألا إن دنياك معشوقة ... تجمشها كلّ عيش لذيذ
ولكنها قطّ ما جمّشت ... من الملهيات بمثل النبيذ
وله من قصيدة:
كم غصت في مدحك فكراً على ... دّر نفيس غير مثقوب
ولم يغص رأيك يوماً على ... بّري ولا رأي لمكذوب
إن كان موعودك الجود لي ... أكذب من موعود عرقوب
فإن إخباك في مدحتي ... أكذب من ذئب ابن يعقوب
وله من أخرى:
يا من إذا مادح أثنى عليه بما ... في نفسه قام من مرآة شاهده
والمرء مرآه مرآة يلوح بها ... في الغيب منه لعينيّ من يشاهده
ألم فيه بقول الرومي:
وإذا ما محابر الناس غابت ... عنك فاستشهد الوجوه الوضاء
بشرّ البرق بالحيا وسنا الصبح بأن يقلب الدجى أضواء
وله من أخرى:
شهر الصيام باليمن طائره ... عليك ما جدّ باديه وعائده
ودام قصرك مرفوعاً مجالسه ... لزائريه ومنصوباً موائده
ودام صدر عظيم أنت ماهده ... وعش لملك عزيز أنت واحده
فأنت منظره الأبهى وناظره ال ... أعلى ومنكبه الأقوى وساعده
وله في أخوين كريم ولئيم:
بين أخلاقه التي هي أخلا ... ق وأخلاقك العتاق مسافه
ولعمري لفي ادعائك إياه ... ابن أم إبطال علم القيافة
وقال في وصف الشتاء:
وشتاء محمق الكلب فلا ... يغلو قديره (2/15)
كلما رام نباحاً ... زم فاه زمهريره
وله في أكول:
إنّ أبا طالبنا ... له فم كالمعده
يهضم ما يمضغه ... من غير أن يزدرده
وله:
والموداّت ما خلت ... من تهاد مكدّره
كطبيخ خلا من اللحم يدعى مزوّره
وله، وهو من ظرفه:
تزهى علينا بقوس حاجبها ... زهو تميم بقوس حاجبها
وله في أبي الفضل المعافى بن هزيم الأبيوردي:
أصبح الملك مبتلىّ بالمعافى ... وهو ممّا به ابتلاه معافى
ورد الباب لا نتصاف من الدهر فأفنى الصحاح والأنصافا وقال في اللحام وقد اعتذر إلى بعض الرؤساء من هجائه:
قل للحيحيم إنّ مدحك عن ... هجوك ما إن يقوم معتذرا
وهل يعفى على إساءته ... تبصيص الكلب بعد ما عقرا
وله من قصيدة:
طال افتتاني بظبي ورد وجنته ... يجنى فؤادي وكّفي ليس تجنيه
نصّ ينمّ على أسرار نعتمه ... لباسه فكما يكسوه يعريه
فكيف ألثمه واللحظ يؤلمه ... والشمّ يكلمه والضمّ يدميه
وله من أخرى:
ظبي أنس فدته وحش الظباء ... شف جسمي بطول منع الشفاه
شادن يرتعي سويداء قلبي ... حسن يرنو من مقلة سوداء
شبّ فيه الشباب نار جمال ... عدّلت ناره بماء البهاء
وله في وصف ثوب أهداه إليه صديق:
أبا نصر سمحت لنا بثوب ... حكى في فرط ضيق العرض باعك
سخافة نسجه تحكيك لكن ... غلاطة نسجه تحكي طباعك
وله من قصيدة كتب بها إلى إخوان له بالشاش من رباط كان التجأ إليه من فتنة وقعت بالناحية:
فزتم بآنس ألفة وخلاط ... وتركتموني في كنيف رباط
وسعت صحون فيه إلا أنها ... من ضيق صدري مثل يمّ خياط
جاوت فيها نسوة ساسّية ... نسل الحرام حلائل السقاط
سلب الزمان شعورها وشعورها ... طهر السّواك وزينة الأماط
يحملن أطفالاً كأنّ وجوههم ... طليت بصمغ من يبيس مخاط
فيهن فيتات إذا غنّينني ... غنّينني وقصمن ظهر نشاطي
أمعاؤها أوتارها وبطونها ... أعوادها واللحن رجع ضراط
ولهن أزواج عى أكتافهم ... كنف معلقة من الأباط
إن يسهروا لتسامر فكلامهم ... لا يستبان كصرّة الوطواط
أو يرقدوا فحلوقهم وأنوفهم ... ممّا تغطّ كحقة الخرّاط
وخلال ذلك يسمعونك كارهاً ... صوت الضراط كمثل شقّ رباط
حتى يغص بع الرباط كأنّما ... إرساله من غير ذات رباط
ختموا الطريق بطينة بطنية ... ليفكّ ذك الختم رجل الواطي
لا أستطيع تحفّظاً منها ولو ... أعملت فيه توقي المحتاط
أمشي بأطراف الأصابع بينها ... حذراً كأني فوق حدّ صرط
وبراغث مثل الخطوب طوارق ... حدب الظهور غليظة الأوساط
يحسون ماء حياتنا فجلودنا ... كمصاحف محمرّة الأنقاط
أبو جعفر محمد بن العباس
بن العباس بن الحسن
هو ابن العباس بن الحسن وزير المكتفى والمتقدر، وأخباره مشهورة، وأيامه في الوزارة مذكورة وأبو جعفر هذا كاتب بليغ حسن التصرف في النظم والنثر، رمت به حوادث الدهر إلى بخاري، فأكرم مثواه كالعادة كانت للملوك السامانية في معرفة حقوق الناس وأبناء النعمة و أغذياء الرياسة، لا سيما الجامعين إلى كرم النسب شرف الأدب، وتقسمت أيامه بين الأولية السنية، والطلعة الهنية وكان على تماسك حاله وانتعاشه وارتياشه شاكياً لزمانه مستزيدا لسلطانه، وله القصيدة التي سارت في البلاد وطارت في الآفاق لحسن ديباجتها وبراعة تجنيساتها، وكثرة رونقها، وأنشدنيها غير واحد ممن انشده أبو جعفر إياها، وأولها:
لئن أصبحت منبوذاً ... بأطراف خراسان
ومجفواً نبت عن لذّ ... ة التغميض أجفاني
ومحمولاً على الصعبة من إعراض سلطاني (2/16)
ومحصوصاً بحرمانٍ ... من الأعيان أعياني
وصرفٍ عند شكواي ... من الآذان آذاني
ومكلوماً بأظفارٍ ... ومكدوماً بأسنان
وملقى بين أخفافٍ ... وأظلافٍ توطَّاني
كأنّ القصد من أحدا ... ث ازماني إماني
فكم مارست في إصلا ... ح شاني ما ترى شاني
وعاينت خطوباً جرّ ... عتني ماء خطبان
أفادت شيب فوديَّ ... وأفنت نور أفناني
أغصَّتني بأرياقي ... لدى إيراق أغصاني
وقادتني إلى من هو عنِّي عطفه ثاني
سوى أني أرى في الفضل ... فرداً ليس لي ثاني
كأنَّ البخت إذ كشَّف عنّي كان غطّاني
وما خلاني إلاّ ... زماناً فيه خلاَّني
سأسترفد صبرى ... إنّه من خير أعواني
وأستنجد عزمي إنّه ... والحزم سيّان
وأنضو الهم عن قلبي ... وإن أنضيت جثماني
وأنجو بنجاتي إن ... قضاء الله نجّاني
إلى أرضي التي أرضى ... وترضيني وترضاني
إلى أرض جناها من ... جنى جنّة رضوان
هواء كهوى النفس ... تصافاه صفيّان
رخاء كرخاء شرِّ ... د الشدة عن عاني
وماء مثل قلب الصبِّ قد ريع بهجران
رفيق الآل كلآل ... وفيه أمن إيمان
وترب هو والمسك ... لدى التشيه تربان
فإن سلّمني الله ... وبالصنع تولاّني
وأولاني خلاصاً جا ... معاً شملي بخلصاني
وأرآني أودَّائي ... وآواني لإيواني
وأوطأني أوطاني ... وأعطاني أعطاني
وأخلى ذرعي الدهر ... وخلاَّني وخلاّني
فإني لا أجدُّ العو ... د ما عاد الجديدان
إلى الغربة حتى تغرب الشمس بشروان
فإن عدت لها يوماً ... فسجّاني سجاني
وللكوت الوحى الأحمر ... القاني ألقاني
وأنشدني أبو الفرج يعقوب بن إبراهيم قال: أنشدني أبو جعفر بن العباس لنفسه:
لست في ذا العذار والأمرد الحا ... سر عن رأسه العذار بخالع
الوقايات في الوقاية عندي ... فلهذا مقانعي في المقانع
وأنشدني له أيضاً:
بوجهك يا من منه أديمه ... وراق الدمى حسنا أريق دمي عمدا
فأقسم أن لو قسمت صبوتي على ... بسيم الصبا ما نسم النسم البردا
وأنشدني أبو القاسم الأليماني قال: أنشدني أبو جعفر لنفسه في أبي جعفر العتبي
ألا من مبلغ المكروب قولاً ... بدا عن نصحٍ مأمون المغيب
جعلت الدهر حربك وهو سلم ... فلم تسلم عليه من الحروب
وحالفت العبوس لغير بؤسٍ ... فأسلمك القطوب إلى الخطوب
وكان بالحضرة رجل من الظاهرية يقال له أبو العباس الظاهري، ينادم الكبراء، ويتعاطى آلة اللهو، وربما يشعر، وكان يلقب ببشار لسوء في عينيه وعبث منه بالشعر، فقال فيه أبو جعفر:
إنّ الأمير أباالعباس بشار ... قرمٌ نمته إلى العلياء أخيار
فما يفارقه في الحجر مزهره ... وما يفارقه في الحجر مزمار
وقال فيه أيضاً:
أضحى أبو العباس مع علمه ... بالقلب والإبدال مفتنَّا
فعينه غين إذا ما رنا ... وغينه عين إذا غنَّا
وقال فيه وكانت له أم ولد مغنية تحضر معه مجالس الأنس:
بشار لولا غناء حرمتك الجامع بين الإحسان والطيب
لكنت مثل المجذوم مجتنباً ... إن لم تصدق فقل لها توبي
؟؟34 - ابن أبي الثياب أبو محمد من ندماء ابن العميد، وله فيه شعر كثير، وكان فسيح مجال الفضل، وافر الحظ من الظرف، ولما فارق ابن العميد وورد بخارى نجحت سفرته وحظي بالقبول، ونادم فضلاء الصدور، وهاجى أبا جعفر محمد بن العباس، فمن قوله فيه:
إن ابن عباس أبا جعفرٍ ... يبذل للنَّاكة أوراكه (2/17)
تراه من تيهٍ ومن نخوةٍ ... كأنَّه ناك الذي ناكه
وأنشدني السيد أبو جعفر الموسوي له في أبي العباس وكان يلقب بطويس:
وقائل قال سرّاً ... عن غير لبٍ وكيس
لم لا تنيك طويساً ... وأنت جار طويس
فقلت كيف افتراشي ... عنزاً ولست بتيس
وأنشدني حاضر بن محمد الطويس لا بن أبي الثياب في كتاب معنون بالحمرة:
هذا كتاب فتىً جفاؤك مضرم ... ناراً من الأشجان بين ضلوعه
ودليله في فيض مقلته دماً ... أنّ الكتاب مخضّب بنجيعه
ووجدت له بخط الرئيس أبي محمد الميكالي رحمه الله تعالى:
يا هماماً يطول كلّ همام ... بالقديم المشهود في الأقوام
والحديث الذي أذاع حديثاً ... عن سماء تهمي بغير غمام
أنت بحرّ يجيش بالدّر لكن ... نظم دّر البحار للنظّام
فارغ للشعر ذّمة في وليّ ... قد كفاه الولاء كلّ ذمام
وأعد أوجه المنى لبنيها ... ضحكاً عن مدامع الأقلام
فسواد التوقيع يجلو لعيني بياضاً من الأيادي الجسام
لست أشكو إليك أيام دهر ... أنت فيها ذخيرة للأنام
حسبي الله في إدامة نعماً ... إنك للمسلمين والإسلام
وأنشدني بديع الزمان له من قصيدة:
وهاجرة تشوي الوجوه كأنّها ... إذا لفحت خدّيّ نار تأجّج
وماء كلون الزيت ملح كأنّما ... بوجدي يغلي أو بهجرك يمزج
تعسّفها السّير الأشدّ إلى فتىً ... سنا وجهه جنح الدجى يتبلّج
وأنشدني أبو سعد يعقوب له في في وصف شمعة:
ومجدولة مثل صدر القناة ... تعرّت وباطنها مكتسي
لها مقلة هي روح لها ... وتاج على الرأس كالبرنس
