صدر هذا الكتاب آليا بواسطة الموسوعة الشاملة
(اضغط هنا للانتقال إلى صفحة الموسوعة الشاملة على الإنترنت)
الكتاب : يتيمة الدهر |
أي: قد أضمرت يا قلب شوقاً إلى أهلك، وكان داء لك، فاستشفيت منه بأن فارقت عضد الدولة، ومفارقته داء لك أيضاً أعظم من داء شوقك إلى أهلك، وهذا شبه قول النبي صلى الله عليه وسلم " كفى بالسلامة داء " وقول حميد بن ثور: (1/69)
وحسبك داء أن تصح وتسلما
و " أقتل ما أعلك ما شفاكا " من ألفاظ الطيرة أيضاً، ومنه:
وكم دون الثوية من حزين ... يقول له قدومي ذا بذاكا
الثوية: من الكوفة، يقول له " قدومي ذا بذاك " أي هذا القدوم بتلك الغيبة، وهذا السرور بذلك الحزن، لم يقل " إن شاء الله تعالى " ومنه:
ومن عذب الرضاب إذا انخنا ... يقبل رحل تروك والوراكا
تروك: اسم ناقة لم ير مثلها لعضد الدولة أمر له بها، والوراك: شيء يتخذه الراكب كالمخدة تحت وركه.
يحرم أن يمس الطيب بعدي ... وقد عبق العبير به وصاكا
وهذا أيضاً من تلك الألفاظ، ومنه:
وفي الأحباب مختص بوجد ... وآخر يدعي معه اشتراكا
إذا اشتبهت دموع في خدور ... تبين من بكى ممن تباكى
وهذا أيضاً من ذاك، ومه:
فزل بعد عن أيدي ركاب ... لها وقع الأسنة في حشاكا
هذه استعارة حسنة لأنه خاطب البعد وجعل له حشا، ومنه:
وأيا شئت يا طرقي فكوني ... أذاة أو نجاة أو هلاكا
جعل قافية البيت الهلاك فهلك، وذلك أنه ارتحل عن شيراز بحسن حال ووفور مال، فلما فارق أعمال فارس حسب أن السلامة تستمر به كاستمرارها في مملكة عضد الدولة، ولم يقبل ما أشير به عليه من الاحتياط باستصحاب الخفراء والمبذرقين، فجرى ما هو مشهور من خروج سرية من الأعراب عليه ومحاربتهم إياه، وتكشف الوقعة عن قتله وابنه محسد ونفر من غلمانه، وفاز الأعراب بأمواله وذلك في سنة أربع وخمسين وثلثمائة.
أنشدني أبو القاسم المظفر بن علي الطبسي الكاتب لنفسه في مرثية المتنبي:
لا رعى الله سرب هذا الزمان ... إذ دهانا في مثل ذاك اللسان
ما رأى الناس ثاني المتنبي ... أي ثان يرى لبكر الزمان؟
كان من نفسه الكبيرة في جي ... ش وفي كبرياء ذي سلطان
كان في لفظه نبياً، ولكن ... ظهرت معجزاته في المعاني
فصل وقد جمح بي القلم في إشباع هذا الباب وتذييله، وتصييره كتاباً برأسه في أخبار أبي الطيب والاختيار من أشعاره والتنبيه على محاسنه ومساويه، وقد كان بعض الأصدقاء سألني عمل ذلك، وله الآن فيه كفاية، وبه غنية، فإن أحب إفراده عن الأبواب كان كتاباً على حدة، وإن نشط لانتساخ الجميع تضاعفت الفوائد لديه، وانثالت القلائد عليه، بمشيئة الله وإرادته.
والحمد لله رب العالمين، وصلواته على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً.
الباب السادس
في ذكر النامي والناشي والزاهي
وإخراج غرر أشعارهم
أبو العباس أحمد بن محمد النامي
شاعر من فحولة شعراء العصر، وخواص شعراء سيف الدولة، وكان عنده تلو المتنبي في المنزلة والرتبة، وقد أخرجت من ديوانه ما هو شرط الكتاب من عقائل شعره وفرائد عقده، فمن ذلك قوله من قصيدة:
له من هواها ما لصب متيم ... وذمة حب عهده لم يذمم
أفارق نفسي شعبة بعد شعبة ... فريقين باتا منجداً بعد متهم
فقد كثرت في كل أرض ديارهم ... ككثرة عذالي علي ولومي
ولم أر يوماً كان أثلم للحشا ... من اليوم بين الجزع والمتثلم
ومنها:
لكم يا بني العباس سيف على العدا ... حسام متى يعرض له الداء يحسم
أخف إلى يوم الوغى من حماية ... وأثبت من شوق بقلب متيم
وقوله من أخرى:
أمير العلا، إن العوالي كواسب ... علاءك في الدنيا وفي جنة الخلد
يمر عليك الحول: سيفك في الطلا، ... وطرفك ما بين الشكيمة واللبد
ويمضي عليك الدهر: فعلك للعلا، ... وقولك للتقوى، وكفك للرفد
ومنها في وصف أشعاره:
ريايحن أذهان: سماحك غارس ... لها، فاجنها بالعرف من روضة الحمد
من المذهبات الدارميات شرد ... تدق معانيها على الملك الكندي
وقوله من أخرى:
أحقاً أن قالتي زرود ... وأن عهودها تلك العهود (1/70)
وقفت وقد فقدت الصبر حتى ... تبين موقفي أني الفقيد
وشكت في عذالي فقالوا ... لرسم الدار: أيكما العميد؟
ومثل هذا النمط من التشبيه قول السري:
إذا ما الراح والأترج لاحا ... لعينك قلت: أيهما الشراب؟
وقول بعض أهل العصر:
لي سيد فاتن يعلمني ... بحسنه كيف يعبد الصنم
لما رآني وفي يدي قلم ... لم يدر مولاي أينا القلم
ومنها:
إليك صدعن أفئدة الليالي ... وفيهن السخائم والحقود
فعيدان الأراك لها عظام ... وأسقية السنان لها جلود
ومنها:
وشعر لو عبيد الشعر أصغى ... إليه لظل لي عبداً عبيد
كأن لفكرة نشر ابن حجر ... ونودي من حفيرته لبيد
وقوله من أخرى:
إلمامه بمغاني داره لمم ... إذا لا أمامة في دار لها أمم
بأي حكم لأيام الفراق نأت ... بناعب كاعب والبين يحتكم؟
عقلت عيساً كأني كنت حاسدها ... بدار سلمى وترب الدار مستلم
إحدى الحسان أساءت بي وقد صرمت ... يوم الحمى وهواها ليس ينصرم
أخذه من قول ابن الرومي:
يا رب حسانة منهن قد فعلت ... سوءاً وقد يفعل الأسواء حسان
رجع:
كأن قلبي معار للنوى جزعاً ... من قلب قرن علي وهو منهزم
ناط الحمائل في ليث وفي قمر ... وفي الحمائل قد نيطت به الهمم
كأنه أجل، أو طرفه وجل، ... أو سيفه قدر في الروح يحتكم
يا مظمئ الخيل أو تروى ذوابله ... والخيل تشرب من أشداقها اللجم
إذا ملائكة النصر اختلطت بها ... تشابه العالم النوري والنسم
لم تدع يا علم المجد المقابلنا ... إلا وسبح إجلالاً لك العلم
لا يكتم النصر يوماً أنت شاهده ... واليوم من نقعه قد كاد ينكتم
النصر أسرجها، والعز ألجمها ... والحزم أمسك بالأسراج لا الحزم
قال النهار له والشمس مغمدة ... وللمنايا شموس غمدها القمم:
هذا عجاج فأين الأفق وهو قنا؟ ... وتلك خيل فأين الأرض وهي دم؟
بحد سيفك سيف الدولة انحطمت ... قواعد الشرك والأرواح تنحطم
يحدث الذئب ذئب وهو مبتهج ... ويخبر النسر نسر وهو مبتسم
وقد أرضعتك ثدي الأرض درتها ... ورمحك ابن رضاع ليس ينفطم
من آل حمدان حيث الملك مقتبل ... والمال مقتسم والحمد مغتنم
قوم إذا حكموا يوماً لأنفسهم ... جار السماح عليهم في الذي حكموا
أمن علاً أم ندىً أدعوك؟ أم بهما؟ ... فأنت ذا والحيا والصارم الخذم
أن يعجل الرأي تلحقه بغايته ... كذا الجواد من الإعجاب يحتدم
وإن تأنيت عزماً لم يفتك عداً ... إن الأسود تمطى ثم تعتزم
إن لم أقم أمماً للمدح من فكري ... فشك فيك يقيني أنك الأمم
إذا طلبتك لم ألحقك في أمد ... ما حيلتي؟ قد تناهى دونك الكلم
وما علي إذا ما كنت ناظمها ... فعطلت كل ما قالوا وما نظموا
وقوله من أخرى:
أمرن هوانا أن يصح لنسقما ... فأدمى قلوباً صاديات إلى الدمى
ومنها:
أرتنا جنى العناب للورد ظالماً ... ومن أقحوان مرمض متظلما
ما أحسن هذا البيت وأظرفه، وفيه كناية عن حك الوجه بالبنان المخضب وعض اليد بالثغر الأشنب:
طوى البين ديباج الخدود، ونشرت ... يد البين وشياً للخدود منمنما
تقسمت الأهواء قلبي كما غدا ... نوال علي في العلا متقسما
ويوم كأجياد العذارى حليه ... فريد ندىً في جيده قد تنظما
جلونا به وجهي عروس وكاعب ... على طفل زهر قد بكى وتبسما
وأخرس يصبينا بخمسة ألسن ... إلى أيها مد السنان تكلما (1/71)
لدن غدوة حتى إذا الشمس ودعت ... مغاربها واستأذنتها التصرما
ثوينا كأنا بعض أبناء قيصر ... غدا فيهم سيف الأمير محكما
أطعت العلا حتى كأنك عبدها ... وإن كنت مولاها وكنت لها ابنما
مكارم لا تنفك تتعب حاسداً ... يؤخره سعي لها قد تقدما
زكت فكري فيها وأينع هاجسي ... فظلت على أهل القريض مقدما
وولد شعري فيك شعراً لمعشر ... فكنت عليهم مثل نعماك منعما
وقوله من أخرى:
سلاها لم اسود في ابيضاضه؟ ... وإلا سلاني كيف بيض مسودي؟
كأن برأسي عسكرين تحاربا ... فقد كثر استئمان جند إلى جند
وليل له نجم كليل عن السري ... تحير لا يهدى لقصد ولا يهدي
كأني وابن الغمد والطرف أنجم ... على قصدها والنجم ليس على قصد
إلى أن رأيت الفجر والنسر خاضبجناحيهورسا عل بالعنبر الوردي
وحلت يد الجوزاء عقد وشاحها ... إزاء الثريا وهي مقطوعة العقد
فقلت: أخيل التغلبي مغيرة ... أم الفجر يرمي الليل سداً على سد؟
فتىً قسم الأيام بين سيوفه ... وبين طريفات المكارم والتلد
فسود يوماً بالعجاج وبالردى ... وبيض يوماً بالفضائل والمجد
ألم تر فرعوناً وموسى تجاريا ... فغودرت العقبى لذي الحق لا الحشد؟
جهدت فلم ألغ مداك بمدحه ... وليس مع التقصير عندي سوى جهدي
يزيد على شأوي زياد وجرول ... وقد غودر ابن العبد في نظمها عبدي
وقوله من أخرى:
له سورة في البشر تقرأ في العلا ... وتثبت في صحف العطاء وتكتب
إذا ما علي أمطرتك سماؤه ... رأيت العلا أنواؤها تتحلب
يرجى ويخشى ضره وهو نافع ... كذا البحر في أزاته متهيب
يروع ويبدو الأنس منه كأنه ال ... هوى لذعه بين الجوانح يعذب
وأزهر يبيض الندى منه في الرضى ... وتحمر أطراف القنا حين يغضب
أمير الندى، ما للندى عنك مذهب ... ولا عنك يوماً للرغائب مرغب
إذا فاخرت بالمكرمات قبيلة ... فتغلب أبناء العلا بك تغلب
قناة من العلياء أنت سنانها ... وتلك أنابيب عليها وأكعب
وخيل كأمثال القنا في لبودها ... فإن صهلت فهي اليراع المثقب
وضرب يريك الخيل مج نجيعه ... وأشبهها من لون أشقر يخضب
وقوله من أخرى:
سألت بالفراق صباً، وما ين ... بئها بالفراق مثل خبير
هو بين الحشا صدوع، وفي الأع ... ين ماء، وجمرة في الصدور
نحن أبناء ذا الهوى تسكن الأن ... فس منا إلى الضنا والزفير
نال منا يوم الفراق كما تا ... ل من الناكثين سيف الأمير
في خميس للنصر فيه لواء ... عقده من لوائه المنصور
رجله كالدبا، وفرسانه كالأ ... سد بأساً، وخيله كالصقور
وسجاياك يا أبا الحسن الغ ... ر وإتعابهن شكر الشكور
لو غدا الدهر صافحاً لي عن الح ... ظ وأعلى من جد حال عثور
لتعطرت من غبار مذاكي ... ك رواحي، وكان عطري بكوري
ثم صيرت من دماء أعادي ... ك خلوقي، وكان منه طهوري
ولقيت المنون تحت عوالي ... ك معداً ذخراً ليوم نشوري
سر على السعد تستظل من الأي ... ام ظلي سلامة وحبور
بين فرضين من جهاد وشهر ... أنت في الناس مثله في الشهور
سمع النصر فيه أمرك لما ... خاطبته الأقدار بالتأمير
أنتم دارة العلا يا بني حم ... دان، سكان بيتها المعمور
وتسيرون في القنا فترى الآ ... جال مرتابة بذاك المسير (1/72)
في شموس من الحديد عليها ... أنجم يفترون فوق بدور
وعجاج كأنه من دخان الن ... د يلقى الهواء بالتعطير
عبق من علاكم فكأن ال ... أرض مسك، والجو من كافور
فتحيوا بمدحتي فهي ريحا ... نة حمد تبقى بقاء الدهور
وقوله من أخرى:
ومنازلين إذا بدوا في شارق ... شبوا وقوده بوقود
ردوا على داود صنعه سرده ... لغناهم بالصبر عن داود
لا يصبحون إذا انتضوا بيض الظبا ... وشبا القنا غير المنايا السود
وقوله من أخرى:
ألم تر أعداء الأمير كوفره ... يظل لتوفير العلا غير وافر
وحساده مما تذوب كخيله ... بلغن مدى أنفاسهن الزوافر
وقوله من أخرى:
وصارم مثل لحظ البرق أسللك في ... مثال جدول ماء فيه منسكب
تنأى به الهام عن أجسامهن كما ... تنأى الخواتيم عن مقروءة الكتب
وقوله من أخرى:
في ناظر الشمس إن عنت له رمد ... ومسمع الرعد إن أصغى له صمم
يردها ونظام الملك متسق ... والموت في خرز الأعناق ينتظم
أسعد بعيد إذا كارمته حكمت ... لك المعاني وأمضى حكمها الكرم
عيد وفتح وملك والأمير له ... دامت سلامته ما أورق السلم!
الله أعطاك أقسام الفخار، فما ... خلق يساميك مذ حيزت لك القسم
لو كان يرضى لك الدنيا لما فنيت ... ونلت فيها خلوداً أنت والنعم
وقوله في صفة منارة:
سامية في الجو مثل الفرقد ... قاعدة فيه وإن لم تقعد
يكاد عاليها وإن لم يبعديغرف من حوض الغمام باليد
وقوله:
خليلي، هل للمزن مقلة عاشق؟ ... أم النار في أحشائها وهي لا تدري
أشارت إلى أرض العراق فأصبحت ... وكاللؤلؤ المبتول أدمعها تجري
تسربل وشياً من خروز تطرزت ... مطارفها طرزاً من البرق كالتبر
سحاب حكت ثكلى أصيبت بواحد ... فعاجت له نحو الرياض على قبر
فوشي بلا رقم، ونقش بلا يد ... ودمع بلا عين، وضحك بلا ثغر
ودخل على ناصر الدولة ويده وجعة قد لطخت بلطوخ، فقال له: هل قلت شيئاً؟ قال: ما علمت، قال: فقل، فقال ارتجالا:
يد في برئها برء الأيادي ... ووعك للطريف وللتلاد
يد الحسن التي خلقت سماء ... مولكة بأرزاق العباد
أبو الحسن الناشئ الأصغر
أنشدني أبو بكر الخوارزمي، قال: أنشدني أبو الحسين الناشئ بحلب لنفسه:
إذا أنا عاتبت الملوك فإنما ... أخط بأقلامي على الماء أحرفا
وهبه ارعوى بعد الهتاب، ألم يكن ... تودده طبعاً فصار تكلفا؟
قال: وأنشدني لنفسه:
ليس الحجاب من آلة الأشراف ... إن الحجاب مجانب الإنصاف
ولقل من يأتي فيحجب مرة ... فيعود ثانية بقلب صافي
وله في سيف الدولة يودعه:
أودع، لا أني أودع طائعاً ... وأعطي بكرهي الدهر ما كنت مانعا
وأرجع لا ألقى سوى الوجد صاحباً ... لنفسي إن القيت بالنفس راجعا
تحملت عنا بالصنائع والعلا ... فنستودع الله العلا والصنائعا
رعاك الذي يرعى بسيفك دينه ... ولقاك روض العيش أخضر يانعا
وله:
إذا لم تنل همم الأكرمين ... وسعيهم وادعاً فاغترب
فكم دعة أتعبت أهلها ... وكم راحة نتجت من تعب
وله أيضاً:
يا خليلي وصاحبي ... من لؤي بن غالب
حاكم الحب جائر ... موجب غير واجب
لك صدغ كأنما ... نونه نون كاتب
يلذع الناس إذا تعقرب لذع العقارب
أبو القاسم الزاهي
وصاف محسن، كثير الملح والظرف، ولم يقع إلي شعره مجموعاً، وإنما تطرفته من أفواه الرواة، واستفدته من التعليقات. (1/73)
أنشدني أبو نصر سهل بن المرزبان فيما أنشدنيه من النتف التي استفادها ببغداد، وأتحفني به من اللطائف التي استصحبها: منها للزاهي:
سفرن بدوراً، وانتقبن أهلة ... ومسن غصوناً، والتفتن جآذرا
وأطلعن في الأجياد بالدر أنجماً ... جعلن لحبات القلوب ضرائر
وإنما احتذى في البيت الأول مثال المتنبي في قوله:
بدت قمراً، ومالت غصن بان ... وفاحت عنبراً، ورنت غزالا
وممن نسج على هذا المنوال أبو عامر إسماعيل بن أحمد الشاشي، فإنه قال من قصيدة:
رأيت على أكوارنا كل ماجد ... يرى كل ما يبقى من المال مغرما
ندوم أسيافنا، ونعلو قواضباً، ... وننقص عقبانا، ونطلع أنجما
وقال أبو الحسن الجوهري في الخمر إلا أنه قلب التشبيه:
يقولون: بغداد التي اشتقت برهة ... دساكرها والعكبري المقيرا
إذا فض عنه الختم فاح بنفسجاً، ... وأشرق مصباحاً، ونور عصفرا
ولبعض أهل العصر في غلام مغن:
فديتك يا أتم الناس ظرفاً ... وأصلحهم لمتخذ حبيبا
فوجهك نزهة الأبصار حسناً ... وصوتك متعة الأسماع طيبا
وسائلة تسائل عنك، قلنا ... لها في وصفك العجب العجيبا:
رنا ظبياً، وغنى عندليباً، ... ولاح شقائقاً، ومشى قضيبا
وللزاهي:
أرى الليل يمضي والنجوم كأنها ... عيون الندامى حين مالت إلى الغمض
وقد لاح فجر يغمر الجو نوره ... كما انفجرت بالماء عين على الأرض
وأنشدني أبو سعد نصر بن يعقوب في كتابه " كتاب روائع التوجيهات، من بدائع التشبيهات " للزاهي:
الريح تعصف والأغصان تعتنق ... والمزن باكية والزهر معتبق
كأنما الليل جفن والبروق له ... عين من الشمس تبدو ثم تنطبق
ومن مشهور شعر الزاهي قوله:
لولا عذارك ما خلعت عذاري ... ولكنت في وزر من الأوزار
ما كنت أحسب أن أعاين أو أرى ... تخطيط ليل في بياض نهار
حتى نظرت إلى عذارك فاغتدى ... سقم القلوب ونزهة الأبصار
فتركت قولي في الوعيد لأجله ... وعزمت فيك على دخول النار
ووجدت في كتاب أبي الحسن علي بن أحمد بن عبدان، في مجموعة المترجم بحاطب الليل، قصيدة للزاهي أولها:
الليل من فكري يصير ضياء ... والسيف تحت العجاج هباء
ومنها:
أحصي على دهري الذنوب بمقلة ... لدموعها لا أملك الإحصاء
سرقه من قول ديك الجن:
أنا أحصي فيك النجوم ولكن ... لذنوب الزمان لست بمحص
رجع:
عجباً لصرف الدهر كيف يخون من ... غمر البرية نجدة ووفاء
عدم الصباح فناب عنه بفكره ... وعلت يداه فطاول الجوزاء
وأنشدت له بيت معمى، وما أراه قاله:
من كان آدم جملاً في سنه ... هجرته حواء حواء السنين من الدمى
آدم في حساب الجمل خمس وأربعون، وحواء خمسة عشر.
