صدر هذا الكتاب آليا بواسطة الموسوعة الشاملة
(اضغط هنا للانتقال إلى صفحة الموسوعة الشاملة على الإنترنت)
الكتاب : يتيمة الدهر |
مواقفه عند الطراد شهيرةٌ ... تجاوز في أعجاوها الوصف والحدّا (1/395)
نسيم الصبا يحكيه في هزل سيره ... وترهبه ريح الشمال إذا جدّا
فقد صار نهبي بين وحشٍ وطائرٍ ... غدا سيّداً فيها وراح لها عبدا
تسلّ أبا عيسى ولا تقرب الأسى ... وكنْ حازماً شهماً وكن بازلاً جلدا
فقد كمد الإخوان من فرط حزنهمْ ... وقد شمت الحسّاد مذ فقد الأصدا
وأصبح أبناء الشجاعة حسَّراً ... فمن قارعٍ سنّاً ومن لاطمٍ خدّا
وقد هاج لي حزناً عليه تحسّري ... فهيّمني وجداً وذكّرني نجدا
جوادٌ عزيزٌ أن يجود بمثله ... جوادٌ ومن يعدى عليه إذا استعدى
سوى الصاحب المأمول للجود والندى ... ومن كفّه من صيِّبٍ خضلٍ أندى
أتاح لنا الإحسان من كل جانبٍ ... فحصّل منا الشكر والنشر والحمدا
له همّةٌ فوق السماء مقيمةٌ ... تعلّم من يرجوه أن يطلب الرفدا
ومن قصيدة لبعض أهل نيسابور قالها على لسان أحد الندماء:
كلُّ نعيمٍ إلى نفادِ ... كل قريبٍ إلى بعاد
كلّ هبوبٍ إلى ركود ... كل نفاقٍ إلى كساد
وكل ملكٍ إلى زوال ... وكل كونٍ إلى فساد
وصادقٍ من يقول فاسمع ... والسمع بابٌ إلى الفؤاد
قد بلغ الزرع منتهاه ... لا بد للزرع من حصاد
لهفي على أصدأٍ جوادٍ ... من هبّة الصالح الجواد
منقطع المثل في البلاد ... وغرّة الطرف والتلاد
لهفي على أصدأٍ مسيحٍ ... قد كان ماء وأنت صادي
وكان ناراً وكلّ نارٍ ... فمنتهاها إلى الرماد
كان من العين والفؤاد ... في العين من مركز السواد
لو شرب الصافنات راحاً ... لكان ريحانة الجياد
عهدي به شهقاً منيفاً ... يمرّ مرّاً إلى صعاد
أسرع من لحطةٍ وأحلى ... في العين من طارق الرقاد
أجرأ من ضيغمٍ وأجرى ... من سيل ليلٍ بقعر وادي
سليل ريحٍ أخو شهابٍ ... طود جمالٍ هلال نادي
عدّة سارٍ عتاد غادٍ ... قعدة قارٍ عناد بادي
أسيْرُ مما يقال فيه ... والشعر جوّابة البلاد
كأنما خلقه سدادٌ ... قد صبّ في قالب السداد
كأنه ساحرٌ عليم ... من راكب الطرف بالمراد
عينٌ أصابته لا رأت من ... تهوي لقاه إلى التنادي
نفّذت يا دهر شرّ سهمٍ ... أتى على خيِّرٍ مستفاد
لو كان يغنى الدفاع عنه ... جعلت ترساً له فؤادي
فاصبرْ لحكم الإله وانقدْ ... للحق يا فاقد الجواد
هوّن عليك الملمّ يا أبا ... عيسى وكنْ ثابت العماد
أنت من الصاحب المرجّى ... ما عشت في نائلٍ معاد
ذكر الفيليات
لما حصل الصاحب في رقعة جرجان على الفيل الذي كان في عسكر خراسان، أمر من بحضرته من الشعراء أن يصفوه في تشبيب قصيدة على وزن قافية قول عمرو بن معدي كرب:
أعددت للحدثان سا ... بغةً وعدّاءً علندي
فمن قصيدة أبي القاسم عبد الصمد بن بابك:
قسماً لقد نشر الحيا ... بمناكب العلمين بردا
وتنفّست يمنيّةٌ ... تستضحك الزهر المندّى
وجريحة اللّبات تن ... ثر من سقيط الدمع عقدا
نازعتها حلب الشئو ... ن وقلّما استعبرت وجدا
ومساجلٍ لي قد شقق ... ت لدائه في فيَّ لحدا
لا ترم بي فأنا الذي ... صيّرت حرّ الشعر عبدا
بشواردٍ شمس القيا ... د يزدن عند القرب بعدا
وممسّك البردين في ... شبه النّقا شيةً وقدّا
فكأنما نسجت علي ... ه يد الغمام الجون جلدا (1/396)
وإذا لوتك صفاته ... أعطاك مسّ الروع فقدا
فكأن معصم غادةٍ ... في ماضغيه إذا تصدّى
وكأن عوداً عاطلاً ... في صفحتيه إذا تبدّى
يحدو قوائم أربعاً ... يتركن بالتلعات وهدا
جاب المطرّف قد تفر ... د بالفراهة واستبدّا
وإذا نخلّل هضبةً ... فكأنّ ظلّ الليل مدّا
وإذا هوى فكأنّ ركن ... اً من عماية قد تردّى
وإذا استقلّ رأيت في ... أعطافه هزلاً وجدّا
متقرّطٌ أذناً تعي ... زجر العسوف إذا تعدّى
خرقاء لا يجد السرا ... ر إذا تولّجها مردّا
أوطأته مرعى نسي ... بي واجتنبت وصال سعدي
ملكُ رأى الإحسان من ... عدد العواقب فاستعدّا
كافي الكفاة إذا انثنت ... مقل القنا الخطّي رمدا
تكسوه نشر العرف ك ... فّ من جفون الطلّ أندى
لا زلت يا أمل الفعا ... ة لفارط الآمال وردا
والق الليل لابساً ... عيشاً برود الظلّ رغدا
ومن قصيدة أبي الحسن الجوهري:
قل للوزير وقد تبدّى ... يستعرض الكرم المعدّا
أفنيت أسباب العلا ... حتى أبتْ أن تستجدّا
لو مسّ راحتك السحا ... ب لأمطرتْ كرماً ومجدا
لم ترض بالخيل التي ... شدّت إلى العلياء شدّا
وصرائم الرأي التي ... كانت على الأعداء جندا
حتى دعوت إلى العدى ... من لا يلام إذا تعدّى
متقصّياً تيه العلو ... ج وفطنةً أعيت معدّا
فيلاً كرضوى حين يلبس ... من رقاق الغيم بردا
مثل الغمامة ملّئت ... أكنافها برقاً ورعدا
رأسٌ كقلّة شاهقٍ ... كسيت من الخيلاء جلدا
فراه من فرط الدلا ... ل مصعّراً للناس خدا
يزهى بخرطوم كمث ... ل الصولجان يردّ ردّا
متمرّدٌ كالأفعوا ... ن تمدّه الرمضاء مدّا
أو كمُّ راقصةٍ تشي ... ر به إلى الندمان وجدا
وكأنه بوقٌ تحر ... كه لتنفخ فيه جدّا
يسطو بساريتي لحسي ... نٍ يحطمان الصخر هدّا
أذناه مروحتان أس ... ندتا إلى الفودين عقدا
عيناه غائرتان ضيّ ... قتا لحمع الضوء عمدا
قاسوه باسطرلاب يجم ... ع ثقبه ما لم يحدّا
تلقاه من بعدٍ فتحس ... به غماماً قد تبدّى
متناً كبنيان الخور ... نق ما يلاقي الدهر كدّا
ردفاً كدكّة عنبرٍ ... متمايلٍ الأوراك نهدا
ذنباً كمثل السوط يض ... رب حوله ساقاً وزندا
يخطو على أمثال أعم ... دة الخباء إذا تصدّى
أو مثل أميالٍ نضد ... ن من الصخور الصمّ نضدا
متورِّد حوض المني ... ة حيث لا يشتاق وردا
متلفِّعاً بالكبريا ... ء كأنه ملكٌ مفدّى
أدنى إلى الشيء البعي ... د يراد من وهمٍ وأهدى
أذكى من الإنسان ح ... تى لو رأى خللاً لسدّا
لو أنه ذو لهجةٍ ... وفي كتاب الله سردا
قلْ للوزير عبدت ح ... تى قد أتاك الفيل عبدا
سبحان من جمع المحا ... سن عنده قرناً وبعدا
لو مسّ أعطاف النجو ... م جرين في التربيع سعدا
أو سار في أفق السما ... ء لأنبتتْ زهراً وورودا
ومن قصيدة أبي محمد الخازن:
حازوا سعود ديار سعدى ... ورعوا جناب العيش رغدا
وقضوا مآربٍ للصبا ... مذْ أبدلوا بالغور نجدا (1/397)
سكنوا محلاًّ بالدّمى ... أضحى محلاً مستجدا
عطفتْ عليَّ ظباؤه ... ما شئت سالفةً وقدّا
وشيفت حرّ الوجد من ... بردٍ سقى الأكباد بردا
عجباً أشيم لثغرها ... برقاً ولست أحسّ رعدا
وغدوت أجني من غصو ... ن البان تفاحاً ووردا
وبنفسي القمر الذي ... لمعاً تصدّى ثم صدّا
يا هذه أهدي الوصا ... ل تكرُّماً إنْ كان يهدى
وتذكّري عهد الصبا ... في بيت عاتكة المفدّى
لا تنكري شيباً أل ... م بفوده وفداً فوفدا
وتعلّمي أنّ الشبا ... ب وإن وفى قرضٌ يؤدّى
وإذا أعير فإنه ... لا بدّ من أن يستردا
كم ليلةٍ ساورتها ... وقضيتها حسناً وجدّا
وأرى النجوم لآلئاً ... في الجوّ اللازوردا
حتى تحوّل أدهم ال ... ظلماء في الأفقين وردا
وبدا الصباح يحلُّ من ... جيب الدجى ما كان شُدا
وقريت همّي أعنساً ... تذر الربى بالوخد وهدا
فوردن أفنية العلا ... مغمورةً فحمدن وردا
حيث الفضائل والفوا ... ضل فتن إحصاءً وعدّا
حيث الوغى مشبوبةً ... نيرانها وهجاً ووقدا
ومهابةً كادت لها ... صمُّ الجبال تخرُّ هدّا
أفياله يقدحن في ... ظلم الوغى زنداً فزندا
تسري كسُحم سحائب ... بجانب تُزجى وتحدى
ولبسن دكن ملابسٍ ... غبراً معاطفهن ربدا
ورمقن عن أجفان مض ... مرةٍ على الأعداء حقدا
وفغرن أفواهاً كأف ... واه المزاد تروغ دردا
وكشرن عن أنيابها ... مثل الحراب شباً وحدّا
من كلّ جهمٍ خلته ... يوم الوغى غولاً تصدّى
كبينيّةٍ من عنبرٍ ... دعمت سواري الساج نضدا
وعليه طارونيةٌ ... يزهى بها حرّاً وبردا
لولا انقلاب لسانه ... لرأيته خصماً ألدّا
متولياً أمراً ونهي ... ياً مالكاً حلاًّ وعقدا
وكأنما خرطومه ... راووق خمرٍ مدَّ مدّا
أو مثل كمٍّ مسبلٍ ... أرخته للتوديع سعدى
وإذا التوى فكأنه الثعب ... ان من جبلٍ تردّى
وكأنما انقلبت عصا ... موسى غداة بها تحدّى
متعطّفاً كالصولجا ... ن بساحة الميدان يحدى
يُكسى الحداد وتارةً ... يكسى نسيج الدرع سردا
وكأنما هو خاضبٌ ... بالإثمد الجاري جلدا
لونٌ حكى إظلامه ... لون المشبه ليس يهدى
مستيقظٌ أبداً ويك ... بر أن يعير العين رقدا
كفلٌ تموج كالكثي ... ب تهيله صوباً وصعدا
قد ساد كلّ بهيمة ... كيساً ومعرفةً وجدّا
فكأنه يوم الوغى ... يكسى من الخيلاء بردا
وإذا انثنى من حربه ... يسعى فيرقص دستبندا
أودى بمن عادى الوز ... ير وعمّهم حصراً وحصدا
من عزمه كالعضب ق ... دّ وعلمه كالبحر مدّا
مستوحشٌ بالسلم لم ... نألف ظباه قطّ غمدا
كالغيث يهطل سائحاً ... والليث يبرز مستبدّا
وزر الملوك ونابها ال ... أعلى وساعدها الأشدّا
أيُّ اسم فخرٍ لم يحز ... ه؟ وأيّ مجدٍ لم يعدّا؟
أم أي ثغر لم يفت ... ه ولم يشده ولم يسدّا؟ (1/398)
كافي الكفاة المرتجى ... والسيد الهادي المفدّى
ما الحرّ إلاّ من غدا ... للصاحب المأمول عبدا
ولئن أحدت مديحه ... فلطالما أغنى وأجدى
وقربت منه فالتف ... تّ إلى الزمان وقلت بعدا
واعتضت غير مخيبٍ ... من مستمرِّ النحس سعدا
وكفيت ثمداً ناضباً ... وسقيت ماء العيش رغدا
ومنحت إنصافاً بعو ... ن الله من دهرٍ تعدّى
خذها إليك شواهداً ... في السن الراوين شهدا
هذّبتها وجلوتها ... في الحسن خاتمةً ومبدا
قد كان يكدي خاطري ... لكن بمدحك قد أمدّا
أعددت للحدثان جو ... دك دون عدّاء علندى
وعلمت أنك واحدٌ ... في العالمين خلقت فردا
تذر الوعيد نسيئة ... كرماً وتحبو الوعد مقدا
ويفوح خلقك عن عبي ... رٍ حوله زخر مندّى
أنا غرسك الزاكي بكفّ ... ك مثمر أدباً وودّا
فسأملأ الدنيا بنا استمل ... ت من جدواك حمدا
هي طاعتي حتى أرى ... متبوئاً في الترب لحدا
تفديك نفسي من عوا ... دي كل مكروهٍ ومردى
ولم يحضرني الآن من الفيليات أكثر من هذه الثلاث، وإذا وجدت من أخواتها ما يصلح للإلحاق بمشيئة الله تعالى وإذنه، والحمد لله أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً.
خبر سبطه الشريف أبي الحسن
عباد بن علي الحسني
لما أتت الصاحب البشارة بسبطه أبي الحسن عباد أنشأ يقول:
أحمد الله لبشرى ... أقبلتْ عند العشي
إذ حباني الله سبطاً ... هو سبط للنبي
مرحباً ثمّة أهلاً ... بغلامٍ هاشمي
نبويٍّ علويٍّ ... مسنيٍّ صاحبيّ
ثم قال:
الحمد لله حمداً دائماً أبداً ... إذ صار سبط رسول الله لي ولدا
فقال أبو محمد الخازن على وزنه ورويه قصيدة أولها:
بشرى فقد أنجز الإقبال ما وعدا ... وكوكب المجد في أفق العلا صعدا
وقد تفرّغ في أرض الوزارة عن ... دوح الرسالة غضنٌ مورقٌ رشدا
لله آية شمسٍ للعلا ولدت ... نجماً وغابةُ عزٍّ أطلعت أسدا
وعنصرٌ من رسول الله واشجةٌ ... كريم عنصر إسماعيل فاتحدا
وبضعة من أمير المؤمنين زكت ... أصلاً وفرعاً وصحّت لحمةً وسدى
ومثل هذي السعادات القوية لا ... يحوزها غيره دامت له أبدا
يا دهره حتى أن تزهى بمولده ... فمثله منذ كان الدهر ما ولدا
تعجبوا من هلال العيد يطلع في ... شعبان، أمرٌ عجيب قطّ ما عهدا
فمن موالٍ يوالي الحمد مبتهلاً ... ومخلصٍ يستديم الشكر مجتهدا
وكادت الغادة الهيفاء من طربٍ ... تعطي مبشّرها الإرهاف والغيدا
فلا رعى الله نفساً لم تسرْ به ... ولا وقاها وغشّاها رداء ردى
وذي ضغائن طارت روحه شفقاً ... منه وطاحت شظايا نفسه قددا
علماً بأن الحسام الصاحبي غدا ... مجرّداً والشهاب الفاطمي بدا
وأنه آنسد شعبٌ كان منصدعاً ... به وأمرع شعبٌ كان محتصدا
فأرفع المجد أعياناً وأسمُقُه ... مجدٌ يناسب فيه الوالد الولدا
فليهنأ الصاحب المولود ولترد ال ... سعود تجلو عليه الفارس النجدا
لم يتخذ ولداً إلا مبالغةٌ ... في صدق توحيد من لم يتخذ ولدا
ما أشرف معنى هذا البيت وأبدعه وأبرعه! ومنها:
وخذ إليك عروساً بنت ليلتها ... من خادمٍ مخلصٍ ودّاً ومعتقدا
أهديتها عفو طبعي وانتحيت بها ... سحراً وإنْ كنت لم أنفث له عقدا (1/399)
وازنت ما قلته شكراً لربّك إذ ... جاء المبشّر بيتاً سار واطّردا
الحمد لله شكراً دائماً أبداً ... إذ صار سبط رسول الله لي ولدا
وقال أبو الحسن الجوهري في التهنئة قصيدته التي منها:
كافي الكفاة بقصدٍ من صرائمه ... حامي الحماة بحصدٍ من مناصله
ما زال يخطب منه الدين مجتهداّ ... قربى توطّد من عليا وسائله
وكان بعد رسول الله كافله ... فصار جدّ بنيه بعد كافله
هلّم للخبر المأثور مسنده ... في الطالقان فقرّت عين ناقله
فذلك الكنز عبّادٌ وقد وضحت ... عنه الإمامة في أولى مخايله
لما روت الشيعة أن بالطالقان كنزاً من ولد فاطمة يملأ الله به الأرض عدلاً كما ملئت جوراً، والصاحب من قرية الطالقان من قرى أصبهان، وروق سبطاً فاطمياً، تأوّلوا له هذا الخبر، وأنا بريء منم عهدته.
الصاحبيّ نجاراً في مطالعه ... والطالبيّ غراراً في مقاتله
يهني الوزير ظباً في وجه صارمه ... من صارمٍ وشباً في حدّ عامله
وقال عبد الصمد بن بابك قصيدة منها:
كساك الصوم أعمار الليالي ... وأعقبك العنيمة في المآب
فلا زالت سعودك في خلودٍ ... تبارى بالمدى يوم الحساب
أتاك العز يسحب برديته ... على ميثاء حالية التراب
ببدرٍ من بني الزهراء سارٍ ... تعرّى عنه جلباب السحاب
تفرّع في النبوة ثم ألقى ... بضبعيه إلى خير الصحاب
تلاقت لابن عبادٍ فروع ال ... نبوة والوزارة في نصاب
فلا تغررْ برقدته الليالي ... ولا تشخذْ له الهمم النوابي
فمن خضعت له الأسد الضواري ... ترقّع عن مراوغة الذئاب
وكان الصاحب إذا ذكر عباداً أنشد وقال:
يا ربّ لا تخلني من صنعك الحسن ... يا ربّ حِطْني في عبّادٍ الحسني
ولما فطم قال:
فطمت أبت عبّاد يا ابن الفواطم ... فقال لك السادات من آل هاشم
لئن فطموه عن رضاع لبانه ... لما فطموه عن رضاع المكارم
ولما أملك عباد بكريمة بعض أقرباء فخر الدولة أبي الحسن قال أبو إبراهيم إسماعيل بن أحمد الشاشي قصيدة منها:
المجد ما حرست أولاه أخراه ... والفخر ما التفّ أقصاه بأدناه
والسعي أجلبه للحمد أصعبه ... والذكر أعلاه في الأسماع أغلاه
والفرع أذهبه في الجوّ أنضره ... والأصل أرسخه في الأرض أنقاه
اليوم أنجزت الآمال ما وعدت ... وأدرك المجد أقصى ما تمناه
اليوم أسفر وجه الملك مبتسماً ... وأقبلت ببريد السعد بشراه
اليوم ردّت على الدنيا بشاشتها ... وأرضي الملك والإسلام والله
والملك شدّت عراه بالنبوة فار ... تزّت دعائمه واشتدّ ركناه
وصار يعزى بنو ساسان في مصرٍ ... صنعاً من الله أسناه فأسناه
قد زفّ من جده كافي الكفاة إلى ... من خاله ملك الدنيا شهنشاه
سبطان سدّي رسول الله سلكهما ... فألحم الله ما قد كان سداه
أولاد أحمد ريحان الزمان ومو ... لانا الوزير من الريحان ريّاه
أولاد أحمد منه لا يميّزهم ... عنه ولاءٌ ولا مالٌ ولا جاه
متى ابتنى واحدٌ منهم بواحدةٍ ... فإنما صافحت يمناه يسراه
قال مؤلف الكتاب: كنت عزمت على إيراد غرر مما مدح به الصاحب في هذا المكان، فاقتصرت على ما سيمر منها عند ذكر شعرائه، وسياقة البدائع من محاسنهم، والوسائط من قلائدهم، بإذن الله سبحانه وتعالى ومشيئته وإرادته.