إذا غازلتها الصبا حرّكت ... لساناً من الذهب الأملس
فنحن من النار في أسعد ... وتلك من النار في أنحس
وقد ناب وجهك عن حسنها ... وعن ذا البنفسج والنرجس
فيا حامل العود حثّ الغنا ... ويا حامل الكأس لا تحبس
أ؟بو الحسن علي بن هارون الشيباني
وليس بالمنجم من فضلاء الطارئين على تلك الحضرة، المتحلين بالأدب والشعر، الحاصلين بين أنياب الدهر، وهو القائل لوزير الوقت:
حمل الرياسة مل عملت ثقيل ... والدهر يعدل مرّةً ويميل
ياراكب الآثام في سلطانه ... أنظر إلى الأيام كيف تحول
هي ما سمعت وما رأيت سبيلها ... التحويل والتننقيل والتبد يل
لا تعتلل بالشغل إنّك إنّما ... ترجى لأنك دائماً مشغول
وإذا فرغت فغيرك المقصود للحاجات والمأمول
أخذه من قول أبي العباس لما قال له عبد بن سليمان أعذرني فإني مشغول فقال:
ولا تعتذر بالشغل عّنا فإنّما ... تناط بك الآمال ما اتصل الشغل
وله:
أيّها التائه في الدولة ... مهلاً في اقتدارك
كم إلى كم تجعل التيه علينا من شعارك
ما تبالي بخراب ال ... أرض في عمران دارك
أيّ شيء كان لو فكّرت في دار قرارك
ته كما شئت وصل واس ... ط علينا في جوارك
فلنا صبر على ذاك ... إلى يوم بوارك
وله في منصور بن بابقرا:
يا مكثراً للعظمة ... أسرفت في الكبر فمه
فكم رأينا من كبير ... كبره قد قصمه
غدت على أبوابه ... مواكب مزدحمهْ
فراح قد صبّ الردى ... على الثرى جهراً دمه
وانتهبت أمواله ... كذاك عقبى الظلمهْ
فأحذر وبادر إننّي ... أرى أموراً مظلمهْ
ترى لها وقت الضحى ... كمثل لون العتمهْ
أبو النصر الهزيمي المعافى بن هزيم
أديب أبيورد و شاعرها ، وله كتاب محاسن الشعر، وأحاسن المحاسن، وكان يكثر المقام ببخارى، ويخدم فضلاء رؤسائها، ويترود حسن آثارها، ثم يعاود أبيورد، وينقلب إلى معيشة صالحة، وقد دّون شعره بخاري وأبيورد. (2/18)
وحدثني أبو القاسم الأليماني قال: لما احتضر الأمير الرشيد أبو الفوارس عبد الملك بن نوح بالسقطة من مهر صعب غير مروض ركبه، وقام الأمير السديد أبو صالح منصور بن نوح، فقال في تلك الحال القائلون، وتصرفوا بين التعزية والتهنئة، واجتمعت قصائد كثيرة لم يرتض منها إلا قصيدة الهزيمي التي أولها:
الطرف بالدمع أولى منه بالنظر ... فخلّه لنجيع منه منهمر
ألمّ خطب عظيم لا كفاء له ... رزء يذّم كلّ مصطبر
هذا الذي كانت الأيام توعدنا ... به وما لم نزل منه على حذر
مدّت إلى الملك الميمون طائرة ... أيدي الحوادث والأيام والغير
تركن حارس دنيانا وفارسها ... فريسةً بين ناب الموت والظفر
ما بين غبطته حيّا وغبطته ... في الملك والهلك والإيوان والعفر
إلا كرجع الصدى في وشك مدّته ... أو كالهنيهة بين السيل والمطر
يا متيةً لم يمتها قبله ملك ... فيها لكلّ عظيم أعظم العبر
كان الموفّق إلاّ عند ركضيته ... وللمنون اعتلالات على البشر
وكان أقدر مخلوق على فرس ... أبو الفوارس لولا قدرة القدر
وكلّ عمر وإن طالًت سلامته ... لا بد يوماً قصاراه إلى قصر
فالحمد لله إذ جلّت مصيبته ... عن المصيب من الآراء والفكر
في دعوة القائم المنصور دعوته ... منصور المعتلي في القدر والخطر
من كان يصلح للإسلام يحرسه ... والتاج يلبسه والقصر والسرر
سوى أبي صالح غيث الندى الهمر ... ليث الوغي الهصر غصن العلى الخضر
هذه التصريعات خطأ في صنعة الشعر على أن أبا تمام قال::
يقول فيبدع ويمشي فيسرع ... ويضرب في ذات الإله فيوجع
ومما يستجاد من شعره قوله للبلعمي من قصيدة وصف فيها الشتاء والبرد:
وشتوة شتّ أبناء السبيل لها ... وغار في نفق منها المغاوير
يشكو جليدهم مس الجليد ضحىً ... والماء جلدته قراً قوارير
فللحى من لحاء البرد أغشية ... وللعيون من الشّفاف تغوير
إذا تنكّبت النكباء عن أذن ... فللجنوب من الجنبين تقوير
وقوله:
إليك ركبت البحر والهول والدجى ... فصن أملي يا خير من ركب الطرفا
أذكرك القربى من العلم بيننا ... وقول حبيب يا أكابرنا عطفاً
وقال من أخرى:
لئن قمت في حاجتي آنفاً ... ونفضت عن وجه حالي الغبارا
فكم منّة لك في سالف ... عليّ كبيت من الشعر سارا
وما كان نفعك لي مرةً ... ولا مرتين ولكن مراراً
وله في قصيدة في الإسكافي:
خطّ كما انفتحت أزاهير الربى ... متنزّه الألباب قيد الأعين
وبلاغة ملء العيون ملاحةً ... نال النبيّ بها صلاة الألسن
ومن قصيدة يشكر فيها بعض الصدور على بذله المنشور في صيانة ضياعه:
أوليتني في ضياعي منك ما وقفت ... حمدي عليك وخير الحمد ما وقفا
لما بذلت من المنشور فهي حمى ... لا تعرف النزل والجعال والكلفا
هذا شكري على إسقاطه مؤناً ... فكيف شكري له إن أسقط العلفا
إذاً تراني كمن يحيا بزاوية ... في الخلد ثم ينال الحور والغرفا
وكتب ببخارى يستهدي التبن:
خير ما يهدى إلى مر ... تبط البرذون تبن
واحتشاميك على ما ... بيننا في الودّ غبن
ما بمن شجّعه جو ... ك عن رفدك جبن
أنت للخائف والمع ... دم إيسار وأمن
فلهذا أنت كنز ... ولهذا أنت ركن
وله من أبيات في استهداء الفحم:
هب البرد بالريّ لم ينسج ... وفي سقط البرد لم يدرج (2/19)
رسولك ذاك الذي قال لي ... أحيء مع الفحم أم لا أجي؟
وأنشدني السيد أبو جعفر الموسوي قال: أنشدني الهزيمي لنفسه:
من كفّ سيف عليّ عن مقاتله ... كففت غرب لساني عن تناوله
من الفضول دخولي في مظالمه ... وتركي القول في أقصى فضائله
الله يسأل عبداً عن جريرته ... وعن جرائر قوم غير سائله
وله أيضاً:
تيه المزور على الزوّار يمنعهم ... عن الزيارة فامنعهم عن التيه
والناس ما لم يروا حرصاً بصاحبهم ... ورغبةً فيهم لم يرغبوا فيه
وله في صيغته:
كفتني ضيعتي مدح العباد ... وظعناً في البلاد بغير زاد
غدت سكني وخادمتي وظئري ... وفيها أسرتي وبها تلادي
ألا فليعتمد من شاء شيئاً ... فحزني ليس يعدوه اعتمادي
صديق المرء ضيعته وكم من ... صديق في الصداقة مستزاد
يخونك في المودّة من تؤاخي ... ومالك لا يخونك في الوداد
أخوك على المعاش معين صدق ... ومالك للمعاش وللمعاد
وله، وهو من قلائده السائدة:
لما رأيت الزمان نكساً ... وفيه للرفعة اتضاع
كلّ رئيس له ملال ... وكلّ رأس له صداع
لزمت بيتي وصنت عرضاً ... به عن الذلّة امتناع
أشرب ممًا ادخرت راحاً ... لها على راحتي شعاع
لي من قواريرها ندامى ... ومن قراقيرها سماع
هذا بيت القصيدة، وهو أمير شعره
وأجتني من عقول قوم ... قد أقفرت منهم البقاع
بشر وكعب أمام عيني ... هذا يغوث وذا سواع
وحدثني أبو الحسن الحمدوني قال: كان أبو عبد الله محمد بن أحمد بن بكر الجرجاني الملقب بالحضرة طير مطراق ورد طر أبيورد على عمل البندرة، واتخذ الهزيمي خليلاً ونديماً ومدرساً، ثم حدثت بينهما وحشة وخرج الهزيمي إلى ضيعة له، وبلغ أبا بكر أنه هجاه، فأشخصه بعدة من الفرسان وسيب عليه ما كان سوغه أباه من خراجه، قال واستقبلني عند دخوله البلد مع المشخصين، فلما وقع بصره علي قال:
بندارنا من أدبه ... أوقعنا في لقبه
فقلت له: يا أبا نصر، من هنا أتيت، وثنيت عناني معه إلى البندار، فأصلحت أمره، ولم أبرح حتى تصالحا وتمالحا وأنشدني أبو القاسم أحمد بن علي المظفري له:
قد كنت أنظر قبل اليوم في كتب ... فيها الحكايات والأشعار والخطب
ودفتر الطبّ ممّا لا ألمّ به ... إذا لم يكن فيه لي من صحتي أرب
فجاءت التسع والخمسون تحوجني ... إلى العلاج فما لي غيره كتب
وكان للهزيمي أخ يكنى بالوليد لا بأس بشعره، كقوله في رجل يكنى أبا سهل من الرجز:
يكّنى بسهل وهو حزن أوعر ... من ذاك قيل للغراب أعور
لأنه من الطيور أبصر وقوله:
في الكذب أنت أبا الفوارس فارس ... وعن الفوارس في الصناعة راجل
فتسابق الأدباء في ميدانهم ... وأبو الفوارس خلفهم متحاجل
أبو نصر الظريفي الأبيوردي
حدثني السيد أبو جعفر الموسوي قال: كان للظريفي علي الهزيمي درس، ومنه اقتبس، فخرج كاتبا شاعراً ظريفاً كلقبه وكان وارداً على الحضرة كثير الإقامة بها، مداخله لفضائلها، متصرفاً منها على أعمال البريد، وكان أبو علي البلعمي يكرمه وينادمه، فاقترح عليه قصيدة يسلك فيها طريق المتقدمين فخامة وجزالة فأنشده من الغد قصيدة في مدحه كأنها صدرت عن أحد فحولة الشعراء الجاهليين فارتضاها وخيره في أعمال البريد بلاد خراسان، فاختار بلده أبيورد وتنجز المنشور والصلة وشخص.
ومن مشهور سائر شعره قوله:
أرى وطني كعشّ لي ولكن ... أسافر عنه في طلب المعاش
ولولا أنّ كسب القوت فرض ... لما برح الطيور من العشاش
وقوله:
سر الفتى من دمه إن فشا ... فأوله حفظاً وكتماناً
واحتط على السر بإخفائه ... فإن للحيطان آذاناً
وقوله:
يكفّ ليلاً ويفسو ... وسط الندى نهاراً (2/20)
يديم ذلك حتى ... يملا بخاري بخاراً
وقوله:
حوى المصريّ أنواع المخازي ... وراح وماله فيها موازي
ولو جمعت مخازيه لزادت ... بكثرتها على كتب المغازي
وقوله:
يا دولةً خلصت لأعور معورٍ ... ما أنت إلا دولة عوراء
وقوله:
خافوا على المّلك عيون العدا ... فصيَّروا عوذته أعورا
وحكى أنه تقلد مرة عمل البريد بالجبل، وكان أمراؤها لا يقيمون لأصحاب البريد وزنا، فلما وصل إلى الوالي بها قال له: أنت صاحب البريد؟ قال: نعم. فاستظرفه ونادمه وأفضل عليه.
ودخل يوما على بعض وزراء الحضرة فجلس في أخريات الناس، فقيل له في ذلك، فقال: لأن يقال لي أرتفع أحب من أن يقال لي اندفع.
رجاء بن الوليد الإصبهاني،أبو سعد.
