صدر هذا الكتاب آليا بواسطة الموسوعة الشاملة
(اضغط هنا للانتقال إلى صفحة الموسوعة الشاملة على الإنترنت)


الكتاب : يتيمة الدهر
المؤلف : الثعالبي
مصدر الكتاب : الوراق

[ الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع ]

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله خير ما بدئ به الكلام وختم، وصلى الله على النبي المصطفى وآله وسلم.
أما بعد فإن محاسن أصناف الأدب كثيرة، ونكتها قليلة، وأنوار الأقاويل موجودة، وثمارها عزيزة وأجسام النثر والنظم جمة، وأرواحهما نزرة، وقشورهما معرضة، ولبوبها معوزة. ولما كان الشعر عمدة الأدب، وعلم العرب الذي اختص به عن سائر الأمم، وبلسانهم جاء كتاب الله المنزل، على النبي منهم المرسل، صلوات الله عليه وآله وسلم، كانت أشعار الإسلاميين أرق من أشعار الجاهليين، وأشعار المحدثين ألطف من أشعار المتقدمين، وأشعار المولدين أبدع من أشعار المحدثين، وكانت أشعار العصريين أجمع لنوادر المحاسن، وأنظم للطائف البدائع من أشعار سائر المذكورين؛ لانتهائها إلى أبعد غايات الحسن، وبلوغها أقصى نهايات الجودة والظرف، تكاد تخرج من باب الإعجاب إلى الإعجاز، ومن حد الشعر إلى حد السحر، فكأن الزمان ادخر لنا من نتائج خواطرهم، وثمرات قرائحهم، وأبكار أفكارهم أتم الألفاظ والمعاني استيفاء لأقسام البراعة، وأوفرها نصيباً من كمال الصنعة، ورونق الطلاوة.
وكذاك قد ساد النبي محمد ... كل الأنام وكان آخر مرسل
وقد سبق مؤلفوا الكتب إلى ترتيب المتقدمين من الشعراء، وذكر طبقاتهم ودرجاتهم، وتدوين كلماتهم، والانتخاب من قصائدهم ومقطوعاتهم، فكم من كتاب فاخر عملوه، وعقد باهر نظموه، لا يشينه الآن إلا نبو العين من إخلاق جدته، وبلى بردته، ومج السمع لمردداته، وملالة القلب من مكرراته. وبقيت محاسن أهل العصر التي معها رواء الحداثة، ولذة الجدة، وحلاوة قرب العهد، وازدياد الجودة على كثرة النقد، غير محصورة بكتاب يضم نشرها، وينظم شذرها، ويشد أزرها، ولا مجموعة في مصنف يقيد شواردها، ويخلد فوائدها، وقد كنت تصديت لعمل ذلك في سنة أربع وثمانين وثلثمائة، والعمر في إقباله، والشباب بمائة، فافتتحته باسم بعض الوزراء مجرياً إياه مجرى ما يتقرب به أهل الأدب إلى ذوي الأخطار والرتب، ومقيماً ثمار الورق، مقام نثار الورق، وكتبته في مدة تقصر عن إعطاء الكتاب حقه، ولا تتسع لتوفية شرطه، فارتفع كعجالة الراكب، وقبسة العجلان، وقضيت به حاجة في نفسي. وأنا لا أحسب المستعيرين يتعاورونه، والمنتسخين يتداولونه، حتى يصير من أنفس ما تشح عليه أنفس أدباء الإخوان، وتسير به الركبان إلى أقاصي البلدان، فتواترت الأخبار، وشهدت الآثار، بحرص أهل الفضل على غدره وعدهم إياه من فرص العمر وغرره واهتزازهم لزهره، واقتفارهم لفقره، وحين أعرته على الأيام بصري، وأعدت فيه نظري، تبينت مصداق ما قرأته في بعض الكتب: أن أول ما يبدو من ضعف ابن آدم أنه لا يكتب كتاباً فيبيت عنده ليلة إلا أحب في غدها أن يزيد فيه أو ينقص منه، هذا في ليلة واحدة فكيف في سنسن عدة؟ ورأيتني أحاضر بأخوات كثيرة لما فيه وقعت بأخرة إلى، وزيادات جمة عليه حصلت من أفواه الرواة لدي. فقلت: إن كان لهذا الكتاب محل من نفوس الأدباء، وموقع من قلوب الفضلاء، كالعادة فيما لم يقرع من قبل آذانهم، ولم يصافح أذهانهم، فلم لا أبلغ به المبلغ الذي يستحق حسن الإحماد، ويستوجب من الاعتداد أوفر الأعداد؟ ولم لا أبسط فيه عنان الكلام، وأرمي في الإشباع والاتمام هدف المرام؟ فجعلت أبنيه وأنقصه، وأزيده وأنقصه، وأمحوه وأثبته، وأنتسخه ثم أنسخه، وربما أفتتحه ولا أختتمه، وأنتصفه فلا أستتمه، والأيام تحجز، وتعد ولا تنجز، إلى أن أدركت عصر السن والحنكة، وشارفت أوان الثبات والمسكة، فاختلست لمعة من ظلمة الدهر، وانتهزت رقدة من عين الزمان، واغتنمت نبوة من أنياب النوائب، وخفة من زحمة الشوائب، واستمررت في تقرير هذه النسخة الأخيرة، وتحريرها من بين النسخ الكثيرة، بعد أن غيرت ترتيبها، وجددت تبويبها، وأعدت ترصيفها، وأحكمت تأليفها. وصار مثلي فيها كمثل من يتأنق في بناء داره التي هي عشه، وفيها عيشه، فلا يزال ينقض أركانها، ويعيد بنيانها، ويستجدها على أنحاء عدة، وهيئات مختلفة، ويستضيف إليها مجالس كالطاووس، ويستحدث فيها كنائس كالعرائس ثم يقورها آخر الأمور قوراء توسع العين قرة، والنفس مسرة. ويدعها حسناء تخجل منها الدور، وتتقاصر عنها القصور. فإن مات فيها مغفوراً له انتقل من جنة إلى أخرى، وورد من جنة الدنيا إلى جنة المأوى.

(1/1)


فهذه النسخة الآن تجمع من بدائع أعيان الفضل، ونجوم الأرض من أهل العصر، ومن تقدمهم قليلاً وسبقهم يسيراً، ما لم تأخذ الكتب العتيقة غرره، ولم تفتض عذره، ولم ينتقص قدم العهد وتطاول المدة زبره وتشتمل من نسج طباعهم، وسبك أفهامهم، وصوغ أذهانهم، على الحلل الفاخرة الفائقة، والحلى الرائقة الشائقة. وتتضمن من طرفهم وملحهم لطائف أمتع من بواكير الرياحين والثمار، وأطيب من فوح نسيم الأسحار، بروائح الأنوار والأزهار، ما لم تتضمنه النسخة السائرة الأولى.
والشرط في هذه الأخرى إيراد لب اللب، وحبة القلب، وناظر العين، ونكتة الكلمة، وواسطة العقد، ونقش الفص، مع كلام في الإشارة إلى النظائر والأحاسن والسرقات، وأخذ في طريق الاختصار، ونبذ من أخبار المذكورين، وغرر من فصوص فصول المترسلين، يميل إلى جانب الاقتصار. فإن وقع في خلال ما أكتبه البيت والبيتان - مما ليس من أبيات القصائد، ووسائط القلائد - فلأن الكلام معقود به، والمعنى لا يتم دونه ولأن ما يتقدمه أو يليه مفتقر إليه، أو لأنه شعر ملك أو أمير أو وزير أو رئيس خطير، أو إمام من أهل الأدب والعلم كبير. وإنما ينفق مثل ذلك بالانتساب إلى قائله، لا بكثرة طائله.
وخير الشعر أكرمه رجالاً ... وشر الشعر ما قال العبيد
وإن أخرت متقدماً فعذري فيه أن العرب قد تبدأ بذكر الشيء والمقدم غيره، كما قال الله تعالى: " هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن " وقال تعالى: " يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين " وكما قال حسان ابن ثابت: وذكر بني هاشم:
بها ليل منهم جعفر وابن أمه ... علي، ومنهم أحمد المتخير
وكما قال الصلتان العبدي:
فملتنا أننا مسلمون ... على دين صديقنا والنبي
وإن قدمت متأخراً فسبيله على ما قال إبراهيم الموصلي لمسرور، وقد تقدمه في المسير: إن تقدمتك كنت مطرقاً لك، وإن تأخرت فلحق الخدمة.
وقال أبو محمد المزني للملك نوح في مثل تلك الحال: إن تقدمت فحاجب، وإن تأخرت فذاك واجب.
ثم إن هذا الكتاب المقرر ينقسم إلى أربعة أقسام: يشتمل كل قسم منها على أبواب وفصول: القسم الأول: في محاسن أشعار آل حمدان، وشعرائهم، وغيرهم من أهل الشام وما يجاورها ومصر والموصل والمغرب ولمع من أخبارهم.
القسم الثاني: في محاسن أشعار أهل العراق، وإنشاء الدولة الديلمية من طبقات الأفاضل، وما يتعلق بها من أخبارهم ونوادرهم، وفصوص من فصول المترسلين منهم.
القسم الثالث: في محاسن أشعار أهل الجبال وفارس وجرجان وطبرستان وأصفهان من وزراء الدولة الديلمية وكتابها وقضاتها وشعرائها وسائر فضلائها، وما ينضاف إليها من أخبارهم وغرر ألفاظهم.
القسم الرابع: في محاسن أشعار أهل خراسان وما وراء النهر من إنشاء الدولة السامانية والغزنية، والطارئين على الحضرة ببخارى من الآفاق، والمتصرفين على أعمالهم، وما يستطرف من أخبارهم، وخاصة أهل نيسابور والغرباء الطارئين عليها والمقيمين بها.
وفيما لم يقع إلي من جنس هذا الكتاب كثرة، ولعله يزيد على ما حصل لدي، ومن يقدر على حصر الأنفاس وضبط بنات الأفكار؟ وفي الزوايا خبايا، ولا نهاية للخواطر، ولا منقطع لمواد المحاسن، وما على المؤلف إلا جهده، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
القسم الأول
في محاسن أشعار آل حمدان وشعرائهم
وغيرهم من أهل الشام، وما يجاورها من مصر والموصل ولمع من أخبارهم وفيه عشرة أبواب
الباب الأول من القسم الأول
في فضل شعراء الشام على سائر البلدان
وذكر السبب في ذلك
لم يزل شعراء عرب الشام وما يقاربها من شعراء عرب العراق وما يجاورها، في الجاهلية والإسلام، والكلام يطول في ذكر المتقدمين منهم، فأما المحدثون فخذ إليك منهم العتابي. ومنصوراً النمري، والأشجع السلمي ومحمد بن زرعة الدمشقي، وربيعة الرقي. على أن في الطائيين اللذين انتهت إليهما الرئاسة في هذه الصناعة كفاية، وها هما.
ومن مولدي أهل الشام المعوج الرقي، والمريمي، والعباسي المصيصي، وأبو الفتح كشاجم، والصنوبري، وأبو المعتصم الأنطاكي، وهؤلاء رياض الشعر، وحدائق الظرف.
فأما العصريون ففيما أسوقه من غرر أشعارهم أعدل الشهادات على تقدم أقدامهم.

(1/2)


والسبب في تبريز القوم قديماً وحديثاً على من سواهم في الشعر: قربهم من خطط العرب ولا سيما أهل الحجاز، وبعدهم عن بلاد العجم، وسلامة ألسنتهم من الفساد العارض لألسنة لأهل العراق لمجاورة الفرس والنبط، ومداخلتهم إياهم، ولما جمع شعراء العصر من أهل الشام بين فصاحة البداوة وحلاوة الحضارة، ورزقوا ملوكاً وأمراء من آل حمدان وبني ورقاء هم بقية العرب، والمشغوفون بالأدب، والمشهورون بالمجد والكرم، والجمع بين أدوات السيف والقلم، وما منهم إلا أديب جواد، يحب الشعر وينتقده، ويثيب على الجيد منه فيجزل ويفضل - انبعثت قرائحهم في الإجادة، فقادوا محاسن الكلام بألين زمام، وأحسنوا وأبدعوا ما شاءوا.
وأخبرني جماعة من أصحاب الصاحب أبي القاسم إسماعيل بن عباد أنه كان يعجب بطريقتهم المثلى، التي هي طريقة البحتري في الجزالة والعذوبة. والفصاحة والسلاسة، ويحرص على تحصيل الجديد من أشعارهم، ويستملي الطارئين عليه من تلك البلاد ما يحفظونه من تلك البدائع واللطائف، حتى كسر دفتراً ضخم الحجم عليها، وكان لا يفارق مجلسه، ولا يملأ أحد منه عينه غيره، وصار ما جمعه فيه على طرف لسانه، وفي سن قلمه، فطوراً يحاضر به في مخاطباته ومحاوراته، وتارة يحله أو يورده كما هو في رسائله، فمن ذلك قول القائل:
سلام على تلك المعاهد إنها ... شريعة وردي أو مهب شمالي
ليالي لم نحذر حزون قطيعة ... ولم نمش إلا في سهول وصال
فقد صرت أرضى من سواكن أرضها ... بخلب برق أو بطيف خيال
وقول الآخر:
إذا دنت المنازل زاد شوقي ... ولا سيما إذا بدت الخيام
فلمح العين دون الحي شهر ... ورجع الطرف دون السير عام
وقول الآخر:
فسقى الله بلدة أنت فيها ... كدموعي عند اعتراض الفراق
وأرانيك فالصبا قد ترقت ... يا بروحي إلى أعالي التراقي
وقول الآخر:
ووالله لا فارقت عقدة وده ... ولا حلت ما عمرت عن حفظ عهده
ولا بد أن الدهر كاشف أهله ... ويظهر للمولى موالاة عبده
وكان أبو بكر الخوارزمي في ريعان عمر، وعنفوان أمره، قد دوخ بلاد الشام، وحصل من حضرة سيف الدولة بحلب في مجمع الرواة والشعراء، ومطرح الغرباء الفضلاء، فأقام ما أقام بها مع أبي عبد الله بن خالويه، وأبي الحسن الشمشاطي، وغيرهما من أئمة الأدباء، وأبي الطيب المتنبي، وأبي العباس النامي، وغيرهما من فحول الشعراء، بين علم يدرسه، وأدب يقتبسه، ومحاسن ألفاظ يستفيدها، وشوارد أشعار يصيدها، وانقلب عنها وهو أحد أفراد الدهر، وأمراء النظم والنثر، وكان يقول: ما فتق قلبي، وشحذ فهمي، وصقل ذهني، وأرهف حد لساني، وبلغ هذا المبلغ بي، إلا تلك الطوائف الشامية، واللطائف الحلبية التي علقت بحفظي، وامتزجت بأجزاء نفسي، وغصن الشباب رطيب، ورداء الحداثة قشيب، وما كان أكثر ما ينشدني ويكتبني مما يضن به على غيري من تلك الغرر التي تجري مجرى السحر والملح التي يقطر منها ماء الظرف، وأنا أكتبها في أماكنها من أبواب هذا القسم الأول، بمشيئة الله تعالى.
وممن خرجته تلك البلاد، وأخرجته، وكلامه مقبول محبوب، آخذ بمجامع القلوب: القاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني، فإنه جنى ثمارها، واستصحب أنوارها، حتى ارتقى إلى المحل العلي، وتطبع بطبع البحتري.
مالباب الثاني
في ذكر سيف الدولة
أبي الحسن علي بن عبد الله بن حمدان وسياق قطعة من أخباره، وملح أشعاره

(1/3)


كان بنو حمدان ملوكاً وأمراء أوجههم للصباحة، وألسنتهم للفصاحة، وأيديهم للسماحة، وعقولهم للرجاحة، وسيف الدولة مشهور بسيادتهم، وواسطة قلادتهم وكان - رضي الله عنه وأرضاه، وجعل الجنة مأواه! - غرة الزمان، وعماد الإسلام، ومن سداد الثغور، وسداد الأمور، وكانت وقائعه في عصاة العرب تكف بأسها وتنزع لباسها وتفل أنيابها، وتذل صعابها، وتكفي الرعية سوء آدابها. وغزواته تدرك من طاغية الروم الثأر، وتحسم شرهم المثار، وتحسن في الإسلام الآثار. وحضرته مقصد الوفود، ومطلع الجود، وقبلة الآمال، ومحط الرحال، وموسم الأدباء، وحلبة الشعراء، ويقال: إنه لم يجتمع قط بباب أحد من الملوك - بعد الخلفاء - ما اجتمع ببابه من شيوخ الشعر، ونجوم الدهر، وإنما السلطان سوق يجلب إليها، ما ينفق لديها. وكان أديباً شاعراً محباً لجيد الشعر، شديد الاهتزاز لما يمدح به، فلو أدرك ابن الرومي زمانه لما احتاج إلى أن يقول:
ذهب الذين تهزهم مداحهم ... هز الكماة عوالي المران
كانوا إذا امتدحوت رأوا ما فيهم ... ملأ ريحيه منهم بمكان
وكان كل من أبي محمد عبد الله بن محمد الفياض الكاتب، وأبي الحسن علي بن محمد الشمشاطي، قد اختار من مدائح الشعراء لسيف الدولة عشرة آلاف بيت، كقول أبي الطيب المتنبي:
خليلي إني لا أرى غير شاعر ... فلم منهم الدعوى ومني القصائد
فلا تعجبا إن السيوف كثيرة ... ولكن سيف الدولة اليوم واحد
له من كريم الطبع في الحرب منتض ... ومن عادة الإحسان والصفح عامد
ولما رأيت الناس دون محله ... تيقنت أن الدهر للناس ناقد
ومن القصيدة المرموقة:
فلم يبق إلا من حماها من الظبا ... لما شفتيها والثدي النواهد
تبكي عليهن الباطريق في الدجى ... وهن لدينا ملقيات كواسد
بذا قضت الأيام ما بين أهلها ... مصائب قوم عند قوم فوائد
ومن شرف الإقدام أنك فيهم ... على القتل مرموق كأنك شاكد
وأن دماً أجريته بك فاخر ... وأن فؤاداً رعته لك حامد
وكل يرى طرق الشجاعة والندى ... ولكن طبع النفس للنفس قائد
نهبت من الأعمار ما لو حويته ... لهنئت الدنيا بأنك خالد
فأنت حسام الملك والله ضارب ... وأنت لواء الدين والله عاقد
أحبك يا شمس الزمان وبدره ... وإن لامني فيك السهى والفراقد
وذاك لأن الفضل عندك باهر ... وليس لأن العيش عندك بارد
وكقول السري بن أحمد الموصلي:
أعزمتك الشهاب أم النهار ... أراحتك السحاب أم البحار
خلقت منية ومنى فأضحت ... تمور بك البسيطة أو تمار
تحلي الدين أو تحمي حماه ... فأنت عليه سور أو سوار
سيوفك من شكاة الثغر برء ... ولكن للعدى فيها بوار
وكفاك الغمام الجون يسري ... وفي أحشائه ماء ونار
يمين من سجيتها المنايا ... ويسري من عطيتها اليسار
حضرنا والملوك له قيام ... تغض نواظراً فيها انكسار
وزرنا منه ليث الغاب طلقاً ... ولم نر قبله ليثاً يزار
فكان لجوهر المجد انتظام ... وكان لجوهر المدح انتثار
فعشت مخيراً لك في الأماني ... وكان على العدو لك الخيار
فضيفك للحيا المنهل ضيف ... وجارك للربيع الطلق جار
وكقول أبي فراس الحارث بن سعيد:
أشدة ما أراه فيك اليوم أم كرم ... تجود بالنفس والأرواح تصطلم
يا باذل النفس والأموال مبتسماً ... أما يهولك لا موت ولا عدم؟
لقد ظننتك بين الجحفلين ترى ... أن السلامة من وقع القنا تصم
نشدتك الله لا تسمح بنفس علا ... حياة صاحبها تحيا بها أمم
إذا لقيت رقاق البيض منفرداً ... تحت العجاج فلم تستكثر الخدم

