صدر هذا الكتاب آليا بواسطة الموسوعة الشاملة
(اضغط هنا للانتقال إلى صفحة الموسوعة الشاملة على الإنترنت)


الكتاب : يتيمة الدهر
المؤلف : الثعالبي
مصدر الكتاب : الوراق

[ الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع ]

وكتب إلى عضد الدولة عند مقدمه من الزيارة بالكوفة قصيدة منها:
أهلاً بأشرف أوبة وأجلها ... لأجل ذي قدم يلاذ بنعلها
فرشت لك الترب التي باشرتها ... بشفائها من كهلها أو طفلها
لم تخط فيها خطوة إلاّ وقد ... وضعت لرجلك قبلة من قبلها
وإذا تذلّلت الرقاب تقرُّباً ... منها إليك فعزّها في ذُلّها
وله من قصيدة:
لا تحسب الملك الذي أوتيته ... يفضي وإن طال الزمان إلى مدى
كالدوح في أفق السماء فروعه ... وعروقه متولّجات في النّدى
في كل عام تستجد شبيبةٌ ... فيعود ماء العود فيه كما بدا
حتى كأنك دائر في حلقة ... فلكية في منتهاها المبتدا
؟وكتب إلى الوزير أبي عبد الله بن سعدان:
ثنائي لو طولته لك قاصر ... وطولك لو قصرته لي باهر
فكيف نهوضي حين لا أبلغ المدى ... بجهدي وعفو الجود لي منك غامر
وما زلت من قبل الوزارة جابري ... فكن رائشي إذ أنت ناه وآمر
أمنت بك المحذور إذ كنت شافعاً ... فبلغني المأمول إذ أنت قادر
لعمري لقد نلت المنى بك كلّها ... وطرفي إلى نيل المنى بك ناظر
كأن عكس قول محمد بن أبي يزيد المهلبي:
بلغت الذي قد كنت آمله بكم ... وإن كنت لم أبلغ لكم ما أؤملُ
وكتب إلى الصاحب:
لما وضعت صحيفتي ... في بطن كفّ رسولها
قبّلتها لتمسّها ... يمناك عند وصولها
وتود عيني أنّها ... قرنت ببعض فصولها
حتى ترى من وجهلك ال ... ميمون غاية سولها
وله قصيدة:
نعم الله كالوحش وماتأ ... لف إلا الأخاير النساكا
نفرتها آثار قوم وصيّر ... ت لها البِرَّ والتُّقى أشراكا
وله في عبد العزيز بن يوسف:
أبو القاسم العزيز بن يوسف ... عليه من العياء عينٌ تراقبه
روى ورعى لما روى قول قائل ... وشبع الفتى لؤمٌ إذا جاع صاحبه
؟وقال لبعض الوزراء:
أنت الوزير الذي الدنيا تناط به ... وأهلها تبعٌ من دونه خول
تظل بالعز ملء الأرض أجمعها ... كأنك النَّصل والدنيا لك الحلل
ما أخرج من شعره في التهاني والتهادي
كتب إلى عضد الدولة قصيدة يهنيه بالفطر. منها:
لم أطوّل في دعوتي لمليك ... طوّل الله في السلامة عمره
بل تلطفت باختصار محيط ... بالمعاني لمن تأمل أمره
فهي مثل الحروف من عند الهن ... د قليل قد انطوت فيه كثره
جمع الله كل دعوة داع ... مستجاب دعاؤه فيك صبره
وأعاد العيد الذي زاره العا ... م بأمر يحوزه مسره
وأراه الآمال فيه ولقا ... ه سعادته ووفاه أجره
وله من قصيدة يهنيه بالفطر. منها:
يا ماجداً يده بالجود مفطرة ... وفوه من كل هجر صائم أبدا
اسعد بصومك إذ قضيت واجبه ... نسكاً ووفيته من شهره العددا
واسحب بذا العيد أذيالاً مجددة ... واستقبل العيش في إفطاره رغدا
وانعم بيومك من ماصٍ قررت به ... عيناً ومنتظر يفضي إليك غدا
وفز بعمرك ممدوداً وملكك مو ... طوداً ونل منهما الحد الذي بعدا
حتى ترى كرة الأرض البسيطة في ... يمناك مملوءة أرجاؤها رشدا
وخولك الفلك الدوار متبعاً ... أوطار نفسك لا يألوك مجتهدا
وله في الوزير المهلبي قصيدة عيدية:
أسيدنا هنئت نعماك بالفطر ... ووقيت ما تخشاه من نوب الدهر
مضى الصوم قد وفيته حق نسكه ... ووفاك مكتوب المثوبة والأجر
كلفت بذكر الله فيه فلا تزل ... من الله فيما ترتجيه على ذكر

(1/251)


هجرت هجود الليل فيه تهجداً ... وصبراً على طول القراءة للفجر
فلو نطقت أيامنا باعتقادها ... لناجتك لفظاً بالدعاء وبالشكر
وللفطر رسم للسرور وسنّة ... ومثلك من أحيا لنا سنة الفطر
ولا بد فيه من سماع وقهوة ... نقضي بها الأوطار من لذة السكر
نواصل قصفاً بين يوم وليلة ... دراكاً فنستوفي الذي فات في الشهر
فمر بالذي نبغي وكن عند ظننا ... فلا زلت فينا نافذ النهي والأمر
وعاد إليك العيد حتى تمله ... بأقصر يوم طاب في أطيب العمر
أخذه من قول ابن الرومي:
وليطل عمرك مسرو ... راً بأيام قصار
وله في بعض الوزراء:
بصوم الوزير الدهر عن كل منكر ... وليس لهذا الصوم عيد ولا فطر
ويفطر بالمعروف والجود والندى ... وليس لهذا الفطر صوم ولا حظر
فأكرم به من صائم مفطر معا ... توافى لديه الأجر والحمد والشكر
وله:
إذا دعا الناس في ذا العيد بعضهم ... لبعضهم وتمادى القول واتسعا
فصير الله ما من فضله سألوا ... فيه لسيدنا الأستاذ مجتمعا
حتى يكون دعائي قد أحاط له ... بكل ذلك مرفوعاً ومستمعا
وله في المطهر بن عبد الله:
عيد إليك بما تحب يعود ... بطوالع أوقاتهن سعودُ
متباركات كل طالع ساعة ... يوفي على ما قبله ويزيد
يأتيك من ثمر المنى بغرائب ... معدومها لك حاصل موجود
قضيب شهر الصوم بالنسك الذي ... هو منك معروف له معهود
أكثرت فيه من تهجد خاشع ... ما يطمئن بمقلتيه هجود
فاشرب وسق عصابة قد مسها ... عطش وجهد في الصيام جهيد
أرويتها جوداً فرو مشاشها ... راحاً فمنك الجود والناجود
وتمل عيشك في سرور دائم ... سرباله أبداً عليك جديد
وقوله:
يا سيداً أضحى الزما ... ن بأسره منه ربيعا
أيام دهرك لم تزل للناس ... أعياداً جميعا
حتى لأوشك بينها ... عند الحقيقة أن يضيعا
فاسلم لنا ما أشرقت ... شمس على أفق طلوعا
واسعد بعيد ما يزا ... ل إليك معتقداً رجوعا
وله من قصيدة في عضد الدولة:
إسلم ودم للرتبة العلياء ... وتمل ملكك في أمد بقاء
واستقبل العيد الجديد بغبطة ... ومسرة وزيادة ونماء
وكفاك من نحر الأضاحي فيه ما ... نحرت يمينك من طلا الأعداء
بهم تعفر كالبهائم جعجعت ... أشلاؤها في حومة الهيجاء
حرمت مأكلها علينا واغتدت ... حلاً لوحش القفر والبيداء
هذي مناسكك التي قضيتها ... بالسيف أو بالصعدة السمراء
ووراء ذلك للعفاة منائح ... هطلت هطول الديمة الوطفاء
ومواهب ومناقب ومفاخر ... ومآثر أوفت على الإحصاء
وقوفه من أخرى:
صل يا ذا العلا لربك وانحر ... كل ضد وشانئ لك أبتر
أنت أعلى من أن تكون أضاحي ... ك قروماً من الجمال تعفر
بل قروماً من الملوك ذوي السؤ ... دد تيجانها أمامك تنثر
كلما خر ساجداً لك رأس ... منهم قال سيفك الله أكبر
وكتب إلى الشريف الموسوي في الأضحى:
مرجيك وصابيك ... بذا الأضحى يهنيكا
ويدعو لك والله ... مجيب ما دعا فيكا
وقد أوجز إذ قال ... مقالاً وهو يكفيكا
أراني الله أعداء ... ك في حال أضاحيكا
وكتب إلى صمصام الدولة يهنئه بالأضحى:
يا سنة البدر في الدياجي ... وغرة الشمس في الصباحِ
صمصام حرب وغيث سلم ... ناهيك في البأس والسماح

(1/252)


اسعد بفطر مضى وأضحى ... وافاك باليمن والنجاح
وانحر أعادي بني بويه ... بالسيف في جملة الأضاحي
فالكل منهم ذوو قرون ... يصلح للذبح والنطاح
وكتب في يوم مهرجان مع اصطرلاب إلى عضد الدولة:
أهدي إليك بنو الآمال واحتفلوا ... في مهرجان جديد أنت مبليهِ
لكن عبدك إبراهيم حين رأى ... علو قدرك عن شيء يدانيه
لم يرض بالأرض مهداة إليك فقد ... أهدي لك الفلك الأعلى بما فيه
وكتب إليه مع زيج أهداه:
أهديت محتفلاً زيجاً جداوله ... مثل المكاييل يستوفي بها العمرُ
فقس به الفلك الدوار وأجركما ... يجري بلا أجل يخشى وينتظر
وكتب إليه في يوم نيروز مع رسالة هندسية من استخراجه:
أيا ملك الأرض الذي ليس بينه ... وبين مليك العرض مثل يقارنه
رأيت ذوي الآمال أهدوا لك الذي ... تروق العيون الناظرات محاسنه
وحولك خزان يحوزونه وما ... له منك إلا لحظ طرف يعاينه
ولكنني أهديت علماً مهذباً يروق العقول الباحثات بواطنه
وخير هدايانا الذي إن قبلته ... فليس سوى تامور قلبك خازنه
وكتب إليه من الحبس، وقد أهدى إليه درهمين خسروانيين وكتاب المسالك والممالك في دفترين:
أهدي إليك بحسب حا ... لي في الخصاصة درهمينِ
وبحسب قدرك دفتري ... ن هما جميع الخافقين
فإذا فتحتهما رأي ... ت بيان ذاك بلحظ عين
وكتب إليه من الحبس مهرجانية مع درهم خسرواني وجزء من كتاب:
تصبح بعز واعتلاء جدود ... وابشر بخير واطراد سعودِ
وقل مرحباً بالمهرجان وحيه ... بطلعة بسام أغر مجيد
له زورة في العام ما زال يومها ... كفيلاً بحظي سيد ومسود
فيحظى بفخر من علاك مجدد ... وتحظى بعمر في مداه جديد
تراه إذا ما جاء طامح مقلة ... إليك وإن ولى فثاني جيد
أتتك الهدايا فيه بين موفر ... على قدر المهدى وبين زهيد
فبان على يمناك حين مددتها ... تكلف فياض اليدين مفيد
تقاعس عن بسط القبول ولم تكن ... لها عادة إلا ببسطة جود
ولكن إذا أهدى لك الله نعمة ... مددت لها كفيك مد رشيد
وقد نزلت منه إليك هدية ... بجرجان ما محصولها ببعيد
وما بيننا إلا المسافة فانتظر ... ورود بشير فوق ظهر بريد
ولما رأيت الله يهدي وخلقه ... تجاسرت واستفرغت جهد جهيد
فكان احتفالي في الهدية درهماً ... يطير من الأنفاس يوم ركود
وجزءاً لطيفاً ذرعه ذرع محبسي ... وتقييده بالشكل مثل قيودي
ألاطف مولانا وكالماء طبعه ... تسلسل من عذب النطاق برود
زلالاً على المستعطفين وجلمداً ... على كل عريض ألد مريد
وكتب إليه في يوم نيروز:
تهن بهذا اليوم واحظ بخيره ... وكن أبداً بالعود منه على وعد
أرى الناس يهدون الهدايا نفيسةً ... إليك ولم يترك لي الدهر ما أهدي
سوى سكر يحلو لك العيش مثله ... وآسٍ أخي عمر كعمرك ممتد
وبينهما من ضرب قومك درهم ... وأبيات شعر من ثنائي ومن حمدي
فإن كنت ترضى ما به انبسطت يدي ... وتقبله مني فهذا الذي عندي
وكتب إليه:
تعذر ديناري علي ودرهمي ... فلاطفت مولانا ببيتين من شعري
وكم بيت شعر زاد بالشكر قدره ... على بيت مال من لجين ومن تبر
وكتب إلى صمصام الدولة:
دامت لمولانا سعادته ... موصولة دائمة تترى
ونال ما أمل من ربه ... في هذه الدار وفي الأخرى

(1/253)


وزاده النيروز في ملكه ... عزاً وفي دولته نصرا
لما رأيت الناس لم يتركوا ... فيما ادعوا نظماً ولا نثرا
أعملت فكري في دعاء له ... يجمع ما جاءوا به طرا
فقلت بيتاً واحداً كافياً ... لم يعد في مقداره سطرا
لازالت الدنيا له منزلاً ... يأويه والدهر له عمرا
وكتب إليه مع اصطرلاب أهداه:
يعزّ على أن أهدي نحاساً ... إلى من فيضٌ راحته نضارُ
ولكنّ الزمان اجتاح حالي ... وأنت عليه لي إذ جار جار
تب إلى بعضهم مع فنجان صفر:
نهدي النحاس إلى مولى أنامله ... تهدي النضار إلى العافين منتهباً
وكان يلزمنا لو لا التعذّر أن ... يكون إهداؤنا من عين ما وهبا
لكن بعدي ن جدواه أصفرني ... من كل خيرٍ فصار الصفر لي نشبا
وسوف أظفر من أخلاط نائله ... بالكيمياء فيضحي صفرنا ذهبا
فليبسط الآن عذراً لست أسأله ... في قابل إن أنل من خدمةٍ سببا
فقد جرى الماء في عودي بدولته ... وكان من قبله مستيبساً حطبا
وأقبلت نحوي الآمال آتية ... من بعدما أزمعت من ساحتي هربا
وكتب في يوم نيروز وقد أهدى بطيخة إلى كافور:
أسعد وزير الملك بالنيروز ما ... سجعت مطوقة على أعوادها
وافى فأنجز وعد عام أول ... بميامين ستكر من ميعادها
تهدي إليك به هدايا كلها ... من راحيتك حقيقة استمدادها
فتمدّ كفّاً نحوها نشأت على ... إرقاد أيدي الناس لا استرفادها
عاداتها إعطاء ما قد أعطيت ... أكرم بعادتها وبالمعتادها
ولقد طلبت فلم أجد شيئاً سوى ... كافورة لم آل في إعدادها
وبديع أبياتٍ إذا هي أنشدت ... نفقت بضاعتها على نقّادها
فالصبح من تلك ابيضاض أديمها ... والليل من هذي اعتكار مدادها
ولو أنني مكّنت من عيني التي ... هي بعض حقك يا معيد رقادها
لسكبت كافوري بشحم بياضها ... وكتبت أبياتي بذوب سوادها
وكتب إلى المطهر بن عبد الله بهنئه باليوم الأجود:
نل المنى في يومك الأجود ... مستنجحاً بالطالع الأسعد
وارق كمرقى زحل صاعداً ... إلى المعالي أشرف المصعد
وفض كفيض المشتري بالنّدى ... إذا اعتلى في برجه الأبعد
وزد على المريخ سطواً بمن ... عاداك من ذي نخوةٍ أصيد
واطلع كما تطلع شمس الضحى ... كاسفة للحندس الأسود
وخذ من الزهرة أفعالها ... في عيشك المقتبل الأرغد
وضاه بالأقلام في جريها ... عطارد الكاتب ذا السؤدد
وباه بالمنظر بدر الدجى ... وأفضله في بهجته وازدد
واسلم على الدهر ولا تخش من ... مكروهه الرائح والمعتدي
ذا مهجة آمنةٍ لللادي ... ما أمّنته مهجة الفرقد
وكتب إلى بعض الرؤساء يهنئه بخلعه سلطانية:
قرمٌ علته ملابس العلياء ... فعلا على النظراء والأكفاء
أهدت إليّ سرورها مثل الذي ... أهدي مساءتها إلى الأعداء
ومن العجائب أنّني هنأته ... وأنا المهنأ فيه بالنعماء
لا زال يفترع المراتب صاعداً ... حتى يجوز محلَّة الجوزاء
وكتب إلى الوزير أبي نصر سابور بن أردشير يهنئه بالخروج من الأستتار:
صح أنّ الوزير بدرٌ منير ... إذ توارى كما توارى البدور
غاب لا غاب ثم عاد كما كا ... ن على الأفق طالعاً يستنير
لا تسلني عن الوزير فقد نب ... ئت بالوصف أنّه سابور
لا خلا منه صدر دستٍ إذا ما ... قرَّ فيه تقرُّ منه الصدور
وكتب إليه وقد أعيد إلى الوزارة بعد أن صرف عنها:
قد كنت طلقت الوزارة بعدما ... زلت بها قدم وساء صنيعها

(1/254)


فغدت لغيرك تستحيل ضرورة ... كيما يحل إلى ذراك رجوعها
فالآن آلت ثم آلت حلفةً ... أن لا يبيت سواك وهو ضجيعها
ما أخرج من شعره في الهجاء
قال:
يا جامعاً لخلال ... قبيحة ليس تحصى
نقصت من كل فضل ... فقد تكاملت نقصا
لو أن للجهل شخصاً ... لكنت للجهل شخصاً
وقال:
أيها النابح الذي يتصدّى ... بقبيح يقوله لجوابي
لا تؤمل أنّي أقول لكَ اخسأ ... لست اسخو بها لكلّ الكلاب
وقال:
يا ذا الذي صام عن الطعم ... ليتك قد صمت عن الظلم
هل ينفع الصوم أمرأً ظالماً ... أحشاؤه ملأى من الإثم
وقال:
أبو الفضل إذا يحص ... ل فيما بينا فضل
وما نؤثر أن يدخ ... ل في شطرنجنا بغل
وقال في إنسان ساقط لبس عمامة سرية:
يا من تعمّم فوق رأس فارغ ... بعمامة مرويةٍ بيضاء
حسنت وقبّح كل شيءٍ تحتها ... فكأنها نور على ظلماء
لما بدا فيها أطلت تعجبي ... من شر شيء في أجلّ إناء
لو أنني مكنت مما اشتهي ... وأرى من الشهوات والآراء
لجعلت موضعها الثرى وجعلتها ... في رأس حرّ من ذوي العلياء
وقال:
ألا قل لأهل الدولة النذلة التي ... ثوى داؤها فينا وأعيا دواؤها
لقد كبت الدنيا على أم وجهها ... فنحن لها أرض وأنتم سماؤها
فلا تفلحوا بالحظّ منها فإنه ... قليل على هذا المحال بقاؤها
وقال:
وراكب فوق طرف ... كأنّه فوق طرفي
له قذالٌ عريض ... يجل عن كل وصف
يذوب شوقاَ إليه ... نعلي وخفّي وكفِّي
وقال:
قرنُ ابن هاورن قد تمادى ... علوه فالغيور غيرهُ
فكاشفته البظراء جهراً ... بفسقها حين قل خيره
خلت به للنكاح يوماً ... فقام حرها ونام أيره
وقال:
يبدي اللواط مغلطاً وعجانه ... أبداً لأعراد الورى مستهدف
فكأنه ثعبان موسى إذا غدا ... لحبالهم وعصيهم يتلفف
وقال:
يا رب علج أعلج ... مثل البعير أهوج
ذي فيشة عظيمة ... إن دخلت لم تخرج
رأيته مطلعاً ... من خلف باب مرتج
وتحته دنيّةٌ ... تذهب طوراً وتجي
فقلت: فاضي أيدجٍ؟ ... فقال قاضي أيدج
وقال في رئيس أمرد:
وأرعن من سكر الحداثة ما صحا ... دفعنا إلى تعظيمه وهو ما التحى
له همّة لكنّها في حتارة ... فما يطلب العلياء إلا لنكحا
فلو أن ما قاسى من الأير دبره ... يقاسيه من سير المعلم أفلحا
وقال في إنسان شريف الأصل وضيع النفس:
قل للشريف المنتمي ... للغرّ من سرواته
آبائه وجدوده ... والزهر من أماته
وهو الوضيع بنفسه ... وعيوبه وهناته
والظاهر السوءات في ... أخلافه وصفاته
لا تجرين من الفخا ... ر إلى مدى لم تاته
شاد الألى لك منصباً ... قوضت من شرفاته
وأبوك متصل به ... لعققتهم ببتاته
إن الشريف النفس لي ... ست تلك من فعلاته
والعود ليس بأصله ... لكنه بنباته
والماء يفسد إن خلط ... ت أجابه بفراته
وأحق من نكسبه ... بالصفع من درجاته
من مجده من غيره ... وسفاله من ذاته
وقال في هجاء أبخر:
إني بليت بقرنان يساررني ... سيّان عندي مجشاه ومفساه
القبر نكهته، والسمّ ريقته ... والموت عشرته، والبخر نجواه
وفي المعنى:
في أبي الفضل من النق ... ص ضروب وصنوف
رجلٌ في وعده خل ... فُ، وفي فيه خلوف