من جلة الكتاب والعمال المتصرفين من الحضرة على أعمال خراسان وكان له أدب رائق، وكان به طرش، فإذا كلمه من لا يسمعه قال له: ارفع صوتك فإن بإذني بعض ما بروحك.
وتنسب هذه النادرة أيضاً إلى الناصر الأطروش صاحب طبرستان ويجوز أن يكون سمعها رجاء عنه فاستعملها.
وكان في ذكاء القلب وجودة الحدس بحيث يفطن لكل ما يكتب بالأصبع على يده، ويستنغى بذلك عن السماع، فيجيب عنه.
وفي التبجح بطرشه يقول:
حمدت إلهي إذا بليت بحبّه ... على طرش يشفي ويغني عن العذر
إذا ما أراد السّر ألصق خدّه ... بخدي اضطراراً ليس يدي الذي أدري
وإنما حذا به مثال من قال في أحوال:
حمدت إلهي إذ بليت بحبه ... على حول يغني عن النظر الشزر
نظرت إليه والرقيب يخالني ... نظرت إليه فاسترحت من العذر
ومن ملح رجاء قوله في باقة ريحان:
وشمّامة مخضّرة اللون غضّة ... حوت منظراً للناظرين أنيقا
إذا شّمها المعشوق خلت اخضرارها ... ووجنته فيروزجاً وعقيقاً
وقوله:
هذي المدام وهذه التحف ... والكأس بين الشّرب تختلف
فكأنّهم وكأنّ ساقيهم ... سين ترى قدّامها ألف
أخذه من قول ابن المعتز:
وكأن السقاة بين الندامى ... ألفات بين السطور قيام
وأنشدني أبو نصر سعد بن يعقوب له نتفا مليحة، منها:
خط يريك الوصل في طوماره ... متبسما والهجر في أنفاسه
فكأنما مقل الغواني كحلت ... من حسن أسطره على قرطاسه
أبو القاسم الدينوري
عبد الله بن عبد الرحمن
من رؤساء الأدباء، ورؤس الكتاب، ووجوه العمال بخراسان، وأخبرني منصور ابنه أنه من أولاد عبد الله بن العباس بن عبد المطلب ومصنفاته في محاسن الآداب تربى على الثلاثين، وله شعر كثير يخرج منه الملح، كقوله من قصيدة في وصف الخمر:
كأنّها في يد الساقي المدير لها ... عصارة الخمر في ظرف من الآل
لم تبق منها الليالي في تصرّفها ... إلاّ كما أبقت الأيام من حالي
وقوله من أخرى:
يا لعصر الخلاعة المورود ... ولظلّ الشبيبة الممدود
وللهوى ولذتي وسروري ... ولسفكي دم ابنة العنقود
وارتشافي الرّضاب من برد الثغ ... ر وشمّي عليه ورد الخدود
وغدوّي إلى مجالس علم ... ورواحي إلى كواعب غيد
في قميص من السرور مذال ... ورداء من الثياب جديد
ولأيامي القصار اللواتي ... كنّ بيضاً قد حلّيت بالسعود
غّير الدهر حالها فاستحالت ... مظلمات من الليالي السود
وأتاني من المشيب نذير ... غضّ منّي وفتّ في مجلودي
وتدانت له خطامي يرغمي ... ونحاني له خصوصاً عمودي
وتيقّنت أنّني في مسيري ... إثر شرح الشباب غير بعيد
وقوله:
مضى الأخوان وانقرضوا ... فها أنا للردى غرض
مرضت فقيل لي لا بأس ... عندك إنّه عرض
فأول منزل للمر ... ء نحو معاده المرض
وقوله: (2/21)
أرقت لضيف من الشيب زارا ... فأهدى إليك النّهى والوقارا
وجلّك الحلم ثوب الكرام ... وبزّك ثوب الشباب المعارا
وقد كان شرح الشباب الذي ... تولّى عدواً وإن كان جارا
أملّ على ملكيك الذبو ... ب حتى أملّهما ثم سارا
أخذه من قول أبي الطيب المصعبي:
زائر لم يزل مقيماً إلى أن ... سوّد الصحف بالذبوب وولّى
وقوله:
شوقي إليك كشوق المدنف الحرض ... إلى الطبيب الذي يشفي من المرض
فإن يكن لك عنّى يا أخي عوض ... فلا وحقّك ما لي عنك من عوض
وقوله من قصيدة في بعض الوزراء:
ومطّهم برح العنان معّود ... خوض المهالك كلّ يوم براز
وإذا توقل في ذرى يمنع ... صعب بعيد العهد بالمجتاز
تركت سنابله بصمّ صخوره ... أثراً كنقش صدر البازي
ومنها:
يا أيّها الشيخ الجليل بحقه ... لا من طريق تملّق ومجاز
إن لم يكن لي في جانبك مرتع ... فالرأي في الإبعاد لي بجواز
وأنشدني ابنه أبو منصور لأبيه في سفرجل وتفاح ورمان وآذريون أهداها إلى بعض الرؤساء في يوم مهرجان:
بعثت إليك ضحى المهرجان ... بمعشوقة العرف والمنظر
معطرة صانها في الحجال ... مطارف من سندس أخضر
نضت حين زارتك عنها الفريد ... وجاءتك في سرق أصفر
بيسر وبهنكة نضّة ... وثدي مبتلّة معصر
وبيضاء رائقة غضّة ... منقطة الوجه بالعصفر
وحقّ عقيق ملاه الهجير ... من الجوهر الرائق الأحمر
وأقداح تبر حشت قعرها ... يد الشمس بالمسك والعنبر
فكن ذا قبول لها إنّها ... هدايا مقلّ إلى مكثر
وحيّ على الراح قبل الرواح ... ومطربة الشدو والمزهر
وعش ما تشاء كما تشتهي ... بعزم يدوم إلى المحشر
وله من نتفة يسترجع بها كتاباً معاراً:
أنا أشكو إليك فقد نديم ... قد فقدت السرور منذ تولّى
كان لي مؤنساً يسلّي همومي ... بأحاديث من منى النفس أحلى
عن أبي حاتم عن ابن قريب ... واليزيدي كلّ ما كان أملى
وهو رهنّ لديك يشكو ويبكي ... ويغنّي: قد آن لي أن أخلّى
فتفضّل به عليّ فإنّي ... لست إلاّ بمثله أتسلّى
وله من أخرى في معناها:
طلبت مني كتاباً ... ألفته في شبابي
ألفته إلف عظمي ... لحمي ولحمي إهابي
وقد تأخر حتى ... لبست ثوب اكتئاب
وقد أتاني عنه ... ما لم يكن في حسابي
من نظم شعر بديع ... مستظرف مستطاب
أما كريم رحيم ... يرثي لطول اغترابي
يا رب يسّر إيابي ... قد حان وقت انقلابي
وله في أبي الحسن العتبي:
يا سائلي عن وزير ... مدحرج مستدير
كبط شطّ سمين ... عريض صدر قصير
إن كنت أبصرت قرداً ... منذ كنت فوق سرير
فهو الوزير وإن كا ... ن في عداد الحمير
وله من نتفة في قابض كفه:
الله صوّر كّفه ... لمّا براه فأبدعه
من تسعة في تسعة ... وثلاثة في أربعة
وله من أخرى:
تغّيرت مع الدهر ... لنا يا شاعر البصرة
ولم ترع لنا عهداً ... قديم الودّ والعشرة
عسى صيّرك الشيخ الذي ... يكنى أبا مرّة
وله:
لزوم البيت أرواح في زمان ... عدمنا فيه فائدة البروز
فلا السلطان يرفع من محلّى ... ولست على الرعية بالعزيز
ولست بواجد حراً كريماً ... أكون لديه في كنف حريز
وله من المسرح:
أشكو إلى الله ضيق ذات يدي ... قد بان صبري وخانني جلدي
وقد جفاني الأنام قاطبةً ... حتى عبيدي، وعقّني ولدي (2/22)
وله في ابنه:
ربيته وهو فرخ لا نهوض له ... ولا شكير ولا ريش يواريه
حتى إذا ارتاش واشتدّت قوادمه ... وقد رأى أنه آنت خوافيه
مد الجناحين مدّاً ثم هزّهما ... وطار عنّي فقلبي فيه ما فيه
وقد تيقّنت أنّي لو بكيت دماً ... لم يرث لي فهو فظّ القلب قاسيه
وله في ابنه أبي طاهر:
لو كنت أعلم أنّي والد ولداً ... يكون، لا كان، في عينيّ كالرّمد
فلا أسرّ على طول الحياة به ... جبيت نفسي كي أبقى بلا ولد
كم قد تمّنيت لو أنّ المنى نفعت ... ولا مردّ لحكم الواحد الصمد
وقلت لو أنّ قولي كان ينفعني ... يا ليت أنّي لم أولد ولم ألد
وله في النارنج:
أما ترى شجر النارنج طالعةً ... نجومها في غصون لدنة ميل
كأنّها بين أوراق تحفّ بها ... زهر المصابيح في خضر القناديل
وله في البراغيث:
وحمش القوائم حدب الظهور ... طرقن فراشي على غرّة
فنقّطنني بخراطيمهن ... كنقط المصاحف بالحمرة
وله في عارض:
وعارض دنس العر ... ض ناقص في الصنّاعة
كلب بل الكلب في لو ... مه يعاف طباعه
قد رامني بالدواهي ... فقصّر الله باعه
وله:
إذا الزمان رماني ... منه بخطب جسيم
صبرت صبر كريم ... على جفاء لئيم
وله:
من عذيري من بديع ال ... حسن ذي قدٍّ رشيق
أنبتت في فمه اللؤ ... لؤ أرض من عتيق
وله:
بأبي أنت لقد طبت ... لنا ضماً وشماً
ضاق فوق العذب ... والعين وشيء لا يسمّى
وله من نتفة:
أساء وقد أتاني مستتيبا ... أما هذا من العجب العجاب
وله من أخرى:
وما آسى على دهر تولّى ... ولا جسم مباح للسقام
ولا ما فات من عمري ولكن ... أحنّ إلى صلاة من قيام
وله من أخرى:
عشت من الدهر ما كفاني ... ومرّ ما مرّ من زماني
وقد حنتني وقوّستني ... تسع وتسعون واثنتان
وقد سئمت الحياة ممّا ... ألقى من الذلّ والهوان
ومن أخ كنت أرتجيه ... لحادث الدّهر قد قلاني
ومن غلام إذا ينادي ... تصامم النذل وهو داني
مدمدم لا أراه إلاّ ... مقطّب الوجه ما رآني
فهذا ما أخرجته من ملح الدينوري فأما ابنه
أبو منصور أحمد بن عبد الله
ففاضل كثير المحاسن، وعهدي به عاماً أول صادراً من أبيورد، وكان على البريد بها ونازلاً داره بسكة البلخية نبيسابور، وأنا على موعد منه في إخراج ما يصلح لكتابي هذا من شعره وإنفاذه إلى إن شاء الله تعالى
أبو منصور أحمد بن محمد البغوي
أحد الصدور الأفراد الأمجاد بخراسان، بلغ من الأدب والكتابة والثروة والمروءة أعلى مكان، وتصرف في الأعمال الجلائل، ثم ولي ديوان الرسائل، وكان جمع كتاباً مترجماً بزاملة النتف يشتمل على ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين من محاسن الأخبار والأشعار، ولطائف الآداب ونتائج الألباب، ويقع في ثلاثين مجلدة بخطه، وقسمها على شهره فكان لا يخلو من إحدى قطاعها مجلسه وديوانه، وساق حقه لا يكاد يفارقه في سفره وحضرة، ووقع إلى بضع مجلدات منها بعد انقضاء أيامه، فتنزه الطرف في رياضها، واستمتعت النفس بثمارها، ولم يبلغني عنه شعر إلا ما أنشدنيه السيد أبو جعفر الموسوي قال: أنشدني البغوي لنفسه:
تراءت لنا من خدرها بسوالف ... كما لاح بدر من خلال سحاب
ووجنتها من تحت فاحم صدغها ... كما روحّت باز بريش عقاب
وصدر البيت الثاني مما أنسانيه الشيطان أن أذكره، فغرمته من عندي.
أبو علي محمد بن عيسى الدامغاني
تثنى به الخناصر، وتضرب به الأمثال، في حسن الخط والبلاغة وأدب الكتابة والوزارة، وكان في حداثته يكتب لأبي منصور محمد بن عبد الرزاق ثم تمكن بالحضرة خمسين سنة يتصرف ولا يتعطل حتى قيل فيه: (2/23)
وقالوا العزل للعمّال حيض ... لحاه الله من حيض بغيض
فإن يك هكذا فأبو عليّ ... من اللائي يئسن من المحيض
وولي ديوان الرسائل دفعات و الوزارة مرات، وكان يقول الشعر ولا يظهره، ويحب الأدب ويكرم أهله.