وله في وصف الأترج:
وذات جسم من الكافور في ذهب ... دارت عليه حواشيه بمقدار
كأنها وهي قدامي ممثلةفي رأس دوحتها تاج من النار
الباب السابع
في ذكر أبي الفرج عبد الواحد الببغاء
وغرر نثره ونظمه
هو: أبو الفرج عبد الواحد بن نصر المخزومي، من أهل نصيبين.
نجم الآفاق، وشمامة الشام والعراق، وظرف الظرف، وينبوع اللطف، واحد أفراد الدهر، في النزم والنثر، له كلام بل مدام، بل نظام من الياقوت، بل حب الغمام، فنثره مستوف أقسام العذوبة، وشروط الحلاوة والسهولة، ونظمه كأنه روضة منورة تجمع طيباً ومنظراً حسناً. وقد أخرجت من شعره. ما يشهد بالذي أجريت من ذكره، وإنما لقب بالببغاء للثغة فيه سيجري وصفها في ذكر ما دار بينه وبين أبي إسحاق الصابي من طرف المكاتبات وملح المجاوبات، وكان في عنفوان أمره وريعان شبابه متصلاً بسيف الدولة، مقيماً في جملته، ثم تنقلت به بعد وفاة صاحبه الأحوال في وروده لموصل وبغداد ومنادمته بهما الملوك والرؤساء، وإخفاقه مرة وإنجاحه أخرى، وآخر ما بلغني من خبره ما سمعت الأمير أبا الفضل عبد الله بن أحمد الميكالي يورده من ذكر التقائه معه عند صدره من الحج وحصوله ببغداد في سنة تسعين وثلاثمائة، ورؤيته بها شيخاً عالي السن، متطاول الأمد، نظيف اللبسة، بهي الركبة، مليح اللثغة، ظريف الجملة، قد أخذت الأيام من جسمه وقوته، ولم تأخذ من طرفه وأدبه، وأنه مدح أباه الأمير أبا نصر بقصيدة فريدة أجزل عليه صلته، ولم تأخذ من طرفه وأدبه، وأنه مدح أباه الأمير أبا نصر بقصيدة فريدة أجزل عليها صلته، ثم السلامي وغيره من شعراء العراق، ثم عرض على القاضي أبو بشر الفضل بن محمد بجرجان سنة إحدى وتسعين كتاب أبي الفرج الوارد عليه من بغداد مشتملاً من النظم والنثر على ما أثرت فيه حال من بلغ ساحل الحياة، ووقف إلى ثنية الوداع، ولست أدري ما فعل الدهر به، وأغلب ظني أنه إلى الآن قد لحق باللطيف الخبير، وأنا أبدأ بسياق قصة له من عبارته وحكايته، لم أسمع أظرف منها في فنها، ولا ألطف ولا أعذب، ولا أخف؛ وإن كان فيها بعض الطول، والبديع غير مملول. (1/74)
قال أبو الفرج: تأخرت بدمشق عن سيف الدولة رحمه الله مكرهاً، وقد سار عنها في بعض وقائعه، وكان الخطر شديداً على من أراد اللحاق به من أصحابه، حتى إن ذلك كان مؤدياً إلى النهب وطول الاعتقال، واضطررت إلى إعمال الحيلة في التخلص والسلامة، ببخدمة من بها من رؤساء الدولة الإخشيدية، وكان سني في ذلك الوقت عشرين سنة، وكان انقطاعي منهم إلى أبي بكر علي بن صالح الروزباري لتقدمه في الرياسة، ومكانه من الفصل والصناعة، فأحسن تقبلي، وبالغ في الإحسان بي، وحصلت تحت الضرورة في المقام، فتوفرت على قصد البقاع الحسنة، والمتنزهات المطرفة، تسلياً وتعللاً، فلما كان في بعض الأيام عملت على قصد دير مران، وهذا الدير مشهور الموقع في الجلالة وحسن المنظر، فاستصحبت بعض من كنت آنس به. وتقدمت لحمل ما يصلحنا، وتوجهنا نحوه، فلما نزلنا أخذنا في شأننا وقد كنت اخترت من رهبانه لعشرتنا من توسمت فيه رقة الطبع وسجاحة الخلق، حسبما جرى به الرسم في غشيان الأعمار وطروق الديرة، ومن التطرف بعشرة أهلها والأنسة بسكانها، ولم تزل الأقداح دائرة بين مطرب الغناء وزاهر المذاكرة إلى أن فض اللهو ختامه، ولوح السكر لصحبي أعلامه، وحانت مني نظرة إلى بعض الرهبان فوجدته إلى خطابي متوثباً، ولنظري إليه مترقباً، فلما أخذته عيني أكب يزعجني بخفي الغمز ووحي الإيماء، فاستوحشت لذلك، وأنكرته ونهضت عجلان، واستحضرته، فأخرج إلي رقعة مختومة، وقال لي: قد لزمم فرض الأمانة فيما تضمنته هذه الرقعة، وونى وسقط ذمام كاتبها في سترها بك عني، ففضضتها، فإذا فيها بأحسن خط وأملحه وأقرئه وأوضحه:
بسم الله الرحمن الرحيم
لم أزل فيما تؤديه هذه المخاطبة يا مولاي: بين حزم يحث على الانقباض عنك، وحسن ظن يحض على التسامح بنفيس الحظ منك، إلى أن استنزلتني الرغبة فيك على حكم الثقة بك من غير خبرة، ورفعت بيني وبينك سجف الحشمة، فأطعت بالانبساط أوامر الأنسة، وانتهزت في التوصل إلى مودتك فائت الفرصة، والمستماح منك - جعلني الله فداك! - زورة أرتجع بها ما اغتصبتنيه الأيام من المسرة مهنأة بالنفراد إلا من غلامك الذي هو مادة مسرتك.
وما ذاك عن خلق يضيق بطارق، ولكن لأخذي بالاحتياط على حالي، فإن صادف ما خطبته منك - أيدك الله! - قبولاً، ولديك نفاقاً، فمنية غفل الدهر عنها، أو فارق مذهبه فيما أهداه إلي منها، وإن جرى على رسمه في المضايقة فيما أوثره وأهواه، وأترقبه من قربك وأتمناه، فذمام المروءة يلزمك رد هذه الوقعة وسترها، وتناسيها واطراح ذكرها. وإذا بأبيات تتلو الخطاب، وهي: (1/75)
يا عامر العمر بالفتوة وال ... قصف وحث الكؤوس والطرب
هل لك في صاحب تناسب في ال ... غربة أخلاقه وبالأدب
أوحشه الدهر فاستراح إلى ... قربك مستنصراً على النوب
فإن تقبلت ما أتاك به ... لم تشن الظن فيه بالكذب
وإن تقبلت ما أتاك به ... لم تشن الظن فيه بالكذب
وإن أتى الزهد دون رغبتنا ... فكن كمن لم يقل ولم يجب
قال أبو الفرج: فورد علي ما حيرني، واسترد ما كان الشراب حازه من تميزي، وحصل لي في الجملة أن أغلب الأوصاف على صاحبها الكتابة خطاً وترسلاً ونظماً، فشاهدته بالفراسة من ألفاظه، وحمدت أخلاقه قبل الاختبار من رقعته، وقلت للراهب: ويحك! من هذا؟ وكيف السبيل إلى لقائه؟ فقال: أما ذكر حاله فإليه إذا اجتمعنا، وأما السبيل إلى لقائه فمستمهل إن شئت قلت: دلني، قال: تظهر فتوراً، وتنصب عذراً تفارق به أصحابك منصرفاً، وإذا حصلت بباب الدير عدلت بك إلى باب خفي تدخل منه، فرددت الرقعة إليه، وقلت: ارفعها إليه ليتأكد أنسه بي وسكونه إلي، وعرفه أن التوفر على إعمال الحيلة في المبادرة إلى حضرته على ما آثره من التفرد أولى من التشاغل بإصدار جواب وقطع وقت مكاتبته، ومضى الراهب، وعدت إلى أصحابي بغير التشاغل بإصدار جواب وقطع وقت بمكاتبته، ومضى الراهب، وعدت إلى أصحابي بغير النشاط الذي نهضت به، فأنكروا ذلك، فاعتذرت إليهم بشيء عرض لي، واستدعيت ما أركبه، وتقدمت إلى من كان معي ممن يخدم بالتوفر على خدمتهم، وقد كنا عملنا على المبيت، فأجمعوا على تعجل السكر والانصراف، وخرجت من باب الدير ومعي صبي كنت آنس به وبخدمته، وتقدمت إلى الشاكري برد الدابة وستر خبري ومباكرتي، وتلقاني الراهب، وعدل بي إلى طريق في مضيق، وأدخلني إلى الدير من باب غامض، وصار بي إلى باب قلاية متميز عما يجاوره من الأبواب نظافة وحسناً، فقرعه بحركات مختلفة كالعلامة، فابتدرنا منه غلام كأن البدر ركب على أزراره مهفهف الكشح مخطفه، معتدل القوام أهيفه، تخال الشمس برقعت غرته، والليل ناسب أصداغه وطرته، في غلالة تنم على ما تستره، وتجفو مع رقتها عما تظهره، وعلى رأسه مجلسية مصمت فبهر عقلي، واستوقف نظري، ثم أجفل كالظبي المذعور، وتلوته والراهب إلى صحن القلاية، فإذا أنا بييت فضي الحيطان، رخامي الأركان، يضم طارقة خيش، مفروشة بحصير مستعمل، فوثب إلينا منه مقتبل الشيبة، حسن الصورة، ظاهر النبل والهيئة، متزي من اللباس بزي غلامه، فلقيني حافياً يعثر بسراويله، واعتنقني، ثم قال: إنما استخدمت هذا الغلام في تلقيك يا سيدي لأجعل ما لعلك استحسنته من وجهه مصانعاً عما ترد عليه من مشاهدتي، فاستحسنت اختصاره الطريق إلى بسطي، وارتجاله النادرة على نفسه حرصاً في تأنيسي، وأفاض في شكري المسارعة إلى أمر. وأنا أواصل في خلال سكناته المبالغة في الاعتداد به، ثم قال: يا سيدي أنت مكدود بمن كان معك، والاستمتاع بمحادثتك لا يتم إلا بالتوصل إلى راحتك، وقد كان الأمر على ما ذكر، فاستلقيت يسيراً ثم نهضت، فخدمت في حالتي النوم واليقظة الخدمة التي ألفتها في دور أكابر الملوك وأجله الرؤساء. وأحضرنا خادم لم أر أحسن منه وجهاً ولا سواداً طبقاً يضم ما ييتخذ للعشاء مما خف ولطف، فقال: الأكل مني يا سيدي للحاجة، ومنك للممالحة والمساعدة، فنلنا شيئاً، وأقبل الليل فطلع القمر ففتحت مناظر ذلك البيت إلى فضاء أدى إلينا محاسن الغوطة، وحبانا بذخائر رياضها: من المنظر الجناني، والنسيم العطري، وجاءنا الراهب من الأشربة بما وقع اتفاقنا على المختار منه، ثم اقتعدنا غارب اللذة، وجرينا في ميدان المفاوضة، فلم يزل يناهبني نوادر الأخبار، وملح الأشعار، ونخلط ذلك من المزح بأظرفه، ومن التودد بألطفه، إلى أن توسطنا الشراب فالتفت إلى غلامه، وقال له: يا مترف، إن مولاك ما ادخر عنا السرور بحضوره، وما يجب أن ندخر ممكنا في مسرته، فامتقع وجه الغلام حياء وخفراً، فأقسم عليه بحياته وأنا لا أعلم ما يريد، ومضى فعاد يحمل طنبوراً، وجلس فقال لي: يا سيدي تأذن لي في خدمتك؟ فهممت بتقبيل يده لما تداخلني من عظم المسرة بذلك، فأصلح الغلام الطنبور وضرب وغنى: (1/76)
يا مالكي وهو ملكي ... وسالبي ثوب نسكي
نزه يقين الهوى في ... ك عن تعرض شك
لولاك ما كنت أبكي ... إلى الصباح وأبكي
فنظر إلي الغلام وتبسم، فعلمت أن الشعر له، فكدت والله أطير طرباً وفرحاً بملاحة خلقه وجودة ضربه وعذوبة ألفاظه وتكامل حسنه، فاستدعيت كيزاناً فأحضرنا الخادم عدة قطع من فاخر البلور وجيد المحكم، فشربت سروراً بوجهه، وشرب بمثل ما شربت، ثم قال لي: أنا والله يا سيدي أحب ترفيهك وأن لا أقطعك عما أنت متوفر عليه، ولكن إذا عرفت الاسم والنسب والصناعة واللقب فلا بد أن تشي ليلتنا بشيء لها طرازاً ولذكرها معلماً، فجذبت الدواة وكتبت ارتجالاً وقد أخذ الشراب مني: (1/77)
وليلة أوسعتني ... حسناً ولهواً وأنسا
ما زلت ألثم بدراً ... بها وأشرب شمسا
إذا أطلع الدير سعداً ... لم يبق مذ بان نحسا
فصار للروح مني ... روحاً وللنفس نفسا
فطرب على قولي " ألثم بدراً وأشرب شمسا " ، وجذب غلامه فقبله، وقال: ما جهلت ما يجب لك يا سيدي من التوقير، وإنما اعتمدت تصديقك فيما ذكرته، فبحياتي إلا ففعلت مثل ذلك بغلامك، فاتبعت آثاره خوفاً من احتشامه، وأخذ الأبيات وجعل يرددها، ثم أخذ الدواة وكتب إجازة لها:
ولم أكن لغريمي ... والله أبذل فلسا
لو ارتضى لي خصمي ... بدير مران حبسا
فقلت: إذاً والله ما كان أحد يؤدي حقاً ولا باطلاً، وداعبته في هذا المعنى بما حضر، وعرفت في الجملة أنه مستتر من دين قد ركبه، وقال لي: قد خرج لك أكثر الحديث، فإن عذرت، وإلا ذكرت لك الحال لتعرفها على صورتها، فتبينت ما يؤثره من كتمان أمره، فقلت له: يا سيدي، كل ما لا يتعرف بك نكرة. وقد أغنت المشاهدة عن الاعتذار، ونابت الخبرة عن الاستخبار، وجعل يشرب وينخب علي من غير إكراه ولا حث ولا استبطاء، إلى أن رأيت الشراب قد دب فيه، وأكب على مجاذبة غلامه والفطنة تثنيه في الوقت بعد الوقت، فأظهرت السكر وحاولت النوم، وجاء الغلام ببرذعة ففرشها لي بإزاء برذعته، فنهضت إليها وقام يتفقد أمري بنفسه، فقلت له: إن لي مذهباً في تقريب غلامي مني، واعتمدت بذلك تسهيل ما يختاره من هذه الحال في غلامه، فتبسم وقال لي بسكره، جمع الله لك شمل المسرة كما جمعه لي بك، وأظهرت النوم، وعاد يجاذب غلامه بأعذب لفظ وأحلى معاتبة، ويخلط ذلك بمواعيد تدل على سعة وانبساط يد، وغلامه تارة يقبل يده وتارة فمه، وغلبتني عيناي إلى أن أيقظني هواء السحر، فانتبهت وهما متعانقان بما كان عليهما من اللباس، فأردت توديعه وحاذرت إنباهه وإزعاجه، فخرجت، ولقيني الخادم يريد إيقاظه وتعريفه انصرافي، فأقسمت عليه أن لا يفعل، ووجدت غلامي قد بكر بما أركبه كما كنت أمرته، فركبت منصرفاً وعاملاً على العود إليه والتوفر على مواصلته وأخذ الحظ من معاشرته، ومتوهماً أن ما كنت فيه منام لطيبه وقرب أوله من آخره، واعترضتني أسباب أدت إلى اللحاق بسيف الدولة، فسرت على أتم حسرة لما فاتني من معاودة لقائه وقلت في ذلك:
ويوم كأن الدهر سامحني به ... فصار اسمه ما بيننا هبة الدهر
جرت فيه أفراس الصبا بارتياحنا ... إلى دير مران المعظم والعمر
بحيث هواء الغوطتين معطر ال ... نسيم بأنفاس الرياحين والزهر
فمن روضه بالحسن ترفد روضة ... ومن نهر بالفيض يجري إلى نهر
وفي الهيكل المعمور منه افترعتها ... وصحبي حلالاً بعد توفية المهر
ونزهت عن غير الدنانير قدرها ... فما زلت منها أشرب التبر بالتبر
وحل علينا ما كان منها محرماً ... وهل يحظر المحظور في بلد الكفر
فأهدت لي الأيام فيه مودة ... دعتني في ستر فلبيت في ستر
أتى من شريف الطبع أصدق رغبة ... تخاطبني عن معدن النظم والنثر
وكان جوابي طاعة لا مقالة ... ومن ذا الذي لا يستجيب إلى اليسر
فلاقيت ملء العين نبلاً وهمةً ... محلى السجايا بالطلاقة والبشر
وأحشمني بالبر حتى ظننته ... يريد اختداعي عن جناني ولا أدري
ونزه عن غير الصفاء اجتماعنا ... فكنت وإياه كقلبين في صدر
وشاء السرور أن يلينا بثالث ... فلاطفنا بالبدر أو بأختي البدر (1/78)
بمعطي عيون ما اشتهت من جماله ... ومضني قلوب بالتجنب والهجر
جنينا جني الورد في غير وقته ... وزهر الربا من روض خديه والثغر
وقابلنا من وجهه وشرابه ... بشمسين في جنحي دجى الليل والشعر
وغنى فصار السمع كالطرف آخذاً ... بأوفر حظ من محاسنه الزهر
وأمتعنا من وجنتيه بمثل ما ... تمزج كفاه من الماء والخمر
سرور شكرنا منه الصحو إذ دعا ... إليه ولم نشكر به منه السكر
كأن الليالي نمن عنه فعندما ... تنبهن نكبن الوفاء إلى الغدر
مضى وكأني كنت فيه مهوماً ... يحدث عن طيف الخيال الذي يسري
وهل يحصل الإنسان من كل ما به ... تسامحه الأيام إلا على الذكر
ولم أزل على أتم قلق وأعظم حسرة، وأشد تأسف على ما سلبته من فراق الفتى، لا سيما ولم أحصل منه على حقيقة علم ولا يقين خبر يؤديانني إلى الطمع في لقائه، إلى أن عاد سيف الدولة إلى دمشق، وأنا في جملته، فما بدأت بشيء قبل المصير إلى الراهب، وقد كنت حفظت اسمه، فخرج إلي مرعوباً، وهو لا يعرف السبب، فلما رآني استطار فرحاً، وأقسم ألا يخاطبني إلا بعد النزول والمقام عنده يومي ذلك، ففعلت، فلما جلسنا للمحادثة قال: ما لي لا أراك تسأل عن صديقك؟ قلت: والله ما لي فكر ينصرف عنه، ولا أسف يتجاوز ما حرمته منه، ولا سررت بعودي إلى هذه البلد إلا من أجله، ولذلك بدأت بقصدك، فاذكر لي خبره، فقال لي: أما الآن فنعم، هذا الفتى من المادرانيين جليل القدر، عظيم النعمة، كان ضمن من سلطانه بمصر ضياعاً بمال كثير، فخاس به ضمانه، لقعود السعر، وأشرف على الخروج من نعمته، فاستتر ولما اشتد البحث عنه خرج متخفياً إلى أن ورد دمشق بزي تاجر، فكان استتاره عند بعض إخوانه ممن أخدمه، فإني عنده يوماً إذ ظهر لي وقال لصديقه: إني أريد الانتقال إلى هذا الراهب إذا كان علي مأموناً فذكر له صديقه مذهبي، وأظهرت السرور بما رغب فيه من الأنس بي وأنا لا أعرفه، غير أن صديقي قد أمرني بخدمته، وحصل في قلايتي، فواصل الصوم، فلما كان بعد أيام جاءنا الرسول من عند صديقنا، ومعه الغلام والخادم، وقد لحقنا به ومعهما سفاتج وعليهما ثياب رثة. فلما نظر إلي الغلام قال: يا راهب، قد حل الفطر وجاء العيد، ووثب إليه فاعتنقته، وجعل يقبل عينيه ويبكي، ووقف على السفاتج فأنفذها مع درج رقعة منه إلى صديقه فلما كان بعد يومين حمل إليه ألفي دينار، وقال له: ابتع لنا ما نستخدمه في هذه الضيعة، فابتاع آلة وفرشاً، ولم يزل مكباً على ما رأيت إلى أن ورد عليه بالبغال والآلات الحسنة، وكتب أهله باجتماعهم إلى صاحب مصر وتعريفهم إياه بالحال في بعده عن وطنه لضيق ذات يده عما يطالب به والتوقيع بحطيطة المال عنه مقترناً بالكتب، فلما عمل على المسير قال لغلامه: سلم جميع ما بقي معك من نفقتنا إلى الراهب ليصرفه في مصالح الدير إلى أن نواصل تفقدنا من مستقرنا، وسار وما له حسرة غيرك، ولا أسف إلا عليك، يقطع الأوقات بذكرك، ولا يشرب إلا على ما يغنيه الغلام من شعرك، وهو الآن بمصر على أفضل الأحوال وأجلها، ما يبخل بتفقدي، ولا يغب بري، فتعجلت بعض السلوة بما عرفت من حقيقة خبره، وأتممت يومي عند الراهب، وكان آخر العهد به " انتهى كلامه " .