(1/255)


فإذا قاوضك القو ... ل فقد فاض كنيف
وقال:
لم تر العين أبخراً ... كابن نصرٍ ولا ترى
مدخل الخبز منه أخ ... بث من مخرج الخرى
وقال:
قد أبصرت عيني العجائب كلّها ... ما أبصرت مثل ابن نصر أبخر
ما شم نكهته أمرؤ متعطرٌ ... إلا استحال مخاطه منها خرى
وقال:
نطق ابن نصر فاستطارت جيفة ... في الخافقين لنتن فيه الفاسد
فكأن أهل الأرض كلّهم فسوا ... متواطئين على اتفاق واحد
وقوله:
يا ابن نصرٍ ته ما شئت بالبخرة ... إذا بلغتك حالاً شريفه
لك في الناس مثل معجزة الخض ... ر، وإن كنت منه بئس الخليفة
لا يشمون حين تجتاز طيباً ... ويشمون حين تجتاز جيفة
وقال:
ما مرّ بي في عمري ... مثل سرار القنطرى
مكّنته من أذني ... فبال فيها وخرى
وقال من قصيدة لأبي الفضل الشيرازي يوصيه بغلمانه ويعلمه بحالهم ويذره من شخص عرض به:
نبّ هذا التيس نبّا ... وعلى الغلمان هبّا
كلّما نادى غزالاً ... منهم للنيك لبّى
ما رأينا قبل هذا ... رشأ طاوع كلبا
ليس فيهم صغير ... وكبير يتأبّى
وغدت دار أبي الفض ... ل لهذا التيس زربا
وهو يزداد على ذا ... ك به ضناً وعجبا
يا أبا الفضل استمع نص ... ح امرئ يصفيك حباً
سرح غلمانك للسر ... حان قد أصبح نهبا
ما أخرج من شعره في الشعر
قال:
أحبّ الشعر يبتدع ابتداعاً ... وأكره منه مبتذلاً مشاعا
ولي رأي غيور في المعاني ... فما آتي بها إلاّ افتراعا
وقدماً كانت الأبكار أحظى ... من العون التي انتهبت شعاعاً
وقال:
رب شعر أطاله طول معنا ... ه وإن قلَّ لفظه حين يروى
وطويل فيه الكلام كثير ... فإذا ما استعدته كان لغواً
عرض البحر وهو ماء أجاج ... وقليل المياه تلقاه حلوا
وقال:
لقد شان شأن الشعر قوم كلامهم ... إذا نظموا شعراً من الثلج أبردُ
فيا رب إن لم تهدهم لصوابه ... فأضللهم عن وزن ما لم يجودوا
وقال من قصيدة في الصاحب:
لو تراخيت عن مديحك لاستج ... ررت من كلّ نعمة لك هجوا
فتأمل وانظر إليه إذا ما ... طبق الخافقين حضراً وبدوا
كيف تحدو به عفاتك حدواً ... ثم تشدو به قيانك شدوا
ما أخرج من شعره في العتاب
قال من قصيدة:
وأيامٍ تعدّ عليّ عدّا ... وحظيّ من رغائبها يفوتُ
يظنّ الناس لي فيها ثراء ... وحسبي من ظنون الناس قوت
كأنّي من تخاصمهم مكينٌ ... وحالي من خصاصتها تموت
ولم آل اجتهاداً واحتفالاً ... ولكنْ أعيت الحيل البخوت
إذا رام الكريم شكاة بثَّ ... فغايته التحمّل والسكوت
وقال من قصيدة في عبد العزيز بن يوسف:
كفاني علاء حين أفخر أننّي ... أضاف إلى عبد العزيز وأنسبُ
حنته عليَّ الحانيات فصرت في ... كفالته كالابن وهو له أب
فها أنا كالأولاد والفرع أشمط ... وها هو كالآباء والفرع غيهب
ومنها:
عممتم جميع الناس حسناً لمحسن ... وعفواً لذي جرم فغيثوا واخصبوا
فما بال إبراهيم إذ ليس قبله ... وليٌّ عراقيّ غداً وهو مجدب
مجليهم في حلبة أرسلوا ... وسكيتهم في رتبة حين رتبوا
ومالك يا عيني البصيرة غمضت ... جفونك عني حين أبكي وأندب
وكيف استطبت العيش في ظل نعمة ... غلامك عنها بالعراء يعذّب

(1/256)


أتضرب صفحاً وادع الجأش ساكنا ... وجنبي على رمضائه يتضرّب
متى لم يكن ترياق جاهك ضامناً ... نجاتي إذا دبت إلى الحال عقرب
و مالي إذا لم أسق ريّاً من الحيا ... ولم ترو مني غلة الروح أخصب
ولكنه التقويم إن كان طعمه ... أمرّ فعقباه الحميدة تعذب
ومن ذا الذي أهلتموه لنكبة ... تقومه إلا العذيق المرجّب
إذا منصلٌ بالغتم في صقاله ... فما هو إلا المشرفي المجرب
ولم تشحذوا حديه حيفاً وإنمّا ... تريدون أن تسطوا به وهو مقضب
تجرّعت هذا الشري كالأري عالماً ... بأن سوف يحلو لي جنى فيه طيب
ويا سوء حالي لو جريت لديكم ... بمجرى الذي لا يصطفي فيهذب
فصبراً على بؤسي قليلٌ بقاؤها ... لنعمى لنا فيها مراد ومرحب
لئن غمني التأنيب فيكم وساءني ... لقد سرّني أن كنت ممن يؤنب
وعلمي باستحكام حقي لديكم ... يحقق ظنّي إنّ جرمي سيوهب
وإنك للحر الذي لي عنده ... وديعة ودِّ خيرها مترقب
وقال:
صديق لكم يشكو إليكم جفاكم ... وفي قلبه داء من الشوق قاتل
تناسيتموه وهو للعهد ذاكر ... وللغيب مأمون وللحبل واصل
يقول لكم والوجد بين ضلوعه ... مقيم وقد جمت عليه البلابل
أكابرنا عطفاً علينا فإننا ... بنا ظمأ برح وأنتم مناهل
وقال:
ومن الظلم أن يكون الرضا س ... راً ويبدو الإنكار وسط النادي
ومن العدل أن يشاع بهذا ... مثل ما شاع ذاك في الإشهاد
كي يسرّ الصديق بالعفو عنّي ... مثل ما سر بالنكير الأعادي
ما أخرج من شعره في الشكوى والحبس
قال:
قد كنت أعجب من مالي وكثرته ... وكيف تغفل عنه حرفة الأدب
حتى انثنت وهي كالغضبى تلاحظني ... شزراً فلم تبق لي شيئاً من النشب
فاستيقنت أنّها كانت على غلط ... فاستدركته وأفضت بي إلى الحرب
الضب والنون قد يرجى التقاؤهما ... وليس يرجى التقاء اللّب والذهب
وقال أيضاً:
كأنّ الدهر من صبري مغيظ ... فليس تغبنّي منه الخطوب
يحاول أن تلين له قناتي ... ويأبى ذلك العود الصليب
ألاقي كل معضلة نآدٍ ... بوجه لا يغيره القطوب
وأعتنق العظيمة إن عرتني ... كأنّ قد زارني منها حبيب
وبين جوارحي قلب كريم ... تعجب من تماسكه القلوب
تلوح نواجذي والكأس شربي ... وأشربها كأنّي مستطيب
ففوق السرّ لي جهرٌ ضحوك ... وتحت الجهر لي سر كئيب
سأثبت إن يصادمني زماني ... بركنيه كما ثبت النجيب
وأرقب ما تجيء به الليالي ... ففي أثنائه الفرج القريب
وقال:
قاسيت من دهري سفيهاً ... ما إن رأيت له شبيهاً
ثبتت نصال سهامه ... في ثغرة لي تنتحيها
فكأنني استقبلته ... بمقاتلي إذ أتّقيها
وقال:
إذا لم يكن يدٌ من الموت للفتى ... فأروحه الأوحى الذي هو أسرع
وما طال عمر قط إلاّ تطاولت ... بصاحبه روعات ما يتوقع
فكن عرضاً بالعيش لا تغتبط به ... فمحصوله خوفٌ وعقباه مصرع
وقال:
إذا جمعت بين امرأين صناعة ... وأحببت أن تدري الذي هو أحذق
فلا تتفقد منهما غير ما جرت ... به لهما الأرزاق حين تفرّق
فحيث يكون النقص فالرزق واسع ... وحيث يكون الفضل فالرزق ضيّق
وقال:
عهدي بشعري وكلّه غزل ... يضحك عنه السرور والجذل
أيام همّي بحبة بهم ال ... قلب عن النائبات مشتغل
فالآن شعري في كلّ داهية ... نيرانها في الضلوع تشتعل

(1/257)


أخرج من نكبة وأدخل في ... أخرى فتحسبي بهن متصل
كأنها سنة مؤكدة ... لا بد من أن تقيمها الدول
فالعيش مرٌّ كأنه صبرٌ ... والموت حلو كأنّه عسل
وقال في الاستتار من قصيدة:
ليس لي منجد على ما أقاسي ... من كروبي سوى العليم السميع
دفتري مؤنسي وفكري سميري ... ويدي خادمي وحلمي ضجيع
ولساني سيفي وبطني فريضي ... ودواتي عيني ودرجي ربيعي
أتعاطى شجاعة أدّعيها ... في القوافي لقلبي المصدوع
بمقالٍ أعزَّ من ليث غاب ... وفعال أذلّ من يربوع
كلما هرّ في جواري هرَّ ... كاد ينقضي إلى فؤادي المروع
وإذا اجتاز في السطوح فمنقبل قبوع الجرذان منه قبوعي
وكتب من الحبس قصيدة منها:
كتبتُ أقيك السوء من محبس ضنك ... وعين عدوي رحمة منه لي تبكي
وقد ملكتني كفُّ فطٍّ مسلّطٍ ... قليل التقى ضار على الفتك والإفك
صليت بنار الهم فازددت صفوة ... كذا الذهب الإبريز يصفو على السبك
؟وكتب إلى صديق له وهو محبوس:
نفسي فداؤك غير معتدٍّ بها ... إذ قد مللت حياتها وبقاءها
ولو أنّ لي مالاً سواها لم أكن ... أرضى لنفسك أن تكون إزاءها
لكن صفرت فلم أجد إلا التي ... قد آن لي أن أستطيل ذماءها
فإذا شكرت لمن فداك فإنّني ... لك شاكرٌ أن قد قبلت فداءها
وكأنني المفديُّ حين أرحتني ... من نائبات ما أطيق لقاءها
وكتب وهو في الحبس إلى أبي العلاء صاعد بن ثابت:
أيها السيد قد كن ... ت إلى الوصل تسارعُ
وتراعينا ببر ... موالٍ متتابع
فلماذا قد تسربل ... ت لنا سربال قاطع
نحن كالنسرين في الصحبة ... لكنّي واقع
وعلى الطائر أن يغشى ... أخاه ويطالع
وكتب إلى قاضي القضاة أبي محمد بن معروف، وقد كان زاره في معتقله رقعة هذه نسختها: لقد قوي دخول سيدنا قاضي القضاة إلى نفسي، وجد أنسي. وأعزب نحسي، ووسع حبسي. فدعوت الله تعالى بما قد ارتفع إليه، وسمعه له.فإن لم أكن أهلاً لأن يستجاب مني، فهو أيده الله أهل لأن يستجاب فيه، وأقول مع ذلك:
دخلت حاكم حكام الزمان على ... صنيعة لك رهن الحبس ممتحن
أخنت عليه خطوب جار جائرها ... حتى توفاه طول الهمّ والحزن
فعاش من كلمات منك كنّ له ... كالروح عائدة منه إلى البدن
وقال في مستخر مال كان يرفق به حال مصادرته ويتشكر منه في تلك الحال:
لله در أبي محمد الذي ... ضمنتْ إساءته بنا إحسانا
طويت جوانحه على خيريّة ... مكتومة تبدو لنا أحيانا
حر تكلف غير ما في طبعه ... من قسوة تكسو العزيز هوانا
عكس النفاق لنا فأخفى باطناً ... حسناً وأظهر ضدّه إعلانا
وله خلال العسف رفقٌ ربما ... سغشى الضعيف الرازح الحيرانا
مستخرج للمال مضطر إلى اس ... تعمال ما يرضي به السلطانا
متلطف في فقرنا ولو أنه ... وجد السبيل إلى الغنى أغنانا
يتطرق الأستار لا عن نيةٍ ... ولو استطاع لها الصيانة صانا
متوعر الجنبات في استخراجه ... وإذا تعطف للفتوة لانا
فتراه في ديوانه مستأسداً ... ليثاً وفي خلواته إنساناً
رجلٌ يؤدّبنا ونحن مشايخ ... مثل المعلم يضرب الصبيانا
عدنا وقد شبنا إلى حال الصّبا ... في مكتب يستشهد الولدانا
نهواه علماً أنه خير لنا ... من غيره أن قلّد الديوانا
عجباً له إذ هذه آثاره ... فينا وهذا شكرنا وثنانا
فالله يحفظه علينا راضياً ... ويعيدنا من بأسه غضبانا

(1/258)


وقال أيضاً في الحبس:
إذا لم يكن للمرء بدٌّ منّ الردى ... فأسهله ما جاء والعيش أنكد
وأصعبه ما جاءه وهو رائع ... تطيف به اللذات والحظ مسعد
فإن أك شرّ العيشتين أعيشها ... فإني إلى خير المماتين أقصد
وسيّان يوما شقوة وسعادةٍ ... ذا كان غباً واحداً لهما الغد
وكتب إلى عضد الدولة وقد خرج إلى الزيارة بالكوفة:
توجهت نحو المشهد العلم الفرد ... على اليمن والتوفيق والطائر السعد
نزور أمير المؤمنين فياله ... ويالك من مجد مسيخ على مجد
فلم ير فوق الأرض مثلك زائراً ... ولا تحتها مثل المزور إلى اللحد
مددت إلى كوفان عارض نعمةٍ ... بصوت بلا يرق يروع بلا رعد
وتابعت أهليها ندىً بمثوبةٍ ... فرحت إلى فوزٍ وراحوا إلى رفد
أمولاي مولاك الذي أنت ربه ... إليك على جور النوائب تستعدي
وهذي يدي مدّت إليك بقصة ... أعيذك فيها من إباء ومن ردّ
أتاني شتاءٌ ليس عندي دثارهُ ... سوى لوعة في الصدر مشبوبة الوقد
فلو أن برد الجلد عاد إلى الحشا ... وفار الحشا الحران مني على الجلد
أزيحت لنفسي علّتاها فأعرضت ... عن البث والشكوى إلى الشكر والحمد
وداويت داءي النقضين ذا بذا ... أعدّل إفراطاً ن الضد بالضد
ولكني أستبطن الحر كربه ... وأستظهر الضّر الشديد من البرد
وكم تثبت الحوباء في شبح به ... جروح دوام من مناحسة النكد
أليمات وقع لو تكون بيذبل ... تضعضع ركناه تضعضع منهدّ
فلو لا رجاء ملء أرجاء أضلعي ... وعلم يقين بالرعاية والعهد
وأنّ نسم الانعطاف تهب لي ... هبوب نسم النرجس الغضّ الورد
قضيت بإحداهن نحبي حسرة ... ولو كان لي قلب من الحجر الصلّد
وهبني قد حملتها فأطقتها ... إطاقة صلب العود مصطبر جلد
فمن لي بصبر عن جبينك لامعاً ... إذا شيم ما بين السماطين من بعد
براني بريّ القدح شوقٌ مبرحٌ ... إليه ووجد جلّ عن صفة الوجد
إذا أبصرت عيناي خداً معفراً ... نقلت الترب منه إلى خدي
وإن سمعت أذناي عنك محدثاً ... لهجت بتكرير الحديث الذي يبدي
فذكراك جهري حين يطرق زائري ... ونجواك سري حين أخلو بها وحدي
فلا تبعدني عنك من أجل عثرةٍ ... فإن جياد الخيل تعثر إذ تخدي
ولو كنت تنفي كلّ من جاء مخطئاً ... إذا لعممت الناس بالنفي والطرد
ومن زل يوماً زلة فاستقالها ... فذاك حقيق بالهداية والرشد
ولي عند مولانا وديعة حرمة ... وشكر أياديه وديعته عندي
فإن عشت كانت عدتي وذخيرتي ... وإن لم أعش فهي التراث لمن بعدي
توالت سنيّ أربع ومدامعي ... لها أربع كالسلك سلّ من العقد
أحوم إلى رؤياك كما أنالها ... حيام العطاش الناظرات إلى الورد
فيا أيها المولى الذي اشتاق عبده ... إليه أما تشتاق يوماً إلى العبد؟
فإن كان لم يبلغ إلى رتبة الرضا ... فبلّغه فيما قبلها رتبة الوعد
ومر أمرك العالي بتغيير حاله ... وتخفيف ما يلقى من البؤس والجهد
لعلك ترضى عودةً بعد بدأةٍ ... فيغدو بوجه أبيضٍ بعد مسودّ
فقد يجبر العظم الكسير وربما ... تزايد بعد الجبر شدّة مشتد
وقال:

(1/259)