(1/4)


تفدي بنفسك أقواماً صنعتهمو ... وكان حقهم أن يفتدوك هم
من ذا يقاتل من تلقى القتال به ... وليس يفضل عنك الخيل والبهم
تضن بالطعن عنا ضن ذي بخل ... ومنك في كل حال يعرف الكرم
لا تبخلن على قوم إذا قتلوا ... أثنى عليك بنو الهيجاء دونهم
ألبست ما لبسوا أركبت ما ركبوا ... عرفت ما عرفوا علمت ما علموا
هم الفوارس في أيديهم أسل ... فإن رأوك فأسد والقنا أجم
وكقول أبي العباس بن محمد النامي:
خلقت كما أرادتك المعالي ... فأنت لمن رجاك كما يريد
عجيب أن سيفك ليس يروى ... وسيفك في الوريد له ورود
وأعجب منه رمحك حين يسقى ... فيصحو وهو نشوان يميد
وكقول أبي الفرج الببغاء:
نداك إذا ضن الغمام غمام ... وعزمك إن فل الحسام حسام
فهذا ينيل الرزق وهو ممنع ... وذاك يرد الجيش وهو لهام
ومن طلب الأعداء بالمال والظبا ... وبالسعد لم يبعد عليه مرام
وكقول أبي الفرج الوأواء:
من قاس جدواك بالسحاب فما ... أنصف بالحكم بين شكلين
أنت إذا جدت ضاحك أبداً ... وهو إذا جاد دامع العين
وكقول أبي نصر بن نباتة وهو من شعراء العراق:
حاشاك أن تدعيك العرب واحدها ... يا من ثرى قدميه طينة العرب
فإن يكن لك وجه مثل أوجههم ... عند العيان فليس الصفر كالذهب
وإن يكن لك نطق مثل نطقهم ... فليس مثل كلام الله في الكتب
وكانت غمائم جوده تفيض، ومآثر كرمه تستفيض، فتؤرخ بها أيام المجد، وتخلد في صحائف حسن الذكر.
فصل في انفجار ينابيع جوده على الشعراء
حدثني أبو الحسن علي بن محمد العلوي الحسيني الهمداني الوصي، قال: كنت واقفاً في السماطين بين يدي سيف الدولة بحلب، والشعراء ينشدونه، فتقدم إليه أعرابي رث الهيئة، فاستأذن الحجاب في الإنشاد، فأذنوا له، فأنشد:
أنت علي وهذه حلب ... قد نفذ الزاد وانتهى الطلب
بهذه تفخر البلاد وبالأمير ... تزهى على الورى العرب
وعبدك الدهر قد أضر بنا ... إليك من جور عبدك الهرب
فقال سيف الدولة، " أحسنت، والله أنت! " . وأمر له بمائتي دينار.
وحكى ابن لبيب غلام أبي الفرج الببغاء أن سيف الدولة كان قد أمر بضرب دنانير للصلات في كل دينار منها عشرة مثاقيل، وعليه اسمه وصورته، فأمر يوماً لأبي الفرج منها بعشرة دنانير، فقال ارتجالاً:
نحن بجود الأمير في حرم ... نرتع بين السعود والنعم
أبدع من هذه الدنانير لم ... يجر قديماً في خاطر الكرم
فقد غدت باسمه وصورته ... في دهرنا عوذة من العدم
فزاده عشرة أخرى.
وكان أبو فراس يوماً بين يديه في نفر من ندمائه، فقال لهم سيف الدولة: أيكم يجيز قولي، وليس له إلا سيدي - يعني أبا فراس - :
لك جسمي تعله ... فدمي لم تحله
لك من قلبي المكا ... ن فلم لا تحله
فارتجل أبو فراس، وقال:
أنا إن كنت مالكاً ... فلي الأمر كله
فاستحسنه وأعطاه ضيعة بمنبج تغل ألفي دينار.
واستنشد سيف الدولة يوماً أبا الطيب المتنبي قصيدته التي أولها:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم ... وتأتي على قدر الكرام المكارم
وكان معجباً بها كثير الاستعادة لها، فاندفع أبو الطيب المتنبي ينشدها، فلما بلغ قوله فيها:
وقفت وما في الموت شك لواقف ... كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمةً ... ووجهك وضاح وثغرك باسم
قال: قد انتقدنا عليك هذين البيتين، كما انتقد على امرئ القيس بيتاه:
كأني لم أركب جواداً للذة ... ولم أتبطن كاعباً ذات خلخال
ولم أسبأ الزق الروي ولم أقل ... لخيلي كري كرة بعد إجفال
وبيتاك لا يلتئم شطراهما، كما ليس يلتئم شطرا هذين البيتين، وكان ينبغي لامرئ القيس أن يقول:

(1/5)


كأني لم أركب جواداً ولم أقل ... لخيلي كري كرة بعد إجفال
ولم أسبأ الزق الروي للذة ... ولم أتبطن كاعباً ذات خلخال
ولك أن تقول
وقفت وما في الموت شك لواقف ... ووجهك وضاح وثغرك باسم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ... كأنك في جفن الردى وهو نائم
فقال: أيد الله مولانا! إن صح أن الذي استدرك على امرئ القيس هذا كان أعلم بالشعر منه، فقد أخطأ امرؤ القيس وأخطأت أنا، ومولانا يعلم أن الثوب لا يعرفه البزاز معرفة الحائك، لأن البزاز يعرف جملته، والحائك يعرف جميلته وتفاريقه، لأنه هو الذي أخرجه من الغزلية إلى الثوبية، وإنما قرن امرؤ القيس لذة النساء بلذة الركوب للصيد! وقرن السماحة في شراء الخمر للأضياف بالشجاعة في منازلة الأعداء، وأنا لما ذكرت الموت في أول البيت أتبعته بذكر الردى - وهو الموت - ليجانسه، ولما كان وجه الجريح المنهزم لا يخلو من أن يكون عبوساً، وعينه من أن تكون باكية، قلت " ووجهك وضاح وثغرك باسم " لأجمع بين الأضداد في المعنى، وإن لم يتسع اللفظ لجميعها. فأعجب سيف الدولة بقوله، ووصله بخمسين ديناراً من دنانير الصلات، وفيها خمسمائة دينار.
وكان أبو بكر وأبو عثمان الخالديان من خواص شعراء سيف الدولة، فبعث إليهما مرة وصيفة ووصيفاً، ومع كل واحد منهما بدرة وتخت من ثياب مصر، فقال أحدهما من قصيدة طويلة، وهي:
لم يغد شكرك في الخلائق مطلقاً ... إلا ومالك في النوال حبيس
خولتنا شمساً وبدراً أشرقت ... بهما لدينا الظلمة الحنديس
رشأ أتانا وهو حسناً يوسف ... وغزالة هي بهجة بلقيس
هذا، ولم تقنع بذاك وهذه ... حتى بعثت المال وهو نفيس
أتت الوصيفة وهي تحمل بدرة ... وأتى على ظهر الوصيف الكيس
وبررتنا مما أجادت حوكه ... مصر، وزادت حسنه تنيس
فغدا لنا من جودك المأكول وال ... مشروب والمنكوح والملبوس
فقال له سيف الدولة: أحسنت إلا في لفظة " المنكوح " ، فليست مما يخاطب بها الملوك، وهذا من عجيب نقده.
حكى أبو إسحق إبراهيم بن هلال الصابي، قال: طلب مني رسول سيف الدولة - وكان قد قدم إلى الحضرة - شيئاً من شعري، وذكر أن صاحبه رسم له ذلك، فدافعته أياماً، ثم ألح علي وقت الخروج فأعطيته هذه الثلاثة الأبيات، وهي:
إن كنت خنتك في الأمانة ساعة ... فذممت سيف الدولة المحمودا
وزعمت أن له شريكاً في العلا ... وجحدته في فضله التوحيدا
قسماً لو أني حالف بغموسها ... لغريم دين ما أراد مزيدا
وقال فلما عاد الرسول إلى الحضرة، ودخلت عليه مسلماً، أخرج لي كيساً بختم سيف الدولة مكتوباً عليه اسمي، وفيه ثلاثمائة دينار.
نبذ من ذكر وقائعه وغزواته
حدث أبو عبد الله الحسين بن خالويه، قال: لما كانت الشام بيد الإخشيد محمد محمد بن طغج سار إليها سيف الدولة فافتتحها، وهزم عساكره عن صفين، فقال له المتنبي:
يا سيف دولة ذي الجلال ومن له ... خير الخلائف والأنام سمي
أو ما ترى صفين كيف أتيتها ... فانجاب عنها العسكر الغربي
فكأنه جيش ابن حرب رعته ... حتى كأنك يا علي علي
وقال أبو فراس من قصيدة طويلة:
أتى الشام لما استذأب البهم واغتدت ... بها أذؤب البيداء وهي قساور
فثقف منآد، وأصلح فاسد ... وذلل جبار، وأذعر ذاعر
وكان ظهر رجل في المغرب يعرف بالمبرقع يدعو الناس إلى نفسه، والتفت عليه القبائل، وافتتح مدائن من أطراف الشام، وأسر أبا وائل تغلب بن داود بن حمدان، وهو خليفة سيف الدولة على حمص، وألزمه شراء نفسه بعدد من الخيل وجملة من المال، فأسرع سيف الدولة من حلب يغذ السير جتى لحقه في اليوم الثالث بنواحي دمشق، فأوقع به، وقتله، ووضع السيف في أصحابه، فلم ينج إلا من سبق فرسه، وعاد سيف الدولة إلى حلب ومعه أبو وائل، وبين يديه رأس الخارجي على رمح، فقال أبو فراس يذكر ذلك:

(1/6)


وأنقذ من مس الحديد وثقله ... أبا وائل، والدهر أجدع صاغر
وآب ورأس القرمطي أمامه ... له جسد من أكعب الرمح ضامر
وهذا من أحسن ما قيل في الرأس المصلوب على الرمح.
ولبعضهم في مثل ذلك:
وعاد لكنه رأس بلا جسد ... يسري، ولكن على ساق بلا قدم
وقال أبو الطيب في خلاص أبي وائل:
ولو كنت في أسر غير الهوى ... ضمنت ضمان أبي وائل
فدى نفسه بضمان النضار ... وأعطى صدور القنا الذابل
ومناهم الخيل مجنوبة ... فجئن بكل فتىً باسل
كأن خلاص أبي وائل ... معاودة القمر الآفل
دعا فسمعت وكم ساكت ... على البعد عندك كالقائل
فلبيته بك في جحفل ... له ضامن وبه كافل
وعدت إلى حلب ظافراً ... كعود الحلي إلى العاطل
وكان سيف الدولة اصطنع بني كلاب، وأدناهم، وآمن سربهم، فقهروا العرب وعلت كلمتهم، إلى أن بدرت منهم جفوة أحفظته فأسرى إليهم، وأوقع بهم، وملك حرمهم وأموالهم، ثم صفح عنهم وكرم، وجمع الحرم، ووكل بهن الخدم وأفضل عليهن، فقال أبو الطيب من قصيدة:
فعدن كما أخذن مكرمات ... عليهن القلائد والملاب
يثبنك بالذي أوليت شكراً ... وأين من الذي تولي الثواب
وليس مصيرهن إليك شيناً ... ولا في صونهن لديك عاب
ولا في فقدهن بني كلاب ... إذا أبصرن غرتك اغتراب
وكيف يتم بأسك في أناس ... تصيبهم فيؤلمك المصاب
ترفق أيها المولى عليهم ... فإن الرفق بالجاني عتاب
هذا كلام ما لحسنه غاية.
وعين المخطئين هم، وليسوا ... بأول معشر خطئوا فتابوا
وأنت حياتهم غضبت عليهم ... وهجر حياتهم لهم عقاب
وما جهلت أياديك البوادي ... ولكن ربما خفي الصواب
وكم ذنب مولده دلال ... وكم بعد مولده اقتراب
وجرم جره سفهاء قوم ... وحل بغير جارمه العذاب
كأنما اقتبسه من قول الله سبحانه: " أتهلكنا بما فعل السفهاء منا " ونحو من هذا قول زياد في خطبته البتراء " والله لآخذن المحسن بالمسيء "
ولو غير الأمير غزا كلاباً ... ثناه عن شموسهم ضباب
وما أحسن ما كني عن الحرم بالشموس، وعن المحاماة دونهم بالضباب.
ولكن ربهم أسرى إليهم ... فما نفع الوقوف ولا الذهاب
كذا فليسر من طلب المعالي ... ومثل سراك فليكن الطلاب
وكتب إليه أبو فراس في تلك الحال يداعبه:
وما أنس لا أنس يوم المغار ... محجبة لفظتها الحجب
دعاك ذووها بسوء الفعال ... لما لا تشاء وما لا تحب
فوافتك تعثر في مرطها ... وقد رأت الموت من عن كثب
وقد خلط الخوف لما طلع ... ت دل الجمال بذل الرعب
تسرع في الخطو لا خفة ... وتهتز في المشي لا من طرب
فلما بدت لك دون البيوت ... بدا لك منهن جيش لجب
وما زلت، مذ كنت، تأتي الجميل ... وتحمي الحريم وترعى الحسب
وتغضب حتى إذا ما ملكت ... أطعت الرضا وعصيت الغضب
فكنت حماهن إذ لا حمى ... وكنت أباهن إذ ليس أب
فولين عنك يفدينها ... ويرفعن من ذيلها ما انسحب
ينادين بين خلال البيو ... ت لا يقطع الله نسل العرب
أمرت وأنت المطاع الكريم ... يبذل الأمان ورد النهب
وقد رحن من مهجات القلوب ... بأوفر غنم وأغلى نشب
فإن هن يا بن الكرام السراة ... رددن القلوب رددنا السلب
وقال أيضاً يمدحه ويذكر نسوة بني كلاب:
قد ضج جيشك من طول القتال به ... وقد شكتك إلينا الخيل والإبل

(1/7)


وقد درى الروم مذ جاورت أرضهم ... أن ليس يعصمهم سهل ولا جبل
في كل يوم تزور الثغر لا ضجر ... يثنيك عنه، ولا شغل، ولا ملل
فالنفس جاهدة، والعين ساهرة، ... والجيش منهمك، والمال مبتذل
توهمتك كلاب غير قاصدها ... وقد تكنفك الأعداء والشغل
حتى رأوك أمام الجيش تقدمه ... وقد طلعت عليهم دون ما أملوا
فاستقبلوك بفرسان أسنتها ... سود البراقع والأكوار والكلل
فكنت أكرم مسئول وأفضله ... إذا وهبن فلا من ولا بخل
ويقال: إن سيف الدولة غزا الروم أربعين غزوة له وعليه، فمنها أنه أغار على زبطرة وعرقة وملطية ونواحيها فقتل وأحرق وسبى، وانثنى قافلاً إلى درب موزار فوجد عليه قسطنطين بن فردس الدمستق فأوقع به وقتل صناديد رجاله، وعقب إلى للدانه وقد تراجع من هرب منها فأعظم القتل وأكثر الغنائم، وقد عبر الفرات إلى بلد الروم، ولم يفعله أحد قبله، حتى أغار على بطن هنزيط، فلما رأى فردس بعد مغزاة وخلو بلاد الشام منه غزا نواحي أنطاكية، فأسرى سيف الدولة يطوي المراحل: لا ينتظر متأخراً، ولا يلوي على متقدم، حتى عارضه بمرعش، فأوقع به وهزمه، وقتل رؤوس البطارقة، وأسر قسطنطين بن الدمستق، وأصابت الدمستق ضربة في وجهه، وأكثر الشعراء في هذه الوقعة، فقال أبو الطيب:
لكل امرئ من دهره ما تعودا ... وعادات سيف الدولة الطعن في العدا
وأن يكذب الإرجاف عنه بضده ... ويمسي بما تنوي أعاديه أسعدا
ورب مريد ضره ضر نفسه ... وهاد إليه الجيش أهدى وما هدى
ومنها:
سريت إلى جيحان من أرض آمد ... ثلاثاً، لقد أدناك ركض وأبعدا
فولى وأعطاك ابنه وجيوشه ... جميعاً ولم يعط الجميع لتحمدا
وما طلبت زرق الأسنة غيره ... ولكن قسطنطين كان له الفدا
وقال أبو فراس:
وآب بقسطنطين وهو مكبل ... تحف بطاريق به وزرازر
وولى على الرسم الدمستق هارباً ... وفي وجهه عذر من السيف عاذر
فدى نفسه بابن عليه كنفسه ... وللشدة الصماء تقنى الذخائر
وقد يقطع العضو النفيس لغيره ... وتدفع بالأمر الكبير الكبائر
وسار سيف الدولة لبناء الحدث - وهي قلعة عظيمة الشأن - فاشتد ذلك على ملك الروم، فجمع عظماء أهل مملكته، وجهزهم بالصليب الأعظم وعليهم فردس الدمستق، ثائراً بابنه قسطنطين في عدد لا يحصى، حتى أحاطوا بعسكر سيف الدولة، والتهبت الحرب، واشتد الخطب، وساءت ظنون المسلمين، ثم أنزل الله نصره، فحمل سيف الدولة يخرق الصفوف طلباً للدمستق، فولى هارباً، وأسر صهره وابن بنته، وقتل خلق كثير من الروم، وأكثر الشعراء في هذه الوقعة، فقال أبو الطيب وذكر الحدث:
بناها فأعلى والقنا تقرع القنا ... وموج المنايا حولها متلاطم
وكان بها مثل الجنون فأصبحت ... ومن جثث القتلى عليها تمائم
تفيت الليالي كل شيء أخذته ... وهن لما لما يأخذن منك غوارم
وذكر ولد الدمستق فقال:
وقد فجعته بابنه وابن صهره ... وبالصهر حملات الأمير الغواشم
مضى يشكر الأصحاب في فوته الظبا ... بما شغلتها هامهم والمعاصم
ويفهم صوت المشرفية فيهم ... على أن أصوات السيوف أعاجم
يسر بما أعطاك لا عن جهالة ... ولكن مغنوماً نجا منك غانم
وقال السري في بناء الحدث:
رفعت بالحدث الحصن الذي خفضت ... منه الحوادث حتى ذل جانبه
أعدته عدوياً في مناسبه ... من بعد ما كان رومياً مناسبه
فقد وفى عرضه بالبيد واعترضت ... طولاً على منكب الشعرى مناكبه
مصغ إلى الجو أعلاه فإن خفقت ... زهر الكواكب خلناها تخاطبه
كأن أبراجه من كل ناحية ... أبراجها والدجى وحف غياهبه
ولأبي فراس في ذكرها:

(1/8)