في بيان غرر من رسائله
الموصولة بمحاسن شعره
كتب إلى سيف الدولة يذكر منصرفه من الغزوات ظافراً إلى الثغر ومقامه على ابن الزيات صاحبه، وقد عصي، وأخذه إياه، وانكفاءه بعد ذلك إلى حلب: الرياسة - أيد الله سيدنا! - حلة مرموقة، يتفاضل الناس فيها بقدر الهمم، وينالونها بحسب مراتبها من الكرم، فما تدرك إلا بالسماح، ولا تملك إلا بأطراف الرماح. ولا تتقمص إلا بالحمد. ولا تخطب إلا بلسان المجد، فكل من أدركها طلبا، واستحقها بأفعاله لقبا، من غير الدخول لسيدنا تحت شرف التعبد، ورق الإخلاص لا التودد، فقد حرم نيل الكمال، وعدل عن الحقيقة إلى المحال:
لأنه الغاية القصوى التي عجزت ... عن أن تؤمل إدراكاً لها الهمم
ما تستحق ملوك الدهر مرتبة ... في الفضل إلا له من فوقها قدم (1/79)
ذكاؤه إن دجا ليل الشكوك ضحىً ... وظله إن خطا صرف الردي حرم
فلو عدا الكرم الموصوف راحته ... عن أن يجاوزها لم يكرم الكرم
الشجاعة أقل أدواته، والبلاغة أصغر صفاته، يطرق الدهر إذا نطق، وينطق المجد إذا افتخر. فالآمال موقوفة عليه، الثناء أجمع مصروف إليه، نهض بما قعدت همم الملوك عن ثقله، وضعف الدهر عن معاناة مثله. بهمم سيفية، وعزائم علوية، فرد شمل الدين جديداً، وذميم الأيام حميداً، بحق أوضحه، وخلل أصلحه. وهدى أعاده، وضلال أباده:
فلا انتزع الله الهدى عز بأسه ... ولا انتزه الله الوغى عز نصره
وأحسن عن حفظ النبي وآله ... ورعي سوام الدين توفير شكره
فما تدرك المداح أدنى حقوقه ... بإغراق منظوم الكلام ونثره
لأن أدنى نعمة تستغرق جماع الشكر، وأيسر منه تفوت المبالغة في جميل الذكر، فأما هذا الفتح الشريف خطره، الحميد أثره، المشهور بلاؤه، الواجب ثناؤه، الباسق فرعه، العام نفعه، فأشرف من أن يحد بالصفات، أو يعد بأفصح العبارات، لإجراء الله تعالى سيدنا فيه من نيل الإرادة، على مشكور العرف والعادة، فيما ابتسم به من ثغر الدين، وشمل صلاحه كافة المسلمين:
كأنما ادخر الرحمن معظمة ... دون الملوك لسيف الدولة البطل
رآه أكرمهم في الخير إن ذكروا ... وصفاً، وأفضلهم في القول والعمل
فهزه وظبا الأسياف مغمدة ... واستله غير منسوب إلى الفلل
حتى غدا الدين من بعد العبوس به ... جذلان يرفل من نعماه في حلل
فلو تكلم في حال وقيل له: ... من خير هذا الورى؟ لم يسم غير علي
وله من رسالة أخرى
شهاب ذكاء، وطود وفاء، وكعبة فضل، وغمامة بذل، وحسام حق، ولسان صدق. فالليالي بأفعاله مشرقة، والأقدار لخوفه مطرقة، تحمده أولياؤه، وتشهد له بالفضل أعداؤه:من المتقارب " :
يقابلنا البدر من برده ... ويشملنا السعد من سعده
ولو فخر المجد لم تلقه ... فخوراً شيء سوى مجده
وله من رسالة أخرى
ثم إن شكري نعمة الله تعالى بما جددت نت ملاحظة سيدنا حالي، وتداركه بطول التطول مرض آمالي، ما لا أؤمل - مع المبالغة والإغراق فيه - فك نفسي بحال من رق أياديه، غير أني أحسن لها النظر، وأجمل عندها الأحدوثة والخبر، بالدخول في جملة الشاكرين، والاتسام بفضيلة المخلصين، إذ كان - أدام الله عزه! - قد نصر نباهتي على الخمول، واستنقذني من التعهد للتأميل:
فصرت أمسك عن أوصاف نعمته ... عجزاً، وينطق عن آثارها حالي
لما تحصنت من دهري بمعقله ... سمت بحملانه ألحاظ إقبالي
وواصلتني صلات منه رحت بها ... أختال ما بين عز الجاه والمال
فلينظر الدهر عقبي ما صبرت له ... إذ كان من بعض حسادي وعذالي
ألم أكده بحسن الانتظار إلى ... أن صنت حظي عن حل وترحال
بلغت ما لا يجوز السؤل نائله ... ولا يدافع عن فضل وإفضال
يا عارضاً لم أشم مذ كنت بارقه ... إلا رويت بغيث منه هطال
رويد جودك قد ضاقت به هممي ... ورد عني برغم الدهر إقلالي
لم يبق لي أمل أرجو نداك به ... دهري لأنك قد أفنيت آمالي
والله ينهضني من شكر طوله، والنهوض بحقوق فضله. لما يبلغني رتبة الزيادة، ونيل السؤل والإرادة، بمنه وكرمه.
وله من رسالة إليه يلتمس رسمه من الكسوة.
والعادة جارية بإعانتي على ما أوثره من التجمل في الخدمة بمتابعة النظر ومواصلة التفقد:
فإن رأى لا رأى سوءاً ولا برح الإقبال مشتملاً أيام دولته
أن يقتضي لي من إنعامه خلعاً ... تنوب عن منطقي في شكر نعمته
إذا تأملها الحساد لائحةً ... تيقنوا أنها عنوان نيته
فعل إن شاء الله.
وله من رسالة إلى المهلبي الوزير:
ولما كانت مناقب سيدنا من المعجز الذي لا يتعاطى استطاعة الوصف مطاولته، ولا إمكان البلاغة مساجلته، عدلت إلى شكر الله تعالى ما ألهمنيه من تأميل سيدنا، والتجمل بحمل منته، واكتساب الشرف بسمة ذكره. متحققاً أني على البعد منه حاضر بالإخلاص، لا حق بذوي الحظوة والاختصاص. إذ كانت خدمة مثلى إنما هي بلبه لا بقربه ولا بجسمه: (1/80)
وفي الحقيقة لولا أن معتقلي ... عن السري جود سيف الدولة الملك
لما اقتصرت على غير المسير إلى ... من حظه في المعالي غير مشترك
لكنه فلك الفضل المحيط، وما ... من عادة الشمس أن تنأى عن الفلك
وفي هذه الرسالة:
وإن رأى المتناهي من سيادته ... إلى المحل الذي لم يرقه أحد
أن يقتضي لي حضاً من مكارمه ... يغري على العدى من أجله الحسد
فالشمس تدنو ضياء وهي نازحة ... والسحب تروي ومن أوطانها البعد
وله من رسالة إلى أبي محمد جعفر بن محمد بن ورقاء: وقد كنت أوثر أن لا يصدر كتابي هذا إلا بقصيدة في الأمير، غير أن الوقت لم يتسع لما أوثره فأنفذت هذه الأبيات، وأرجو أن يكون موقعها باسطاً لي إلى ما أوثره من المواصلة بأمثالها، ولا والله ما حسبت فيها، ولا فيما تقدمها من المنثور، عنان القلم، وهي:
جاد ربعاً حللته يا همام ... من ندى كفك العزيز رهام
فقبيح إن استزدت له صو ... ب غمام وأنت فيه غمام
ما بأرض لم تبد فيها صباح ... ما بدار حللت فيها ظلام
سؤدد عنده التفاخر ذل ... وندى عنده الكرام لئام
وسجايا كأنها الروض، إلا ... أنها للعدو موت زؤام
أنتم أنفس العلا يا بني ور ... قاء والناس كلهم أجسام
سخط المال من أكفكم ما ... حمدته السيوف والأقلام
وله من رسالة كتبها بعد وفاة سيف الدولة، إلى عدة الدولة أبي تغلب بن ناصر الدولة، يذكر رغبته في قصده وإيثاره الانقطاع إليه، وذلك في سنة ثمان وخمسين وثلثمائة: ومن أبرز لسيدنا صفحة رجائه، ووفق للانقطاع إلى سعة نعمائه - فقد استظهر لما بقي من عمره، وحكم لنفسه بالفوز على دهره:
فما يقدح الفقر في حاله ... ولا يطمع الدهر في قصده
وكيف وقد صار ضيف الغما ... م وهو قريب على بعده؟
ومن علقت بأبي تغلب ... يداه احتذى البدر من سعده
همام قضى الله من عرشه ... له بالإمارة في مهده
فطود السيادة في دسته ... وشمس الرياسة في برده
ولما ورد الجواب عن مكتوبه مقروناً بإزاحة العلة في جميع ما يحتاج إليه في سفره، والتوقيع بالمبادرة في المسير إلى الموصل، وردها، ولقي أبا تغلب برسالة طويلة منها: أفصح دلائل الإقبال، وأصدق براهين السعادة - أطال الله بقاء سيدنا! - ما شهدت العقول بصحته، ونطقت البصائر بحقيقته، ونعمة الله تعالى على الدين والدنيا بما أولاهما من اختيار سيدنا لحراستهما بناظر فضله، وسترهما بظل عدله، مفصحة بتكامل الإقبال، مبشرة بتصديق الآمال:
محروسة ضمن الشكر الوفي لها ... عن الزيادة نيل السؤل في الدرك
تحقق الدهر أن الملك منذ نشا ... له أبو تغلب اسم غير مشترك
واستخلف الفلك الدوار همته ... فلو ونى أغنت الدنيا عن الفلك
موفر الحسنات، مأمون الهفوات، متناصر الصفات، ربعي النفاسات، حمداني السياسة، ناصري الرياسة، عطاردي الذكاء، موفق الآراء، شمسي التأثير، فلكي التدبير، قمري التصوير، للصدق كلامه، والعدل أحكامه، وللوفاء ذمامه. وللحسام عناؤه، وللقدر مضاؤه، وللسحاب عطاؤه:
دعوته فأجابتني مكارمه ... ولو دعوت سوى نعماه لم تجب
وجدته الغيث مشغوفاً بعادته ... والروض يجني بما في عادة السحب
لو فاته النسب الوضاح كان له ... من فضله نسب يغني عن النسب
إذا دعته ملوك الأرض سيدها ... طراً دعته المعالي سيد العرب
فأجمل بره، وتقبله مدة مقامه بحضرته، إلى أن سار عنها إلى مدينة السلام سنة تسعة وخمسين وثلاثمائة، وجعل يعاود الموصل مرة، ومدينة السلام أخرى. (1/81)
وله من رسالة شكر: وكأني أرى عواقب اشتمالك علي، وتفقدك المتواصل إلي، من مرآة العقل، وبصيرة الذكاء والفضل، إذ كانت إمارات الإقبال على حالي بك لائحة، وشواهد السعادة لدي بعنايتك واضحة:
فمن نظر يسارع في صلاحي ... ومن وصف يحث على نفاقي
فإنعام أسر من التداني ... على عدم أفظ من الفراق
وله في مثلها: من كان جميل رأي سيدنا عدته، أمن من الدهر شدته، ومن فزع إلى إحسانه، استظهر على زمانه، ومن توجه برغبته إليه، لم تقدم الأيام عليه:
وأنا الذي علمت من طلب الغنى ... كيف الطريق إلى الغنى برجائه
فظللت مخصوصاً بحمد عفاته ... وغدوت ممدوحاً بشكر عطائه
وأفدت قدماً معجزات فضائلي ... من نور فطنته ونار ذكائه
فإذا نطقت نطقت من ألفاظه ... وإذا وهبت وهبت من نعمائه
ذكر ما دار بينه وبين أبي إسحاق الصابي
كان كل منهما يتمنى لقاء صاحبه، ويكاتبه ويراسله، فاتفق أن أبا الفرج قدم مرة بغداد وأبو إسحاق معتقل منذ مدة بعيدة، فلم يصبر عنه، فزاره في محبسه، ثم انصرف عنه ولم يعاوده، فكتب إليه أبو إسحاق:
أبا الفرج اسلم وابق وانعم ولا تزل ... يزيدك صرف الدهر حظاً إذا نقص
مضى زمن تستام وصلي غالياً ... فأرخصته، والبيع غال ومرتخص
وآنستني في محبسي بزيارة ... شفت كمداً من صاحب لك قد خلص
ولكنها كانت كحسوة طائر ... فواقاً كما يستفرص السارق الفرص
وأحسبك استوحشت من ضيق محبسي ... وأوجست خوفاً من تذكرك القفص
كذا الكرز اللماح ينجو بنفسه ... إذا عاين الأشراك تنصب للقنص
فحوشيت يا قس الطيور فصاحة ... إذا أنشد المنظوم أودرس القصص
من المنسر الأشغى ومن حزة المدى ... ومن بندق الرامي ومن قصة المقص
ومن صعدة فيها من الدبق لهذم ... لفرسانكم عند الطعان بها قعص
فهذي دواهي الطير وقيت شرها ... إذا الدهر من أحداثه جرع الغصص
فأجابه أبو الفرج في الحال مع رسوله:
أيا ماجداً مذ يمم المجد ما نكص ... وبدر تمام مذ تكامل ما نقص
ستخلص من هذا السرار، وأيما ... هلال توارى بالسرار فما خلص
برأفة تاج الملة الملك الذي ... لسؤدده في خطة المشتري خصص
تقنصت بالألطاف شكري، ولم أكن ... علمت بأن الحر بالبر يقتنص
وصادفت أدنى فرصة فانتهزتها ... بلقياك إذ بالحزم تنتهز الفرص
أتتني القوافي الباهرات تحمل ال ... بدائع من مستحسن الجد والرخص
فقابلت زهر الروض منها ولم أرع ... وأحرزت در البحر منها ولم أغص
فإن كنت بالببغاء قدماً ملقباً ... فكم لقب بالجور لا العدل مخترص
وبعد، فما أخشى تقنص جارح ... وقلبك لي وكر ورأيك لي قفص
فانتهى الابتداء والجواب إلى عضد الدولة، فأعجب بهما واستظرفهما، وكان ذلك أحد أسباب إطلاق أبي إسحاق من اعتقاله، ثم اتصلت بينهما المكاتبة والمودة.
وكتب أبو إسحاق إلى أبي الفرج أبياتاً في صفة القبج والخطاطيف، ثم كتب إليه هذه الأرجوزة في صفة الببغاء:
أنعتها صبيحة مليحة ... ناطقة باللغة الفصيحة
غدت من الأطيار، واللسان ... يوهمني بأنها إنسان
تنهي إلى صاحبها الأخبارا ... وتكشف الأسرار والأستارا
سكاء إلا أنها سميعه ... تعيد ما تسمعه طبيعه
وربما لقنت العضيهه ... فتغتدي بذيئة سفيهه
زارتك من بلادها البعيده ... واستوطنت عندك كالعقيده
ضيف قراه الجوز والرز ... والضيف في أبياتنا يعز
تراه في منقارها الخلوقي ... كلؤلؤ يلقط بالعقيق (1/82)
تنظر من عينين كالفصين ... في النور والظلمة بصاصين
تميس في حلتها الخضراء ... مثل الفتاة الغادة العذراء
خريدة خدودها الأقفاص ... ليس لها من حبسها خلاص
تحبسها وما لها من ذنب ... وإنما تحبسها للحب
تلك التي قلبي بها مشغوف ... كنيت عنها واسمها معروف
نشرك فيها شاعر الزمان ... والكاتب المعروف بالبيان
وذاك عبد الواحد بن نصر ... تقيه نفسي عاديات الدهر!