هجرت دواتي بعد تصريف حلّها ... وواصلت كالورّاق قارورة الحبر
وعاشرت من دون الأخلاء دفتراً ... يحدّث عما مرّ في سالف الدهر
فطوراً يسليني التعلل بالمنى ... وطوراً يكون الموت مني على ذكر
قال:
جملة الإنسان جيفة ... وهيولاه سخيفة
فلماذا ليت شعري ... قيل للنفس شريفة؟
إنما ذلك فيه ... صنعة الله اللطيفة
وقال أيضاً:
أتهاب في العزمات ظ ... لماً ربما وقيت عنه
وأمامك الموت الذي ... أيقنت أن لا بدّ منه
هذي سبيل الخائب الك ... ابي الزناد فلا تكنه
الدهر خوّان ول ... كن كم سعيد لم يخنه!
وشقيّ جدّ قد تحرّ ... ز بالتصوف لم يصنه
فاحذر مراراً أن يخو ... ن ومرة لك فأتمنه
واستبر لحظك بالتقل ... ب في المطالب وامتحنه
وابسط رجاءً قد قبض ... ت وثق بربك واستعنه
وقال أيضاً
ألا أيها الإنسان لأنك آيساً ... من الدهر أن يصفو عليك مشاربه
فإنّ لك حتماً من الشر واجباً ... وحتماً من الخير الهَنِيّ عواقبه
وإن تلق من حتميه ما كنت تبتغي ... فأولى بك الحتم الذي أنت طالبه
ستكسب ما ترجو ولو كنت كارهاً ... ككسبك ما تخشى وأنت مجانبه
وقال:
قد تحابى الجواد نائبة الده ... ر وفيها على البخيل وقاحة
كم رأينا من نعمة قادها البخ ... ل وأخرى تذود عنها السماحه
ربما ضرها التشددّ والضّب ... ط فأضحت من أصلها مجتاحه
فهي محميّة إذا نيل منها ... وإذا عزّ نيلها مستباحه
وخصوم الشحيح يسعون فيما ... غض من طرفه وهاض جناحه
وبنات القلوب تصغي إلى من ... كان أسخى نفساً وأطلق راحه
ما أخرج من شعره في الشيب والكبر
وذكر آخر أمره
قال:
يقول الناس لي في الشيب عن ... يزيد به جلال المرء ضعفاً
ولو لا أنه ذلٌّ وهون ... لما احتكم المزين فيه نتفا
أخذه من قول الأول:
كفاك من ذلتي للشيب حين بدا ... أني توليت نتفي لحيتي بيدي
وقال:
لقد أخلقت جدّتي الحادثات ... ومن عاش في ريبها يخلق
وبدّلتني صلعاً شاملاً ... من الشعر الفاحم الأغسق
وقد كنت أصلع من عارضي ... فقد صرت أصلع من مفرقي
وقال:
لما دهتني السنون بالصّلع ... وقل مالي وضاق متّسعي
حاسبت عن لمّتي مزينها ... حساب شيخ للحزم متبع
قلت له اقنع عن قسط نابتها ... بالربّع ممّا به عملت معي
واعمل على أنها مزارعةٌ ... شكوت فيها شكاة متّضع
فاحطط خرج الذي أصبت به ... واستوف منّي خراج مزدرع
وقال:
وجع المفاصل وهو أي ... سر ما لقيت من الأذى
جعل الذي استحسنته ... واليأس من حظي كذا
والعمر مثل الكأس ير ... سب في أواخره القذى
وكتب إلى أبي الحسن النقيب الموسوي:
أقعدتنا زمانةٌ وزمان ... عائق من قضاء حق الشريف
فاقتصرنا فيما نؤدي من الفر ... ض على الكتب والرسول الحصيف
والفتى ذو الشباب يبسط في التق ... صير عذر الشيخ العليل الضعيف
وكتب إليه يمدحه ويشكو إليه زمانته، وسوء أثر السن عليه، وحاجته إلى الجلوس في المحفة إذا أراد التصرف في حوائجه. وذلك في رجب سنة أربع وثمانين وثلاثمائة:
إذا ما تعدّت بي وسارت محفّة ... لها أرجل يسعى بها رجلان
وما كنت من فرسانها غير أنها ... وفت لي لما خانت القدمان
نزلت إليها عن سراة حصان ... بحكم مشيي أو فراش حصان

(1/260)


فقد حلمت منّي ابن تسعين سالكاً ... سبيلاً عليها يسلك الثقلان
كما حمل المهد الصبيُّ وقبلها ... ذعرت ليوث الغيل بالنزوان
ولي بعدها أخرى تسمى جنازة ... جنيبة يومٍ للمنية داني
تسير على أقدام أربعة إلى ... ديار البلى معدودهن ثماني
وإني على غيث الردى في جوانبي ... وما كف من خطوي وبطش بناني
وإن لم يدع إلا فؤاداً مروعا ... به غير باق من أذى الخفقان
تلوم تحت الحجب ينفث حكمة ... إلى أذن تصغي لنطق لسان
لأعلم أني ميّتٌ عاق دفنه ... ذماء قليل في غدٍ هو فاني
وإن فماً للأرض غرثان حائماً ... يراصد من أكلي حضور أوان
به شره عم الورى بفجائع ... تركن فلاناً ثاكلا لفلان
غدا فاغراً يشكو الطوى وهو رائع ... فما تلتقي يوماً له الشفتان
فكيف وحدّ القوت منه فناؤنا ... وما دون ذاك الحدّ رد عنان
إذا عاضنا بالنسل ممن يعوله ... تلا أوّلاً منه بمهلك ثاني
إلى ذات يومٍ لا ترى الأرض وارثاً ... سوى الله من إنسٍ يراه باني
محمداً المحمود من آل أحمد ... أبا كلّ بكر في العلا وعوان
أبا حسن قطعت أحشاء حاسد ... طواها على البغضاء والشنآن
يراك بحيث النجم تصدع قلبه ... بحد لسان أو بحد سنان
جرى جاهداً والعفو يفوته ... فكان هجيناً طالباً لهجان
وأنت سماء في الذؤابة صاعداً ... وذاك حضيض في القرارة عاني
أقيك الرد إني تنبّهت من كرىً ... وسهوٍ على طول المدى اعتوراني
فأثبتُّ شخصاً دانياً كان خافياً ... على البعد حتى صار نصب عياني
هو الأجل المحتوم لي جد جدّه ... وكان يريني غفلة المتواني
له نذرٌ قد آذنتني بهجمة ... له لست منها آخذاً بأمان
ولا بد منه ممهلاً أو عاجلاً ... سيأتي فلا يثنيه عنّي ثاني
هنالك فاحفظ في بنيّ أذمتي ... وذد عنهم روعات كل زمان
فإني أعتدُّ المودة منك لي ... حساماً بع يقضون في الحدثان
ذخرت لهم منك السجايا وإنّها ... لأنفع مما يذخر الأبوان
وفاءَ ومدّاً للنجاح عليهم ... وضنّاً بهم عن مس كل هوان
وحرمة أسلاف كرام حقوقها ... ديون على الخلّين يصطحبان
وحظك منها حسب شأنك إنّه ... تعاظم قدراً أن يقاس بشان
وقد ضمن الله الجزاء المحسن ... وحسبك من واف وفى بضمان
وهذا قريضي وهو همَّ بعثته ... إلى همّةٍ عذراء ذات بيان
فكنت كمن جارى جواداً بمفرق ... قوائمه مشكولة بحران
فإن لثمتني بالغبار سوابقاً ... قوافيه من لفظ وحسن معاني
فلا عار إن قصرت دون مبرز ... شأن الناس قبلي سعيه وشآني
وعذري إليه خاطر كل بعدما ... ثوى وهو ماضي الشفرتين يماني
كذا الدهر إمّا عاد ينقض ما بنى ... وإما بنى ما ينقض الملوان
وإن أخرتني اليوم سنَّ تقدمت ... فقد أسلفتني حوز كلّ رهان
ليالي طارت بي عقابُ بلاغتي ... وبذت بغاثا ما استطاع يراني
أبابيل جابت دون إدراك غايتي ... على أنّها لم تأل في الطيران
فأجابه أبو الحسن بقصيدة منها:
ظماني إلى من لو أراد سقاني ... وديني على من لو يشاء قضاني
ولو كان عندي معسراً لعذرته ... ولكنّه وهو المليّ لواني

(1/261)


رمى مقلتي واسترجع السهم دامياً ... غزالٌ بنجلاوين تنتضلان
أأرجو شفائي منه وهو الذي جنى ... على بدني داء الضنى وشجاني
أبيت فلم استسق من كان غلّتي ... ولم استرش من كان قبل يراني
فإن أسر فالعلياء همّي وإن أقم ... فإني على بكر المكارم باني
وإن أمض أترك كلّ حيّ من العدى ... يقول ألا الله نفس فلان
أكرر في الإخوان عينا صحيحة ... على أعين وضربني عنده بجران
هو اللافتي عن ذا الزمان وأهله ... بشيمة لا وان ولا متواني
إخاءٌ تساوي ودّاً وألفةٌ ... رديع صفاء لا رضيع لبان
تمازج قلبانا تمازج إخوة ... وكلّ طلوبي غاية أخوان
وربّ قريب بالعداوة ساخط ... وربّ بعيد بالمودة داني
وغيرك ينبو عنه طرفي مجانباً ... وإن كان مني الأقرب المتداني
لئن رام قبضاً سن بناتك حادث ... لقد عاضنا منك انبساط جنان
وإن بزّ من ذاك الجناح مطاره ... قربّ مقال منك ذي طيران
وإن أقعدتك النائبات فطالما ... سرى موقراً من مجدك الملوان
وإن هدمت منك الخطوب بمرّها ... فثمّ لسانٌ للمناقب باني
مآثر تبقى ما رأى الشمس ناظرٌ ... وما سمعت من سامع أذنان
وموسوعة مقطوعة العقل لم تزل ... شوارد قد بالغن في الجولان
وما زل منك الرأي والحزم والحجى ... فتأسى إذا ما زلت القدمان
ولو أن لي يوماً على الدهر إمرة ... وكانت لي العدوى على الحدثان
خلعت على عطفيك برد شيبتي ... جواداً بعمري واقتبال زماني
وحملت ثقل الشيب عنك مفارقي ... وإن فلّ من غربي وغض عناني
وناب طويلاً عنك في كل عارض ... وخط بخطوٍ أخمصي وبناني
على أنه ما انفل من كان دونه ... حميم يرامي عن يد ولسان
وما كل من لم يعظ نهضاً بعاجز ... ولا كل ليث خادر بجبان
وإنك ما استرعيت مني سوى فتىً ... صبورٍ على رعي المودة حاني
حقي إذا ما ضيع المرء قوله ... وفي إذا ما خون العضدان
من الله استهدي بقاك وأن ترى ... محلاً لأيام العلا بمكان
وأسأله أن لا تزال مخلّداً ... بملقى سماع بيننا وعيان
إذا ما رعاك الله يوماً فقد قضى ... مآرب قلبي كلها ورعاني
وكتب إليه أبو إسحاق أيضاً، وكان بين إنفاذه إليه هذه القصيدة وبين موته اثنا عشر يوماً، ولعلها آخر شعره:
أبا كل شيء قيل في وصفه حسن ... إلى ذاك ينحو من كناك أبا الحسن
فوحدها للاختصار إشارة ... إلى جملة تفصيلها لك مرتهن
تخوّلتها في خلقة وخليقة ... وإن لم تكن أنت الخليق بها فمنْ
وما هي إلا كنية لك إرثها ... وإن مسها من غير أربابها الدرن
؟ولو أنّ في تحريمها لي قدرة لما أصبحت في غير بيتك تمتهن
ألست لها بعد الموصي وآله ... وأنتم أناسٌ فيكم المجد قد قطن
ولكنّ هذا الدهر جار عليكم ... وبالغ حتى في الكنى لكم محن
يجاذبكم علياءكم كل حاسدٍ ... به مرضٌ بين الحيازم قد كمن
فيجري إلى غاياتكم طالباً لها ... على غير منهاجٍ وأنتم على السنن
مناقبكم حقّ بدت بيناته ... ودعواه أضغاث يراهن في الوسن
لكم في الثريا خطة وهو في الثرى ... فيا بعدها من أن يلزّهما قرنْ
وقد تستوي الأشخاص في عين من رأى ... وتفترق الأعيان في فهم من فطن
وبين وسيمات الوجوه تشابهٌ ... فكن فاصلاً بين التهيج والسمن

(1/262)


وإن جلدة الوجه الوسيم تغضنت ... فلا تحسبن تلك الغضون بها عكن
توقّلتمُ في كلّ هضبة سؤدد ... فأوفيت واستعليت منها على القنن
تقسم هذا الفضل بين طوائف ... وأقسامه مجموعة فيك تختزن
غدواً لك كالأبعاض إذ أنت كلهم ... كمالا عجيباً مثله قط لم يكن
تراهم إذا غابوا عن المنزل الذي ... تحلّ به كانوا حضوراً له إذن
وإن غبت عنهم ظاعناً بان فقرهم ... إلى الواحد الفذ الذي عنهم ظعن
وإما يباريك المباري بهيئة ... وزيّ وملبوسٍ على جسمه حسن
ففي درعك الإنسان تمت صفاته ... وجمعت معاليه وفي درعه الوسن
كتبت إلى ابن الموسوي رسالةً ... بلا دخلٍ يدنو إليها ولا دخن
بأنّي مذ بايعتني الودّ جاعلٌ ... سوادي من قلبٍ وعينٍ له ثمن
فإن رمته من صادقٍ غير ماذقٍ ... فدونك صدري مسكناً تحته شجن
إذا اغتربت منك الموالاة عند من ... ينافق فيها فهي عندي في الوطن
صفت مثل ما تصفو المدام من القذى ... وطابت كما طابت من الغير الدخن
ولمن لا وأنت الماجد السيّد الذي ... له مننٌ لم تستطع حملها المنن
أقيك الردى ليس القلا عنك مقعدي ... ولكن دهاني بالزّمانة ذا الزمن
وغادرني حلف المضاجع راهناً ... على خلّةٍ في الحال والنفس والبدن
فإن تنأ منك الدار فالذكر ما نأى ... وإن بان مني الشخص فالفكر لم يبن
وإن طال عهد الإلتقاء فدونه ... عهودٌ عليها من رعايتنا جنن
وأيسر حدٍ يلزم النازح الفتى ... من الحقّ بسط العذر للدّالف اليفن
وقال الشريف يجيبه عن هذه القصيدة، وجعل الجواب على رويها دون وزنها لأن ذلك الوزن المقيد لا يجيء الكلام فيه إلا متقلقلا، ولا النظم بزعمه إلا مختلاً:
دع من دموعك بعد البين للدّمن ... غداً لدارهم واليوم للظّعن
هل وقفة بلوى خبت مؤلّفةٌ ... بين الخليطين من شام ومن يمن
عجنا على الربع أنضاء محرمة ... أثقالها الشوق من بادٍ ومكتمن
موسومة بالهوى تدري برؤيتها ... أنّ المطايا مطايا مضمري شجن
ثم انثنينا على بأسٍ وقد شرقت ... نواظر بمجاري دمعها الهتن
من مبلغ لي أبا إسحاق مألكةً ... عن حنو قلب سليم السرّ والعلن
جرى الوداد له مني، وإن بعدت ... منا العلائق، مجرى الماء في الغصن
لقد توامق قلبانا كأنهما ... تراضعا بدم الأحشاء لا اللبن
مسوّدٌ قضبَ الأقلام نال بها ... نيل المحمر أطراف القنا اللّدن
إن لم تكن تورد الأرماح موردها ... فما عدلت إلى الأقلام عن جبن
والطاعن الطعنة النجلاء عن جلد ... كالقائل القولة الغراء عن لسن
ما قدر فضلك ما أصبحت ترزقه ... ليس الحظوظ على الأقدار والمهن
قد كنت قبلك دهري على حنق ... فزاد ما بك في غيظي على الزمن
أنت الكرى مؤنساً عيني، وبعضهم ... مثل القذى مانعاً عيني من الوسن
قد جاءت النفثة الغراء ضامنةٌ ... ما يوثق النفس في سرّ وفي علن
أنطت من حسنها ماءً بلا نضب ... وحزت من نظمها دراً بلا ثمن
فاقتد إليك أبا إسحاق قافيةً ... قود الجواد بلا حبلٍ ولا رسن
أنشدتها فحدا سمعي غرابتها ... إلى الضمير حداء الركب بالبدن
كانت تقاعس لو ما كنت قائدها ... تقاعس البازل المحبوب في شطن
تستوقف الركب إن مرت معارضة ... بهدي عقيلتها العذراء من لمن
ذكر وفاة أبي إسحاق
وما رثاه به الموسوي

(1/263)


توفي يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة من شوال سنة أربع وثمانين وثلاثمائة وكانت سنوه إحدى وتسعين سنة قمرية. فرثاه أبو الحسن بهذه القصيدة الفريدة التي أفصح بها عن بعد شأوه في الشعر. وعلو محله في كرم العهد، وقد كتبتها كلها لحسن ديباجها كثرة رونقها، وجودة ألفاظها ومعانيها، واستهلالها:
أعلمت من حملوا على الأعواد ... أرأيت كيف خبا ضياء النّادي؟
جبل هوى لو خر في البحر اغتدى ... من وقعه متتا بع الإزياد
ما كنت أعلم قبل دفنك في الثرى ... أنّ الثرى يعلو على الأطواد
بعداً ليومك في الزمان فإنه ... أقذى العيون وفتّ في الأعضاد
لا ينفد الدمع الذي يبكي به ... إن القلوب له من الأمداد
كيف انمحى ذاك الجناب وعطلت ... تلك الفجاج وضلّ ذاك الهادي
طاحت بتلك المكرمات طوائح ... وعدت على ذاك الجلال عوادي
قالوا أطاع وقيد في شطن الردى ... أدي المنون ملكت أي قياد
من مصعب لو لم يقده إلهه ... لقضائه ما كان بالمنقاد
هذا أبو إسحاق يغلق رهنه ... هل ذائد أو مانع أو فادي
لو كانت تفدى لافتديتك فوارس ... مطروا بعارض كل يوم طراد
وإذا تألق بارق لوقيعه ... والخيل تفحص بالرجال بداد
سلوا الدروع من العياب وأقبلوا ... يتحدثون على القنا الميّاد
لكن رماك مجبن الشجعان عن ... إقدامهم ومضعضع الأنجاد
كالليث يهون بالتراب ويمتلي ... غيظاً على الأضغان والأحقاد
والدهر تدخل نافذات سهامه ... مأوى الصلال ومربض الآساد
ألقى الجران على عنطنط حمير ... فمضى ومدّ يداً لأحمر عاد
أعزز عليّ بأن أراك وقد خلت ... من جانبيك مجالس العواد
أعزز عليّ بأن أرك بمنزل ... متشابه الأمجاد والأوغاد
أعزز علي بأن يفارق ناظري ... لمعان ذاك الكوكب الوقاد
أفي عصبة جنبوا إلى آجالهم ... والدهر يعجلهم عن الإرواد
ضربوا بمدرجة الفناء قبابهم ... من غير أطناب ولا أعماد
ركبٌ أناخوا لا يرجى منهم ... قصد لإتّهام ولا إنجاد
كرهوا النزول فأنزلتهم وقعة ... للدهر نازلة بكل مقاد
فتهافتوا عن رجل كلّ مذلل ... وتطارحوا عن سرج كل جواد
بادون في صور الجميع وإنّهم ... متفردون تفرد الآحاد
مما يطيل الهمّ أن أمامنا ... طول الطريق وقلّة الأزواد
عمري لقد أغمدت منك مهنداً ... في الترب كان ممزق الأغماد
قد كنت أهوى أن أشاطرك الردى ... لكن أراد الله غير مرادي
ولقد كبا طرف الرقاد بناظري ... منذ افتقدت فلالعاً لرقادي
ثكلتك أرض لم تلك لك ثانياً ... أني ومثلك معوز الميلاد
من للبلاغة والفصاحة إن همى ... ذاك الغمام وعبّ ذاك الوادي
من للملوك يحز في أعناقها ... بظباً من القول البليغ حداد
من للممالك لا تزل تلمها ... سداد ثغر ضائعٍ وسداد
من للممارق تسترق قلوبها ... بزلازل الإبراق والإرعاد
وصحائف فيها الأرقم كُمّن ... مرهوبة الإصدار والإبراد
تدمي طوابعها إذا استعرضتها ... من شدة التحذير والإبعاد
حمر على نظر العدو كأنها ... بدم تخط بهن لا بمداد
يقدمن إقدام الجيوش. وباطل ... أن يهزمن هزائم الأجناد