الفاظ له تجري مجرى الامثال
وهذه غرر من فقر ألفاظ الصاحب تجري مجرى الأمثال
وقد جمعت فيها بين ما أخرجه الأمير أبو الفضل عبيد الله بن أحمد منها في كتابه " ملح الخواطر، وسبح الجواهر " ، وبين ما أخرجته أنا سالكا سبيله، ومحتذياً تمثيله. (1/400)
من استماح البحر العذب، استخرج اللؤلؤ الرطب من طالت يده بالمواهب، امتدت إليه ألسنة المطالب من كفر النعمة، استوجب النقمة من نبت لحمه على الحرام، لم يحصده غير الحسام من غرّته أيام السلامة، حدثته ألسن الندامة.
من لم يهزه يسير الإشارة لم ينفعه كثير العبارة رب لطائف أقوال، تنوب عن وظائف أموال الصدر يطفح بما جمعه، وكل إناء مؤذ ما أودعه اللبيب تكفيه اللمحة، وتغنيه اللحظة عن اللفظة، الشمس قد تغيب ثم تشرق والروض قد يذبل ثم يورق، والبدر يأفل ثم يطلع، والسيف ينبو ثم يقطع العلم بالتذاكر، والجهل بالتناكر إذا تكرر الكلام على السمع تقرر في القلب الضمائر الصحاح، أبلغ من الألسنة الفصاح الشيء يحسن في إبانه كما أن الثمر يستطاب في أوانه الآمال ممدودة، والعواري مردودة الذكرى ناجعة، وكما قال الله تعالى نافعة متن السيف لين، ولكن حده خشن، ومتن الحية ألين، ونابها أخشن، عقد المنن في الرقاب، لا يبلغ إلا بركوب الصعاب بعض الحلم مذلّة، وبعض الاستقامة مزلّة كتاب المرء عنوان عقله، بل عيار قدره ولسان فضله، بل ميزان علمه إنجاز الوعد، من دلائل المجد، واعتراض المطل، من إمارات البخل، وتأخير الإسهاف، من قرائن الإخلاف خير البر ما صفا وضفا، وشره ما تأخر وتكدر فراسة الكريم لا تبطي، وقيافة الشر لا تخطي قد ينبح القمر، فليلقم النابح الحجر كم متورط في عثار، رجاء أن يدرك بثار بعض الوعد كنقع الشراب، بعضه كلمع السراب قد يبلغ الكلام، حيث تقصر السهام ربما كان الإقرار بالقصور، أنطق من لسان الشكور ربما كان الإمساك عن الإطالة، أوضح في الإبانة والدلالة لكل امرئ أمل، ولكل وقت عمل إن نفع القول الجميل، وإلا نفع السيف الصقيل شجاع ولا كعمرو، ومندوب ولا كصخر لا يذهبن عليك تفاوت ما بيتن الشيوخ، والأحداث، والنسور والبغاث كفران النعم، عنوان النقم جحد الصنائع، داعية القوارع تلقى الإحسان بالجحود، تعريض النعم للشرود قد يقوى الضعيف، ويصحو النزيف ويستقيم المائد، ويستيقظ الهاجد للصدر نفثة إذا خرج، وللمرء بثة إذا أحوج ما كل امرئ يستجيب للمراد، ويطيع يد الارتياد قد يصلى البريء بالسقيم، ويؤخذ البرّ بالأثيم ما كل طالب حق يعطاه، ولا كل شائم مزن يسقاه إن الأحداث لا رياضه لهم بتدبير الحوادث إن السنين تغير السِّنن من ثقلت عليه النعمة، خف وزنه. ومن استمرت به الغرة حزنه أطع سلطان النهي، دون شيطان الهوى.
ملح وظرف من ألفاظه
أخبرني عن سفرتك، وعما حصل بها في سفرتك وجدت حرّاً يشبه قلب الصب، ويذيب دماغ الضب أنوب فيه نيابة الوكيل المكتري، بل المملوك المشتري قد تحملت مع يسير الفرقة، عظيم الحرقة. ومع قليل البعد، كثير الوجد عليّ أن أقول، وما عليّ القبول لا أعترض بين الشمس والقمر، والروض والمطر أكره أن أمل، وقد قصدت أن أجل، وأن أعق، وقد قصدت أن أقضي بالحق مرحباً بزائر لباسه حرير، وأنفاسه عبير زائر وجهه وسيم، وريحه نسيم، وفضله جسيم بستان النظير، وراق ورقه النضير فلان بين سكرى الشباب والشراب عصن طلعه نضير، وليس له نظير خط أحسن من عطفات الأصداغ، وبلاغة كالأمل آذن بالبلاغ فقر كما جيدت الرياض، وفصول كما تغازلت المقل المراض ألفاظ كما نورت الأشجار، ومعان كما تنفست الأسحار نثر كنثر الورد، ونظم كنظم العقد كتابك رقية القلب السليم، وغرة العيش البهيم كلام يدخل على الأذن، بلا إذن فلام كريم ملء لباسه موفق أنفاسه، ذو جدّ كعلو الجدّ، وهز كحديقة الورد، عشرته ألطف من نسيم الشمال، على أديم الزلال، وألصق بالقلب، من علائق الحب شكره شكر الأسير لمن أطلقه، والمملوك لمن أعتقه أثنى عليه ثناء العطشان الوارد، على الزلال البارد قلب نغل، وصدر دغل وعده برق خلب، وروغان ثعلب فلان يتعلق بأذيال المعاذير، ويحيل على ذنوب المقادير.
فصول له ورقاع في الملاطفة والمداعبة
فصل من كتاب له إلى أبي العلاء الأسدي
ذكرت أن أدهمك قطع الدهر ورباطه، أو قطع الموت نياطه. ووصفت الحمار الذي استعضته، فلا أدري أقرطته، أم عضدته؟ وقد كتبت بابتياع مركوب لك بعيوب، أو يعسوب، أو مرجوب بل رمست أن يقاد إليك في كيس أعجر، فإن شئت فاتركه عندك أشهب، وإلا فابتع به أدهم أو أشقر، ويجنب درج كتابي فليوصل، والنقد عند الحافر، وبه يملك الخف والحافر، ويجنب الأعز السائل، والأقرح النادر. (1/401)
فصل من كتاب في الغضائري
الغضائري، وما أدراك ما الغضائري. استزاد إلى الجمال جمالاً، وعاد بدراً وكان هلالاً، فإن شئت فالغصن ميالاً، وإن شئت فالدعص منهالاً:
كأنّ جميع الناس يلقون وجهه ... بناظرك المفتون، والحبّ شامل
رويدك إن أحببت فالغصن مائلٌ ... وإنْ تصْبُ بعد الدعص فالدغص هائل
وهو يهدي إليك سلاماً كرقة خده، ونسيم عرفه، وغزارة دمعك من بعده:
سلاماً كما رقّ على الصبا ... رجاء رسول الورد في ومن الورد
تأبى أيها العبد الصالح، إلا أن تغمسنا معك في مزج المازح:
ألا ربّ ذي مزجٍ يحرّك حبله ... وحبل التُّقى من قلبه شزر
فصل
وما الشأن في أنك تنتقل في الهوى تنقّل الأفياء، وتتميّل في الحب كشارب الصهباء. فمرة الغضائري، حتى إذا حسناك قد صرت له وصار لك، وعلق بك أمله وأملك. بعت قديماً بحديث، وتليداً بطريف، واستهوتك حبائل القمى فقمت تفتل في حبله، وتحرص على وصله، ثم تطمع أن تضم ضدّاً إلى ضد، وتجمع سيفين في غمد. وهيهات! إن الغضائري قد أبلغه ذلك فازورّ وتنمّر، وغار وتنكّر، وقد كان له عزم في المسير إلى أصبهان، ففتر بفتور صبوتك، وخفت بظهور نبوتك:
نقِّلْ فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الأول
وقد جعله بعض الشعراء للحبيب الآخر، وأما نحن فننشد لكثيِّر:
إذا ما أرادت خلّةٌ أن تزيلنا ... أبينا وقلنا الحاجبية أوّل
والله يسقي عهدك صوب العهاد، ويعدينا وإياك على البعاد.
رقعة استزارة
هذا اليوم يا سيدي طاروني يعجبني نوؤه الفاختي، وإذ قد غابت شمس السماء عنا. فلا بد أن تدنو شمس الأرض منا. فإن نشطت للحضور، شاركتنا في السرور. وإلا فلا إكراه ولا إجبار، ولك متى شئت الاختيار.
وفي مثلها
غداّ يا سيدي ينحسر الصيام، وتطيب المدام. فلا بد من أن نقيم أسواق الأنس نافقة، وننشر أعلام السرور خافقة، فبالفتوة فإنها قسم للظراف، يفرض حسن الإسعاف، لما بادرتها ولو على جناح الرياح، إن شاء الله تعالى.
أخرى - نحن يا سيدي في مجلسٍ غنيٍّ إلا عنك، شاكر إلاّ منك. قد تفتحت فيه عيون النرجس، وتوردت فيه خدود البنفسج، وفاحت مجامر الأترج، وفتقت فارات النارنج، وأنطقت ألسنة العيدان، وقام خطباء الأوتار، وهبت رياح الأقداح، ونفقت سوق الأنس، وقام منادي الطرب، وطلعت كواكب الندماء، وامتدت سماء الند، فبحياتي لما حضرت، لنحصل بك في جنة الخلد، وتتصل الواسطة بالعقد.
في مثلها - نحن وحياتك في مجلس راحه ياقوت، ونوره در، ونارنجه ذهب، ونرجسه دينار ودرهم، ويحملها زبرجد، وألسنة العيدان تخاطب الظراف، بهلم إلى الأقداح، لكننا بغيبتك كعقد عيّبت واسطته، وشباب أخذت جدته، فأحب أن تكون إلينا أسرع من الماء في انحداره، والقمر في مداره.
في مثلها - مجلسنا يا سيدي مفتقر إليك، معول في إنائه عليك، وقد أبت راحه أن تصفو إلا أن تتناولها يمناك، وأقسم غناؤه لا طاب أو تعيه أذناك، فأما خدود نارنجه فقد احمرت لإبطائك، وعيون نرجسه فقد حذفت تأميلاً للقائك، فبحياتي عليك لما تعجلت، لئلا يخبث من يومي ما طاب، ويعود من همي ما طار.
في مثلها - صرنا أيّد الله مولانا في بستان كأنه من خلقه خلق، ومن خلقه سرق، فرأينا أشجاراً تميل فتذكر تبريح الأحباب، وقد تداولتهم أيدي الشراب، وأنهاراً كأنها من يد مولانا تسيل، أو من راحته تفيض، وحضرنا فلان فعلاً نجمنا، وحمد أمرنا، وتسهل طريق الخير لنا، فلما دبت الكؤوس فيهم دبيب البرء في السقم، والنار في الفحم. رأى أن نجعل أنسنا غداً عنده فقلت سمعاً، ولم أستجز لأمره دفعاً، والتمس أن أخلفه في تجشيم مولاي إلى المجمع، ليقرب علينا متناول البدر بمشاهدته، ولمس الشمس بمطالعته، فإن رأى أن يشفعني أسعفني إن شاء الله تعالى.
فصل - أنا على طرف بيتان أذكرني ورده المتفتح بخلقك، وجدوله السابح يطبعك، وزهره الجنيّ بقربك. (1/402)
فصل من كتاب آخر
علقت هذه الأحرف، وأنا على حافة حوض ذي ماء أزرق كصفاء ودّي لك، ورقة قولي في عتابك، ولو رأيته لأنسيت أحواض مأرب ومشارب أم غالب، وقد قابلني شقائق كالزنوج تجارحت فسالت دماؤها وضعفت فبقي ذماؤها، وسامتني أشجار كأن الحور أعارتها أثوابها، وكستها أبرادها، وحضرتني نارنجات ككرات من سفن ذهبت، أو ثدي أبكار خلقت، وقد نبرم بي الحاضرون لطول الكتاب فوقفت وكففت، وصدقت عن كثير مما له تشوفت.
ومن رقعة - مضيت وشاهدت أحسن منظر: فالأرض زمردة، والأشجار وشي، والماء سيوف، والطير قيان.
رقعة في الاعتذار من هفوة الكأس
سيدي أعرف بأحكام المروءة من أن يهدى إليها، وأحرص على عمارة سبل الفتوة من أن يخص عليها، وقديماً حملت أوزار السكر على ظهور الخمر، وطوي بساطها الشراب، على ما فيه من خطأ وصواب، وكنت البارحة بعقب شكاة أضعفتني ونقلتني عن عادتي، واستعفيت السقاة غير دفعة فأبوا إلاّ إلحاحاً عليّ وإتراعاً إليّ، وكرهت الامتناع خشية أن أوقع الكساد في سوق الأنس وتفادياً من أن يعقد على خنصر الثقيل، فلما بلغت الحد، الذي يوجب الحد بدر مني ما يبدر ممن لا يصحبه لبّه، ولا يساعده عقله وقلبه. ولا غرو فموالاة الأرطال، تدع الشيوخ كالأطفال. فإن رأى أن يقبل عذري، فيما جناه سكري، ويهب جرمي لمعرفته نيتي في صحوي، وإن أبى إلا معقابتي جعلها قسمين بين المدام وبيني، فعل إن شاء الله تعالى.
في تنوير باكورة خلاف قد نور
لتنوير الخلاف فضائل لا تحصى، ومحاسن تطول أن تستقصى، منها أنه أول ثغر يبسم عنه الربيع ويضحك، ودر يعقد على القضبان ويسبك، ولتمايله ادكار بقدود الأحباب، وتهييج لسواكن الأطراب، وحمل إلى قضيب منه ورداته متعادلة، ولذاته متقابلة. فأنفدته مع رقعتي هذه إليك، وسألت الله أن يعيده ألف حول عليك، وقلت:
وقصيبٍ من الخلاف بديعٍ ... مستخصٍّ بأحسن الترصيع
قد نعى شدّة الشتاء علينا ... وسعى في جلاء وجه الربيع
وحكى من أحبّ عرفاً وظرفاً ... واهنزازاً يثير ماء ضلوعي
رقةً ما نظمت نحو بديع ال ... مجد حاكى الربيع حسن صنيعي
في إهداء أترجة
ما زلت يا سيدي أفكر في تحفة تجمع أوصاف معشوق وعاشق، وتنظم نعوت مشوق وشائق. حتى ظفرت بأترجة كأن لونها لوني، وقد منيت ببعدك، وبليت بصدّك. وكأن عرفها مستعار من عرفك، وظرفها مشتق من ظرفك، فكأنها بعض من لا أسميه، وأنا أفديه، فأنفذتها وقلت:
مولاي قد جاءتك أترجةً ... من بعض أخلاقك مخلوقه
ألبسها صانعها حلّةً ... من سرق أصفر مسروقه
في إهداء أقلام
قد خدمت دواة مولاي بأقلام تتخفف بأنامله، وتتحمل نفحات فواضله، وتأنّقت في بريها فأتت كمناقير الحمام، واعتدال السهام، خمسة منها مصرية مقومة. عليها حلل مسهمة، وعشرة منها بيض كأياديه، وأيام مؤمليه، والله يديم له مواد نعمته، ويوفقني لشرائط خدمته.
تهنئة ببنت
أهلاً وسهلاً بعقيلة النساء، وأم الأبناء، وجالبة الأصهار، والأولاد الأطهار، والمبشرة بإخوة يتناسقون، نجباء يتلاحقون:
فلو كان النساء كمثل هذي ... لفضّلت النساء على الرجال
وما التأنيث لاسم الشمس عيبٌ ... ولا التذكير فخرٌ للهلال
فادّرع يا سيدي اغتباطاً، واستأنف نشاطاً، فالدنيا مؤنثة والرجال يخدمونها، والذكور يعبدونها، والأرض مؤنثة ومنها خلقت البرية، وفيها كثرت الذرية، والسماء مؤنثة وقد زينت بالكواكب، وحليت بالنجم الثاقب، والنفس مؤنثة وبها قوام الأبدان، وملاك الحيوان. والحياة مؤنثة ولولاها لم تتصرف الأجسام، ولا عرف الأنام. والجنة مؤنثة وبها وعد المتقون، ولها بعث المرسلون. فهنيئاً ما أوليت، وأوزعك الله شكر ما أعطيت، وأطال بقاءك ما عرف النسل والولد، وما بقي الأمد، وكما عمّر لبد.
رقعة مداعبة
خبر سيدي عندي وإن كتمه عني، واستأثر به دوني، وقد عرفت خبره البارحة في شربه وأنسه. وغناء الضيف الطارق وعريسه وكان ما كان مما لست أذكره وجرى ما جرى مما لست أنشره، وأقول: إن مولاي امتطى الأشهب فكيف وجد ظهره؟ وركب الطيار فكيف شاهد جريه؟ وهل سلم على حزونة الطريق؟ وكيف تصرف أفي سعة أم ضيق؟ وهل أفرد الحج أن تمتع بالعمرة؟ وقال في الحملة بالكرة. ليتفضل بتعريفي الخبر فما ينفعه الإنكار، ولا يغني عنه إلا الإقرار، وأرجو أن يساعدنا الشيخ أبو مرة. كما ساعده مره، فنصلي للقبلة التي صلى إليها، ونتمكن من الدرجة التي خطب عليها، هذا وله فضل السبق إلى ذلك الميدان، لكثير الفرسان. (1/403)
ومن أخرى
انفردت يا سيدي بتلك انفراد من يحسب مطلع الشمس من وجهها، منبت الدر من فمها. وملقط الورد من خدها، ومنبع السحر من طرفها، وحقاق العاج من ثديها، ومبادئ الليل من شعرها، ومغرس الغصن في قدها، ومهيل الرمل في ردفها، وكلا فإنها شوهاء. ورهاء خرقاء خلقاء، كأنما محياها أيام المصائب، وليالي النوائب، وكأنما قربها فقد الحبائب، وسوء العواقب، وكأنما وصلها عدم الحياة، وموت الفجأة، وكأنما هجرها قوّة المنّة. وكأنما فقدها ريح الجنة.
ومن كتاب مداعبة
الله الله في أخيك، لا تظهر كتابه فيحكم عليه بالماليخوليا وبالتخابيل الفاسدة، فقد ذكر جالينوس أن قوماً يبلغ بهم سوء النخيل، أن يقدروا أجسامهم زجاجاً فيجتنبوا ملامسة الحيطان خشية أن يتكسروا. وحكى أن قوماً يطنون أنفسهم طيوراً فلا يغتذون إلا القرطم، والحظّ كتابي دفعة ثم مزقه، فلا طائل فيه ولا عائد ولا فرج عنده، وعلى ذكر الفرج فقد كانت بهمذان شاعرة مجيدة تعرف بالحنظلية وخطبها أبو كاتب بكر، فلما ألح عليها وألحف كتبت إليه:
أيرك أيرٌ ما له ... عند حرّي هذا فرج
فاصرفه عن باب حرّي ... وأدخله من حيث خرج
هذه والله في هذين البيتين أشهر من كبشة أم عمرو، والنساء أخت صخر، ومن كعوب الهذلية، وليلى الأخيلية.