فأجابه أبو الفرج بهذه الأرجوزة:
من منصفي من حكم الكتاب ... شمس العلوم قمر الآداب؟
أضحى لأوصاف الكلام محرزا ... وسام أن يلحق لما برزا
وهل يجاري السابق المقصر؟ ... أم هل يساوي المدرك المعذر؟
ما زال بي عن غرض معرضا ... ولي بما يصدره مستنهضا
فتارة يعتمد الخطافا ... ببدع تستغرق الأوصافا
وتارة يعني بنعت القبج ... من منطق لفضله محتج
يحوم حول غرض معلوم ... ومقصد في شعره مفهوم
حتى تجلت رغوة الصريح ... وسلم التلويح للتصريح
وصح أن الببغاء مقصده ... بكل ما كان قديماً يورده
فلم يدع لقائل مقالا ... فيها ولا لخاطر مجالا
أهدى لها من كل نعت أحسنه ... وصاغ من حلي المعاني أزينه
أحال بالريش الأشيب الأخضر ... وباحمرار طوقها والمنسر
على اختلاط الروض بالشقيق ... وأخضر الميناء بالعقيق
تزهى بدواج من الزمرد ... ومقلة كسبج في عسجد
وحسن منقار أشم قاني ... كأنما صيغ من المرجان
صيرها انفرادها في الحبس ... بنطقها من فصحاء الإنس
تميزت في الطير بالبيان ... عن كل مخلوق سوى الإنسان
تحكي الذي تسمعه بلا كذب ... من غير تغيير لجد أو لعب
غذاؤها أزكى طعام رغدا ... لا تشرب الماء ولا تخشى الصدا
ذات شغى تحسبه ياقوتا ... لا ترتضي غير الأرز قوتا
كأنما الحبة في منقارها ... حبابة تطفو على عقارها
إقدامها ببأسها الشديد ... أسكنها في قفص الحديد
فهي كخود في لباس أخضر ... تأوي إلى خركاهة لم تستر
ووصفها المعجز ما لا يدرك ... ومثله في غيرها لا يملك
لو لم تكن لي لقباً لم أختصر ... لكن خشيت أن يقال منتصر
وإنما تنعت باستحقاق ... لوصفها حذق أبي إسحاق
شرفها وزاد في تشريفها ... بحكم أبدع في تفويفها
فكيف أجزي بالثناء المنتخب ... من صرف المدح إلى اسمي واللقب
وكتب إليه أبو إسحاق بأحسن ما قيل في مدح الألثغ:
أبا الفرج استحققت نعتاً لأجله ... تسميت من بين الخلائق ببغا
بياناً منيراً كاللجين مضمناً ... نضاراً من المعنى أديباً وأفرغا
فلو لامرئ القيس انتدبت مجارياً ... كبا أو لقس في فصاحته صغا
متى ما يرم ذا الاسم غيرك رائم ... ليبلغ من غايات فضلك مبلغا
فإني أسميه به ثم أنثني ... فأسلبه باء من الاسم إذ بغى
إذا أنا سلمت البلاغة طائعاً ... إليك فأي الناس خالفني طغى
كفتك على رغم الحسود شهادتي ... بأن كنت منه ثم مني أبلغا
وما هجنت منك المحاسن لثغة ... وليس سوى الإنسان تلقاه ألثغا
أتعرفها فيما تقدم خاياً ... لعير إذا ما صاح أو جمل رغا
فيا لك حرفاً زدت فضلاً بنقصه ... فأصبحت منه بالكمال مسوغا
بقيت ولا تعدم بقاء مرفهاً ... وعشت ولا تعدم معاشاً مرفغا (1/83)
ولما نقل عز الدولة بختيار ابنته المزوجة بعدة الدولة أبي تغلب إليه بالموصل - كتب عنه أبو إسحاق في معناها فصلاً من كتاب استحسنه الناس وتحفظوه وأقر له بالبراعة والبلاغة كل بليغ، وهو: قد توجه أبو النجم بدر الحرمي، وهو الأمين على ما يلحظه، الوفي بما يحفظه، نحوك يا سيدي ومولاي - أدام الله عزك! - بالوديعة، وإنما نقلت من وطن إلى سكن، ومن منبت درت لها نعماؤها، إلى منشأ تجود عليها سماؤه. وهي بضعة مني انفصلت إليك، وثمرة من جنى قلبي حصلت لديك. وما بان عني من وصلت حبله بحبلك، وتخيرت له بارع فضلك. وبوأته المنزل الرحب من جميل خلائقك، وأسكنته الكنف الفسيح من كرم شيمك وطرائقك. ولا ضياع على ما تضمه أمانتك، ويشتمل عليه حفظك ورعايتك. وأرجو أن يقرن الله موردها بالطائر السعيد. والأمر الرشيد. والعز الزائد، والمجد الصاعد. والنماء في الائتلاف، والعصمة من الفرقة بالخلاف. حتى تكون عوائد البركة بأحوالها منوطة، والعصمة من الفرقة بالخلاف. حتى تكون عوائد البركة بأحوالها منوطة، ومن عوادي الأيام وغيرها محوطة.
وإنما ألم أبو إسحاق في تسميته لها بالوديعة بالفصل الذي كتبه جعفر ابن محمد بن ثوابة عن المعتضد إلى ابن طولون في ذكر ابنته قطر الندى المنقولة إليه، وهو: وأما الوديعة - أعزك الله! - فهي بمنزلة ما انتقل من شمالك إلى يمينك، عناية بها، وحياطة لها، ورعاية لموالاتك فيها.
فلما عرضه على الوزير عبد الله بن سليمان ارتضاه جداً واستحسنه، وقال له: تسميتك إياها بالوديعة نصف البلاغة، ووقع له بالزيادة في إقطاعه ومشاهرته.
ولما قرئ الفصل من إنشاء الصابي بحضرة أبي تغلب اعتمد في الجواب عنه على أبي الفرج الببغاء، وكتب كتاباً يشتمل على هذا الفصل الذي هو الجواب عن الفصل المذكور، وهو: وأما أبو النجم بدر الحرمي - أيده الله! - المستوجب للارتضاء والإحماد، الموفى بمناصحته على كل مراد، فقد أدى الأمانة إلى متحملها، وسلم الذخيرة الجليلة إلى متقبلها، فحلت من محل العز في وطنها، وأوت من حمى السؤدد إلى مستقرها وسكنها: متنقلة من عطن الفضل والكمال، إلى كنف السعادة والإقبال. وصادرة عن أنبل ولادة ونسب، إلى أشرف اتصال وأنبه سبب، وفي اليسير من لوازم فروضها وواجبات حقوقها، ما صان رعايتي عن الوصاة بها، ونزره وفائي عن الاستزادة لها، وكيف يوصي الناظر بنوره؟ أم كيف يحض القلب على حفظ سروره، وإن سبباً قرن بإحماد أمير المؤمنين - أطال الله بقاءه! - ذكرى، ووصل بحبل السيد العم ركن الدولة - أدام الله تأييده! - حبلي. ومنح عز الدولة - أيده الله! - مكنون ودي، واختص الأخوة من ولد أبيه السعيد رضي الله عنه وأيدهم بوثيق عهدي، إلى أن صرت بفضل الجماعة قائلاً، ودونها بالنية والفعل مناضلاً، وبمحاسنها المجموعة إلى ناطقاً، وبمالي عندها من المساهمة والمشاركة واثقاً - لحقيق بالتناهي في الإعظام، وخليق بالمبالغة في الإيجاب والإكرام، والله يعين على ما اعتقدته من ذلك وأخفيه. ويوفقني لما يوفي على المحبة والبغية فيه. بمنه وقدرته، وحوله وقوته.
هذا ما أخرج من
شعر أبي الفرج الذي يتغنى به
فمنه قوله:
لقد عز العزاء علي لما ... تصدى لي لتقتلني الصدود
إذا بعد الحبيب فكل شيء ... من الدنيا ولذتها بعيد
وقوله:
يا سادتي، هذه نفسي تودعكم ... إذ كان لا الصبر يسليها ولا الجزع
قد كنت أطمع في روح بالبقاء فما ... أظنني بعدكم بالعيش أنتفع
وقوله:
حصلت من الهوى بك في محل ... يساوي بين قربك والفراق
فلو واصلت ما نقص اشتياقي ... كما لو بنت ما زاد اشتياقي
وقوله:
يا مسقمي بجفون سقمها سبب ... إلى مواصلة الأقسام في جسدي
وحق جفنيك لا استعفيت من كمدي ... دهري، ولو مت من هم ومن كمد
عذرت من ظل في حبيك يحسدني ... لأنه فيك معذور على حسدي
وقوله:
يا من تشابه منه الخلق والخلق ... فما تسافر إلا نحوه الحدق
توريد دمعي من خديك مختلس ... مسقم جسمي من جفنيك مسترق
لم يبق لي رمق أشكو هواك به ... وإنما يشتكى من به رمق (1/84)
وقوله:
ومهفهف لما اكتست وجناته ... حلل الملاحة طرزت بعذاره
لما انتصرت على عظيم جفائه ... بالثلب كان القلب من أنصاره
كملت محاسن وجهه فكأنما اق ... تبس الهلال النور من أنواره
وإذا ألح القلب في هجرانه ... قال الهوى: لا بد منه فداره
وقوله:
ما ضر من بعد السرور ببعده ... لو كان يجمل في صيانة عبده
يبدو فأطرق هيبة ومخافة ... من أن يؤثر ناظري في خده
قد صرت أعجب أن علة طرفه ... ليست تؤثر علة في وده
وقوله:
يا طيف من أنا عبده من أين لي ... شكر يقوم ببعض ما توليه
ينأى فتدنيه إلي على النوى ... فأراه كالتحقيق في التشبيه
ما كان أحسن حالتي لو أن ما ... أوتيت من كرم وعطف فيه
وقوله:
علمت طيفك اسعافي فما هجعت ... عيناي إلا وطيف منك يطرفني
فكيف أشكر من إن نمت واصلني ... بالطيف منه وإن لم أغف قاطعني
وقوله:
خيالك منك أعرف بالغرام ... وأرأف بالمحب المستهام
فلو يستطيع حين حظرت نومي ... علي لزار في غير المانم
وقوله:
قد كان أحسن شيء بعد بعدهم ... بروح مثلك أن تنأى عن الجسد
هم الوصال أعادوها إليك، فلم ... ذخرتها بعدهم للصبر والجلد؟
وعدت بالدمع تعليلاً كأنك قد ... أظهرت ما ليس موجوداً لدى أحد
وقوله:
يا من إذا خفت فيه العذل آمنني ... جميل إنصافه من عذل عذالي
ما يستحق زماني وهو سامحنيبمثل ودك أن أشكوه في حال
رآك غاية آمالي، فما برحت ... تسعى لياليه حتى نلت آمالي
وقوله:
أوليس من إحدى العجائب أنني ... فارقته فحييت بعد فراقه
يا من يحاكي البدر عند تمامه ... ارحم فتى يحكيه عند محاقه
وقوله:
جاورت بالحب قلباً لم تذر فكري ... للحب مستمتعاً فيه ولم تدع
مفرقاً بين هم غير مفترق ... عنه، وبين سلو غير مجتمع
وهذه غرر من
شعره في الغزل والخمر
أنشدت له في رمد المحبوب، وهو أحسن ما سمعت في معناه:
بنفسي ما يشكوه من راح طرفه ... ونرجسه مما دهى حسنه ورد
أراقت دمي ظلماً محاسن وجهه ... فأضحى وفي عينيه آثاره تبدو
غدت عينه كالخد حتى كأنما ... سقى عينه من ماء توريده الخد
لئن أصبحت رمداء مقلة مالكي ... لقد طالما استشفيت بها مقل رمد
وله في الفصد:
بأبي الغائب الذي لم يغب ع ... ني فأشكو إليه هم المغيب
باشرته كف الطبيب، فلو نل ... ت الأماني قبلت كف الطبيب
فعلت في ذراعه ظبة المب ... ضع أفعال لحظه بالقلوب
فأسالت دماً كأن جفوني ... عصرته بدمعها المسكوب
طاب جداً فلو به سمح الده ... ر لأمسى عطري وأصبح طيبي
وله غلام خرج غازياً:
يا غازياً أتت الأحزان غازية ... إلى فؤادي والأحشاء حين غزا
إن بارزتك كماة الروم فارمهم ... بسهم عينيك تقتل كل من برزا
وله في وصف معصرة:
ومعصرة أنخت بها ... وقرن الشمس لم يغب
فخلت قزازها بالرا ... ح بعض معادن الذهب
وقد ذرفت لفقد الكر ... م فيها أعين العنب
وجاش عباب واديها ... بمنهل ومنسكب
وياقوت العصير بها ... يلاعب لؤلؤ الحبب
فيا عجباً لعاصرها ... وما يغني به عجبي!
وكيف يعيش وهو يخو ... ض في بحر من اللهب؟
قوله في الخمر والقدح:
بالقفص للقصف منزل كثب ... ما للتصابي في غيره أرب
جادت به ديمة السرور، وح ... ل اللهو فيه، وعرس الطرب
دارت نجوم السرور في فلك ... منه له من فتوتي قطب (1/85)
من كل جسم كأنه عرض ... يكاد لطفاً باللحظ ينتهب
نور وإن يغب، ووهم وإن ... صح، وماء لو كان ينسكب
لا عيب فيه سوى إذاعته ال ... سر الذي في حشاه يحتجب
كأنما صاغه النفاق فما ... يخلص صدق منه ولا كذب
فهو إلى لون ما يجاوره ... على اختلاف الطباع ينتسب
إذا ادعاه اللجين أكذبه ... بالراح في صبغ جسمه الذهب
جلت عروس المدام حالية ... فيه علينا الأوتار والنخب
فالراح بدر، والجام هالته ... والأفق كفي، والأنجم الحبب
حال به الماء عن طبيعته ... بالمزج حتى خلناه يلتهب
ونحن في مجلس تدير به ال ... خمر علينا الأقداح لا العلب
ينسى بأوطانه الحنين إلى ال ... أوطان من السرور ويغترب
لولا حفاظي المشهور ما أمنت ... من بعد بغداد سلوتي حلب
وله:
ومادم كأنها في حشا الدن ... صباح مقارن لمساء
فهي نفس لها من الطين جسم ... لم تمتع فيه بطول البقاء
ما توهمت قبلها أن في العا ... لم ناراً تذكي بقرع الماء
بزلت والضحى عن الليل محجو ... ب فلاحت كالشمس في الظلماء
وتلاه الفجر المنير فعنا ... ه لأنا عن نوره في غناء
مازجت جوهر الزجاج فجاءت ... كشعاع ممازج لهواء
وتحلت من الحباب بدر ... يتلاشى باللحظ والإيماء
بينما تكتسي به زرد البلو ... ر حتى ترفض مثل الهباء
فكأنا بين الكؤوس بدور ... تتهادى كواكب الجوزاء
وكأن المدير في الحلة البي ... ضاء منها في حلة صفراء
حبذا العيش حيث تسري الأماني ... بين جد الغنا وهزل الغناء
حيث سكر الشباب أقضى على قل ... بي وأمضى من نشوة الصهباء
وله وهو من أبلغ ما قيل في عتق الخمر:
وعريقة الأنساب والشيم ... موجودة والخلق في العدم
قدمت فلا تعزى إلى حدث ... إلا إذا عزيت إلى الهرم
هي آدم الكرم المولد في ال ... دنيا وحوا الخمر في القدم
كملت فضائلها وقصر عن ... أوصافها الإغراق في الكلم
ظهرت ونور الشمس في فلك ... من قبل خلق الصبح والظلم
فانهل جوهرها بمنسكب ... لم يعتصر بيد ولا قدم
واشتق معنى اسم السلاف لها ... من كونها في سالف الأمم
فكأنها في صفوها خلقي ... وكأنها في عتقها كرمي
وله:
غادني بالصبوح قبل الصباح ... واجر في حلبة الصبا والمراح
واغتنم زائر الغرام فقد بش ... ر بالغيث من نسيم الرياح
عاطنيها كالجلنار إذا ما ... كللت من حبابها بالأقاح
في اختصاص التفاح بالطيب والخم ... رة لا في كثافة التفاح
غير نكر أن تستمد شعاع ال ... شمس منها كواكب الأقداح
فهي أصل الأنوار لطفاً كما كا ... ساتها عنصر الزلال القراح
خدمتها الأجسام بالطبع لما ... شاهدت قربها من الأرواح
فتدارك بها حشاشة أفرا ... حي وحرك بها سكون ارتياحي
بين وردين من بنان وخد ... وشرابين من رضاب وراح
ونشيد مستنبط من حديث ... وغناء يغني عن الأقتراح
فألذ الحياة ما خلط العا ... قل فيه فساده بصلاح
وله في وصف شراب في قدح أزرق فيه صور:
كم منة للظلام في عنقي ... بجمع شمل وضم معتنق
وكم صباح للراح أسلمني ... من قلق ساطع إلى فلق
فعاطنيها بكراً مشعشعةً ... كأنها في صفائها خلقي (1/86)
في أزرق كالهواء يخرقه ال ... لحظ وإن كان غير منخرق
كأن أجزاءه مركبة ... حسناً ولطفاً من زرقة الحدق
ما زلت منه منادماً لعباً ... مذ أسكرتها السقاة لم تفق
تختال قبل المزاج في أزرق ال ... فجر وبعد المزاج في الشفق
تغرق في أبحر المدام فيس ... تنقذها شربنا من الغرق
فلو ترى راحتي وزرقته ... من صبغها في معصفر شرق
لخلت أن الهواء لاطفني ... بالشمس في قطعة من الأفق
وله قصيدة:
كم للصبابة والصبا من منزل ... ما بين كلوا ذا إلى قطربل
جادته من ديم المدام سحائب ... أغنته عن صوت الحيا المتهلل
غيث إذاما الراح أو مض برقه ... فرعوده حث الثقيل الأول
لطفت مواقع صوبه فسجاله ... تهمي على كرب النفوس فتنجلي
راضعت فيه الكأس أهيف ينثني ... نحوي بجيد رشاً وعيني مغزل
فأتى وقد نقش الشعاع ثيابه ... بممزج من نسجها ومثقل
وكسا البنان بها خضاباً يله ... لو أنه من وقته لم ينصل
قدح البزال زنادهامن دونهافتهافتت مثل الشراب المرسل
وطغت لعجز الماء عن إطفائها ... حتى ظننت الكأس جذوة مصطلي
فوردت أروي مورد وشربت أح ... لى مشرب ونهلت أعذب منهل
ونزعت لافي السكر خنت تصوني ... بخناً ولا في الصحو شنت تجملي
وقال في الورد:
زمن الورد أظرف الأزمان ... وأوان الربيع خير أوان
أدرك النرجس الجني وفزنا ... منهما بالخدود والأجفان
أشرف الزهر زار في أشرف الده ... ر فصل فيه أشرف الإخوان
وأجل شمس العقار في يد بدر الإم ... كان من قبل عائق الإمكان
في كؤوس كأنها زهر الخش ... خاش ضمنت شقائق النعمان
واختدعها عند البزال بألفا ... ظ المثاني ومطربات الأغاني
فهي أولى من العرائس إن زف ... ت بعزف النايات والعيدان
وقال في النرجس:
ونرجس لم يعد مبيضه الكأس ... ولا أصفره الراحا
تخال أقحاف لجين حوت ... من أصفر العسجد أقداحا
كأنما تهدي التحايا به ... لطفاً إلى الأرواح أرواحا
يلهي عن الورد إذا مارنا ... ويخلف المسك إذا فاحا
أحبب به من زائر راحل ... عوض بالأحزان أفراحا
فانتهز الفرصة في قربه ... وكن إلى اللذات مرتاحا
وهاتها عذراء لم تفترع ... في الليل إلا عاد إصباحا
كأنما كل بنان حوت ... كاساتها تحمل مصباحا
واجن بألحاظك من وجنتي ... مديرها ورداً وتفاحا
غرر من
شعره في سائر الفنون
وله من قصيدة:
صحبت الدهر في سهل وحزن ... وجربت الأمور وجربتني
فلم أر مذ عرفت محل نفسي ... بلوغ غنىً يساوي حمل من
ولم تتضمن الدنيا لحظي ... منال مسرة إلا بحزن
حملت على السوابق ثقل همي ... وشاهدت العواقب صفو ذهني
وشمت بوارق الآمال دهراً ... فلم أظفر على ظمأ بمزن
ولم أر كالجياد أصح وداً ... إذا عدل الودود إلى التضني
نكلفلها عزائمنا فتكفي ... ونستدني الحظوظ بها فتدني
وهبت لمثل قطع الليل منها ... أغر كمثل ضوء الصبح مني
وكنت بحيث ظن من اعتزام ... وكان من المضاء بحيث ظني
وثالثنا ابن جد لا يرى أن ... يصاحب في تصرفه ابن وهن
حجبت لجفنه الأبصار عنه ... ومن لي أن يكون الجفن جفني
سقيت نداي ما أسنى محلى ... وأرفع همتي وأعز ركني
رسا في تربة العلياء أصلي ... وأينع في بروج العز غصني (1/87)
وليس علي غير الجد فيما ... سعيت له لاأستغني وأغني
فإن أحرم فلم أحرم لعجز ... وإن أبلغ فنفسي بلغتني
وله من أخرى:
ما الذل إلا تحمل المنن ... فكن عزيزاً إن شئت أو فهن
إذا اقتصرنا على اليسير فما ال ... علة في عتبنا على الزمن
وله من أخرى:
جزيت أفضل ما يجزاه ذو كرم ... أحلافه في دياجي دهره شعل
حماه وهو غلام غير مكتهل ... عن المطامع فضل غير مكتهل
وله من أخرى:
أكل وميض بارقه كذوب ... أما في الدهر شيء لا يريب؟
أبى لي أن أقول الهجر قدر ... بعيد أن تحاور العيوب
وله من أخرى في سعد الدولة بن سيف الدولة:
لا غيث نعماه في الورى خلب ال ... برق ولا ورد جوده وشل
جاد إلى أن لم يبق نائله ... مالاً، ولم يبق للورى أمل
وله:
واليوم من غسق العجاجة ليلة ... والكر يخرق سجفها الممدودا
وعلى الصفاح من الكفاح وصدقه ... روع أحال بياضها توريدا
والطعن يغتصب الجياد شياتها ... والضرب يقدح في التريك وقودا
وعلى النفوس من الحمام طلائع ... والخوف ينشد صبرها المفقودا
وقد استحال البر بحراً، والضحى ... ليلاً، ومنخرق الفضاء حديدا
وأجل ما عند الفوارس حثها ... في طاعة الهرب الجياد القودا
حتى إذا ما فارق الرأي الهوى ... وغدا اليقين على الظنون شهيدا
لم يغن غير أبي شجاع والعلا ... عنه تناجي النصر والتأييدا
وله من أخرى:
من كل متسع الأخلاق مبتسم ... للخطب إن ضاقت الأخلاق والحيل
يسعى به البرق إلا أنه فرس ... في صورة الموت إلا أنه رجل
يلقى الرماح بصدر منه ليس له ... ظهر وهادى جواد ما له كفل
وله من أخرى:
في سالب للشمس ثوب ضيائها ... بعجاجة ملء الفضاء لهام
كالليل إلا أن ثوب ظلامه ... من عثير ونجومه من لام
يلقى الدجى من بيضه بضحى كما ... يلقى الضحى من نقعه بظلام
وله من أخرى:
قاد الجياد إلى الجياد عوابساً ... شعثاً ولولا بأسه لم تنقد
في جحفل كالسيل أو كالليل أو ... كالقطر صافح موج بحر مزبد
متوقد الجنبات يعتنق القنا ... فيه اعتناق تواصل وتودد
مثعنجر بظبا الصوارم مبرق ... تحت الغبار وبالصواهل مرعد
رد الظلام على الضحى فاسترجع ال ... إظلام من ليل العجاج الأربد
وكأنما نقشت حوافر خيله ... للناظرين أهله في الجلمد
وكأن طرف الشمس مطروف وقد ... جعل الغبار له مكان الإثمد
ما أحسن هذا التشبيه وأوقعه! وكل هذه الأوصاف ما لا مزيد عليه حسناً حسناً وبراعة. وله من أخرى:
من كل مختالة تنقب بال ... عثير وجه الضحى من الخجل
تضم أحشاءها على أسد ... تزأر في غابة من الأسل
وله من أخرى:
في خميس كأنما السمر والأب ... طال غيل حمته أسود
سلب الشمس ضوءها بشوس ... طالعات أفلاكهن حديد
عارض كلما جلته بروق ال ... بيض حثته بالصهيل الرعود
وله من أخرى:
وموشية بالبيص والزغف والقنا ... محبرة الأعصاب بالضمر القب
بعيدة ما بين الجناحين في السرى ... قريبة ما بين الكمين بالضرب
من السالبات الشمس ثوب ضيائها ... بثوب تولى نسجه عثير الترب
يعاتب نشوان القنا صادح الظبا ... إذا التقيا فيها على قلة الشرب
أعادت علينا الليل بالنقع في الضحى ... وردت إلينا الصبح في الليل بالشهب
تبلج عن شمسي نزار ويعرب ... وتفتر عن طودي علا تغلب الغلب (1/88)
موقرة يقتاد ثني زمامها ... بصير بأدواء الكريهة والحرب
أصح اعتزاماً من خؤون على فلا ... وأنفذ حكماً من غرام على صب
وله من أخرى:
ويوم أغص اتساع الفضا ... ء جيش لمن أمه مهول
يخيل أن ما له آخر ... إذا ما تراءى له أول
ويغصب شمس الضحى نورها ... من الخيل ما تبعث الأرجل
دجى أنت بدر به والنجو ... م زرقك والظلمة القسطل
وله من أخرى:
في عارض ضاقت الأرض الفسيحة ... عن سراه إذا سال فيها سيله العرم
كأنه الليل لا قرب ولا بعد ... يخفى عليه ولا فج ولا علم
يهدي الغبار إليه الشمس كاسفة ... كأنها فيه سر ليس ينكتم
شق الغضنفر آجام الرماح به ... والموت يسفر أحياناً ويلتثم
فراسل الدهر في الأعداء عزمته ... وكاتب النصر عنه السيف لا القلم
وما سمعنا بليث قبل رؤيته ... إذا سرى صاحبته في السرى الأجم
الباذل العرف والأنواء باخلة ... والمانع الجار والأعمار تخترم
حيث الدجى النقع، والفجر الصوارم، والأسد الفوارس، والخطية الأجم
وله من أخرى:
وكل بعيد قرب الحين نحوه ... سلاهبك الجرد الخفاف قريب
تباشر أقطار البلاد كأنها ... رياح لها في الخافقين هبوب
تماشي بفتيان كأن جسومهم ... لخفتها فوق السروج قلوب
وله من أخرى:
أتاهم بألحاظ الجياد ولم تكن ... لينأى عليها المنزل المتباعد
من اللاء يهجون المياه لدى السرى ... ويعتضن شم الجو والجو راكد
مرن على لدغ القنا ثم حرقنه ... عليهن من صبغ الدماء مجاسد
نسجن ملاء النقع ثم حرقنه ... بكر لها منه إلى النصر قائد
عليهن من نسج الغبار غلائل ... رقاق ومن نضح الدماء قلائد
وله من قصيدة في وصف فرس:
إن لاح قلت أدمية أم هيكل ... أو عن أسابح أم أجدل
تتخاذل الألحاظ في إدراكه ... ويحار فيه الناظر المتأمل
فكأنه في اللطف فهم ثاقب ... وكأنه في الحسن حظ مقبل
وله من قصيدة يشكر بها بعض إخوانه وقد أهدى إليه بغلة:
قد جاءت البغلة السفواء يجنب من ... ها البرد غيث ندى ينهطل ماطره
عريقة ناسبت أخوالها فلها ... بالعتق من كرم الجنسين فاخره
ملء الحزام وملء اللبد مجفرة ... يريك غائبها في الحسن حاضره
أهدى لها الروض من أوصافه شية ... خضراء ناضرة إذ حال ناضره
ليست بأول حملان شريت به ... حمدي، ولا هي يا ذا المجد آخره
كم تقدمها من سابح بيدي ... عنانه، وعلى الجوزاء حافره
وله في وصف بركة:
وقوراء كالفلك المستدير ... تروق العيون بلألائها
حبتها البحار بأمواجها ... وسحب السماء بأنوائها
كأن تدفق تيارها ... يداك تفيض بنعمائها
وجودك أغزر من جريها ... وخلقك أعذب من مائها
الباب الثامن
في ذكر الخليع الشامي والوأواء الدمشقي
وأبي طالب الرقي
الخليع الشامي
أما الخليع فكنيته أبو عبد الله، وقد ذهب عني اسمه وكان شاعراً مفلقاً قد أدرك زمان البحتري وبقي إلى أيام سيف الدولة فانخرط في سلك شعرائه.
فحدثني أبو بكر الخوارزمي قال: رأيت الخليع بحلب شيخاً قد أخذت منه السن العالية، وثقلت عليه الحركة، فمما أنشدنيه لنفسه قوله:
جيراننا جار الزمان عليهم ... إذا جار حكمهم على الجيران
ما الشأن ويحك في فراق فريقهم ... الشأن ويحك في جنون جناني
خذ يا غلام عنان طرفك فاثنه ... عني، فقد ملك الشمول عنني
سكران سكر هوى وسكر مدامة ... أنى يفيق فتىً به سكران؟! (1/89)
وقوله وهو مما يتغنى به:
بأي المدامين لم أسكر ... بكأسك أم طرفك الأحور
سقيت من الشمس مشمولة ... على غرة القمر الأزهر
إذا الماء خالطها جنحت ... أكاليل در على جوهر
كأن على الشرب من لونها ... ثياباً من الذهب الأحمر
وقوله لسيف الدولة:
أنا شاعر، أنا شاكر، أنا ناشر، ... أنا راجل، أنا جائع، أنا عاري
هي ستة فكن الضمين لنصفها ... أكن الضمين لنصفها بعيار
والنار عندي كالسؤال فهل ترى ... أن لا تكلفني دخول النار
وأنشدني غيره للخليع، وأنا أشك فيه:
لو لم تحل ما سميت حالا ... وكل ما حال فقد زالا
انظر إلى الظل إذا ما انتهى ... يأخذ في النقص إذا طالا
أبو الفرج محمد بن أحمد الغساني
الدمشقي الملقب بالوأواء
من حسنات الشام، وصاغة الكلام، ومن عجيب شأنه ما أخبرني به أبو بكر الخوارزمي قال: كان الوأواء منادياً في دار البطيخ بدمشق ينادي على الفواكه، وما زال يشعر حتى جاد شعره وسار كلامه، ووقع فيه ما روق، ويشوق ويفوق، حتى يعلو العيوق. ثم أخبرني أبو الحسن المصيصي بما يصدقه، وأنشدني لمعاً يسيرة من شعره، وذكر أنه سمعها من إنشاده. وأول من حمل ديوانه إلى نيسابور أبو نصر سهل بن المرزبان، فإنه استصحبه من بغداد في جملة ما حصله من اللطائف والبدائع التي عنى بها، وأنفق الرغائب عليها، وأتحفني بذلك في دفتر صغير الجرم، خفيف الحجم، ثم ألحق به ما استملاه من القوال المعروف بعين الزمان. وهو غير ثقة في الرواية والحكاية، وكنت تأنفت في إخراج ما يفتقر الأديب إلى فقره، ولا يستغني الشاعر عن غره. من شعر الوأواء في النسخة الأولى من هذا الكتاب، ولم ازد في هذه المقررة كثير زيادة.
وقرأت في بعض الكتب عن ابن حمدون قال: كان الفتح بن خانكان يأنس بي، ويطلعني على الخاص من سره، فقال لي مرة: أشعرت يا أبا عبد الله اني انصرفت البارحة من مجلس أمير المؤمنين فلما دخلت منزلي استقبلتني فلانة " يعني جارية له " فلم أتمالك أن قبلتها فوجدت فيما بين شفتيها هواء لو رقد المخمور فيه لصحا، فكان هذا ما يستحسن ويستظرف من كلام الفتح وكأن الوأواء قد سمع ذلك فألم به ونظمه في قوله:
سقى الله ليلاً طاب إذ زار طيفه ... فأفنيته حتى الصباح عناقا
بطيب نسيم منه يستجلب الكرا ... ولو رقد المخمور فيه أفاقا
تملكني لما تملكت مهجتي ... وفارقني لما أمنت فراقا
ومما أنشدنيه كل من الخوارزمي والمصيصي له، ووجدته في ديوان شعره والبيت الرابع منه نهاية في الملاحة:
أتاني زائر من كان يبدي ... لي الهجر الطويل ولا يزور
فقال الناس لما أبصروه: ... ليهنك! زارك البدر المنير
فقلت لهم ودمع العين يجري ... على خدي له در نثير:
متى أرعى بروض الحسن منه ... وعيني قد تضمنها غدير؟
ولو نصبت رحى بإزاء دمعي ... لكانت من تحدره تدور
وأقدر أنه ألم في البيت الرابع بقول ابن المعتز:
وإن تك في خديك للحسن روضة ... فإن على خدي غديراً من الدمع
ومن ملح قوله في وصف الدمع:
كل دمع فبالتكلف يجري ... غير دمع المحب والمهجور
ورد البين دمع عيني فأضحى ... كعقيق أذيب في بلور
ومن ملحه في الخمر:
عذبتها بالمزاج فابتسمت ... عن برد نابت على لهب
كأن أيدي المزاج قد سكبت ... في كأسها فضة على ذهب
وقوله:
فامزج بمائك نار كأسك واسقني ... فلقد مزجت مدامعي بدمائي
واشرب على زهر الرياض مدامة ... تنفي الهموم بعاجل السراء
لطفت فصارت من لطيف محلها ... تجري كمجرى الروح في الأعضاء
وكأن مخنقة عليها جوهر ... ما بين نار أذكيت وهواء
وكأنها وكأن حامل كأسها ... إذ قام يجلوها على الندماء (1/90)
شمس الضحى رقصت فنقط وجهها ... بدر الدجى بكواكب الجوزاء
وقوله:
يطوف براح ريحها ومذاقها ... نسيم الصبا والعيش في زمن الصبا
ومن ملحه في الخط:
وشمس بأعلاه وليلين أسبلا ... بخديه إلا أنها ليس تغرب
ولما حوى نصف الدجى نصف خده ... تحير حتى ما درى أين يذهب
وقوله:
زار بليل على صباح ... على قضيب على كثيب
حتى أتت ألسن الليالي ... معتذرات من الذنوب
فيا لها زورة أخذنا ... بها أماناً من الخطوب
وقوله:
بدر تقنع بالظلا ... م على قضيب في كثيب
تدعو محاسنه القلو ... ب إلى مشافهة الذنوب
فعلت به ريح الصبا ... ما ليس تفعل بالقضيب
عقلت ركائب حسنه ... بعقولنا عند المغيب
وتلطمت وجناتنا ... بيد الدموع من النحيب
وكأنما تشويشنا ... تشويش ألفاظ المريب
يا بدر بالبدر الذي ... أطلعت من فلك الجيوب
وبعقرب الصدغ الذي ... زرفنت من حسن وطيب
ترعى وما استرعيتها ... ثمر القلوب بلا دبيب
هب لي مزارك في الكرا ... كيما أراك بلا رقيب
ومن بدائع تشبيهاته قوله:
قالت وقد فتكت فينا لواحظها ... كم ذا؟ أما لقتيل الحب من قود؟
وأسبلت لؤلؤاً من نرجس، وسقت ... ورداً، وعضت على العناب بالبرد
هذا البيت مما أحسن فيه، وضمنه خس تشبيهات بغير أداة التشبيه:
إنسانة لو بدت للشمس ما طلعت ... من بعد رؤيتها يوماً على أحد
كأنما بين غابات الجفون لها ... أسد الحمام على طرق الهوى رصدي
وقوله:
قد سترت وجهها عن النظر ... بساعد حل عقد مصطبري
كأنه والعيون ترمقه ... عمود في دارة القمر
وقوله:
جعلت تشتكي الفراق وفي أج ... فانها عقد لؤلؤ منثور
فكأن الكحل السحيق مع الدم ... ع على خدها بقايا سطور
وقوله في قوس قزح مع البروق والشمس:
سقيا ليوم قوس السماء به ... والشمس مسفرة والبرق خلاس
كأنها قوس رام والبروق له ... رشق السهام وعين الشمس برجاس
وقوله وهو مما يتغنى به:
لا تنكري ما بي فليس بمنكر ... عند التفرق دهشة المتحير
يا هذه روحي إليك هدية ... فتجملي في أخذها لي واعذري
وتأملي غير الزمان فإنها ... تحكي تغير عهدك المتغير
ولرب ليل ضل عنه صباحه ... وكأنه بك خطرة المتذكر
والبدر أول ما بدا متلثماً ... يبدي الضياء لنا بخد مسفر
فكأنما هو خوذة من فضة ... قد ركبت في هامة من عنبر
وقوله في غلام عليل:
إبيض واصفر لاعتلال ... فصار كالنرجس المضعف
كأن نسرين وجنتيه ... بشعر أصداغه مغلف
يرشح منه الجبين ماء ... كأنه لؤلؤ مصنف
وقوله:
ليت ليلي أمد من نفس العا ... شق طولاً إذ زار فيه الخليل
ما اعتنقنا حتى افترقنا وخفا ... ن الدجى عن قميصه محلول
وكأن الهلال تحت الثريا ... ملك فوق رأسه إكليل
وقوله:
وغداف الظلام في شرك الفج ... ر شريكي في قبضة الارتهان
وكأن النجوم أحداق روم ... ركبت في محاجر السودان
وقوله من أبيات:
كم حث شربي بكأسه قمر ... بقد غصن وخصر زنبور
وقوله من قصيدة:
يقمن لنا برق الثغور أدلة ... إذا ما ضللنا في ظلام الذوائب
ومما يتغنى به من شعره:
يا من سقام جفونه ... لسقام عاشقه طبيب
حزت المودة فاستوى ... عندي حضرك والمغيب
كن كيف شئت من البعا ... د فأنت من فلبي قريب
وقوله:
أستودع الله في بغداد لي قمراً ... بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه (1/91)
ودعته وبودي أن تودعني ... روح الحياة وأني لا أودعه
وكم تشبث بي يوم الرحيل ضحى ... وأدمعي مستهلات وأدمعه
وكم تشفع في أن لا أفارقه ... وللضرورة حال لا تشفعه
وقوله:
بالله ربكما عوجا على سكني ... وعاتباه لعل العتب يعطفه
وعرضا بي وقولا في كلامكما: ... ما بال عبدك بالهجران تتلفه؟
فإن تبسم قولا عن ملاطفة ... ما ضر لو بوصال منك تسعفه
وإن بدا لكما من سيدي غضب ... فغالطاه وقولا ليس نعرفه
وقوله:
زمان الرياض زمان أنيق ... وعيش الخلاعة عيش رقيق
وقد جمع الوقت حاليهما ... فمن ذا يفيق ومن يستفيق
فيا من هو الفوز لي والمنى ... ومن هو بالود مني حقيق
أدر لحظ عينيك وامرجه في ... مروج الرياض تجدها تشوق
ترى مزوج الحسن في مفرد ... جليل المحاسن في دقيق
إذا ضاحك الزهر زهر الوجوه ... فكيف الخلاص وأين الطريق؟
بهار بهير به غيرة ... على نرجس وشقيق شقيق
فذا عاشق وجل خائف ... وذا خجل وكذاك العشيق
مداهن يحملن طل الندى ... فهاتيك تبر وهذي عقيق
تنظم أوراقها درها ... وتنثر منها التي لا تطيق
يميل النسيم بأغصانها ... فبعض نشاوى وبعض مفيق
ويوم ستارته غيمة ... وقد طرزت رفريفها البروق
جعلنا البخور دخاناً له ... ومن شرر الراح فيه حريق
تظل به الشمس محجوبة ... كأن اصطباحك فيه غبوق
على شجرات رافعات الذيول ... لماء الجداول منها شهيق
سجدنا لصلبان منثورها ... وقد نصرتنا عليها الرحيق
وقلنا بها ولضوء الصباح ... على عنبر الفجر لحظ وريق
أيا من هو الفوز لي بالمنى ... ومن هو بالود مني حقيق
تغنم بنا غفلة الحادثات ... فوجه الحوادث وجه مفيق
وحث الصبوح لضوء الصباح ... فمتسع الهم فيه يضيق
وقوله:
وزائر راع قلب الناس منظره ... أحلى من الأمن عند الخائف الوجل
ألقى على الليل ليلاً من ذوائبه ... فهابه الصبح أن يبدو من الخجل
أراد بالهجر قتلي فاستجرت به ... فاستل بالوصل روحي من يدي أجلي
وصرت فيه أمير العاشقين فقد ... صارت إمارة أهل العشق من قبلي
وقوله:
وما أبقى الهوى والشوق مني ... سوى روح تردد في خيال
خفيت عن النوائب أن تراني ... كأن الروح مني في محال
وقوله:
ما حكم البين إلا جار محتكماً ... ولا انتضى سيفه إلا أراق دما
يا دارهم خبرينا ما الذي فعلوا ... فربما جهل المشتاق ما علما
الله يعلم أني يوم بينهم ... ندمت إذا لم أمت في إثرهم ندما
قد سرني أنهم قد سرهم سقمي ... فازددت كيما يسروا بالضنا سقما
وقوله:
رماه ريم فأصاب ... القلب من إذ رمى
واحتج في قتلته ... بأنه ما علما
يا معشر سقم طرفه ... جسمي منه تعلما
لو قيل لي ما تشتهي ... مخيراً محكما
لقلت أن ألثمه ... نحراً ووجهاً وفما
وقوله:
له مضحك برقه خاطف ... عقول الرجال إذا ما ابتسم
أقول له إذ بدا دره: ... شهدنا لصانعه بالحكم
أرى الدر يثقبه الناظمو ... ن وما ثقبوا ذا فكيف انتظم؟!
وقوله:
تملكت يا مهجتي مهجتي ... وأسهرت يا ناظري ناظري
وفيك تعلمت نظم الكلام ... فلقبني الناس بالشاعر (1/92)
وما كان ذا أملي يا ظلوم ... ولا خطر الهجر في خاطري
وقوله:
وحديث كأنه ... أوبة من مسافر
كان أحلى من الرقا ... د لدى طرف ساهر
بت ألهو بطيبه ... في رياض زواهر
بين ساق وسامر ... ومغن وزامر
حدثني أبو بكر الخوارزمي، قال: حضرت مع الشيخ أبي الحسن النمري دعوة القاضي أبي بكر الحميري، فغنى القوالين بهذه الأبيات:
قم يا غلام إلا المدام ... قم داوني منها بجام
قم فاسقني برق الثغو ... ر فقد مضى برق الغمام
بادر إلى صرف الحمي ... ا سابقاً صرف الحمام
وتغنم الغفلات من ... دهر يجور على الكرام
فاستملحها أبو الحسن، وسألني عن قائلها، فأخبرته أنها لأبي الفرج الوأواء، فاقترح علي معارضتها، فارتجلت أبياتاً ثم أتممتها قصيدة منها:
لما بدت روح الضيا ... ء تدب في جسم الظلام
وغدت نجوم الليل وه ... ي تفر من حدق الأنام
والديك يتلو دائماً ... هجو النيام على القيام
ناقضت ما قال المؤذ ... ن بالفعال وبالكلام
هو قال حي على الصلا ... ة وقلت حي على المدام
ومنها:
لما رأيت الهم يط ... رق من أتاه بلا سلام
ضيف يزور فليس يأ ... كل غير لحمي أو عظامي
والدهر قد حمل السلا ... ح على الكرام عن اللئام
داويته بالراح إن ... الراح ترياق الكرام
ومن ملح الوأواء وطرفة قوله في جرب معشوقه:
يا صروف الدهر حسبي ... أي ذنب كان ذنبي؟
طرقتني نائبات ال ... دهر في إعلال حبي
علة عمت وخصت ... في حبيب ومحب
فهو يشكو حر حب ... واشتكائي حر حب
وقوله في زرقة عين محبوبه:
يا من هو الماء في تكوين خلقته ... ومن هو الخمر في أفعال مقلته
ومن بزرقة سيف اللحظ طل دمي ... والسيف ما فخره إلا بزرقته
علمت إنسان عيني أن يعوم فقد ... جادت سباحته في بحر دمعته
وللسري الموصلي في مثله:
وقالوا بمقلته زرقة ... تشين فظل لها مطرقا
وهل يقطع السيف يوم الوغى ... إذا لم يكن متنه أزرقا؟
ومن ملح الوأواء ك
يا ذا الذي ورد خديه إذا أخذت ... منه اللواحظ شيئاً رده الخجل
ماذا يضرك أن تجني وقد ضمنت ... أضعاف ما تجتني من لحظها المقل؟
هذا لعمر ماعون بخلت به ... على العيون، وبئس الخلة البخل
وله:
رثى له مما به نابه ... صب غدا صباً بأوصابه
ميت يرى حياً ولكنه ... تربته ما بين أثوابه
أي حياة لامرئ قد بلى ... بالقرب من فرقة أحبابه؟
وقوله من قصيدة:
قد أطلت الصلاة في قبلة الكأ ... س بتسبيح ألسن العيدان
كم صلاة على فتى مات سكراً ... قد أقيمت فينا بغير أذان
أبو طالب الرقي
لم أجد ذكره إلا عند أبي بكر الخوارزمي، وسمعته يقول: إنه أحد المقلين المحسنين، الذين يطبقون المفصل في أغراضهم، وينظمون الدر المفصل في معانيهم وألفاظهم، ثم أنشدني له قوله
ولقد ذكرتك في الظلام كأنه ... يوم النوى وفؤاد من لم يعشق
وكأن أجرام النجوم لوامعاً ... درر نثرن على زجاج أزرق
والفجر فيه كأنه قطر الندى ... ينهل من سح الغمام المغدق
وقوله:
ومعير وجه البدر ما في وجهه ... والغصن ما في قدة المتأود
رمدت جفوني من تورد خده ... فكحلتها من عارضيه بإثمد
وقوله:
ديباج خدك بالعذار مطرز ... وشبيه وجهك في البرايا معوز
وكأنما إنسان عينك شاهر ... سيف اللحاظ يصيح: من ذا يبرز؟ (1/93)
يا من أعز بذلتي في حبه ... مثلي رأيت بذلة يتعزز؟
وقوله:
ومشتمل ثوبي عفاف وفتنة ... يرى قتل من يهوى إلى النسك مسلكا
إذا طاف بالأركان به الورى ... فيقضي ولا يقضون للحج منسكا
جنى اللحظ من خديه ورداً مورداً ... ومن عارضيه ياسميناً ممسكا
فيا رائحاً منه بأوفر فتنة ... تجهز لعام بعد هذا لعلكا
وقوله:
مصفرة الظاهر بيضاء الحشا ... أبدع في صنعتها رب السما
كأنها كف محب دنف ... مبعد يحسب أيام الجفا
وقوله:
ووردة في نان معطار ... جئت بها في لطيف أسرار
كأنها وجنة الحبيب وقد ... نطقها عاشق بدينار
الباب التاسع
في ملح أهل الشام ومصر والمغرب
وطرف أشعارهم ونوادرهم
هذا باب كثرته على غرر تلقفتها من أفواه الرواة، وتطرفتها من أثناء التعليقات، ولم أجد لأصحابها أشعاراً مجموعة يتفسح في طريق الاختيار منها، وإنما هي تفاريق تلتقي أطرافها، وتجتمع حواشيها، ولن تعدم القلائد فيها بحمد الله ومشيئته.
أنشدني أبو بكر الخوارزمي للتلعفري ولم يسمه ولم يكنه:
ما أصعب العيش على بائس ... معاشه في حلب النحو
ليس له في بردها جبة ... ولا قميص لا ولا فرو
ثم أنشدني له مرة هذين البيتين ومرة لبعضهم وزعم أنهما مما يتغنى بهما:
يا راكب العيس قف وعرج ... واقرأ سلامي على بني طي
وقل لهم ظبيكم جفاني ... لما رآني وما معي شي
ووجدت للسري والسلامي هجء في التلعفري يدل على أنه من مذكوري الشعراء بتلك البلاد.
ثم أنشدني محمد بن عمر الزاهر، قال: أنشدني أبو الحسن علي بن أحمد التلعفري بنصيبين لنفسه من قصيدة أولها:
من ذا يدل على الراد جفوني ... قد ضاع بين صبابتي وشجوني
أما النجوم فقد ألفن رعايتي ... والعائدات فقد مللن أنيني
قال: وأنشدني أيضاً علي بن محمد الشاشي بميا فارقين، قال: أنشدني لنفسه في غلام نصراني:
غريب الحسن، من سماك بدرا؟ ... وبدر التم، في خديك خال
كتمت هواك إذ قلبي سليم ... فذاب القلب وانحل العقال
وكنت كمودع الحلفاء ناراً ... وكتم النار في قصب محال
وأنشدني أيضاً " من الخفيف " :
رب ليل سهرت حتى تجلى ... مغرماً في ظلامه أتقلى
والثريا كأنها رأس طرف ... أدهم زين باللجام المحلى
وقوله:
ومتيم أبدى إلي غرامه ... فعذلته والعذل فعل الجاهل
حتى إذا أبصرت مالك رقة ... كادت لواحظه تصيب مقاتلي
إن عدت أعذل عاشقاً من بعده ... فأصابني ربي بحتف عاجل
وأنشدني أيضاً قال: أنشدني أبو نصر بن أبي الفتح بن كشاجم بصيداء الشام لنفسه في وصف الكتاب من أبيات:
وصاحب مؤنس إذا حضرا ... جالسني بالملوك والكبرا
جسم موات تحيا النفوس به ... يجل معنىً وإن دنا خطرا
ملكت منه كنزاً غنيت به ... فما أبالي ما قل أو كثرا
أظل منه في مجلس حفل ... بالناس طراً ولا أرى بشرا
وإن أطفل به فيا لك من ... مستحسن منظراً كف الجليس لاستترا
وله في شمعة:
بركة صفر عمودها شمع ... تفيض ناراً من موضع الماء
تبكي إذا ما المقص خمشها ... فرط حياء من الأخلاء
كأنها عاشق مخايله ... فيه بواد لمقلة الراثي
صفرة لون، وذوب معتبة ... ودمع حزن، ونار أحشاء
قلت: شبه أربعة بغير حرف تشبيه، وقال في بخيل:
صديق لنا من أبدع الناس في البخل ... وأفضلهم فيه وليس بذي فضل
دعاني كما يدعو الصديق صديقه ... فجئت كما يأتي إلى مثله مثلي
فلما جلسنا للطعام رأيته ... يرى أنه من بعض أعضائه أكلي (1/94)
ويغتاظ أحياناً ويشتم عبده ... وأعلم أن الغيظ والشتم من أجلي
فأقبلت أستل الغذاء مخافة ... وألحاظ عينيه شزراً فأعبث بالبقل
إلى أن جنت كفي لحتفي جناية ... وذلك أن الجوع أعدمني عقلي
فجرت يدي للحين رجل دجاجة ... فجرت كما جرت يدي رجلها رجلي
وقدم من بعد الطعام حلاوة ... فلم أستطع فيها أمر ولا أحلي
وقمت لو أني كنت بيت نية ... ربحت ثواب الصوم مع عدم الأكل
وكتب على تفاحة حمراء بالذهب إلى الوزير أبي الفضل جعفر بن الفضل ابن الفرات وأنفذها إليه وقد خرج إلى نزهة بالمقس:
إذا الوزير تجلى ... للنيل في الاوقات
فقد أتاه سميا ... ه جعفر بن الفرات
وله في طبيب:
عيسى الطبيب ترفق ... فأنت طوفان نوح
يأبى علاجك إلا ... فراق جسم لروح
شتان ما بين عيسى ... وبين عيسى المسيح
فذاك محي موات ... وذا مميت صحيح
وقال في فصد إسحاق بن كيغلغ:
يا فاصداً شق عرق إسحاق ... أي دم لو علمت مهراق؟
سفكته من يد معودة ... لنيل مال وضرب أعناق
لو يوم حرب أصبت من دمه ... إذاً أقام الدنيا على ساق
وأنشدني له يصف جونة الطعام من قصيدة مزدوجة:
وجونة موصوفة من الجون ... قد جمع الطباخ فيها كل فن
من كل سخن منضج وبارد ... ما بين ألوان إلى بوارد
فمن رقاق ناعم رقاق ... يحمد في المنظر والمذاق
وأرغف تشف للصفاء ... كما تشف أوجه المرائي
ومن مصوص من مخاليف الحجل ... كأنما كانت ترف في الجبل
ومن فراريج بماء الحصرم ... تصلح للمخمور أو للمحتمي
قد شوشت أكبادها ببيض ... فهي كمثل نرجس في روض
وجاءنا فيها ببيض أحمر ... كأنه العقيق ما لم يقشر
حتى إذا قدمه مقشرا ... أبرز من تحت عقيق دررا
حتى إذا ما قطع البيض فلق ... رأيت منه ذهباً تحت ورق
يخال إن الشطر منه من لمح ... أعاره تلوينه قوس قزح
ما بين أوساط لطاف القد ... مقدودة كمثل قد الند
من صدر دراج وصدر حجله ... بملحها وبقلها متبله
فيها جبن صادق الحرافه ... مقطع باللطف والنظافه
قد ألبست قضبان طلع غضه ... كأنها سلاسل من فضه
وجاءنا فيها بباذنجان ... مثل قدود أكر الميدان
قد قارن الهليون بالممازجة ... تقارن الكرات بالصوالجه
ثم أتت سكارج الكوامخ ... كمثل أنوار من اللخالخ
ما بين طرخون وبين صعتر ... وفيجن غض وبين كزبر
وبين بن عدة المشطور ... كأنه تعلية النحور
ثم أتى براضع لم يعتلف ... كأن في جنبيه قطناً قد ندف
وحمل مبرز مشبر ... كأنه بالزعفران مطلي
تخاله في خله المزعفر ... مركباً تحت عقيق أحمر
وقد عملت أطرافه سلاقه ... عجيبة الصنعة والمذاقه
زيدت من الخردل والصباغ ... وكشف القحف عن الدماغ
وصف فيه فلق الرمان ... مثل رصيع خرز المرجان
ثم أتى بناطف هياج ... يحر طبع البارد المزاج
كأنه في العين والقياس ... سبائك جاءت من الروباس
ثم أتانا بعده لوزينج ... كأنه في الأتحمي مدرج
تنشله من دهنه العميق ... كما أخذت بين الغريق
وجاءنا الغلمة بالمدام ... وغير أنقال ولا ريحان
لأن في الجونة أنواع الأرب ... وعوضاً من كل شيء يطلب (1/95)
هذا هو النوع الذي اختاره ... ليس الذي عذبنا انتظاره
وأنشدني عبد الصمد بن وهب المصري، قال: أنشدني أبو نصر بن أبي الفتح كشاجم لنفسه:
غبط الناس بالكتابة قوماً ... حرموا حظهم بحسن الكتابه
وإذا أخطأ الكتابة حظ ... سقطت تاؤها فصارت كآبه
وأنشدني الخوارزمي لعبد الرحمن بن جعفر النحوي الرقي:
قل لمن تاب ولم يق ... ض من اللذات نحبه
توبة الحشوي لا تع ... دل عند الله حبه
أم من تسبقه أن ... ت إلى الجنة قحبه
وأنشدني أبو الحسن علي بن مأمون المصيصي، قال: أنشدني أبو العميد هاشم بن محمد المتيم الاطرابلسي لنفسه:
مضت للهو أوقات ... وللأوقات لذات
إليها أنا مشتاق ... وقد فاتت بمن فاتوا
وما لي عوض عنهم ... وأحيا الناس أموات
مضى أهل المروءات ... فلم تبق المروءات
وقرأت في كتاب التحف والظرف لابن لبيب غلام أبي الفرج الببغاء لأبي عمارة الصوفي في ثقيل خفيف على القلب:
وثقيل لو كان في حسناتي ... وجميع الأنام في سيئاتي
لاستخف الذنوب بل كسر المي ... زان من ثقله على الكفات
وله في ثقيل:
ثقيل براه الله أثقل من برى ... ففي كل قلب بغضة منه كامنه
مشى فدعا من ثقله الحوت ربه ... فقال: إلهي زدت في الأرض ثامنه؟
وأنشدنا أبو الحسن محمد بن أحمد الإفريقي المتيم في كتاب أشعار الندماء لأبي الحسن الممشوق الشامي - ولست أتحقق اسمه - في المشمش:
أما ترى المشمش يا خل الأدب ... مشطباً أكرم بهاتيك الشطب
مثقب الهامات من غير ثقب ... كأنها بنادق من الذهب
قد صاغها صائغها بلا تعب
وله في جام فالوذج:
إني اتخذت أبا علي ذا العلا ... معقودة لك ذات طعم طيب
فقد اغتدت في جامها وكأنها ... شمس على بدر أوان المغرب
وتخال فيها اللوز وهو منصف ... أنصاف در فوق صحن مذهب
فتعال نخمش وجهها بأكفنا ... غضبت علينا أو غدت لم تغضب
وأنشدني غيره للممشوق:
فؤادي كفيك إذا ما نطقت ... وصبري كخصرك في دقته
وما آس عارضك المستني ... ر كالقلب مني في حرقته
وبالجسم مني الذي يشتكي ... ه طرفك من غير ما علته
أشبه وعدك إما وعدت ... بعقرب صدغك في عطفته
وأزداد في كل يوم هوى ... وحبيك يزداد في فتنته
وأنشدني محمد بن عمر الزاهر، قال: أنشدني أبو الحسن الممشوق صاحب المتنبي لنفسه:
ليلة بتها بقرتم أسقي ... عاتقاً عتقت مداها الدهور
وكأن السماء والبدر والأنج ... م روض ونرجس وغدير
وأنشدني أيضاً محمد بن عمر الزاهر، قال: أنشدني أبو الحسن علي بن محمد الأنطاكي:
لما تأمل جودك القطر ... وسما ليدرك صدرك البحر
خجلا جميعاً مثل ما خجلا ... إذ قابلاك الشمس والبدر
يا صالح الخيرات ما صلحا ... إلا لك التأييد والأمر
وأنشدني أيضاً للحسن بن عبد الرحيم الزلالي صاحب كتاب الأسجاع على معنى الحمدوني في طيلسان ابن حرب:
طيلسان كان رسماً ... ثم قد أصبح وهما
لا تراه العين إلا ... بعد أن يهجع حلما
تتعب المقلة كي تد ... رك منه أثراً ما
تعب الفكرة في إخ ... راجها البيت المعمى
وقوله:
نظرة كانت لحتفي سببا ... جلب الحين لها ما جلبا
ضحكت أسماء من ذي لمة ... ضاحك الأشيب فيه الأشيبا
إنما يعرف أيام الصبا ... من صبا في غير أيام الصبا
وللأنطاكي في وصف عود:
وبربط صحب الترنام نغمته ... أحلى من اليسر وافى بعد إعسار
يملي القريض عليه لفظ محسنه ... فينبري مخبراً عنها بإجهار
ما حث أوتارره في وجهه نائبه ... سراً فيخبر بالنجوى بإظهار (1/96)
وإن هفا عركت آذانه شفقاً ... عليه من وصمة النقصان والعار
وأنشدني أبو الحسن علي بن مأمون المصيصي وغيره لتميم بن معد أبي تميم صاحب مصر، وهي مشهورة:
ما بان عذري فيه حتى عذرا ... ومشى الدجى في خده فتحيرا
هممت تقبله عقارب صدغه ... فاستل ناظره عليها خنجرا
والله لولا أن يقال تغيرا ... وصبا وإن كان التصابي أجدرا
لأعدت تفاح الخدور بنفسجاً ... لثماً وكافور الترائب عنبرا
وأنشدني أبو نصر سهل بن المرزبان، قال: أنشدت بمدينة السلام لمعد ابن تميم ويروي للوأواء:
لا تظلموا الناس ولا تطلبوا ... بثأري اليوم أذى مسلم
ويا لقومي دونكم شادناً ... معتدل القامة والمبسم
وإن أبى إلا جحوداً له ... واكتتم الأمر فلم يعلم
قولوا له يكشف عن وجهه ... فإن فيه نقطة من دمي
وأنشدني المصيصي له:
وجنة من شفني هواه ومن ... أفنيت فيه دموع آماقي
كأنما الصيرفي دنر ما ... نجم منها ودرهم الباقي
ووجدت له من قصيدة:
وما بلد الإنسان إلا الذي به ... له سكن يشتاقه وحبيب
إلى الله أشكو وشك بين وفرقة ... لها بين أحشاء المحب ندوب
ترى عندهم علم وإن شطت النوى ... بأن لهم قلبي علي رقيب
وأنشدني أبو حفص عمر بن علي الفقيه لأبي منصور نزار بن معد أبي تميم وقد وافق بعض الأعياد وفاة ابنه وعقد المأتم عليه:
نحن بنو المصطفى ذوو محن ... يجرعها في الحياة كاظمنا
عجيبة في الأنام محنتنا ... أولنا مبتلى وآخرنا
يفرح هذا الورى بعيدهم ... طراً وأفراحنا مآتمنا
وأنشدني المصيصي للأمير تميم:
شربنا على نوح المطوقة الورق ... وأردية الروض المفوفة البلق
معتقة أفنى الزمان وجودها ... فجاءت كفوت اللحظ أو رقة العشق
كأن السحاب الغر أصبحن أكؤساً ... لنا، وكأن الراح فيها سنا البرق
فبتنا نحث الكأس فينا، وإننا ... لنشربها بالحث صرفاً ونستسقي
إلى أن رأيت النجم وهو مغرب ... وأقبلن رايات الصباح من الشرق
كأن سواد الليل والفجر طالع ... بقية لطخ الكحل في الأعين الزرق
أحسن في هذا البيت ما شاء.
وأنشدت للمرواني في الهلال وأجاد:
والبدر في جو السماء قد انطوت ... طرفاه حتى عاد مثل الزورق
وتراه من تحت المحاق كأنما ... غرق الكثير وبعضه لم يغرق
وهو من قول ابن المعتز:
قد أثقلته حمولة من عنبر
قال: وسمعت الشيخ الإمام أبا الطيب يحكي أن المرواني صاحب الأندلس كتب إليه صاحب مصر كتاباً يسبه ويهجوه فيه. فكتب إليه " أما بعد فإنك عرفتنا فهجوتنا، ولو عرفناك لأجبناك، والسلام " .
وأنشدني أبو سعيد بن دوست، قال: أنشدني الوليد بن بكر الأندلسي الفقيه المالكي لأميرهم محمد بن أبي مروان بن أخي المستنصر بالله المدعو الخليفة بالأندلس، وهو الحكم بن عبد الرحمن المرواني، من قصيدة كتب بها إلى صاحب مصر يفتخر:
ألسننا بني مروان كيف تبدلت ... بنا الحال أو دارت علينا الدوائر؟
إذا ولد المولود منا تهللت ... له الأرض واهتزت إليه المنابر
وذكر أن المستنصر وهو أبو الحسن قتل ابن أخيه خوفاً منه على المملكة.
قال: وأنشدني لوزير المستنصر وهو أبو الحسن جعفر بن عثمان المصحفي:
يا من أراني بألحاظ يصرفها ... عني الصبا والهوى رشدي وتوفيقي
جمعت فيك غليل العاشقين كما ... جمعت ما تشتهي من كل معشوق
وله أيضاً:
لعينيك في قلبي علي عيون ... وبين ضلوعي للشجون شجون
لئن كان جسمي مخلقاً في يد الهوى ... فحبك غض في الفؤاد مصون
نصيبي من الدنيا هواك، وإنه ... عذابي ولكني عليه ضنين (1/97)
وله أيضاً في الخمر:
صفراء تطرق في الزجاج فإن سرت ... في الجسم دبت مثل أيم لاذع
لم يحسن في تشبيهه دبيب الخمر في جسم شاربها بدبيب الحية اللاذعة، وقد أحسن في البيت الذي يليه جداً:
خفيت على شرابها فكأنهم ... يجدون رياً من إناء فارغ
قال: وأنشدني لعيسى بن وطيس كاتب المستنصر:
يا سيداً أرطت بالعبد سطوته ... ما كل رق مغضب حنق
أعتق وإلا فبع، كم ذا تعذبني؟ ... إن العبيد إذا عذبوا أبقوا
وقت مني بأن الحب قيدني ... أجل وحقك إني فوق ما تثق
ومعنى بيته الثني مما زيفه نقدة الشعر المعتزلون ولا يرضونه. وإنما يميلون إلى مثل ما قال أهل العصر:
لي مولى أقسى البرية قد قا ... سيت الهموم والأشواقا
قلت إذ لج في جفائي واحت ... ج عليه فساق نحوي السياقا
أيهذا المليك رأيك في سو ... ء امتلاكي فلن أروم الفراقا
قال: وأنشدني حبيب بن أحمد الأندلسي لنفسه ك
ثلاثون من عمري مضين فما الذي ... أؤمل من بعد الثلاثين من عمري
أطايب أيامي مضين حميدة ... سراعاً ولم أشعر بهن ولم أدر
كأن شبابي والمشيب يروعه ... دجى ليلة قد راعها وضح الفجر
وأنشدت لأحمد بن عبد الرحمن المتيم النحوي:
إذا ما نلت من دنياك حظاً ... فأحسن للغني وللفقير
ولا تمسك يديك على قليل ... فإن الله يأتي بالكثير
عبد المحسن بن محمد الصوري
أحد المحسنين الفضلاء، المجيدين الأدباء، وشعره بديع الألفاظ، حسن المعاني، رائق الكلام، مليح النظام، من محاسن أهل الشام، فمن شعره قوله:
أترى بثأر أم بدين ... علقت محاسنها بعيني
في خصرها وقوامها ... ولحاظها ما في الرديني
وبوجهها ماء الشبا ... ب خليط نار الوجنتين
بكرت علي وقالت اخ ... تر خصلة من خصلتين
إما الصدود أو الفرا ... ق فليس عندي غير ذين
فأجبتها ومدامعي ... منهلة كالمرزمين
يا هذه لا تعجلي ... إن حان بينك حان حيني
فكأنما قلت اذهبي ... فمضت مسارعة لبيني
قال: وأعطاه بعض الأمراء حسنة فلبسها أياماً، ثم باعها، ولبس عمامة لطيفة، ومشى، فقال بعض من رآه: ثقلت عليه العمامة فباعها. فقال ارتجالاً:
قالوا عسى ثقلت علي ... ه فباعها من غير عدم
والله ما ثقلت عل ... ي عمامتي بل خف كمي
وقوله:
وكم آمر بالصبر لم ير لوعتي ... وما صنعت نار الأسى بين أحشائي
ومن أين صبر وفي كل ساعة ... أرى حسناتي في موازين أعدائي؟
وقوله:
ومعتذر العذار إلى فؤادي ... لجرم سابق من مقلتيه
وكم أعرضت عنه فأعرضت بي ... عن الإعراض خضرة عارضيه
ولما قلت إن الشعر يسعى ... لقلبي في الخلاص سعى عليه
وقوله:
لحظات تترامى ... بي إلى المرمى القصي
طرحني من علي ... بين ألحاظ علي
فادعي رقي وما رق ... ي بدعوى المدعي
أنا عبد المحسن الصو ... ري لا عبد المسي
وقوله:
جنى ما جنى وانصرف ... وأنكر ثم اعترف
وظن بأن القصا ... ص يمنع منه الترف
سلوا صدغه لم جرى؟ ... ولما جرى لم وقف؟
وكان على أنه ... يجوز المدى فانعطف
وقوله:
بالذي ألهم تعذي ... بي ثناياك العذابا
والذي ألبس خدي ... ك من الورد نقابا
والذي صير حظي ... منك هجراً واجتنابا
ما الذي قالته عينا ... ك لقلبي فأجابا؟
وقوله:
تعلمت وجنته رقية ... لعقرب الصدغ فما تلسع
صمت عن العاذل في حبه ... أذني فما لي مسمع يسمع (1/98)
وقوله في صبي اسمه عمرو:
نادمني من وجهه روضة ... مشرقة يمرح فيها النظر
فانظر معي تنظر إلى معجز ... سيف علي بين جفني عمر
وقوله:
زففت إلى نبهان من عفو فكرتي ... عروساً غدا بطن الكتاب لها خدرا
فقبلها عشراً وهام بذكرها ... فلما ذكرت المهر طلقها عشرا
وأنشدني له وقد مر بقبر صديق له:
عجباً لي وقد مررت بآثا ... رك أني اهتديت قصد الطريق
أتراني نسيت عهدك يوماً ... صدقوا ما لميت من صديق
وقوله:
أمنون بدت لنا أم جفون ... حركات للسقم فيها سكون
بعتها ما حييت طول هجوعي ... بدموعي فأينا المغبون؟
وقوله:
تعلقته سكران من خمرة الصبا ... به غفلة عن لوعتي ولهيبي
وشاركني في حبه كل أغيد ... يشاركني في مهجتي بنصيب
فلا تلزموني غيرة ما عرفتها ... فإن حبيبي من أحب حبيبي
وقوله:
قلت وقد أوردني حبه ... موارداً ليس لها مصدر
أفسدت دنياي ولا دين لي ... تفسده فاصدع بما تؤمر
وقوله:
أتابعت أهل البيعة اليوم في دمي ... غلبت فخذ أخطارهم وتقدم
ولا تورثن عينيك سقمي فإنه ... حرام على الذمي ميراث مسلم
وقوله:
رأيت ما لم يره رائي ... ماء غدا يسبح في ماء
أومأت باللحظ إلى جسمه ... فكاد أن يدميه إيمائي
وقوله:
ظبي أقام قيامتي ... من قبل أن تأتي القيامه
عطب القلوب جفونه فعلام سموه سلامه؟
وقوله:
ولئن كنت قد رحلت بقلبي ... فاعلمي أن سر حبك فيه
لا تقولي ضيعته بعد بين ... ضيعيه إن شئت أو فاحفظيه
وقوله:
رقت فكادت لا ترى ... في كأسها إلا التماسا
لولا الحباب لخالها ... شرابها في الكأس كاسا
وقوله:
لما تبينت أن حبكم ... يحسن عندي وليس يحسن بي
بشرت طرفي بحسن عاقبتي ... فيكم وقلبي بسوء منقلبي
وقوله:
يا مطيع العذول في عصياني ... ومذيقي حرارة الهجران
اتق الله لا ترعني بالص ... د وجاز الإحسان بالإحسان
كيف أبقى على الزمان وهجرا ... نك مما جنت صروف الزمان
صرت أجفوك مكرهاً وعلى الح ... ب دليل من ناظري ولساني
فإذا عدت بالتجلد عنكم ... كذبتني نواظر الأجفان
كيف تجني ولا تخاف عقاباً ... وفؤادي معاقب غير جاني
خل ما بين مقلتيك وقلبي ... فعلينا يد من السلطان
لا تكونن ثالثاً لقويي ... ن فلو كان واحد لكفاني
لك والله في صميم فؤادي ... لذة الماء في فم العطشان
وقال يهجو بعض من أضافه:
وأخ مسه نزولي بقرح ... مثل ما مسني من الجوع قرح
قيل لي إنه جواد كريم ... والفتى يعتريه بخل وشح
بت ضيفاً له كما حكم الده ... ر وفي حكمه على الحر قبح
قال لي إذ نزلت وهو من السك ... رة والهم طافح ليس يصحو
لم تغربت قلت قال رسول الل ... ه والقول منه نصح ونجح
سافروا تغنموا فقال وقد قا ... ل تمام الحديث صوموا تصحوا
وقوله:
بدر تم يثنيه دعص وخوط ... عذري في عذاره مبسوط
أي در للثقب أي كتاب ... لو تأتت بصفحتيه الخطوط
وإذا اغتر قلت ظبي غرير ... وإذا افتر قلت در سقيط
وقوله:
يستوجب العفو الفتى إذا اعترف ... وتاب مما قد جناه واقترف
لقوله قل للذين كفروا ... إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف
وقوله:
طرة مسك وشار أخضر ... وثغر در ومقلتا جؤذر
ريم إذا رمت أن أكلمه ... كلمني من جفونه خنجر (1/99)
وإن تعوضت من عوارضه ... لثماً تجنى علي واستكبر
كأن خيلانه ووجنته ... سماء حسن نجومها تزهر
سبحان من صاغه على قدر ... فذلك الله خير من قدر
وقوله:
يا حار إن الركب قد حاروا ... فاذهب تجسس لمن النار
تبدو وتخبو إن خبت وقفوا ... وإن أضاءت لهم ساروا
قام عليها موقد مرشد ... له بفضل الزاد إيثار
فلا تلوموني إذا مسكم ... أو مسها من قربكم عار
وسائل يسأل عن حالتي ... قلت كما أسر الطين والقار
ما نظرة إلا لها سكرة ... كأنما طرفك خمار
هذا هوى يصدر عنه جوى ... تتلوه لوعات وأفكار
وهذه أفعالها هذه ... ما بعد رأي العين إخبار
ولست أعتد عليك الضنا ... ألست من جفنيك أمتار!
وقوله:
هواي الذي أبدى وأضمره يحيى ... وسؤلي في دار الخلود وفي الدنيا
وعيني التي أرعى بها من يودني ... وكفي التي أرمي الأعادي بها رميا
أأصبر عن يحيى وأطوي وصاله ... إذاً فطواني عنه صرف الردى طيا
كتمت الهوى جهدي ونفيت طاقتي ... وقد زاد حتى ما أطيق له نفيا
يود أناس لو عميت عن الصبا ... إذاً فأراني الله أعينهم عميا
فما بالهم لا قدس الله بالهم ... ولا حاط ميتاً منهم لا ولا حيا
يلومون في يحيى ولو أن لائماً ... رأى وجهه لاستقبح اللوم واستحيا
فيا منيتي كم فيك عاصيت عاذلاً ... أرى غيهم رشداً ورشدهم غيا
وكم جاءني ما قاله فيك كاشح ... فزدتك حباً كلما زادني نعيا
أأسمع فيك العذل ممن يلومني ... فلا سمعت أذني بعدهم شيا
فما أحسن الدنيا إذا كنت جانبي ... وإن غبت عن عيني فما أقبح الدنيا
وله يهجو:
حديثه كالحدث ... يرفث كل الرفث
يود من يسمعه ... لو أنه في جدث
وله يرثي:
قالوا ألمو تحضر علياً بعد ما ... دفنوه قلت هناك بئس المحضر
لا أستطيع أرى المعالي بينكم ... محمولة وأرى المكارم تقبر
لم يمض قبلك من أراه أسوة ... فأقول هذا مثل ذاك فأصبر
قد كنت جزءاً والأكارم كلهم ... جزء، ولكن الأقل الأكثر
ما كان أكثرهم وأنت جليسهم ... وأقلهم إذ شيعوك، وكبروا
ومما يتغنى به من شعره قوله:
ما عليها سهرت أم بت نائم ... بعد أن لا يلم بي طيف حالم
تسأل الناس كيف حالي ومن أع ... لم منها؟ وفاعل الشيء عالم
وغزال أغن أغيد ساجي الط ... رف مستحسن الخلائق ناعم
لم يصلني ولم يعدني وقال اك ... تم فماذا أسر حتى أكاتم
وقوله:
قبلتها أشتفي بقبلتها ... فزادني ذلك اللمى ألما
وساءلتني عن مبتدا سقمي ... مسقم جفنيك مسقمي بهما
وقوله:
يا علة الأجفان كفي كفي ... ما حملت منك وما استوثقت
وساعدينا واعلمي أنها ... قد نذرت قتلي وما أعتقت
وقوله:
أرى الليالي إذا عاتبتها جعلت ... تمن أن جعلتني من ذوي الأدب
وليس عند الليالي أن أقبح ما ... صنعن بي أن جعلن الشعر مكتسبي
إن كان لابد من مدح فها أنا ذا ... بحيث آمن في قولي من الكذب
وقوله:
إذا كسدت سوق الثناء فجوده ... طلوب لأسباب الثناء كسوب
تضيق بما تحوي يداه، وصدره ... بتفريق ما تحوي يداه رحيب
وقوله:
وغزال مثل الغزالة يحكي ... ها كمالاً إلا بقلب وود
رق جسماً فرق دمعي عليه ... فجرى مثل خده فوق خدي
وقوله:
والله ما عورضت في مهجتي ... إلا لأن أرفع عنها يدي (1/100)
الأهيف الأغيد والنفس ما ... آلفها للأهيف الأغيد
يعجبها أن ترتدي حسنه ... والحسن قد يردى به المرتدي
طوفان نوح طبق الأرض لا ... يبرح منها آخر المسند
طاف علينا فاستوينا على ال ... جودي من جود أبي أحمد
أبو العلا إذ ذكرت وابنها ... في غيره كم مصلح مفسد
لو كان من أحببته بعض ما ... في يده زارت بلا موعد
وقوله من قصيدة:
فتىً كلما قالوا تناهى صعوده ... إلى كل مجد خالف القول صاعدا
ترى كل ملقى المقاليد في الوغى ... إليه إذا لاقاه ألقى المقالدا
ولست ترى بيتاً من المجد أو ترى ... من الجود أركاناً له وقواعدا
لقد شرفت أبيات عوف وطهرت ... من الرجس حتى خلتهن معابدا
وكل يعاف الورد من بعد ربه ... وأرماح عوف لا تعاف المواردا
ينالون ما أمسى بعيداً مناله ... كأنهم طالوا الرماح سواعدا
وقلبت الهيجاء أعيان خلقهم ... فقد وثبوا أسداً ودبوا أساودا
على أن من لاقيت منهم مسالماً ... لقيت به نوء السماك مجاودا
وقوله:
ود حسدت على ما بي فواعجبي ... حتى على الموت لا أخلو من الحسد
ما بعتكم مهجتي إلا بوصلكم ... ولا أسلمها إلا يداً بيد
ومن قصيدة يقول في مدحها:
طالما جاد لي وظن بأن ال ... جود يبلي في كل يوم مجدد
بيمين طالت فكم تضرب الأي ... ام عني بها وكم تتجلد
أحسن الفعل بي فأحسنت قولاً ... فاشتبهنا فقيل جاد وجود
وقوله:
وغريرة مغرورة بجمالها ... وتظن أن المنتهى كالمبتدي
ظلت تناكرني الهوى من بعد ما اع ... ترفت به زمناً فقلت تقلدي
ليكن عقابك لي بقدر تجلدي ... لا بالنوى فضعيفة عنها يدي
وقوله في أبي الجيش حامد بن سلهم:
ما زال ينحلني أبو الجيش اسمه ... فيما يجد وكل يوم جودا
حتى غدوت أنا المسمى حامداً ... وغدا يسمى حامداً محمودا
وقوله:
نام الخليون من حولي فقلت لهم: ... ما كل عين لها عين تسهدها
لا تنكروا عقلتي عامين في يده ... فإن صيداء معروف تصيدها
كأنما أهلها أهل المقيم بها ... فذلك الزهد في الأوطان يبعدها
وقال يهجو أخاه عبد الصمد:
قال لي: أنت أخو الكلب، وفي ... ظنه أن قد تناهى واجتهد
أحمد الله كثيراً أنه ... ما درى أني أخو عبد الصمد
وقوله من قصيدة أولها:
لا يتماديك على هجري ... ولا بإكثارك من ذكري
عهدتكم من حيث عاهدتكم ... لم تعرفوا شيئاً سوى الغدر
فما لكم لما نذرتم دمي ... صرتم من الموفين بالنذر
جاءت عطاياك موفرة ... فلم يكن عندي سوى النشر
مقرونة بالعذر إني لفي الت ... قصير أولى منك بالعذر
وقوله من قصيدة أولها:
حتى متى كل مشتك زاجر ... واللوم مثل الهوى بلا آخر
كم عاذل عاشق وكنت أرى ... أن الذي جرب الهوى عاذر
يا نافراً نفرة الغزال وكا ... ن الحزم لو أنني أنا النافر
يبيت ما تستعد مقلته ... من خمرها فوق ثغره قاطر
فطرفه عاصر وليس به ... خمر وفوه خمرر بلا عاصر
وشادن طائف على نفر ... شخص الكرى من يمينه دائر
صرعهم حوله وأوجسهم ... بما اشتكى نائب له ساهر
فحثني ساعة فلم ترني ... في أثر القوم بعدهم سائر
فقال أوصيك بي وأسلمه ال ... صبر على رغمه إلى الصابر
فبت في روضه ألف على الغادة طرفي وأمرح الناظر
يقول في مدحه بالكتابة وأجاد: (1/101)
لا يخطر الفكر في كتابته ... كأن أقلامه لها خاطر
الول والفضل يجريان معاً ... لا أول فيهما ولا آخر
وقوله:
وأغن أغيد، وده ... مستأنس بي، وهو نافر
إن قلت زرني قال نم ... فالطيف ليس يزور ساهر
ويقول لي فيما يقو ... ل نعموما للقول آخر
حتى أشاور قلت ل ... كني هويت ولم أشاور!