(1/264)


فقر بها تمسي الملوك فقيرة ... أبداً إلى مبدأ لها ومعاد
وتكون سوطاً للحرون إذا ونى ... وعناق عنق الجامح المتمادي
نزقي وتلدغ في القلوب، وإن تشا ... حط النجوم بها من الإبعاد
أما الدموع عليك غير بخيلة ... والقلب بالسلوان غير جواد
سودت ما بين الفضاء وناظري ... وغسلت من عينيّ كل سواد
ري الخدود من المدامع شاهد ... أن القلوب من الغليل صوادي
ما كنت أخشى أن تضنّ بلفظة ... لتقوم بعدك لي مقام الزاد
ماذا الذي منع الفنيق هديره ... من بعد صولته على الأذواد
ماذا الذي حبس الجواد عن المدى ... من بعد سبقته إلى الآماد
ماذا الذي منع الهمام بوثبةٍ ... وعدا على دمه وكان العادي
قل للنوائب عددي أيامه ... لغنىً عن التعديد بالتعداد
حمال ألوية العلاء بنجدة ... كالسيف يغني عن مناط نجاد
قلصت أظلة كل فضل بعده ... وأمر مشربها على الوراد
فقضي جنانك مذ خبت وقداته ... أن لا بقاء لقدح كل زناد
بقيت أعيجان يضل تبيعها ... ومضت هواد للرجال هوادي
يا ليت أني ما اقتنيتك صاحباً ... كم قنية جلبت أسىً لفؤادي
من لم يسف إلى التناسل نفسه ... كفي الأسى بتفاقد الأولاد
برد القلوب بمن تحب بقاءه ... ممّا يجر حرارة الأكباد
ليس الفجائع بالذخائر مثلها ... يا ماجد الأعيان والأفراد
ويقول من لم يدر كنهك إنهم ... نقصوا به عدداً من الأعداد
هيهات أدرج بين برديك الردى ... رجل الرجال وأوحد الآحاد
لا تطلبي يا نفس خلاّ بعده ... فلمثله أعيا على المقتاد
فقدت ملاءمة الشكول لفقده ... وبقيت بين تباين الأضداد
ما مطعم الدنيا بحلو بعده ... أبداً ولا ماء الحيا ببراد
الفضل ناسب بيننا إذ لم يكن ... شرفي مناسبة ولا ميلادي
إن لا تكن من أسرتي وعشيرتي ... فلأنت أعلقهم يداً بودادي
أو لا تكن عالي الأصول فقد وفى ... عظم الجدود بسؤدد الأجداد
لا درّ دريّ إن مطلتك ذمة ... في باطن متغيب أو بادي
إن الوفاء كما اقترحت فلو تكن ... حياً إذاً ما كنت بالمزداد
ليس التنافس بيننا بمعاود ... أبداً وليس زماننا بمعاد
ضاقت عليّ الأرض بعدك كلّها ... وتركت أضيقها عليَّ بلادي
لك في الحشا قبرٌ وإن لم تأوه ... ومن الدموع روائح وغوادي
سلوا من الأبراد جسمك فانثنى ... جسمي يسل عليك في الأبراد
كم من طويل العمر بعد وفاته ... بالذكر يصحب حاضراً أو بادي
ما مات من جعل الزمان لسانه ... يتلو مناقب عود وبوادي
فاذهب كما ذهب الربيع وإثره ... باق بكل مهابط ونجاد
لا تبعدن وأين قربك بعدها ... إنّ المنايا غاية الإبعاد
صفح الثرى عن حرّ وجهك إنّه ... مغرىً بطىً محاسن الأمجاد
وتماسكت تلك البنان فطالما ... عبث الردى بأنامل الأجواد
وسقاك فضلك إنه أروى حياً ... من رائح متعرض أو غادي
؟جدث على أن لا نبات بأرضه ... وقفت عليه مطالب الرواد
ومر يوماً بقبره وهو بالجنينة من أرض كرخايا فقال:
أيعلم قبر بالجنينة أننا ... أقمنا به نبغي الندى والمعاليا؟

(1/265)


عطفنا فحيينا مساعيه إنها ... عظام المساعي لا العظام البواليا
مررنا به فاستوقفتنا رسومه ... كما استوقف الروض الظباء الجوازيا
وما لاح ذاك الترب حتى تخيلت ... من الدمع أوشال ملأن المآفيا
نزلنا إليه عن ظهور جيادنا نك ... فكف بالأيادي الدموع الجواريا
ولما تجاهشنا البكاء ولم نطق ... عن الوجد إقلاعنا عذرنا البواكيا
أقول لركب رائحين تعرجوا ... أريكم به فرعاً من المجد ذاويا
ألمّوا عليه عاقرين فإننا ... إذا لم نجد عقراً عقرنا القوافيا
وحطوا به رحل المكارم والعلا ... وكبوا الجفان عنده والمقاريا
فلو أنصفوا شقوا عليه ضمائراً ... وجزوا رقاباً بالظبا لا نواصيا
وقفنا فأرخصنا الدموع وربما ... تكون على سوم الغرام غواليا
ألا أيها القبر الذي ضم لحده ... قضيباً على هام النوائب ماضياً
هل ابن هلال منذ أودى كعهدنا ... هلالاً على ضوء المطامع باقيا
وتلك البنان المورقات من الندى ... نواضب ماء بواق كما هيا؟
فإن نيل من ذاك اللسان مضاؤه ... فإن به عضواً من المجد باليا
مجيب الدواعي حائداً أو مدافعاً ... هناك مرم لا يجيب الداعيا
وما كنت آبى طول لبث بقبره ... لو أني إذا استعديته كان عاديا
صفائح تستسقي الدموع روائحاً ... على جانبيها والغمام غواديا
ترى الكلم الغران من بعد موته ... نوافر ممن رامهن نوائيا
هو الخاضب الأقلام نال بها علاً ... تقاصر عنها الخاضبون العواليا
معيد ضراب باللسان لو أنه ... بيوم وغىً فل الجراز اليمانيا
مرير القوى نال المعالي واثباً ... إذا غيره نال المعالي حابيا
مضى لم يمانع عنه قلب مشيع ... إذا هم لم يرجع عن الهم نائياً
ولا المسندوه بالأكف إلى الحشى ... على جزع المفرشوه التراقيا
ولا رد في صدر المنون براحة ... يرد بها سمر القنا والمواضيا
خلا بعدك الوادي الذي كنت أنسه ... وأصبح تعروه النوائب وادياً
أرحت علينا ثلة الوجد ترتعى ... ضمائرنا أيامها واللياليا
ولولاك كان الصبر منا سجية ... تراثاً ورثناه الجدود الأواليا
رضيت بحكم الدهر فيك ضرورة ... ومن ذا الذي يغذو بما ساء راضيا
وطاوعت من رام انتزاعك من يدي ... ولو أجد الأعوان أصبحت عاصيا
تطامنت كيما يعبر الخطب جانبي ... فألقي على ظهري وجر زماميا
ملأت بمحياك البلاد مساعياً ... ويملأ مثواك البلاد مناعيا
كما عم عالي ذكرك الخلق كلّه ... كذاك أقمت العالمين نواعيا
رثيتك كي أسلوك فازددت لوعةً ... لأن المراثي لا تسد المرازيا
وأعلم أن ليس البكاء بنافع ... عليك ولكنّي أمنّي الأمانيا
؟الباب الرابع
؟في ذكر ثلاثة من كتاب آل بويه
يجرون مجرى الوزراء
أولهم
أبو القاسم عبد العزيز بن يوسف
أحد صدور الشرق، وفرسان المنطق، وأفراد الكرم الكبار، الحسان الآثار، والأخبار، وأعيان الممدحين المقدمين في الآداب والكتابة، والبراعة والكفاية، وجميع أدوات الرياسة. وكان مع تقلده ديوان الرسائل لعضد الدولة طول أيامه معدوداً في وزرائه، وخواص ندمائه، وتقلد الوزارة بعده دفعات لأولاده.

(1/266)


وأنا أورد من غرر نثره التي تعرب عن أدب فضفاض، وخاطر بالإجادة والإحسان فياض. ومن لمع شعره التي هي أحسن من زهر الرياض، وأسلس من الماء على الرضراض، ما هو من شرط هذا الكتاب، المشتمل على ملح الآداب.
ما أخرج من سلطانياته فصل من كتاب عن الطائع لله، إلى ركن الدولة، لما ورد عضد الدولة العراق: فأنت وعضد الدولة كلأكما الله يد أمير المؤمنين فيما يأخذ ويذر، وناظراه فما يقرب ويبعد. بكما افترش مهاد الملك بعد إقضاضه، ورفع منار الدين بعد انخفاضه. فأبشر من الله تعالى بالحسنى، إن الله لا يضيع أجر المحسنين.
ومن كتاب عنه إلى عضد الدولة وراع الشرف الذي أفرعك أمير المؤمنين ذروته، وعقد بك ذؤابته. وتوقل في فلك الفخر كيف أردت، ومس في حلل المجد أنى شئت. واستدم النعمة عليك بالتقوى لله تعالى، وبحسن الطاعة لأمير المؤمنين، فإنهما جنتاك وعدتاك وذريعتاك المشفعتان عند اله تعالى في أولاك وأخرك. وأحسن كما أحسن الله إليك.
ومن كتاب عنه إلى أهل الشام قد علمتم بشهادة الآثار، وتظاهر الأخبار، ما أعد الله لأمير المؤمنين بطاعته وليه المنصور، وصفيه المبرور. وعضد الدولة أيده الله تعالى من حام حقيقته، ساد خلته، راع سدته ورعيته. لا يثنيه عن غاياته عارض الشام، لا يلهيه عن هماته راحة الحمام:
مضاميره أعيت على من يرومها ... وكل مدى عن غايته قصير
فهو عين أمير المؤمنين إذا نظر ... ولسانه إذا نطق، ويده إذا لمس
فهو عين أمير المؤمنين إذا نظر، ولسانه إذا نطق، ويده إذا لمس، ألانت أم أمضت. ووطأت أم أقضت.
ومن كتاب إلى عضد الدولة في فتح كرمان وتأمروا على الوقوع إلى ناحية الجروم، وأجنهم الليل فادرعوه مقتادين بخزائم أنوفهم، إلى مصارع حتوفهم.
ومن كتاب عنه في عود الطائع إلى بغداد والتقائه معه ولما ورد أمير المؤمنين النهروان. أنعم بالإذن لنا في تلقية على الماء فامتثلناه وتقبلناه، وتلقانا من عوائد كرمه، ونفحات شيمه، والمخائل الواعدة بجميل آرائه، وعواطف إنحائه، ورعاية ما كنفنا يمنه، وشايعنا عزه، إلى أن وصلنا إلى حضرته البهية، شرفها الله تعالى في الجديدية التي استقبلت منه بسليل النبوة وقعيد الخلافة، وسيد الأنام، والمستنزل بوجهه درر الغمام، فتكفأت علينا ظلال نوره وبشره، وغمرتنا جهات تفضله وفضله. وقرب علينا سنن خدمته، وأنالنا شرف القعود بين يديه، على كرسي أمر بنصبه لنا عن يمينه، وأمام دسته،وأوسعنا من جميل لقياه، وكريم نجواه، ما يسم بالعز أغفال النعم، ويضمن الشرف في النفس والعقب، ويكفل من الفوز في الدين والدنيا بغايات الأمل. وكانت لنا في الوصول إليه، والقعود بين يديه، في مواقع ألحاظه، وموارد ألفاظه، مراتب لم يعطها أحد فيما سلف ولم تجد الأيام بمثلها لمن تقدم. وسرنا في خدمته على الهيئة التي ألقى شرفها علينا، وحصل جمالها مدى الدهر لدينا، إلى أن سار إلى سدة دار الخلافة والسعود تشايعه. والميامن تواكبه. وطلائع الآمال تشرف عليه. وثغر الإسلام يبتسم إليه. فعزم علينا بالانقلاب معه على ضروب من التشريف، لا مورد بعدها في جلال، ولا موقف وراءها لمذهب في جمال. واجتلت الأعين من محاسن ذلك المنظر، وتهادت الألسن من مناقب ذلك المشهد، ما بهر بصر الناظر، وعاد شمل الإسلام مجموعاً، ورواق العز ممدوداً، وصلاح الدهماء مأمولا، ونور الدين والدنيا مرقوباً.
ومن كتاب عنه إلى أخيه مؤيد الدولة لما فتح جرجان: وصل كتاب مولاي بذكر الفتح الذي ألبسه الله جماله، والنجح الذي قرب الله عليه مناله. والنعمة التي نبت عن متعاطيها فانتقلت إليه، والمملكة التي اضطربت بمالكيها فقرت لديه.
ومن كتاب إلى أخيه مؤيد الدولة أيضاً في ذكر عله نابته من الحمى. ورد على الخبر بعارض من الحرارة، وعك له سيدي مؤيد الدولة أيده الله تعالى، يعقب دواء تناوله، واتصال ذلك بمليلة أزعجته، وحمى نابته. فتصرفت في الأفكار، وملكني الإشفاق، وخلص إلى قلبي - من ألم ما عراه وإلى نفسي من وجل ما شكاه - ما كاد يوحش جناب الأنس، ويخل بشيمه الصبر، لولا أن المعهود في مثل هذا العارض يعقب الاستفراغ أكثر الأمر، ثم تفضي عقباه إلى استقبال الصحة والإبلال والقوة، حرس الله ساحته، وحمى مهجته، وأحسن الدفاع عنه!

(1/267)


ومن كتاب عنه في ذكر وفاة ركن الدولة: وكانت المصيبة نفرت سرب النعم، ورقت شرب الأمل، وأوحشت رباع المجد والكرم، لولا ما عصم الله به، وهدى له من تذكر النعمة في ثروة العدد، والبقية الحسنى في الأخوة الولد، ثم في العزة والقدرة والسلطان والبسطة، وفيما شد به الأعضاد، في إخوان الصفاء الذين سيدي الله تعالى ناظم شمل محاسنهم، وفائت سبق أفاضلهم.
ومن كتاب في ذكر أبي تغلب: وقد كان الغضنفر بن حمدان، حين نفضته المذاهب، ولفظته المهارب. وأقلقته عن مجاثمة المكايد والكتائب، وتطوح إلى بلاد الشام، ينتقل بين مصارع، يحسبها مراتع. ومجاهل يعدها معالم، يروم انتعاشاً والجد خاذله، ويبغي انتعاشاً والبغي طالبه.
ومن كتاب إلى الأمير خلف بن حمدان: وأما ما صحب فلاناً من ألطاف وأتحاف، فقد وصل وكان البعض منه كافياً في البر، وافياً بالحق. إلا أن سيدي يأبى إلا الإغراق في اللطف قائلاً وفاعلاً، لا أعدمه الله شمية الفضل، ولا أخلاني فيه من كلام العهد، ومما أقف في موقف العذر في مخاطبة سيدي أن فلاناً ورد علي، وقد ضاق الوقت عن توفيته واجب حقه لاستمرار العزائم في قصد نواحي العراق، لإعادة ما نضب بها من ماء السياسة، وما في جنباتها من رواق الأمر والنهي، بضعف المنن، وانتكاث المرر. وكتبت كتابي هذا وقد استقل بي المسير، مقدماً بعون الله كتائب الرعب مستصحباً مفاتح النصر.
ومن كتاب في فتح ميا فارقين: فأمرنا أبا الوفاء أن يلين لأهل البلد، إبقاء على ذلك الثغر من أن تصاب له ثغرة، واتقاء لاراقة دم فيه شبهة.
ومن كتاب آخر: ولما ضاق عن هذا المخذول حلمنا باتساع غوايته، ووعر الطريق إلى استبقائه. استخرنا الله تعالى في استرجاع ما ألبسناه من النعم.
ومن كتاب عن نفسه إلى مؤيد الدولة: وصل كتاب مولانا جواباً عما خدمت به حضرته المحروسة، مهنئاً، فحسبتني وقد تأملت عنوانه - مغلوطاً بي، أو معنياً به غيري، إعظاما لتلك الأيادي الغر، والنعم الزهر، التي اعددتها في الشرف مناسب، وإلى الأيام والليالي ذرائع.
ومن كتاب عن عضد الدولة: وزيد الآن عادة الألطاف بدواب تستكرم مناسبتها، وتحمد نجابتها. ويعرف عنقها في المنظر، وسرها في المخبر، نرضاها لركابنا، ونعتمدها باختيارنا عائدة بإحمادنا واعتدادنا.
ما أخرج من إخوانياته كتب إلى الصاحب: كتابي أدام الله عز مولانا وحالي - فيما أعانيه من تمثيل حضرته وتذكر خدمته، والمواقف التي سعدت فيها برؤيته. وأفدت من مشاهدته حظها ومقابلة نعم الله عليه وعلى الأدب وحزبه، والكرم وأهله فيه - حال امرئ هب وقد أوردته الأحلام مناهل أمله، فهو يتلهف تذكراً. ويتلذذ تحيراً. ويناجي النفس مثلاً، ويراقب المنى تعللا. وأحمد الله تعالى على الأحوال كلها، وأسأله قرب الإدالة، والعقبى السارة، وأقول:
أقول وقلبي في ذراك مخيم ... وجسمي جنيب للصبا والجنائب
يجاذب نحو الصاحب الشوق مقودي ... وقد جاذبتني عنه أيدي الشواذب
سقي الله ذاك العهد من الحيا ... وتلك السجايا الغر غر السحائب
تذكرت أيامي بقربك والمنى ... يقابلني بالعزّ من كل جانب
وفي ربعك الدنيا تزفّ محاسناً ... وتفتر منك عن ثنايا مناقب
وقد لحظت عيناي من شخصك العلا ... ومن فرعك الفينان أعلى المناسب
ومن لفظك الدر المصون، ومن حيا ... محياك ما لم تجره كفّ خاطب
وأخلاقك الغرّ التي لو تجسمت ... لكانت نجوماً للنجوم الثواقب
ففاضت على خدي سوابق عبرة ... كما أسلمت عقداً أنامل كاعب
سلام على تلك المكارم والعلا ... تحية خلّ عن جنابك غائب
يكابد ما لو كان بالسيف ما مضى ... وبالمزن لم تبلل لهاةٌ لشارب
وإني وإن روّعت بالبين شائمٌ ... طوالع عتبي من طلاع العواقب
وما أنا بالناس صنائعك التي ... كتبن عليّ الرق ضربة لازب

(1/268)