ومن فقر رسائله من سائر الفنون
رسالة كتبها إلى أبي علي الحسن بن أحمد في شأن أبي عبد الله محمد بن حامد، وسمعت الأمير أبا الفضل عبيد الله بن أحمد يسردها، فزادني جريها على لسانه وصدورها عن فمه إعجاباً بها، وهي: كتابي هذا وقد أرخى الليل سدوله، وسحب الظلام ذيوله، ونحن على الرحيل إذا إن شاء الله إذا مدّ الصباح غرره، قبل أن يسبغ حجوله. ولولا ذاك لأطلته كوقوف الحجيج على المشاعر. ولم أقتصر منه على زاد المسافر. فإن المتحمل له وسبع الحقوق لدي، حقيق أن أتعب له خاطري ويدي، وهو أبو عبد الله الحامدي أعزه الله تعالى، كان وافانا مع ذلك الشيخ الشهيد، أبي سعيد الشبيبي السعيد، رفع الله منازله. وقتل قاتله، يكتب له فآنسنا بفضله، وأنسنا الخير من عقله، فلما فجع بتلك الصحبة، وبما كان له فيها من القربة. لم يرض غير بابي مشرعاً، وغير جنابي مرتعاً، وقطع إليّ الطريق الشاق مؤكداً حقاً لا يشق غباره، ولا ينسى على الزمان ذماره. وكنت على جناح النهضة التي لم يستقرّ نواها، ولم تبن حصباها، ولم تلق عصاها، فأمرج الحر المبتدأ الأمر، القريب العهد بوطأة الدهر، حامل عليه بالمركب الوعر، فرددته إليك يا سيدي لتسهل عليه حجابك، وتمهد له جنابك، وتترصد له عملاً خفيف الثقل، ندى الظل، فإذا اتفق عرضته عليه، ثم فوضته إليه، وهو إلى أن يتفق ذاك ضيفي وعليك قراه، وعندك مربعه ومشتاه، ويريد اشتغالاً بالعلم ليزيده في الاستقلال، إلى أن يأتيه إن شاء الله خبرنا الاستقرار ثم له الخيار إن شاء أقام على ما وليته، وإن شاء لحق بنا ناشراً ما أوليته، وقد وقعت له إلى فلان بما يعنيه على بعض الانتظار، إلى أن تختار له أيدك الله كل الاختيار، فأوعز إليّ بتعجيله، واكفني شغل القلب بهذا الحر الذي أفردني بتأميله، إن شاء الله تعالى.
رقعة له إلى القاضي أبي بشر الفضل بن محمد الجرماني عند وروده باب الري وافداً عليه:
تحدّثت الركاب بسير أروى ... إلى بلدٍ حططتُ به خيامي
فكدّت أطير من شوقي إليها ... بقادمةٍ كقادمة الحمام
أفحق ما قيل أمر القادم؟ أم ظن كأماني الحالم؟ لا والله بل هو درك العيان، وإنه ونيل المنى سيان، فمرحباً أيها القاضي براحلتك ورحلك. بل أهلاً بك وبكافة أهلك. ويا سرعة ما فاح نسيم مسراك، ووجدنا ريح يوسف من ريّاك، فحثّ المطى تزلّ غلتي بسقياك، وتزح علتي بلقياك، ونص على يوم الوصول لنجعله عيداً مشرفاً. وتتخذه موسماً ومعرفاً. ورد الغلام أسرع من رجع الكلام، فقد أمرته أن يطير على جناح نسر، وأن يترك الصبا في عقال وأسر. (1/404)
سقى الله داراتٍ مررت بأرضها ... فأدّتك نحوي يا زياد بن عامر
أصائل قربٍ أرتجي أن أنالها ... بلقياك قد زحزحن حرُّ الهواجر
رقعة في ذكر مصحف أهدي إليه
البرّ أدام الله الشيخ أنواع، وتقصر عنه أبواع، فإن يكن فيها ما هو أكرم منصباً، وأشرف منسباً. فتحفة الشيخ إذ أهدي ما لا تشاكله النعم، ولا تعادله القيم، كتاب الله وبيانه، وكلامه وفرقانه، ووحيه وتنزيله، وهداه سبيله. ومعجز رسول الله صلى الله عليه وسلم ودليله، طبع دون معارضته على الشفاه، وختم على الخواطر والأفواه. فقصر عنه الثقلان، وبقي ما بقي الملوان، لائحٌ سراجه، واضح منهاجه، منير دليله، عميق تأويله، يقصم كل شيطان مريد، ويذل كل جبار عنيد، وفضائل القرآن، لا تحصى في ألف قران، فأصِفُ الخط الذي بهر الطرف، وفاق الوصف، وجمع صحة الأقسام، وزاد في نخوة الأقلام، بل أصفه بترك الوصف آثاره، وعينه فراره، وحقاً أقول إني لا أحسب أحداً ما خلا الملوك جمع من المصاحف ما جمعت، وابتدع في استكتابها ما ابتدعت، وإن هذا المصحف لزائد على جميعها زيادة القرعة على الغرة، بل زيادة الحج على العمرة.
لقد أهديته علقاً نفيساً ... وما يهدي النفيس سوى الفيس
فصل من كتاب له إلى ابن العميد صدر جواباً عن كتابه إليه في وصف البحر، وكان أبو بكر الخوارزمي يحفظه، وكثيراً ما كان يقرؤه ويعجب السامعون من فصاحته، ولم أره يحفظ من الرسائل غيره: وصل كتاب الأستاذ الرئيس صادراً عن شط البحر بوصف ما شاهد من عجائبه، وعاين من مراكبه، ورآه من طاعة آلاته للرياح كيف أرادتها، واستجابة أدواتها لها متى نادتها. وركوب الناس أشباحها والخوف بمرأى ومسمع، والمنون بمرقب ومطلع، والدهر بين أخذ وترك، والأرواح بين نجاة وهلك، إذا أفكروا في المكاسب الخطيرة هان عليهم الخطر، وإذا لاحت لهم غرر المطالب الكثيرة، حبب إليهم الغرر، وعرفت ما قاله من تمنيه كوني عند ذلك بحضرته وحصولي على مساعدته، ومن رأى بحر الأستاذ كيف يزخر بالفضل وتتلاطم فيه أمواج الأدب والعلم لم يعتب على الدهر فيما يفتيه من منظر البحر، ولا فضيلة له عندي أعظم من إكبار الأستاذ لأحواله، واستعظامه لأهواله، كما لا شيء أبلغ في مفاخره وأنفس في جواهره، من وصف الأستاذ له فإني قرأت منه الماء السلسال. لا الزلال، والسحر الحرام، لا الحلال، وقد علم أنه كتب ولما أخطر بفكره سعة صدره، فلو فعل ذلك لرأى البحر وشلالاً يفضل عن التبرض، وثمداً لا يكثر عن الترشف.
وكم من جبالٍ جبت تشهد أنّك الجبال وبحرٍ شاهدٍ أنك البحر.
ومحاسن فقر الصاحب تستغرق الدفاتر، وتستنزف في الانتخاب منها الخواطر، وليس يتسع هذا الكتاب لغيض من فيضها وقطرة من سيحها.
مختارات من شعره في الغزل
هذا ما اخترته من ملح شعره في الغزل وما يتعلق به
قال:
تسحّبْ ما أردت علبى الصباح ... فهمْ ليلٌ وأنت أخو الصباح
لقد أولاك ربّك كلَّ حسنٍ ... وقد ولاّك مملكة الملاح
وبعد فليس يحضرني شرابٌ ... فأنعمْ من رضاك لي براح
وليس لديَّ نقلٌ فارتهنّي ... بنقلٍ من ثناياك الوضاح
وقال:
لا ترجو إصلاح قلبي بلومٍ ... حلف الجفن لا استقلَّ بنومِ
وهواه لئن تأخر عني ... طول يومي إني سيحضر يومي
وقال:
عليّ كالغزال وكالغزاله ... رأيت به هلالاً في غلاله
كأنّ بياض غرّته رشادٌ ... كأن سواد طرّته ضلاله
كأنّ الله أرسله نبياً ... وصيّر حسنه أقوى دلاله
إذا ما زدت وصلاً زدت خبلاً ... كأن حبال وصلك لي خباله
وقال:
هذا عليَُّ عليَّ في محاسنه ... كأنما وصفه أن يبلغ الأملا (1/405)
وكم أقول وقد أبصرت طلعته ... هذا لي في طراز الله قد عملا
وقال:
وشادنٍ أصبح فوق الصّفه ... قد ظلم الصّبَّ وما أنصفه
كم قلت إذ قبَّل كفّي وقد ... نيّمني: يا ليت كفّي شفه
وقال في معناه:
أبا شجاعٍ يا شجاع الورى ... ومن غدا في حسنه قبله
قبِّل فمي إن كنت مؤثراً ... فاليدَّ لا تعرف القبلة
وقال في معناه:
وشادنٍ جماله ... تقصر عنه صفتي
أهوى لتقبيل يدي ... فقلت: لا، بل شفتي
وقال:
قلْ لأبي القاسم إن جئته ... هنّيت ما أعطيتَ هنّيته
كلُّ جمالٍ فائقٍ رائقٍ ... أنت برغم البدر أوتيته
وقال:
قل لأبي القاسم الحسيني ... يا نار قلبي ونور عيني
البدر زين السماء حسناً ... وأنت زينٌ لكل زين
وقال من باب الاقتباس من الحديث:
ومهفهفٍ يغني عن القمر ... قَمَرَ الفؤاد بفاتن النظر
خالسته تفاح وجنته ... من غير إبقاءٍ ولا حذر
فأخافني قومٌ فقلت لهم ... لا قطع في ثمرٍ ولا كثر
وقال في مثله:
قال لي إن رقيبي ... سيِّءُ الخلق فداره
قلت دعني وجهك ال ... جنة حُفَّت بالمكاره
وقال في مثله:
أقول وقد رأيت له سحاباً ... من الهجران مقبلةً إلينا
وقد سحّت غزالتها بهطلٍ ... حوالينا الصدود ولا غلينا
وقال:
الحبُّ سكرٌ خماره التلف ... يحسن فيه الذبول والدنف
عابوه إذ لجَّ في تصلُّفِه ... والحسن ثوبٌ طرازه الصلف
وقال:
وشادنٍ يكثر من قول لا ... أوقع قلبي في ضروب البلا
قلت وقد تيّمني طرفه ... هذا هو السحر وإلا فلا
وقال رحمه الله:
وشادنٍ ذي غنجٍ ... طاوي الحشى معتدل
أنشدته شعراً بدي ... عاً حسناً من عملي
فقال فيمنْ ولمنْ ... فقلت هذا فيك لي
فطار في وجنته ... شعاع نار الخجل
وقال:
قد قلت لما مرّ يخطر ماشياً ... والناس بين معوّذٍ أو عاشق
لم يكفِ ما صنعت شقائق خدّه ... تلبّس حلّةً بشقائق
وقال:
دعتني عيناك نحو الصبا ... دعاءً يكرّر في كل ساعه
ولولا تقادم عهد الصِّبا ... لقلت لعينيك سمعاً وطاعه
وقال:
شتمتُ من نيمّني مغالطاً ... لأصرف العاذل عن لجاجته
فقال لما وقع البزاز في ال ... ثوب علمنا أنه من حاجته
وقال:
أتاني البدر باكياً خجلاً ... فقلت ماذا دهاك يا قمر
قال غزالٌ أتى ليعزلني ... بحسنه فالفؤاد منفطر
فقلتُ قبِّل ترابه عجلاً ... واسجدْ له قال كلُّ ذا غرر
قد بايعت أنجم السماء له ... فليس لي مفزعٌ ولا وزرُ
وقال:
يا قمراً عارضني على وجلْ ... وصاله يشبه تأخير الأجلْ
وقال: تبغي قبلةً على عجل؟ ... قلت: أجلْ، ثم أجلْ، ثم أجلْ
وقال:
وشادنٍ في الحسن كالطاووس ... أخلاقه كليلة العروسِ
قد نال باللحظ من النفوس ... ما لم تنله الروم من طرسوس
وقال:
بدا لنا كالبدر في شروقه ... يشكو غزالاً لجّ في عقوقه
يا عجباً والدهر في طروقه ... من عاشقٍ أحسن من معشوقه
سمعت أبا بكر الخوارزمي، يقول: أنشدني الصاحب هذه القوافي ليلة، وقال: هل تعرفون نظيراً لمعناها في شعر المحدثين؟ فقلت: لا أعرف إلا قول البحتري:
ومن عجب الدهر أن الأمي ... ر أصبح أكتبُ من كاتبه
فقال: جودت وأحسنت، وهكذا فليكن الحفظ، وقال:
عزمت على الفصد يا سيدي ... لفضل دمٍ كظّني افتصادٍ مؤلم
فلما تأخّرت عن مجلسي ... أرقت لغير افتصادٍ دمي
وقال:
ومهفهفٍ شكل المجونْ ... أضنى فؤادي بالفتون (1/406)
فنسيمه ملء الأنو ... ف، وحسنه ملء العيون
وقال:
فمن كان يقطف ورد الجنان ... فقطفي مذْ كنتُ ورد الخدود
وهمّي مذ كنت درّ الثغور ... إذا اهتمّ غيري بدرِّ العقود
وقال:
كنّا وأسباب الهوى متّفقه ... نبتاً من الورد معاً في ورقهْ
فالآن إذ أسبابه مفترقه ... قد صارت الأرض علينا حلقهْ
وقال:
يا خاطراً يخطر في تيهِهِ ... ذكرك موقوفٌ على خاطري
إنْ تكنْ آثرُ من ناظري ... عندي فلا متّعت بالناظر
وقال:
تأخّرت عنّي والغرام غريم ... وما ملّ قربُ الأكرمين كريمُ
وأوهمتني سقماً وأنت مصحّحٌ ... بلى لك عهد كيف شئت سقيم
ولو شئت لم تخلط وصالاً بهجرةٍ ... كما شيب بالماء الزلال حميم
ففي الدهر كافٍ أن يفرّق إنه ... وصيّ ظلومٌ والكريم يتيم
وقال، ويروي لغيره:
رشأٌ إذا وجدي عليه كرِدفه ... وغدا اصطباري في هواه كخصره
وكأنّ يوم وصاله من وجهه ... وكأنّ ليلة هجره من شعره
إن ذقت خمراً من ريقه ... أو رمتُ مسكاً نلته من نشره
وإذا تكبّر واستطال بحسنه ... فعذار عارضه يقوم بعذره
ملح من شعره في الصدغ والخط والعذار
قال:
يا شادناً في صدغه عقربُ ... ما يستجيب الدهر للراقي
يسلم خدّاه على لدغها ... ولدغها في كبدي باقي
وقال:
وعهدي بالعقارب حين تشتو ... تخفّف لدغها وتقلّ ضرّا
فما بال الشتاء أتي وهذي ... عقارب صدغه تزداد شرّا
وقال:
رأيت عليّاً في لباس جماله ... فشاهدت منه الروض ثانيَ مزنه
ولما تبدّى لي امتداد عذاره ... رأيت طراز الله في ثوب حسنه
وقال:
إنْ كنت تنكره فالشمس تعرفُهُ ... أو كنت تظلمه فالحسن ينصفُه
ما جاءه الشعر كي يمحو محاسنه ... وإنما جاءه عمداً يغلِّفه
وقال:
لما بدا العارض في الخدّ ... زاد الذي ألقى من الوجد
وقلت للعذّال يا من رأى ... بنفسجاً يطلع من ورد
وقال:
دبّ العذار على ميدان وجنته ... حتى إذا كاد أن يسعى به وفقا
كأنه كاتبٌ عزَّ المداد له ... أراد يكتب لاماً فابتدا ألفا
وقال:
عذارٌ كالطّراز على الطراز ... وشمسٌ في الحقيقة لا المجاز
تبدّى عارضاه فعارضاني ... وقالا لا تمرُّ بلا جواز
فقلت القلب عندكُمُ مقيمٌ ... وما حسن الثياب بلا طراز
وقال:
أنظرْ إليه كأنّه ... شمسٌ وبدرٌ حين أشرفْ
وَالْحَظْ محاسن خدّه ... تعذرْ دموعي حين تذرفْ
فكأنها الواوات ح ... ين يخطّها قلمٌ محرّف
وقال:
أبو نصر بن بكران ... مليح الحظِّ والخطِّ
فهذا النمل في العاج ... وذاك الدرّ في السّمط
وقال:
إنّ لبس السواد أقوى دليلٌ ... لأميرٍ يلي أمور العباد
وأمير الملاح يأتيه عزلٌ ... حين تلقاه لابساً للسواد
وقال:
وخطٍّ كأن الله قال لحسنه ... تشبّه بمن قد خطّك اليوم فأتمرْ
وهيهات أين الخطّ من حسن وجهه ... وأين ظلام الليل من صفحة القمرْ
وقال في صباح الحاجب:
خدّاه وردٌ وضدغه شبجٌ ... ومقلتاه الغناء والراح
إن هزّ أطرافه على نغمٍ ... شُقّت جيوبٌ وطاح أرواح
وجملة القول في محاسنه ... أنّ أمير الصباح صباح
وقال:
رقّ الزجاج ورقّت الخمر ... فتشابها فتشاكل الأمرُ
فكأنما خمرٌ ولا قدحٌ ... وكأنما قدحٌ ولا خمرُ
وقال:
وقهوةٍ قد حضِّرت بختمها ... فقلت للندمان عند شمّها
لا تقبضنْ بالماء روح جسمها ... فحسبها ما شربت من كرمها (1/407)
وقال من المتكامل:
متغايراتٌ قد جُمعن وكلّها ... متشاكلٌ أشباحها أرواحُ
وإذا أردت مصرّحاً تفسيرها ... فالراح والمصباح والتفّاح
لو يعلم الساقي وقد جُمّعن لي ... من أي هذي تملأ الأقداح
وقال:
ولما بدا التفاح أحمرَ مشرقاً ... دعوت بكأسي وهي ملأى من الشفقْ
وقلت لساقيها أدرها فإنها ... خدود عذارى قد جُعلن على طبقْ
وقال من قصيدة:
وكأسٍ تقول العين عند جلائها ... أهلْ لخدود الغانسات عصيرُ؟
تحاميتها إلا تعلّل واصفٍ ... وقد يطرب الإنسان وهو كبيرُ
ومن قصيدة:
وصفراء أو حمراء فهي نحيلةٌ ... لرقّتها إلا على المتوهِّم
تشكّكنا في الكرم أنّ انتماءه ... إلى الكرم أم هاتا إلى الكرم ينتمي
ومنها:
تمتّع ندمانٌ بها وأحبَّةٌ ... وحظّي منها أنْ أقول ألا انعمي
لك الوصف دون القصف مني فخيّمي ... بغير يدي وارضي بما قاله فمي
أراد أنه جلس مع الشرب من غير شرب.