رأى الثغر مثغوراً فسد بسيفه ... فم الدهر عنه وهو سغبان فاغر
ملح شعر سيف الدولة
ومما أنشدني أبو الحسن محمد بن أحمد الإفريقي المتيم لسيف الدولة في وصف قوس قزح، وهو أحسن ما سمعت فيه على كثرته:
وساق صبيح للصبوح دعوته ... فقام وفي أجفانه سينة الغمض
يطوف بكاسات العقار كأنجم ... فمن بين منقض علينا ومنفض
وقد نشرت أيدي الجنوب مطارفاً ... على الجو دكناً والحواشي على الأرض
يطرزها قوس الغمام بأصفر ... على أحمر في أخضر تحت مبيض
كأذيال أقبلت في غلائل ... مصبغة والبعض أقصر من بعض
وهذا من التشبيهات الملوكية التي لا يكاد يحضر مثلها السوقة، ونظيره قول ابن المعتز في وصف الهلال:
فانظر إليه كزورق من فضة ... قد أثقلته حمولة من عنبر
وقول أبي فراس - وهو مما يعرب عن استخدامه نفائس الفرس - :
وكأنما البرك الملاء تحفها ... ألوان ذاك الروض والزهر
بسط من الديباج بيض فروزت ... أطرافها بفرواز خضر
وقوله من قصيدة:
والماء يفصل بين الزهر ال ... روض في الشطين فصلا
كبساط وشي جردت ... أيدي القيون عليه نصلا
وأنشدني أبو الحسن العلوي الهمداني، قال: أنشدني سيف الدولة لنفسه. وأنا أراه من قوله في صباه:
أقبله على جزع ... كشرب الطائر الفزع
رأى ماء فأطعمه ... وخاف عواقب الطمع
وصادف فرصة فدنا ... ولم يلتذ بالجرع
ينظر معناها إلى قول ابن المعتز:
فكم عناق لنا وكم قبل ... مختلسات حذار مرتقب
نقر العصافير وهي خائفةمن النواطير يانع الرطب
ويحكى أنه كانت لسيف الدولة جارية من بنات ملوك الروم، لا يرى الدنيا إلا بها، ويشفق من الريح الهابة عليها، فحسدتها سائر حظاياه على لطف محلها منه، وأزمعن إيقاع مكروه بها من سم أو غيره، وبلغ سيف الدولة ذلك، فأمر بنقلها إلى بعض الحصون احتياطاً على روحها، وقال:
راقبتني العيون فيك فأشفق ... ت ولم أخل قط من إشفاق
ورأيت العذول يحسدني في ... ك مجداً يا أنفس الأعلاق
فتمنيت أن تكوني بعيداً ... والذي بيننا من الود باق
رب هجر يكون من خوف هجر ... وفراق يكون خوف فراق
وأنشدني أبو بكر الخوارزمي، قال: أنشدني ابن خالويه بحلب لسيف الدولة:
تجنى علي الذنب والذنب ذنبه ... وعاتبني طلماً وفي شقه العتب
وأعرض لما صار قلبي بكفه ... فهلاً جفاني حين كان لي القلب!
إذا برم المولى بخدمة عبده ... تجنى له ذنباً وإن لم يكن ذنب
يشبه هذا المعنى:
وإذا ما الجفاء جهز جيشاً ... سبقته طليعة من تجنى
وأنشد أبو الحسن أحمد بن فارس، قال: أنشدني شاعر يعرف بالمتيم لسيف الدولة:
قد جرى في دمعه دمه ... فإلى كم أنت تظلمه؟
رد عنه الطرف منك فقد ... جرحته منك أسهمه
كيف يستطيع التجلد من خطرات الوهم تؤلمه؟
وأنشدني غير واحد له في أخيه ناصر الدولة أبي محمد عند وحشة جرت بينهما.:
رضيت إليك العليا وقد كنت أهلها ... وقلت لهم بيني وبين أخي فرق
ولم يك بي عنها نكول، وإنما ... تجافيت عن حقي فتم لك الحق
ولابد لي من أن أكون مصلياً ... إذا كنت أرضى أن يكون لك السبق
وأنشدت له أيضاً في وصف نار الكانون:
كأنما النار والرماد معاً ... وضوءها في ظلامه يحجب
وجنة عذراء مسها خجل ... فاستترت تحت عنبر أشهب
نظيرهما في الحسن قول كشاجم:
كأنما الجمر والرماد وقد ... كاد يواري من ناره النورا
ورد جني القطاف أحمر قد ... ذرت عليه الأكف كافورا
وقول أبي طالب المأموني:
ما ترى كيف أسقمها ال ... قر فأصحت تخبوا وطوراً تسعر

(1/9)


وغدا الجمر والرماد عليه ... في قميص مذهب ومعنبر
الباب الثالث
في ذكر أبي فراس
الحارث بن سعيد بن حمدان وأخباره وغرر أخباره وأشعاره
هو ابن عم سيف الدولة المقدم ذكره، وابن عم ناصر الدولة.
كان فرد دهره، وشمس عصره، أدباً وفضلاً، وكرماً ونبلاً، ومجداً وبلاغة وبراعة، وفروسية وشجاعة، وشعره مشهور سائر بين الحسن والجودة، والسهولة والجزالة، والعذوبة والفخامة، والحلاوة والمتانة، ومعه رواء الطبع، وسمة الظرف، وعزة الملك. ولم تجتمع هذه الخلال قبله إلا في شعر عبد الله بن المعتز، وأبو فراس يعد أشعر منه عند أهل الصنعة ونقدة الكلام، وكان الصاحب يقول: " بدئ الشعر بملك، وختم بملك " يعني امرأ القيس وأبا فراس، وكان المتنبي يشهد له بالتقدم والتبريز، ويتحامى جانبه فلا ينبري لمباراته، ولا يجترئ على مجاراته، وإنما لم يمدحه ومدح من دونه من آل حمدان تهيباً له وإجلالاً، لا إغفالاً وإخلالاً. وكان سيف الدولة يعجب جداً بمحاسن أبي فراس، ويميزه بالإكرام عن سائر قومه، ويصطنعه لنفسه، ويصطحبه في غزواته، ويستخلفه على أعماله، وأبو فراس ينثر الدر الثمين في مكاتباته إياه، ويوفيه حق سؤدده، ويجمع بين أدبي السيف والقلم في خدمته.
قطعة من أخباره مع سيف الدولة وأشعاره فيه
سوى الروميات
حكى ابن خالويه قال: " كتب أبو فراس إلى سيف الدولة،وقد شخص من حضرته إلى منزله بمنبج كتاباً صدره: " كتابي - أطال الله بقاء مولانا! - من المنزل وقد وردته ورود السالم الغانم مثقل البطن والظهر وفراً وشكراً " . فاستحسن سيف الدولة بلاغته، ووصف براعته. وبلغ أبا فراس ذلك فكتب إليه:
هل للفصاحة والسما ... حة والعلا عني محيد
إذ أنت سيدي الذي ... ربيتني، وأبي سعيد
في كل يوم أستفي ... د من العلاء وأستزيد
ويزيد في إذا رأي ... تك في الندى خلق جديد
وكان سيف الدولة قلماً ينشط لمجلس الأنس؛ لاشتغاله عنه بتدبير الجيوش وملابسة الخطوب، وممارسة الحروب، فوافت حضرته إحدى المحسنات من قيان بغداد، فتاقت نفس أبي فراس إلى سماعها، ولم ير أن يبدأ باستدعائها قبل سيف الدولة، فكتب إليه يحثه على استحضارها، فقال:
محلك الجوزاء أو أرفع ... وصدرك الدهناء بل أوسع
وقلبك الرحب الذي لم يزل ... للجد والهزل به موضع
رقه بقرع العود سمعاً غدا ... قرع العوالي جل ما يسمع
فبلغت هذه الأبيات المهلبي الوزير فأمر القيان والقوالين بحفظها وتلحينها، وصار لا يشرب إلا عليها.
وكتب أبو فراس إلى سيف الدولة:
يا أيها الملك الذي ... أضحت له جمل المناقب
نتج الربيع محاسناً ... ألحقنها غرر السحائب
راقت ورق نسيمها ... فحكت لنا صور الحبائب
حضر الشراب فلم يطب ... شرب الشراب وأنت غائب
وتأخر حضرته لعلة وجدها، فكتب إليه:
لقد نافسني الدهر ... بتأخيري عن الحضرة
فما ألقى من العل ... ة ما ألقى من الحسرة
وأهدى الناس إلى سيف الدولة في بعض الأعياد وأكثروا، فكتب إليه أبو فراس:
نفسي فداؤك قد بعث ... ت تهدي بيد الرسول
أهديت نفسي، إنما ... يهدي الجليل إلى الجليل
وجعلت ما ملكت يدي ... صلة المبشر بالقبول
لما رأيتك في الأنا ... م بلا مثال أو عديل
وكتب إليه يعاتبه:
قد كنت عدتي التي أسطو بها ... ويدي إذا اشتد الزمان وساعدي
فرميت منك بغير ما أملته ... والمرء يشرق بالزلال البارد
فصبرت كالولد التقي لبره ... أغضى على ألم لضرب الوالد
وعزم سيف الدولة على الغزو، واستحلاف أبي فراس على الشام، فكتب إليه قصيدة منها:
قالوا المسير فهز الرمح عامله ... وارتاح في جفنه الصمصامة الخذم
حقاً لقد ساءني أمر ذكرت له ... لولا فراقك لم يوجد له ألم
لا تشغلن بأمر الشام تحرسه ... إن الشام على من حله حرم

(1/10)


وإن للثغر سوراً من مهابته ... فهي الحياة التي تحيا بها النسم
وما اعترضت عليه في أوامره ... لكن سألت، ومن عاداته " نعم "
وقال له:
وما لي لا أثني عليك وطالما ... وفيت بعهدي والوفاء قليل
وأوعدتني حتى إذا ما ملكتني ... صفحت، وصفح المالكين جميل
وكتب إليه يعزيه:
لا بد من فقد ومن فاقد ... هيهات ما في الناس من خالد
كن المعزي لا المعزى به ... إن كان لا بد من الواحد
وكتب إليه:
أيا عاتباً لا أحمل الدهر عتبه ... علي، ولا عندي لأنعمه جحد
سأسكت إجلالاً لعلمك أنني ... إذا لم تكن خصمي لي الحجج اللد
وكان لسيف الدولة غلام يقال له نجا، قد اصطنعه ونوه باسمه وقلده طرسوس وأخذ يقرع باب العصيان والكفران، وزاد تبسطه وسوء عشرته لرفقائه، فبطش به ثلاثة نفر منهم وقتلوه. فشق ذلك على سيف الدولة، وأمر بقتل فتكته فكتب إليه أبو فراس:
ما زلت تسعى بجد ... برغم شانيك مقبل
ترى لنفسك أمراً ... وما يرى الله أفضل
وكتب إليه يستعطفه:
إن لم تجاف عن الذنو ... ب وجدتها فينا كثيره
لكن عادتك الجمي ... لة أن تغض على بصيره
وكتب إليه يستعطفه:
دع العبرات تنهمر انهمارا ... ونار الشوق تستعر استعارا
أتطفأ حسرتي وتقر عيني ... ولم أوقد مع الغازين نارا
أقمت على الأمير وكنت ممن ... تعز عليه فرقته اختيارا
إذا سار الأمير فلا هدواً ... لنفس أو يؤوب، ولا قرارا
ستذكرني إذا طردت رجال ... دققت الرمح بينهم مرارا
وأرض كنت أملؤها رجالاً ... وجو كنت أرهجه غبارا
إذا بقي الأمير قرير عين ... فديناه اختياراً واضطرارا
يمد على أكابرنا جناحاً ... ويكفل عند حاجتها الصغارا
أراني الله طلعته سريعاً ... وأصحبه السلامة حيث سارا
وبلغه أمانيه جميعاً ... وكان له من الحدثان جارا
وكتب إليه:
ألا من مبلغ سروات قومي ... إذا حدثن جمجمن الكلاما
بأني لم أدع فتيات قومي ... وسيف الدولة الملك الهماما
شريت ثناءهن ببذل نفسي ... ونار الحرب تضطرم اضطراما
ولما لم أجد إلا فراراً ... أشد من المنية أو حماما
حملت على ورود الموت نفسي ... وقلت لصحبتي موتوا كراما
وهل عذر وسيف الدين ركني ... إذا لم أركب الخطط العظاما
وهل فعله في كل أمر ... وأجعل فضله أبداً إماما
وقد أصبحت منتسباً إليه ... وحسبي أن أكون له غلاما
أراني كيف أكتسب المعالي ... وأعطاني على الدهر الذماما
ورباني فققت به البرايا ... وأنشأني فسدت به الأناما
فأحياه الإله لنا طويلاً ... وزاد الله نعمته دواما
ما أخرج من فخرياته
قال من قصيدة يذكر فيها إيقاعه ببني كعب وهو على مقدمة سيف الدولة وكان قد حسن بلاؤه في تلك الوقعة:
ألم ترنا أعز الناس جاراً ... وأمنعهم وأمرعهم جنابا
لنا الجبل المطل على نزار ... حللنا النجد منه والهضابا
يفضلنا الأنام ولا نحاشي ... بأنا الرأس والناس الذنابى
ولما أن طغت سفهاء كعب ... فتحنا بيننا للحرب بابا
منحناها الحرائب غير أنا ... إذا جارت منحناها الحرابا
ولما ثار سيف الدين ثرنا ... كما هيجت آساداً غضابا
أسنته إذا لاقى طعاناً ... صوارمه إذا لاقى ضرابا
دعانا والأسنة مشرعات ... فكنا عند عودته الجوابا
صنائع فاق صانعها ففاقت ... وغرس طاب غارسه فطابا
وكنا كالسهام إذا أصابت ... مراميها فراميها أصابا

(1/11)


هذا أحسن ما قيل في معناه، وقد أخذه الأستاذ أبو العباس أحمد بن إبراهيم الضبي في كتاب فتح تولاه للصاحب بأصفهان وهنأ مولاه كافي الكفاة، فكتب هذه المناجح التي هي نتائج عزائمه، وثمرات صرائمه، فما يرى عبده وصنيعته، وسائر من يكنفه ظله وتريشه عنايته، نفوسهم إذا وفقوا لمذهب من مذاهب الخدمة وهدوا لأداء حق من حقوقه النعمة، إلا سهاماً إذا أصابت فراميها المصيب، وما لها في المحمدة نصيب " .
ولأبي فراس من قصيدة أولها:
أيلحاني على العبرات لاحي ... وقد يئس العواذل من صلاحي
تملكني الهوى بعد التآبي ... وراضني الهوى بعد الجماح
إلا يا هذه هل من مقيل ... لضيفان الصبابة أو مراح
فلولا أنت ما قلقت ركابي ... ولا هابت إلى نجد رياحي
ومنها:
ومن جراك أوطنت الفيافي ... وفيك غذيت ألبان اللقاح
أصاحب كل خل بالتجافي ... وآسو كل داء بالسماح
إذا ما عن لي أرب بأرض ... ركبت له ضمينات النجاح
ولي عند العداة بكل أرض ... ديون في كفالات الرماح
وله من قصيدة كتب بها إلى جعفر بن ورقاء:
إنا إذا اشتد الزما ... ن وناب خطب وادلهم
ألفيت حول بيوتنا ... عدد الشجاعة والكرم
للقا العدا بيض السيو ... ف وللندى حمر النعم
هذا وهذا دأبنا ... يودى دم ويراق دم
وله من قصيدة أولها:
أقلي فأيام المحب قلائل ... وفي قلبه شغل عن اللوم شاغل
ويقول فيها:
تطالبني البيض الصوارم والقنا ... بما وعدت جدي في المخايل
والله ما قصرت في طلب العلا ... ولكن كأن الدهر عني غافل
مواعيد أيام تطالبني بها ... مراءات أزمان ودهر مخاتل
وأخلاف أيام عما أريغه ... كما دفع الدين الغريم المماطل
خليلي، شدا لي على ناقتيكما ... إذا ما بدا شيب من الفجر ناصل
فمثلي من نال المعالي بسيفه ... وربتما غالته عنها الغوائل
وما كل طلاب من الناس بالغ ... ولا كل سيار إلى المجد واصل
وإن مقيماً منجح العز خائب ... وإن مريعاً خائب الجهد نائل
وما المرء إلا حيث يجعل نفسه ... وإني لها فوق السماكين جاعل
أصاغرنا في المكرمات أكابر ... وآخرنا في المأثرات أوائل
إذا صلت صولاً لم أجد لي مصاولاً ... وإن قلت قولاً لم أجد من يقاول
وله من قصيدة أخرى:
عذيري من طوالع في عذاري ... ومن رد الشباب المستعار
وثوب كنت ألبسه أنيق ... أجرر ذيله بين الجواري
وما زادت عن العشرين سني ... فما عذر المشيب إلى عذاري؟
أخذه من قول أبي نواس:
وإذا عددت السن كم هي لم أجد ... للشيب عذراً للنزول براسي
رجع وما استمتعت من راعي النصابي ... إلى أن جاءني داعي الوقار
تلاعب بي على هوج المطايا ... خلائق لا تقر على الصغار
ونفس دون مطلبها الثريا ... وكف دونها فيض البحار
وما يغنيك من هم طوال ... إذا قرنت بأحوال قصار
عزيز حيث حط السير رحلي ... تداريني الأنام ولا أداري
فأهلي من أنخت إليه عيسي ... وداري حيث كنت من الديار
وله:
لنا بيت على عنق الثريا ... بعيد مذاهب الأطناب سامي
تظلله الفوارس بالعوالي ... وتفرشه الولائد بالطعام
وله:
لقد علمت سراة الحي أنا ... لنا الجبل الممنع جانباه
يفيء الراغبون إلى ذراه ... ويأوي الخائفون إلى حماه
وله:
لئن خلق الأنام لحث كأس ... ومزمار وطنبور وعود
فلم يخلق بنو حمدان إلا ... لمجد أو لبأس أو لجود
وله:

(1/12)


علونا جوشناً بأشد منه ... وأثبت عند مشتجر الرماح
بجيش جاش بالفرسان حتى ... ظننت البر بحراً من سلاح
وألسنة من العذبات حمر ... تخاطبنا بأفواه الرياح
وأروع جيشه ليل بهيم ... وغرته عمود للصباح
صفوح عند قدرته كريم ... قليل الصفح ما بين الصفاح
وكان ثباته للقلب قلباً ... وهيبته جناحاً للجناح
وله من قصيدة:
قتلت فتى بني عمرو بن عبد ... وأوسعهم على الضيفان ساحا
ولست أرى فساداً في فساد ... يجر على فريقيه صلاحا
كان سيف الدولة قد أبعد كلاباً وشردها، فقصدت أبا فراس وهو ببالس في خف من أصحابه، وعليهم كثير من عوسجة، فهزمهم، ثم طرحوا أنفسهم عليه وقدمت وفودهم إليه، فخرج وتوسط في أمرهم مع سيف الدولة، وقال في ذلك:
سلي عنا سراة بني كلاب ... ببالس عند مشتجر العوالي
لقيناهم بأسياف قصار ... كفين مؤونة الأسل الطوال
فولى بابن عوسجة كثير ... وساغ الخطو في صنك المجال
يرى البرغوث إذ نجاه منا ... أجل عقيلة وأحب مال
تدور به إماء بني قريط ... وتسأله النساء عن الرجال
يقلن له السلامة خير غنم ... وإن الذل في ذاك المقال
وعادوا سامعين لنا فعدنا ... إلى المعهود من شرف الفعال
ونحن متى رضينا بعد سخط ... أسونا ما جرحنا بالنوال
أخذه من قول أبي نواس:
وكلت بالدهر عيناً غير غافلة ... بجود كفك تأسو كل ما جرحا
وله من قصيدة أولها:
وقوفك بالديار عليك عار ... وقد رد الشباب المستعار
ومنها:
وكم من ليلة لم أرو منها ... حننت لها وأرقني ادكار
عسفت بها عواري الليالي ... أحق الخيل بالركض المعار
فبت أعل خمراً من رضاب ... لها سكر وليس لها خمار
إلى أن رق ثوب الليل عنا ... ونادت قم فقد برد السوار
ومنها:
إذا ما العز أصبح في مكان ... سموت له، وإن بعد المزار
مقامي حيث لا أهوى قليل ... ونومي عند من أقلى غرار
أبت لي همتي وغرار سيفي ... وعزمي والمطية والقفار
ونفس لا تجاورها الدنايا ... وعرض لا يرف عليه عار
وقوم مثل من صحبوا كرام ... وخيل مثل من حملت خيار
وكم من بلد شنناهن فيه ... ضحى وعلامنا بره المعار
وكم ملك نزعنا الملك عنه ... وجبار به دمه جبار
وله من قصيدة أخرى:
ولو نيلت الدنيا بفضل منحتها ... فضائل تحويها وتبقى فضائل
ولكنها الأيام تجري بما جرت ... فيسفل أعلاها وتعلو الأسافل
لقد قل أن تلقى من الناس مجملاً ... وأخشى قريباً أن يقل المجامل
ولست بجهم الوجه في وجه صاحبي ... وإن سأل الأعمار ما هو سائل
وله:
بخلت بنفسي أن يقال مبخل ... وأقدمت جبناً أن يقال جبان
وملكي بقايا ما وهبت مفاضة ... ورمح وسيف قاطع وسنان
وله:
بأطراف المثقفة العوالي ... تفردها بأوساط المعالي
وما تحلو مجاني العز يوماً ... إذا لم تجنها سمر العوالي
ممالكنا مكاسبنا إذا ما ... توارثها رجال عن رجال
إذا لم تمس لي نار بأرض ... أبيت لنار غيري غير صالي
وله:
غيري يغيره الفعال الجافي ... ويحول عن شيم الكريم الوافي
لا أرتضي وداً إذا هو لم يدم ... عند الجفاء وقلة الإنصاف
تعس الحريص وقل ما يأتي به ... عوضاً عن الإلحاح والإلحاف
إن الغني هو الغني بنفسه ... ولو أنه عاري المناكب حافي
ما كل ما فوق البسيطة كافياً ... وإذا قنعت فبعض شيء كافي
وتعاف لي طمع الحريص فتوتي ... ومروءتي وقناعتي وعفافي

(1/13)


ما كثرة الخيل العتاق بزائدي ... شرفاً، ولا عدد السوام الضافي
خيلي وإن قلت كثير نفعهابين الصوارم والقنا الرعاف
ومكارمي عدد النجوم، ومنزلي ... مأوى الكرام ومنزل الأضياف
لا أقتني لصروف دهري عدة ... حتى كأن خطوبه أحلافي
شيم عرفت بهن مذ أنا يافع ... ولقد عرفت بمثلها أسلافي
وله:
أتعجب إن ملكنا الأرض قسراً ... وأن تمسي وسائدي العراب
وتربط في مجالسنا المذاكي ... وتنزل بين أرحلنا الركاب
وهذا العز أورثنا العوالي ... وهذا الملك ملكنا الضراب
فقصرك إن حالاً ملكتنا ... لحال لا تذم ولا تعاب
وله:
ونحن أناس لا توسط عندنا ... لنا الصدر دون العالمين أو القبر
تهون علينا في المعالي نفوسنا ... ومن خطب الحسناء لم يغله المهر
الإخوانيات
قال وكتب بها إلى أخيه أبي الهيجاء:
حللت من المجد أعلى مكان ... وبلغك الله أقصى الأماني
فإنك لا عدمتك العلا!أخ لا كإخوة هذا الزمان
كسوت أخوتنا بالصفاء ... كما كسيت بالكلام المعاني
وقال لصديق له وأحسن:
لم أؤاخذك بالجفاء لأني ... واثق منك بالوداد الصريح
فجميل العدو غير جميل ... وقبيح الصديق غير قبيح
وله:
ما كنت تصبر في القدي ... م فلم صبرت الآن عنا
ولقد ظننت بك الظنو ... ن لأنه من ضن ظنا
وقال:
أشفقت من هجري فسل ... طت الظنون على اليقين
وضننت بي فظننت بي ... والظن من شيم الضنين
وقال وكتب ببها إلى أخيه:
ولقد أبيت وجل ما أدعو به ... حتى الصباح وقد أقض المضجع
لا هم إن أخي لديك وديعتي ... أبداً، وليس يضيع ما تستودع
وكتب إلى أبي العشائر وهو أسير بأرض الروم:
نفى النوم عن عيني خيال مسلم ... تأوب من أسماء والركب نوم
وخطب من الأيام أنساني الهوى ... وأحلى بفي الموت والموت علقم
ووالله ما شببت إلا علالة ... ومن نار غير الحب قلبي يضرم
فمن مبلغ عني الحسين ألوكه ... تضمنها در الكلام المنظم
لذيذ الكرى حتى أراك محرم ... ونار الأسى بين الحشا تتضرم
وأترك أن أبكي عليك تطيراً ... وقلبي يبكي والجوانح تلطم
لم يسمع أحسن من هذا البيت في التفجيع بمنكوب.
وأظهر للأعداء فيك جلادة ... وأكتم ما ألقاه، والله يعلم
وما أغربت فيك الليالي وإنها ... لتصدعنا من كل شعب وتثلم
طوارق خطب ما تغب وفودها ... وأحداث أيام تفذ وتتئم
فما عرفتني غير ما أنا عارف ... ولا علمتني غير ما كنت أعلم
ومنها:
أندعو كريماً من يجود بماله ... ومن جاد بالنفس النفيسة اكرم
إذا لم يكن ينجي الفرار من الردى ... على حالة فالصبر أرجى وأحزم
لعمريي لقد أعذرت لو أن مسعداً ... وأقدمت لو أن الكتائب تقدم
وما عايك ابن السابقين إلى العلا ... تأخر أقوام وأنت مقدم
ومالك لا تلقى بمهجتك القنا ... وأنت من القوم الذين هم هم
لعاً يا أخي لا مسك السوء! إنه ... هو الدهر في حاليه بؤسي وأنعم
وكتب إليه قصيدة أخرى منها:
أأبا العشائر إن أسرت فطالما ... أسرت لك البيض الخفاف رجالا
لما أجلت المهر فوق رؤوسهم ... نسجت له حمر الشعور عقالا
ما احسن ما اعتذر له مع إحسانه التشبيه.
يا من إذا حمل الحصان على الوجى ... قال اتخذ حبك التريك نعالا
ما كنت نهزة آخذ يوم الوغى ... لو كنت أوجدت الكميت مجالا
أخذوك في كيد المضايق غيلة ... مثل النساءتربب الرئبالا

(1/14)


زلل من الأيام فيك يقيله ... ملك إذا عثر الزمان أقالا
بالخيل ضمراً والسيوف قواضباً ... والسمر لدناً والرجال عجالا
وقال:
ما كنت مذ كنت إلا طوع خلاني ... ليست مؤاخذة الإخوان من شاني
يجني الخليل فاستحلي جنايته ... حتى أدل على عفوي وإحساني
إذا خليلي لم تكثر إساءته ... فأين موقع إحساني وغفراني
يجني علي وأحنو صافحاً أبداً ... لا شيء أحسن من حان على جاني
وقال:
ما لصاحبي إلا الذي من بشره ... عنوانه في وجهه ولسانه
كم صاحب لم أغن عن إنصافه ... في عشرة وغنيت عن إحسانه
وكتب في وصف كتاب ورد عليه من صديق له:
ووارد مورد أنساً يؤكده ... صدوره عن سليم الورد والصدر
شدت سحائبه منه على نزه ... تقسم الحسن بين السمع والبصر
عذوبة صدرت عن منطق جدد ... كالماء يخرج ينبوعاً من الحجر
وروضة من رياض الفكر دبجها ... صوب القرائح لا صوب من المطر
كأنما نشرت أيدي الربيع بها ... برداً من الوشي أو ثوباً من الحبر
وقال لأبي الحصين القاضي:
من بحر شعرك أغترف ... وبفضل علمك أعترف
أنشدتني فكأنما ... شققت عن در الصدف
شعراً إذا ما قسته ... بجميع أشعار السلف
قصرن دون مداه تق ... صير الحروف عن الألف
وقال أيضاً:
إني عليك أبا حصين عاتب ... والحر يحتمل الصديق ويغفر
وإذا وجدت على الصديق شكوته ... سراً إليه، وفي المحافل أشكر
هكذا شرط الصداقة، لا كما حكاه أبو إسحاق الصابي في قوله:
ومن الظلم أن يكون الرضى س ... راً، ويبدو الإنكار وسط النادي
ومن العدل أن يشاع بهذا ... مثل ما شاع ذاك في الأشهاد
الشكوى والعتاب
سوى ما وقع في الروميات
قال:
أراني وقومي فرقتنا مذاهب ... وإن جمعتنا في الأصول المناسب
فأقصاهم أقصاهم من مساءتي ... وأقربهم مما كرهت الأقارب
غريب وأهلي حيث ما كر ناظري ... وحيد وحولي من رجالي عصائب
نسيبك من ناسبت بالود قلبه ... وجارك من صافيته لا المصاقب
وأعظم أعداء الرجال ثقاتها ... وأهون من عاديته من تحارب
وما الذنب إلا العجز يركبه الفتى ... وما ذنبه إن حاربته المطالب
ومن كان غير السيف كافل رزقهفللذل منه لا محالة جانب
وقال:
مالي أعاتب؟ مالي؟ أين يذهب بي؟ ... قد صرح الدهر لي بالمنع والياس
أبغي الوفاء بدهر لا وفاء له ... كأنني جاهل بالدهر والناس
وقال:
تمنيتم أن تفقدوني، وإنما ... تمنيتم أن تفقدوا العز أصيدا
أما أنا أعلى من تعدون همة؟ ... وإن كنت أدنى من تعدون مولدا
إلى الله أشكو عصبة من عشيرتي ... يسيئون في القول غيباً ومشهدا
وإن حاربوا كنت المجن أمامهم ... وإن ضاربوا كنت المهند واليدا
وإن ناب خطب أو ألمت ملمة ... جعلت لهم نفسي وما ملكت فدا
وقال:
أيا قومنا لا تنشبوا الحرب بيننا ... أيا قومنا لا تقطعوا اليد باليد
فيا ليت داني الرحم منا ومنكم ... إذا لم يقرب بيننا لم يبعد
عداوة ذي القربى أشد مضاضة ... على المرء من وقع الحسام المهند
وقال:
ويغتابني من لو كفاني غيبه ... لكنت له العين البصيرة والأذنا
وعندي من الأخبار ما لو ذكرته ... إذا قرع المغتاب من ندم سنا
وقال:
إذا كان فضلي لا أسوغ نفعه ... فأفضل منه أن أرى غير فاضل
ومن أضيع الأشياء مهحة عاقل ... يجوز على حوبائها حكم جاهل
الغزل والنسيب
قال:

(1/15)


تبسم إذ تبسم عن أقاح ... وأسفر حين أسفر عن صباح
وأتحفني براح من رضاب ... وراح من جنى خد وراح
فمن لألاء غرته صباحي ... ومن صهباء ريقته اصطباحي
وقال:
سكرت من لحظه لا من مدامته ... ومال بالنوم عن عيني تمايله
فما السلاف دهنتي، بل سوالفه ... ولا الشمول ازدهتني، بل شمائله
ألوى بعزمي أصداغ لوين له ... وغال صبري ما تحوي غلائله
وقال:
من أين الرشأ الغرير الأحور ... في الخد مثل عذاره المتحدر
قمر كأن بعارضيه كليهما ... مسكاً تساقط فوق ورد أحمر
وقال:
قد كان بدر السماء حسناً ... والناس في حبة سواء
فزاده ربه عذاراً ... تم به الحسن والبهاء
لا تعجبوا ربنا قدير ... يزيد في الخلق ما يشاء
وقال:
وظبي غرير في فؤادي كناسه ... إذا اكتنست عين الفلاة وحورها
فمن خلقه أجيادها وعيونها ... ومن خلقه عصيانها ونفورها
وقال:
وشادن قال لي لما رأى سقمي ... وضعف جسمي والدمع الذي انسجما
أخذت دمعك من خدي، وجسمك من ... خصري، وسقمك من طرفي الذي سقما
وقال:
أساء فزادته الإساءة حظوة ... حبيب على ما كان منه حبيب
يعد علي الواشيان ذنوبه ... ومن أين للوجه الجميل ذنوب؟
وقال:
أيها الغازي الذي يغ ... زر بجيش الحب جسمي
ما يقوم الأجر في غز ... وك للروم بإثمي
وقال:
وإذا يئست من الدن ... و رغبت في فرط البعاد
أرجو الشهادة في هوا ... ك لأن روحي في جهاد
وقال:
وكنى الرسول عن الجواب تظرفاً ... ولئن كنى فلقد علمنا ما عنى
قل يا رسول ولا تحاش فإنه ... لا بد منه أساء بي أم أحسنا
الذنب لي فيما جناه لأنني ... مكنته من مهجتي فتمكنا
وقال:
عدتني عن زيادته عواد ... أقل مخوفها سمر الرماح
ولو أني أطعت رسيس شوقي ... ركبت إليه أعناق الرياح
وقال:
يا عسوفاً بالمستهام الشفيق ... وعنيفاً على الرفيق الرفيق
أسرق الدمع من نديمي بكأس ... فاحلي عقيانها بالعقيق
وقال:
لطيرتي بالصداع نالت ... فوق منال الصداع مني
وجدت فيه اتفاق سوء ... صدعني مثل صد عني
وقال:
يا ليلة لست أنسى طيبها أبداً ... كأن كل سرور حاضر فيها
باتت وبت وبات الزق ثالثنا ... حتى الصباح تسقيني وأسقيها
كأن سود عناقيد بلمتها ... أهدت سلافتها خمراً إلى فيها
وقال:
مسيء محسن طوراً وطوراً ... فما أدري عدوي أم حبيبي
وبعض الظالمين وإن تناهى ... شهي الظلم مغتفر الذنوب
وقال:
قمر دون حسنه الأقمار ... وكثيب من النقا مستعار
وغزال فيه نفار، وما ين ... كر من شيمة الظباء النفار
لا أعاصيه في اجتراح المعاصي ... في هوى مثله تطيب النار
قد حذرت الملاح دهراً ولكن ... ساقني نحو حبة المقدار
كم أردت السلو فاستعطفتني ... رقية من رقاك يا عيار
وقال:
من السلوان في عيني ... ك آيات وآثار
أراها منك بالقلب ... وفي الأضلاع أبصار
إذا ما برد القل ... ب فما تسخنه النار
وقال:
يا معشر الناس هل لي ... مما لقيت مجير
أصاب غرة قلبي ... ذاك الغزال الغرير
فعمر ليلي طويل ... وعمر يومي قصير
وقال:
أجملي يا أم عمرو ... زادك الله جمالا
لا تبيعني برخص ... إن في مثلي يغالى
أنا إن جدت بوصل ... أحسن العالم حالا
الأوصاف والتشبيهات
قال في وصف الجسر:

(1/16)


كأنما الماء عليه الجسر ... درج بياض خط فيه سطر
كأننا لما تهيا العبر ... أسرة موسى حين شق البحر
وجلست يوماً في البستان والماء يتدرج في البرك، فقال في وصفه، وكل واصف فإنما يشبه الموصوف بما هو من جنس صناعته، أو ربما بما يكثر رؤيته له:
أنظر إلى زهر الربيع ... والماء في برك البديع
وإذا الرياح جرت علي ... ه في الذهاب وفي الرجوع
نثرت على بيض الصفا ... ئح بيننا حلق الدروع
وقال في وصف النار والفحم:
لله برد ما أش ... د ومنظر ما كان اعجب
جاء الغلام بناره ... هوجاء في فحم تلهب
فكأنما جمع الحل ... ي فمحرق منه ومذهب
وكأنها لما خبت ... ما بيننا ند معشب
وقال:
مددنا علينا الليل والليل راضع ... إلى أن تردى رأسه بمشيب
بحال ترد الحاسدين بغيظهم ... وتطرف عنا عين كل رقيب
إلى أن بدا ضوء الصباح كأنه ... مبادي نصول في عذار خضيب
وقال:
وجلنار مشرف ... على اعالي شجرة
كأن في رءوسه ... أحمره وأصفره
قراضة من ذهب ... في خرق معصفرة
وقال في جارية مسبية:
وخريدة كرمت على آبائها ... زمناً، وعند سبائها لم تكرم
خطبت بحد السيف حتى زوجت ... كرهاً، وكان صداقها للمقسم
راحت وصاحبها لعرس حاضر ... برضا الإله وأهلها في مأتم
ينظر معنى البيت الأول " والثالث " إلى قول المتنبي:
تبكي عليهن البطاريق في الدجى ... وهن لدينا ملقيات كواسد
بذا قضت الأيام ما بين اهلها ... مصائب قوم عند قوم فوائد
ولأبي فراس في طعنة أصابت خده:
لما رأت أثر السنان بخده ... ظلت تقلبه بوجه عابس
خلف السنان به مواقع لثمها ... بئس الخلافة للمحب البائس
حسن الثناء بقبح ما صنع القنا ... يوم الطعان بصحن خد الفارس
الحكمة والموعظة
قال:
غنى النفس لمن يعق ... ل خير من غنى المال
وفضل الناس في الانف ... س، ليس الفضل في الحال
وقال:
المرء نصب مصائب لا تنقضي ... حتى يوارى جسمه في رمسه
فمؤجل يلقى الردى في اهله ... ومعجل يلقى الردى في نفسه
قال:
أنفق من الصبر الجميل فإنه ... لم يخش فقراً منفق من صبره
والمرء ليس ببالغ مدة مما ترى ... وعساك ان تكفي الذي تخشاه
وقال:
عرفت الشر لا للش ... ر لكن لتوقيه
فمن لا يعرف الشر ... من الناس يقع فيه
وقال:
لعمرك ما الأبصار تنفع أهلها ... إذا لم يكن للمبصرين بصائر
وهل ينفع الخطي غير مثقف ... وتظهر، إلا بالصقال، الجواهر
وكيف ينال المجد والجسم وادع ... وكيف يحاز الحمد والوفر وافر
وقال:
إذا لم يعنك الله فيما تريده ... فليس لمخلوق إليك سبيل
وإن هو لم يرشدك في مسلك ... ضللت، ولو أن السماك دليل
وقال:
لست بالمستضيم من هو دوني ... اعتداء، ولست بالمستضام
رب أمر عففت عنه اختياراً ... حذراً من أصابع الأيتام
أبذل الحق للخصوم إذا ما ... عجزت عنه قدرة الحكام
الروميات من غرر أبي فراس
لما أدركت أبا فراس حرقة الأدب، وأصابته عين الكمال، وأسرته الروم في بعض وقائعها وهو جريح، وقد أصاب سهم بقي نصله في فخذه، وحصل مثخناً بخرشنة، ثم بقسطنطينية، وتطاولت مدته بها لتعذر المفاداة، وقد قيل: على كل نجح رقيب من الآفات، وقد كانت تصدر أشعاره في الأسر والمرض واستزادة سيف الدولة، وفرط الحنين إلى أهله وإخوانه وأحبابه، والتبرم بحاله ومكانه، عن صدر حرج، وقلب شج، تزداد رقة ولطافة، وتبكي سامعها، وتعلق بالحفظ لسلاستها، فمنها قوله:

(1/17)


ما للعبيد من الذي ... يقضي بهى الله امتناع
ذدت الأسود عن الفرا ... ئس ثم تفرسني الضباع!
وقوله:
قد عذب الموت بأفواهنا ... والموت خير من مقام الذليل
إنا إلى الله لما نابنا ... وفي سبيل الله خير السبيل
ولما شقت فخذه عن نصل السهم الذي أصابه قال:
فلا تصفن الحرب عندي، فإنها ... طعامي مذ بعت الصبا وشرابي
وقد عرفت وقع المسامير مهجتي ... وشقق عن زرق النصول إهابي
ولججت في حلو الزمان ومره ... وأنفقت من عمري بغير حساب
وقال بخرشنة:
إن زرت خرشنة أسيراً ... فلقد حللت بها مغيرا
ولقد رأيت النار تنت ... هب المنازل والقصورا
ولقد رأيت السبي يجل ... ب نحونا حواً وحورا
من كان مثلي لم يبت ... إلا أميراً أو أسيرا
ليست تحل سراتنا ... إلا الصدور أو القبورا
وكتب إلى سيف الدولة قصيدة منها:
دعوتك للجفن القريح المسهد ... لدي، وللنوم القليل المشرد
وما ذاك بخلاً بالحياة وإنها ... لأول مبذول لأول مجتد
ولا زال عني أن شخصاً معرضاً ... لنبل العدا إن لم يصب فكأن قد
ولكنني أختار موت بني أبي ... على سروات الخيل غير موسد
وآبى وتأبى أن أموت موسداً ... بأيدي النصارى موت أكمد أكبد
نضوت على الأيام ثوب جلادتي ... ولكنني لم أنض ثوب التجلد
فمن حسن صبربالسلامة واعد ... ومن ريب دهر بالردى متوعدي
فمثلك من يدعى لكل عظيمة ... ومثلي من يفدي بكل مسود
تشبث بها اكرومة قبل فوتها ... وقم في خلاصي صادق العزم واقعد
فإن تفتدوني تفتدوا شرف العلا ... وأسرع عواد إليكم معود
يدافع عن اعراضكم بلسانه ... ويضرب عنكم بالحسام المهند
متى تخلف الأيام مثلي لكم فتى ... طويل نجاد السيف رحب المقلد
ولا وأبي ما ساعدان كساعد ... ولا وأبي ما سيدان كسيد
وإنك للمولى الذي بك أقتدي ... وإنك للنجم الذي أهديتني كل مقصد
وانت الذي بلغتني كل غاية ... مشيت إليها فوق أعناق حسدي
فيا ملبسي النعمى التي جل قدرها ... لقد أخلقت تلك الثياب فجدد
ألم تر أني فيك صافحت حدها ... وفيك شربت الموت غير مصرد
وفيك لقيت الألف زرقاً عيونها ... بسبعين فيها كل أشأم أنكد
يقولون جنب عادة ما عرفتها ... شديد على الإنسان ما لم يعود
فقلت أما والله ما قال قائل ... شهدت له في الخيل ألأم مشهد
ولكن سألقاها فإما منية ... هي الظن أو بنيان عز مؤيد
ولم أدر أن الهر من عدد العدا ... وان المنايا السود يرمين عن يد
وكتب إلى والدته وفد ثقل من الجراح التي به:
مصابي جليل والعزاء جميل ... وظني بأن الله سوف يديل
جراح تحاماها الأساة مخافة ... وسقمان باد منهما ودخيل
وأسر أقاسيه وليل نجومه ... أرى كل شيء غيرهن يزول
تطول بي الساعات وهي قصيرة ... وفي كل دهر لا يسرك طول
تناساني الأصحاب إلا عصابة ... ستلحق بالاخرى غداً وتحول
وإن الذي يبقى على العهد منهم ... وإن كثرت دعواهم لقليل
أقلب طرفي لا أرى غير صاحب ... يميل مع النعماء حيث تميل
وصرنا نرى أن المتارك محسن ... وان خليلاً لا يضر وصول
كأنه مأخوذ من قول المتنبي:
إنا لفي زمن ترك القبيح به ... من أكثر الناس إنعام وإفضال
رجع:

(1/18)


تصفحت أحوال الزمان فلم يكن ... إلى غير شاك للزمان وصول
أكل خليل أنكد غير منصف ... وكل زمان بالكرام بخيل
نعم دعت الدنيا إلى الغدر دعوة ... أجاب إليها عالم وجهول
وفارق عمرو بن الزبير شقيقه ... وخلى أمير المؤمنين عقيل
فيا حسرتي من لي بخل موافق ... أقول بشجوي مرة ويقول
وإن وراء الستر أما بكاؤها ... علي، وإن طال الزمان، طويل
فيا أمتا لا تعدمي الصبر، إنه ... إلى الخير والنجح القريب رسول
فيا أمتا لا تحبطي الأجر، إنه ... على قدر الصبر الجميل جزيل
تأسي كفاك الله ما تجدينه ... فقد غال هذا الناس قبلك غول
لقيت نجوم الأفق وهي صوارم ... وخضت سواد الليل وهو خيول
ولم أرع للنفس الكريمة خلة ... عشية لم يعطف علي خليل
ولكن لقيت الموت حتى تركته ... وفيه وفي حد الحسام فلول
ومن لم يوق الله فهو ممزق ... ومن لم يعز الله فهو ذليل
ومن لم يرده اله في الأمر كله ... فليس لمخلوق إليه سبيل
وكتب إلى سيف الدولة:
هل تعطفان على العليل ... لا بالأسير ولا القتيل
باتت تقلبه الأك ... ف سحابة الليل الطويل
فقد الضيوف مكانه ... وبكاه أبناء السبيل
وتعطلت سمر الرما ... ح وأغمدت بيض النصول
يا فارج الكرب العظي ... م وكاشف الخطب الجليل
كن يا قوي لذا الضعي ... ف ويا عزيز لذا الذليل
قربه من سيف الهدى ... في ظل دولته الظليل
لم أرو منه ولا شفي ... ت بطول خدمته غليلي
ولئن حننت إلى ذرا ... ه لقد حننت إلى وصول
لا بالقطوب ولا الغضو ... ب ولا الكذوب ولا الملول
يا عدتي في النائبا ... ت وظلتي عند المقيل
أين المحبة والذما ... م وما وعدت من الجميل؟
احمل على النفس الكري ... مة في والقلب الحمول
وكتب إلى والدته:
لولا العجوز بمنبج ... ما خفت أسباب المنيه
ولكان لي عما سأل ... ت من الفدى نفس أبيه
لكن أردت مرادها ... ولو انجذبت إلى الدنية
أمست بمنبج حرة ... بالحزن من بعدي حريه
فيها التقى والدين مج ... موعان في نفس زكيه
لا زال يطرق منبجاً ... في كل غادية تحيه
يا أمتا لا تحزني ... وثقي بفضل الله فيه
يا أمتا لا تيأسي ... لله ألطاف خفيه
أوصيك بالصبر الجمي ... ل فإنه خير الوصيه
وكتب إلى غلامين له:
هل تحسان لي رفيقا ... يحفظالود أو صديقاً صدوقا
لا رعى الله يا خليلي دهراً ... فرقتنا صروفه تفريقا
كنت مولاكما وما كنت إلا ... والداً محسناً وعماً شفيقا
فاذكراني وكيف لا تذكراني ... كلما استخون الصديق صديقا
بت أبكيكما وإن عجيباً ... أن يبيت الأسير يبكي الطليقا
وكتب إلى غلامه منصور:
مغرم مؤلم جريح أسير ... إن قلباً يطيق ذا لصبور
وكثير من الرجال حديد ... وكثير من القلوب صخور
قل لمن حل بالشآم طليقاً: ... بأبي قلبك الطليق الأسير
أنا أصبحت لا أطيق حراكاً ... كيف أصبحت أنت يا منصور
وكتب إليه:
ارث لصب بك قد زدته ... على بلايا أسره أسرا
قد عدم الدنيا ولذاتها ... لكنه ما عدم الصبرا
فهو أسير الجسم في بلدة ... وهو أسير القلب في أخرى
وكتب إليه أيضاً:

(1/19)


يا ليل ما أغفل عما بي ... حبائبي فيك وأحبابي
يا ليل نام الناس عن موجع ... ناء على مضجعه نابي
هبت له ريح شآمية ... متت إلى القلب بأسباب
أدت رسالات حبيب بها ... فهمتها من بين أصحابي
بلغني أن الصاحب كان يستظرف هذين البيتين ويستلحمهما ويكثر الإعجاب بهما.
وكتب إليهما:
لأيكم أذكر ... وفي أيكم أفكر
وكم لي على بلدتي ... بكاء ومستعبر
ففي حلب عدتي ... وعزي والمفخر
وفي منبج من رضا ... ه أنفس ما أذخر
ومن حبها زلفة ... بها يكرم المحشر
وأصبية كالفرا ... خ أكبرهم أصغر
يخيل لي أمرهم ... كأنهم حضر
وقوم ألفناهم ... وغصن الصبا أخضر
فحزني ما ينقضي ... ودمعي ما يفتر
أيا غفلتا كيف لا ... أرجى كما احذر
وماذا القنوط الذي ... أراه وأستشعر
بلى، إن لي سيداً ... مواهبه أكثر
بذنبي أوردتني ... ومن فضلك المصدر
وقال وقد حضره العيد:
يا عبد ما عدت بمحبوب ... على معنى القلب مكروب
يا عبد قد عدت إلى ناظر ... عن كل حسن فيك محجوب
يا وحشة الدار التي ربها ... أصبح في أثواب مربوب
قد طلع العيد على أهلها ... بوجه لا حسن ولا طيب
ما لي وللدهر وأحداثه ... لقد رماني بالاعاجيب
وقال وقد سمع حمامة تنوح بقربه على شجرة عالية:
أقول وقد ناحت بقربي حمامة ... أيا جارتي هل تشعرين بحالي
معاذ الهوى ما ذقت طارقة الهوى ... ولا خطرت منك الهموم ببال
أتحمل محزون الفؤاد قوادم ... على غصن نائي المسافة عالي
أيا جارتا ما انصف الدهر بيننا ... تعالي أقاسمك الهموم تعالي
تعالي تري روحاً لدي ضعيفة ... تردد في جسم يعذب بالي
أيضحك مأسور وتبكي طليقة ... ويسكت محزون ويندب سالي
لقد كنت أولى منك بالدمع مقلة ... ولكن دمعي في الحوادث غالي
وكتب إلى سيف الدولة:
أما لجميل عندكن ثواب ... ولا لمسيء عندكن متاب
إذا الخل لم يهجرك إلا ملالة ... فليس له، إلا الفراق، عتاب
إذا لم أجد من خلة ما أريده ... فعندي لأخرى عزمة وركاب
وليس فراق ما استطعت فإن يكن ... فراق على حال فليس إياب
أخذه من قول القائل وهو أوس بن حجر:
إذا انصرفت نفسي عن السيء لم تكد ... إليه بوجه آخر الدهر تقبل
رجع:
صبور ولو لم يبق مني بقية ... قؤول ولو أن السيوف جواب
وقور وأحداث الزمان تنوشني ... وللموت حولي جيئة وذهاب
بمن يثق الإنسان فيما ينوبه ... ومن أين للحر الكريم صحاب
وقد صار هذا الناس إلا أقلهم ... ذئاب على أجسادهن ثياب
تغابيت عن قوم فظنوا غباوة ... بمفرق أغبانا حصى وتراب!
ولو عرفوني بعض معرفتي بهم ... إذا علموا أني شهدت وغابوا
إلى الله أشكو أننا بمنازل ... تحكم في آسادهن كلاب
تمر الليالي ليس للنفع موضع ... لدي ولا للمعتفين جناب
ولا شد لي سرج على متن سابح ... ولا ضربت لي بالعراء قباب
ولا برقت لي في اللقاء قواطع ... ولا لمعت لي في الحروب حراب
ستذكر أيامي نمير وعامر ... وكعب، على علاتها، وكلاب
أنا الجار لا زادي بطيء عليهم ... ولا دون ما لي في الحوادث باب

(1/20)


ولا أطلب العوراء منها أصيبها ... ولا عورتني للطالبين تصاب
بني عمنا، ما يفعل السيف في الوغى ... إذا قل منه مضرب وذباب
بني عمنا، نحن السواعد والظبا ... ويوشك يوماً أن يكون ضراب
وما أدعي ما يعلم الله غيره ... رحاب علي للعفاة رحاب
وأفعاله للراغبين كريمة ... وأمواله للطالبين نهاب
ولكن بنا منه بكفي صارم ... وأظلم في عيني منه شهاب
ألم فيه بقول البحتري:
سحاب عداني جوده وهو ريق ... وبحر خطاني فيضه وهو مفعم
وبدر أضاء الأرض شرقاً ومغرباً ... وموضع رحلي منه أسود مظلم
رجع:
وأبطأ عني والمنايا سريعة ... وللموت ظفر قد أطال وناب
فإن لم يكن ود قريب تعده ... ولا نسب بين الرجال قراب
فأحوط للإسلام أن لا يضيعني ... ولي عنه فيه حوطة ومناب
ولكنني راض على كل حالة ... لنعلم أي الخلتين سراب
وما زلت أرضى بالقليل محبة ... لديه، وما دون الكثير حجاب
وأطلب إبقاء على الود أرضه ... وذكرى منى في غيرها وطلاب
كذاك الوداد المحض لا يرتجى له ... ثواب، ولا يخشى عليه عقاب
ومثله للمتنبي:
وما أنا بالباغي على الحب رشوة ... ضعيف هوىً يبغى عليه ثواب
رجع:
وقد كنت أخشى الهجر والشمل جامع ... وفي كل يوم لقية وخطاب
فكيف وفيما بيننا ملك قيصر ... وللبحر حولي زخرة وعباب؟
أمن بعد بذل النفس فيما تريده ... أثاب بمر العتب حين أثاب
فليتك تحلو والحياة مريرة ... وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر ... وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هين ... وكل الذي فوق التراب تراب
وكتب إليه:
بالكره مني واختيارك ... أن لا أكون حليف دارك
يا تاركي إني لشك ... رك ما حييت لغير تارك
كن كيف شئت فإنني ... ذاك المواسي والمشارك
وكتب إليه:
أبى عرب هذا الدمع إلا تسرعا ... ومكنون هذا الحب إلا تضوعا
وكنت أرى الحب أني مع الصبر واجد ... إذا شئت لي ممضى وإن شئت مرجعا
فلما استمر الحب في غلوائه ... رعيت مع المضايعة الغر ما رعى
فحزني حزن الهائمين مبرحاً ... وسري سر العاشقين مضيعا
وهبت شبابي والشباب مضنة ... لأبلج من أبناء عمي أروعا
أبيت معنى من مخافة عتبه ... وأصبح محزوناً وأمسي مروعا
فلما مضى عصر الشبيبة كله ... وفارقتني شرخ الشباب فودعا
تطلبت بين العتب والهجر فرجة ... فحاولت أمراً لا يرام ممنعا
وصرت إذا ما رمت في الخير لذة ... تتبعتها بين الهموم تتبعا
وها أنا قد حلى الزمان مفارقي ... وتوجني بالشيب تاجاً مرصعا
أما ليلة تمضي ولا بعض ليلة ... أسر بها هذا الفؤاد المفجعا
أما صاحب فرد يدوم وفاؤه ... فيصفى لمن يصفى ويرعى لمن رعى
أفي كل دار لي صديق أوده ... إذا ما تفرقنا حفظت وضيعا
إذا خفت من أخوالي الروم خطة ... تخوفت من اعمامي العرب أربعا
وإن أوجعتني من أعادي شيمة ... لقيت من الاحباب أدهى وأوجعا
ولو قد رجوت الله لا شيء غيره ... رجعت إلى آلي وأملت أوسعا
لقد قنعوا بعدي من القطر بالندى ... ومن لم يجد إلا القنوع تقنعا
وما مر إنسان فأخلف مثله ... ولكن يرجى الناس أمراً مرقعا

(1/21)


تنكر سيف الدين لما عتبته ... وعرض بي تحت الكلام وقرعا
فقولا له من صادق الود: إنني ... جعلتك مما رابني منك مفزعا
ولو أنني أكننته في جوانحي ... لأروق ما بين الضلوع وفرعا
فلا تغترر بالناس، ما كل من ترى ... أخوك إذا أوضعت في الأمر أوضعا
فلله إحسان علي ونعمة ... والله صنع قد كفاني التصنعا
أراني طرق المكرمات كما أرى ... علي، وأسعى لي علياً كما سعى
فإن يك بطء مرة فلطالما ... تعجل بي نحو الجميل فأسرعا
وإن يجف في بعض الامور فإنني ... لأشكره النعمى التي كان اودعا
وإن يستجد الناس بعدي فلم يزل ... بذاك البديل المستجد ممتعا
وكتب إليه أبو فراس: مفاداتي إن تعذرت عليك فأذن لي في مكاتبة أهل خراسان ومراسلتهم ليفادوني وينوبوا عنك في امري، فأجابه سيف الدولة بكلام حسن، وقال له: ومن يعرفك بخراسان؟ فكتب إليه أبو فراس:
أسيف الهدى وقريع العرب ... إلام الجفاء؟ وفيم الغضب؟
وما بال كتبك قد أصبحت ... تنكبني مع هذي النكب
وأنت الكريم، وأنت الحليم ... وأنت العطوف، وأنت الحدب
وما زلت تسعفني بالجميل ... وتنزلني بالمكان الخصب
وإنك للجبل المشمخ ... ر لي، بل لقومك، بل للعرب
علا يستفاد، وعاف يفاد، ... وعز يشاد، ونعمى ترب
وما غض مني هذا الإسار ... ولكن خلصت خلوص الذهب
ففيم يقرعني بالخمو ... ل مولى به نلت أعلى الرتب؟
وكان عتيداً لدي الجواب ... ولكن لهيبته لم أجب
أتنكر أني شكوت الزمان ... واني عتبتك فيمن عتب
فألا رجعت فأعتبتني ... وصيرت لي ولقومي الغلب
فلا تنسبن إلي الخمول ... عليك أقمت فلم أغترب
وأصبحت منك فإن كان فضل ... وإن كان نقص فأنت السبب
وإن خراسان إن انكرت ... علاي فقد عرفتها حلب
ومن أين ينكرني الأبعدون ... أمن نقص جد؟ أمن نقص أب
ألست وإياك من أسرة ... وبيني وبينك عرق النسب؟
وداد تناسب فيه الكرام ... وتربية ومحل أشب
ونفس تكبر إلا عليك ... وترغب إلاك عمن رغب
فلا تعدلن فداك ابن عم ... ك، لا، بل غلامك عما يجب
وأنصف فتاك فإنصافه ... من الفضل والنسب المكتسب
فكنت الحبيب، وكنت القريب ... ليالي أدعوك من عن كثب
فلما بعدت بدت جفوة ... ولاح من الأمر ما لا أحب
فلو لم أكن بك ذا خبرة ... لقلت صديقك من لم يغب
وكتبت إليه أيضاً:
زماني كله غضب وعتب ... وأنت علي والأيام ألب
وعيش العين لديك سهل ... وعيشي وحده بفناك صعب
فكيف وأنت دافع كل خطب ... مع الخطب الملم علي خطب
فلا تحمل على قلب جريح ... به لحوادث الأيام ندب
أمثلي تقبل الأقوال فيه ... ومثلك لحوادث الأيام ندب
جناني ما علمت، ولي لسان ... يقد الدرع والإنسان، عضب
وزندي وهو زندك ليس يكبو ... وناري وهي نارك ليس تخبو
وفرعي فرعك السامي المعلى ... وأصلي أصلك الزاكي وحسب
وفضلي تعجز الفضلاء عنه ... لأنك أصله والمجد ترب
فدت نفسي الامير وكان حظي ... وقربي عنده ما دام قرب
فلما حالت الأعداء دوني ... وأصبح بيننا بحر ودرب
ظللت تبدل الأقوال بعدي ... ويبلغني اغتيابك ما يغب
فقل ما شئت في فلي لسان ... مليء بالثناء عليك رطب