ابتدأت أطال الله بقاء مولاي الصاحب بكتابي هذا. وفي نفسي إتمامه نثراً، فمال طبعي إلى النظم، وأملى خاطري على يدي منه ما كتبت، ونعم المعرب عن الضمير مضمار القريض، وقد اقتصرت عليه من الكتاب ناطقاً عني، وائقاً بما عنده لي، وأنا أسترعيه غيبه، واستغطيه عيبه، وكنت كتبت إلى حضرته من أول منزل أو ثانية بذكر ما أودعه حر الفراق قلبي، وأزالته أيدي الأشواق من عزائم صبري، وتوقعت الجواب عنه فأبطأ، وورد هذا الركابي خالياً من كتابه وكانت عادة كرمه جارية عندي بخلافه، لو لا الثقة به وبما استفدته من اللقاء والخدمة، وحرمة الوفادة والهجرة من أذمة عهده لأبديت ما أخفيت من قلق وانزعاج، لاختلاف العادة علي، ومولادي ولي صوني عن موقف الظن والرجم بالغيب، فإني مهتم في خدمته على حسب الضن بها، ومنافسة كل أحد عليها، إن شاء الله تعالى.
ومن كتاب له إليه: قد كان ورد لمولانا الصاحب أدام الله عزه:
كتاب لو أن الليل يرمي بمثله ... لألقيت يداً في حجرتيه ذكاء
تهادى بأبكار المعاني وعونها ... وأعيان لفظ ما لهنّ كفاء
شوارد لو لا أنهن أوالف ... ضرائر إلا أنهن سواء
لبسنا بها نعمى وألبست الربا ... خمائل روض جادهن سماء
بنان ابن عبادة تعلين نوءه ... وما صوبه إلا حياً وحياء
وثلاث كتب تناظرت في الحسن والإحسان، وتقابلت في البر والإنعام. لا زالت أياديه قلائد الأعناق، ومراميه مضامير السباق. ولا انفكت عين الله حامية له، وكافلة به! ومن كتاب له: وقف مولانا على ما كتبت به معرضاً بخدمته، ومجلياً عن نيته، فصدقته وحققه، وقال آدم الله سلطانه: إن لسان أثره في الفصاحة كلسان قلمه. يتجاريان كفرسي رهان. وناهيك بالأول اشتهاراً ووضوحا، وبالثاني غرراً وحجولاً. وكنا لمثل هذه الحال نعده ونعتمده، وننتجز عدات الفضل عنه، وحسبنا ما أفادتنا التجارب فيه كافلاً بالسعادة، ودرك الإرادة، وما زالت مخائله وليداً وناشئاً. وشمائله صغيراً ويافعا، نواطق بالحسنى عنه وضوامن النجح فيه، فقد أصبح الظن أيقاناً، والضمان عيانا، والتقدير بيانا، والاستدلال برهانا، ونرجو أن الله بحسن الامتناع به، والدفاع عنه، كما أحسن الظن به وحقق الأماني فيه.
ومن كتاب: وقفت على الأبيات التي أتحفني بها سيدي، وتكلفت لجوابها، على ظلع في خاطري لطول السفار، واتصال حالي بالحل والترحال، ومولاي يأخذ العفو ويرضى الميسور، ويعذر مستأنفاً على التقصير في جواب ما يأتيني من أمثاله ما دمنا في ملكه الهواجر وتعب البكر والأصائل.
ومن كتاب له إلى الصاحب في فتح عمان وإبادة الزنوج بها، وما وصل إلى عضد الدولة من الغنائم.
وكانت لأولئك الكفرة عادة اشتهرت منهم في استباحة الناس وأكل لحومهم، وبلغ من كلبهم على ذلك أنهم كانوا يتنقلون بينهم إذا شربوا بأكف الناس، وسأل مولاي عن هذا النقل الغريب فحكى له عنهم أنه لا شيء في الإنسان ألذ من كفه وبنانه، وكان في ذلك اليوم الذي شارف فيه طلائع العسكر المنصور باب عمان ثار من بعض المكامن طوائف من أولئك الكلاب فكبا ببعض الغلمان دابته فاختلسوه واقتسموه بينهم وأكلوه في الوقت، وتعجب الناس من ضراوتهم وقساوتهم، وقد أبادهم الله تعالى جده وطهر البر والبحر من عبثهم ومعرتهم، فانقاد أهل جبال عمان باخعين بالطاعة، معتصمين بذمة الجماعة، وتمت نعمة الله على مولانا في هذا الفتح وكملت له مغانم الأجر، ووصل أمس غنائم تلك الناحية وفيها فيل صغيرة بقدر الفرس. ما عهد ألطف ولا أظرف منه، وفي الغنائم كل ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، والله تعالى يجني مولانا ثمار الأرض برا وبحرا، سهلا ووعرا، بمنه وكرمه آمين.
ومن كتاب له إلى ذي الكفايتين أبي الفتح:

(1/269)


فأما استبطاؤه لعبده في تراخي ما كان مستشرقاً من جهته، لعلمه من أخبار حضرة مولانا الملك وما عليه حاله في مساورة الإشفاق، ومسامرة الأفكار. إلى أن يعرف خبر الخيل المنصورة المصاحبة ركاب مولانا في سلامتها من وقدة تلك الهواجر، ووعورة تلك المسالك، وما تولى الله تعالى مولانا به من كفايته، وأفاء عليه من ظل حفظه وحراسته، فقد وقفت عليه وكنت طلعت حضرته بكتب جمة تقر بها العيون، ويفاد بمثلها السكون. وانتظرت الشرخ حال الاستقرار، واستجماع الدار. ليكون ما أطالع به ناهضاً بما أنحوه، ومغنياً عما يتلوه، من غير فكر في عوادي الأسفار، وعواقب الحل والترحال، إلى ما اعتمدته من التخفيف لتكافؤ الأحوال بنا وبه في المسير، ومناصبه الهجير. وأنا أعود لعادتي في خدمته، واستعمار عهدي من رأيه بمواصلة حضرته.
ومن كتاب له إلى أبي إسحاق الصابي: علمت كيف تنتظم فرق البلاغة، وتلتقي طرق الخطابة، وتتراءى أشخاص البيان، وتتمايل أعطاف الحسن والإحسان. وقرأت لفظاً جليا، حوى معنى خفيا، وكلاما قريبا، رمى غرضا بعيداً وفصولاً متباينة، كساها الأئتلاف صور المشاكلة، ومنحها الامتزاج صيغة المضارعة، ولحمة الموافقة فصارت لدلالة الأول منها على الثاني، وتعلق العجز بالهادي، فيها أولاد أرحام مبرورة، وذوات قربى موصولة، تتعاطف عيونها، وتتناصف أبكارها وعونها.
ومن كتاب له إليه: وصل كتاب سيدي بكلام شرف في نفسه، وكرم في جنسه، فهو جوهر الفضل والألفاظ أعراض، وعنصر الأدب والمعاني أغراض. وفهمته فهم من قعدت به الاستطالة عن موقف الشكر فاستسلم، واكتنفه العجز فسلم وسلم، وأعيته العبارة عن موجب البر فلاذ بأكناف العجز، واعترف بالقصور عن مفترض الحق.
ومن كتاب له إليه: وصل كتاب مولاي بما قرب إلى جناه، وبعد على مداه، من محاسن لفظه ونظمه، ومباره التي ما زال يؤثرني فيها بالرغائب، ويصفيني منها بالعقائل. فوقفت منه بين اعتبار واقتباس، واعتذار اغتباط. واستبصار في موضع الفضيلة. وشكر لما جمع الله لي في وده من المنح الجزيلة، ووجدت خطابه مفتتحاً بشكوى الأيام في انحرافها ومكاره أحداثها، فاستوحشت منها لاستيحاشه، واستعديت عليها لاستعدائه، وشايعت المهجنين لآثارها، والزارين على أحكامها، لإعراضها دون آماله، وقدحها في أحواله. ولم يستبق الجمال لنفسه والفضل لأهله دهر اناخ على مولاي بصرفه،واختزله دون واجب حقه، وقد أجبت عن القصيدة وإن كنت اعملت فيها خاطراً قدمته السفر، وكده الحل والرحل، وعلى مولاي المعول في ضم نشره، وتسديد مختله، وحفظ غيبي فيه:
وقيت أبا إسحاق من حافظٍ عهداً ... وراعٍ لمن يمنى بفرقته ودّاً
ومنفرد بالمكرمات تألقت ... عليه المعالي فاستقل بها مجدا
بلوت أخلاّء الزمان وكلّهم ... سواءٌ فلا ذمًّا منحت ولا حمدا
ومن يبغ صفو الودّ من كل صاحب ... يكن صبحه ليلاً ومسعاته كدّا
سواك أبا إسحاق إنك والندى ... لأوفاهم عهدا وأصفاهم عقدا
وأبعدهم في كل مكرمة مدى ... وأنظمهم في جيد مأثرة عقدا
تلاقت بنا الآداب في خير منسب ... عليه تساقينا على ظمإ بردا
وألفن أرواح الصناعة بيننا ... فنحن معاً والدار نازحة جدا
ضلالة لدهر أنت من حسناته ... ولما تكن في نيل إحسانه الفردا
لعاً إنه الدهر العثور وإنه ... لسيّان من أجدى عليه ومن أكدى
يميل على ذي الفضل للجهل ضلّة ... يجرّعه سماً ويبدي له شهدا
على أنه سلمٌ لمن حلّ بالحمى ... حمى الملك المدعو للدولة العضدا
؟ما أخرج من شعره في عضد الدولة قال من قصيدة أولها:
ما للنوى وقفت دمعي على الطلل ... واستودعتني مطايا الحلّ والرّحل
ترمي بطرفك في أطرافها فترى ... ما في الضمائر من غشٍّ ومن دغل
أريتنا النقص في رأي الأولى وضعوا ... كرمان من خولٍ عنها ومن فشل
بمائها الوشل مع تمرها الدقل ... ولصّها البطل وأهلها الهمل

(1/270)


وكم تركت بها للناس من مثل ... وكم نصبت على الأنصاب من مثل
يفدي مقامك فيه الخلق قاطبة ... ونحن نفديك بالأرواح والمقل
وليس يثبت في فرع العلا قدم ... إلا إذا ثبتت في موضع الزلل
خلائق هذبتهنّ العلا فغدت ... بين الخلائق كالإسلام في الملل
اسعد بوافد نيروز تقابله ... باليمن والعز والتأييد والجذل
واستأنف العيش مسروراً بجدته ... في ظلّ عزّ مدى الأيام متّصل
ومن قصيدة قال في آخرها:
وهاك تهز عطفيها اختيالاً ... وتعجب كلّ مستمع ثناكا
تسير بها الرواة بكل أرضٍ ... وتطرب من أحبك أو قلاك
نظيرة تربها لفظاً ومعنى ... فدى لك من يقصر عن مداكا
وكل الشعر زورٌ ما خلاه ... وكل الناس زورٌ ما خلاكا
ومن أخرى فيه:
الله أكبر والإسلام قد سلما ... وعاد شمل العلا والمجد ملتئما
وظلّ ملك بني العباس معتلياً ... لما غدا ببغاة الحق مدّعما
بآل بويه أعلى الله رايته ... وشد من عقده ما كان منفصما
سادوا الملوك وشادوا المجد وابتدروا ... إلى ذرى أمدٍ نال السهى شمما
هم قلادة عزّ أنت واسطةٌ ... فيها، وكلّ بما قد قلته علما
ومنها في وصف السيوف:
بيضٌ تصافح بالأيدي مقابضها ... وحدّها صافح الأعناق والقمما
ضحكن من خلل الأغماد مصلتةً ... حتى إذا اختلفت ضرباً بكين دما
حنّت خراسان شوقاً إذ حننت لها ... حتى كأنكما نازعتما رحما
واهتز منبرها يهفو إليك، ولو ... أطاق لاخترق القيعان والأكما
رفعت راياتك اللاتي خفقن على ... أسدٍ نقلن على أكنافها أجما
لا تنتحي بلداً إلا أفضت به ... عدلاً وأجليت عنه الظلم والظلما
سامتك أبناء سامان فما بلغوا ... مدى من العزّ لم ترفع له علما
وناضلوك عن العليا فكنت بها ... أولى وأثبت منهم في العلا قدما
وصاولوك فكانوا في الوغى نقدا ... يأبى الصال وكنت البازل القطما
ومن عضدية في وصف مجلس:
فيا مجلساً عزّ الخلافة محدقٌ ... بأقطاره والندّ والنّور والخمر
وقد أرجت أرجاؤه وتعطرت ... بساطع نشرٍ ما يقاس به نشر
وفتح فيه النرجس الغض أعيناً ... محاجرها بيض وأحداقها صفر
كأن الشموع المشعلات خلاله ... ثواكل عبري ما ينهنهها الزّجر
إذا قطعت منها الرؤوس تضاحكت ... وكان على قطع الرؤوس لها بشر
ألا يا أمير المشرقين ومن به ... تفاخرت الدنيا وكان له الفخر
ولم تخلق الدنيا لغيرك فانتظر ... فهذا هو الفأل المحقق لا الزجر
وقال من سذقيه:
مالي لما بي من الهوى رمق ... كأنما سد دوني الطرق
كأنّ نار الأمير ساطعة ... من نار قلبي استعارها السذق
في ليلة باتت النجوم بها ... حائرة تنمحي وتنمحق
ونخرط الليل في النهار فما ... يؤنس إلا الصباح والشفق
بكل منشورة ذوائبها ... محمرة من شواظها الأفق
وقال في السكر المبني بشيراز، ويروي لغيره:
شربنا ذهباً يجري ... بشاطئ فضّة تجري
وما زلنا على السكر ... نداوي السّكر بالسكر
دربنا كيف أصبحنا ... وأمسينا وما ندري
وفاض الماء فيض البحر ... منصباً إلى بحر
كجدوي عضد الدو ... لة في نائله الغمر
أبو أحمد عبد الرحمن بن الفضل الشيرازي

(1/271)


روضة مجد وشرف، وحديقة فضل وأدب، وكان أحد أركان الدولة الديلمية، يكتب لمعز الدولة أبي الحسين برسم المطيع لله، ويتصرف بالعراق في جلائل الأعمال، ويلاحظ بعين الإعظام والإجلال، وكان آخذاً بطرفي النظم والنثر، فمن مشهور شعره وجيده ما كتبه إلى القاضي التنوخي:
شوقي إلى القاضي المنيف بمجده ... شوقٌ يفوت الوصف أيسر حدّهِ
وبحسب فرط الأنس كان بقربه ... قلقي لما قد ساءني من بعده
ولو أنني مما أحبّ ممكّنٌ ... لم أعد إغذاذاً أسير لقصده
ووصلت أصال السرى بغدوها ... وقرنت إرقال المطيّ بوخده
لئن عدمت سعادتي بلقائه ... فلقد أقمت على رعاية عهده
وشكرت سالف برّه وأشعت مح ... كم ودّه وقضيت واجب حمده
وعلمت أني إن طلبت مشاكلاً ... لعلاه لم تظفر يداي بندّه
فقصرت إخلاصي عليه ممسكاً ... بإخائه محظى بمطلع سعده
من ذا يقاس إليه في آدابه ... أو علمه أو هزله أو جده
والمكرمات بأسرها في حزبه ... والصالحات جميعها من عنده
بجميل شاهده سالم غيبه ... وكريم صحبته وخالص وده
أفديه من حرٍّ حليف مناقب ... لولا تكامل فضله لم أفده
لم تجر أمجاد الرجال إلى مدىً ... للسبّق إلا حاز نيل أمده
وكأنّ أضواء المحاسن كلّها ... مقدوحة نيرانها من زنده
فالله يبقيه ويرغد عيشه ... ويعزه ويعيذنا من فقده
فأجابه القاضي بقصيدته وهي قوله:
روحي فداؤك والورى من بعده ... جرّدت سيف صبابتي من غمده
عين الإمام وكفّه اليمني وح ... دّ حسامه الماضي ووسطى عقده
كلفٌ ببذل المال يحسب غنمه ... في عزمه ونموّه في حصده
وجه يجول البشر فيه برونقٍ ... ماء السماح يفيض من إفرنده
متنقب بحيائه فكأنما ... شقّ الربيع شقيقه في خده
ومقابل من فارس في دوحةٍ ... أوفت على قحطانه ومعده
هو شدّ من أزر المكارم والعلا ... حدثاً ولمن يبلغ أوان أشده
يفديه من نوب الزمان معاشر ... أحرارهم لا يلحقون بعبده
أبدت مقابحهم محاسن فعله ... والضد يظهر حسنُه في ضدّه
ما كنت أعرف قدر ما خولته ... حتى بليت بقربه من بعهده
جاءت ألوكته إليّ كأنها ... وصل الحبيب اعتضته من صدّه
ففتحت حين فتحها عن روضة ... متفتح حوذانها في ورده
فقرأتها عوداً على بدءٍ كما ... عاد الموليّ في قراءة عهده
يا جنّة الخلد التي أنا نازل ... ما بين كوثرها وطوبى خلده
لو أستطيع ركبت متن الريح أو ... أسريت نحو ذراك مسرى وفده
وهو الزمان فإن يساعد صرفه ... فبجده يسعى الفتى لا كدّه
ولأبي أحمد المذكور في وصف سحابة أدركته فاكتسي بكساء حتى أقلعت:
خرجت من عندكم فأدركني ... سحابة ذات منظرٍ صلفٍ
غمامةٌ كالعمامة انتلفت ... فوق رؤوس المشاة في السّدف
تنالها كفّ من يزوالها ... تقول للمرء ويك لا تقف
يختطف الأرض وقع صيّبها ... مثل اختطاف المخالب العقف
فوقعه والكساء يدفعه ... وقع سهام الأتراك في الهدف
كأنّما كلّ قطرة وقعت ... عليه درّ بدا من الصّدف
لو أن ما ذاب منه يجمد لم ... يصلح لغير العقود والشنف
فيها من الرعد كالدبادب وال ... صنج إذا ما ضربن في شرف
واشتعل البرق في جوانبها ... مثل السيوف انتضين من غلف
قد جمعت حالتين في طلقٍ ... صوت عذول ودمع ذي لهف
لو كان كلّي لسان ذي نصرٍ ... بوصفه واحتشدت لم أصف

(1/272)


وكتب إلى الصاحب يشكو إليه على النقرش وعلو السن، فقال:
إلى الله أشكو ضنى شفنّي ... وكم قبلة من ضنى قد شفاني
وسقماً ألحّ فما لي بما ... أحاط برجلي منه يدان
تراني وقد كنت ثبت الجنان ... إذا الليل جنّ سليب الجنان
أقطع آناءه بالأنين ... وأرقب للصبح وقت الأذان
أنقّل في موضع موضع ... فحيث حللت نبا بي مكاني
أؤمل روحاً فيأتي النهار ... بأضعاف ما بتّ فيه أعاني
أقول أقيل فلا أستطي ... ع من ألم ملحف غير واني
فمن ليلة أرونانية ... ويوم بما ساءني أروناني
أرجيّ تقضي ما أشتكي ... ه من مرضٍ بتقضي الزمان
وإني قد جزت حدّ الكهول ... وناهزت ما عمّر الوالدان
وجرمت ستين شمسيّة ... فسدّت عليّ طريق الأماني
وأوهت عراي، وهدّت قواي ... وليس لما يهدم الدهر باني
وإن كان لا يهتدي صرفه ... إلى أجل منسإ غير داني
وكنت على ثقة أنه ... إذا شاء أبرأني من براني
فيا من له الخلق والأمر من ... بعافية منك تشفي ضماني
وجد لي نأي أجل أو دنا ... بعفو وسعت به كل جاني
وهبني لأحمد والمصطفي ... ن من آله وآل بيت الجنان
هم عدتي وبهم أتقي ال ... عقاب وأرجو خلود الجنان
فكتب إليه الصاحب مجيباً:
عناني من الهمّ ما قد عناني ... فأعطيت صرف الليالي عناني
ألفت الدموع وعفت الهجوع ... فعيناي عينان نضّاختان
لسقم ألحّ على سيد ... بد قد غفرت ذنوب الزمان
أحاط برجليه جوراً عليه ... وأني ونعلاهما الفرقدان
وكيف سطا بهما واستطال ... وأرض بساطهما النيران
وهلاّ تجاوزه قاصداً ... إلى عصبة عصبت بالهوان
إذا ما سعى لطلاب العلا ... فكلّ أوان همُ في توان
وسوف توافيه كفّ الشفاء ... بما أنشأت باسمه من أمان
وتفقأ في عيون الزمان ... عزيز المحل رفيع المكان
ويبقى جمالا لأقرانه ... وقد قصروا عنه ألفي قران
أتتني بالأمس أبياته ... تعلل روحي بروح الجنان
كبرد الشباب وبرد الشراب ... وظل الأمان ونيل الأماني
وعهد الصبي ونسيم الصبا ... وصفو الدّنان ورجع القيان
فلو أن ألفاظها جسمت ... لكانت عقود نحور الغواني
فيا ليت عمري في عمره ... يزاد ولو أنه حقبتان
فيا مهجة قدمت دونه ... بغانية عند ذكر الغواني
أجيب عن الشعر مسترسلاً ... بطبع شجاع وقلب جبان
فلو لا سكوني إلى فضله ... قبضت بناني بقبضي لساني
أبو القاسم علي بن القاسم القاشاني
بقية مشيخة الكتاب المتقدمين في البراعة، المالكين لأزمة البلاغة المتوقلين في هضاب المجد، المترقلين في درجات الفضل، وقد أخرجت من نظمه ونثره ما هو ثمرة العقل. وعين القول الفصل.
فصل
كتابي أطال الله بقاء مولاي وأنا متردد بين جذل لتجدد بره في خطابه. وبين خجل من قوارع زجره وعتابه. فإذا خليت عنان انسى في رياض مباره، فرتعت جاذبيته لاعج الإشفاق. فلو كان سوء ظنه بي صادقاً لا اعترفت، ولعدت منه بحقوي كريم لا يبهظه اغتفار الجرائم، ولا بتعاظمه الصفح عن الجرائر.
فصل
علقت هذه المخاطية والأشغال تكنفني، وكد الخاطر بأسباب شتى تقتسمني. ووراء ذلك كلال الذهن، بارتقاء السن، ونقصان الخواطر، بزيادة الشواغل. واستمرار البلادة، لمفارقة العادة. وهو والله يعيذه من السوء مقتبل الشاب، زائد الأسباب، مؤتنف المخايل، إلى علم لا يدرك مضماره، ولا يشق غباره فإذا حملني على مساجلته. فقد عرضني للتكشف، وإن عرضني على محنة التتبع،فقد سلبني ثوب التجمل.
فصل