وقال:
وشادنٍ قلن له ما اسمكا ... فقال لي بالغنج عبّاثُ
فصرت من لثغته ألثغاً ... فقلت أين الكاث والطاث
ملح في الأوصاف والتشبيهات
قال:
أقبل الثلج فانبسطْ للسرور ... ولشرب الكبير بعد الصغير
أقبل الجوّ في غلائل نورٍ ... وتهادى بلؤلؤٍ منثور
فكأنّ السماء صاهرت الأر ... ض النثار من كافور
أخذه من قول ابن المعتز:
وكأنّ الربيع يجلو عروساً ... وكأنّا من قطره في نثار
وقال فيه:
هات المدامة يا غلام معجِّلاً ... فالنفس في قيد الهوى مأسوره
أو ما ترى كانون ينثر ورده ... وكأنما الدنيا به كافوره
وقال فيه:
هات المدامة يا غلام مصيِّراً ... نقلي عليها قبلة أو عضّه
أو ما ترى كانون ينثر ورده ... وكأنما الدنيا سبيكة فضّه
سمعت أبا بكر الخوارزمي يقول عند إنشاد هذه الثلجيات: كل هذه الثلجيات عيال على قول الصنوبري:
ذَهِّبْ كؤوسك يا غلا ... م فإنه يوم مفضَّض
فقلت: قد أخذه منه من لم يزد على معناه، فقال:
جاد الغمام بدمعٍ كاللُّجين جرى ... فجدْ لنا بالتي في اللون كالذهب
وقال الصاحب في النارنج:
بعثنا من النارنج ما طاب عُرفُهُ ... فقيل على الأغصان منه نوافج
كراتٌ من العقيان أحكم خرطها ... وأيدي الندامى حولهنّ صوالج
وقال في الند:
ندٌّ لفخر الدولة استعماله ... قد زاد عرفاً من نسيم يديه
فكأنما عجنوه من أخلاقه ... وكأنه طيب الثناء عليهِ
وقال في حبة عنب:
وحبّةٍ من عنبٍ ... من المنى متَّخذَهْ
كأنها لؤلؤةٌ ... في وسطها زمرُّده
وقال فيه:
وحبّةٍ من عنبٍ قطفتها ... تحسدها العقود في الترائب
كأنها من بعد تمييزي لها ... لؤلؤةٌ قد ثقبت من جانب
وقال في الشمع:
ورائق القدّ مستحبُّ ... يجمع أوصاف كل صبِّ
صفرة لونٍ وسكب دمعٍ ... وذوب جسمٍ وحرّ قلبِ
وقال في التين:
تينٌ يزينُ رواؤه مخبورُه ... متخيّرٌ في وصفه يتحيَّرُ
عسل اللعاب لديه ممّا يجتوي ... وجنى النخيل لديه مرٌّ ممقر
وكأنما هو في ذرى أغصانه ... قطع النضار أدارهنّ مدوَّر
ويقول ذائقه لطيب مذاقه ... الله أكبر والخليفة جعفر
وقال في الخط واللفظ:
بالله قل لي أقرطاسٌ تخطّ به ... من حلّةٍ هو أمْ ألبسته حللا
بالله لفظك هذا سال من عسل ... أمْ قد صببت على أفواهنا عسلا
وقال في الوحل:
إني ركبت وكفُّ الأرض كاتبةٌ ... على ثيابي سطوراً ليس تنكتمُ
والأرض محبرةٌ والحبر من لثقٍ ... والطّرس ثوبي ويمني الأشهب القلمُ (1/408)
من ملح إخوانياته
كتب إلى أبي الفضل بن شعيب:
يا أبا الفضل لم تأخّرت عنا ... فأسأنا بحسن عهدك ظنّا
كم تمنّت نفسي صديقاً صدوقاً ... فإذا أنت ذلك المتمنّى
فبغصن الشباب لما تثنّى ... وبعهد الصبا وإن بان منّا
كن جوابي إذا قرأت كتابي ... لا تقل للرسول كان وكنّا
وكتب إلى الحسين الطبيب:
إنا دعوناك على انبساطٍ ... والجوع قد أثّر في الأخلاط
فإن عسى مِلْتَ إلى التباطي ... صفعت بالنعل قفا بقراط
وكتب إلى أبي بكر الخوارزمي:
أسعدك الله بيوم الفصح ... وعشتَ ما شئتَ بيومٍ سمحِ
يا رأس مالي في الورى وربحي ... وظَفَري ونصرتي ونجحي
شرباً ولا تصغ لأهل النصح ... فالحزم أن تسكر قبل تصحي
سكر النصارى في غداة الفصح وكتب إلى أبي القاشاني:
يا أبا القاسم قلْ لي ... قل لماذا لا تزورُ
كنت قد قدمت وعداً ... فإذا وعدك زورُ
وبذرت الورد بالقو ... ل فلم تزكُ البذور
ونحرت الودّ بالهج ... ر كما يهدي الحزور
إنّ أمّ الصدق في ال ... ود لمقلاةٍ نزور
وكتبت إليه أيضاً:
مولاي لَمْ لَمْ تدعُ عب ... دك عند إحضار المدامْ
أعرفته من بينهم ... متبسّطاً وقت الطعام
أم قيل عربد ذات يو ... مٍ حين صار إلى المدام
أم لم يساعد حين مل ... ت إلى الغلامة والغلام
إن كنت تبخل بالطعا ... م فكيف تبخل بالكلام
لسنا نحاول دعوةً ... فاسمح علينا بالسلام
وقال رحمه الله:
لو فتشوا قلبي رأوا وسطه ... سطرين قد خطّا بلا كاتب
حبَّ عليّ بن أبي طالبٍ ... وحبَّ مولاي أبي طالبِ
وقال:
يا ابن يعقوب يا نقيب البدور ... كن شفيعي إلى فتىً مسرور
قل له إنّ للجمال زكاةٌ ... فتصدّق بها على المهجور
وكتب إلى أبي العلاء الأسدي:
أبا العلا يا هلال الهزل والجدِّ ... كيف النجوم التي تطلعن في الجلد
وباطنُ الجسم غرٌّ مثل ظاهره ... وأنت تعلم مما قلته قصدي
سمعت أبا الفتح علي بن محمد البستي يقول: لم اسمع في إنفاذ الحلواء إلى الأصدقاء أحسن من قول الصاحب:
حلاوة حبك يا سيدي ... تسوغ بعثي إليك الحلاوة
فقلت له: وأنا لم أسمع في النثار للرؤساء أحسن من قولك:
ولو كنت أنثر ما تستحقُّ ... نثرت عليكَ سعود الفلكْ
أؤلف كتاباً في الأحاسن، وأورد فيه أحسن ما سمعته في كل فن، فأجبته إلى ذلك، وحين ابتدأته عرضت موانع وقواطع عن استتمامه، أقواها غيبته عن خراسان، ثم وفاته رحمه الله تعالى.
وقال الصاحب:
قولوا لإخواننا جميعاً ... من كلّهمْ سيّد مرزَّا
من لم يعدنا إذا مرضنا ... إن مات لم نشهد المعزّى
وقال لمحمود التاجر:
طويت محموداً على جفوته ... مخلّصاً نفسي من خلّته
قدّرته يقلق من علّتي ... مثل انزعاجي كان من علّته
لم يطرِ ما بي لا ولا مرّ بي ... كأنّ سقمي كان من شهوته
من لم يطالعني على علّةٍ ... إن مات لم أمضِ إلى تربته
وقال للقاضي أبي بشر الجرحاني:
يصدّ الفضل عنا أيّ صدٍّ ... وقال تأخّري عن ضعف معْدَهْ
فقلت له جعلت العين واواً ... فإنّ الضعف أجمع في المودّه
وقال:
بَعُدْتَ فطعم العيش عندي علقمُ ... ووجه حياتي مذ تغيّبتَ أرقمُ
فما لك قد أدغمت قربك في النوى ... وودّك في غير النداء مرخَّمُ
ملح من مدائحه
قال من قصيدة في عضد الدولة:
همامٌ رأى الدنيا سواماً فحاطها ... لياليَ في غير الزمان وقور
ولم يخطب الدّنيا احتفالاً بقدرها ... فموقعها من راحتيه يسير (1/409)
ولكن له طبع إلى الخير سابقٌ ... ورأي بأبناء الرِّجال بصيرُ
وإن لم يلاحظهم بعين حميّة ... فتلك أمور لا تزال تمور
ومن أخرى:
سعود يحار المشتري في طريقها ... ولا تتأتى في حساب المنجِّم
وكم عالم أحييت من بعد عالم ... على حين صاروا كالهشيم المحطم
فوالله لولا الله قال لك الورى ... مقال النصارى في المسيح ابن مريم
محامد لو فضت ففاضت على الورى ... لما أبصرت عيناك وجه مذمم
وكلاّ ولكن لو حظوا بزكاتها ... لما سمعت أذناك ذكر ملوم
ولو قلت إن الله لم يخلق الورى ... لغيرك لم أحرج ولم أتأثم
ومن أخرى:
يا أيها الملك الذي كلُّالورى ... قسمان بين رجائه وحذاره
فمناصح قد فاز سهم طلابه ... ومداهن قد جال قدح بواره
هذي بخارى تشتكي ألم الصدى ... وتقول قولاً نبت في أخباره
ماذا عليه لو يهم بعرصتي ... فأكون بعض بلاده ودياره
ومن عميدته ذكر فيها نقرسا نال يمناه:
أبو الفضل من أجرى إلى الفضل يافعاً ... فظلّ به يدعى وصار به يكنى
سلامته شمس المعالي وسقمه ... كسوف المعالي لا كسفن ولا بنَّا
ولم يأته ورد إلا ليشغل عن ندى ... وإلا فلم قد خصَّ بالألم اليمنى
وما يحجز البحر الخضم عن الندى ... ولا السيد الأستاذ عن جوده يُثنى
وكتب إلى مؤيد الدولة أبي منصور:
سعادة ما نالها قط أحد ... يحوزها المولى الهمام المعتمد
مؤيد الدولة وابن ركنها ... وابن أخي معزِّها أخو العضد
وقال في فخر الدولة وقد افتصد:
يا أيها الشمس إلا أن طلعتها ... فوق السماء وهذا حين يقتصد
لما افتصدت قضينا للعلا عجباً ... وما حسبت ذراع الشمس يفتصد
وقال فيه لما بنى قصره بجرجان:
يا بانياً للقصر بل للغلا ... همك والفرقد سيان
لم تبن هذا القصر بل صنعته ... تاجاً على مفرق جرجان
وقصرك المبني من قبله ... ملكك، والله هو الباني
فاقبل نثار العبد بل نظمه ... فإنه والدُّرُّ مثلان
واسمع مقالاً لم يقل مثله ... مذ كانت الدنيا لإنسان
لو كان للخلق إلهان ... لكان فخر الدولة الثاني
ملح من شعره في الهجاء والمجون
قال في ابن متويه:
يا فتى متويَّ رفقاً ... لست من ينكر أصله
إنما ينكر منه ... من جنون فيه ثقله
أنت نذل من كرام ... أنت في الطاووس رجله
كأنه مقلوب بيت المتنبي:
فإن تفق الأنام وأنت منهم ... فإن المسك بعض دم الغزال
وقال في معناه:
أبوك أبو علي ذو علاءٍ ... إذا عدَّ الكرام وأنت نجله
وإن أباك إذ تُعزى إليه ... كالطاووس يقبح من رجله
وقال فيه:
أحمد هذا سبط متويه ... في موته بعد غدٍ تهنيه
والشأن في أني على بغضه ... أحتاج أن أقعد للتعزيه
وقال فيه:
قال ابن متويه لأصحابه ... وقد حشوه بأيور العبيد
لئن شكرتم لأزيدنكم ... وإن كفرتم فعذابي شديد
وقال فيه:
أبصرت في كفِّ ابن متوي عصاً ... فسألته عنها ليوضح عذرا
فأجانبي إني بها متشايخ ... هذا، ولي فيها مآرب أخرى
وقال فيه:
سبط متويَّ إن دارك دار ... قد عرفت الإدبار إذ تبنيها
لا تكثر تزويقها وترفق ... عن قليل يكون قبرك فيها
وقال فيه:
كلما زدت عتاباً ... زدت في هجوك بيتا
أو ترى طبعي غيضاً ... أو أرى جسمك ميتا
وقال فيه:
سبط متوي رقيع سفله ... أبداً يبذل فينا أسفله (1/410)
اعتزلنا نيكه في دبره ... فلهذا يلعن المعتزلة
وقال فيه:
رام ابن متوي أيري ... وبرجه فيه طير
فقلت تطلب أيري ... هذا وفي استك أير
فقال لي لا تحمق ... زيادة الخير خير
وقال فيه:
عندي سر لابن متويه ... وعزمي الساعة أن أفشي
أخبرني بعضي عن بعضه ... بأنه أوسع من يمشي
وقال في الغويري:
إن الغويري له نكهة ... نتنتها أربت على الكنف
يا ليته كان بلا نكهة ... أو ليتني كنت بلا أنف
وقال في رجل يتعصب للعجم على العرب ويعيب العرب بأكل الحيات:
يا عائب الأعراب من جهله ... لأكلها الحيات في الطعم
فالعجم طول الليل حياتهم ... تنساب في الأخت وفي الأم
وقال فيمن زوج أمه:
زوجت أمك يا فتى ... وكسوتني ثوب القلق
والحرُّ لا يهدي الحرا ... م إلى الرجال على طبق
وقال:
لم أر مثل جعفر مخلوقاً ... يشبه طبلاً ويحب بوقا
وقال:
يا بركة ملأى من الشبوط ... قفاك بغاء وكفِّي لوطي
وقال:
لنا قاض له رأس ... من الخفة مملوء
وفي أسفله داء ... بعيد منكم السّوء
وقال:
إن قاضينا لأعمى ... أم على عمد تعامى
سرق العبد كأن ال ... عبد من مال اليتامى
وقال:
يا قاضياً بات أعمى ... عن الهلال السعيد
أفطرت في رمضان ... وصمت في يوم عيد
وقال:
إذا ما لاح للعين ... أبو بكر فتى القاضي
وقد زاد من التيه ... على القاهر والراضي
فواجهه بإمضاض ... وقابله بإغضاض
وقالوا في حرّ أمِّك ... قمدُّ الحاكم الماضي
وقال:
رأيت لبعض الناس فضلاً إذا انتمى ... يقصر عنه فضل عيسى ابن مريم
عزوه إلى تسع وتسعين والداً ... وليس لعيسى والد حين ينتمي
وقال:
سيأتيك برق من هجائي خلّبٌ ... إذا كنت ذا برق من الودّ خلّب
وأنشد إذ أصبحت تغلب قدرتي ... بعجزك لم يغلبك مثل مغلّب
وقال:
مطفل أطفل من أشعب ... ما زال محروماً ومذموماً
لو أنه جاء إلى مالك ... لقال أطعمني زقوما
وقال:
انظر إلى وجه أبي زيد ... أوحش من حبس ومن قيد
وحوشه ترتع في ثوبه ... وظفره يركب للصيد
وقال في رجل كثير الشرب بطيء السكر:
يقال لماذا ليس يسكر بعدما ... توالت عليه من نداماه قرقف
فقلت سبيل الخمر أن تنقص الحجى ... فإن لم تجد عقلاً فماذا تحيف
وقال:
هذا ابن متوي له آية ... يبتلع الأير وأقصى الخصى
يكفر بالرسل جميعاً سوى ... موسى بن عمران لأجل العصا
وقال:
أنت تيس لا كالتيوس لأن التيس ين ... زو وأنت يُنزى عليكا
وقال:
أبو العباس تحضره جموع ... من الفقهاء لجّوا في العواء
كأنهم إذا اجتمعوا عليه ... ذباب يجتمعن على جراء
وقال:
أبو العباس قد أضحى فقيهاً ... يتيه بفقهه في الناس تيها
وذلك أنَّ لحيته أتتني ... تناظر فقحتي فخريت فيها
وقال:
أبو العباس فيه الأ ... ير ينساب انسياب الأيم
فتىً يأذن بالفق ... حة للأسياف بالشيم
وقال:
هذا الأديب الذي وافى يفاخرنا ... أضحى إلى كمر السودان مشتاقا
فما يفارق طوماراً يعالجه ... إلا بآخر يمضي فيه إعناقا
كأنما هو حرباء ببيضته ... لا يرسل الساق إلا ممسكاً ساقا
وأنشدني له الأمير أبو الفضل عبيد الله بن أحمد الميكالي:
نُبِّئت أنك منشد ما قلته ... في سب عرضك لا تخاف وعيدي
والكلب لا يخزى إذا أخسأته ... والقار لا يخشى من التسويد (1/411)
وأنشدني له أيضاً:
شرط الشروطي فتيَّ أيرٍ ... وما سواه غير مشروط
أبغى من الإبرة لكنه ... يوهم قوماً أنه لوطي
وأنشدني له غيره:
تزلزلت الأرض زلزالها ... فقالوا بأجمعهم مالها
مشى ذا الثقيل على ظهرها ... فأخرجت الأرض أثقالها
وقال:
قد طال قرنك يا أخي ... فكأنه شعر الكميت
ما أخرج له رحمه الله في
سائر الفنون
قال:
تصدُّ أميمة لما رأت ... مشيباً على عارضي قد فرش
فقلت لها السيب نقش الشباب ... فقالت ألا ليته ما نقش
وقال:
ولما تناءت بالأحبة دارهم ... وصرنا جميعاً من عيان إلى وهم
تمكن مني الشوق غير مسامح ... كمعتزلي قد تمكن من خصم
وقال:
كنت دهراً أقول بالاستطاعة ... وأرى الجبر ضلة وشناعه
ففقدت استطاعتي في هوى ظبي فسمعاً للمجبرين وطاعه
وقال:
لقد قلت لما أتوا بالطبيب ... وصادفني في أحر اللهيب
وداوي فلم أنتفع بالدواء ... دعوني فإن طبيبي حبيبي
ولست أريد طبيب الجسوم ... ولكن أريد طبيب القلوب
وليس يزيل سقامي سوى ... حضور الحبيب وبعد الرقيب
وقال:
ناصبٌ قال لي معاوية خا ... لك خير الأعمام والأخوال
فهو خال للمؤمنين جميعاً ... قلت خالي لكن من الخير خال
وقال:
حبُّ علي بن أبي طالب ... هو الذي يهدي إلى الجنه
إن كان تفضيلي له بدعة ... فلعنه الله على السنه
وقال في شهر رمضان:
قد تعدوا على الصيام وقالوا ... حرم الصب فيه حسن العوائد
كذبوا في الصيام للمرء مهما ... كان مستيقظاً أتم الفوائد
موقف بالنهار غير مريب ... واجتماع بالليل عند المساجد
وقال:
راسلت من أهواه أطلب زورة ... فأجابني أو لست في رمضان؟
فأجبته والقلب يخفق صبوة ... أتصوم عن بر وعن إحسان
صم إن أردت تحرجاً وتعففاً ... عن أن تكد الصب بالهجران
أولاً فزرني والظلام مجلل ... واحبسه يوماً مرّ في شعبان
وقال في مرض علوي:
يا سيداً أفديه عند شكاته ... بالنفس والولد الأعزِّ وبالأب
لم لا أبيت على الفراش مسهداً ... وقد اشتكى عضو من أعضاء النبي
وقال يرثي أبا الحسن السلمي:
إذا ما نعى الناعون أهل مودتي ... بكيت عليهم بل بكيت على نفسي
نعوا مهجة السلمي وهي سلامة ... غلبت عليها فالسلام على الأنس
وقال يرثي أبا منصور كثير بن أحمد:
يقولون لي أودي كثير بن أحمد ... وذلك رزء في الأنام جليل
فقلت دعوني والعلا نبكه معاً ... فمثل كثير في الرجال قليل
وقال:
يا أهل سارية السلام عليكم ... قد قلَّ في أرضيكم الخطباء
حتى غدا الفأفاء يخطب فيكم ... ومن العجائب خاطب فأفاء
وقال في أخوين صبيح وقبيح:
يحيا حكى المحيا ولكن له ... أخٌ حكى وجه أبي يحيى
وقال:
لقد صدقوا والراقصات إلى منى ... بأن مودات العدى ليس تنفع
ولو أنني داريت عمري حية ... إذا مكنت يوماً من اللسع تلسع
وقال:
إذا أدناك سلطان فزده ... من التعظيم واحذره وراقب
فما السلطان إلا البحر عظماً ... وقرب البحر محذور العواقب
وقال:
وقائلة لم عرتك الهموم ... وأمرك ممتثل في الأمم؟
فقلت دعيني على غصتي ... فإن الهموم بقدر الهمم
نبذ من ذكر سرقاته
سمعت أبا بكر الخوارزمي يقول: قال بعض ندماء الصاحب له يوماً: أرى مولانا قد أغار في قوله:
لبسن برود الوشي لا لتجمل ... ولكن لصون الحسن بين برود
على قول المتنبي:
لبسن الوشى لا متجملات ... ولكن كي يصنَّ به الجمالا (1/412)
فقال: كما أغار هو بقوله:
ما بال هذي النجوم حائرة ... كأنها العمى ما لها قائد
على العباس بن الأحنف قوله:
والنجم في كبد السماء كأنه ... أعمى تحيّر ما لديه قائد
وسمعت أيضاً أبا بكر يقول: أنشدني الصاحب نتفة له منها هذا البيت:
لئن هو لم يكفف عقارب صدغه ... فقولوا له يسمح بترياق ريقه
فاستحسنه جداً حتى حممت من حسدي له عليه، ووددت لو أنه لي بألف بيت من شعري.