(1/22)


وقابلني بإنصاف وظلم ... تجدني في الجميع كما تحب
وبلغ أبا فراس أن والدته حضرة سيف الدولة من منبج تكلمه في المفاداة، وتتضرع إليه، فلم يكن عنده ما رجت من حسن الإيجاب، ووافق ذلك عنفاً من الدمستق بأبي فراس ومن معه من الأسرى، وزيادة في إرهاقهم، فكتب إلى سيف الدولة:
يا حسرة ما أكاد احملها ... آخرها مزعج وأولها
عليلة بالشآم مفردة ... بات بأيدي العدى معللها
إذا اطمأنت، وأين؟ أو هدأت ... عنت لها ذكرة تقلقلها
تسأل عنا الركبان جاهدة ... بأدمع ما تكاد تمهلها
يا من رأى لي بحصن خرشنة ... أسد شرى في القيود أرجلها
يا من رأى في الدروب شامخة ... دون لقاء الحبيب أطولها
يا أيها الراكبان هل لكما ... في حمل نجوى يخف محملها
يا امتا هذه منازلنا ... نتركها تارة وننزلها
ومنها:
يا سيداً ما تعد مكرمة ... إلا وفي راحتيك أكملها
ليست تنال القيود من قدمي ... وفي اتباعي رضاك أحملها
لا تتيم والماء تدركه ... غيرك يرضى الصغرى ويقبلها
أنت سماء ونحن أنجمها ... أنت بلاد ونحن أجبلها
أنت سحاب ونحن وابله ... أنت يمين ونحن أشملها
بأي عذر رددت والهة ... عليك دون الورى معولها
جاءتك تمتاح رد واحدها ... ينتظر الناس كيف تقفلها
تلك العقود التي عقدت لنا ... كيف وقد أحكمت تحللها
أرحامنا منك، لم تقطعها؟ ... ولم تزل دائباً توصلها
سمحت مني بمهجة كرمت ... أنت، على يأسها، مؤملها
إن كنت لم تبذل الفداء لها ... فلم أزل في هواك أبذلها
تلك المودات كيف تهملها ... تلك المواعيد كيف تغفلها
أين المعالي التي عرفت بها ... تقولها دائباً وتفعلها؟
يا واسع الدار كيف توسعها ... ونحن في صخرة نزلزلها
يا ناعم الثوب كيف تبدله ... ثيابنا الصوف ما نبدلها!
يا راكب الخيل لو بصرت بنا ... نحمل أقيادنا وننقلها
رأيت في الضر أوجهاً كرمت ... فارق فيك الجمال أجملها
قد أثر الدهر في محاسنها ... تعرفها تارة وتجهلها
لا يفتح الناس باب مكرمة ... صاحبها المستغاث يقفلها
أينبري دونك الكرام لها ... وأنت قمقامها وأجملها
وأنت إن عز حادث جلل ... قلبها المرتجى وحولها
منك تردى بالفضل أفضلها ... منك أفاد النوال أنولها
فإن سألنا سواك عارفة ... فبعد قطع الرجاء نسألها
لم يبق في الناس أمة عرفت ... إلا وفضل الامير يشملها
نحن أحق الورى برأفته ... فأين عنا وكيف معدلها
يا منفق المال لا يريد به ... إلا المعالي التي يؤثلها
أصبحت تشري مكارماً فضلاً ... فداؤنا ما علمت أفضلها
لا يقبل الله قبل فرضك ذا ... نافلة عنده تنفلها
وكتب إلى أبي المعالي وأبي المكارم ابني سيف الدولة:
يا سيدي أراكما ... لا تذكران أخاكما
أوجدتما بدلاً به ... يبني سماء علاكما
أوجدتما بدلاً به ... يفري نحور عداكما
من ذا يعاب بما لقي ... ت من الورى إلاكما
لا تقعدا بي بعدها ... وسلا الأمير أباكما
وخذا فداي جعلت من ... ريب المنون فداكما!
وقال لما طال أسره يسب الشامتين ويتشوق محله بمنبج:
قف في رسوم المستجا ... ب وناد أكناف المصلى
تلك المنازل والملا ... عب لا أراها الله محلا
أوطنتها زمن الصبا ... وجعلت منبج لي محلا

(1/23)


حيث التفت رأيت ما ... ء سائحاً وسكنت ظلا
والماء يفصل بين زه ... ر الروض في الشطين فصلا
كبساط وشي جردت ... أيدي القيون عليه نصلا
من كان سر بما عرا ... ني فليمت ضراً وهزلا
ما غض مني حادث ... والقرم قرم حيث حلا
أنى حللت فإنني ... شرق العدا طفلاً وكهلا
ما كنت إلا السيف زا ... د على صروف الدهر صقلا
ولئن قتلت فإنما ... موت الكرام الصيد قتلى
يغتر بالدنيا الجهو ... ل وليس بالدنيا مملى
وقال من قصيدة:
أراك عصي الدمع شيمتك الصبر ... أما للهوى نهي عليك ولا أمر
بلى أنا مشتاق وعندي لوعة ... ولكن مثلي لا يذاع له سر
إذا الليل أضوى بي بسطت يد الرجا ... وأذللت دمعاً من خلائقه الكبر
تكاد تضيء النار بين جوانحي ... إذا هي أذكتها الصبابة والفكر
ومنها:
وإني لجرار لكل كتيبة ... معودة أن لا يخل بها النصر
وأصدأ حتى ترتوي البيض والقنا ... وأسغب حتى يشبع الذئب والنسر
ومنها:
أسرت وما صحبي بعزل لدى الوغى ... ولا فرسي مهر ولا ربه غمر
ولكن إذا حم القضاء على امرئ ... فليس له بر يقيه ولا بحر
وقال أصيحابي: الفرار او الردى ... فقلت: هما أمران أحلاهما مر
ولكنني أمضي لما لا يعيبني ... كما ردها يوماً بسوأته عمرو
وكتب إلى سيف الدولة قصيدة منها:
ما لي جزعت من الخطوب، وإنما ... أخذ الإله لبعض ما أعطاني
إن لم تكن طالت سني فإن لي ... رأي الكهول ونجدة الشبان
قمن بما سر الاعادي موقفي والدهر برز لي مع الاقران
يا دهر خنت مع الاصادق خلتي ... وغدرت بي في جملة الإخوان
لكن سيف الدولة المولى الذي ... لم أنسه وأراه لا ينساني
أيضيعني من لم يزل لي حافظاً ... كرماً ويخفضني الذي أعلاني
إني أغار على مكاني أن أرى ... فيه رجالاً لا تسد مكاني
وقال من قصيدة:
يعز على الأحبة بالسآم ... حبيب بات ممنوع المام
وإني للصبور على الرزايا ... ولكن الكلام على الكلام
جروح ما يزلن يردن مني ... على جرح قريب العهد دام
تاملني الدمستق إذ رآني ... فأبصر صيغة الليث الهمام
أتنكرني كأنك لست تدري ... بأني ذلك البطل المحامي
فلا هنئتها نعمى بأخذي ... ولا وصلت سعودك بالتمام
أما من اعجب الأشياء علج ... يعرفني الحلال من الرام
وتكنفه بطارقة تيوس ... تباري بالعثانين الضخام
لهم خلق الحمير فلست تلقى ... فتىً منهم يسير بلا حزام
يريغون العيوب، وأعجزتهم، ... وأي العيب يوجد في الحسام
ثناء طيب لا خلف فيه ... وآثار كآثار الغمام
ألاز على التعرض للمنايا ... ولي سمع أصم عن الملام
بنو الدنيا إذا ماتوا سواء ... ولو عمر المعمر ألف عام
ألا يا صاحبي تذكراني ... إذا ما شمتما البرق الشآمي
إذا ما لاح ليلمعان برق ... بعثت إلى الأحبة بالسلام
وكتب إليه ابن الأسمر يوصيه بالصبر، فأجابه:
ندبت لحسن الصبر قلب نجيب ... وناديت بالتسليم خير مجيب
ولم يبق مني غير قلب مشيع ... وعود على ناب الزمان صليب
وقد علمت امي بأن منيتي ... بحد حسام أو بحد قضيب
كما علمت من قبل أن يغرق ابنها ... بمهلكة في الماء أم شبيب

(1/24)


كانت أم شبيب رأت في منامها - وهي حبلى - كأن نار أخرجت من بطنها فاشتعلت الآفاق ثم وقعت في الماء فانطفأت، فلما كان من أمره ما كان ونعى إليها لم تصدق، حتى قيل: إنه قد غرق في الماء، فأقامت المناحة.
تجشمت خوف العار أعظم خطة ... وأملت نصراً كان غير قريب
وللعار خلى رب غسان ملكه ... وفارق دين الله غير مصيب
ولم يرتغب في العيش عيسى بن مصعب ... ولا خف خوف بالحزون خبيب
وأحفظ أبو فراس الدمستق في مناظرة جرت بينهما فقال له الدمستق: إنما أنتم كتاب ولا تعرفون الحرب، فقال له أبو فراس: نحن نطأ أرضك منذ ستين سنة بالسيوف أم بالاقلام؟ ثم قال:
أتزعم يا ضخم اللغاديد أننا ... ونحن أسود الحرب، لا نعرف الحربا
فويلك! من للحرب إن لم نكن لها؟ ... ومن ذا الذي يضحي ويمسي لها تربا؟
ومن ذا يكف الجيش من جنباته ... ومن ذا يقود العين أو يصدم القلبا
وويلك، من أردى اخاك بمرعش ... وجلل ضرباً وجه والدك العضبا
وويلك من خلى ابن أختك موثقاً ... وخلاك باللقان تبتدر الشعبا
أتوعدنا بالحرب حتى كاننا ... وإياك لم يعصب بها قلبنا عصبا
لقد جمعتنا الحرب من قبل هذه ... فكنا بها أسداً وكنت بها كلبا
وسل برد، سل عنا أباك وصهره ... وسل أهل برداليس أعظمهم خطبا
وسل قرقاشا والشمقمق صهره ... وسل سبطه البطريق أثبتهم قلبا
وسل صيدكم آل الملابين، إننا ... نهبنا ببيض الهند عرضهم نهبا
وسل أهل بيرام واهل بلنطس ... وسل آل شنوان الخناجرة الغلبا
وسل بالبطرصيس العساكر كلها ... وسل بالمسيطر ناطس الروم والعربا
ألم تكفهم قتلا ونهبا سيوفنا ... وأسد الشرى الملأى وإن جمدت رعبا
بأقلامنا أجحرت أم بسيوفنا؟ ... وأسد الشرى قدنا إليك أم الكتبا؟
تفاخرنا بالضرب والطعن والقنا ... لقد أوسعتك النفس يا ابن استها كذبا
رعى الله اوفانا إذا قال ذمةوانفذنا طعنا وأثبتنا ضربا
وقال من قصيدة:
خليلي ما أعددتما لمتيم ... أسير لدى الأعداء جافى المراقد
فريد عن الاحباب لكن دموعه ... مثان على الخدين غير فرائد
جمعت سيوف الهند من كل وجهة ... وأعددت للأعداء كل مجالد
إذا كان غير الله للمرء عدة ... أتته الرزايا من وجوه الفوائد
فقد جرت الحنفاء حتف حذيفة ... وكان يراها عدة للشدائد
وجرت منايا مالك بن نويرة ... عقيلته الحسناء أيام خالد
وأردى ذؤاباً في بيوت عتيبة ... بنوه وأهلوه بشدو القصائد
ولما خفف عن أبي فراس ورفه، ونوظر في أمر الهدنة والأسارى، وأجيب إلى ملتمسه بعد أن أكرم وبجل قال:
ولله عندي في الإسار وغيره ... مواهب لم يخصص بها أحد قبلي
حللت عقوداً أعجز الناس حلها ... وما زلت لا عقدي يذم ولا حلي
إذا عاينتني الروم قد ذل صيدها ... كأنهم أسرى يدي بلا كبل
وأوسع أياماً حللت كرامة ... كأني من أهلي نقلت إلى أهلي
فأبلغ بني عمي وأبلغ بني أبي ... بأني في نعماء يشكرها مثلي
وما شاء ربي غير نشر محاسني ... وأن يعرفوا ما قد عرفتم من الفضل
ما أخرج من مزدوجته الطردية
ما العمر ما طالت به الدهور ... العمر ما تم به السرور
أيام عزي ونفاذ أمري ... هي التي أحسبها من عمري
ما أجور الدهر على بنيه ... وأغدر الدهر بمن يصفيه

(1/25)


لو شئت مما قد قللن جداً ... عددت أيام السرور عدا
أنعت يوماً مر لي بالشام ... ألذ ما مر من الأيام
دعوت بالصقار ذات يوم ... عند انتباهي سحراً من نومي
قلت له اختر سبعة كبارا ... كل نجيب يرد الغبارا
يكون للأرنب منها اثنان ... وخمسة تفرد للغزلان
واجعل كلاب الصيد نوبتين ... يرسل منها اثنان بعد اثنين
ثم تقدمت إلى الفهاد ... والبازيارين بالاستعداد
وقلت إن خمسة لتقنع ... والزرقان الفرخ والملمع
وأنت يا طباخ لا تباطا ... عجل لنا اللفات والأوساطا
ويا شرابي البلقسيات ... تكون للراح ميسرات
بالله لا تستصحبوا ثقيلا ... واجتنبوا الكثرة والفضولا
ردوا فلانا وخذوا فلانا ... وضمنوني صيدكم ضمانا
فاخترت لما وقفوا طويلاً ... عشرين أو فويقها قليلا
عصابة أكرم بها عصابه ... معروفة بالفضل والنجابة
ثم قدنا صيد عين باصر ... مظنة الصيد لكل خابر
جئناه والشمس قبيل المغرب ... تختال في ثوب الأصيل المذهب
وأخذ الدراج في الصياح ... مكتنفاً من سائر النواحي
في غفلة عنا وفي ضلال ... ونحن قد زرناه بالآجال
يطرب للصبح وليس يدري ... أن المنايا في طلوع الفجر
نحن نصلي والبزاة تخرج ... مجردات والخيول تسرح
وقلت للفهاد: إمض وانفرد ... وصح بنا إن عن ظبي واجتهد
فلم يزل غير بعيد عنا ... إليه يمضي ما يفر منا
وسرت في صف من الرجال ... كأنما نزحف للقتال
فما استوينا كلنا حتى وقف ... غليم كان قريباً من شرف
ثم أتاني عجلاً قال السبق ... فقلت إن كان العيان قد صدق
سرت إليه فأراني جاثمه ... ظننتها يقظى وكانت نائمة
ثم أخذت نبلة كانت معي ... ودرت دورين ولم أوسع
حتى تمكنت فلم أخط الطلب ... لكل حتف سبب من السبب
ومنها:
ثم دعوت القوم: هذا بازي ... فأيكم ينشط للبزاز
فقال منهم رشأ: أنا، أنا ... ولو درى ما بيدي لأذعنا
ومنها:
جئت بباز حسن وهبرج ... دون العقاب وفويق الزمج
زين لرائيه وفوق الزين ... ينظر من نارين في غارين
كأن فوق صدره والهادي ... آثار مشي الذر في الرماد
ذي منسر فخم وعين غائره ... وأفخذ مثل الجبال وافره
ضخم قريب الدستبان جداً ... يلقى الذي يحمل منه كداً
وراحة تحمل كفي سبطة ... زادت على قدر البزاة بسطه
سر وقال هات قلت مهلا ... احلف على الرد فقال كلا
أما يميني فهي عندي غالية ... وكلمتي مثل يميني وافية
فقلت خذه هبة بقبله ... فصد عني وعلته خجلة
ثم ندمت غاية الندامة ... ولمت نفسي أكثر الملامه
على مزاحي والرجال حضر ... وهو يزيد خجلاً ويحصر
فلم أزل أمسحه حتى انبسط ... وهش للصيد قليلاً ونشط
ومنها في وصف البازي واستيلائه على الكركي:
حتى إذا جندله كالعندل ... أيقنت أن العظم غير الفضل
صحت إلى الطباخ ماذا تنتظر ... انزل عن المهر وهات ما حضر
جاء بأوساط وجردباج ... من حجل الطير ومن دراج
فما تنازلنا عن الخيول ... يمنعنا الحرص من النزول
وجيء بالكأس وبالشراب ... فقلت: وفرها على أصحابي

(1/26)


أشبعني اليوم ورواني الفرح ... فقد كفاني بعض وسط وقدح
ومنها:
ثم انصرفنا والبغال موقره ... في ليلة مثل الصباح مسفرة
حتى أتينا رحلنا بليل ... وقد سبقنا بجياد الخيل
ثم نزلنا فطرحنا الصيدا ... لما عددنا مائة وزيدا
فلم نزل نشوي ونقلي ونصب ... حتى طلبنا صاحياً فلم نصب
شرباً كما عن من الزقاق ... بغير ترتيب وغير ساق
ولم نزل سبع ليال عددا ... أسعد من راح وأحظى من غدا
وحكى بديع الزمان أبو الفضل الهمذاني قال: قال الصاحب أبو القاسم يوماً لجلسائه وأنا فيهم - وقد جرى ذكر أبي فراس - : لا يقدر أحد أن يزور على أبي فراس شعراً، فقلت: ومن يقدر على ذلك وهو الذي يقول:
رويدك لا تصل يدها بباعك ... ولا تغز السباع إلى رباعك
ولا تعن العدو علي، إني ... يمين إن قطعت فمن ذراعك
فقال الصاحب: صدقت، قلت: أيد الله مولانا قد فعلت. ولعمري إنه فد حسن، ولكن لم يشق غبار أبي فراس.
وكتب على ظهر الجزء المشتمل على مزدوجته التي أولها:
ما العمر ما طالت به الدهور ... العمر ما تم به السرور
هذه الأبيات:
أروح القلب ببعض الهزل ... تجاهلاً مني بغير جهل
أمزح فيه مزح أهل الفضل ... والمزح أحياناً جلاء العقل
فصل
قد أطلت عنان الاختيار من محاسن شعر أبي فراس، وما محاسن شيء كله حسن؟ وذلك لتناسبها وعذوبة مشاعرها. ولا سيما الروميات التي رمى بها هدف الإحسان. وأصاب شاكلة الصواب، ولعمري إنها - كما قرأته لبعض البلغاء - لو سمعته الوحش أنست، أو خوطبت به الخرس نطقت، أو استدعي به الطير نزلت.
ولما خرج قمر الفضل من سراره، وأطلق أسد الحرب، عن إساره، لم تطل أيام فرحته، ولم تسمح النوائب بالتجافي عن مهجته. ودلت قصيدة قرأتها لأبي إسحاق الصابي في مرثيته على انه قتل في وقعة كانت بينه وبين موالي أسرته، وما أحسن وأصدق قول المتنبي:
فلا تنلك الليالي، إن أيديها ... إذا ضربن كسرن النبع بالغرب
ولا يعن عدواً أنت قاهره ... فإنهن يصدن الصقر بالخرب
وذكر ابن خالويه أن آخر شعر لأبي فراس قوله عند موته، رحمه الله تعالى!:
أبنيتي لا تجزعي ... كل الانام إلى ذهاب
نوحي على بحسرة ... من خلف سترك والحجاب
قولي إذا كلمتني ... فعييت عن رد الجواب
زين الشباب أبو فرا ... س لم يمتع بالشباب
اللهم ارحم تلك الروح الشريفة!!
الباب الرابع
في ملح شعر آل حمدان
وغيرهم من أمراء الشام وقضاتها وكتابها
" أخبرني جماعة من أهل الأدب أن المتنبي لما عوتب في آخر أيامه على تراجع شعره قال: قد تجوزت في قولي، وأعفيت طبعي، واغتنمت الراحة منذ فارقت آل حمدان " وفيهم من يقول:
وقد علمت بما لاقته منا ... قبائل يعرب وبنو نزار
لقيناهم بأرماح طوال ... تبشرهم بأعمار قصار
يعني أبا زهير مهلهل بن نصر بن حمدان، ومنهم من يقول - يعني أبا العشائر - :
أأخا الفوارس لو رأيت مواقفي ... والخيل من تحت الفوارس تنحط
لقرأت منها ما تخط يد الوغى ... والبيض تشكل والأسنة تنقط
وأنشدني أبو بكر الخوارزمي لبعضهم:
أغمام ما يدريك ما أفعالنا ... والخيل تحت النقع كالأشباح
تطفو وترسب في الدماء كأنها ... صور الفوارس في كؤوس الراح
وأنشدت لأبي العشائر:
سطا علينا، ومن حاز الجمال سطا، ... ظبي من الجنة الفردوس قد هبطا
له عذران قد خطا بوجنته ... فاستوقفا فوق خديه وما انبسطا
وظل يخطو فكل قال من شغف: ... يا ليته في سواد الناظرين خطا
وقال بعض الرواة: دخلت على أبي العشائر أعوده من علة هجمت عليه فقلت له: ما يجد الأمير؟ فأشار إلى غلام قائم بين يديه اسمه نسطوس كأن رضوان غفل عنه فأبق من الجنة، وأنشد:
أسقم هذا الغلام جسمي ... بما بعينيه من سقام

(1/27)


فتور عينيه من دلال ... أهدى فتوراً إلى عظامي
وامتزجت روحه بروحي ... تمازج الماء بالمدام
وكان أبو الحسن الماسرجي ينشد في تدريسه مسألة " الحر لا يقتل بالعبد " هذين البيتين، وهما لبعض آل حمدان:
خذوا بدمي هذا الغزال، فإنه ... رماني بسهمي مقلتيه على عمد
ولا تقتلوه إنني أنا عبده ... ولم أر حراً قط يقتل بالعبد
وأنشدت لبعضهم، وهو أحسن ما سمعت في معناه:
للعبد مسألة لديك جوابها ... إن كنت تذكره فهذا وقته
ما بال ريقك ليس ملحاً طعمه ... ويزيدني عطشاً إذا ما ذقته!
ووجدت بخط أبي بكر الخوارزمي هذه الأبيات منسوبة إلى أبي وائل تغلب ابن داود بن حمدان، ورويت لغيره:
لا والذي جعل الموا ... لي في الهوى خدم العبيد
وأصار في أيدي الظبا ... ء قياد أعناق الأسود
وأقام ألوية المني ... ة بين أفنية الصدود
ما الورد أحسن منظراً ... من حسن توريد الخدود
ووجدت بخطه لحمدان الموصلي:
يا رسول الحبيب ويحك قد أل ... قى عليك الحبيب حسناً وطيبا
وتعلمت حسن ألفاظه تل ... ك فظرفت بادئاً ومجيبا
ولقد كدت أن أضمك لولا ... أن يسيء الظنون أو يستريبا
خيفة أن يكون ذاك كما قي ... ل قديماً: صار الرسول حبيبا
ولأبي وائل الحمداني لما أسره المبرقع:
يا خليلي، أسعداني فقد عي ... ل، اصطباري على احتمال البليه
غربة قارظية، وغرام ... عامري ومحنة علوية
ولأبي زهير، وهو مما يتغنى به:
وزعمت أني ظالم فهجرتني ... ورميت في قلبي بسهم نافذ
فنعم ظلمتك فاغتفر لي زلتي ... هذا مقام المستجير العائذ
وأنشدني الأمير أبو الفضل عبيد الله بن أحمد الميكالي هذه الأبيات ولم يسم قائلاً، ثم وجدتها في بعض التعليقات منسوبة إلى بعض آل حمدان:
أجل عينيك في عيني تجدها ... مشربة ندى ورد الخدود
وصافحني تجد عبقاً بكفي ... يضوع إليك من ردع النهود
وخذ سمعي إليك فإن فيه ... بقايا من حديث كالعقود
وأنشدني أبو الحسن محمد بن أبي موسى الكرخي، قال: أنشدني القاضي أبو القاسم علي بن المحسن بن القاضي أبي القاسم التنوخي، قال: أنشدني أبو المطاع ذو القرنين بن ناصر الدولة أبي محمد لنفسه، تغمدهم الله تعالى برحمته وأسكنهم بحبوحة جنته!:
إني لأحسد " لا " في أسطر الصحف ... إذا رأيت اعتناق اللام للألف
وما أظنهما طال اجتماعهما ... إلا لما لقيا من شدة الشغف
قال: وأنشدني أيضاً لنفسه:
أفدى الذي زرته بالسيف مشتملاً ... ولحظ عينيه أمضى من مضاربه
فما خلعت نجادي في العناق له ... حتى لبست نجاداً من ذوائبه
فكان أنعمنا عيشاً بصاحبه ... من كان في الحب أشقانا بصاحبه
قال: وأنشدني أيضاً لنفسه:
قالت لطيف خيال زارها ومضى: ... بالله صفه ولا تنقص ولا تزد
فقال: خلفته لو مات من ظمأ ... وقلت قف عن ورود الماء لم يرد
قالت: صدقت الوفا في الحب عادته ... يا برد ذاك الذي قالت على كبدي!
وانشدني أيضاً قال: أنشدني لنفسه في جارية كانت معاجرها تبلى بسرعة:
أرى الثياب من الكتان يلمحها ... ضوء من البدر أحياناً فيبليها
وكيف تنكر أن تبلى معاجرها ... والبدر في كل حين طالع فيها
وقد أحسن غاية الإحسان، والعرب تزعم أن البدر يبلي الثياب الحلوة، وقوله:
أيا من صبرت على فقده ... وإن كان لي مؤلماً موجعا
لقد نال كل الذي يشتهي ... حسود علينا ببين دعا
وأنشدني أيضاً للحسين بن ناصر الدولة:
لو كنت أملك طرفي ما نظرت به ... من بعد فرقتكم يوماً إلى أحد
ولست أعتده من بعدكم نظراً ... لأنه نظر من مقلتي رمد
منصور وأحمد ابنا كيغلغ

(1/28)


أديبان شاعران، من أولاد أمراء الشام، فمن مشهور ملح منصور قوله:
خنت الذي أهوى من الناس ... ونمت عن جودي وعن باسي
يوم أرى الدجن فلا أرتوي ... من ريق إلفي ومن الكاس
وقوله:
كأنها والقرط في أذنها ... بدر الدجى قرط بالمشتري
قد كتب الحسن على وجهها ... " يا أعين الناس قفي وانظري "
وقوله من أبيات:
يدير في كفه مداما ... ألذ من غفلة الرقيب
كأنها إذ صفت ورقت ... شكوى محب إلى حبيب
وقوله:
عاد الزمان بمن هويت فأعتبا ... يا صاحبي فسقياني واشربا
كم ليلة سامرت فيها بدرها ... من فوق دجلة قبل أن يتغيبا
قام الغلام يديرها في كفه ... فحسبت بدر التم يحمل كوكبا
والبدر يجنح للغروب كأنه ... قد سل فوق الماء سيفاً مذهبا
وقد أكثروا في وصف القمر على الماء، وبيت منصور هذا من غرر ذلك، وأحسن ما سمعت فيه - على كثرته - قول القاضي التنوخي:
أحسن بدجلة والدجى متصوب ... والبدر في أفق السماء مغرب
فكأنها فيه بساط أزرق ... وكأنه فيها طراز مذهب
وقول أبي الفتح كشاجم:
ما زلت أسقاها على ... وجه غزال مونق
بقمر منتقب ... بخاتم منتطق
والبدر فوق دجلة ... والصبح لما يشرق
كحلية من ذهب ... على رداء أزرق
ومن ملح منصور قوله:
كتبت إليك بماء الجفون ... وقلبي بماء الهوى مشرب
فكفي تخط وقلبي يمل ... وعيني تمحو الذي تكتب
وقوله:
ألبسني ذلة العبيد ... من قلبه صيغ من حديد
ونم طرفي بما ألاقي ... من كمد دائم المزيد
وكيف يخفي الهوى عميد ... ودمه صاحب البريد
وقوله:
قالوا: عليك سبيل الصبر، قلت لهم: ... هيهات! إن سبيل الصبر قد ضاقا
ما يرجع الطرفعنه حين يبصره ... حتى يعود إليه القلب مشتاقا
ولأحمد:
لا يكن للكأس في كف ... ك يوم الغيث لبث
أو ما تعلم أن ال ... غيث ساق مستحث
وله:
ولولا أن برذون ال ... هوى يعتلف الرطبه
ركبناه إلى الصيد ... وأرسلنا له كلبه
فصدنا ثعلب الهجرا ... ن تلك الخبة الضبه
وصيرنا لزيت الوص ... ل من جلد استها ربه
وله، ويروي لديك الجن:
قلت له والجفون قرحى ... قد أقرح الدمع ما يليها
ما لي في لوعتي شبيه ... قال: وأبصرت لي شبيها؟!
وله:
بدت من خلل الحجب ... كمثل اللؤلؤ الرطب
فأدمى خدها لحظي ... وأدمى لحظها قلبي
وله:
واعطشي إلى فم ... يمج خمراً من برد
إن قسم الناس فحس ... بي بك من كل أحد
أبو محمد جعفر وأبو أحمد عبد الله ابنا ورقاء الشيباني
من رؤساء عرب الشام وقوادها، والمختصين بسيف الدولة. وما منهما إلا أديب شاعر جواد ممدوح، وبينهما وبين أبي فراس مجاوبات، وإليهما أرسل أبو فراس يقول من قصيدة:
أتاني عن بني ورقاء قول ... ألذ جنىً من الماء القراح
وأطيب من نسيم الروض حفت ... به اللذات من روح وراح
ولو أني اقترحت على زماني ... لكنتم، يا بني ورقا، اقتراحي
ولأبي أحمد في جوابها من قصيدة أولها:
أصاح قلبه أم غير صاح ... وقد عنت له عفر البطاح
ظباء الوحش تحكي مائلات ... ظباء الإنس بالصور الملاح
ومنها:
يدرن مراض أجفان صحاح ... فيا عجبي من المرضى الصحاح
وما زالت عيون العين فينا ... تؤثر فوق تأثير السلاح
ومنها:
أمطلعة الهلال على قضيب ... ومسدلة الظلام على الصباح!
عدتني عن زيارتك العوادي ... ودهر للأكارم ذو اطراح!
ومنها:

(1/29)


أمدره تغلب لسناً وعلماً ... ومصقع نطقها عند التلاحي
لقد أوتيت علماً واضطلاعا ... بآداب وألفاظ فصاح
لمقولك المضاء إذا انتضاه ال ... قصيد على المهندة الصفاح
وله من قصيدة:
ألا ليت شعري، والحوادث جمة ... وما كنت في دهري إلى الناس شاكيا
أمخترمي ريب المنون بحسرة ... تبلغ نفسي من شجاها التراقيا؟
إلى الله أشكو أن في الصدر حاجة ... تمر بها الأيام وهي كما هيا
ومنها في ذكر بني كعب وإيحاشهم سيف الدولة حتى أضربهم:
وإنهم لما استهاجوا صياله ... وما كان عن مستوجب البطش وانيا
كمن شب ناراً في شعار ثيابه ... وهيج ليثاً للفريسة ضاريا
وله من قصيدة أجاب بها عن قصيدة أبي فراس التي أولها:
لعل خيال العامرية زائر
عمرن بعمار من الإنس برهة ... فها هن صفر ليس فيهن صافر
أخلت بمغناها دمى وخرائد ... وحلت بأقصاها مها وجآذر
أهن عيون باللحاظ دوائر ... على عاشقيها أم سيوف بواتر؟
ضعائف يقهرن الأشداء قدرة ... عليهم وسلطان الصبابة قاهر
ومنها:
ألا يا ابن عم يستزيد ابن عمه ... رويدك إني لانبساطك شاكر
تصفحت ما أنفذته فوجدته ... كما استودعت نظم العقود الجواهر
وذكرني روضاً بكته سماؤه ... فضاحكه مستأسد وهو زاهر
عرائس تجلوها عليك خدورها ... ولكنما تلك الخدور دفاتر
فعدلاً، فإن العدل في الحكم سيرة ... بها سار في الناس الملوك الأساور
ولما قال أبو فراس:
إنا إذا اشتد الزما ... ن وناب خطب وادلهم
من أبيات قد مرت أجابه أبو محمد جعفر بن محمد بن ورقاء بقوله من أبيات:
أنتم كما قد قلت بل ... أعلى وأشرف يا ابن عم
ولكم سوابق كل فخ ... ر واللواحق من أمم
أحسنت والله العظي ... م نظام بيتك حين تم
فيما ذكرت من السيو ... ف وما ذكرت من النعم
حتى كأن بنظمه ... للحسن دراً منتظم
وكتب أبو محمد عند حصوله ببغداد بعد وفاة سيف الدولة إلى أبي إسحاق الصابي، وكانت بينهما مودة وتزاور فانقطع عنه أبو إسحاق لبعض العوائق:
يا ذا الذي جعل القطيعة دأبه ... إن القطيعة موضع للريب
إن كان ودك في الطوية كامناً ... فاطلب صديقاً عالماً بالغيب!
فأجابه أبو إسحاق بهذه الأبيات:
قد يهجر الخل السليم الغيب ... للشغل وهو مبراً من ريب
ويواصل الرجل المنافق مبدياً ... لك ظاهراً مستبطنا للعيب
لا تفرحن من الصديق بشاهد ... حتى يكون موافقاً للغيب
وتأمل المسود من شعر الفتى ... أهو الشبيه أم خضاب الشيب؟
وإذا ظفرت بذي وداد خالص ... فاغفر له ما دون غش الجيب
وكتب إليه أبو إسحاق قصيدة طويلة فأجابه بقصيدة منها:
ومشمولة صرفت بشربها ... وجوه لحاتي قاطبات الحواجب
إذا جال فيها المزج خلت حبابها ... عيون الأفاعي أو قرون الجنادب
وعاذلة في بذل ما ملكت يدي ... رددت لها المسعى بصفقة خائب
فإن زئير الأسد من كل جانب ... ليشغل سمعي عن صياح الثعالب
أفي الحق أن قايست غير محقق ... فظاظة جندي إلى ظرف كاتب
ولا سيما أنت الذي نشرت له ... محاسن كالأعلام فوق المراقب
وما زلت بين الناس صدر محافل ... وعين مقامات وقلب مواكب
وكتب إليه أبو أحمد قصيدة منها:
يا هلالاً يدعى أبوه هلالا ... جل باريك في الورى وتعالى
أنت بدر حسناً، وشمس علواً، ... وحسام عزماً، وبحر نوالا
أبو حصين علي بن عبد الملك الرقي القاضي بحلب

(1/30)


هو الذي يقول فيه السري الموصلي من قصيدة:
لقد أضحت خلال أبي حصين ... حصوناً في الملمات الصعاب
كساني ظل وابله، وآوى ... غرائب منطقي بعداغتراب
وكنت كروضة سقيت سحاباً ... فأثنت بالنسيم على السحاب
وكتب إليه أبو فراس - وقد عزم على المسير إلى الرقة - قصيدة افتتاحها:
يا طول شوقي إن كان الرحيل غدا ... لا فرق الله فيما بيننا أبدا
فأجابه القاضي بقصيدة أولها:
الحمد لله حمداً دائماً أبداً ... أعطاني الدهر ما لم يعطه أحدا
ومنها:
إن كان ما قيل من سير الركاب غداً ... حقاً فإني أرى وشك الحمام غدا
ومنها في ذكر سيف الدولة:
لولا الأمير وأن الفضل مبدؤه ... منه لقلت بأن الفضل منك بدا
دام البقاء له ما شاء مقتدراً ... تمضي أوامره، إن حل أو عقدا
يذل أعداءه عزاً، ويرفع من ... والاه فضلاً، ويبقى للعلا أبدا
وكتب أبو حصين إلى أبي فراس من قصيدة جواباً:
من واثب الدهر كان الدهر قاهره ... ومن شكا ظلمه قلت نواصره
إن كان سار فإن الروح تذكره، ... والعين تبصره، والقلب حاضره
يا من أخالصه ودي، وأمحضه ... نصحي، وتأتيه من وصفي جواهره
أتى كتابك والأنفاس خافتة ... والجسم مستسلم، والسقم قاهره
والطرف منكسر، والشوق طارقه، ... والوجد باطنه، والصبر ظاهره
فانتاشني وأعاد الروح في بدني ... وشد صدعاً وكسراً أنت جابره
ما زلت في نزهة منه وفي زهر ... وأحسن الروض ما دامت زواهره
حسبي بسيدنا فخراً أصول به ... هو الفخور وما خلق يفاخره
من ذا يطاوله؟ أم من يماجده؟ ... أم من يساجله؟ أم من يكاسره؟
أم من يفاقهه؟ أم من يشاعره؟ ... أم من يجادله؟ أم من يناظره؟
أم من يقاربه في كل مكرمة؟ ... أم من يناضله؟ أم من يساوره؟
أم من يبارزه؟ أم من يواقفه ... في كل معترك؟ أم من يصابره؟
الحرب نزهته، والبأس همته ... والسيف عزمته، والله ناصره
والجود لذته، والشكر بغيته ... والعفو والعرف والتقوى ذخائره
ومنها:
هذا جواب عليل لا حراك به ... قد خانه فهمه، بل مات خاطره
يشكو إليك بعاداً عنك أتلفه ... وطول شوق ونيراناً تخامره
إن كان قصر فيما قال مجتهداً ... فأنت بالعدل والإحسان عاذره
وقال أيضاً فيه:
آليت إني ما بقيت ... رهين شكر الحارث
فإذا المنية شارفت ... ورثت ذلك وارثي
رقي له من بعد سي ... دنا وليس لثالث
قسماً على صدق الضمير ... ولست فيه بحانث
أبو الفرج سلامة بن بحر
أحد قضاة سيف الدولة
يقول شعراً يكاد بأجزاء الهواء رقة وخفة، ويجري مع الماء لطافة وسلاسة، كقوله:
من سره العيد فما سرني ... بل زاد همي وأشجاني
لأنه ذكرني ما مضى ... من عهد أحبابي وإخواني
ونظيرهما لغيره:
من سره العيد الجدي ... د فما لقيت به سرورا
كان السرور يتم لي ... لو كان أحبابي حضورا
ولأبي الفرج، ويروى للقاضي أبي النعمان البصري:
نوح حمام بيثرب غرد ... هيج شوقي وزاد في كمدي
واكبدي من عذابكم! وكذا ... من ذاق ما ذاقت صاح واكبدي!
فارقت إلفي فصار في بلد ... بالرغم مني، وصرت في بلد
وأنشدني أبو علي محمد بن عمر الزاهر، قال: أنشدني القاضي أبو الفرج ببيروت لنفسه:
مولاي ما لي منك بخت ... قد ذبت من كمد ومت
تصفو بك الدنيا ولا ... يصفو لعبدك منك وقت
مولاي ما ذنبي إلي ... ك؟ فلو عرفت الذنب تبت

(1/31)


لا أنني أنسيتكم ... أو أنني للعهد خنت
إن كان ذاك فلا بقي ... ت، وإن بقيت فلا سلمت
أبو محمد عبد الله بن عمرو
بن محمد الفياض
كاتب سيف الدولة ونديمه، معروف ببعد المدى في مضمار الأدب وحلبة الكتابة، أخذ بطرفي النظم والنثر، وكان سيف الدولة لا يؤثر عليه في السفارة إلى الحضرة أحداً لحسن عبارته وقوة بيانه، ونفاذه في استغراق الأغراض، وتحصيل المراد، وقد ذكره أبو إسحاق الصابي في الكتاب " التاجي " ومدحه السري بقصائد منها قوله من قصيدة:
محت رسم الكرى عن مقلتيه ... رواسم لا تمل من الرسيم
تروم وقد فرعن بنا فروعاً ... من الفياض طيبة الأروم
إذا طافت بعبد الله لاقت ... سمات المجد في الوجه الوسيم
لك القلم الذي يضحي ويمسي ... به الإقليم محمي الحريم
هو الصل الذي لو عض صلاً ... لأسلمه إلى ليل السليم
أخو حكم إذا بدأت وعادت ... حكمن بعجز لقمان الحكيم
ملكت خطامها فعلوت قساً ... برونقها وقيس بن الخطيم
نجوم لا تعوز فمن درار ... يسار بضوئهن ومن رجوم
كحلي الخود مؤتلف النواحي ... ووشي الروض مختلف الرقوم
وكان يعجن مداده بالمسك، ولا تلاق دواته إلا بماء الورد، تفادياً من قول القائل:
دعي في الكتابة لا روي ... له فيها يعد ولا بديه
كأن دواته من ريق فيه ... تلاق فريحها أبداً كريه
وإيثاراً لما قال الآخر:
في كفه مثل سنان الصعده ... أرقش بز الأفعوان جلده
كأنما النقش إذا استمده ... غالية مدوفة بنده
ومن ملح شعره قوله، ولم أسمع في معناه أحسن منه:
قم فاسقني بين خفق الناي والعود ... ولا تبع طيب موجود بمفقود
كأساً إذا أبصرت في القوم محتشماً ... قال السرور له قم غير مطرود
نحن الشهود وخفق العود خاطبنا ... نزوج ابن سحاب بنت عنقود
وأنشدني أبو علي محمد عمر الزاهر، قال: أنشدني ابن الفياض لنفسه بحلب في غلام أثير لديه استوحش منه لميله إلى غلام آخر يقال له إقبال:
أنكرت إقبالي على إقبال ... وخشيت أن تتساويا في الحال
هيهات! لا تجزع فكل طريفة ... ربح يهون وأنت رأس المال
قال: وأنشدني لنفسه في ذلك الغلام:
الآن تهجرني وأنت المذنب ... وظننت أنك عاتب لا تعتب
وأمنت من قلبي التقلب واثقاً ... بوفائه لك، والقلوب تقلب
وقال:
وما بقيت من اللذات إلا ... محادثة الكرام على الشراب
ولثمك وجنتي قمر منير ... يجول بخده ماء الشباب
أبو القاسم الشيظمي
قال يصف نمرقة رآها بجنب سيف الدولة:
نمرقة منها استعا ... ر الروض أصناف الملح
فيها لمن يبصر من ... ريش الطواويس ملح
كأنما دارت على ... سمائها قوس قزح
أبو ذر أستاذ سيف الدولة
قال:
نفسي الفداء لمن عصيت عواذلي ... في حبه لم أخش من رقبائه
الشمس تطلع في أسرة وجهه ... والبدر يطلع من خلال قبائه
وله أيضاً:
مروع منك كل يوم ... محتمل فيك كل لوم
إن كنت أنكرت ملك رقي ... عصباً صراحاً بغير سوم
فقل لجنبي: أين قلبي؟ ... وقل لعيني: أين نومي؟
أبو الفتح البكتمري
يعرف بابن الكاتب الشامي، له شعر يتغنى بأكثره ملاحة ولطافة، أنشدني أبو بكر الخوارزمي، قال: أنشدني ابن الكاتب لنفسه بالشام:
وروضة راضية عن الديم ... وطأتها بناظري دون القدم
وصنتها صوني بالشكر النعم
قال: وأنشدني لنفسه:
قالوا: بكيت دماً؟ فقل ... ت: مسحت من خدي خلوقا
أبصرت لؤلؤ ثغره ... فنثرت من جفني عقيقا
لولا التمسك بالهوى ... لحملت في دمعي غريقا
وأنشدني غيره له:

(1/32)


قمر كأن قوامه ... من قد غصن مسترق
وكأنما اصطبح الربي ... ع بوجنتيه واغتبق
وكأنما قلم الزمر ... د فوق عارضه مشق
وله من أبيات:
سقاني بعينيه كأس الهوى ... وثنى وثلث بالحاجب
كأن العذار على خده ... فذالك من مشقة الكاتب
ووجدت على ظهر دفتر عراقي الخط هذين البيتين منسوبين إليه:
ردوا الهدو كما عهدت إلى الحشا ... والمقلتين إلى الكرى ثم اهجروا
من بعد مالكي رمتم أن تغدروا ... ما بعد فرقة بيعين تخير
وله زعم في الميضأة:
أحق بيت من بيوت الورى ... بصونه قدماً وإيثاره
بيت إذا ما زاره زائر ... فقد قضى أعظم أوطاره
يدخله المولى بخز كما ... يدخله العبد بأطماره
وهو إذا ما كان مستنظفاً ... مروءة الإنسان في داره
وأنشدني أبو بكر الخوارزمي، قال: أنشدني بعضهم لنفسه في أبي الفتح ابن الكاتب، ولم ينصف فضله:
إن أبا الفتح فتى كاتب ... والشعر من آلته فضل
أنشدنا شعراً فقلنا له: ... ذا غزل ويحك أم غزل؟
وملت عنه نحو أصحابنا ... أسألهم: هل عندكم نعل!؟
أبو الفرج العجلي الكاتب
أنشدني أبو بكر الخوارزمي له أبياتاً تعجب من سلاستها وسهولة مأخذها وعذوبة ألفاظها، وذكر أنه من أفراد مطبوعي تلك البلاد، فمنها قوله:
أقول له يا مذيقي الهوى ... ولم أك فيما مضى ذقته
سألتك بالله لا تدنني ... إلى أجل ما دنا وقته
ملكت فؤادي فعذبته ... ولو أنه في يدي صنته
ومنها قوله:
أرسلت نظرة وامق لك خائف ... من عين واش لحظه ما يفتر
وجعلت أوهم أن قلبي مضمر ... شيئاً سوى نظري، وأنت المضمر
ومنها قوله:
وأريه أني سلوت، وإني ... لمشوق والله صب إليه
وهواه يدب في كل قلب ... كدبيب السواد في عارضيه
ومنها قوله وأنشدنيه غيره:
عذار كالطراز على الطراز ... وبدر في الحقيقة لا المجاز
ولو جاز السجود له سجدنا ... ولكن ليس ذاك بمستجاز
أبو عبد الله الحسين بن خالويه
أصله من همذان، ولكن استوطن حلب، وصار بها أحد أفراد الدهر في كل قسم من أقسام الأدب والعلم، وكانت إليه الرحلة من الآفاق، وآل حمدان يكرمونه، ويدرسون عليه، ويقتبسون منه، وله شعر لم يحضرني منه الآن إلا قوله في وصف برد همذان:
إذا همذان اعتارها القر وانقضى ... برغمك أيلول وأنت مقيم
فعينك عمشاء وأنفك سائل ... ووجهك مسود البياض بهيم
وأنت أسير البرد تمشي بعلة ... على السيف تحبو مرة وتقوم
بلاد إذا ما الصيف أقبل جنة ... ولكنها عند الشتاء جحيم
ولبعضهم في برد همذان:
همذان متلفة النفوس ببردها ... والزمهرير، وحرها مأمون
غلب الشتاء مصيفها وخريفها ... فكأنما تموزها كانون
ولأبي علي كاتب بكر:
يا بلدة أسلمني بردها ... وبرد من يسكنها للقلق
لا يسلم الشاتي به من أذى ... من لثق أو دمق أو زلق
ولأبي الربيع البلخي في الشاش:
الشاش في الصيف جنة ... ومن أذى الحر جنه
لكنني تعتريني ... بها لدى البرد جنه
وفي مثل هذه الصنعة، وإن كان في غير المعنى، لغيره:
يا شادناً مت قبله ... قد صار في الحسن قبله
امنن علي بقبلة ... تشفي فؤاداً موله
ولابن خالويه أيضاً:
إذا لم يكن صدر المجالس سيداً ... فلا خير فيمن صدرته المجالس
وكم قائل: ما لي رأيتك راجلاً؟ ... فقلت له: من أجل أنك فارس!
أبو الفتح عثمان بن جنى
النحوي اللغوي

(1/33)


هو القطب في لسان العرب، وإليه انتهت الرياسة في الأدب، وصحب أبا الطيب دهراً طويلاً، وشرح شعره، ونبه على معانيه وإعرابه، وكان الشعر أقل خلاله لعظم قدره، وارتفاع حاله. فمن ذلك قوله في الغزل:
غزال غير وحشي ... حكى الوحشي مقلته
رآه الورد يجني الور ... د فاستكساه حلته
وشم بأنفه الريحا ... ن فاستهداه زهرته
وذاقت ريقه الصهبا ... ء فاختلسته نكهته
وله:
أيا دارهم ما أنت أنت مذ انتووا ... ولا أنا مذ سار الركاب أنا أنا
وجود المنى أن لا يكاثر بالمنى ... ونيل الغنى أن لا يكاثر بالغنى
ومن كان في الدنيا أشد تصوراً ... تجده عن الدنيا أشد تصونا
الشمشاطي
هو أبو الفتح الحسن بن علي بن محمد، لم يقع إلي من شعره إلا قوله في البنفسج:
إشرب على زهر البنفس ... ج قبل تأنيب الحسود
فكأنما أوراقه ... آثار قرص في الخدود
وقوله في الجلنار:
وبدا الجلنار مثل خدود ... قد كساها الحياء ثوب عقار
صبغة الله كالعقيق تراه ... أحمراً ناصعاً لدى الاخضرار
وممن يليق ذكره بهذا المكان من أعيان الشام، وليس يحضرني شعر أبو القاسم الآدمي، وإذا حصلت عليه ألحقته به، وهذا أخر الباب الرابع.
الباب الخامس
في ذكر أبي الطيب المتنبي
وما له وما عليه
هو - وإن كان كوفي المولد - شامي المنشأ، وبها تخرج، ومنها خرج.
نادرة الفلك، وواسطة عقد الدهر في صناعة الشعر، ثم هو شاعر سيف الدولة المنسوب إليه، والمشهور به، إذ هو الذي جذب بضبعه، ورفع قدره، ونفق سعر شعره، وألقى عليه شعاع سعادته، حتى سار ذكره مسير الشمس والقمر، وسافر كلامه في البدو والحضر، وكادت الليالي تنشده، والأيام تحفظه، كما قال وأحسن ما شاء:
وما الدهر إلا من رواة قصائدي ... إذا قلت شعراً أصبح الدهر منشدا
فسار به من لا يسير مشمراً ... وغنى به من لا يغني مغردا
وكما قال:
ولي فيك ما لم يقل قائل ... وما لم يسر قمر حيث سارا
وعندي لك الشرد السائرا ... ت لا يختصصن من الأرض دارا
إذا سرن من مقول مرة ... وثبن الجبال وخضن البحارا
هذا من أحسن ما قيل في وصف الشعر السائر، وأبلغ منه قول علي بن الجهم حيث قال:
ولكن إحسان الخليفة جعفر ... دعاني إلى ما قلت فيه من الشعر
فسار مسير الشمس في كل بلدة ... وهب هبوب الريح في البر والبحر
فليس اليوم مجالس الدرس، أعمر بشعر أبي الطيب من مجالس الأنس ولا أقلام كتاب الرسائل، أجرى به من ألسن الخطباء في المحافل، ولا لحون المغنين والقوالين، أشغل به من كتب المؤلفين والمصنفين. وقد ألفت الكتب في تفسيره، وحل مشكله وعويصه، وكثرت الدفاتر على ذكر جيده ورديئه، وتكلم الأفاضل في الوساطة بينه وبين خصومه، والإفصاح عن أبكار كلامه وعونه. وتفرقوا فرقاً في مدحه والقدح فيه والنضح عنه، والتعصب له وعليه. وذلك أول دليل دل على وفور فضله، وتقدم قدمه، وتفرده عن أهل زمانه، بملك رقاب القوافي، ورق المعاني، فالكامل من عدت سقطاته، والسعيد من حسبت هفواته " وما زالت الأملاك تهجي وتمدح " .
وأنا مورد في هذا الباب ذكر محاسنه ومقابحه، وما يرتضى وما يستهجن من مذاهبه في الشعر وطرائقه، وتفصيل الكلام في نقد شعره، والتنبيه على عيونه وعيوبه، والإشارة إلى غرره وعرره، وترتيب المختار من قلائده وبدائعه، بعد الأخذ بطرف من طرق أخباره ومتصرفات أحواله، وما تكثر فوائده وتحلو ثمرته، ويتميز هذا الباب به عن سائر أبواب الكتاب كتميزه عن أصحابها بعلو الشأن في شعر الزمان، والقبول التام عند أكثر الخاص والعام.
ذكر ابتداء أمره

(1/34)


ذكرت الرواة أنه ولد بالكوفة في كندة سنة ثلاث وثلاثمائة، وأن أباه سافر إلى بلاد الشام، فلم يزل ينقله من باديتها إلى حضرها، ومن مدرها إلى وبرها، ويسلمه في المكاتب، ويردده في القبائل، ومخايله نواطق الحسنى عنه. وضوامن النجح فيه، حتى توفي أبوه وقد ترعرع أبو الطيب وشعر وبرع، وبلغ من كبر نفسه وبعد همته أن دعا إلى بيعته قوماً من رائشي نبله، على الحداثة من سنه والغضاضة من عوده. وحين كاد يتم له أمر دعوته تأدى خبره إلى والي البلدة، ورفع إليه ما هم به من الخروج، فأمر بحبسه وتقييده، وهو القائل في الحبس قصيدته التي أولها:
أياه خدد الله ورد الخدود ... وقد قدود الحسان القدود
ومنها استعطافه ذلك الأمير والتنصل مما قذف به:
أمالك رقي، ومن شأنه ... هبات اللجين وعتق العبيد
دعوتك عند انقطاع الرجا ... ء والموت مني كحبل الوريد
دعوتك لما براني البلى ... وأوهن رجلي ثقل الحديد
ومنها:
وقد كان مشيهماً في النعال ... فقد صار مشيهماً في القود
وكنت من الناس في محفل ... فها أنا في محفل من قرود
تعجل في وجوب الحدود ... وحدي قبل وجوب السجود!
أي: إنما تجب الحدود على البالغ، وأنا صبي لم تجب علي الصلاة بعد، ويجوز أن يكون قد صغر سنه وأمر نفسه عند الوالي، لأن من كان صبياً لم يظن به اجتماع الناس إليه للشقاق والخلاف.
ومن شعره في الحبس ما كتب به إلى صديق له قد كان أنفذ إليه مبره:
أهون بطول الثواء والتلف ... والسجن والقيد، يا أبا دلف
غير اختيار قبلت برك بي ... والجوع يرضي الأسود بالجيف
يشبه قول أبي عيينة:
ما أنت إلا كلحم ميت ... دعا لي إلى أكله اضطرار
" رجع " :
كن أيها السجن كيف شئت فقد ... وطنت للموت نفس معترف
لو كان سكناي فيك منقصة ... لم يكن الدر ساكن الصدف
ويحكى أنه تنبأ في صباه، وفتن شرذمة بقوة أدبه، وحسن كلامه، وحكى أبو الفتح عثمان بن جنى قال: سمعت أبا الطيب يقول: إنما لقبت بالمتنبي لقولي:
أنا ترب الندى ورب القوافي ... وسمام العدا وغيظ الحسود
أنا في أمة تداركها الل ... ه غريب كصالح في ثمود
وفي هذه القصيدة يقول:
ما مقامي بأرض نخلة إلا ... كمقام المسح بين اليهود
وما زال في برد صباه إلى أن أخلق برد شيايه، وتضاعفت عقود عمره، يدور حب الولاية والرياسة في رأسه، ويظهر ما يضمر من كامن وسواسه، في الخروج على السلطان، والاستظهار بالشجعان، والاستيلاء على بعض الأطراف، ويستكثر من التصريح بذلك في مثل قوله:
لقد تصبرت حتى لات مصطبر ... فالآن أقحم حتى لات مقتحم
لأتركن وجوه الخيل ساهمة ... والحرب أقوم من ساق على قدم
والطعن يحرقها والزجر يقلقها ... حتى كأن بها ضرباً من اللمم
قد كلمتها العوالي فهي كالحة ... كأنما الصاب مذرور على اللجم
بكل منصلت ما زال منتظري ... حتى أدلت له من دولة الخدم
شيخ يرى الصلوات الخمس نافلة ... ويستحل دم الحجاج في الحرم
وقوله:
سأطلب حقي بالقنا ومشايخ ... كأنهم من طول ما التثموا مرد
ثقال إذا لاقوا، خفاف إذا دعواكثير إذا شدواقليل إذا عدوا
وطعن كأن الطعن لا طعن بعده ... وضرب كأن النار من حره برد
إذا شئت حفت بي على سابح ... رجال كأن الموت في فمها شهد
وقوله:
ولا تحبسن المجد زقاً وقينة ... فما المجد إلا السيف والفتكة البكر
وتضريب أعناق الملوك وان ترى ... لك الهبوات السود والعسكر المجر
وتركك في الدنيا دوياً كأنما ... تداول سمع المرء أنمله العشر
وقوله:
وإن عمرت جعلت الحرب والدة ... والسمهري أخاً، والمشرفي أبا
بكل أشعث يلقى الموت مبتسماً ... حتى كأن له في قتله أرباً

(1/35)