(1/273)


أظلني من مولاي عارض غيث أخلف ودقه، وشامني من لائح غوث كذب برقه، فقل في حران ممحل أخطأه النوء، وحيران مظلم خذله الضوء.
فصل
وصل كتاب مولاي:
فكم فرحة أَدى وكم غلة جلا ... وكم بهجة أولى وكم غمة سلّى
وسألت الله واهب خصال الفضل له، وجامع خلال النبل فيه، وحائز جمال المروءة للزمان ببقائه، ومانح كمال المزية للإخوان بمكانه، أن يتولى حفظ النعيم النفسية. ويديم حياطة المهج الخطيرة، بصيانة تلك الشيم العلية، حتى تستوفي المكارم أعلى حظها في أيامه، وتحوز الفضائل أقصى غايتها في مضماره:
فينجح ذو فضل ويكمد ناقص ... ويبهج ذو ودّ ويكمد حاسد
؟؟فصل
وما أرتضى نفسي لمخاطبة مولاي إذا كنت منفي الشواغل، فارغ الخواطر، مخلى الجوارح، مطلق الإسار، سليم الأفكار، فكيف بي مع كلال الجد، وانغلاق الفهم، واستبهام القريحة، واستعجام الطبيعة، والمعول على النية، وهي لمولاي بظهر الغيب مكشوفة. والمرجع إلى العقيدة، وهي بالولاء المجض معروفة. فلا مجال للعتب بين هذه الأحوال، كما لا مجال للعذر وراء هذا الخلال.
؟فصل مراتع أهل الفضل موبئة. ووجوده مطالب النزاع مظلمة غير مضيئة، إلا في محل الشيخ الخصيب، وفنائه المألف الرحيب، لا جرم أن الآمال عليه موقوفة، وأعنة الوراد إليه معطوفة، وداره مقصودة، وحاله مكدودة، والمنهل العذب كثير الزحام.
؟فصل إن كان أوداؤه في فضله مستهمين، وأولياؤه في إحسانه فوضى مشتركين. فلي بحمد الله عفو صنائعه، وصفو شرائعه، لا أسبق إلى جمامها، ولا أنازع ثني زمامها، فعلى حسب ذلك تصرفي وتجملي من أقسام ما يحدث عنده ويعرض له، هذا. وقد بلغني من تشريف الأمير المؤيد إياه بالعيادة، وإطالته عنده الإقامة ومعه المفاوضة، ما أمكن في نفسي، وقوى ثقتي وأنسي، فإنه لم يكن إلا سبباً لتجدد هذه النعمة، وذريعة إلى لباس هذه الرتبة. فالله الذي قرن لمولاي تيسير ما قد قاسى عظيم المجد الذي لا يوازي، وعميم الفخر الذي لا يسامي، ودل بقليل ما مسه على كثير ما وعدت تباشيره السعادة من مزيد الكرامة.
؟؟فصل
قد كان منزله مألف الأضياف، ومأنس الأشراف، ومنتجع الركب، ومقصد الوفد، فاستبدل بالأنس وحشة، وبالنضارة غبرة، وبالضياء ظلمة. واعتاض من تزاحم المواكب تلازم المآتم، ومن ضجيج النداء والصهيل، عجيج البكاء والعويل: وله من كتاب إلى الصاحب أوله هذه الأبيات:
إذا الغيوم آرجفن باسقها ... وحف أرجائها بوارقها
وغيبت للثرى كتائبها ... وانتضيت وسطها عقائقها
وجلجل الرعد بينها فحكى ... خفق طبول ألح خافقها
وابتسمت فرحةً لوامعها ... واختلفت عبرةً حمالقها
وقيل طوبى لبلدة نتجت ... بحق أكنافها فوارقها
أية نعماء لا تجل بها ... وأي بأساء لا تفارقها
فليسق غيث الندى أبا القاسم ال ... قرم وزير الأيام وادقها
تحكي سجاياه هزةً وندىً ... وأين من خلقه خلائقها
ولتهد ريح الصبا محملةً ... أنفاس طيب أمست تعانقها
في روضة لا النعيم سابقها ... ولا نسيم الرياض لاحقها
جاور حوذانها بنفسجها ... وزان ريحانها شقائقها
هبت رخاء مريضة فشفت ... مرضي وشاق النفوس شائقها
لم تبق منه النوى سوى كبدٍ ... تدمي وعينٍ تجري سوابقها
إني وإن غالب الهوى جلدي ... صبري لصادي الأحشاء خافقها
ذكرى لأيامنا التي غفلت ... عنها العوادي ونام رامقها
إذا النوى لا تروعنا وإذ ال ... أيام مأمونة بوائقها
والله لو أنّ ما أكابده ... بهضب رضوى خرت شواهقها

(1/274)


هذا أطال الله بقاء مولاي نتائج أريحية، أثارها مخاطبات مولاي التي هي أنقع لغلتي من برد الشراب، وأعذب إلي من برد الشباب. فجاش الصدر بما أبرأ إليه من عهدته، وأسكنه ظل أمانه وذمته، ليسبل عليه ستر مودته ويتأمل بعين محبته. نعم وقد محا الزمان آثار إساءته إليّ، بما أسعفني به من إقبال مولاي علي، وتتابع بره في مخاطباته لدي. فكل ذنب لهذه النعمة مغفور، وكل جناية بهذا الإحسان معمور.
فأجاب الصاحب بكتاب صدره هذه الأبيات:
بدت عذارى مدّت سرادقها ... وأقسم الحسنُ لا يفارقها
كواعبٌ أخرست دمالجها ... عنّا وقد أنطقت مناطقها
خراعب حقّها وصائفها ... تشي بأبدانها قراطقها
صينت عن العطر أن يطيبها ... إلا الذي حملت مخانقها
أم روضة أبرزت محاسنها ... وما يني قطرها يعانقها
فأورد الورد غصنها بدعا ... وشقَ عن أرضها شقائقها
وأعشت الناظرين حليتها ... وشاق أحداقهم حدائقها
أم أشرقت فقرة بدائعها ... حديقة زانها طرائقها
أتى بها بالكمال ناسجها ... وزانُها بالجمال ناسقها
لله حلف العلا أبو حسن ... وقد جرت للعلا سوابقها
فحاز خصل الرهان عن كثب ... وفرجت عنده مضايقها
لله تلك الألفاظ حاملةً ... غرّ معانٍ تعيي دقائقها
يكاد إعجازها يشككها ... في سورٍ أنها توافقها
أهدي سلاماً حكى السلامة من ... أسقام سوءٍ يخاف طارقها
كأنّه دارنا ولم يرها ... ناعبها للنوى وناعقها
كأنها غفلة الرقيب وقد ... مكنت من نظرةٍ أسارقها
أهديت منه ما لو تحمّله ال ... أيام لم يستقل عاتقها
تحدو به صبوة ركائبها ... راتكة لا يميل سائقها
خذها وقد أحصدت وثائقها ... وألحقت بالسّهى سواهقها
ناشدتك الله حين تنشدها ... وخلةً لا يخيل صادقها
إلاّ تعمّدت رفع رايتها ... ليملأ الخافقين خافقها
نعم وعش في النعيم ما طلعت ... شمس نهار وذرّ شارقها
هذا أطال الله بقاء مولاي أبيات علقتها والروية لم تعتلقها، واعتنقت فيها والفكرة لم تعتنقها، لا ثقة بالنفس وفائها، وسكونا إلى القريحة وصفائها، بل علماً بأني وإن أعطيت الجهد عنانه، وفسحت للكد ميدانه. لم أدان ما ورد من ألفاظ أيسر ما أصفها به الامتناع عن الوصف أن يتقصاها. والبعد عن الإطناب أن يبلغ مداها، ولقد قرع سمعي منها ما أراني العجز يخطر بين أفكاري، والقصور يتبختر بين أقبالي وإدباري. إلى أن فكرت أن فضيلة المولى يشتمل عبده يخيم، وإن تصرفت عنده، فثاب إلى خاطر نظمت به ما إن طالعه صفحاً وجوداً رجوت أن يحظى بطائل القبول، وأن يتبعه نقداً تراجع على أعقاب الخمول، هذا ولا عار على من سبقه سباق الزمان، المستولي على قصب الرهان.
ومن مشهور شعر علي بن القاسم وجيده قوله:
وإني وإن قصرت عن غير بغضة ... لراعٍ لأسباب المودّة حافظ
وما زال يدعوني إلى الصد ما أرى ... وآبي فتثنيني إليك الحفائظ
وأنتظر العقبى وأغضي على القذى ... ألاين طوراً في الهوى وأغالظ
وأستمطر الإقبال بالود منكم ... وأصبر حتى أوجعتني المغايظ
وجربت ما يسلي المحب عن الهوى ... وأقصرت والتجريب للمرء واعظ
الباب الخامس
في ذكر
شعراء البصرة ومحاسن كلامهم
القاضي التنوخي
أبو القاسم علي ابن محمد بن داود بن فهم

(1/275)


من أعيان أهل العلم والأدب وأفراد الكرم، وحسن الشيم، وكان كما قرأته في فصل للصاحب: إن أردت فإني سبحة ناسك، أو أحببت فإني تفاحة فاتك. أو اقترحت فإني مدرعة راهب. أو آثرت فإني نخبة شارب. وكان يتقلد قضاء البصرة والأهواز بضع سنين، وحين صرف عنه ورد حضرة سيف الدولة زائراً ومادحاً، فأكرم مثواه، وأحسن قراه، وكتب في معناه إلى الحضرة ببغداد، حتى أعيد إلى علمه، وزيد في رزقه ورتبته، وكان المهلبي الوزير وغيره من وزراء العراق يميلون إليه جداً. ويتعصبون له ويعدونه ريحانة الندماء، وتاريخ الظرفاء. ويعاشرون منه من تطيب عشرته، وتلين قشرته، وتكرم أخلاقه، وتحسن أخباره، وتسير أشعاره، ناظمة حاشيتي البر والبحر، وناحيتي الشرق والغرب.
وبلغني أنه كان له غلام يسمى نسيماً، في نهاية الملاحقة واللباقة، وكان يوثره على سائر غلمانه، ويختصه بتقريبه واستخدامه، فكتب إليه بعض ما يأنس به ما يقول:
هل على من لامه مدغم ... لاضطرار الشعر في ميم نسيم
فوقع تحته نعم لم لا! ويحكى أنه كان من جملة القضاة الذي ينادمون الوزير المهلبي، ويجتمعون عنده في الأسبوع ليلتين على اطراح الحشمة، والتبسط في القصف والخلاعة، وهم ابن قريعة، وابن معروف، والقاضي التنوخي وغيرهم. وما منهم إلا ابيض اللحية طويلها، وكذلك كان الوزير المهلبي، فإذا تكامل الأنس وطاب المجلس ولذ السماع وأخذ الطرب منهم مأخذه، وهبوا ثوب الوقار، وتقلبوا في أعطاف العيش، بين الخفة والطيش، ووضع في يد كل واحد منهم كأس ذهب من ألف مثقال إلى دونها مملوء شراباً قطربلياً أو عكبرياً فيغمس لحيته فيه بل ينقعها حتى تتشرب أكثره، ويرش بها بعضهم على بعض، ويرقصون أجمعهم، وعليهم المصبغات ومخانق البرم والمنثور، ويقولون كلما كثر شربهم هرهر. وإياهم عنى السري بقوله:
مجالسٌ ترقص القضاة بها ... إذا انتشوا في مخانق البرم
وصاحب يخلط المجون لنا ... بشيمة حلوة من الشيم
تخضب بالراح شيبة عبثاً ... أنامل مثل خمرة العنم
حتى تخال العيون شيبته ... شيبة فعلان ضرجت بدم
فإذا أصبحوا عادوا لعادتهم في التزمت والتوفر والتحفظ بأبهة القضاة وحشمة المشايخ الكبراء. وقد أخرجت من غرر الشعر التنوخي ما هو من شرط الكتاب فمن ذلك وصف الليل والنجوم بقوله:
رب ليل قطعته بصدود ... وفراقٍ ما كان فيه وداعُ
موحشٍ كالثقيل تقذى به الع ... ن وتأبى حديثه الأسماع
وكأنّ النجوم بين دجاه ... سننٌ لاح بينهن ابتداع
مشرقات كأنّهن حجاج ... تقطع الخصم والظلام انقطاع
وكأن السماء خيمة وشيٍ ... وكأنّ الجوزاء فيها شراع
كان ليلاً فصيرته نهاراً ... كتبٌ تكبت العدى ورقاع
وقوله:
كأنّما المريخ والمشتري ... قدامه في شامخ الرفعه
منصرف بالليل عن دعوة ... قد أسرجوا قدامه شمعه
وقوله وعهدي بأبي بكر الخوارزمي يستظرفه:
وجاء لاجاء الدجى كأنه ... من طلعة الواشي ووجه المرتقب
وفعل الظلام بالضياء ما ... يفعله الحرف بأبناء الأدب
وقوله:
كأنّ النجوم الزهر في غلس الدجى ... سنا أوجه العافين في سنة الردّ
وقد أبطأت خيل الصباح كأنّها ... بخيلٌ تباطا حين سيل عن الرفد
وقوله:
وليلة مشتاق كأنّ نجومها ... قد اغتصبت عين الكرى وهي نوم
كأنّ عيون الساهرين لطولها ... إذا شخصت للأنجم الزهر أنجم
كأنّ سواد الليل والفجر ضاحك ... يلوح ويخفي أسود يتبسم
وقال في غور الكواكب عند الصباح:
عهدي بها وضياء الصبح يطفئها ... كالسرج تطفأ أو كالأعين العور
أعجب به حين وافى وهي نيرةٌ ... فظل يطمس منها النور بالنور
وقال من سائر الأوصاف والتشبيهات:
بات يسقيني ويشرب ... ذهباً للهم مذهب
شادنٌ يحمل ماءً ... فيه نارٌ تتلهب

(1/276)


وردة ضاحكة عن ... أقحوان حين تقطب
لو أدرناها على مي ... ت لكان الميت يطرب
ليت شعري أسروراً ... أم مداماً بتّ أشرب
صبّ في الكاسات منها ... كالشهاب المتصوب
فرأيت الراح شرقاً ... ورأيت الهم مغرب
غصنٌ فوق كثيب ... ونهارٌ تحت غيهب
لك منه مطربٌ يرض ... يك إن شئت ومضرب
جنة عذّبت فيها ... بتجنّ وتجنّب
هل رأيتم أحداً قب ... لي بالجنّة عذّب
بأبي أنت وأمي ... من بعيد حين تقرب
لي قلب كيف ما قلّ ... به الله يقلب
وجفون يغضب الغم ... ض عليها حين يقلب
ربّ ليلٍ كتجني ... ك مقيمٌ ليس يذهب
قد قطعناه بعزم ... كالحريق المتلهّب
وكأنّ البرق لما ... لاح فيه ينتصب
كاتبٌ من فوق فرع ال ... غيم بالعقيان يكتب
وكأنّ الرعد حادٍ ... أو مناد أو مثوب
ونجوم الليل وقف ... كلآل لم تثقب
وبد البدر كسيف ... في يد الجوزاء مذهب
وقال، وهو من قلائده:
وراحٍ من الشمس مخلوقة ... بدت لك في قدح من نهار
هواءٌ ولكنّه ساكنٌ ... وماء ولكنّه غير جاري
إذا ما تأملتها وهي فيه ... تأمّلت نوراً محيطاً بنار
وما كان في الحق أن يجمعا ... لبعد التداني وفرط النفار
ولكن تجانس معناهما ال ... بسيطان فاتفقا في الجوار
كأنّ المدير لها باليمين ... إذا مال للسقي أو باليسار
تدرع ثوباً من الياسمين ... له فرد كمٍ من الجلنار
وقال في وصف دجلة والقمر:
لم أنس دجلة والدجى متصوب ... والبدر في أفق السماء معربُ
فكأنها فيه بساطٌ أزرقٌ ... وكأنّه فيها طراز مذهب
وقال أيضاً في الروض:
ورياض حاكت لهنّ الثريا ... حللاً كان غزلها للرعود
نثر الغيث درّ دمع عليها ... فتحلّت بمثل در العقود
أقحوان معانقٌ لشقيق ... كثغور تعص ورد الخدود
وعيونٌ من نرجس تتراءى ... كعيونٍ موصولة التسهيد
وكأنّ الشقيق حين تبدي ... ظلمة الصدع في خدود الغيد
وكأنّ الندى عليها دموع ... في جفون مفجوعة بفقيد
وقال في البرد:
وليلة ترك البرد البلاد بها ... كالقلب أشعر بأساً وهو مثلوج
فإن بسطت يداً لم تنبسط خصراً ... وإن تقل فقل لي فيه تثليج
فنحن منه ولم نخرس ذوو خرس ... ونحن منه ولم نفلج مفاليج
وقال فيه أيضاً:
أما ترى البرد قد وافت عساكره ... وعسكر الحر كيف انصاع منطلقا
والأرض تحت ضريب الثلج تحسبها ... قد ألبست حبكا أو غثيت ورقا
فانهض بنار إلى فحم كأنّهما ... في العين ظلم وإنصاف قد اتفقا
جاءت ونحن كقلب الصبّ حين سلا ... برداً فصرنا كقلب الصب إذ عشقا
وقال من قصيدة كثيرة العيون، وكان الصاحب يفضلها على سائر شعره، ويرى أنها من أمهات قلائده:
أحبب إلي بنهر معقل الذي ... فيه لقلبي من همومي معقل
عذبٌ إذا ما عبّ فيه ناهلٌ ... فكأنّه في ريق حبّ ينهل
متسلسل وكأنّه لصفائه ... دمع بخدّي كاعب يتسلسل
وإذا الرياح جرين فوق متونه ... فكأنه درعٌ جلاها صقيل
وكأنّ دجلة إذ يغطمط موجها ... ملل يعظم خيفة ويبجّل
وكأنها ياقوتةٌ أو أعين ... زرق تلائم بينها وتوصل
عذبت فما تدري أماءٌ ماؤها ... عند المذاقة أم رحيق سلسل

(1/277)


ولها بمدٍّ بعد جزر ذاهب ... جيشان يدبر ذا وهذا يقبل
وإذا نظرت إلى الأبلة خلتها ... من جنة الفردوس حين تخيل
كم منزل في نهرها آلى والسرو ... ر بأنه في غيره لا ينزل
وكأنما تلك القصور عرائسٌ ... والروض فيه جلي خود ترفل
غنّت قيان الطير في أرجائها ... هزجاً يقل له الثقيل الأول
وتعانقت تلك الغصون فأذكرت ... يوم الوداع وغيرهم يترحل
ربع الربيع به فحاكت كفه ... حللاً بها عقد الهموم تحلل
فمدبج وموشّحٌ ومدّنرٌ ... ومعمد ومحبر ومهلهل
فتخال ذا عيناً وذا ثغراً وذا ... خدّاً يعضَّضُ مرة ويقبّل
وكتب إلى الوزير المهلبي، وقد منعه المطر من خدمته:
سحابٌ أتى كالأمن بعد تخوّف ... له في الثرى فعل الشفاء بمدنفِ
أكبّ على الآفاق إكباب مطرق ... يفكر أو كالنادم المتلهّفِ
ومدّ جناحيه على الأرض جانحاً ... فراح عليها كالغراب المرفرف
غدا البرّ بحراً زاخراً وانثنى الضّحى ... بظلمته في ثوب ليلٍ مسجّف
يعبس عن برقٍ به متّبسمٍ ... عبوس نحيلٍ في تبسم معنف
تحاول منه الشمس في الجوّ مخرجاً ... كما حاول المغلوب تجريد مرهف
أين هذا قول من قول ابن المعتز:
تحاول فتق غيمٍ وهو يأبى ... كعنينٍ يريد نكاح بكرِ
رجع:
فأترع ماءً وارد حوضه ... أسلسال ماء أم سلافة قرقف
أتى رحمةً للناس غيري فإنه ... عليّ عذابٌ ماله من تكشف
سحاب عداني عن سحابٍ وعارض ... منعت به من عارضٍ متكفكف
أخذه من قول الحسن بن وهب لمحمد بن عبد الملك وهو:
لست أدري ماذا أذمّ وأشكو ... من سماءِ تعوقني عن سماءِ
غير أني أدعو على تيك بالثك ... ل وأدعو لهذه بالبقاء
الجواب من وزير المذكور:
أتت رقعة القاضي الجليل فكشفت ... وساوس محزون الفؤاد ملهّف
فأهدت نظاماً من قريضِ كأنه ... نظام لآل أو كوشي مفوّف
تكامل فيه الظرف والشكل مثلما ... تكامل في مهديه كلّ التظرفُّ
حوى منتهى الحسنى بأول خاطرٍ ... يكلّفه في الشعر ترك التكلّف
قال في وصف قصيدة:
وقصيدة ألفاظها ... في النظم كالدر النثير
جاءت إليّ كأنها ال ... توفيق في كلّ الأمور
بأرق من الشكوى وأح ... سن من حياة في سرور
لو قابلت أعمى لأض ... حى وهو ذو طرفٍ بصير
فكأنّها أملٌ تحقّ ... ق بعد يأسٍ في الصدور
أو كالفقيد إذا أتت ... بقدومه بشرى البشير
أو كالمنام لساهرٍ ... أو كالأمان لمستجير
أو كالشفاء لمدنفٍ ... أو كالغني عند الفقير
وكأنّما هي من وصا ... ل أو شبابٍ أو نشور
لفظٌ كأسر معاندٍ ... أو مثل إطلاق الأسير
وكأنه إذ لاح من ... فوق المهارق والسطور
ورد الخدود إذا انتقل ... ت به على درّ الثغور
غررٌ غدت وكأنّها ... من طلعة الظبيّ الغرير
من كلّ معنى كالسلا ... مة أو كتيسير العسير
كتبت بحبرٍ كالنوى ... أو كفر نعمى من كفور
في مثل أيام التوا ... صل أو كاعتاب الدهور
أهديتها يا خير من ... يختار في كرمٍ وخير
وقال في ثوف كتاب:
وافى كتابك مثلما ... وافى لمفقود بشيرُ
وكأنه الإقبال جا ... ء أو الشفاء أو النشور
كأنّه شرخ الشبا ... ب وعيشه الغض النضير
وافى وعير الليل وا ... قفة الركائب لا تسير

(1/278)


فأضاء لي من كلّ ف ... ج منه فجرٌ مستنير
وارتد طرف الدهر عنّي ... وهو مطروف حسير
ورأيت أفلاك السرو ... ر بكلّ ما أهوى تدور
وفضضته فكأنّه ... أثواب وشيٍ أو حبير
خطّ وقرطاس كأنّ ... هما السوالف والثغور
وكأنّه ليلٌ يلو ... ح خلاله صبح منير
ما بين خط كالحيا ... ة إذا استتب لها السرور
وبدائع تدع القلو ... ب تكاد من طرب تطير
في كل معنى للغني ... يحويه محتاج فقير
أو كالفكاك يناله ... من بعد ما يأس أسير
أو كالسعادة أو كما ... يتيسر الأمر العسير
فاسلم ودم ما دام ذو ... سلمٍ وما أرسى ثبير
وكتب إلى أبي أحمد بن ورقاء قصيدة أولها مستحسن جداً وهو:
أسير وقلبي في هواك أسير ... وحادي ركابي لوعةٌ وزفير
ولي أدمع غزر تفيض كأنّها ... جداً فاض في العافين منك غزير
وطرف طريف بالسهاد كأنه ... لهاك وجيش الجود فيه مغير
رياضكم خضر يرفّ نباتها ... ونوءكم رطب السّحاب مطير
وجوه كأكباد المحبين رقةً ... ولكنها يوم الهياج صخور
وكتب إلى بعض أصدقائه قصيدة منها:
كتبت وليلي بالسهاد نهار ... وصدري لوراد الهموم صدار
ولي أدمع غزرٌ تفيض كأنها ... سحائب فاضت من يديك غزار
ولم أر مثل الدمع ماءً إذا جرى ... تلهّب منه في المدامع نار
رحلت وزادي لوعةٌ ومطيتي ... جوانح من خر الفراق حرار
مسيرٌ دعاه الناس سيراً توسعا ... ومعنى اسمه إن حققوه إسار
إذا رمت أن أنسى الأسى ذكرت به ... ديارٌ لها بين الضلوع ديار
لك الخير عن غير اختياري ترحلي ... وهل لي على صرف الزمان خيار
وهذا كتابي والجفون كأنّما ... تحكّم في أشفارهن شفار
الغزل من شعره قال:
حور بعينيه أطال تحيري ... ترك الدموع كخدّه المتعصفر
غصنٌ تأوّد فوق دعص من نقا ... ليلٌ تبلّج عن نهار مسفر
كالشمس إلا أنه متنفّسٌ ... عن مسكة متبسم عن جوهر
وأطال من ليلي وقصر ليلة ... أنّي سهرت وأنه لم يسهر
وقال أيضاً:
بأبي وجهك لو أش ... بهه منك الضيع
أنت بدر ما له في ... فلك الوصل طلوع
وقال أيضاً:
رضاك شباب لا يليه مشيب ... وسخطك داءٌ ليس منه طبيب
كأنك من كلّ النفوس مركّبٌ ... فأنت إلى كل النفوس حبيب
وقال في أمرد جسيم
قالوا عشقت عظيم الجسم لهمْ ... الشمس أعظم جرم حازه الفلك
من أين أستر وجدي منهتكٌ ... ما للمتيّم في فتك الهوى درك
وقال فيه:
لبست نحافة الغصن النحيف ... وذبت سوى ذماء في ضعيف
يحوريّ المحاسن والمعاني ... وإنسي المخايل والأليف
له في كلّ عضو دعص رملٍ ... ثقيل الجسم ذو روح خفيف
أأعشق لا عشقت أخا نحول ... سوى أني أخو الخلق الظريف
إذا لمسته كفّى لم تلامس ... سوى جلدٍ على عظم نحيف
ومما أنشدت له، ولم أجده في ديوانه:
قلت لأصحابي وقد مرّ بي ... منقباً بعد الضيا بالظلم
بالله يا أهل ودادي قفوا ... كي تبصروا كيف تزول النعم
ابنه
أبو علي المحسن ابن القاضي التنوخي
هلال ذلك القمر، وغصن هاتيك الشجر، والشاهد العدل لمجد أبيه وفضله، والفرع المثيل لأصله، والنائب عنه في حياته. والقائم مقامه بعد وفاته، وفيه يقول أبو عبد الله بن الحجاج:
إذا ذكر القضاة وهم شيوخ ... تخيرت الشباب على الشيوخ

(1/279)


ومن لم يرضَ لم أصفعه إلاّ ... بحضرة سيدي القاضي التنوخي
وله كتاب الفرج بعد الشدة، وناهيك بحسنه. وإمتاع فنه. وما جرى من الفأل بيمنه، لا جرم أنه أسير من الأمثال. وأسرى من الخيال.
أخبرني أبو نصر سهل بن المرزبان أنه رأى ديوان شعره ببغداد أكبر حجماً من ديوان شعر أبيه، وإن بعض العوائق حال بينه وبين تحصيله حتى وفاته. واشتد الأسف عليه، ولو تقدر له استصحابه كسائر الدواوين البديعة لكنت أتفسح في الانتخاب منه. ولكني الآن مقل من شعره. وسيقع لي ما أتكثر به وألحق المختار منه بمكانة من هذا الباب بمشيئة الله تعالى وعونه مما علق بحفظ أبي نصر المذكور وأنشدنيه للقاضي أبي علي قوله، وهو معنى ظريف ما أراه سبق إليه، وهو:
خرجنا لنستقي بين دعائه ... وقد كاد هدب الغيم أن يبلغ الأرض
فلما ابتدا يدعو تقشعت السما ... فما تمّ إلا والغمام قد انفضا
وأنشدني غيره له، وأنا مرتاب به لفرط جودته، وارتفاعه عن طبقته،:
أقول لها والحي قد فطنوا بنا ... ومالي على أيدي المنون براحُ
لما ساءني أن وحّشتني سيوفهم ... وأنك لي دون الوشاح وشاح
ومما أنشده لنفسه في كتاب الفرج بعد الشدة:
لئن أشمت الأعداء صرفي ورحلتي ... فما صرفوا فضلي ولا ارتحل المجد
مقامٌ وترحال وقبض وبسطة ... كذا عادة الدنيا وأخلاقها النكد
كأنه نسج على منوال المتنبي حيث قال:
على ذا يمضي الناس: اجتماع وفرقة ... وميتٌ ومولودٌ، وقالٍ ووامقُ
ومما ينسب إليه قوله لبعض الرؤساء في التهنئة بشهر رمضان:
نلت في ذا الصيام ما ترتجيه ... ووقاك الإله ما تتّقيهِ
أنت في الناس مثل شهرك في الأشه ... ر بل مثل ليلة القدر فيه
وأنشدني له غير ثقة وهو متنازع:
قل للمليحة في الخمار المذهب ... أفسدت نسك أخي التقي المترهب
نور الخمار ونور وجهك تحته ... عجباً لوجهك كيف لم يتلهب
وجمعت بين المذهبين فلم يكن ... للحسن عن ذهبيهما من مذهب
فإذا بدت عينٌ لتسرق نظرةً ... قال الشعاع لها اذهبي لا تذهبي
وأما ابنه أو القاسم علي فلم يبلغني بعد شعره، وقد بلغني ذكره على لسان أبي الحسن علي بن موسى الكرخي. وقد أوردت ما أنشدنيه عنه لأبي المطاع ذي القرنين ابن ناصر الدولة أبي محمد في باب الأمراء من بني حمدان فليراجع.
ابن لنكك البصري
أبو الحسن محمد بن محمد
فرد البصرة وصدر أدبائها وبدر ظرفائها في زمانه، والمروع إليه في لطائف الأدب وظرائفه طول أيامه. وكانت حرفة الأدب تمسه وتجشمه، ومحنة الفضل تدركه فتخدشه، ونفسه ترفعه، ودهره يضعه، واتفق في أيامه هبوب الريح للمتنبي، وعلو رتبته، وبعد وصيته، وارتفاع مقدار أبي رياش اليمامي، وسمو نجمه،ونفاق سوقه، وفوزهما بالمراتب والحظوظ دونه وسعادتهما من الأدب بما شقي به، وحصل أبو الحسن على ثلبهما، والتشفي بذمهما، والقعود تحت المثل السائر " أوسعتهم ذما وأودوا بالإبل " وأكثر شعره ملح وظرف، خفيفة الأرواح، تأخذ من القلوب بمجامعها. وتقع من النفوس أحسن مواقعها، وجلها في شكوى الزمان وأهله، وهجاء شعراء أهل عصره، وما أشبه شعره في الملاحة وقلة مجاوزة البيتين والثلاثة، إلا بشعر كنية أبي الحسن بن فارس. وأقدر أنه في الجبال، كهو في العراق، وكان يقال في منصور الفقيه: إذا رمى بزوجته قتل، وكذلك ابن لنكك إذا قال البيت والثلاثة أغرب بما جلب، وأبدع فيما صنع، فأما إذا قصد فقلما يفلح وينجح، وبلغني أن الصاحب كتب على ظهر جزء من شعر ابن لنكك:
شعر الظريف ابن لنكك ... مهذب ومحكك
مذهبٌ وممسكٌ ... بمثله يتمسّك
ما أخرج من شعره في الشكوى وذم الزمان وأهله قال:
يا زمانا ألبس الأح ... رار ذلاً ومهانهْ
لست عندي بزمان ... إنما أنت زمانه
كيف نرجو منك خيراً ... والعلا فيك مهانه
أجنونٌ ما نراه ... منك يبدو أم مجانه
وقال أيضاً

(1/280)


زمانٌ رأينا فيه كلّ العجائب ... وأصبحت الأذناب فوق الذّوائبِ
لو أنّ على الأفلاك ما في نفوسنا ... تهافتت الأفلاك من كل جانب
وقال أيضاً:
عجائب في زمانك شاهدات ... علب خرف من الفلك المحيط
يرى متيقظاً ما لا يراه ... إذا ما نام آكل قنَّبيط
لأن له خاصية في توليد السوداء، ويرى أحلاماً ردية.
وقال:
عجيب للدهر في تصرّفه ... وكل أفعال دهرنا عجبُ
يعاند الدهر كل ذي أدب ... كأنّما ناك أمّه الأدب
وقال أيضاً:
يقولون لي أصبحت في العلم واحداً ... وفي الشعر والأدب مالك ثاني
فقلت صدقتم أيّها الناس إنّني ... كذاك ولكن في حر أمّ زماني
وقال أيضاً
مضى الأحرار وانقرضوا وبادوا ... وخلّفني الزمان على علوجِ
وقالوا قد لزمت البيت جدّاً ... فقلت لفقد فائدة الخروج
لمن ألقى إذا أبصرت فيهم ... قروداً راكبين على السروج
زمانٌ عزّ فيه الجود حتّى ... تعالى الجود في أعلى البروجِ
وقال في المعنى:
جار الزمان علينا في تصرفه ... وأيّ دهرٍ على الأحرار لم يجرِ
عندي من الدهر ما لو أن أيسره ... يُلقى على الفلك الدوّار لم يدر
وقال أيضاً:
نحن والله في زمان غشوم ... لو رأيناه في المنام فزعنا
يصبح الناس فيه من سوء حالٍ ... حق من مات منهم أن يهنّا
وقال أيضاً
لا مكث الله دنيانا فقيمتها ... ليست تفي عند ذي عقل بقيراط
دنيا تأبّت على الأحرار عاصية ... وطاوعت كلّ صفعان وضراط
وقال من الوافر:
زمانٌ قد تفرّغ للفضول ... يسوّد كل ذي حمق جهول
فإن أحببتم فيه ارتياحاً ... فكونوا جاهلين بلا عقول
وقال أيضاً:
إن أصبحت هممي في الأفق عالية ... فإن حظي ببطن الأرض ملتصق
كم يفعل الدهر بي ما لا أسر به ... وكم يسيء زمانٌ جائرٌ حنق
كم نفخة لي على الأيام من ضجر ... تكاد من حرها الأيام تحترق
وقال أيضاً
نحن في الدهر في أعاجيب ... فنسأل الله صبر أيوب
أقفرت الأرض من محاسنها ... فابك عليها بكاء يعقوب
وقال أيضاً:
ذهب الذين يعاش على أكنافهم ... وبقيت في خلف بلا أكناف
بطاليس وقلانس محشوةٍ ... يتعاشرون بقلّة الإنصاف
ما شئت من حلل وفره مراكب ... أبواب دورهم بلا أجواف
وقال أيضاً:
لا تخدعنك اللّحى ولا الصور ... تسعة أعشار من ترى بقر
تراهم كالسحاب منتشراً ... وليس فيه لطالب مطر
في شجر السرو منهم مثلٌ ... له رواءٌ وما له ثمر
كأنه أخذه من قول ابن الرومي
فغدا كالخلاف يورق للع ... ين ويأبى الإثمار كلّ الإباء
وقال أيضاً:
يا طالباً بالعلم حظاً مسعدا ... في ذا الزمان رأيت رأي مخرنق
إنفاق علمٍ في زمان جهالةٍ ... ترجو ودهر عمىً وسخفٍ مطبقِ
كن ساعياً ومصافعاً ومضارطاً ... تنل الرّغائب في الزمان وتنفق
أو ما رأيت ملوك عصرنا أصبحوا ... يتجمّلون بكل قاص أحمق
لا تلق أشباه الحمير بحكمةٍ ... موّه عليهم ما قدرت ومخرق
وقال أيضاً:
لم يبق حرّ إليه يختلف ... بل كل ندلٍ عليه مختلف
يا فلكاً دار بالنذالة والجه ... ل إلى كم تدور يا خرف
فعاقل ما يبلّ أنملةً ... وجاهلٌ باليدين يغترفُ
وقال أيضاً:
لعنتم جميعاً من جوهٍ لبلدة ... تكنّفهم جهل ولؤم فأفرطا
وإنّ زماناً أنتم رؤساؤه ... لأهل لأنْ يخرى عليه ويضرطا

(1/281)


أراكم تعينون اللئام وإنني ... أراكم بطرق اللؤم أهدى من القطا
وقال أيضاً:
عدنا في زماننا ... عن طريق المكارم
ما أخرج من شعره في الهجاء لأبي رياش كان أبو رياش باقعة في حفظ أيام العرب وأنسابها وأشعارها، غاية بل آية في هذ دواوينها وسرد أخبارها، مع فصاحة وبيان، وإعراب وإتقان، ولكنه كان عديم المروءة، وسخ اللبسة، كثير التقشف، قليل التنظف. وفيه يقول أبو عثمان الخالدي:
كأنّما قمل أبي رياش ... ما بين صئبان قفاه الفاشي
وذا وذا قد لجّ في انتفاش ... شهدانج بدد في حشحاش
وكان مع ذلك شرهاً على الطعام، رجيم شيطان المعدة، حوتي الالتقام، وثعبان الالتهام، سيئ في المواكلة، دعاه أبو يوسف اليزيدي والي البصرة إلى القصعة، فكان بعد ذلك إذا حضر مائدته أمر أن يهيأ له طبق يأكل عليه وحده.
ودعاه يوماً الوزير المهلبي إلى طعامه، فبينا هو يأكل معه إذ امتخط في منديل الغمر، وبزق فيه، ثم أخذ زيتونة من قصعة فغمزها بعنف حتى طفرت نواتها فأصابت عين الوزير، فتعجب من سوء شرهه، واحتمله لفرط أدبه.
وفي شره أبي رياش يقول ابن لنكك ما هو في نهاية الملاحة وحسن التعريض:
يطير إلى الطعام أبو رياش ... مبادرةً ولو واراه قبرُ
أصابعه من الحلواء صفرٌ ... ولكنّ الأخادع منه حمرُ
أنشدني أبو عبد الله محمد بن حامد الخوارزمي. قال: أنشدني الصاحب لابن لنكك في أبي الرياش وكان يطعن على أبي نواس وأبي تمام: يقول:
ابن هاني أفسد الشعر ضلّةً ... وشعر أبي تمّامكم هو أضيع
أبا الريش، يا صفعان، صفعات واجب ... ولكن مضى من كان في الله يصفع
وقال أيضاً:
أبو رياش بغى والبغي مهلكةٌ ... فشدّدوا العين ترموه بآبدتهْ
عبدٌ ذليل هجا للحين سيّده ... تصحيف كنيته في صدغ والدته
وقال أيضاً فيه:
أأبا رياش يا قبيح المنظر ... يا منكراً يمنى إلى مستنكر
تصحيف كنيتك التي كنيتها ... في است التي حملتك تسعة أشهر
وقال فيه أيضاً:
نبئت أن أبا رياش قد حوى ... علم اللغات وفاق فيما يدّعي
من مخبري عنه فإني سائلٌ ... من كان حنّكهُ بأير الأصمعي
وقال أيضاً:
على القبح الفظيع أبو رياش ... يعاشرنا بأخلاق ملاح
يبيح أكفنا أبداً قفاه ... فنصفعه على جهة المزاح
وقال فيه وقد ولي عملاً بالبصرة:
قل للوضيع أبي رياش لا تبل ... ته كل تيهك بالولاية والعمل
ما ازددت حين وليت إلا خسة ... كالكلب أنجس ما يكون إذا اغتسل
ما أخرج من هجائه لجماعة من الأدباء والشعراء أما هجاؤه للمتنبي فقد أوردته في أخباره، ولا وجه لإعادته. وقد كان ورد البصرة من ديار ربيعة شاعر يكنى أبا الهيذام كلاب بن حمزة، وكان لن لنكك يتولع به ويبدع في هجائه، كقوله فيه:
نفسي تقيك أبا الهيذام كل أذىً ... إنّي بكل الذي تراضاه لي راضي
ما بال جعسك مركوباً على ذكري ... يا أكرم الناس من باق ومن ماضي
ما كان أبري فقيها إذ ظفرت به ... فكيف ألبسته دنيّة القاضي
وقال فيه أيضاً:
حوي يوماً أبو الهيذام أيري ... وذاك بمثله أبداً حريُّ
فبرنس رأسه بالجعس حتى ... تنكر منه لي خلق وزي
فقلت هديت لم برنست أيري ... فقال لأن أيرك قرمطي
وقال أيضاً:
أنت ابن كل البرايا لكن اقتصروا ... على اسم حمزة وصفاً غير تشميخ
كدار بطيخ تحوي كل فاكهةٍ ... وما اسمها الدهر غير بطيخ
وقال أيضاً:
يا من تطيّب وهو من حرق استه ... قلق يكابد كلّ داءٍ معضل
فشل الصيال وما عهدنا دبره ... مذ كان يفشل عن صيال الفيشل
أراه في الكتب الجليلة زاهداً ... لا يستجيد سوى كتاب المدخل

(1/282)


قبّلته ولثمت فاه مسلماً ... لثم الصديق فم الصديق المجمل
دنا إليّ على المكان وقال لي ... أفديك من متشوق متغزل
إن كنت تلثمني بحق فاسقني ... بلسان بطنك في فمي من أسفل
وقال في الرملي الشاعر:
لأم الشاعر الرملي صدغ ... صبور ما علمت على الدّباغ
فرغت ولم تكن فرغت فرامت ... إدامة نيكها حتى الفراغ
فقلت لها فديتك لا تجوري ... فليس على الرسول سوى البلاغ
وقال فيه أيضاً:
إن الرملي فيما اق ... تص عنّي وحكاه
يدعي يوم اصطلح ... نا أنني قبّلت فاه
لم أقبّل فاه لكن ... قبلت نعلي قفاه
وقال في المبرمان النحوي:
صداعٌ من كلامك يعترينا ... وما فيه لمستمع بيانُ
مكابرة ومخرقة بهتٌ ... لقد أبرمتنا يا مبرمان
ما أخرج من شعره في الغزل والشراب قال:
حبيب جفوتي فرض عليه ... مفري في الهوى منه إليه
إذا لحظاته قتلت محبّاً ... تشحط منه في دم وجنتيه
وقال أيضاً:
أتطمع أن تحب ولا جفونٌ ... مؤرقة ولا قلبٌ جريحٌ
فأين هوى تذوب به وتبلى ... أراك تظنُ أنّ الزمر ريح
وقال أيضاً:
وروض عبقري الوشى غض ... يشاكل حين زخرف الشقيق
سماء زبرجد خضراء فيها ... نجومٌ طالعات من عقيق
خليلي اسقياني الراح صرفاً ... إذاً وحريق قلبي بالرحيق
ذراني قبل أن ألقى حمامي ... أشوب بريق من أهواه ريقي
وقال أيضاً:
قد شربنا على شقائق روض ... شربت عبرة السحاب السكوب
صبغت من دم القلوب فما تب ... صر إلاّ تعلقت بالقلوب
وقال أيضاً:
أمر غد أنت منه في لبس ... وأمس قد فات فاله عن أمس
وإنما العيش عيش وقتك ذا ... فبادر الشمس بابنة الشمس
وقال أيضاً:
أقول لصاحبي والراح روحٌ ... لجسم الكأس في كف النديم
وقد حبس الدجى عنّا بواك ... تسيل نفوسها فوق الجسوم
ونحن من المسرة في سماءٍ ... فمن سارى الضياء ومن مقيم
شموعك والكؤوس مع الندامى ... نجومٌ في نجوم في نجوم
وقال في قلة شربه وسرعة سكره:
فديتك لو علمت ببعض ما بي ... لما جرعتني إلا بمسعط
فحسبك أنّ كرماً في جواري ... أمرّ ببابه فأكاد أسقط
وله في مثل ذلك:
لو أنني مسعيٍّ ... شربت ما شئت حيناً
لكنني عهديٍّ ... فاعرف حديثي يقيناً
فرأت عهدة كرمٍ ... فكان سكري سنيناً
وقال أيضاً:
أيها الشيخ الذي برّ ... ز قدماً في السيادة
والذي أعطاه أهل ال ... أرض في السبق المقادة
وأقر الكلّ منهمْ ... أنّه عين القلاده
أنا يكفيني من المش ... روب ما يكفي جراده
وحديثي طال فيه ... مثل تفسير قتاده
وهو إبرام ونقض ... فاكفني فيه الإعادة
ما أخرج من ملحه في سائر الفنون قال:
تّولى شباب كنت فيه منعماً ... تروح وتغدو دائم الفرحات
فلست تلاقيه ولو سرت خلفه ... كما سار ذو القرنين في الظلمات
وقال:
فراق أخلائي الذين عهدتهم ... يوكل قلبي بالهموم اللوازم
وما ذا أرجي من حياة تكدرت ... ولو قد صفت كانت كأضغاث حالم
وقال أيضاً:
نكرت نحولي وهو من فرط الأسى ... لفراق إخوان عليّ كرام
وتعجبت للشيب، لا تتعجبي ... هذا غبار وقائع الأيام
وهو مأخوذ من قول ابن المعتز:
قالت كبرت وشبت قلت لها ... هذا غيار وقائع الدهر
وقال أيضاً:
إذا خفق اللواء عليّ يوماً ... وقد حمل امرؤ القيس اللّواءَ

(1/283)


رجوت الله لا أرجو سواه ... لعل الله يرحم من أساء
وقال أيضاً:
إذا أخو الحسن أضحى فعله سمجاً ... رأيت صورته من أقبح الصور
وهبك كالشمس في حسن ألم ترنا ... نفرٌ منها إذا مالت إلى الضرر
أخذه الصاحب فقال:
يقال تركت الذي حسنه ... يكاد يخجل شمس الضحى
فقلت وشمس الضحى تحتمى ... إذا بسطت في المصيف الأذى
؟وقال أيضاً:
نحن بالبصرة في لو ... ن من العيش ظريف
نحن ما هبّت شمال ... بين جنّات وريف
فإذا هبّت جنوبٌ ... فكأنّا في كنيف
وقال أيضاً:
ليس في البصرة حرٌّ ... لا، ولا فيها جوادْ
إنما البصرة أنشا ... ب ونخل وسماد
ابنه أبو إسحاق إبراهيم
شاعر مجيد، لم يتصل بي من شعره غير ما أنشدته له معارضاً قول أبيه:
وعصبة لما توسطتهم ... صارت عليّ الأرض كالخاتم
كأنهم من سوء أفهامهم ... لم يخرجوا بعدُ إلى العالم
يضحك إبليس إذا زارهم ... لأنهم عارٌ على آدم
بقوله:
لا تصلح الأرض ولا تستوي ... إلا بكم يا بقر العالم
من قال للحرث خلقتم فلم ... يكذب عليكم لا ولم يأثم
ما أنتمُ عارٌ على آدمٍ ... لأنّكم غير بني آدم
وقال أيضاً:
وليلة أرّقني طولها ... فبتّها في حيرة الذاهل
كأنما اشتقت لإفراطها ... في طولها من أمل الجاهل
وقال أيضاً:
يا سفلاً أوقظوا بخسّتهم ... لكن عن الجود والنّدى ناموا
لا تكذبوا صحّ أنكم نعم ... عندكم للزمان أنعام
أبو عبد الله الحسين بن علي النميري
صاحب أبي رياش وابن لنكك، وكان من صدور البصرة في الأدب والشعر، وقد جمع الحفظ الكثير الغزير، والعلم القوي القويم، والنظم الظريف المليح.
فمما سار من ذلك قوله من قصيدة في ذي الكفايتين أبي الفتح، وكان ورد عله الري فأحسن إليه ووصله بصلة حسنة فيها دراهم في كل درهم منها خمسة دراهم وفيها أيضاً دنانير كل دينار منها بخمسة دنانير، واستهلالها:
واهاً لأيام الصبابة واها ... بل آه من تذكارهنّ وآها
فالى الحرينة فالجنينة فالربى ... مغنى الأحبة حبّذا مغناها
روض كلفت بنوره وبنوره ... وربى ألفت هواءها وهواها
أصبو إلى أترابها وترابها ... ومهاة عيشي في ظلال مهاها
فيهن شمس لا تروم عيوننا ... حذر العيون سناءها وسناها
نمرّية من دونها متنمّر ... أخشى شباه تارةً وشباها
ماذا على النمر الكرام عشيرتي ... لو ضمّ بين فتاتها وفتاها
فتيان صدقٍ كالشموس تعوّدت ... قنص النفوس ظباؤها وظباها
يا من لنفس شطرها في بلدةٍ ... بذرى العراق وشطرها بسواها
ظمئي إلى حوِّ الشفاه، وإنما ... حوّ الشفاه سقامها وشفاها
ظمأ الهمام إلى المكارم والعلا ... وقد ارتوى منها كما أرواها
وجلست في النادي الذي حاز الندى ... من جنّة دانٍ إليّ جناها
دارٌ عرفت معانقة الكرى ... وأخذت حظّي لهوها ولهاها
عاتبت مكرمة الزمان فاعتبت ... فيها وناجيت السرور شفاها
ملكٌ أغرّ وبركة لجيّة ... في روضةٍ تعطي العيون رضاها
يحبوك ذا المال الجزيل وهذه ال ... ماء المعين وهذه رياها
روضٌ إذا جرت الرياح مريضةً ... في زهرة استشفت به مرضاه
وإذا قابلت الندامى وسطه ... سكر الصحاة كما صحا سكراها
يتسلسل الماء الزلال خلاله ... فتخاله الحيّات خفّ سراها

(1/284)


تنسلّ أو تنساب غير لواذع ... فكأنّما وشى الحباب رقاها
وأخذت من أقماره وشموسه ... من تبره ولجينه أشباها
من أبيض يقق وأصفر فاقع ... لو معن كنّ سلافة ومياها
؟قد ضوعفت زنةً فزادت زينةً يجلو القذى عنّا جلاء قذاها
خيفت عليهن العيون فعوذت ... باسم الإله وباسم شاهنشاها
يا ابن العميد عميد دولته الذي ... بلسانه وسنانه سنّاها
ما أنت إلا صحّةٌ مكلوءة ... تتقاصر الأفهام دون مداها
فإذا مرضت ولا مرضت فإنّه ... مرض الرياح يطيب فيه ثناها
لم تنسك الأمراض ذكر صنائعٍ ... تولي وشكر صنائع تولاها
فاسلم لدولتك التي وطّدتها ... ورعيت أولاها على أحراها
وله من قصيدة كتب بها إليّ وبأختها التي تقدمتها أبو سعيد بن دوست كعادته المشكورة في مهادتي بطرائف الآداب التي تصلح لهذا الكتاب:
سرت النجائب بالنجائب ... ترمي الكواكب بالكواكب
ترمي تجاهات المشا ... رق من تجاهات المغارب
رغباً إلى ملكٍ تحكّ ... م في رغائبه الرغائب
ملكٌ تبوّا من علا ... ه في النواصي والذوائب
حيث السوابغ والسوا ... بق والنجائب والجنائب
يهب المنعّمة الكوا ... عب والمطهّمة السلاهب
ومنها:
زرناك من أرض البصي ... رة شاحبين على شواحبْ
نرد المناهل كالمجا ... هل والسباسب كالسبائب
لاريّ دون الريّ وال ... بحر الغطامط ذي الغوارب
بحرٌ جواهره طوا ... فٍ في سواحله رواسب
لا دونها اللجج الكوا ... رب لا ولا اللجج الكواذب
كم من ظباء بالبصي ... رة في المقاصر والسباسب
إنس ووحشٌ يشتبه ... ن سوى الذوائب والحقائب
أدمٌ يقاسمن الأرا ... ك جناه والقضيب والرطائب
فلإنسها أغصانه ... تجلو به برد السحائب
ولوحشها غضّ الجنى ... عبث المعازف والملاعب
نصطاد وحشياتها ... وتصيدنا الإنس الخراعب
يا ربّ يومٍ لي كظلّ ... ك أو كظنّك أو يقارب
رقّت حواشيه وغضّ ... ت عين واشيه المراقب
قصرت لنا أطرافه ... قصر القناع عن الذوائب
وتبرّجت لذاته ... للخاطبين وللخواطب
نزلت به حاجاتنا ... بين المحاجر والحواجب
وكسونني حللاً صقل ... ن خواطري صقل القواضب
حللاً وديباج الخدو ... د مطّرزات بالشوارب
فلتشكرنَ رياضنا ... جدوى سحائبك الصوائب
ولتنظمن لك القصا ... ئد كالقلائد للكواعب
؟المفجع البصري
هو أبو عبد الله الكاتب، له مصنفات كثيرة، وهو صاحب ابن دريد والقائم مقامه بالبصرة في التأليف والإملاء، وفيه قيل:
إن المفجع ويله ... شرُّ الأوائل والأواخر
ومن النوادر أنّه ... يملي على الناس النوادر
كأنه قول أبي تمام:
ومالك بالغريب يدٌ ولكن ... تعاطيك الغريب من الغريب
أو من قول الآخر:
ومن المظالم أن قع ... ت على المظالم يا فزاره
وأما شعره فقليل كثير الحلاوة. يكاد يقطر منه ماء الظرف، حكى أبو بكر الخوارزمي قال: قال لي اللحام: أنشدني المفجع لنفسه:
ليّ أيرٌ أراحني الله منه ... صار همي به عريضاً طويلاً
نام إذ زارني الحبيب عناداً ... ولعهدي به ينك الرسولا
حسبت زورةً عليّ لحيني ... فافترقنا وما شفينا غليلا
فقلت فيه:

(1/285)


إنّ المفجّع فالعنوه مؤنث ... نغلٌ يدين ببغض أهل البيت
يهوى العلوق وإنّما يلقاهم ... بمؤخر حيٍّ وقبل ميت
وأنشدني أبو الحسين الشهرزوري الحنظلي. قال: أنشدني المفجع لنفسه في غلام له يكنى أبا سعد:
زفراتٌ تعتادني عند ذكرا ... ك وذكراك ما يريم فؤادي
وسروري قد غاب عنّي مذ غب ... ت فهل كنتما على ميعاد
حاربتني الأيام فيك أبا سع ... د بسيف الهوى وسهم البعاد
ليس لي مفزع سوى عبرات ... من جفون مكحولة بالسّهاد
في سهادي لطول أنسي بذكرا ... ك اعتيض عن الكرى والرقاد
وبحسبي من المصائب أنّي ... في بلادٍ وأنتمُ في بلاد
وأنشدني أبو نصر الروذباذي الطوسي للمفجع:
ألا يا جامع البصر ... ة لا خرّبك اللهُ
وسقّى صحنك المزن ... منَ الغيث فروّاه
فكم من عاشق فيك ... يرى ما يتمناه
وكم ظبي من الإنس ... مليحٍ فيك مرعاه
نصبنا الفخّ بالعلم ... له فيك فصدناه
بقرآنٍ قرأنها ... وتفسير رويناه
وكم من طالب للشع ... ر بالشعر طلبناه
فما زالت يد الأيا ... م حتى لان مثناه
وحتى ثبت السرج ... عليه فركبناه
ألا يا طالب الأمر ... د كذبٌ ما ذكرناه
فلا يغررنك ما قلنا ... فما بالجد قلناه
ولو كان من البعض ... بريّا حين نلقاه
فرح بالدراهم الضرب ... إليه تتلاقاه
فبالدراهم يستنز ... ل ما في الجو مأواه
ومن ملحه المشهورة قوله الإنسان أهدى إليه طبقاً فيه قصب السكر وأترج ونارنج وأراه أبا سعد غلامه فقال:
إن شيطانك في الظر ... ف لشيطانٌ مريد
فلهذا أنت فيه ... تبتدي ثم نعيد
قد أتتنا تحفة من ... ك على الحسن تزيد
طبقٌ فيه قدود ... وخدود ونهود
وقوله في غلام مغن جدر فازداد حسناً:
يا قمراً جدّر حين استوى ... فزاده حسناً وزادت همومُ
كأنما غنّى لشمس الضحى ... فنّقطته طرباً بالنجوم
وقوله أيضاً:
سيدي أنت إنّ عبدك أمسى ... خافقاً قلبه خفوق الجناح
فاغتنم غفلة الرقيب وزره ... في رداءٍ من الدجى ووشاح
وقال، ويروي لابن لنكك:
لنا سراجٌ نوره ظلمة ... ليس له ظلّ على الأرض
كأنّه شخص الإمام الذي ... تبغي الهدى منه أولو الرفض
ومن ظريف قوله في الهجاء:
فسا على قوم فقالوا له ... إن لم تقم من بيننا قمنا
فقال لا عدت فقالوا له ... من نتن فيه ذا كما كنا
ووجدت بخط أبي الحسين علي بن أبي أحمد بن عبدان في مجموعة المسمى حاطب ليل للمفجع البصري:
أدارها ولليل اعتكارٌ ... فخلت الليل فاجأه النهارُ
فقلت لصاحبي والليل داج ... ألاح الصبح أم بدت العقار
فقال هي العقار تداولوها ... مشعشعةً يطير لها شرار
فلو لا أنني أمتاح منها ... حلفت بأنها في الكأس نار
؟نصر بن أحمد الخبز أرزي

(1/286)