قال مؤلف الكتاب: فأنشدت الأمير أبا الفضل عبيد الله بن أحمد الميكالي هذا البيت، وحكيت له هذه الحكاية في المذاكرة، فقال لي: أتعرف من أين سرق الصاحب معنى هذا البيت؟ فقلت: لا والله، قال: إنما سرقه من قول القائل، ونقل ذكر العين إلى ذكر الصدغ:
لدغت عينك قلبي ... إنما عينك عقرب
لكن المصة من ري ... قك ترياق مجرب
فقلت: لله در مولانا الأمير! فقد أوتي حظاً كثيراً من التخصص، بمعرفة التلصص.
قلت: ومعنى قول الصاحب في الثلج:
وكأن السماء صاهرت الأر ... ض فكان النثار من كافور
ينظر إلى قول ابن المعتز:
وكأن الربيع يجلو عروساً ... وكأنا من قطره في نثار
وقول الصاحب:
يقولون لي كم عهد عينك بالكرى ... فقلت لهم مذ غاب بدر دجاها
ولو تلتقي عين على غير دمعة ... لصارمتها حتى يقال نفاها
مأخوذ لفظ البيت الثاني من قول المهلبي الوزير:
تصارمت الأجفان منذ صرمتني ... فما تلتقي إلا على عبرة تجري
وقول الصاحب:
هات مشطاً إلى وليك عاجاً ... فهو أدنى إلى مشيب الرؤوس
وإذا ما مشطت عاجاً بعاج ... فامشط الآبنوس بالآبنوس
مأخوذ من قول أبي عثمان الخالدي:
ورأتني مشطت عاجاً بعاج ... فامشط الآبنوس بالآبنوس
وأخذ قوله:
فم الغويري إذا ... فتَّشته أنتن فم
كم قلت إذ كلمني ... واأسفي على الخشم
من قول المهلبي الوزير:
وإن أبصرت طلعته ... فوالهفي على العمش
وأخذ قوله في ابن العميد:
إلى سيد لولاه كان زماننا ... وأبناؤه لفظاً عرّياً عن المعنى
من قول المتنبي:
والدهر لفظ وأنت معناه
وقوله في القافية الأخيرة:
وناصح أسرف في النكير ... يقول لي سدت بلا نظير
فكيف صغت الهجو في حقير ... مقداره أقل من نقير
فقلت لا تنكر وكن عذيري ... كم صارم جرِّب في خنزير
من قول الحمدوني:
هبوني امرأً جربت سيفي على كلب
وقوله في البيت الأخير من هذه الأبيات:
ومهفهف حسن الشمائل أهيف ... تردى النفوس بفترتي عينيه
ما زال يبعدني ويؤثر هجرتي ... فجذبت قلبي من إسار يديه
قالوا تراجعه فقلت بديهة ... قولاً أقيم مع الروي عليه
والله لا راجعته ولو أنه ... كالشمس أو كالبدر أو كبويه
مأخوذ من قول ابن المعتز:
والله لا كلمته ولو أنه ... كالشمس أو كالبدر أو كالمكتفي
نبذ مما هجي به الصاحب
مازالت الأملاك تهجى وتمدح قال أبو العلاء الأسدي:
إذا رأيت مسجى في مرقعة ... يأوي المساجد حراً ضرُّه بادي
فاعلم بأن الفتى المسكين قد قذفت ... به الخطوب إلى لؤم ابن عباد
وقال أبو الحسن الغويري:
إن كان إسماعيل لم يدعني ... لأن أكل الخبز صعب لديه
فإنني آكل في منزلي ... إذا دعاني ثم أمضي إليه
وقال السلامي:
يا ابن عباد بن عبا ... س بن عبد الله حرها
تنكر الخير وأخرجت إلى العالم كرها
وقال أبو بكر الخوارزمي:
صاحبنا أحواله عاليه ... لكنما غرفته خاليه
وإن عرفت السرّ من دائه ... لم تسأل الله سوى العافيه
ذكر آخر أمره
لما بلغت سنوه الستين اعترته آفة الكمال، وانتابته أمراض الكبر، جعل ينشد قوله:
أناخ الشيب ضيفاً لم أرده ... ولكن لا أطيق له مردا (1/413)
رداء للردى فيه دليل ... تردى من به يوماً تردّى
ولما كنى المنجمون عما يعرض له في سنة موته قال:
يا مالك الأرواح والأجسام ... وخالق النجوم والأحكام
مدبر الضياء والظلام ... لا المشتري أرجوه للإنعام
ولا أخاف الضرَّ من بهرام ... وإنما النجوم كالأعلام
والعلم عند الملك العلام ... يا رب فاحفظني من الأسقام
ووقني حوادث الأيام ... وهجنة الأوزار والآثام
هبني لحبِّ المصطفى المعتام ... وصنوه وآله الكرام
وكتب بخطه على تحويل السنة التي دلت على انقضاء عمره:
أرى سنتي قد ضمنت بعجائب ... وربي يكفيني جميع النوائب
ويدفع عني ما أخاف بمنه ... ويؤمن ما قد خوفوا من عواقب
إذا كان من أجرى الكواب أمره ... معيني فما أخشى صروف الكواكب
عليك أيا رب السماء توكلي ... فحطني من شر الخطوب الحوارب
وكم سنة حذرتها فتزحزحت ... بخير وإقبال وجدٍّ مصاحب
ومن أضمر اللهم سوءاً لمهجتي ... فرد عليه الكيد أخيب خائب
فلست أريد السوء بالناس إنما ... أريد بهم خيراً مريع الجوانب
وأدفع عن أموالهم ونفوسهم ... بجدي وجهدي باذلاً للمواهب
ومن لم يسعه ذاك مني فإنني ... سأكفاه إن الله أغلب غالب
وبلغته عن بعض أصحابه شماتة فقال:
وكم شامت بي بعد موتي جاهلاً ... بظلمي يسلُّ السيف بعد وفاتي
ولو علم المسكين ماذا يناله ... من الظلم بعدي مات قبل مماتي
ووجد في بعض أيام مرضته التي توفي فيها خفة، فأذن للناس، وحل وعقد وأمر ونهى، وأملى كتباً تعجب الحاضرون من حسنها، وفرط بلاغتها، وقال:
كلامنا من غرر ... وعيشنا من غرر
إني وحق خالقي ... على جناح السفر
ثم لما كانت ليلة الجمعة الرابع والعشرين من صفر سنة خمس وثمانين وثلاثمائة انتقل إلى جوار ربه عفوه وكرامته، ومضى من الدنيا بمضيه رونق حسنها وتاريخ فضلها، رضي الله عنه وأرضاه، وجعل الجنة مأواه بمنه وكرمه!!.
أنموذج من مراثيه
من قصيدة أبي القاسم بن أبي العلاء الإصبهاني تغمده الله برحمته، وأسكنه بحبوحة جنته!:
يا كافي الملك ما وفّيت حظك من ... وصف وإن طال تمجيد وتأبين
فتّ الصفات فما يرثيك من أحد ... إلا وتزيينه إياك تهجين
ما مت وحدك لكن مات من ولدت ... حواء طرّاً، بل الدنيا، بل الدين
هذي نواعي العلا مذ مت نادبةً ... من بعد ما ندبتك الخرد العين
تبكي عليك العطايا والصلات كما ... تبكي عليك الرعايا والسلاطين
قام السعاة وكان الخوف أقعدهم ... فاستيقظوا بعد ما مت الملاعين
لا يعجب الناس منهم إن هم انتشروا ... مضى سليمان وانحلَّ الشياطين
ما أحسن هذا المثل، وأمكن موقعه!! ومن قصيدة أبي الفرح بن ميسرة:
ولو قبل الفداء لكان يفدى ... وإن جلّ المصاب على التفادي
ولكن المنون لها عيون ... تكدُّ لحاظها في الانتقاد
فقل للدهر أنت أصبت فالبس ... برغمك دوننا ثوبي حداد
إذا قدمت خاتمة الرزايا ... فقد عرضت سوقك للكساد
ومن قصيدة أبي سعيد الرستمي:
أبعد ابن عباس يهش إلى السرى ... أخو أمل أو يستماح جواد
أبى الله إلا أن يموتا بموته ... فما لهما حتى المعاد معاد
ومن قصيدة أبي الفياض سعيد بن أحمد الطبري:
خليلي كيف يقبلك المقيل ... ودهرك لا يقيل ولا يقيل
ينادي كل يوم في بنيه ... ألا هبوا فقد جدَّ الرحيل
وهم رجلان منتظر غفول ... ومبتدر إذا يدعى عجول
كأن مثال من يفنى ويبقى ... رعيل سوف يتلوه رعيل (1/414)
فهم ركبٌ وليس لهم ركاب ... وهم سفر وليس لهم قفول
تدور عليهم كأس المنايا ... كما دارت على الشرب الشمول
ويحدوهم إلى الميعاد حادٍ ... ولكن ليس يقدمهم دليل
ألم تر من مضى من أوَّلينا ... وغالتهم من الأيام غول
قد احتالوا فما دفع الحويل ... وأعولنا فما نفع العويل
كذاك الدهر أعمار تزول ... وأحوال تحول ولا تؤول
لنا منه وإن عفنا وخفنا ... رسول لا يصاب لديه سول
وقد وضح السبيل فما لخلق ... إلى تبديله أبداً سبيل
لعمرك إنه أمدٌ قصيرٌ ... ولكن دونه أمدٌ طويل
أرى الإسلام أسلمه بنوه ... وأسلمهم إلى ولهٍ يهول
أرى شمس النهار تكاد تخبو ... كأن شعاعها طرف كليل
أرى القمر المنير بدا ضئيلاً ... بلا نور فأضناه النحول
أرى زهر النجوم محدقات ... كأن سراتها عور وحول
أرى وجه الزمان وكل وجه ... به مما يكابده فلول
أرى شمَّ الجبال لها وجيب ... تكاد تذوب منه أو تزول
وهذا الجو أكلف مقشعر ... كأن الجو من كمد عليل
وهذي الريح أطيبها سموم ... إذا هبت وأعذبها بليل
وللسحب الغزار بكل فجٍ ... دموع لا يذاد بها المحول
نعى الناعي إلى الدنيا فتاها ... أمين الله فالدنيا ثكول
نعى كافي الكفاة فكل حرٍّ ... عزيز بعد مصرعه ذليل
نعي كهف العفاة فكل عين ... بما تقذى العيون به كحيل
كأن نسيم تربته سحيراً ... نسيم الروض تقبله القبول
إذا وافى أنوف الركب قالوا ... سحيق المسك أم ترب مهيل
أيا قمر المكارم والمعالي ... أبن لي كيف عاجلك الأفول
أبن لي كيف هالك ما يهول ... وغالك بعد عزك ما يغول
ويا من ساس أشتات البرايا ... وألجم من يقول ومن يصول
أدلت على الليالي من شكاها ... وقد جارت عليك فمن يديل
بكاك الدين والدنيا جميعاً ... وأهلهما كما يُبكى الحمول
بكتك البيض والسمر المواضي ... وكنت تعولها فيمن تعول
بكتك الخيل معولة ولكن ... بكاها حين تندبك الصهيل
قلوب العالمين عليك قلب ... وحظك من بكائهم قليل
ولي قلب لصاحبه وفي ... يسيل وتحته روح تسيل
إذا نظمت يدي في الطرس بيتاً ... مجاه منه منتظم هطول
فإن يك ركَّ شعري من ذهولي ... فذلك بعض ما يجني الذهول
كتبت بما بكيت لأن دمعي ... عليك الدهر فياض همول
وكنت أعد من روحي فداء ... لروحك إن أريد لها بديل
أأحيا بعده وأقر عيناً ... حياتي بعده هدر غلول
حياتي بعده موت وحي ... وعيشي بعده سم قتول
عليك صلاة ربك كل حين ... تهب بها من الخلد القبول
ومن قصيدة الشريف أبي الحسن الرضي الموسوي النقيب:
أكذا المنون يقطر الأبطالا ... أكذا الزمان يضعضع الأجيالا
أكذا تصاب الأسد وهي مدلةٌ ... تحمي الشبول وتمنع الأغيالا
أكذا تقام عن الفرائس بعدما ... ملأت هماهمها الورى أوجالا
أكذا تحطّ الزاهرات عن العلا ... من بعد ما شاق العيون منالا
أكذا تكبّ البزل وهي مصاعب ... تطوي البعيد وتحمل الأثقالا
أكذا تغاض الزاخرات وقد طغت ... لججاً وأوردت الظماء زلالا (1/415)
يا طالب المعروف حلَّق نجمه ... حطَّ الحمول وعطل الأجمالا
وأقم على يأس فقد ذهب الذي ... كان الأنام على نداه عيالا
من كان يقري الجهل علماً ثاقباً ... والنقص فضلاً والرجاء نوالا
ويجبن الشجعان دون لقائه ... يوم الوغى ويشجع السؤالا
خلع الردى ذاك الرداء نفاسة ... عنا وقلص ذلك السربالا
خبر تمخض بالأجنة ذكره ... قبل اليقين وأسلف البلبالا
حتى إذا جلى الظنون يقينه ... صدع القلوب وأسقط الأحمالا
الشك أبرد للحشى في مثله ... يا ليت شكي فيه دام وطالا
جبل تسنَّمت البلاد هضابه ... حتى إذا ملأ الأقالم زالا
يا طود كيف وأنت عادي الذرى ... ألقى بجانبك الردى زلزالا
ما كنت أول كوكب ترك الدنا ... وسما إلى نظرائه فتعالى
أنفاً من الدنيا تبت حبالها ... ونزعت عنك قميصها الأسمالا
لا رزء أعظم من مصابك إنه ... وصل الدموع وقطَّع الأوصالا
إن قطع الآمال منك فإنه ... من بعد يومك قطع الآمالا
يا آمر الأقدار كيف أطعمتها ... أو ما وقاك جلالك الآجالا
هلاَّ أقالتك الليالي عثرةً ... يا من إذا عثر الزمان أقالا
وأرى الليالي طارحات حبالها ... تستوهق الأعيان والأرذالا
يبرين عود النبع غير فوارق ... بين النبات كما برين الضالا
لا تأمن الدنيا عليك فإنها ... ذات البعول تبدل الأبدالا
كم حجة في الدين خضت غمارها ... هدر الفنيق تخمطا وصيالا
بسنان رمحك أو لسانك موسعاً ... طعناً يشق على العدى وجدالا
إن نكس الإسلام بعدك رأسه ... فلقد رزى بك موئلاً ومآلا
واهاً على الأقلام بعدك إنها ... لم ترض بعد بنان كفك آلا
أفقدن منك شجاع كل بلاغة ... إن قال جلّى في المقال وجالا
من لو يشا طعن العدى برؤوسها ... وأثار من جريانها قسطالا
سلطان ملك كنت أنت تعزه ... ولرب سلطان أعز رجالا
إن المشمر ذيله لك خفية ... أرخى وجرر بعدك الأذيالا
طلبوا التراث فلم يروا من بعده ... إلا علاً وفضائلاً وجلالا
هيهات فاتهم تراث مخاطر ... جمع الثناء وضيع الأموالا
قد كان أعرف بالزمان وصرفه ... من أن يثمر أو يجمع مالا
مفتاح كل ندى، ورب معاشر ... كانوا على أموالهم أقفالا
كان الغريبة في الزمان فأصبحوا ... من بعد غارب نجمه أمثالا
من فاعل من بعده كفعاله ... أو قائل من بعده ما قالا
سمع يرفع للسؤال سجوفه ... ويحجب الأهزاج والأرمالا
يا طالباً من ذا الزمان شبيهه ... هيهات كلفت الزمان محالا
إن الزمان أضنُّ بعد وفاته ... من أن يعيد لمثله أشكالا
وأرى الكمال جنى عليه لأنه ... غرض النوائب من أعير كمالا
صلى الإله عليك من متوسد ... بعد المهاد جنادلاً ورمالاً
كسف البلى ذاك الهلال المجتلى ... وأجرّ، ذاك المقول الجوالا
ورأيت كل مطية قد بدلت ... من بعد يومك بالزمام عقالا
لمن الضوامر عريت أمطاؤها ... حول الخيام تنازع الأطوالا
بدلن من لبس الشكيم مقاوداً ... مربوطة ومن السروج جلالا
فجعت بمنصلت يعرض للقنا ... أعناقها ويحصن الأكفالا (1/416)
طرح الرجال لك العمائم حسرة ... لما رأوك تسير أو إجلالا
قالوا وقد فجئوا بنعشك سائراً ... من ميل الجبل العظيم فمالا
وتبادروا عطَّ الجيوب وعاجلوا ... عضَّ الأنامل يمنة وشمالا
ما شققوا إلا كساك وآلموا ... إلا أنامل نلن منك سجالا
من ذا يكون معوضاً ما مزقوا ... ومعولاً لمؤمل وثمالا
فرغت أكف من نولك بعدها ... وأطال عظم مصابك الأشغالا
أعزز علي بأن يبدل زائر ... بعد التهلل عندك استهلالا
أو أن يناديك الصريخ لكربة ... حشدت عليه فلا تحير مقالا
قد كنت آمل أن أراك فأجتني ... فضلاً إذا غيري جنى أفضالا
وأفيد سمعك منطقي وفضائلي ... وتفيدني أيامك الإقبالا
وأعد منك لريب دهري جنة ... تثني جنود خطوبه فلالا
فطواك دهرك طي غير صيانة ... وأعاد أعلام العلا أغفالا
قبر بأعلى الري شق ضريحه ... لأغر حفزه الردى إعجالا
فرعاه من أرعى البرية سيبه ... وسقاه من أسقى به الآمالا
إن يمس موعظة الأنام فطالما ... أمسى مهاباً للورى ومهالا
لنسلي الدنيا عليه فإنها ... نزعت به الإحسان والإجمالا
ولأبي العباس الضبي وقد مر بباب الصاحب:
أيها الباب لم علاك اكتئاب ... أين ذاك الحجاب والحجاب؟
أين من كان يفزع الدهر منه ... فهو اليوم في التراب تراب؟!