وأنشدني أبو عبد الله بن السري الرامي هذين البيتين له، ثم وجدتهما لغيره:
يا أيّها القمر المنير الزاهر ... الأبلج البدر العليّ الباهر
أبلغ شبيهتك السلام وهنّها ... بالنوم وأشهد لي بأني ساهر
وأنشدني السيد الشريف أبو جعفر الموسوي قال: أنشدني أبو علي محمد ابن عيسى ولم يسم قائلاً:
تذكرّ إذ أرسلته بيدقاً ... فيك فوافاني فرزانا؟
ثم أخبرني بعض كتابه أن هذا البيت له.
وأنشدني له أيضاً من المسرح:
وكاتب كتبه تذكرني الق ... رآن حتى أظلّ في عجب
فاللفظ قالوا قلوبنا غلف ... والخطّ تبت يدا أبي لهب
ولم يذكر أن أحداً من الصدور يسع دعاؤه وتربيته وكنيته واسمه واسم أبيه وبلده بيتاً واحداً من الشعر سواه، فإن أبا القاسم الأليماني أنشدني لنفسه قصيدة فيه، ومنها هذا البيت:
إلى الشيخ الجليل أبي عليّ ... محمد بن عيسى الدامغاني
أبو علي الزوزني الكاتب
أخبرني الثقة أنه وقع إلى الحضرة ببخارى في ريعان شبابه، وله أدب بارع وخط تأخذه العين ويستولي عليه الحسن، فما زال يتصرف في ديوان الرسائل ويغرس الدر في أرض القراطيس، وينشر عليه أجنحة الطواويس، إلى أن ثقلت عليه الحركة، وأخذت منه السن العالية، وكان قصير القد طويل الفضل، وفيه يقول اللحام وما كان يهجو إلا الكبار:
وقصير من قرى زو ... رن في قامة شبر
يدّعي الكّتاب إلا أنه ... في فهم عير
ولقد فكّرت فيه ... وكذا فكّر غيري
كيف يدخل أيراً ... وهو في قامة أير
واقتدى باللحام غير واحد من الشعراء فهجوه بالقصر، ووصفوا قامته بالصغر حتى قال المعروف بالمضرب البوشنجي:
للزوزنيّ أبي عليّ قامة ... قامت بسوق هجائه المتراكم
هي عمدة الشعراء يعتمدونها ... بقواضب من شعرهم وصوارم
والبعض شّبهها بأير قائم ... والبعض شبهها بجعس جاثم
ياليتها طالت فقصّر طولها ... عنه طوال معايب وشتائم
وكان أبو علي - مع حسن خطه - حسن الشعر، كثير التنكيت، وهو القائل في أبي جعفر العتبي:
يا قليل الخير موفور الصّلف ... والذي قد حاز في التيه الشّرف
كن بخيلاً وتواضع تحتمل ... أو سخّياّ يحتمل منك الصّلف
ووجدت بخط الرئيس أبي محمد الميكالي لأبي علي في ابنه:
يا من تمنّى أن يموت أبوه ... ستذوق موتك قبل ما ترجوه
إنّ المزيد ردى أبيه قبله ... يردى ويسعد بالحياة أبوه
وأنشدني أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان له:
الحمد لله وشكراً له ... على المعافاة من الأبنه
فليس فيما المرء يبلى به ... أعظم منها في الورى محنه
وأنشدني حاضر بن محمد له في علوي:
من كان خالق هذا الخلق مادحه ... فإنّ ذلك شيّ منه مفروغ
فإنّ أطل أو أقصر في مدائحه ... فليس بعد بلاغ الله تبليغ
وله أيضاً:
إنّ أذني تملّ طول كلامه ... وفؤادي يملّ طول مقامه
إنّ أمري وأمره لعجيب ... متّ من بغضه وحبّ غلامه
أبو عبد الله الشبلي
من حسنات بوشنج وأفرادها، وكان يكتب بخاري للأفتكين الخازن، ويعنون كتبه بمحمد بن أحمد الشبلي، فلما قلد الوزارة لصاحبه وارتفع مقداره أسقط الشبلي من كتبه واقتصر على اسمه واسم أبيه، وقال بعض الشعراء:
محمد أسقط الشبلي من كتبه ... ترّفعاً باسمه عن ذكر منتسبه
كأنّني بقفاه وهو مرتجع ... تصحيف ما قد نفاه الآن عن كتبه (2/24)
وتنقلت بالشبلي أحوال بعد هلاك صاحبه، فبدرت منه أمور أدت إلى نفي صاحب الجيش أبي الحسن بن سمحور إياه إلى النون من بلاد قهستان فلما طال مقامه بها قال:
تعلمت بالنون أكل الأقط ... وغزل العهون ونسج البسط
وما كنت فيما مضى هكذا ... ولكن من الدهر جاء الغلط
وإنما احتذى فيه قول بابك:
تعلّمت في السجن نسج التكّك ... وقد كنت من قبل حبسي ملك
وقد صرت من بعده عدّةً ... وما ذاك إلاّ بدور الفلك
أبو علي المسبخي
هو الذي يقول فيه الحكام من الرجز:
لم أر في الحكام كالمسبخي ... يطمع في الجلد الذي لم يسلخ
وكان باقعة في الحكام، وفي العلوم من الأعلام، وفي نفسه كما بعض العصريين من أهل نيسابور في غيره:
يا طبيباً منجّماً وفقيهاً ... شاعراً شعره غذاء الروح
أنت طوراً كمثل جامع سفيا ... ن وطوراً تحكي سفينة نوح
وتولى المظالم يبلغ مرة فكتب إليه أبو يحيى العمادي يداعبه ويطايبه ويستهديه من ثمرات بلخ، فأهدى إليه عدل صابون، وكتب إليه كتاباً قال في فصل منه وقد بعثت إلى الشيخ أيده الله تعالى عدل صابون ليغسل به طمعه عني، والسلام.
وتولى مرة قضاء سجستان فمن قوله فيها:
حلولي سجستان إحدى النوب ... وكوني بها من عجيب العجب
وما بسجستان من طائل ... سوى حسن نرجسها والرّطب
وهو القائل فيها:
يا سجستان قد بلوناك دهراً ... في حراميك من كلا طرفيك
أنت لولا الأمير فنينا لقلنا ... لعن الله من يصير إليك
وله:
وعدتني وعداً وقرّبته ... تقريب حر ليس بالمستزاد
حتى إذا ما رمت تحصيله ... كان بعيداً مثل يوم المعاد
وله:
هل الدهر إلا ساعة تنقضي ... بما كان فيها من عناء ومن خفض
فهونك لا تحمل مساءة عارض ... ولا فرحةً سّرت فكلتاهما تمضي
وعندي له أبيات قد خفي علي مكانها وفيما كتبته من شعره كفاية.
أبو الحسن أحمد بن المؤمل
كاتب أبي الحسن، فائق الخاصة من كبار الكتاب بخراسان، وأكثرهم محاسن وفضائل، وله شعر كثير يجمع الجزالة والحلاوة، فمن ملحه ما أنشدني وقوافيه متشابهة في طريقة أبي الفتح البستي:
طرا عليّ رسول في الكرى طاري ... من الطيور وأعطاني بمنقار
تركتني في بلاد لا أراك بها ... كأنّ قلبك من صخر ومن قاري
وأنشدني أيضاً لنفسه:
إن أسيافنا العضاب الدوامي ... تركت ملكنا قرين الدوام
لم نزل نحن في سداد ثغور ... وآصطلام الأبطال في وسط لام
واقتحام الأهوال من وقت حام ... واقتسام الأموال من وقت سام
وله من قصيدة في أبي نصر بن زيد أولها:
تولى ونار الشوق في القلب واقده ... ونار نشاطي منذ تباعد هامدة
نهاري بلا أنس وليلي كأنّني ... إلى الصباح ملقى تحت ساعد ساعده
ومنها:
تراعى طوال الليل عيني فراقده ... وعين الذي لا تفقد الألف راقده
أيامنا هل أنت عائدة لنا ... كما كنت أم هل بكائك عائدة؟
ومنها:
أبا نصر القرم الذي عقمت بمن ... يشاكله في مجده كلّ والده
هو القمر الفرد الذي لروائه ... تظل نجوم الأفق لا شك ساجدة
ومنها:
له قلم سوق القضاء إذا جرت ... به يده في النّهي والأمر كاسدة
ويملي فيضغي الكاتبان تطّرباً ... إلى مبدعات هنّ والسحر واحدة
ولولا خلال يحظر الدين ذكرها ... لقلت الذي يملي قران على حدة
وله وقد نقل معناه من بيتين للروزكي، وهما:
تصوّر الدينا بعين الحجى ... لا بالتي أنت بها تنظر
الدهر بحر فاتخذ زورقاً ... من عمل الخير به تعبر
وله وقد نقل معناه من بيتين للمعروفي، وهما:
إذا لم تكن من لدنك مبّرة ... وزال رجائي عن نوالك في نفسي
فأنت إذاً مثلي أنيس مصوّر ... فلم أعبد الشيء المصور من جنسي (2/25)
وله من قصيدة:
سقياً لدهر مضى إذ نحن في شغل ... بالعزف والقصف عن شغل السلاطين
إذ يومنا يوم عيد طول مدّتنا ... ولينا كلّه ليل الشعانين
وفتية كنجوم اللّيل طالعة ... شمّ العرانين من شمّ العرانين
غدوا صحاحاً إلى الحانات وانصرفوا ... إلى المنازل في عقل المجانين
عادوا أراجيح من حاناتهم أصلاً ... وقد غدوا نحوها مثل الموازين
وله:
وقائلة لي ما بالك الدهر طافحاً ... وأنت مسنّ لا يليق بك السكر
فقلت لها أفكّرت في الخمر مرّةً ... فأسكرني ذاك التوهّم والفكر
وله في معناه:
وسائل عن مقتضى سكري ... وما درى لم هكذا صرت
قلت له استنشقت من منتش ... رائحة الخمر فأسكرت
وأنشدني أبو بكر الخوارزمي قول الآملي من قصيدة يذكر فيها حنينه إلى أحمد بن حجر:
وحجر على عينيّ أن يطعما الكرى ... إلى أن يرى حجراً يناغي على حجر
فقال: الآن عملت أنه إنما سمى ابنه حجراً ليطرد هذا البيت وقال:
نأى منذ نأيتم نوم عيني فلم يعد ... وغبتم فغابت سرتي و مسرتي
كفى بي اعتباراً أنّني منذ عبرتم ... كيعقوب ما ترقا من الشوق عبرتي
أبو إسحاق إبراهيم بن علي الفارسي
من الأعيان في علم اللغة والنحو، وورد بخاري فأجل وبجل. ودرس عليه أبناء الرؤساء والكتاب بها وأخذوا عنه، وولي التصفح في ديوان الرسائل فلم يزل يليه إلى أن استأثر الله به، وله شعر لم يقع إلي منه إلا أنشدني حاضر بن محمد الطوسي من قصيدة له في بعض رؤساء الحضرة يستهدي منه جبة خز أبيض غير لبيس وهو هذا:
وأعنّ على برد الشتاء بحبةّ ... تذر الشتاء مقّيداً مسجوناً
سوسية بيضاء يترك لونها ... ألوان حسّادي شواحب جونا
عذرا لم تلبس فكفّك في العلا ... تؤتي عذراها وتأبي العونا
تسبي بهجتها عيوناً لم تزل ... تسبي قلوباً في الهوى وعيوناً
مثل القلوب من العداة حرارةً ... مثل الخدود من الكواعب لينا
أبو جعفر الرامي
محمد بن موسى بن عمران
من أفراد الأدباء والشعراء بخراسان عامة، وحسنات نيسابور خاصة إذ هو من الرام أحد رساتيق نيسابور وكان مع سبقه في ميادين الفضل راجحاً في موازين العقل، وترقت حاله من التأديب بنيسابور إلى التصفح في ديوان الرسائل بخاري بعد أبي إسحاق الفارسي، وهبت ريحه وبعد وصيته، وله شعر كعدد الشعر غلب عليه التجنيس حتى كاد يذهب بهاؤه، ويكدر ماؤه وكل كثير عدو الطبيعة فمن ملحه التي تستملح من وجه ولا تستجاد من آخر قوله هذه الأبيات:
مضى رمضان مرمض الذنب فقده ... وأقبل شوّال تشول به قهرا
فيا لك شهراً أشهر الله قدره ... لقد شهرت فيه سيوف العدا شهرا
ومن تجنيسه المستجاد المرتضى قوله من مقصورة في وصف السيف من الرجز:
مهند كأنّما صقيله ... أشربه بالهند ماء الهندبا
يختطف الأرواح في الروع كما ... تختطف الأبصار حين ينتضى
وقوله في جارية له توفيت:
لي في المقابر درّة ... أمسى التراب لها صدف
لما غدت هدف البلاء ... أصبحت للبلوى هدف
وقوله من قصيدة:
ومن منصفي من ريب دهر فإنّني ... صريح بآدابي يد الدّهر للدّهر
أسير أسيراً للحوادث مقصداً ... بدهياء مقصوداً بفاقرة الفقر
فإن تكن الأيام أزرت بهمتي ... فلا ضير إنّي قد شددت لها أزري
أويت إلى كهف المكارم والعلا ... لأغلي به قدري وأعلى به قدري
أعادت سجاياه اللجين بجوده ... نضاراً وقد أهدت نثاراً إلى التبر
لقد صيغ من بيض السبائك طبعه ... فحال سبيك الصفر صيغ من الصفر
وله من تشبيب قصيدة:
مزجت سوابق عبرة بعبير ... وسرت عزائم صبوتي لمسيري (2/26)
وتبسّمت بين البكاء فخلتها ... برقاً تألّق من خلال صبير
فكأنّما هي روضة ممطورة ... ترنو إليّ بنرجس ممطور
ومن أخرى:
لشؤون عيني في البكاء شؤون ... وجفون عيني للبلاء جفون
وخلال أثوابي خلال مذهّب ... أضناه همّ في الحشى مدفون
أبديت مكنون الهوى لما بدا ... للعين ذاك اللؤلؤ المكنون
وأزارني جنون العقارب بغتةً ... وردان فوقهما عقارب جون
والقلب مقرون بكلّ بليةّ ... منذ لاح ذاك الحاجب المقرون
وله من أخرى:
لزم السخاء فلا يقال ضنين ... ونحا الوفاء فلا يقال ظنين
ما البائس المسكين غير تلاده ... إذ يعتفيه البائس المسكين
وله من أخرى:
السحر من مقلتيك ينتثر ... والخمر من وجنتيك يعتصر
يا شاذياً سخر الجمال له ... فكلّ أفكارنا له سخر
الريق والطرف منك يا سكني ... ضدّان ذا سكر وذا سكر
خصرنيّ خصرك الهضيم ولا ... دواء إلا رضابك الخصر
الله فينا فإنّ رحمته ... حجر على من فؤاده حجر
صورك الله فتنةً فغدت ... صوراً إليك العيون والصّور
غادرت في جفن ناظري غدراً ... يمدّها الغدر منك يا غدر
يسومني الصبر عاذلي سفهاً ... والصبر عن مثل وجهك الصبر
هان على الأملس المسيب ما ... يلقاه من ثقل حمله الدبر
وله من أخرى:
لي حبيب بالشطّ شطّت دياره ... وغدا للأسود زاراً مزاره
كان جاري فجار عنّي، لا، بل ... جار بغياً عليّ واللّه جاره
فرّ منّي ندلّلاً ثمّت افت ... قر بنفسي فراره وافتراره
رشاً أرسل الرشاء من المس ... ك على عارض يروق احمراره
عاذلي اعذرا فإنّ عذاري ... عانق الشيب حين طرّ عذاره
لم يعانق ظلامي الصبح إلاّ ... بعد أن عانق الظلام نهاره
وله من نتفة:
أيها السيد الجليل الذي أصبح ... في المجد والمكارم فرداً
استمع من مريض عبدك بيتاً ... سار في الخافقين غوراً ونجدا
ليس غير الكريم من ينجز الوع ... د ولكن من يجعل الوعد نقداً
أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الجرجاني
المقلب طر مطراق
كاتب شاعر، ظريف فاضل، من أعيان العمال ببخارى، وقد تقدم ذكره عند ذكر الهزيمي.
أنشدني السيد أبو جعفر الموسوي قال: أنشدني أبو عبد الله لنفسه:
نصيبنا من طول آمالنا ... تعسفّ في خدمة دائبة
وحاصل الذلّ بلا طائل ... والشأن في منتظر العاقبة
ومما يستظرف ويستلمح من شعره قوله في فتى من أبناء الموالي بخاري وكان متهالكاً في هواه:
أما والصبر فقد بشرني ... نائب المسك بصفحات العقيق
سنة أخرى وقد أخرجني ... شعر خديك من العقد الوثيق
وأنشدني أبو سعد نصر بن يعقوب له من قصيدة في وصف الجركاه:
كأنّه سحب من فضة ضربت ... وزيّت بدنانير مفاصله
إن قرّ ليل كفى النيران ساكبه ... أو جاد غيث بغشاه هاطله
لا تخذر الهدم فيه حين تنزله ... إذا توالت على بيت زلازله
أبو محمد عدي بن محمد الجرجاني
من ذوي الفضل، الطالبين للفضل بخاري، والمتصرفين على عمل البريد منها، وله شعر حسن مشهور، فمن ذلك قوله:
متى أشربت ماء الحياة وجوهنا ... تنقّل عنها ماؤها وحياؤها
إذا كانت الصهباء شمساً فإنّما ... يكون أحاديث الرجال هباؤها
عبد الرحيم بن محمد الزهري
أديب شاعر، يقول لأبي محمد عبد الله بن محمد بن عزيز قبل وزارته:
اليمن انشقني نسيمه ... وأزاح عن قلبي همومه
بمكانة الشيخ الرئي ... س وعزّ رتبته العظيمة
فلأغنينّ بفضله ... عن ذكر خدمتي القديمة (2/27)
ويقول في مرثية ابن العتبي:
مرّ على قبرك أعوانكا ... فكلّهم هالهم شانكا
ولم يزيدوك على قولهم ... عزّ على العلياء فقدانكا
أبو القاسم إسماعيل بن أحمد الشجري
كاتب شاعر، أدركته حرفة الأدب فأزعجته عن وطنه ورمت به إلى بخاري، فلم يجد للغربة شافع أدبه وفضله، ووجد متصرفاً فتماسكت حاله، ولما انقضت الدولة السامانية عاود وطنه ثم فارقه وورد به على أبي الفتح البستي فأقام عليه مدة ثم قصد الفاريات واستوطنها، ومن ملحه قوله وهو منقول من بيتين بالفارسية للأعاجم:
إن شئت تعلم في الآداب منزلتي ... وأنني قد عداني العزّ والنعم
فالطّرف والسيف والأوهاق تشهد لي ... والعود والنرد والشطرنج والقلم
وله وقد دعاه إخوان له إلى بعض المنتزهات ببخارى فخرج فلم يهتد إليهم:
ظننتم في التجشّم بي جميلاً ... وأرجو أن أكون كما ظننتم
وما أعصيكم أمراً ونهياً ... ولكن لست أدري أين أنتم
وله من قصيدة:
نهاري ولم أبصر فحياه مظلم ... وليلي إذا أبصرته غير مظلم
أتظلمني الأيام وهي خبيرةبأنّ إليهإن ظلمتتظلّمي
ومن أخرى:
باب غيرك للأخيار أخبية ... وما بابك إلا الفقر والبوس
أيخدمونك لا والله عن مقة ... ومالهم منك مطعوم وملبوس
وله من نتفة:
جميل الحيّاة، وكالدعص ردفه ... حميد سجاياه، وليس له خصم
وله من قصيدة في ابنه:
نصحتك في التأدّب ألف مرّة ... فلم ينفعك نصحي فيه ذرّة
أؤمل أن تكون لكّل باب ... من الآداب للأدباء عرّة
فلما خنت فيك رجوت أن لا ... تخلّ بكلّها فتكون غرّة
ولست أقول أنت فتى غبيّ ... ولكن فيك إعجاب وشّره
ولا أنّي علمت السّر لكن ... أدلائي على السّر الأسرّة
وكم من مضمر أمراً خفياً ... تعرفني الأسّرة فيه سّره
إذا ما لم تطع من أنت منه ... فلا تأمل تحفّيه وبرّه
ولا تغفل بحلو هواك وعظي ... فإنّ مغبَّة الإغفال مره
وكتب إلى أبي الحسن أحمد بن منصور:
ما لي وكنت مقرّباً أقصيت ... وذكرت فيما قبل ثم نسيت
وحجبت بعد الإذن، كنت مشرفاً ... بجماله في أيِّ وقتٍ شيت
حرمت حظي من تحفيّك الذي ... قد كنت مسعوداً به فشقيت
ألزلةٍ فأتوب أم لملالةٍ ... فألوم إذ شمل الملوك شتيت
إن كنت ترضى بالقطيعة شيمةٍ ... فبطاعتي لك حيث كنت رضيت
إن لم أكن في خدمتي ومودتي ... لك مخلصاً فمن الإله بريت
أبو الحسن محمد بن أحمد الإفريقي المتيم
صاحب كتاب أشعار الندماء، وكتاب الإنتصار للمتنبي، وغيرهما، وله ديوان شعر كبير، ورأيته ببخارى شيخاً رث الهيئة تلوح عليه سماء الحرقة، وكان يتطبب ويتنجم، فأما صناعته التي يعتمد عليها فالشعر، ومما أنشدني:
وفتيةٍ أدباء ما علمتهم ... شبّهتهم بنجوم الّليل إذا نجموا
فروا إلى الراح من خطبٍ يلمُّ بهم ... فما درت نوب الأيام أين هم
ومما أنشدني أيضاً:
تلوم على ترك الصلاة خليلتي ... فقلت أغربي عن ناظري أنت طالق
فوالله لا صلَّيت لله مفلساً ... يصلي له الشيخ الجليل وفائق
تاشٍ وبكتاشٍ وكنباش بعده ... ونصر بن ملكٍ والشيوخ البطارق
وصاحب جيش المشرقين الذي له ... سراديب مالٍ حشوها متضايق
ولا عجب إن كان نوح مصلِّياً ... لأنّ له قسراً تدين المشارق
لماذا اصلي؟ أين باعي ومنزلي ... وأين خيولي والحلي والمناطق؟
وأين عبيدي كالبدور وجوهم ... وأين جواريَّ الحسان العواتق؟
أصلّي ولا فتر من الأرض يحتوي ... عليه يميني؟ إنَّني لمنافق
تركت صلاتي للذين ذكرتهم ... فمن عاب فعلي فهو أحمق مائق (2/28)
بلى، إن عليَّ الله وسَّع لم أزل ... أصلّي له ما لاح في الجوِّ بارق
فإن صلاة السيءَّ الحال كلّها ... مخارق ليست تحتهن حقائق
وأنشدني أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان له في فتى صبيح من أولاد الرؤساء خلع عليه دراعة وقد كان لبسها:
أتت على ماء ظهري ... درّاعة أهديت لي
إذا علتني تذكّر ... ت من علته فأدلي
وأنشدني له أيضاً:
وصديق جاءني يس ... ألني ماذا لديك
قلت: عندي بحر خمرٍ ... حوله آجام نيك
ومن ملح الإفريقي في غلام تركي:
قلبي أسيرٌ في يدي مقلةٍ ... تركيةٍ ضاق لها صدري
كأنها من ضيقها عروةٌ ... ليس لها زرٌّ سوى السحر
وقوله في معناه من المسرح:
قد أكثر الناس في الصفات وقد ... قالوا جميعاً في الأعين النجل
وعين مولاي مثل موعده ... ضيِّقة عن مراود الكحل
أبو الحسين أحمد بن محمد
بن ثابت البغدادي