وقوله:
سهلت عنده المسالك حتى ... أوصلته إلى العلا وهي وعره
ثم هامت به المعالي فصارت ... تتقي صده وتحذر هجره
وقوله من قصيدة يقول فيها:
هلموا اسلوا عن سلو يباع ... أو استخبروا عن كرى يكترى
هل الناس مثلي؟ وإلا فما ... أشد القلوب وما أصبرا
وصفراء تنفذ من كأسها ... فتترك ما حولها أصفرا
بمد إذا شعشعت كالهباء ... لمن كان قدامها أو ورا
وفي القوم من لم يكن عنده ... إذا سكر القوم أن يسكرا
سقاني وشد معي مئزراً ... فما شد من بعدها مئزرا
وقوله:
عندي حدائق شكر غرس جودكم ... قد مسها عطش فليسق من غرسا
تداركوها وفي أغصانها رمق ... فلن يعود أخضر العود إن يبسا
وقوله من قصيدة يقول في مدحها:
بئس السياسة والرياسة منزل ... أصبحت وحدك في ذراه مقيما
وجعلت تفعل مثل ما فعل الألى ... فيه وتتخذ الخطوب خصوما
ولو اختصرت على القديم كفى العلا ... إن القديم ليوجب التدما
للحادثات معي حديث مبهم ... أضحى النهار علي منه بهيما
وصناعتي عربية وكأنني ... ألقى بأكثر ما حفظت الروما
فلمن أقول وما أقول فأين بي ... فأسير أولا أين بي فأقيما
وإذت شكوت إلى امرئ ما حل بي ... فأقول يرحمني أراه حليما
وقوله من قصيدة يقول فيها:
يروح إلى كسب الثناء ويغتدي ... إذا كان هم الناس كسب الدراهم
وإن جلس الأقوام عن واجب الندى ... وحق العطايا كان أول قائم
يزيد ابتهاجاً كلما جاء قاصد ... كان به شوقاً إلى كل قادم
وقوله:
إن لها من لوعة شانا ... أضرمت الأحشاء نيرانا
وحالفت دمعي فلم يطفها ... وقد جرى سحاً وتهتانا
وآل ما زال عدواً لها ... مذ كانت النار ومذ كانا
لكن في حيني وفي شقوتي ... ما يجعل الأعداء خلانا
وغادة قمت لتوديعها ... أسعى إلى التفريق عجلانا
فغاض دمعي وجرى دمعها ... زوراً على الحب وبهتانا
ثم انتثت قائلة: ما له ... لم يبكه البين وأبكانا؟
فقلت: جار الدمع في حكمه ... ففاض من أجفان أجفانا
وقوله:
ما زال يبني كعبةً للعلا ... ويجعل الجود لها ركنا
حتى أتى الناس فطافوا بها ... وقبلوا راحته اليمنى
وقوله في أبي الجيش حامد بن سلهم:
أبا الجيش، حسب الشعر ما أنت صا ... نع فقد عجزت عن وصف ذاك القصائد
أما انصلحت للمال منك طوية ... فتصلحه حتى متى أنت حاقد
سبقت بني الدنيا فما هب قائم ... سواك إلى جود ولا قام قاعد
وقوله:
ومن بني القواد من بغته ... عن سيفه سيوف أجفانه
سلطان عينيه له سطوة ... أشد من سطوة سلطانه
وقوله:
يا ذا الذي في خده ... جيشان من زنج وروم
هذا يغير على القلو ... ب وذا يغير على الجسوم
إني وقفت من الهوى ... في موقف ضنك عظيم
كوقوف عارضك الذي ... قد حار في ماء النعيم
وقوله:
غنتني يا أعز ذا الخلق عندي ... حي نجداً ومن بأكناف نجد
واسقني ما يصير ذو البخل منه ... حاتماً والجبان عمرو بن معدي (1/102)
لي وما فوق وجنتيك من الو ... رد مدام كالمسك في لون ورد
فاسقنيها ملأى فقد فضح اللي ... ل هلال كأنه فتر رند
والثريا خفاقة بجناح ال ... غرب تهوي كأنها رأس فهد
في أوان الشباب عاجلني الشي ... ب فهذا من اول الدن دردي
وقوله:
إن خيالاً زارنا وهنا ... من عندكم هاج لنا حزنا
أحبابنا، لا بلغت منكم ... أيدي النوى ما بلغت منا
فلم يغب عنكم على بعدكم ... ما فعلت غيبتكم عنا
أيسر ما في عهدكم أننا ... لما حفظنا عهدكم ضعنا
أحمد بن سليمان الفجري
شاعر ماهر، كتب إلى عبد المحسن الصوري هذه الأبيات:
أعبد المحسن الصوري لم قد ... جثمت جثوم منهاض كسير؟
فإن البحر يحمل هضب رضوى ... ويستثني بركن من ثبير
وإن حاولت سير البر يوماً ... فلست بمثقل ظهر البعير
إذا استحلى أخوك قلاك يوماً ... فمثل أخيك موجود النظير
تحرك عل أن تلقى كريماً ... تزول بقربه إحن الصدور
فما كل البرية من تراه ... ولا كل البلاد بلاد صور
فأجابه عبد المسن:
جزاك الله عن ذا النصح خيراً ... ولكن جاء في الزمن الأخير
وقد حدت لي السبعون حداً ... نهى عما امررت من المسير
ومذ صارمت نفوس الناس حولي ... قصاراً عدت بالأمل القصير
أبو حامد أحمد بن محمد الأنطاكي
المعروف بأبي الرقعمق
نادرة الزمان، وجملة الإحسان، وممن تصرف بالشعر الجزل، في أنواع الجد والهزل، وأحرز قصب الفضل، وهو أحد المداح المجيدين، والفضلاء المحسنين، وهو بالام كابن حجاج بالعراق، فمن غرر محاسنه قوله يمدح من قصيدة أولها:
قد سمعنا مقاله واعتذاره ... وأقلناه ذنبه وعثاره
والمعاني لمن عنيت، ولكن ... بك عرضت فاسمعي يا جاره
من مراديه أنه أبد الده ... ر تراه محللاً أزراره
عالم أنه عذاب من الل ... ه مباح لأعين النظارة
هتك الله ستره فلكم هت ... ك من ذي تستر أستاره
سحرتني ألحاظه وكذا ك ... ل مليح لحاظه سحاره
وما على مؤثر التباعد والإع ... راض لو آثر الرضى والزياره
وعلى أنني وإن كان قد عذ ... ب بالهجر مؤثر إيثاره
لم أزل لا عدمته من حبيب ... أشتهي قربه وآبى نفاره
يقول في مدحها:
لم يدع للعزيز في سائر الأر ... ض عدواً إلا وأخمد ناره
فلهذا اجتباه دون سواه ... واصطفاه لنفسه واختاره
لم تشيد له الوزارة مجداً ... لا ولا قيل رفعت مقداره
بل كساها وقد تخرمها الده ... ر جلالاً وبهجةً ونضاره
كل يوم له علىنوب الده ... ر وكر الخطوب بالبذل غاره
ذو يد شأنها الفرار من البخ ... ل وفي حومة الوغى كراره
هي فلت عن العزيز عداه ... بالعطايا وكثرت أنصاره
هكذا كل فاضل يده تم ... سي وتضحي نفاعة ضراره
فاستجره فليس يأمن إلا ... من تفيا بظله واستجاره
فإذا ما رأيته مطرقاً يع ... مل فيما يريده أفكاره
لم يدع بالذكاء والذهن شيئاً ... في ضمير الغيوب إلا أناره
لا ولا موضعاً من الأرض إلا ... كان بالرأي مدركاً أقطاره
زاده الله بسطة وكفاه ... خوفه من زمانه وحذاره
وقوله من أخرى أولها:
إن ربعاً عرفته مألوفا ... كان للبيض مربعاً ومصيفا
غيرت آية صروف الليالي ... ودا عنه حسنه مصروفا
ما مررنا عليه إلا وقفنا ... وأطلنا شوقاً إليه الوقوفا (1/103)
آلفاً فيه للبكاء كأني ... لم أكن فيه للغواني ألوفا
حاسداً للجفون لما أزالت ... في مغانيه دمعها المذروفا
إن يعقوب قد أفاد وأقنى ... وأعاد الندى وأغنى الضعيفا
يل سيفاً من البصيرة والرأ ... ي فأغناه أن يسل السيوفا
باذلاً للعزيز تخوض المنايا ... وترد الردى وتلقى الصفوفا
ناصحاً مشفقاً محباً ودوداً ... قائماً في رضاه صعباً عسوفا
ليس يخشى فساد أمر تولاه ... وأضحى برأيه مكنوفا
ما رأيناه قط إلا رأينا ... خلقاً طاهراً وفعلاً شريفا
ورأينا قرماً كبيراً همامً ... منعماً مضلاً رحيماً رؤوفا
لذ طعم العطاء وهو إذا جا ... د وأعطى يرى الكثير طفيفا
خلق منه منذ كان كريميستلذ الندى ويقري الضيوفا
ويريش الفقير بالبذل والجو ... د ويعطي ويسعف الملهوفا
فأرانا الإله صرف الليالي ... أبداً عن فنائه مصروفا
وقوله من أخرى:
حي الخيام فإني ... مغرى بأهل الخيام
بالراميات فؤادي ... بصائبات السهام
أسقمتني وتألي ... ن لأشفين سقامي
أيام وصلي حرام ... والهجر غير حرام
لا عذب الله قلبي ... إلا بطول الغرام
سقياً لدهر تولى ... بشرتي وغرامي
كأنما ذلك العي ... ش كان في الأحلام
لم يبق من نرتجيه ... لحادث الأيام
إلا ابن أحمد ذو الطو ... ل والأيادي الجسام
كفاه أغدق جوداً ... من واكفات الغمام
يلقى العفاة بوجهه ... مستبشر بسام
معظماً ترتجيه ... للنائبات العظام
يرمي الخطوب برأي ... أمضى من الصمصام
قرم له عزمات ... تفل حد الحسام
وله من أخرى:
توهمت أمراً فلم أنبس ... بحرف وناديت بالأكؤس
حميا كأن سنا نورها ... سنا بارق لاح في الحندس
يعاطيكها رشأ طرفه ... سريع إلى تلف الأنفس
بخد يروقك توريده ... وعين تنوب عن النرجس
يقول في مدحها:
له قلم أبداً ناطق ... بأسعد قوم بالأنحس
إذا ما انتضاه لأمر رمى ... به الدهر عن صائبات القسي
رآه الوزير على غاية ... من الفضل تعلو على الخنس
ومن أخرى:
أظن ودادها من غير نية ... وهل هي فيه إلا مدعيه
فتاة لا تمل عذاب قلبي ... ولا تخليه وقتاً من أذيه
ولا ذنب له إلا التوافي ... لمن في الحب ليست بالوفيه
ويعجبني التمنع والتشاجي ... من الخود الممنعة الشجيه
فوا أسفاً على حر يعزي ... أخا رزء على عظم الرزيه
ومنها:
وذلك أن إيري فيه رطل ... وما في حرها إلا وقيه
ومن بعث المدام فليس بد ... ولاتك غير بكر بابليه
فثم هناك حر شافعي ... عظيم الشأن واست مالكيه
ونفسي غير مائلة إليها ... لأحوال مقبحة بذيه
أحب دنوها وتحب قربي ... وهذا لا يكون بلا بليه
وما لاقيتها إلا تلاقى ... مبالانا بإسقاط التقيه
وهذا الرأي لا رأي سواه ... فلا تحفل بأقوال الرعيه
ولا عيش سوى تقليب بظر ... وثقب من صبي أو صبيه
على أن أقول بكل شيء ... سوى نيك العجوز القذمليه
ولا ألوي على أحد يراني ... بعين النقص والحال الدنيه
ومن نال العلاء حجاً ومجداً ... وأفعالاً مهذبة سنيه
تشابه خلقه والخلق حسناً ... وحسبك بالنفاسة والسجيه
تشاهد منه طوداً مشمخراً ... وأفعال الملوك الكسرويه (1/104)
له أقلام كيف يشاء تجري ... بتأييد القضاء بالمشيه
كأن اللفظ في القرطاس زهر ... تفتح عن معان معنويه
ومن أخرى:
كفى ملامك ياذات الملامات ... فما أريد بديلاً بالرقاعات
كأنني وجنود الصفع تتبعني ... وقد تولت مزامير الرطانات
قسيس دير تلا مزمار سحراً ... على القسوس بترجيع ورنات
وقد مجنت وعلمت المجون فما ... أدعي بشيء سوى رب المجانات
وذاك أني رأيت العقل مطرحاً ... فجئت أهل زماني بالحماقات
إني سأدخل عذالي على عذل ... في الحب أن عذلوني في الحرامات
أفدي الذين نأوا والدار دانية ... وشتتوا بالجفا شمل المودات
كم قد نتفت سبالي في صدورهم ... والصد أصعب من نتف السبالات
سقياً ورعياً لأيام لنا سلفت ... بالقفص قصرها طيب اللذاذات
إذا لا أروح ولا أغدر إلى وطن ... إلا إلى ربع خمار وحانات
أيام أسحب أذيال الهوى مرحاً ... مصرعاً بين سكرات ونشوات
عوضت منهن أحزانا تؤرقني ... بعد السرور وفرحات بترحات
لولا عذار تعالى كيف صوره ... رب العباد اتعذيبي وحسراتي
كأنه مشقة من خد من شقيت ... روحي بهجرانه أو عطف نونات
لما حللت بدار مالها أحد ... إلا أناس تواصوا بالخساسات
لو كنت بين كرام ما تهضمني ... دهر أناخ على أهل المروءات
ومنها:
لو نيل بالمجد في العلياء منزلة ... لنال بالمجد أعنان السموات
يرمي الخطوب برأي يستضاء به ... إذا دجا الرأي من أهل البصيرات
فليس تلقاه إلا عند عارفة ... أو واقفاً في صدور السمهريات
يا من غدت أوجه الأيام مشرقة ... بجوده مستهلات منيرات
مالي بلا سبب غودرت مطرحاً ... وقد حرمت عطاياك الجزيلات
ولي مدائح قدماً فيك سائرة ... مستطرفات بألفاظ طريفات
ومن أخرى:
كل بشعري مفتون ومشغوف ... وجيد الشعر منعوت وموصوف
كلفت من أمرهم ما لا أقوم به ... ومن يقوم بأمر فيه تكليف
لأنتفن سبالي طاعة لهم ... والذقن إن دام ذا الإعراض منتوف
أمسي وأصبح مجفواً ومطرحاً ... هذا ورأسي وما والاه مكشوف
وبي وعندي وفي ملكي ولا رزقوا ... رزقي قذال أصم السمع مكفوف
من تلك أقفية القوم الكشاخنة ال ... فدم الذين لهم منها مجاديف
مفوقات بتنفيش وأطبعها ... لا شك ما فيه تنفيش وتفويف
معطوفة وبنفسي يا ابن أم قفا ... على الأخادع مثني ومعطوف
كم قاتل ويداه في أطايبه ... وطيب الشيء مجني ومقطوف
فإن يكن ذا فلا غرو ولا حرج ... فلليالي وللأيام تصريف
هذا الذي من رآه دون ملمسه ... لم يأكل اللحم إلا وهو معلوف
ولم يمد إلى رأس على طرب ... يديه إلا وفي اليمنى تطاريف
بينا يرى الثوب منشوراً بلا سبب ... حتى يرى وهو بعد النشر ملفوف
فكم ألام؟ وكم ألحى؟ وهل حمقي ... إلا نتيجة رأس فيه تخفيف؟
ألفته حسب مالي من محبته ... دون البرية والمحبوب مألوف
إلف المكارم والجدوى فتى أسد ... محمد خير من ناداه ملهوف
حر إذا ذكر الأحرار مشتمل ... على السماح ببذل العرف معروف
بمثله نماء كرام سادة نجب ... شم الأنوف بها ليل غطاريف