ولبعض بني المنجم لما استوزر أبو العباس الضبي ولقب بالرئيس وضم إليه أبو علي ولقب بالجليل بعد موت الصاحب تغمده الله برحمته آمين:
والله والله لا أفلحتم أبداً ... بعد الوزير ابن عباد بن عباس
إن جاء منكم جليل فاجلبوا أجلي ... أو جاء منكم رئيس فاقطعوا رأسي
وأنشدني أبو العباس العلوي الهمذاني الوصي لنفسه في مرثية الصاحب:
مات الموالي والمحب لأهل بيت أبي تراب
قد كان كالجبل المنيع لهم فصار مع التراب
وأنشدني أيضاً فيه لنفسه:
نوم العيون على الجفون حرام ... ودموعهن مع الدماء سجام
تبكي الوزير سليل عباد العلا ... والدين والقرآن والإسلام
تبكيه مكة والمشاعر كلها ... وحجيجها والنسك والإحرام
تبكيه طيبة والرسول ومن بها ... وعقيقها والسهل والأعلام
كافي الكفاة قضى حميداً نحبه ... ذاك الإمام السيد الضرغام
مات المعالي والعلوم بموته ... فعلى المعالي والعلوم سلام
ولبعض أهل نيسابور من قصيدة:
ألا يا غرة العليا ... ألا يا نكبة الدنيا
وشمس الأرض فرد الدهر عين السؤدد اليمنى
أما استحيا أبو يحيى ... لفض المهجة الكبرى
لئن ختمت بك الدنيا ... لقد فتحت بك الأخرى
الباب الرابع
في ذكر
أبي العباس أحمد بن إبراهيم الضبي
وملح من نثره ونظمه
هو جذوة من نار الصاحب أبي القاسم، ونهر من بحره، وخليفته النائب منابه في حياته، القائم مقامه بعد وفاته، وكان الصاحب استصحبه منذ الصبا، واجتمع له الرأي والهوى، فاصطنعه لنفسه، وأدبه بآدابه، وقدمه بفضل الاختصاص على سائر صنائعه وندمائه، وخرج به صدراً يملأ الصدور كمالا، ويجري في طريقه ترسماً وترسلاً، وفي ذرى المعالي توقلا، وتحقق قول أبي محمد الخازن فيه من قصيدة:
تزهى بأترابها كما زهيت ... ضبة بالماجدين ماجدها
سماؤها شمسها غمامتها ... هلالها بدرها عطاردها
يروى كتاب الفخار أجمع عن ... كافي كفاة الورى وواحدها
وقوله فيه من أخرى:
نماه ضبة في أزكى مناصبه ... فخراً وأوطاه الشعرى وأمطاه
يعطي ويخفي ولا يبغي الثناء به ... حتى كأن الذي أعطاه غطاه (1/417)
يسير يوم الوغى والدهر يقدمه ... كأنما الدهر أيضاً من سراياه
وإن بدا أحيت الآمال طلعته ... حتى تقدر محياها محياه
ومن يوالي ابن عباد مخالصة ... يحز سعادة دنياه وأخراه
فما الصنائع إلا ما تخيره ... وما الودائع إلا ما تولاه
فاسلم ودم أيها الأستاذ مبتهجاً ... وخذ من العيش أصفاه وأضفاه
فقد تقيلت في الجدوى معالمه ... كما توخيت في الجلى قضاياه
وقد كانت بلاغة العصر بعد الصاحب والصابي، بقيت متماسكة بأبي العباس وأشرفت على التهافت بموته،وكادت تشيب بعده لمم الأقلام، وتجف غدر محاسن الكلام، لولا أن الله تعالى سد ببقاء الأمير أبي الفضل عبيد الله بن أحمد ثلم الأدب والكتابة، وداوى بالدفاع عن نفسه كلم البلاغة والبراعة. وجعله فرد الزمان، ولسان خراسان، وكافل يتم الفضل، ومنفق سوق النثر والنظم. وسيمر بك في القسم الرابع من هذا الكتاب إن شاء الله من نثره الذي هو نثر الورد، ونظمه الذي هو نظم العقد، ما ينير به الليل المظلم، وينصف به الدهر الظالم.
لمع من نثر أبي العباس
فصل من كتاب له في الصاحب في ذكر أحمد بن عضد الدولة
وكنت أستحضر كاتبه، بل كاذبه، وأحذره سراً، وأبصره جهراً، وهو يروغ روغان الثعالب، ويتفادى تفادي الموارب، وقد كنت منعت المستأمنة والمنهزمة أول مورده، من تكثير عدده، علماً بأنهم مؤن بلا منن، وعناء بلا غنى.
فصل له من كتاب إلى أبي سعيد الشيبي
وقد أتاني كتاب شيخ الدولتين فكان في الحسن، روضة حزن، بل جنة عدن، في شرح النفس، وبسط الأنس، برد الأكباد والقلوب، وقميص يوسف في أجفان يعقوب.
وبعد، فإن المنازعين للأمير حسام الدولة نسور، قد اقتنصتها العصور ودولته حرسها الله في إبان شبابها واعتدالها، وريعان إقبالها واقتبالها. قد أسست على صلاح وسداد، وعمارة دنيا ومعاد. فهي مؤذنة بالدوام، في ظلّ أساورة الإسلام.
ومنها فبينا نحن في تجهيز الخيول ليوصل إلى إيثاره، ويؤخذ له بثاره إذ جن. فقلب لنا المجن، ثم لم يقنعه العصيان والكفران حتى أراد الاستيلاء على البلد، والجناية على النفوس والأهل والولد، ونظر إلي فقال: كاتب، لا منازع ومحارب، نعم وقال من يشجع من الديلم لهز الزانة في صدري وتجريد السيف في وجهي، ولم يدر أن دولة مولانا لو أنكرت الفلك لكفته عن مجراه، وأن تدبير الصاحب لو رصد النجم لصده عن مسرته، وأنه مصطنعي، فلم يعتمدني لأعظم الأمور، وأهم الثغور، إلا وقد زرع في أرض تريع، ووكل السرح إلى من لا يضيع.
فصل من كتاب له إلى أبي علي وأبي القاسم العلويين
في التعزية عن أبيهما أبي الحسين بن أبي محمد رضي الله تعالى عنهم
كتابي - أطال الله بقاء الشريفين - والدهر ينعي مهجته، والمجد يندب بهجته، والشرف محصور في قبضة حينه، والفضل مفجوع بناظر عينه، والذكر الجميل مجدل لمصرعه، والخلق الوسيع موسد في مضجعه، ورسم المحاسن داثر عاف، وشخص المكارم حاسر حاف. ومهابط الوحي والرسالة تحني ظهرها أسفاً، ومعادن الوصية والإمامة تذري دمعها لهفاً. وبقاع الحرمين متسلية على نجمها الآفل، ولابسة ثوب الحداد لركنها المائل، ويد المواساة مقبوضة عن معونة العاني الذليل، ولسان الجود معتذر إلى ابن السبيل، وطوائف العفاة تبكي العيش الرطيب والربع الرحيب. والمشارع المعصومة من درن الضن، والموارد المحروسة من كدر المن، وذوو الحاجات في حسرات مجددة، وزفرات مرددة، قد أقامت منهم حانية الضلوع، وأطارت عنهم قلوباً دامية الصدوع. وبنو الآمال عابسة وجوههم، منكسة رؤوسهم يقولون حصن ثم تأبى نفوسهم ذلك لأن حادث قضاء الله - جل وجهه - استأثر بفرع النبوة، وعنصر الدين والمروة، وعصرة العدد الجم، ونجدة أهل العلم والفهم، فالدموع واكفة، والصدور راجفة، والهم وارد، والأنس شارد، والناس مأتمهم عليه واحد، ومعاقد الصبر الجميل بعده منقوضة، وقواعد البر والخير مخفوضة. فلولا أن الدهر مشحون بطوارق الغير، مشوب صفو أيامه بالكدر، ممزوج صابها بالعسل، موصول حبال الأمل فيها بأسباب الأجل يفطم أمام تكامل الرضاع، ويفرق قبل الإمتاع بحسن الاجتماع.فمن اعتصم بتوفيق الله عز اسمه، ورضي بما نفذ به حكمه. لبس في وجوه الحوادث جنة، لا تنضوها الشدائد، وأكد في مصابرة النوائب منة، لا تنقضها الخطوب الأوابد. وأخذ في الصدمة الأولى بالحزم، وذخيرة العزم، ففاز بالغنم الأكبر، والحظ الأشرف الأوفر، ومن اتبع هواه، وأرتع دينه لدنياه، فتهالك في القلق المذموم، وتقاعس عن الرضى بالقدر المحتوم، ظهر في شعار المستكبرين على الله، والمنكرين التأدب بأدب الله فعظم مصابه، وعدم ثوابه، وكان إلى الصبر بعد اقتران الوزر مآله ومآبه، لأريت المحققين برعاية المعهود، وتأبين الحبيب المفقود، كيف تتحمل الأرزاء، ويحرم العزاء، ويطاع داعي الوله، ويراع جانب القلب المرفه. (1/418)
ومنها وعرف كل من ورد وصدر، وبدأ وحضر، أن من قبض فاستوحش الأنس بمفارقته، واستبشرت الملائكة لمرافقته، وكان مثل الشريفين ريحانة روضه، والبارد العذب من فيضه، والثمر الحلو من دوحته، والورق النضر من نبعته، والشاهد العدل لمآثره، والمشيد الندب لمناقبه ومفاخره، فهو في حكم الخالد وإن أصبح فانياً، والمقيم في أهله وإن أضحى بالعراء ناوياً، عزيت الشريفين أدام الله تعالى عزهما، عما ألم بساحتهما من الخطب، ولسان جزعي أنطق، وعرضت لهما بواجب السلو، وحاجتي إلى من يصرح لي به أصدق، ولكني جريت على سنة للدين محمودة، وعادة بين الأحباب معهودة، تركت أفراد كل من الأشراف سادتي إخوة الشريفين، حرس الله عليهم ما خولهم من كرم محض، وخلق غض، وأحسن متاع بعضهم ببعض، بالمخاطبة فيما اقتضاه حكم الحادثة، إذ كانت فروعهم بإذن الله متشابكة، ونفوسهم في السراء والضراء متشاركة، وقلوبهم على الصفاء متعاقدة، ومهجاتهم - لازالت مصونة - مهجة واحدة.
ملح من نظمه
قال:
ترفق أيها المولى بعبد ... فقد فتنت لواحظك النفوسا
وأسكرت العقول فليس ندري ... أسحراً ما تسقي أم كؤوساً
وقال وهو مما يتغنى به:
ألا يا ليت شعري ما مرادك ... فقلبي قد أضر به بعادك
وأي محاسن لك قد سباني ... جمالك أم كمالك أم ودادك
وأي ثلاثة أوفى سواداً ... أخالك أم عذارك أو فؤادك
وقال:
لا تركنن إلى الفرا ... ق فإنه مرُّ المذاق
الشمس عند غروبها ... تصفر من فرق الفراق
وكتب إلى الصاحب:
أكافي كفاة الأرض ملكك خالد ... وعزك موصول فأعظم بها نعمى
نثرت على القرطاس دراً مبدداً ... وآخر نظماً قد فرعت به النجما
جواهر لو كانت جواهر نظمت ... ولكنها الأعراض لا تقبل النظما
وقال في وصف الدجاج وهو المسمى بالفارسية سنكين سر:
وطيرين قد ألفا مرقدي ... نديمين لي فيه حتى الصباح
أرى من وشائع متنهيما ... نجوماً مرصعة في وشاح (1/419)
وسري عندهما لا يذيع ... ولا خوف واش ولا خوف لاح
يسرانني بصفيريهما ... خفيفين عند انتشار الجناح
صفير يعيد شريد الرقاد ... وشجو يحث على شرب راح
سقى بلد الهند مغناهما ... سماء من المزن غمر السماح
ولا زال وكراهما عامرين ... بنسل مباح وخير متاح
ومما قرأته بخطه في الأوصاف والتشبيهات من شعره، وكان أنفذه إلى أبي سعيد نصر بن يعقوب، ليضمنه كتابه كتاب روائع التوجهات، في بدائع التشبيهات، قوله في الثريا، وهو مسبوق إليه قديماً:
خلت الثريا إذ بدت ... طالعة في الحندس
سنبلة من لؤلؤ ... أو باقة من نرجس
وقوله فيها:
إذا الثريا اعترضت ... عند طلوع الفجر
حسبتها لامعة ... سنبلة من درِّ
وقوله في قصر الليل:
وليلة أقصر من ... فكري في مقدارها
بدت لعيني وانجلت ... عذراء من قرارها
وقوله في طول الليل:
رب ليل سهرته ... مفكراً في امتداده
كلما زدت رعيه ... زادني من سواده
فتبنيت أنه ... تائه في رقاده
أو تفانت نجومه ... فبدا في حداده
وقوله في الأترج:
أو ما ترى الأترج منضوداً لنا ... سطراً كأشخاص جثون على الركب
وكأنما أجسادها وجسادها ... صور السلاحف قد صنعن من الذهب
وقوله في النمام:
قلت لمن أحضرني زهرة ... ومجلسي بالأنس بسام
وقرة العينين نيل المنى ... عندي ولا سام ولا حام
تجنب النمام لا تجنه ... فإنما النمام نمام
أخشى علينا العين من أعين ... يبعثها بالسوء أقوام
وقوله في الشيب:
قالوا اكتهلت فقلت ليل لابس بردي نهار
هل حسن كافور كمسك في حكومة ذي اعتبار
وشهوبة في عنبر ... كشيبة في لون قار
وفضيلة للشيب أخرى وهي أبهة الوقار
أين هذا من قول البحتري:
وبياض البازي أصدق حسناً ... إن تأملت من سواد الغراب
وكتب إلى أبي مسلم محمد بن الحسن:
يا أبا مسلم سلمت على الدهر خدين العلا أمين الجليس
بعض إخواننا تشهى علينا ... كرماً منه مستطاب الهريس
وقديد السكباج بالأكبر العذ ... ب ومغمومة مني للجليس
واتخذنا الجميع وهي كما تذ ... كر نعم الفراش للخندريس
وإذا شئت أن تساعدها فيها ... كنت فينا الرئيس وابن الرئيس
الباب الخامس
في محاسن أشعار أهل العصر من إصبهان
لم تزل إصبهان مخصومة من بين البلدان بإخراج فضلاء الأدباء، وفحولة الكتاب والشعراء، فلما أخرجت الصاحب أبا القاسم وكثيراً من أصحابه وصنائعه. وصارت مركز عزه، ومجمع ندمائه، ومطرح زواره، استحقت أن تدعى مثابة الفضل، وموسم الأدب، وإذا تصفحت كتاب إصبهان لأبي عبد الله حمزة بن الحسين الإصبهاني وانتهيت إلى ما أورد فيه من ذكر شعرائها وشعراء الكرخ المقطعة عنها، وسياقة عيون أشعارهم، وملح أخبارهم، كمنصور بن باذان، وأبي دلف العجلي، وأخيه معقل بن عيسى، وبكر بن عبد العزيز، وأحمد بن علويه، والنضر بن مالك، وعلي بن المهلب، وأبي نجدة، وأحمد ابن القاسم الديمرتي، وأبي عبد الله تاج الكاتب، وسهلان بن كوفي، وصالح ابن أبي صالح، وأحمد بن واضح، ومحمد بن عبد الله بن كثير، وعبد الرحمن ابن مندويه، وأبي بكر بن بشرويه، وابن زرويه، وأبي الهدهد، وأبي قتيبة، ومحمد بن غالب، والحسن بن إسحاق بن محارب، وأبي بكر الزبيري، وأبي علي بن رستم، وأبي مسلم بن بحر، وأبي الحسين بن طباطبا، وابن كره، والنوشجان بن عبد المسيح، وعلي بن حمزة بن عمارة، وإبراهيم بن سيارة الكادوسي، وأبي جعفر بن أبي الأسود، وأبي سعد بن نوفة، وأبي العباس بن أحمد بن معمر، وأبي عمرو همام، وأبي سوادة، وأبي القاسم بن أبي سعد، وغيرهم، ثم تأملت هذا الباب من كتابي هذا، وقرأت ما ينطق به من ذكر شعرائها العصريين وغرر كلامهم، كعبدان الإصبهاني المعروف بالخوزي، وأبي سعيد الرستمي، وأبي القاسم بن أبي العلاء، وأبي محمد الخازن، وأبي العلاء الأسدي، وأبي الحسن الغويري - حكمت لها بوفور الحظ من أعيان الفضل، وأفراد الدهر، وساعدتني على ما أقدره من حسن آثار طيب هوائها، وصحة ترتبها، وعذوبة مائها، في طباع أهلها، وعقول أنشائها، وأرجع إلى المتن فقد طال الإسناد، ولا يكاد الكلام ينتهي حتى ينتهي عنه. (1/420)
عبدان الإصبهاني المعروف بالخوزي
هو على سياقة المولدين، وفي مقدمة العصريين، خفيف روح الشعر، ظريف الجملة والتفصيل، كثير الملح والظرف، يقول في الخضاب ما لم أسمع أحسن منه، ولا أظرف، ولا أعذب منه، ولا أخف:
في مشيبي شماتة لعداتي ... وهو ناع منغص لحياتي
ويعيب الخضاب قوم وفيه ... لي أنس إلى حضور وفاتي
لا ومن يعلم السرائر مني ... ما به رمت خلة الغانيات
إنما رمت أن أغيب عني ... ما ترينيه كل يوم مراتي
فهو ناع إليَّ نفسي ومن ذا ... سره أن يرى وجوه النعاة
وكان خفيف الحال، متخلف المعيشة، قاعداً تحت قول أبي الشيص:
لا تنكري صدي ولا إعراضي ... ليس المقل عن الزمان براضي
وهو القائل:
قلت للدهر من فضولي قولاً ... وحداني عليه طيب الأماني
أتراني بخلعة أنا أحيا ... ذات يوم وفاخر الحملان
قال هيهات أنت والنحس تربا ... ن وقد كنتما رضيعي لبان
لا تؤمل ركوب متنٍ سوى النعش ولا خلعة سوى الأكفان
وله أبيات:
تكلفني التصبر والتسلي ... وهل يسطاع إلا المستطاع
وقالوا قسمة نزلت بعدل ... فقلنا ليته جور مشاع
وقال أيضاً:
تعيب الغانيات عليَّ شيبي ... وتخفي شبيها عني المقانع
وقال لي العذول تعز عنها ... وإلا فانظرن ما أنت صانع
فقلت له متى قدمت خيراً ... وأيراً بعده ليست تمانع
وله من كلمة:
هيهات نجمي آفل شارد ... ولَّى فما يخرق أبراجه
أظل أخفي حججاً أدبرت ... والسبع والسبعون محتاجه
وشر أيام الفتى آخر ... فيه يسمى للشقاء خواجه
وله:
أللشيب تخشى من ملال خرائد ... وهن لعلات الفؤاد مراهم
إذا كنت ذا مال فأنت محبب ... إليهن، صيد الغانيات الدراهم
وله في كلمة وصف هنه:
ولي صاحب ما حال عن حسن عهده ... ولم تر عيني منه أوفى وأكرما
يساعدني دون الأخلاء في الدجا ... إذا نام من قد كان شوقاً تنجما
فأهدا ولا يهدي وإن نمت لم ينم ... ويغري بذكراكم إذا الليل أظلما
ينادي على لحفي وصبحي نوم ... وإن هو لم يفضض بنطق له فما (1/421)
أشبهه والقطر باد ولم يبن ... بمنقار فرخ قد تلقط قرطما
وله:
تركنا لخوف الخيل والترك دورنا ... فلله صرف الدهر كيف ترددا
دهاليزنا ضاقت لخوف نزولهم ... كأنا يهود ندخل الباب سجدا
وأنشدني أبو بكر الخوارزمي لعبدان:
إن كنت تنشط للغبوق فليلنا ... خلف النهار بغرة غراء
وإذا صفا لك مثلنا في دهرنا ... فاذكر عواقب ليلة كدراء
وكان أبو العلاء الأسدي عرضة لأهاجي عبدان، فمن ملح قوله فيه:
أبا العلاء اسكت ولا تؤذنا ... بشين هذا النسب البارد
وتدّعي في أسد نسبة ... لا تثبت الدعوى بلا شاهد
أقم لنا والدة أولاً ... وأنت في حلٍّ من الوالد
وقوله:
قابل هديت أبا العلاء نصيحتي ... بقبولها وبواجب الشكر
لا تهجون أسنَّ منك فربما ... تهجو أباك وأنت لا تدري
وقوله:
أبو العلاء زاعم ... بأنه من العرب
ويدعي في أسد ... أبوة بلا سبب
أقسم أني مفتر ... عليه في هذا النسب
فآثم لكنني ... ألصقه خوف الغضب
وقوله:
أضحى الملوم أبو العلاء يسبني ... وأنا أبوه يعقني ويعادي
والمنتمون إليه من أولاده ... والله يعلم أنهم أولادي
ولو أنه يسخو عليَّ بواحد ... عند التكاثر زينة للنادي
ألصقته بي واقتديت بمن رأى ... بأبيه إلصاق الدعي زياد
وقوله:
حمق بهذا الأسدي الذي ... قد كان مني آمن السرب
وإنما جربت هجوي به ... تجربة السيف على الكلب
وقوله في غيره:
رغيفك في الأمن ياسيدي ... يحل محل حمام الحرم
فلله درك من سيد ... حرام الرغيف حلال الحرم
وقال من أبيات:
يعلو ويعلى وكل من سجيته ... يعلو الكنيف ويعلة بالغراميل
وقال في رجل ارتفع قدره وكان أبوه حلاجاً:
أقول وقد قالوا ابن مأسدة غدا ... على مركب لا من حمير أبيه
ولا الصوت محلاج ولا السرج لوحه ... ولا حب قطن كالشعير بفيه
مقال الوليد البحتري فإنه ... قد أنبأنا عن مثله وذويه
متى أرت الدنيا نباهة خامل ... فلا ترتقب إلا خمول نبيه
وقال في قينة:
لنا قينة تحمي من الشرب شربنا ... فقد أمنوا سكراً وخوف خمار
تكشر عن أنيابها في غنائها ... فتحكي حماراً شمَّ بول حمار
وقال في شاعر:
ما قال بيتاً مرة ... ولا يقول ما بقي
وكل شعر قاله ... فإثمه في عنقي
وقال في علوي:
كم غاصب حقكم ليهزلكم ... وقد تفقا من شدة السمن
واحرباً إن قضيت لم أر ما ... آمله فيكم وواحزني
وقال:
أقسمت حقاً بما أوتيت من كرم ... فإنه بعد ربي غاية القسم
أن لو وليت أمور الناس مقتدراً ... ما خاف راعٍ على شاء ولا نعم
وظلت العصم للآساد آلفة ... واستأنست طلس الذؤبان بالغنم
مواهب خصك الله العزيز بها ... وليس يرضى لك الحساد بالقسم
هذا الثناء وهذاك الدعاء وما ... لي غير ذين وما ديني بمتهم
وقال:
سقيت وفي كف الحبيبة وردة ... وأترجة تغري النفوس بصونها
مداماً فلما قابلتني بوجهها ... شربت فحيتني بلوني ولونها
أبو سعيد الرستمي
محمد بن محمد بن الحسن بن محمد بن الحسن بن علي بن رستم
من أبناء إصبهان وأهل بيوتها، ومن يقول الشعر في الرتبة العليا، ومن شعراء العصر في الطبقة الكبرى، وهو القائل:
إذا نسبوني كنت من آل رستم ... ولكن شعري من لؤي بن غالب
ومن نظر في شعره المستوفي أقسام الحسن والبراعة، المستكمل فصاحة البداوة وحلاوة الحضارة، أقبلت عليه الملح تتزاحم، والفقر تتراكم، والدرر تنتاثر، والغرر تتكاثر: (1/422)
كلم هي الأمثال بين الناس إلا ... أنها أضحت بلا أمثال
وكان الصاحب يقول مرة: هو أشعر أهل عصره، وتارة: هو أشعر أهل عصره، ويقدمه على أكثر ندمائه وصنائعه، وينظمه في عقد المختصين به، وفيه يقول مداعباً:
أبو سعيد فتى ظريف ... يبذل في الظرف فوق وسعه
ينيك بالشعر كل ظبي ... فأيره في عيال طبعه
وكان يسد ثلمة حاله، ويدره حلوبة ماله، ويسوغه خراج ضياعه، ولا يخليه من مواد إنعامه وإفضاله، وبلغني أن أبا سعيد لما أسفر له صبح المشيب وعلته أبهة الكبر، أقل من قول الشعر: إما لترفع نفسه، وإما لتراجع طبعه.