أحد الفضلاء الطارئين على تلك الحضرة والمقيمين بها، وله شعر كثير النكت، كقوله وأنشدنيه له أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان:
قال لي من يسرُّه أن يراني ... ناحل الجسم لا أطيق حراكا
قم أضحى يسرُّ وجداً ويذري ... دمعة العين منه سحّاً دراكا
أين من كان واصلاً لك في الصّحة ... حتى إذا اعتللت جفاكا
كلُّ من لم يعدك في حالة السُّق ... م تمنَّى لك الرّدى والهلاكا
حذراً أن يراك يوماً من الده ... ر صحيحاً فيستحي أن يراكا
قلت لا تعجلن فإنّ رحا الده ... ر صحيحاً فيستحي أن يراكا
سوف تبرا ويمرضون وتجفو ... هم فإن عاتبوا فقل ذا بذاكا
كلُّ من لم يعدك في حالة السُّق ... م تمنَّى لك الرّدى والهلاكا
وله:
هي حالان شدَّةٌ ورخاء ... وسجالان نعمةٌ وبلاء
والفتى الحازم اللبيب إذا ما ... خانه الدهر لم يخنه العزاء
إن ألمَّت ملمّةٌ بي فإنّي ... في الملمات صخرةٌ صمّاء
صابرٌ في البلاء طبٌّ بأن لي ... س على أهله يدوم البلاء
فالتداني يتلو النائي والإق ... تار يرجي من بعده الإثراء
وأخو المال ماله منه في دنياهإلاّ مذمَّةٌ أو ثناء
وإذا ما الرجاء أسقط بين الن ... اس فالناس كلُّهم أكفاء
أبو منصور البوشجني
الملقب بمضراب الشعر استغرق أيامه ببخارى يشعر بلا رأس مال في الأدب، وكثيرا ما يأتي بالملح، وجل قوله في الوزراء، فمن ذلك قول:
أبو عليٍّ وأبو جعفرٍ ... ويوسف الهالك بالأمس
ثلاثةٌ لم يك لي منهم ... نفعٌ بدينارٍ ولا فلس
لذاك لم أبك على هالكٍ ... غيِّب منهم في ثرى رمس
وقوله:
نحن بأبواكم حيارى ... وأنتم مثلنا حيارى
فبعضنا يستجير بعضاً ... وبعضنا عندكم أسارى
وكلُّنا من شراب جهلٍ ... بوصف أحوالنا سكارى
وأي عذرٍ لنا فحولٌ ... تعدُّ في جملة العذارى
وقوله:
وكنّا زماناً نذمُّ الزمان ... ونرثي الوزارة بالبلعمي
فأخّرنا العمر حتى انتهت ... من البلعمي إلى البرعشي
وسوف تؤول على ما أره ... من البرعشيّ إلى البرمكي
وقوله:
وكنا نذم الدهر من غير خبرةٍ ... بيوسفه والبلعميِّ وغيره
إلى أن رمانا بالغفاريِّ بعدهم ... وعاندنا في عبده وعزيره
وما قد رعانا في ابن عيسى وزوره ... وفي ابن أبي زيد السفيه وسيره
ولم نرض بالمقدور فيهم فأمنَّا ... بكلِّ كسيرٍ في الورى وعويره
وأنشدني أبو النصر العتبي في أبي الحس العتبي:
قلوب الناس والهةٌ سقاما ... ونفس المجد والهةٌ سقيمه (2/29)
وما فجعت بك الدنيا ولكن ... تركت بفقدك الدنيا يتيمه
الباب الثالث
في ذكر
المأموني والواثقي
ومحاسن أخبارهما وأشعارهما
لما كان أبو طالب المأموني وأبو محمد الواثقي من جملة الطارئين على بخارى والمقيمين ، ومميزين عنهم بشرف المنصب، وكرم المنتسب، وفضل المكتسب - أفردت لهما باباً يتلو الباب المقصور عليهم ليجاوراهم ويقارباهم من جهة، ويفارقاهم ويباعداهم من أخرى:
أبو طالب عبد السلام بن الحسين المأموني
من أولاده المأمون أمير المؤمنين. كان أحد - بل أوحد - أفراد الزمان شرف نفس ونسب، وبراعة فضل وأدب، فياض الخاطر بشعر بديع الصنعة، مليح الصيغة، مفرغ في قلب الحسن والجودة، ولما فارق وطنه بغداد لحاجة في نفسه وهو حدث لم يبقل وجهه ورد الري وامتدح الصاحب بقصائد فرائد ملكه العجب بها، وأبهره التعجب منها، فأكرم مورده ومثواه، وأحسن قراه، ووعده ومناه، فدبت به عقارب الحسدة من ندماء الصاحب وشعرائه، وطفقوا يركبون الصعب والذلول في رميه بالأباطيل، ويتقولون عليه أقبح الأقاويل، فطوراً ينسبونه إلى الدعوة في بني العباس، ومرة يصفونه بالغلو في النصب واعتقاده تكفير الشيعة والمعتزلة، وتارة ينحلونه هجاء في الصاحب يعرب عن فحش القدح، ويحلفون على انتحاله ما أصدر من شعره في المدح، حتى تكامل لهم إسقاط منزلته لديه، وتكدر ماؤه عنده وعليه، وفي ذلك يقول من قصيدة يستأذنه فيها للرحيل أولها:
يا ربع كنت دمعاً فيك منسكباً ... قضيت نحبي ولم أقض الذي وجبا
لا ينكرن ربعك البالي بلى جسدي ... فقد شربت بكأس الحبِّ ما شربا
ولو أفضت دموعي حسب واجبها ... أفضت من كلِّ عضوٍ مدمعاً سرباً
عهدي بعدك للذّات مرتبعاً ... فقد غدا لغوادي السحب منتحبا
فيا سقاك أخو جفن السحاب حياً ... يحبو ربا الأرض من نور الرياض حبا
ذو بارقٍ كسيوف الصاحب انتضيت ... ووابلٍ كعطاياه إذا وهبا
ومنها:
فكنت يوسف، والأسباط، وأبو ال ... أسباط أنت، ودعواهم دماً كذبا
وعصبةٍ بات فيها الغيط متَّقداً ... إذ شدت لي فوق أعناق العدى رتبا
قد ينبح الكلب ما لم يلق ليث شرىً ... حتى إذا ما رأى ليثاً قضى رهبا
أرى مآربكم في نظم قافيةٍ ... وما أرى لي في غير العلا أربا
عدّوا عن الشعر إن الشعر منقصةٌ ... لذب العلاء وهاتوا المجد والحسبا
فالشعر أقصر من أن يستطال به ... إن كان مبتدعاً أو كان مقتضبا
ومنها:
أسير عنك ولي في كلّ جارحةٍ ... فمٌ بشكرك يجري مقولاً ذربا
ومن يردُّ ضياء الشمس إن شرقت ... ومن يردّ طريق الغيث إن سكبا
إني لأهوى مقامي ذي ذراك كما ... تهوى يمينك في العافين أن تهبا
لكن لساني يهوى السير عنك لأن ... يطبق الأرض مدحاً فيك منتخبا
أظنّني بين أهلي والأنام هم ... إذا ترحّلت عن مغناك مغتربا
ثم إنه فارق الري وقدم نيسابور، فأشار عليه أبو بكر الخوارزمي بإنشاء قصيدة في الشيخ أبي منصور كثير بن أحمد يسأله فيها تقرير حاله عند صاحب الجيش أبي الحسن بن سيمجور، فعملها وأوصلها أبو بكر ووشعها من الكلام بما أوقعها موقعها، أولها:
أبى طارق الطيف إلاّ غرورا ... فينوي خيالك أن لا يزورا
فما أكره الطيف في نفسه ... ولكنّني أكره الوصل زورا
إلى الله أشكو منىً في الحشى ... تضمَّن جنباي منها سعيرا
تفارق بي كلَّ يوم خبلا ... وتفجع بي كلَّ يوم عشيرا
فإن تسألاني يا صاح ... بي نص السّرى تجداني خبيرا
ففي كل يوم تراني الركاب ... أفارق ربعاً وأحتلُّ كورا
إذا سرت عن صاحبي قلت عد ... لعودي السنين وخلّ الشهورا
أراني ابن عشرين أو دونها ... وقد طبق الأرض شعري مسيرا (2/30)
إذا قلت قافيةً لم تزل ... تجوب السهول وتطوي الوعورا
ولو كان يفخر ميتٌ بحي ... لكان أبو هاشمٍ بي فخورا
ولو كنت أخطب ما أستحق ... لما كنت أخطب إلاَّ السريرا
ولو سرت صاحت ملوك البلا ... د بين يديّ النفير النفيرا
ولكنّني مكتف باليسير ... إذا سّهل الله ذاك اليسيرا
إذا أكثر الناس شيم الغمام ... فلا شمت في الأرض إلا كثيرا
فتى ملئت بردتاه علاً ... ونبلاً ومجداً وفضلاً وخيرا
إذا ضمّه الدست ألفيته ... سحاباً مطير وبدراً منيراً
وإن أبرزته وغى خلته ... حساماً بتوراً وليثاً مصورا
فطوراً مفيداً وطوراً مبيداً ... وطوراً مجيراً وطوراً مبيراً
ترى في ذراه لسان المنى ... طويلاً وباع الليالي قصير
تضمّ الأسرة منه ذكاً ... وتحمل منه المذكي ثبيرا
إليك من الشعر عذراء قد ... طوت طّيئاً وأجرت جريرا
إذا أنا أنشدتها أفحم الزمان ... و أسمع قولي الصمّ الصخورا
ولو أن أفئدة السامعي ... ن تسطيع شقّت إليّ الصدورا
ولست أحاول مهراً لها ... سوى أن تبلغ أمري الأميرا
فأنت يد ولسان له ... إذا أحدث الدهر خطباً كبيرا
فلا زلتما للعلا معصمين ... تدعى الأمير ويدعى الوزيرا
فلما وقف على صورة حاله أنهاها إلى صاحب الجيش، فاستدعاه وحين وصل إليه استقبله بخطوات مشاها إليه، وبالغ في إعظامه، وأبلغ في إكرامه، ثم خيره بين المقام بنيسابور وبين الانحدار إلى الحضرة بخاري، فأختار الخروج فوصله وزوده من الكتب إلى وزير الوقت وغيره من الأركان، ووكيله بالباب أبي جعفر الرماني، فأحسن موقعه وأثره، وحصل معه وطره ولما دخل بخاري لقي أبا الحسن عبد الله بن أحمد بقصيدته التي منها:
وليل كأنّي فيه إنسان ناظر ... يقلّب في الآفاق جفنيه دانيا
إذا ما أمالتني به نشوة الكرى ... تمايل في كّفي المثقّف صاحياً
وإن ما طمي لجّ المنى بين أضلعي ... تعسفّت لّجاً من دجى الليل طامياً
فأمسى شجاً في ظلمة الليل والجاً ... وأضحى قذفً في مقلة الصبح غادياً
حسامي نديمي والكواكب روضتي ... وبيت السّرى ساقي والسير راجياً
ولما رأى الشيخ الجليل إقامتي ... عليه وتطليقي لديه المهاريا
دعاني وأدناني وقرب منزلي ... ورحّب بي وانتاشني واصطفاينا
همامّ يبكّي المشرفية ساخطاً ... ويضحك أبكار الأماني راضياً
ولو أن بحراً يستطيع ترقياً ... إليه لأمّ البحر جدواه راجياً
وبقصائد غيرها، فتقبله بكلتا اليدين، وأعجب منه بفتى من أولاد الخلافة يملأ العين جمالاً والقلب كمالاً، وواصل صلاته، وخلع عليه، وألحقه في الرزق السلطاني بمن كان هناك من أولاد الخلفاء كابن المهدي وابن المستكفي وغيرهما.
ولما قام أبو الحسن المزني مقام العتبي زاد المأموني إكراماً وإجلالاً وأفضل عليه إفضالاً بسبب مناسبة الآداب التي هي من أوكد الأسباب وأقرب الأنساب.
ولما كانت أيام ابن عزيز وأيام الدامغاني وأيام أبي نصر بن أبي زيد جعل كل منهم يربي على من تقدمه في الإحسان إليه، وإدرار الرزق عليه، وإخراج الخلع السلطانية والحملات بمراكب الذهب له، حتى حسن حاله، وتلاحق ماله، وظهرت مروءته.
فمن شعره في المزني قوله من قصيدة أولها:
أنا بين أحشاء الليالي نار ... هي لي دخان والنجوم شرار
فمتى جلا فجر الفضاء ظلامها ... صليت بي الأقطار والأمطار
بي تحلم الدينا وبالخير الذي ... لي منه بين ضلوعها أسرار
فبكلّ مملكة عليّ تلهف ... وبكلّ معركة إليّ أوار (2/31)
يا أهل ما شطّت برجلي رحلة ... إلا لتسفر عنّي الأسفار
لي في ضمير الدهر سرّ كامن ... لا بدّ أن تستلّه الأقدار
حقنت يداه دم المكارم منذ غداً ... دم كلّ حر فاه وهو جبار
طبعت مزنية منه عضباً ما له ... في غير هامات الأسود قرار
أراؤه بيض الظّبي وحديثه ... روض الربى ويمينه تياّر
ضمّت على الدينا بدائع لفظه ... فكأنّها زند وهنّ سوار
وإذا العلوم استبهمت طرقاتها ... فذووه أعلام لها ومنار
عزماتهم قضب وفيض أكفّهم ... سحب وبيض وجوههم أقمار
ختم الرياسة بالوزارة فيهم ... أسد له السّمر الذوابل زار
ومنها:
يا من إذا طر القبائل شاعر ... صلّت على آبائه الأشعار
فارحم بمنكبك السماء أما ترى ... لسواك في خطط النجوم جوار
والأرض ملكك، والورى لك غلمة ... والدهر عبدك، والعلا لك دار
ومن شعره في أبي محمد عبد الله بن أحمد بن عزيز قوله من قصيدة:
سيخلف جفني مخلفات الغمائم ... على ما مضى من عمري المتقادم
بأرض رواق العزّ فيها مطّنبّ ... على هاشم فوق السّهل والنعائم
يدين لمن فيها بنو الأرض كلّهم ... وتعنو لهم صيد الملوك الأعاظم
ويهماء لا يخطو بها الوهم خطوةً ... تعسّفتها بالمرقلات الرواسم
وقد نشرت أيدي الدجى من سمائها ... رداء عروس نقطت بالدراهم
فخلنا نجوماً في السماء أسنةً ... مذهبةً ما بين بيض صوارم
أعطّ قميصي قسطل ودجنة ... بذات الشكيّم أو بذات العزائم
أيمّم عبد الله نجل محمد ... وزير بني سامان تتميم حاتم
فمن مبلغ أهلي بأنّي واجد ... طلا بي من بحر الندى والمكارم
وأنّي من الشيخ الجليل وظلّه ... مطّنب بيت تحت ظلّ الغمائم
وأنّ عيون الجود طوع أناملي ... تدّفق حولي بالسيول السواجم
لقد عملت أرض المشارق أنّها ... بيمنك قد عادت بليث صارم
وقد أيقنت أن ليس غيرك يرتجى ... لقمع الأعادي أو لدفع المظالم
فلاذت بلا وأن ولا متقاعس ... ولا نأكل عن نصرة الدّين جاثم
ولا تارك رأياً تلّوناً ... ولا قارع عند الندى سنّ نادم
يعمّم بالهنديّ حين يسلّه ... أسود الوغى بالضرب فوق العمائم
ويسهم من أعماله في خيارها ... ويشرك من أمواله في الكرائم
فلا ملك إلاّ ما أقمت عروشه ... ولا غيث إلا ما أفضت لشائم
ولا تاج إلا ما تولّيت عقده ... على جبهة الملك المكنّى بقاسم
أبدر العزيزيين رفقاً فطالما ... كفيت بيض الرأي بيض الصوارم
فرأيك نجم في دجى الخطب ثاقب ... وعزمك غضب في طلى كل ناجم
ومنها:
وقد كان ملك الأرض قد زال نجمه ... فكنت له بالرأي أفضل ناظم
أخذت بضبع الدين حتى رفعته ... إلى حيث لا يسمو له وهم واهم
وكان سرير الملك قبلك باكياً ... فأبدى لنا من خطة ثغر باسم
محوت بما أثبته من ملاحم ... أعدت بها الإسلام كتب الملاحم
فلا زلت للملك الذي قد أعدته ... حمى واقياً من كلّ خطب وداهم
ومن قصيدة أخرى:
سألت الله مبتهلاً مناكا ... فأضعف ما سألت وقال هاكا
وردّ على يديك الملك لماّ ... غدا بالترك ينتهك انتهاكا
فأنت لربّ هذا الملك سيف ... إذا ما نابه خطب نضاكا
وقد أبت الوزارة في بخاري ... سواك كما أبت إلاّ أباكا (2/32)
وكان الصدر منذ أخليت منه ... يمجّ رجاله حتى أحتواكا
وما أخلاه منك الملك إلاّ ... ليبلي من عداك بما بلاكا
فما أغنوا غناءك في فقير ... وهل يغني غناءك من عداكا
وكنت السيف أغمد يوم سلم ... فلما شبت الحرب انتضاكا
وقد كانت على الأعداء أمضى ... وأقضى من سيوفهم رقاكا
ولو نهضت رجال الأرض طرّاً ... بما كلّفت ما أغنوا غناكا
فعلت بعض قولك كلّ فعل ... ونبت بعفو رأيك عن ظباكا
غذيت بدر ضرع العلم طفلاً ... ففقت الخلق في المهد احتناكا
فلا شرب الطلاء ألهاك يوماً ... ولا بيض الطلاء عمّا عناكا
وإن غمّ الممالك ليل خطب ... جلاه صبح رأيك أو سناكا
فأفسح من خطى الخطي قدماً ... إذا أقدمت في حرب خطاكا
وأسمح من ملثّ القطر جوداً ... إذا ما صاب صّيبه نداكا
وما انفتحت بلا، شفتاك يوماً ... ولا انضمّت على نشب يداكا
تأخرّ عن مدك البحر لماّ ... جريت، فلم نسمّيه أخاكا؟
وما جاراك صوب المزن لمّا ... جرى وجرى نداك ولا حكاكا
ولكنّ الغمام عني سجوداً ... على وجه الثرى لك إذا رآكا
فأنت أجلّ قدراً أن تجارى ... وأرفع رتبة من أن تحاكى
وقد سامي السماء وماس زهواً ... على قرع السّهل بلد نماكا
فأهلوه ومن فيه وقار ... لنفسك من جميع من ابتغاكا
فها هم جنّة لك فاغتنمها ... وهم لك جنّة ممّا دهاكا
ومنها:
أكاد إلى العزيز أعزي ... لإلحاقي بهم نفسي اشتباكاً
فلو أجريت لحظك في فؤادي ... رأيت دليل ذاك كما أراكا
أعبد الله لا خيرّت بيتاً ... مدى الأيام إلاّ في علاكا
فكم لك من يد قلّدتنيها ... فلست أرى لها عنّي انفكاكا
ولو حمّلت ما حمّلتنيه ... شمام استطاع به حراكا
وقد ألبستني أثواب عّز ... وقد أوطأت أمضي السّماكا
فحسبك من علا أعليت كعبي ... برفعك فقد بلغ حباكا
سرى كلّ السر في الأرض شعري ... وخّيم إذ أرك فما خطاكا
وكنت على النّور صممت حتى ... منعت فبتّ مبتغياً رضاكا
ولو لم تقتصر حالي الليالي ... لما أدمعت سيراً عن حماكا
وقد سمّيت لي أمرين حسبي ... بعضهما إذا أثرت ذاكا
وإن لم ترض لي بالنجم نعلاً ... ولا خطّ المجرة لي شراكا
فدع ما ترتضيه لنا وخفِّض ... فأنفسنا وما ملكت فداكا
وما استنكفت من جدواك، لمن ... كفاني بذل ودِّك عن لهاكا
ولو كان استماح البحر خلقاً ... لأمّك يستمحيك وانتحاكا
فلا يممت غير ذاك بحراً ... ولا خّيمت إلاّ في ذراكا
ومن شعره في أبي نصر بن أبي زيد من قصيدة وصف فيها داره التي بناها وانتقل إليها عند تقلده الوزارة:
قد وجدنا خطى الكلام فساخا ... فجعلنا النسيب فيك امتداحا
وأفضنا ما في الصدور ففاض المدح ... قبل النسيب فيك انفساحا
وعمدنا إلى علاك فصغنا ... لصدور القريض منها وشاحا
وصدعنا في أوجه الشعر من بيض مساعيك بالندى أو أوضاحا
غّرست في ثرى الصدور عطايا ... ك غروساً أثمر ودّاً صراحا
كم كسير جبرته وفقير ... مستميح رددته مستماحا
وبلاد جوامحٍ رضتها بالعزم حتّى أنسيتهنّ الجماحا
وأمان خرس بسطت لها في القول حتّى أعدتهنّ فصاحا
شهرت منك آل سامان عضباً ... ينجح السعي غربه إنجاحا
أحمدت رتبة الوزارة من أخمد ناراً تجري القنا والصفاحا (2/33)
فلو أن الممالك استنطقت فيه ... لقامت بذكره مداحا
مغرم بالثناء مغرى بكسب الحمد يهتزّ للسماح ارتياحا
لا يذوق الإغفاء إلاّ رجاءً ... أن يرى طيف مستميح رواحا
يا أبا نصر الذي نصر ... الملك فأنسى المنصور والسّفاحا
ضاقت الأرض عنك فارتدت ربعاً ... يسع البحر والحيا والسماحا
وإذا ضاقت المصانع بالسّيل أبي أن يحلّ إلا البطاحا
فهنيئاً منها بدار حوت منك جبالاً من الحلول رجاحا
كونها تؤم الوزارة ممّا ... زاد برهان سعدها إيضاحا
ذات صدر كرحب صدرك قد زا ... د على ظنّ آمليك انفساحا
يغرس الصيد في ذراها من التقبيل غرساً فيجتنبه نجاحا
بفناء نطيل فيه خطى اللحظ ونلقي للفكر فيه انسراحا
بهوها يملأ العيون بهاءً ... صحنها يملأ الصدور انشراحا
شيدها فضة وقرمدها تبر قد امتيح من نداك امتياحا
وثراها من عنبر شيب بالمسك فإن هّبت الصبا فيه فاحا
مقنعات فيها الأساطين من فو ... ق قصخور قد انبطح انبطاحا
كلّ ناد منها قد اتشح الفر ... ش بثوب الربيع فيه اتّشاحا
وأرى بين كلّ نحيين كالرو ... ض خليجاً من البساط مساحا
وسقت ماؤه حدائق غربيه إلى أن غدت به ضحضاحا
صبغة من دم القلوب فمن أبصره اهتزّ صبوة ورايتاحا
ما بكاء الرياض بالظلّ إلاّ ... خجلاً من رياضها وافتضاحا
شابه النقش فرشها مثل ما شا ... به ولدانها دماها الصباحا
وكأنّ الأبواب صحب تلاقين انغلاقاً ثم افترقن انفتاحا
وكأنّ الستور قد نشر الطا ... ووس منها في كلِّ بابٍ جناحا
وكأنّ الجامات فيها شموس ... أطلعتها ذرى القباب صباحا
والسواري مثل السواعد كّبت ... تحتها من أساسها أقداحا
وبيوت كأنّهنَّ قلاع ... مزمعات للنيرات نطاحا
ورواق كأنّما بسطت فيه دعاء أيدي الأساطين راحا
وجنان لو كنت في جنة الفر ... دوس لم أبغ غيرهنّ اقتراحا
وإذا دارت الكؤوس بها أبصرت خلد النعيم ثمّ مباحا
ومنها:
من يدي كلّ ساحر الطرف يجني الورد ... من وجنتيه والتّفاحا
وإذا الزير جاوب الناي ضرباً ... جاوب البلبل الهزار صياحا
في مقام تمحو الهموم به النشوة عنّا وتثبت الأفراحا
تطلع الشّمس أنجماً كلّما هزّ ... ت شموس الطسوس منها رماحا
وضياء السقاة والخمر والكا ... سات فيه قد عطّل المصباحا
وإذا ما المجامر اضطرمت بالجمر أحيت رياحها الأرواحا
فمتى أطعمت أزجّة عطر ... أشرعت من دخانها أرماحا
فهنيئاً منها بجنة عدن ... ضمّنت منك سيداً جحجاها
فاقطع الدهر في ميادينها الفيح اغتباقاً على الحيا واصطباحا
واملأ الفكر من موشحة فيك ولا تولها قلى واطّراحا
فلو أني استوقفت عنياً بما قلت لما اسطاع عن براجي براحا
قال مؤلف الكتاب: رأيت المأموني ببخارى سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة وعاشرت منه فاضلاً ملء ثوبه. وذاكرت أديباً شاعراً بحقه وصدقه وسمعت منه قطعة من شعره، ونقلت أكثره من خطه، وكان يسمو بهمته إلى الخلافة، ويمني نفسه قصد بغداد في جيوش تنضم إليه من خراسان لفتحها، فاقتطعته المنية دون الأمنية، ولما فارقته لم تطل به الأيام بعدي حتى اعتل علة الاستسقاء وانتقل إلى جوار ربه ولم يكن بلغ الأربعين، وذلك في سنة ثلاث وثمانين وثلثمائة.
شعره في الاوصااف والتشبيهات وهذا ما اخترته من شعره في الأوصاف والتشبيهات التي لم يسبق إلى أكثرها.
قال في المنارة:
وقائمة بين الجلوس على شوي ... ثلاث فما تخطو بهن مكانا
على رأسها نجل لها لم تجنّه ... حشاها ولا علته قطّ لبانا
يشرّد في أعلاه كلّ دجنّة ... يشقّ جلابيب الظلام سنانا
وقال في الكرسي:
ومقعدٍ لي و طىء ... يقوم عند قعودي (2/34)
يزهي بصدر فسيح ... رحب و بأس شديد
له رواق أديم ... على سواري حديد
إذا جلست عليه ... خلت الأنام عبيدي
وفيه أيضاً:
ومرتبة من بوادي الملو ... ك بين القيام وبين القعود
تمدّ بساطاً لمستوطىء ... ثبوته عمد من حديد
وفيه أيضاً:
ومستوقف لجلوس الحضور ... على أربع في الثرى موثقه
يمدّ على فرعه مفرشاً ... ويظهر في خصره منطقه
فمن شاء صّيره مقعداً ... ومن شاء صّيره مرفقه
وقال في طست الشمع:
وحديقة تهتزّ فيها دوحة ... لم ينمها ترب ولا أمطار
فصعيدها صفرٌ ونامي غصنها ... شمع وما قد أثمرته نار
وأيضاً:
وطاعنة جلباب كلّ دجنّة ... بماضي سنان في ذؤابة ذابل
تجود على أهل الندامى بنفسها ... وما فوق بذل النفس جود لباذل
ويقري عيون النّاظرين ضياؤها ... وقد قيدت ألحاظها بالأصائل
وقال في النار:
أم القرى عندك أم بوح ... فقد سرى أبوابه اللوح
أم ذات مرط ذهبي لها ... يعقدها في الجوّ تطويح
يسقّني أخت لها دنها ... جسم لها وهي له روح
كأنّها الشمس وما نفّضت ... من شرر عنها المصابيح
وله في الحمام:
وبيت كأحشاء المحب دخلته ... وما لي ثياب فيه غير إهابي
أرى محرماً فيه وليس بكعبة ... فما ساغ إلا فيه خلع ثيابي
بماء كدمع الصبّ في حرّ قلبه ... إذا أذنت أحبابه بذهاب
توهّمت فيه قطعة من جهنم ... ولكنّها من غير مسّ عقاب
يثير ضباباً بالبخار مجلّلاً ... بدور زجاج في شموس قباب
وله في السطل والكرنيب:
لنا من الأسطال سطل ... شأنه عجيب
كالشمس إذ عاجلها ... في الطفل المغيب
كرنيبه كمائح ... وهو له قليب
قبضته سبيكة ... في متنها نحيب
ضرب دمشقيّ فما ... يرى لها ضريب
وله في حجر الحمام:
لحجر الحمّام عندي يد ... ومنّة لست أؤديها
وهو لرجلي صقيل لا يني ... عن طبع في الرجل ينقّيها
كأنّها كورة نحل إذا ... غمّستها في الحبر تشبيها
وفي الليف:
للّيف في تنظيف جسم ... المستحم معجزه
فلا يغور درن ... في الجسم إلاّ أبرزه
كأنّه ذوائب ... قد مشطّت مجرّزه
وفي المنشفة:
منشفة حملها تخال بها ... قد فتّ كافورة على طبق
كأنّما أنبتت خمائلها ... ما ارتشفت من لآلىء العرق
وفي الزنبيل:
وذي أذنين لا يعيان قولاً ... وجوف للحوائج ذي احتمال
تكلّف شغل أهل البيت طراًّ ... وتحمل فيه أقوات العيال
مطيع في الحوائج غير عاص ... ولا شاك إليك من الكلال
تسّر إليه في الأسواق سرّاً ... يبديه إلا في الرحال
وله في كوز أخضر محرق:
وبديعة للرّيم منها جيدها ... حارت عيون الناس في إبداعها
كخريدة في مرط خزّ أخضر ... رفعت يداً لتردّ فضل قناعها
وله في الشرابية:
شمس لها من نفسها أرجل ... ستّ إذا ما شئت أو أربع
تنوء بالكوز لظئر له ... تحضنه الدهر ولا ترضع
وله في الجليد:
حجارة من صنيع الدهر تمتعنا ... ببردها وضرام الغيظ يستعر
كأنّها قطع البلّور ليس بها ... نقب ولا أثر باد ولا كدر
وله في ماء بجليد من الرجز:
ورائق مثل الهواء صافي ... بات بثوب القرَّذي التحاف
حتى نفى عنه القذاة نافي ... فرقّ حتى صار كالسُّلاف
أسرع في الجسم من العوافي ... فيه الجليد راسب وطافي (2/35)
كأنه ودائع الأصداف وله في كأس جلاب من الرجز:
وكأس جلاّب بها يطفي اللهب ... يقضي بها عند الخمار ما وجب
كأنها الفضّة شيبت بالذهب ... تشابه الجليد فيها و الحبب
حسبته دّراً من المسك انسرب ... فبعضه طاف وبعض قد رسب
كأنّما المخوض فيها يضطرب ... حوت يغوص تارةً ثم يشبّ
وفيها:
وكأس من الجلاّب أطفأ بردها ... سعير خمار الكأس عند التهابه
وكانت كبرد العدل عند طلابه ... وعود وصال الحبّ بعد ذهابه
وله في السكنجبين:
ومستنتج ما بين خلّ وسكرّ ... دوائي من دائي به وشفائي
رأيت به في الكأس أعجب منظر ... مذاب عقيق فيه جامد ماء
في الفقاعة:
ورب فقاعة رأيت بها ... ثدي كعوب مسودّ الحلمه
حللت زنارها فأظهر لي ... شهب بزاة تطير عن أكمه
وفي المعنى أيضاً من الرجز:
أجسام صخر دفنت في صخر ... تناسبا واختلفا في البّحر
تحكي ثنايا خفرات غرّ ... تلوح من تحت ثياب خضر
أطرافها قد ضمّخت بالحبر ... كدرّ مفطوم رضاع الدرّ
أقعى على أذنابهن التبري ... إقعاء أسد بصرت بنمر
تفور إن حلّت كفور القدر ... بمثل أحداق جراد خزر
أو مثل أنصاف صغار الذرّ ... أو صارم فيه الفرند يجري
يعلو وينقضّ انقضاض الزهر ... كأنّما الليل انجلى عن فجر
تبدي ذرى هاماتها من جمر ... وما عدا رءوسها قد عرّي
مزنرات لا لدين كفر ... دفائن لا لانقضاء عمر
في تربة من صنع أيدي القرِّ ... قد حنطت أجيادها بالعطر
وحرمت حرم أخيذ الأسر ... دفينها ينشر ميت القبر
وبردها شفاء حرّ الصّدر ... تقسم بالله العظيم القدر
لا أرضعت إلا فطيم الخمر ... فهي شفاء السكر بعد السكر
في الأترج المربى من الرجز:
ورب سوس من الأترج ... متقّد اللون اتقاد السّرج
يعوم من إنائه في مزج ... مجت عليه النحل أيّ مجّ
فقام من رضابها في لجّ ... بظاهر كقطع الخلنج
أو العقار اعتللت بالمزج ... غصّت به فوهاء مثل البذج
سليمة من كلف وسحج ... نقّية كالعاج أو كالثلج
قد خّرطت على قويّ النسج ... حرم ثوب الخيل بالبرطنج
أفضل ما أبغي وما أرجي ... وما أعدّ للطعام الفجّ
وكلّ مأكول بطيء النضج ... وتخم تغصنّي وتشجي
بهر لها كالسائق المزجي ... يوسع ما ضاق لنا من نهج
يبرى من كلّ أذى وينجي ... ويجعل الأفواه ذات أرج
عزاه شاريه إلى الأشجّ ... وخطّه عليه بالتهجّي
جاء به الحجيج بعد الحجّ ... يفرون كل سبسب وفجّ
حتى أتوا منه بما يرجيّ ... فنلت مأمولي به وفلجي
وله في الإهليج المربى:
إهليلج خلناه لما بدا ... يمرح في لجّ من الشّهد
وسائط الجوهر قد ألقيت ... في ماء ياقوت من العقد
وله في الترنجين:
وسكّر ليس من ... السكر المستخرج
أبيض كالكافور أو ... كاللؤلؤ المدحرج
فلو حلفت أنّه ... طرزهّ لم أحرج
فهو غذاء يغتذي وهو شفاء للشجي
ظلّ من السماء يهوي ... فوق نبت العوسج
يسقط مثل اللؤلؤ ... الرطب على الفيروزج
وله في الرطب المعسل في برنية زجاج:
وشفّافة مثل النسيم كأنّها ... مكّونة الأجرام من ريّق القطر
بها من نبات النخل والنحل ملؤها ... يواقيت جمر في مياه التّبر
وله فيه:
وربّ ماء من الشّهد في زكيّ زجاج
فيه يواقيت جمر ... يضمّ قطاع عاج (2/36)
وله في كعاب الغزال في برنية زجاج:
وذات لطف كقطر ضمنّت يققاً ... كأنه البرد الربيع تشيبها
شفّافة من حدائق الزرق قد طبعت ... ومن بياض عيون الحور ما فيها
وفيها أيضاً:
وبيض ظنناهنّ و الجام محدق ... بهنّ كصدر هنَّ فيه فؤاد
أنامل غيد ما وصل براحة ... وأعين عين ما لهنّ سواد
وفيها أيضاً:
وبيضٍ إذا ما لحن في الجام خلتها ... نجوم سماءٍ في سماء زجاج
وإن ضمنتّهن البراني حسبتها ... أسنة سمرٍ في رقيق عجاج
وقال في بنادق القند الخزائني في برنية زجاج:
وأبيض اللون أودعناه صافيةً ... تذيع ما استخفيت فيه وتبديه
كأنّه برد صاغ الهواء له ... من ريّق القطر كيف توقّيه
وقال في أعمدة القند الخزائني:
أنابيب من القند ... على الأطباق مبيضّه
كأنّ الجام كفّ وهي أطراف لها بضه
حكت أعمدة صيغت ... من الثلج أو الفضّه
حكت شهباً غدت في ذ ... لك المجلس منقضّه
شفاء الشارب الظمآ ... ن من أطرافها عضّه
وله في اللوز الرطب:
وافت لتخطر في ثلاث مدارع ... حذاهن في شكل النواظر حادي
توابيت في حصر الخدود تضمّنت ... مكفّن عاج في مصندل لاذي
وله في اللوز اليابس:
ومستجنّ من الجانيين ممتنع ... بحبة لم يحكها كفّ نساج
درّ تضمن من عاج تضمّنه ... والبّر لا البحر أصداف من العاج
وقال في الجوز الرطب:
ومحقق التدوير يعرب نفعه ... من كفّ ومن يجنيه ما لم يكسر
دّر يسوغ لآكليه ضمّه ... صدف تكون جسمه من وعرعر
متدرع في السلم ثوب غلالة ... درعاً مظاهرةً بثوب أخضر
وله في الزبيب الطائفي:
وطائفي من الزبيب به ... ينتقل الشرب حين ينتقل
كأنّه في الإناء أوعية ال ... نحاس لكنّ ملأها عسل
وله:
وقشمش كخزر ... للنظم لم يثقب
يبلى به الكأس لما ... بينهما من نسب
يحظى به الشارب في النادي ومن لم يشرب
كأنّه أوعية ... يحملن ذوب الضّرب
أو لؤلؤ قد علّ ... أعلاه بماء الذهب
وقال العناب:
يروقني العناّب ... فبي إليه انصباب
إذا لاح لي منه أطرا ... ف من أحبّ الرطاب
يحكى فرائد درّ ... لها العقيق إهاب
في الباقلاء الأخضر:
وباقلاء أزهر ... مثل سموط الجوهر
تضمّه أوعية ... من الحرير الأخضر
أوساطه مخطّفة ... مثل خصور ضمّر
أطرافه مذروبة ... مسروقة من أنسر
وطرف كمخلب ... وطرف كمنسر
وله في الباقلاء المنبوت:
وباقلاء عامر طيبها ... من حسنه الناظر مبهوت
كأنّه أقطاع عاج لها ... من خشب الساج توابيت
وله في البطيخ:
محقّقة ملء الكفوف كأنّها ... من الجزع كبرى لم ترض بنظام
لها حلّة من جلّنار و سوس ... مغمّدة بالآس غبّ غمام
تمازج فيها لون صبّ وعاشق ... كساه الهوى و بين ثوب سقام
وأبدي له في النّحر تخضير كاعب ... علامته ذات اعتدال قوام
رياضيّة مسكيّة عسلّيةّ ... لها لون ديباج وعرف مدام
إذا فصّلت للأكل حاكت أهلة ... وإن لم تفصل فهي بدر تمام
وله في البطيخ الهندي:
ومبيضة فيها طرائق خضرة ... كما اخضر مجرى السيل في صيب الحزن
كحقة عاج ضّببت بزبرجد ... حوت قطع الياقوت في عطن القطن
وله في الكمثرى:
وضرب من ثمار الصيف يحكي ... وقد طلعت لنا منه نجوم