فقرأت فصلاً للصاحب أظنه إلى أبي العباس الضبي في ذكره، واستزادة شعره، وهذه نسخته: كان يعد في جمع أصدقائنا بإصبهان رجل ليس بشديد الاعتدال في خلقه، ولا ببارع الجمال في وجهه، بل كان يروع بمحاسن شعره، وسلامة وده، أما الشعر فقد غاض حتى غاظ، وأما الود ففاض أو فاظ، فإن تذكره مولاي بوصفه وإلا فليسأل عن خاله وعمه، أما العمومة ففي آل رستم، وثم الذروة والغارب، ولواء العجم وغالب، وأما الخؤولة ففي آل جنيد، كما قال شاعرهم في سعد وسعيد، وقد سألت عن خبره وفد نجران، والركب بحبلى نعمان، فلم يذكروا إلا أنه مشغول بخطبة سبطه أبي القاسم بن بحر رحمه الله تعالى لفتاه أعزه الله، وليس في ذلك ما يوجب أن يطوينا طي الرداء، ويلقى عهدنا إلقاء الحذاء، وقد يعود الصلاح فساداً، ويرجع النفاق كساداً:
فلعل تيماً أن تلاقي خطة ... فتروم نصراً من بني العوام
وهذا ما أخرجته
من محاسن شعره وما محاسن شيء كله حسن!! من قصيدة له فريدة في مؤيد الدولة:
بدت يوم حزوى من كواها المحاجر ... فعاد عذولي في الهوى وهو عاذر
فكيف وقد أبدين ما في قناعها ... وأبرزن ما التفت عليه المعاجر
مررن بحزوى والجآذر ترتعي ... فلم تدر حزوى أيهن الجآذر
ومالت على الأنقاء فاشتبهت بها ... أهن النقا أم ما تضم المآزر
وأرست على الأعجاز سود فروعها ... فأرزت بحيات الغدير الغدائر
بدور زهتهن الملاحة أن يرى ... لهن نقاب فالوجوه سوافر
سرقه من قول القائل:
ولما تنازعنا الحديث وأسفرت ... وجوه زهاها الحسن أن تتقنعا
رجع:
وودعني من نرجس بجفونها ... على ورد خد لؤلؤ متناثر
وسائلة عبري متى أنت آيب ... إلينا وهل يقضي الإياب المسافر
حططت لها رحلي وسيبت ناقتي ... وأمنتها والعيس مما تحاذر
نصيبي من الدنيا رضى أم معمر ... وسائر ما تحويه في الريح سائر
وقلت اربطي جأشاً عليك فإنه ... سيغنيك عن سيري القوافي السوائر
سيكفيك سيري في الدجى إن كرهته ... صباح كضوء البدر والنجم باهر
أمير كأن الغيث من نفحاته ... يصوب ومن أخلاقه الروض زاهر
إذا ما علا صدر السرير جرى لنا ... به فلك بالخير والشر دائر
يد لأمير المؤمنين طويلة ... وناب إذا ما نابه الخطب كاشر
ينافي الكرى من حزمه وهو دارع ... ويغشى الوغى من بأسه وهو حاسر
إلى أي أرض أرحل العيس صادياً ... وبحرك مورود وروضك ناضر
ومنها:
فأقسمت ما في الأرض غيرك ماجد ... يزار ولا في الأرض غيري شاعر
بقيت مدى الدنيا وملكك راسخ ... وظلك ممدود وبابك عامر
يرد سناك البدر والبدر زاهر ... ويقفو نداك البحر والبحر زاخر
وهنئت أعياداً توالت سعودها ... كما يتوالى في العقود جواهر
وله من أخرى فيه أيضاً:
مررنا بأكناف العقيق فأعشبت ... أباطح من أجفاننا ومسايل
وكادت تناجينا الديار صبابة ... وتبكي كما نبكي عليها المنازل
فمن واقف في جفنه الدمع واقف ... ومن سائل في خده الدمع سائل (1/423)
تأس بيأس أو تعز بسلوة ... فمالك في أطلال عزة طائل
ألم تر أيام الربيع تبسمت ... أجارع من أنوارها وخمائل
كأن غصون النرجس الغض بينها ... نشاوى كرىً أعناقهن موائل
كأن شقيق الأبرين كواعب ... عليهن من صبغ الجساد غلائل
وقد حملت سوسانها في حجورها ... رواضع إلا أنهن حوامل
وضمر خيل الضيمران كأنها ... مرازب فوق الهام منها أكالل
ونور قضبان الخلاف فأبرزت ... أصابع لم تخلق لهن أنامل
تخال أزاهير الرياض خلالها ... مصابيح ليل ما لهن فتائل
وقد شربت ماء الغمامة فانثنت ... كما يتثنى الشارب المتمايل
فمن أقحوان ثغره مبتسم ... وورد على أكنافه الطل جائل
وقد ماج وادي الزندروز بفيضه ... كما ماج للريح النقا المتهايل
كأن نعاج الرمل في جنباته ... يناطح بعض بعضها ويقاتل
كأن هدير الموج فوق متونه ... هدير قروم هاجهن الشوائل
سرى بين أحشاء السرى فتشابهت ... أحياته تسري بها أم جداول
إذا ماج فوق الأرض أوهاج خلته ... خيولك في الهيجا وهن صواهل
أيا ملكاً فاق الملوك وبذهم ... فراح سناناً والملوك عوامل
إذا نحن أثنينا عليه تبادرت ... فأثنت كما نثني القنا والقنابل
ينير الدجى من وجهه وهو حالك ... ويندى الثرى من كفه وهو ماحل
وذو لحظات كلهن فواضل ... وذو حركات كلهن فضائل
دهاء لديه رأي أكثم فائل ... وجود لديه حاتم الجود باخل
وحلم لديه ركن يذبل ذابل ... وعزم لديه فارس الخطب راجل
ومنها في مسألة إخراج ضيعة له من الإقطاع:
ضياعي نهبي قد تفرق شملها ... فما في يدي منهن إلا الأنامل
فكم ضيعة مالت لأبواب مالها ... قناتي وغيري منه نشوان مائل
فحظي من الحظين هم وحسرة ... وحاصلها أني على الهم حاصل
ألا ليت شعري هل أرى لي جماعة ... تمد بها فوق الشطور الحواصل
تقاربها الأنموذجات كأنها ... إذا هي صروها الثدي الحوافل
وهل أرني يوماً وكيلي حاضري ... أناقشه طوراً وطوراً أساهل
ويخرج باسمي في الأدراج كاتب ... حساباً ويستأدي خراجي عامل
على عدل مولانا الأمير توكلي ... فإحسانه في الشرق والغرب شامل
ومن أخرى فيه أيضاً، أولها:
عذيري لدى الواشين حسن عذاره ... وعذري لدى اللاحين حسن اعتذاره
بنفسي خبيب زار بعد ازوراره ... وعاودني بالأنس بعد نفاره
وأشنب معشوق الدلال منعم ... معقرب صدغ كالهلال مداره
إذا ما استعار الجلنار بخده ... أعار الحشى من خده جل ناره
سل البيض عن عاداته في عداته ... وسمر القنا عن نهبه ومغاره
وقائع نال النسر غاية سؤله ... بهن ونال النصر غاية ثاره
ومن قصيدة في الصاحب، أولها:
عقّني بالعقيق ذاك الحبيب ... فالحشى حشوه الجوى والنحيب
وإذا جفت الشؤون وخفت ... ندبتها من الضلوع الندوب
لست أدري أأدمعي أم جمان العقد ينسل أم عقيق يذوب
حبذا حبذا ونعم وسعدي ... ونصيبي من وصلهن نصيب
إذ زماني غرُّ وغصني رطيب ... وشبابي غض وبردي قشيب
إذ بوادي العقيق عيشي أنيق ... وبوادي الجنوب ريحي جنوب
كما شجاني ببطن رامة ريم ... وبظبي الكثيب ظبي ربيب
أيها الرمل كم مضى فيك عيش ... لي مهاة ومرتع لي خصيب
وأليفاي فيك ريا وأروي ... وحليفاي فيك زق وكوب (1/424)
وبقلب الحسود منا ندوب ... وبطرف العذول عنا نكوب
وعفا الله عن ذنوب تقضت ... لي بها حين تستتاب الذنوب
حيث لا لوم أن يزور محب ... هاجه الشوق، أو يزار حبيب
حيث لا ينكر الغرام ولا يخشى ملام، ولا يخاف رقيب
ما يذم الشباب عندي بشيء ... غير أن المشيب منه قريب
غلب الصاحب الجواد بني الجو ... دكما يغلب الشباب المشيب
بذهم في الندى وغطى علاهم ... بعلاه فالمكرمات ذنوب
وإذا ما سعى لإحداث مجد ... فمساعيهم عليهم ذنوب
واجد بالعلا وبالمجد وجداً ... لم يجده بيوسف يعقوب
وإذا ما أتاه طالب جدوى ... راحتيه فالطالب المطلوب
قل لباغي الندى خف الله لا تسأله عمراً فإنه موهوب
من قول أبي تمام:
ولو لم يكن في كفه غير روحه ... لجاد بها فليتق الله سائله
رجع:
إنما حاتم وأوس وكعب ... مثل في الندى له مضروب
يا حساماً مهنداً وغماماً ... ديمتاه الترغيب والترهيب
فيك ما يكمد الحسود وما فيك سوى الجود والندى ما يعيب
راحة ثرة، ووجه طليق ... ولسان عضب، وصدر رحيب
وبيان غض تلدد فيه ... حين خاطبته الألد الخطيب
وإذا ما وخدت في طلب الم ... جد فذو المجد وخده تقريب
عزمات يرض منهن رضوي ... ويكاد الوليد منها يشيب
فلشمس النهار منها وجوب ... ولقلب الزمان منها وجيب
ومنها:
وإذا ما دعوت شعري فيه ... طرب المدح واستهل النسيب
مدح كالنسب رقة ألفا ... ظ وما للنسيب منه نصيب
محكمات محكمات إذا أنشد ... ن نال المنى بهن الأديب
رفعت من أعنة الرفع حتى ... ذل منها المخفوض والمنصوب
ومنها:
أنا من قد عرفت سراً وجهراً ... أعجمي نما به التعريب
ليت شعري إذا دعيت، شعاري ... نسبي واضح وعودي صليب
لست من أمدح الملوك ولا أنض ... ي المطايا ولا الفلاة أجوب
أنا للصاحب الجليل أبي القا ... سم مولىً وخادم وربيب
ومن أخرى أيضاً:
غيضهن عبرتهن يوم الوادي ... فأرحن عازب أنس ذاك النادي
فجنين بالأسماع نور حديثنا ... وكرعن في الشكوى كروع الصادي
ووصفن سقم قلوبنا بعيونها ... فشفين منا غلة الأكباد
لا غرو أن يجنين من ثمر الهوى ... لي في مراقدهن شوك قتاد
فلطالما أسهرنني جنح الدجا ... وأطلن ليلي وانتبهن رقادي
لا والذي جعل الجفون عليلة ... وأعار حب البيض حب فؤادي
إني لأرحم من أسرن فؤاده ... سراً فما لفؤاده من فادي
وأذم أيام الفراق فإنها ... علل وإن خفيت على العواد
قل للزمان إذا تنمر ساخطاً ... وعدا علي بوجه ليث عادي
أبرق وأرعد ليس يرتعد الحشى ... لي منك بالإبراق والإرعاد
الصاحب العالي الصنائع صاحبي ... في النائبات وعدتي وعتادي
ورث الوزارة كابراً عن كابر ... موصولة الإسناد بالإسناد
يروي عن العباس عباد وزا ... رته وإسماعيل عن عباد
شرف كعقد الدر واصل بعضه ... بعضاً كأنبوب القنا المنآد
وعلاً كأيام السنين ترادفت ... آياتها بمكرر ومعاد
لا كالذين إذا سموا لكريمة ... ضحكت جدودهم من الأجداد
أعلى المكارم ما تقادم عهده ... والمجد موروث عن الأمجاد
لا والذي جعل المكارم كلها ... لك والعلا في مبدأ ومعاد
ورآك أهلاً للرشاد وللهدى ... وكساك آيات الإمام الهادي
لو كان غير الله يعبد ما انثنت ... إلا إليك أعنة العباد (1/425)
هذا معنى قد أكثر الناس فيه، وأظن السابق إليه ابن أبي البغل، حيث قال في الرشيد من السريع:
لو عبد الناس سوى ربهم ... أصبحت دون الله معبودا
رجع:
هذا الربيع وأنت أكرم مجتنى ... منه وأعجبه إلى المرتاد
زارتك في حلل الرياض وفوده ... وكأنهن يمسن في الأبراد
ورأت صنائعك التي أزرت بها ... فغدت تذم إليك صوب الغادي
وحكاك وادي الزندروز فأقبلت ... أمواجه يقذفن بالأزباد
مثل الرمال تناطحت أوعالها ... فأعانهن العين بالإمداد
يرمي السواحل مده فكأنه ... ملك يهز الأفق بالإيعاد
يهدي المدينة واديان تجاورا ... وكأنما وردا على ميعاد
مدان هذا ليس ينفد فيضه ... أبداً وهذا فيضه لنفاد
روض يرف، ومزنة تهمي عزا ... ليها، وطير في الغصون ينادي
فكأن ذا يثني، وذا يدعو، وذا ... يبدي الرضا ويبوح بالإحماد
فاسعد بديناً قد نظمت أمورها ... وسددتها بالرفق أي سداد
ورعية أصلحتها بتألف ... وتعطف من بعد طول فساد
داويت من سقم النفاق قلوبها ... وشفيت مرضاها من الأحقاد
فنصبت للإسلام أكرم راية ... وقسمت أهل الجبر والإلحاد
وأفضت عدلك في البلاد وأهلها ... وضربت دون الظلم بالأسداد
ومنها في الإذكار والاستعانة والاستزادة وشكوى الخراج، ومسألة التسويغ، وما منها إلا ما لا غبار عليه، ولا شوب فيه، ولا مزيد على حسنه:
ياخير من يُدعى لخطب فادح ... ويحل عقد الحادث المنآد
عمَّت فواضلك البرية واغتدت ... طوع العنان لحاضر أو بادي
ووسائلي ما قد علمت ولاية ... مذ كنت أعهدها وصفو وداد
ومنقّبات في البلاد غريبة ... وصلت سرى الإتهام بالإنجاد
تروى ولم يسمع لهن بقائل ... تعزى إليه سوى حداء الحادي
من كل رائقة المحاسن حلوة ... ريا الرواية غضة الإنشاد
لم يكسها الإكفاء في أكفائها ... عيباً ولا أزرى بها لسناد
هذا وحرمة خدمة مرعية ... للأبعدين قديمة الميلاد
ما زلت من أبرادها متوحشاً ... بمفوف يزهى على الأبراد
يا حلية الوزراء حلّ قصائدي ... بمحاسن الإرفاد والإصفاد
مالي ظمئت وبحر جودك زاخر ... سهل مشارعه على الوراد
وريت زناد السائلين بسيله ... وبفيضه وخصصت بالإصلاد
ما كان أجمل في التجمل ملبسي ... وأعف في ظل القناعة زادي
لولا زمان أزمنت حالي له ... نوب تراوح تارة وتغادي
وأذى فراخ ضاق بي أوكارها ... وكذا البغاث كثيرة الأولاد
وأذى خراج لو سرى لأدائه ... غرر الليالي عدن وهي دآدي
أبدت نجوم الليل سود نجومه ... في مفرقي فأنار بعد سواد
حصة حصت مني جوانب هامتي ... صفعاً أوافقه من المستادي
ووفود سوء يألفون زيارتي ... من صادر أو رائح أو غادي
ورجالة مترادفون كأنما ... غصت مدارجهم برجل جراد
من كل منتفش الشوارب مسمع ... عبد لآل ربيعة أو عاد
صهب اللحى سود الوجوه كأنما ... خضبوا الرؤوس بيانع الفرصاد
ما غاب عني واحد إلا ويقفو إثره ثان وآخر بادي
هذا يواجه شاربي متهدداً ... ويقوم هذا من وراء العادي
ففرائضي من خوفهم مملوءة ... أبداً من الإخفاق والإرعاد
وإذا أصادر غدوة لم يرتفع ... عند المساء سواي في الأوراد
ما في يد النقاد من ضربي سوى ... ضربي ودق الجيد دون جياد
يا حلية الوزراء حقي واجب ... ونداك صوبا أنعم وأيادي (1/426)
وقع بتسويغي خراجي كله ... أو لا فعاودني على الإيراد
وامنن عليّ بفضل جودك واكفني ... دار الخراج وجهمة الحداد
وله من أخرى:
قولوا لو سنان نام عن أرقي ... فيه وحاشا جفونه الأرق
ارث لمن قد رثى لمقلته ال ... دمع ورقت لقلبه الحرق
لم يبق من جسمه سوى رمق ... ينتظر الموت ذلك الرمق
يا بأبي منه طرة سبج ... إذا تبدت وغرة يقق
ولؤلؤ من لسانه برد ... ولؤلؤ في لباته نسق
وجه به الجلنار مبتسم ... يفتر والأقحوان متسق
شعلة نار ملاحة وسناً ... يكاد منه الجليس يأتلق
غنّى فجلّى الظلام غرته ... عنا وغصت بشدوه الأفق
فودَّت العين أنها أذن ... تسمع والأذن أنها حدق
زاد على من قال:
غنت فلم يبق في جارحة ... إلا تمنت بأنها أذن
رجع:
والله لو كانت الأزاهر وال ... أوتار ناساً وأبصروا عشقوا
شانئ أيامه يذوب شجىً ... من كمد والحسود يزدهق
كذلك النار حين أعوزها ... ما أحرقته تبيت تحترق
سرقه من قول ابن المعتز حيث قال:
كالنار تأكل نفسها ... إن لم تجد ما تأكله
رجع:
وإن ذكرنا اسمه لطيبته ... يبقى بأفواهنا له عبق
والناس لولا سناه ما رمقوا ... والناس لولا نداه ما رزقوا
إسعد بشهر وافتك مقبلة ... أعياده بالسعود تستبق
ثلاثة قد قرن في قرن ... خوة روز والنضح والسذق
مقدمات من الربيع غدت ... وفودها من صبابة سبقوا
أما ترى المزن حلَّ حبوته ... في الروض فالروض زاهر أنق
فنوره من سناك مقتبس ... ونوءه من نداك مسترق
فاعمر لدنيا لولاك ما خلقت ... وأهل دنياً لولاك ما خلقوا
وعد جديداً على الزمان كما ... عاد جديداً في عوده الورق
ما صحبتك الأيام دمت لها ... فليس في صفو عيشنا رنق
وله قصيدة في نهاية الحسن وكثرة الملح والنكت، أولها:
عزيز علينا أن تشط منازله ... سقته الغوادي من عزيز تزايله
ولا زال حاديه دميثاً فجاجه ... وقمراً لياليه وصفواً مناهله
يحل عزالي الغيث حيث يحله ... ويغشى كما يغشى الربيع منازله
ومهجورة خافت عليها يد النوى ... فلم تبق في حافاتها ما أسائله
سوى كحل عين ما اكتحلت بنظرة ... إلى جفنه إلا شجتني مكاحله
وقفت فأما دمع عيني فسائل ... عليه، وأما وجد قلبي فسائله
أقلب قلباً ما يخف غرامه ... عليه، وطرفاً ما تجف هوامله
لعلي أرى من أهل ريا وإن نأت ... بأرجائه شبهاً لريا أواصله
فأصبحت قد ودعت ريا ووصلها ... كما ودعت شمس النهار أصائله
بكرهي زال الحي من بطن عازب ... وغودر مني عازب اللب زائله
وقلب إذا ما قلت خفَّ غرامه ... وأبصر غاويه وأقصر عاذله
دعاه الهوى فاهتز يهوي كما دعا ... صبا الريح غصن البان فاهتز مائله
وهاجرة من نار قلبي شببتها ... وقد جاش من حر الفراق مراجله
صليت بها والآل يجري كما جرى ... من الدمع في جفني للبين جائله
ومنها:
وبعض مذاق العرف مرٌّ وإن حلا ... إذا لم يكن أحلى من العرف باذله
وما الجود إلا ما تطوع أهله ... ولا السمح إلا ما تبرع نائله
وأروع أنواء الربيع صنائع ... لديه، وأنوار الربيع فضائله
أهان مصونات الذخائر كفه ... وهان عليه ما يقول عواذله (1/427)
وفاح كما فاح الرياض فعاله ... ولاح كما لاح البروق شمائله
يسيل على العافين عفو نواله ... فيلقى ابتذال الوجه للبذل سائله
شفيع الذي يرجوه حسن صنيعه ... وسائله عند الرجاء وسائله
ولم يجتمع كفاه والمال ساعة ... كأني وريا ماله وأنامله
هذا البيت من إحسانه المشهور السائر، ومنها:
أيصبح مثلي في جنابك صادياً ... وأنت الحيا تحيا وتروي هواطله
ولولا فراخ زعزع الدهر وكرها ... عليَّ وقد غال الجناح غوائله
أعرت ظلال الحر نفس ابن حرة ... تقاصره الأيام حين تطاوله
فخذني من أنياب دهري بعاجل ... من النصر دان، أكرم النصر عاجله
بقيت مدى الدنيا لمجد تشيده ... وقرم تساميه وخصم تجادله
وهاتيك أمثال النجوم جلوتها ... عليك كما تجلو الحسام صياقله
قريض كساه المزن أثواب روضة ... فرقت أعاليه ورقت أسافله
تطيب على الأيام ريا نشيده ... وأطيب من رياه ما أنت فاعله
وله من أخرى:
وحسناء لم تأخذ من الشمس شيمة ... سوى قرب مسراها وبعد منالها
وإني لأهوى الشيب من أجل لونه ... وإن نفرت عني الدمى من فعالها
وأروع يستحي الحيا من يمينه ... فيرتد فوق الأفق حيران والها
أقام قنا الأيام بعد اعوجاجها ... وحاط ذرى الإسلام بعد ابتذالها
عزائم لو ألقى على الأرض ثقلها ... شكت منه ما لم تشكه من جبالها
وجود بنان سبح الغيث عندها ... وهلل صوب البحر عند انهلالها
يد كل ما تحوي يد من نوالها ... وبيض أياديها وغزر سجالها
تأمل فما لاحظته من هباتها ... لدينا وما لاحظته من عيالها
من النفر العالمين في السلم والوغى ... وأهل العوالي والمعالي وآلها
إذا نزلوا اخضر الثرى من نزولها ... وإن نازلوا احمر الثرى من نزالها
ببيض كأن الملح فوق متونها ... ودهم كأن الزنج تحت جلالها
انظر إلى حسن هذا التصرف وشرف هذا الكلام:
مساميح كل الغيث بعض نوالها ... وكل المعالي خلة من خلالها
سمت فوق آفاق السماء فأصبحت ... ثراها الثريا والسهى من نعالها
إليك ابن عباد بن عباس إنثنت ... أعنة شكر الدهر بعد انفتالها
بك افتر ثغر الملك واهتز عطفه ... وجرت بك الدنيا ذيول اختيالها
تشكى الثرى إظلامها ومحولها ... فأغنيتها عن مزنها وهلالها
وله من قصيدة كأنه جمع محاسنه ولطائفه فيها، أولها:
سلام على رمل الحمى عدد الرمل ... وقل له التسليم من عاشق مثلي
وقفت وقوف الغيث بين طلوله ... بمنسكب سح ومنسجم وبل
وما رمت حتى خالني الريم رمة ... وأذرف آجال الحمى الدمع من أجلي
خليلي قد عذبتماني ملامة ... كأن لم يقف في دمنة أحد قبلي
ومما شجاني والعواذل وقف ... ولي أذن صمت هناك عن العذل
ظباء سرت بالأبطحين عواطلاً ... وكنت أراها في الرعاث وفي الحجل
تبدلن أسماء سوى ما عرفتها ... لهن، فلا تدعي بسعدي ولا جمل
تشابهن أحداقاً وطول سوالف ... وخص الغواني بالملاحة والدل
ومكحولة الأجفان مخضوبة الشوى ... ولم تدر ما لون الخضاب من الكحل
ذكرت بها من لست أنسى ذنوبها ... وإن بعدت والشيء يذكر بالمثل
سقى الدمع مغنى الوابلية بالحمى ... سواجم تغني جانبيه عن الوبل
ولا برحت عيني تنوب عن الحيا ... بدمع على تلك المناهل منهل (1/428)
مغاني الغواني والشبيبة والصبا ... ومأوى الموالي والعشيرة والأهل
ليالي لا روض الكثيب بلا ندى ... ولا شجرات الأبرقين بلا ظلّ
وما كان يخلو أبرق الحزن من هوى ... ولكنني أمسي بغير الهوى شغلي
فراخ نباني وكرهن وهاجني ... كما هاج ليث الغاب وعوعة الشبل
وكم قد رحلت العيس في طلب العلا ... فلما بكت سعدي حططت لها رحلي
نزلت على الأيام ضيفاً فلم أجد ... قرى عندها غير النزول بلا نزل
وقد سامني أهلي المقام بذلة ... ولست بأهل للذي سامني أهلي
سبيل الغنى رحب على كل سالك ... فما لي أسعى منه في مدرج النمل
أينكر نص العيس والبيد والدجا ... لمن عزمه عزمي ومن فضله فضلي
دعوني أصل إرقالها بذميلها ... وأطوي الدجا حتى أرى صبحها المجلي
حياً لم يفت منا ولياً وليه ... ولم يخل من أفضاله كف ذي فضل
ومبتده الجدوى إذا ما سألته ... فأعطاك لم يعتد ذاك من البذل
فتى حاز رق المجد من كل جانب ... إليه وخلّى كاهل الشكر ذا ثقل
بعفو بلا كدٍّ وصفو بلا قذى ... ونقد بلا وعد ووعد بلا مطل
من النفر الأعلين في حومة الوغى ... يميلون زهواً غير ميل ولا عزل
هم راضة الدنيا وساسة أهلها ... إذا افتخروا لا راضة الشاء والإبل
محلهم عالٍ على السبعة العلا ... وعالمهم موف على العالم الكلي
إذا أنت رتبت الملوك وجدتهم ... هم الاسم والباقون من حيز الفعل
مساميح عند العسر واليسر، لاتني ... مراجلهم في كل أحوالهم تغلي
ولم يغلقوا أبوابهم دون ضيفهم ... ولا شتموا خدامهم ساعة الأكل
ولا شددوا دون العفاة حجابهم ... وقالوا لباغي الخير نحن على شغل
لتهن ابن عباد قواف كأنها ... جنى لؤلؤ رطب من العقد منسل
أبى لي حسناً أن أبالي بعده ... بشعر ولو أنشدت للنمر العكلي
وقل له ما قال في هرم الندى ... زهير وأعشى قيس في هوذة الذهلي
وما كنت لولا طيب ذكرك شاعراً ... ولا منشداً بين السماطين في حفل
ولكنني أقضي به حق نعمة ... سرت مثلاً لما وسمت به عقلي
إذا لم تكن لي أنت عوناً ومعدياً ... على الزمن العادي عليَّ فقل من لي
من الناس من يعطي المزيد على الغنى ... ويحرم ما دون الغنى شاعر مثلي
كما ألحقت واو بعمرو زيادة ... وضويق بسم الله في ألف الوصل
أعر من ورائي من عبيدك لحظة ... بعين العلا واجمع على شكرها شملي
فما لي رجاء في سواك ولا يرى ... يمر قريضي عند غيرك أو يحلي
وهل بارق يشتام إلا من الحيا ... وهل عسل يشتار إلا من النحل
وقاك بنو الدنيا جميعاً صروفها ... جميعاً فإن الجفن من خدم النصل
وله من أخرى:
كفتك عن عذلي الدموع الوكف ... ونهتك عن عتبي الضلوع الرجف
لله عيش بالمدينة فاتني ... أيام لي قصر المغيرة مألف
حجي إلى الباب الجديد وكعبتي ال ... باب العتيق وبالمصلى الموقف
والله لو عرف الحجيج مكاننا ... من زندروز وجسره ما عرفوا
أو شاهدوا زمن الربيع طوافنا ... بالخندقين عيشة ما طوفوا
زار الحجيج منىً وزار ذوو الهوى ... جسر الحسين وشعبه واستشرفوا
ورأوا ظباء الخيف في جنباته ... فرموا هنالك بالجمار وخيفوا (1/429)
أرض حصاها جوهر وترابها ... مسك وماء المد فيها قرقف
مالي وللواشين لا يهنيهم ... ما نمنموه من النميم وزخرفوا
أعياهم سبب التهاجر بيننا ... فتفاءلوا لي بالفراق وأرجفوا
لا واعتلاقي بالوزير وحبله ... ما أحسنوا ما أجملوا ما أنصفوا
ما للوزير عن المعالي مصرف ... أبداً ولا لي عن هواه مصرف
يا من نعوذ من المكارم باسمه ... ونعزه وهو الأعز الأشرف
ونجل عن خطر اليمين حياته ... فبفضل نعمته علينا نحلف
وعظيم ما أوليتني من نعمة ... ما للسماح سواك رب يعرف
يا ابن الذين إذا بنوا شادوا وإن ... أسدوا يداً عادوا وإن يعدوا وفوا
إن حاربوا لم يحجموا، أو قاربوا ... لم يندموا، أو عاقبوا لم يشفوا
ومتى استجيروا أسعفوا ومتى استنيلوا أسرفوا ومتى استعيدوا أضعفوا
إن عاهدوا لم يخفروا، أو عاقدوا ... لم يغدروا، أو ملكوا لم يسعفوا
ومنها التهنئة بالخلعة:
تهنى ابن عباد بن عباس ب ... ن عبد الله نعمى بالكرامة تردف
يهنيه زائد نعمة متجدد ... أبداً وحادث نعمة يستطرف
خلع كأنوار الربيع مدبج ... وموشم ومنمنم ومفوف
بهرت عيون الناظرين وأبرزت ... حسناً يكاد البرق منه يخطف
لو نالت الشمس المنيرة حسنها ... ما كانت الشمس المنيرة تكسف
ولئن كبرت عن الملابس والحلي ... وبك الملابس والحلى تتشرف
فالبيت يكسى وهو أشرف بقعة ... في كل عام مرة ويسجف
ألم فيه بقول من قال:
تزهى بك الخلعة الميمون طائرها ... كزهو خلعة بيت الله بالبيت
رجع:
كالشمس حفت بالسعود وحوله ... خدم كأمثال الكواكب وقف
وكأن مجلسه عروس تجتلى ... والمادحون به قيان تعزف
ما تشتهي الآذان تسمعه وما ... تهوى العيون من المناظر تطرف
أو ما ترى حسن الزمان وطيبه ... والجو صاف والجنان تزخرف
عاد الربيع إليك في كانونه ... فشتاؤه للحسن صيف صيف
شمس محجبة وظل سجسج ... وغمامة سح وروض رفرف
وعلى الجبال من الثلوج أكالل ... وعلى السماء من السحائب مطرف
نبأ تباشرت القلوب لذكره ... أذكى من المسك الذكي وأعرف
فلكل عين قرة ومسرة ... ولكل نفس عزة وتغطرف
وله من قصيدة في علي بن أبي القاسم:
معان نظمت بهن الصبا ... كما نظم الغانيات العقودا
بباب الجديد لنا موقف ... لبسنا به العيش غضاً جديدا
وكم بالمحصب من ليلة ... شفعنا إلى الصبح أن لا يعودا
ويوم قصير بتلك القصو ... ر تحسبه الغيد للحسن عيدا
تراه عبيراً وحصباءه ... عقيقاً وأشجار واديه عودا
علي بن أبي القاسم أرفق بنا ... فقد عاقنا الشكر أن نستزيدا
لئن لم تملَّ ندى أن تفيد ... لقد ملَّ راجيك أن يستفيدا
وقالوا انتجعت حياً نازحاً ... وهل عاق بعد الحيا أن يجودا
سنا البدر يغشى الثرى والورى ... جميعاً وإن كان منهم بعيدا
قواف إذا ما رآها المشو ... ق هزت لها الغانيات القدودا
كسون عبيداً ثياب العبيد ... وأمسى لبيد لديها بليدا
ولو لم أكن محسناً نظمهن ... لحسن قصدي إليك القصيدا
عرفنا بعرفك كيف الطريق ... وجودك علمنا أن نجيدا
وأنشدني أبو بكر الخوارزمي من نتفه: (1/430)
ثقلاء الأرض عندي خمسة ... صالح والابن منهم أربعة
ومن نتفه:
تركت الشعر للشعراء، إني ... رأيت الشعر من سقط المتاع
وأنشدني له في أبي الحسن الغويري:
في حرِّامِّ الشعر أيري ... لست أعني أير غيري
إنما يرفع قول الشعر أمثال الغويري
أبو القاسم غانم بن أبي العلاء الإصبهاني
شاعر ملء ثوبه، محسن ملء فمه، مرغوب في ديباجة كلامه، متنافس في سحر شعره، ولم يقع إلى ديوانه بعد، وإنما حصلت من أفواه الرواة على قطرة من سيح غرره، وغيض من فيض ملحه، ولا يأس من وجدان ضالتي المنشودة من مجموع شعره، وقد مرت في الصاحبيات أبيات له قلائل إلا أنها قلائد، وهذا مكان ما أحاضر به من أخواتها الرائقة الفائقة الشائقة.
أنشدني المعروف بالقاضي الإمام الأصبهاني قال: أنشدني أبو القاسم بن أبي العلاء لنفسه:
أصبحت صباً دنفاً ... بين عناء وكمد
أعوذ من شرّ الهوى ... بقل هو الله أحد
وأنشدني أيضاً قال: أنشدني أبو القاسم لنفسه:
المستغاث من الهوى بالله ... من شادن فتن الورى تياه
ما كنت أعلم قبله حر الهوى ... والوجد ما هو والصبابة ما هي
حتى بليت أغن مدللاً ... كالريم يعصي في هواه الناهي
فمدامعي عبري وقلبي واله ... وجوانحي حرى وصبري واهي
وله:
أيها الخشف كم أود وأجفى ... وأسام الهوان صنفاً فصنفا
لو كشفت الغطاء عن سر قلبي ... لقرأت الأحزان حرفاً فحرفا
إن نفسي موقوفة بين شيئين رجائي عليهما بات وقفا
بين أن ينصف الزمان وأعطى ... أملي فيك أو أموت فأكفى
ومن قصيدة:
الطف بطرفك ما أردت وداره ... لا يفضحنك إن مررت بداره
وأنشدني له في نفسه:
رجلي وأيري وبيضي ... في إست أم القويضي
لما أراد هجائي ... وفيضه دون غيضي
ورام تدنيس عرضي ... فصار خرقة حيض
وأنشدني أبو القاسم علي بن الكرخي له فقال:
وقائلة قالت فلانة طلقت ... فقلت ونفسي أطلقت بانطلاقها
تزوج قلبي الهم يوم تزوجت ... وطلق قلبي الهم يوم طلاقها
وأنشدني الأمير أبو الفضل له من قصيدة يعاتب فيها الصاحب ويستبطئه:
فإن قيل لي صبراً للذي ... غدا بيد الأيام تقتله صبرا
وإن قيل لي عذراً فوالله ما أرى ... لمن ملك الدنيا إذا لم يجد عذرا
وأنشدني أبو النصر محمد بن عبد الجبار العتبي له من قصيدة:
ورد البشير بما أقر الأعينا ... وشفى النفوس فنلن غايات المنى
وتقاسم الناس المسرة بينهم ... قسماً فكان أجلهم حظاً أنا
أبو محمد عبد الله بن أحمد الخازن
من حسنات أصبهان وأعيان أهلها في الفضل، ونجوم أرضها وأفرادها في الشعر. ومن خراص الصاحب ومشاهير صنائعه، وذوي السابقة في مداخلته وخدمته. وكان في اقتبال شبابه وريعان عمره، يتولى خزانة كتبه وينخرط في سلك ندمائه، ويقتبس من نور آدابه، ويستضيء بشعاع سعادته فتصرف من الخدمة فيما قصر أثره فيه، عن الحد الذي يحمده الصاحب ويرتضيه كالعادة في هفوات الشبيبة وسقطات الحداثة. فلما كان ذلك يعود بتأديبه إياه وعزله، ذهب مغاضباً أو هارباً! وترامت به بلدان العراق والشام والحجاز في بضع سنين، ثم أفضت حاله في معاودة حضرة الصاحب بجرجان إلى ما يقتضيه ويحكيه في كتاب كتبه إلى أبي بكر الخوارزمي، وذكر فيه عجزه وبجره، وقد كتبته تنبيهاً على بلاغته وبراعة كلامه، واختصاراً للطريق إلى معرفة قصته، وهذه نسخته: