صدر هذا الكتاب آليا بواسطة الموسوعة الشاملة
(اضغط هنا للانتقال إلى صفحة الموسوعة الشاملة على الإنترنت)
الكتاب : يتيمة الدهر |
قح يكاد صهيل الخيل يقذفه ... من سرجه مرحاً للعز أو طربا (1/36)
الموت أعذر لي، والصبر أجمل بي، والبر أوسع، والدنيا لمن غلبا
وكان كثيراً ما يتجشم أسفاراً بعيدة أبعد من آماله، ويمشي في مناكب الأرض، ويطوي المناهل والمراحل، ولا زاد إلا من ضرب الحراب، على صفحة المحراب. ولا مطية إلا الخف أو النعل، كما قال:
لا ناقتي تقبل الرديف ولا ... بالسوط يوم الرهان أجهدها
شراكها كورها، ومشفرها ... زمامها، والشسوع مقودها
وإنما ألم في هذا المعنى بأبي نواس في قوله:
إليك أبا العباس من بين من مشى ... عليها امتطينا الحضرمي الملسنا
قلائص لم تعرف حنيناً على طلا ... ولم تدر ما قرع الفنيق ولا الهنا
وكما قال في شكوى الدهر ووصف الخف:
أظمتني الدنيا فما جئتها ... مستسقياً مطرت علي مصائبا
وحبيت من خوص الركاب بأسود ... من دارش فغدوت أمشي راكبا
وكما قال في الاعتداد بالرحلة، والقدرة على الرجلة:
ومهمه جبته على قدمي ... تعجز عنه العرامس الذلل
بصارمي مرتد، بمخبرتي ... مجتزئ، بالظلام معتمل
إذا صديق نكرت جانبه ... لم تعيني في فراقه الحيل
في سعة الخافقين مضطرب ... وفي بلاد من أختها بدل
وشتان ما بين حاله هذه والحال التي قال فيها:
وعرفاهم بأني من مكارمه ... أقلب الطرف بين الخيل والخول
وكان قبل اتصاله بسيف الدولة يمدح القريب والغريب، ويصطادها ما بين الكركي والعندليب.
ويحكى أن علي بن منصور الحاجب لم يعطه على قصيدته فيه التي أولها:
بأبي الشموس الجانحات غواربا ... اللابسات من الحرير جلاببا
ومنها:
حال متى علم ابن منصور بها ... جاء الزمان إلي منها تائبا
إلا ديناراً واحداً، فسميت الدينارية.
ولما انخرط في سلك سيف الدولة، ودرت له أخلاف الدنيا على يده، كان من قوله فيه:
تركت السري خلفي لمن قل ماله ... وأنعلت أفراسي بنعماك عسجدا
وقيدت نفسي في هواك محبة ... ومن وجد الإحسان قيداً تقيدا
وهذا البيت من قلائده، وإنما ألم فيه بقول أبي تمام:
هممي معلقة عليك رقابها ... مغلولة، إن الوفاء إسار
ولكنه أخذ عباءة وردها ديباجاً، وأرسلها مثلاً سائراً، وكرر هذا المعنى فزاد عليه حتى كاد يفسده في قوله:
يا من يقتل من أراد بسيفه ... أصبحت من قتلاك بالإحسان
نبذ من أخباره
لما أنشد سيف الدولة قصيدته التي أولها:
أجاب دمعي وما الداعي سوى طلل ... دعا فلباه، قبل الركب والإبل
وناوله نسختها وخرج فنظر فيها سيف الدولة، فلما انتهى إلى قوله:
يا أيها المحسن المشكور من جهتي ... والشكر من جهة الإحسان، لا قبلي
ما كان نومي إلا فوق معرفتي ... بأن رأيك لا يؤتى من الزلل
أقل أنل أقطع احمل عل سل أعد ... زد هش بش تفضل أدن سر صل
وقع تحت أقل: قد أقلناك، وتحت أنل: يحمل إليه من الدراهم كذا، وتحت أقطع: قد أقطعناك الضيعة الفلانية ضيعة ببلاد حلب، وتحت احمل: يقاد إليه الفرس الفلاني، وتحت عل: قد فعلنا، وتحت سل: قد فعلنا فاسل، وتحت أعد: أعدناك إلى حالك من حسن رأينا، وتحت زد: يزاد كذا، وتحت تفضل: قد فعلنا، وتحت أدن: قد أدنيناك، وتحت سر: قد سررناك. وتحت صل: قد فعلنا.
قال ابن جني: فبلغني عن المتنبي أنه قال: إنما أردت سر من السرية، فأمر له بجارية.
قال: وحكى لي بعض إخواننا أن المعقلي - وهو شيخ كان بحضرته ظريف - قال له - وحسد المتنبي على ما أمر به - : يا مولاي قد فعلت به كل شيء سألكه، فهلا قلت له لما قال لك هش بش: هه هه هه، يحكي الضحك، فضحك سيف الدولة، فقال له: ولك أيضاً ما تحب، وأمر له بصلة.
وذكر القاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز في كتاب " الوساطة " أن أبا الطيب نسج على منوال ديك الجن فقال:
احل وامرر وضر وانفع ولن واخ ... شن ورش وابر وانتدب للمعالي
وحكى ابن جني قال: حدثني أبو علي الحسن بن أحمد الصنوبري، قال: خرجت من حلب أريد سيف الدولة، فلما برزت من السور إذا أنا بفارس مثلثم قد أهوى نحوي برمح طويل، وسدده إلى صدري، فكدت أطرح نفسي عن الدابة فرقاً، فلما قرب مني ثنى السنان وحسر لثامه فإذا المتنبي، وأنشدني: (1/37)
نثرنا رءوساً بالأحيدب منهم ... كما نثرت فوق العروس الدراهم
ثم قال: كيف ترى هذا القول؟ أحسن هو؟ فقلت له: ويحك! قد قتلتني يا رجل، قال ابن جني: فحكيت أنا هذه الحكاية بمدينة السلام لأبي الطيب، فعرفها وضحك لها، وذكر أبا علي من التقريظ والثناء بما يقال في مثله.
قال: وأنشدت أبا علي ليلاً قصيدة المتنبي التي اولها:
واحر قلباه ممن قلبه شبم
فلما وصلت إلى قوله فيها:
وشر ما قنصته راحتي قنص ... شهب البزاة سواء فيه والرخم
أعجب جداً به، ولم يزل يستعيده، حتى حفظه، ومعناه: إذا تساويت ومن لا قدر له في أخذ عطاياك فأي فضل لي عليه؟ وما كان من الفائدة كذا لم أفرح به، وإنما أفرح بأخذ ما تختص به الأفاضل.
قال: وحدثني المتنبي قال: حدثني فلان الهاشمي من أهل حران بمصر، قال: أحدثك بطريفة، كتبت إلى امرأتي بحران كتاباً تمثلت فيه ببيتك:
بم التعلل لا أهل ولا وطن ... ولا نديم ولا كأس ولا سكن؟
فأجابتني عن الكتاب، وقالت: ما أنت والله كما ذكرته في هذا البيت، بل أنت كما قال الشاعر في هذه القصيدة:
سهرت بعد رحيلي وحشة لكم ... ثم استمر مريري وارعوى الوسن
قال: ولما سمع سيف الدولة البيت الذي يتلوه وهو يقول:
وإن بليت بود مثل ودكم ... فإنني بفراق مثله قمن
قال: سار وحق أبي.
قال: ولما سمع قوله لفنا خسرو:
وقد رأيت الملوك قاطبة ... وسرت حتى رأيت مولاها
قال: ترى هل نحن في الجملة؟ سمعت أبا بكر الخوارزمي يقول: كان أبو الطيب المتنبي قاعداً تحت قول الشاعر:
وإن أحق الناس باللوم شاعر ... يلوم على البخل الرجال ويبخل
وإنما أعرب عن عادته وطريقته في قوله:
بليت بلى الأطلال إن لم أقف بها ... وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمه
فحضرت عنده يوماً بحلب وقد أحضر مالاً من صلات سيف الدولة، فصب بين يديه على حصير قد افترشه، ووزن وأعيد في كيس، وإذا بقطعة كأصغر ما يكون من ذلك المال قد تخللت خلل الحصير، فأكب عليها بمجامعه ينقرها ويعالج استنقاذها منه، ويشتغل بذلك عن جلسائه حتى توصل إلى إظهار بعضها، فتمثل ببيت قيس بن الخطيم:
تبدت لنا كالشمس بين غمامة ... بدا حاجب منها وضنت بحاجب
ثم استخرجها، وأمر بإعادتها إلى مكانها من الكيس، وقال: إنها تحضر المائدة.
وسمعته يقول: لما أنشد المتنبي عضد الدولة قصيدته فيه التي اولها:
مغاني الشعب طيباً في المغاني
وانتهى إلى قوله فيها:
وألقى الشرق منها في ثيابي ... دنانيراً تفر من البنان
قال له عضد الدولة: لأقرنها في يديك، ثم فعل.
قال: ولما قدم أبو الطيب من مصر بغداد، وترفع عن مدح المهلبي الوزير، ذهاباً بنفسه عن مدح غير الملوك، شق ذلك على المهلبي، فأغرى به شعراء بغداد، حتى نالوا من عرضه، وتباروا في هجائه، وفيهم ابن الحجاج وابن سكرة محمد بن عبد الله الزاهد الهاشمي، والحاتمي، وأسمعوه ما يكره، وتماجنوا به، وتنادروا عليه، فلم يجبهم ولم يفكر فيهم، وقيل له في ذلك، فقال: إني فرغت من إجابتهم بقولي لمن هم أرفع طبقة منهم في الشعراء:
أرى المتشاعرين غروا بذمي ... ومن ذا يحمل الداء العضالا
ومن يك ذا فم مر مريض ... يجد مراً به الماء الزلالا
وقولي:
أفي كل يوم تحت ضبني شويعر ... ضعيف يقاويني قصير يطاول
لساني بنطقي صامت عنه عادل ... وقلبي بصمتي ضاحك منه هازل
وأتعب من ناداك من لا تجيبه ... وأغيظ من عاداك من لا تشاكل
وما التيه طبي فيهم غير أنني ... بغيض إلي الجاهل المتعاقل
وقولي:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني فاضل
قال: وبلغ أبا الحسين بن لنكك بالبصرة ما جرى على المتنبي من وقيعة شعراء بغداد فيه، واستحقارهم له، وكان حاسداً له، طاعناً عليه، هاجياً إياه، زاعماً أن أباه كان سقاء بالكوفة فشمت به وقال: (1/38)
قولا لأهل زمان لا خلاق لهم ... ضلوا عن الرشد من جهل بهم وعموا
أعطيتهم المتنبي فوق منيته ... فزوجوه برغم أمهاتكم
لكن بغداد جاد الغيث ساكنها ... نعالهم في القفا السقاء تزدحم
قال: ومن قوله فيه:
متنبيكم ابن سقاء كوفا ... ن ويوحى من الكنيف إليه
كان من فيه يسلح الشعر حتى ... سلحت فقحة الزمان عليه
ومن قوله أيضاً فيه:
ما أوقح المتنبي ... فيما حكى وادعاه
أبيح مالاً عظيماً ... حتى أباح قفاه
يل سائلي عن غناه ... من ذاك كان غناه
إن كان ذاك نبياً ... فالجاثليق إله
ثم إن أبا الطيب المتنبي اتخذ الليل جملاً، وفارق بغداد متوجهاً إلى حضرة أبي الضل بن العميد مراغماً للمهلبي الوزير، فورد أرجان، وأحمد مورده، فيحكى أن الصاحب أبا القاسم طمع في زيارة المتنبي إياه بأصبهان، وإجرائه مجرى مقصوديه من رؤساء الزمان، وهو إذ ذاك شاب وحاله حويلة، ولم يكن استوزر بعد، وكتب إليه يلاطفه في استدعائه، وتضمن له مشاطرته جميع ماله، فلم يقم له المتنبي وزناً، ولم يجبه عن كتابه ولا إلى مراده، وقصد حضرة عضد الدولة بشيراز، فأسفرت سفرته عن بلوغ الأمنية، وورد مشرع المنية، واتخذه الصاحب غرضاً يرشقه بسهام الوقيعة، ويتتبع عليه سقطاته في شعره وهفواته، وينعي عليه سيئاته، وهو أعرف الناس بحسناته، وأحفظهم لها، وأكثرهم استعمالاً إياها وتمثلاً بها في محاضراته ومكاتباته، وكان مثله معه كما قال الشاعر:
شتمت من يشتمني مغالظاً ... لأصرف العاذل عن لجاجته
فقال: لما وقع البراز في ال ... ثوب علمنا أنه من حاجته
وكما قال الآخر:
وذموا لنا الدنيا وهم يرضعونها ... ولم أر كالدنيا تذم وتحلب
وكما قال الآخر:
نبئت أني إذا ما غبت تشتمني ... قل ما بدا لك فالمحبوب مسبوب
قطعة من حل الصاحب وغيره نظم المتنبي واستعانتهم بألفاظه ومعانيه في الترسل
فصل له من رسالة في وصف قلعة افتتحها عضد الدولة: وأما قلعة كذا فقد كانت بقية الدهر المديد، والأمد البعيد، تعطس بأنف شامخ من المنعة، وتنبو بعطف جامع على الخطبة، وترى أن الأيام قد صالحتها على الإعفاء من القوارع، وعاهدتها على التسليم من الحوادث، فلما أتاح الله للدنيا ابن بجدتها، وأبا بأسها ونجدتها، فما لبثوا أن رأوا معقلهم الحصين ومثواهم القديم، نهزة الحوادث، وفرصة البوائق، ومجر العوالي، ومجرى السوابق.
وإنما ألم بألفاظ بيتين لأبي الطيب أحدهما:
حتى أتى الدنيا ابن بجدتها ... فشكا إليه السهل والجبل
والآخر:
تذكرت ما بين العذيب وبارق ... مجر عوالينا ومجرى السوابق
وفصل له - لئن كان الفتح جليل الخطر، عظيم الأثر، فإن سعادة مولانا لتبشر بشوافع له، يعلم معها أن لله أسراراً في علاه لا يزال يبديها، ويصل أوائلها بتواليها.
وهو من قول أبي الطيب:
ولله سر في علاك، وإنما ... كلام العدى ضرب من الهذيان
فصل - ولو كان ما أحسنه شظية في قلم كاتب لما غيرت خطه، أو قذى في عين نائم لما انتبه جفنه.
وهو من قول أبي الطيب:
ولو قلم ألقيت في شق رأسه ... من السقم ما غيرت من خط كاتب
وقول نصر:
ضنيت حتى صرت لو زج بي ... في ناظر النائم لم ينتبه
ومنه أخذ ابن العميد قوله:
فلو ان أبقيت في جسدي قذى ... في العين لم يمنع من الإغفاء
فصل للصاحب في التعزية - إذا كان الشيخ القدوة في العلم وما يقتضيه، والأسوة في الدين وما يجب فيه، لزم أن يتأدب في حالات الصبر والشكر بأدبه، ويؤخذ في ثارات الأسى بمذهبه، فكيف لنا بتعزيته عند حادث رزيته، إلا إذا روينا له بعض ما اخذناه عنه، وأعدلنا طائفة مما استفدناه منه.
وإنما هو حل من قول أبي الطيب:
أنت يا فوق أن يعزى عن الأح ... باب فوق الذي يعزيك عقلا (1/39)
وبألفاظك اهتدى فإذا عزا ... ك قال الذي له قلت قبلا
وفصل له - وقد أثنى عليه ثناء لسان الزهر، على راحة المطر.
وهو من قول أبي الطيب:
وذكي رائحة الرياض كلامها ... تبغي الثناء على الحيا فيفوح
والأصل فيه قول ابن الرومي:
شكرت نعمة الولي على الوسم ... ي ثم العهاد بعد العهاد
فهي تثني على السماء ثناء ... طيب النشر شائعاً في البلاد
من نسيم كأن مسراه في الأر ... واح مسرى الأرواح في الأجساد
ومما أورده من أبيات أبي الطيب كما في قوله في كتاب أجاب به ابن العميد عن كتابه الصادر إليه عن شاطئ البحر في وصف مراكبه وعجائبه: وقد علمت أن سيدنا كتب وما أخطر بفكره، سعة صدره، ولو فعل ذلك لرأى البحر وشلاً لا يفضل عن التبرض، وثمداً لا يكثر عن الترشف:
وكم من جبال جبت تشهد أنني ال ... جبال وبحر شاهد أنني البحر
وله من رسالة في التهنئة ببنت أولها - أهلاً بعقيلة النساء، وكريمة الآباء، وأم الأبناء، وجالبة الأصهار، والأولاد الأطهار، ثم يقول فيها:
ولو كان النساء كمثل هذي ... لفضلت النساء على الرجال
وما التأنيث لاسم الشمس عيب ... ولا التذكير فخر للهلال
وهما لأبي الطيب من قصيدة في مرثية والدة سيف الدولة إلا أنه يقول:
ولو كان النساء كمثل فقدنا
وللصاحب من كتاب تعزية - وقلنا: قد أخذ الزمان من أخذ، وترك من ترك، فهو لا شك يعفو عن القمر، وقد أسلم الشمس للطفل ولا يصل الصروف بالصروف، ولا يجمع الكسوف إلى الخسوف، فأبى حكم الملوين، وقد غبنك إذا قاسمك الأخوين، إلا ان يعود فيلحق الباقي بالفاني، والغابر بالماضي:
وعاد في طلب المتروك تاركه ... إنا لنفعل والأيام في الطلب
ما كان أقصر وقتاً كان بينهما ... كأنه الوقت بين الورد والقرب
أقول: هذا كعادة المصدور في النفث، وشكوى الحزن والبث، وإلا فما يعجب السفر من تقدم بعض، وكل بين الراحلة والرحل، لا يترك الموت ساعياً على وجه الأرض، حتى ينقله إلى بطن الترب:
نحن بنو الموتى فما بالنا ... نعاف ما لا بد من شربه
تبخل أيدينا بأرواحنا ... على زمان هن من كسبه
فهذه الأرواح من جوه ... وهذه الأجسام من تربه
وهذا غيض من فيض ما اغترفه الصاحب من بحر المتنبي، وتمثل به من شعره. ولو ذكرت نظائره لامتد نفس هذا الباب.
وليس هو بأوحد في الاقتباس من كلامه، هذا أبو إسحاق الصابي رسيله في ذلك وزميله، وقد قرأت له غير فصل فيما أشرت إليه، ونبهت عليه: فمنه ما كتب في تقريظ - شاب مقتبل الشيبة، مكتمل الفضيلة، ولقد آتاه الله في اقتبال العمر جوامع الفضل، وسوغه في عنفوان الشباب محامد الاستكمال، فلا تجد الكهولة خلة تتلافاها بتطاول المدة، وثلمة تسدها بمزايا الحنكة.
وإنما هو حل نظم أبي الطيب، وإن كان في معنى آخر:
لا تجد الخمر في مكارمه ... إذا انتشى خلة تلافاها
وأخذ من قول البحتري:
تكرمت من قبل الكؤوس عليهم ... فما استطعن أن يحدثن فيك تكرما
ومنه ما كتب إلى ابن معروف تهنئة بقضاء القضاة - منزلة قاضي القضاة تجل عن التهنئة، لأن ما تكتسبه الولاة بها من الصيت والذكر، ويدرعونه فيها من الجمال والفخر، سابق لها عنده، وحاصل قبلها له، وإذا مد أحدهم إليها يداً تجذبها إلى سفال، جذبتها يده إلى المحل العالي، فكأن أبا الطيب المتنبي عناه أو حكاه بقوله:
فوق السماء وفوق ما طلبوا ... فإذا أرادوا غاية نزلوا
ومنه ما كتب - وعاد مولانا إلى مستقر عزه عود الحلي إلى العاطل، والغيث إلى الروض الماحل.
وإنما من قول أبي الطيب:
وعدت إلى حلب ظافراً ... كعود الحلي إلى العاطل
وإذا كان هذان الصدران المقدمان على بلغاء الزمان يقتبسان من أبي الطيب في رسائلهما، فما الظن بغيرهما؟ وما احسن قول الشاعر:
ألا إن حل الشعر زينة كاتب ... ولكن منهم من يحل فيعقد
وممن يحذو حذوهما الأستاذ أبو العباس أحمد بن إبراهيم الضبي، وما أظرف ما قرأت له في كتابه إلى أبي سعيد الشيبي: زقد أتاني كتاب شيخ الدولتين فكان في الحسن، روضة حزن بل جنة عدن. وفي شرح النفس، وبسط الأنس، برد الأكباد والقلوب، وقميص يوسف في أجفان يعقوب. (1/40)
وهو من بيت أبي الطيب:
كأن كل سؤال في مسامعه ... قميص يوسف في أجفان يعقوب
وفصل لأبي بكر الخوارزمي - وكيف أمدح الأمير بخلق ضن به الهواء، وامتلأت من ذكره الأرض والسماء، وأبصره الأعمى بلا عين وسمعه الأصم بلا أذن.
وهو حل نظم أبي الطيب:
تنشد أثوابنا مدائحه ... بألسن ما لهن أفواه
إذا مررنا على الأصم بها ... أغنته عن مسمعيه عيناه
ولأبي بكر من رسالة - ولقد تساوت الألسن حتى حسد الأبكم، وأفسد الشعر حتى أحمد الصمم.
وهو قول أبي الطيب:
ولا تبال بشعر بعد شاعره ... قد أفسد القول حتى أحمد الصمم
وهذا ميدان عريض، وشوط بطين، وفيما ذكرته كفاية.
ولاستقراقات الشعراء من أبي الطيب باب هذا مكانه.
أنموذج لسرقات الشعراء منه
- قال المتنبي:
وقد أخذ التمام البدر فيهم ... وأعطاني من السقم المحاقا
أخذه أبو الفرج الببغاء فلطفه وقال:
أوليس من إحدى العجائب أنني ... فارقته وحييت بعد فراقه
يا من يحاكى البدر عند تمامه ... ارحم فتى يحكيه عند محاقه
2 - وقال أبو الطيب:
قد علم البين منا البين أجفانا ... تدمى، وألف ذا القلب أحزانا
أخذه المهلبي الوزير وقال:
تصارمت الأجفان منذ صرمتني ... فما تلتقي إلا على عبرة تجري
3 - وقال أبو الطيب وهو من قلائده:
وكنت إذا يممت أرضاً بعيدة ... سريت فكنت السر والليل كاتمه
أخذه الصاحب وقال:
تجشمتها والليل وحف جناحه ... كأني سر والظلام ضمير
4 - وقال أبو الطيب، وهو أيضاً من قلائده:
لبسن الوشي لا متجملات ... ولكن كي يصن به الجمالا
أغار عليه الصاحب لفظاً ومعنى فقال:
لبسن برود الوشي لا لتجمل ... ولكن لصون الحسن بين برود
وإنما فعل ببيته ما فعل أبو الطيب ببيت العباس بن الأحنف:
والنجم في كبد السماء كأنه ... أعمى تحير ما لديه قائد
فقال:
ما بال هذي النجوم حائرة ... كأنها العمى ما لها قائد
وهذه مصالتة لا سرقة، وهي مذمومة جداً عند النقدة.
5 - وقال أبو الطيب، وهو من فرائده:
سقاك وحيانا بك الله، لإنما ... على العيس نور والخدور كمائمه
أخذه السري بن أحمد، قال ابن جنى: أنشدني لنفسه من قصيدة يمدح بها أبا الفوارس سلامة بن فهد، وهي قوله:
حيا به الله عاشقيه فقد ... أصبح ريحانه لمن عشقا
ولم أجد أنا هذه القصيدة في ديوان شعره، والبيت نهاية في العذوبة، وخفة الروح.
6 - والسري كثير الأخذ من أبي الطيب في مثل قوله:
وخرق طال فيه السير حتى ... حسبناه يسير مع الركاب
وهو مأخوذ من قول أبي الطيب:
يخدن بنا في جوزه وكأننا ... على كرة أو أرضه معنا سفر
7 - وقال السري:
وأحلها من قلب عاشقها الهوى ... بيتاً بلا عمد ولا اطناب
وهو من قول أبي الطيب:
هام الفؤاد بأعرابية سكنت ... بيتاً من القلب لم تضرب به طنبا
8 - وقال السري:
وأنا الفداء لمن مخيلة برقه ... عندي وعند سواي من أنوائه
وإنما ألم فيه بقول أبي الطيب:
ليت الغمام الذي عندي صواعقهيزيلهن إلى ما عنده الديم9وقال أبو الطيب، وهو من قلائده:
فإن تفق الأنام وأنت منهم ... فإن المسك بعض دم الغزال
وقال أيضاً:
وما أنا منهم بالعيش فيهم ... ولكن معدن الذهب الرغام
أخذ أبو بكر الخوارزمي معنى البيتين، وهما قريب من قريب، فقال:
فديتك ما بدا لي قصد حر ... سواك من الورى إلا بدالي
وأنك منهم وكذاك أيضاً ... من الماء الفرائد واللآلي
وتسكن دارهم وكذاك سكنى ال ... حجارة والزمرد في الجبال
وهذا معنى اخترعه المتنبي، وكرره في تفضيل البعض على الكل، فأحسن غاية الإحسان حيث قال: (1/41)
فإن يك سيار بن مكرم إنقضى ... فإنك ماء الورد إن ذهب الورد
10 - وقال:
وإن تكن تغلب الغلباء عنصرها ... فإن في الخمر معنىً ليس في العنب
ألم به أبو الفتح علي بن محمد البستي الكاتب فقال:
أبوك حوى العليا وأنت مبرز ... عليه إذا نازعته قصب المجد
وللخمر معنىً ليس في الكرم مثله ... وفي النار نور ليس يوجد في الزند
وخير من القول المقدم فاعترف ... نتيجته والنحل يكرم للشهد
وقال أيضاً:
أبوك كريم غير أنك سابق ... مداه بلا ضيم عليه ولا ذيم
فلا يعجبن الناس مما أقوله ... وأقضي به فالغيث أندى من الغيم
11 - وقال أبو الطيب:
وصرت أشك فيمن أصطفيه ... لعلمي أنه بعض الأنام
أخذه أبو بكر الخوارزمي فقال:
قد ظلمناك بحسن ال ... ظن يا بعض الانام
12 - وقال أبو الطيب:
أتى الزمان بنوه في شيبته ... فسرهم وأتيناه على الهرم
أخذه أبو الفتح وحسنه فقال:
لا غرو إن لم تجد في الدهر مخترفاً ... فقد أتيناه بعد الشيب والخرف
13 - وقال أبو الطيب:
هما الغرض الأقصى، ورؤيتك المنى ... ومنزلك الدنيا، وأنت الخلائق
امتثله أبو الحسن السلامي فقال:
وبشرت آمالي بملك هو الورى ... ودار هي الدنيا، ويوم هو الدهر
14 - وقال أبو الطيب:
لم تزل تسمع المديح ولك ... ن صهيل الجياد غير النهاق
أخذه أبو القاسم الزعفراني ولطفه جداً فقال:
وتغنيك في النداء طيور ... أنا وحدي ما بينهن الهزار
وإذا قد ذكرت أنموذجاً من سرقات الشعراء منه، فلا بأس أن أذكر سرقاته من الشعراء، سوى ما أورده القاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز في كتاب " الوساطة " فشفى وكفى وبالغ فأوفى، وسوى ما مر منها في أماكنها من فصول هذا الكتاب.
صدر من سرقاته
1 - قال مخلد الموصلي:
يا منزلاً ضن بالسلام ... سقيت رياً من الغمام
ما ترك الدهر منك إلا ... ما ترك الشوق من عظامي
أخذه أبو الطيب فجوده حيث قال:
ما زال كل هزيم الودق ينحلها ... والشوق ينحلني حتى حكت جسدي
2 - وقال عمرو بن كلثوم:
فآبوا بالنهاب وبالسبايا ... وإبنا بالملوك مصفدينا
أخذه أبو تمام فأحسن إذ قال:
إن أسود الغاب همتها ... يوم الكريهة في المسلوب لا السلب
وأخذه أبو الطيب فلم يحسن في تكرير لفظ النهب وذكر القماش إذ هو من ألفاظ العامة:
ونهب نفوس أهل النهب أولى ... بأهل المجد من نهب القماش
3 - وقال بشار بن برد:
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوت كواكبه
أخذه أبو الطيب وذكر الرماح مكان الأسياف فقال:
وكأنما كسي النهار بها دجى ... ليل، وأطلعت الرماح كواكبا
4 - وقال مسلم بن الوليد:
أرادوا ليخفوا قبره من عدوه ... فطيب تراب القبر دل على القبر
ألم به أبو الطيب فقال:
وما ريح الرياض لها ولكن ... كساها دفنهم في التراب طيبا
5 - وقال الفرزدق:
وكنت فيهم كممطور ببلدته ... يسر أن جمع الأوطان والمطرا
أخذه أبو الطيب فقال:
وليس الذي يتبع الوبل رائداً ... كمن جاءه في داره رائد الوبل
6 - وفي قوله في هذه القصيدة:
وخيل إذا مرت بوحش وروضة ... أبت رعيها إلا ومرجلنا يغلي
رائحة من قول امرئ القيس:
إذا ما ركبنا قال ولدان أهلنا: ... تعالوا إلى أن يأتي الصيد نحطب
7 - وقال أبو نواس، ويقال: إنه أمدح بيت للمحدثين:
وكلت بالدهر عيناً غير غافلة ... بجود كفيك تأسو كل ما جرحا
أخذه أبو الطيب وزاد فيه حسن التشبيه فقال:
تتبع آثار الرزايا بجوده ... تتبع آثار الأسنة بالقتل
8 - وقال أبو نواس، وهو من قلائده في وصف الخمر:
إذا ما أتت دون اللهاة من الفتى ... دعا همه من صدره برحيل (1/42)
أخذه أبو الطيب ونقله إلى معنى آخر فقال:
وما هي إلا لحظة بعد لحظة ... إذا نزلت في قلبه رحل العقل
9 - وقال ابن عيينة، ويروي للخليل:
زر وادي القصر، نعم القصر والوادي ... في منزل حاضر، إن شئت، أو بادي
ترقى به السفن والظلمان حاضرة ... والضب والنون والملاح والحادي
وهذا أحسن ما قيل في وصف مكان يجمع بين أوصاف البر والبحر والحاضرة والبادية، ألم به أبو الطيب في وصف متصيد عضد الدولة بناحية سهلية جبلية تجمع الأضداد:
سقياً لدشت الأرزن الطوال ... بين المروج الفيح والأغيال
مجاور الخنزير والرئبال ... داني الخنانيص من الأشبال
مستشرف الدب على الغزال ... مجتمع الأضداد والأشكال
10 - وقال بعض العرب، وهو من الأمثال السائرة:
إذا بل من داء به ظن أنه ... نجا، وبه الداء الذي هو قاتله
أخذه أبو الطيب فقال واحسن:
وإن أسلم فما أبقى ولكن ... سلمت من الحمام إلى الحمام
11 - وقال بعض الرجاز:
هل يغلبني واحد أقاتله ... ريم على لباته سلاسله
سلاحه يوم الوغى مكاحله
أخذه أبو الطيب فأكمل الوصف وأظهر الغرض حيث قال:
من طاعني ثغر الرجال جآذر ... ومن الرماح دمالج وخلاخل
ولذا اسم أغطية العيون جفونها ... من أنها عمل السيوف عوامل
وقال أبو تمام:
غربت خلائقه وأغرب شاعر ... فيه فأبدع مغرب في مغرب
أخذه أبو الطيب فقال:
شاعر المجد خدنه شاعر اللف ... ظ كلانا رب المعاني الدقاق
13 - وقال أبو تمام ك
يمدون بالبيض القواطع أيدياً ... فهن سواء والسيوف قواطع
أخذه أبو الطيب فأوقع التشبيه على الجملة حيث قال:
همام إذ ما فارق الغمد سيفه ... وعاينته لم تدر أيهما النصل
14 - وقال ابن الرومي:
لا قدست نعمى تسربلتها ... كم حجة فيها لزنديق
أخذه أبو الطيب فقال:
فإنه حجة يؤذي القلوب بها ... من دينه الدهر والتعطيل والقدم
15 - ولابن الرومي وأجاد:
وأحسن من عقد العقيلة جيدها ... وأحسن من سربالها المتجرد
أخذه أبو الطيب فقال:
ورب قبح وحلي ثقال ... أحسن منها الحسن في المعطال
16 - وقال عبيد الله طاهر:
وجربت حتى لا أرى الدهر مغرباً ... علي بشيء لم يكن في تجاربي
أخذه أبو الطيب فقال:
قد بلوت الخطوب حلواً ومراً ... وسلكت الأيام حزناً وسهلا
وقتلت الزمان علماً فما يغ ... رب قولاً ولا يجدد فعلا
وكرر هذا المعنى فقال:
عرفت الليالي قبل ما صنعت بنا ... فلما دهتنا لم تزدني بها علماً
17 - وكتب ابن المعتز إلى عبيد الله بن سليمان يعزيه عن ابنه أبي محمد ويسليه ببقاء أبي الحسين القاسم أبياتاً منها:
ولقد غبنت الدهر إذ شاطرته ... بأبي الحسين وقد ربحت عليه
وأبو محمد الجليل مصابه ... لكن يمنى المرء خير يديه
فأخذ أبو الطيب هذا المعنى، وقال لسيف الدولة من قصيدة يعزيه بها عن أخته الصغرى، ويسليه ببقاء الكبرى حيث قال:
قاسمتك المنون شخصين جوراً ... جعل القسم نفسه فيك عدلا
فإذا قست ما أخذن بما غا ... درن سرى من الفؤاد أن جدك أعلى
18 - وكان أبو الطيب كثير الأخذ من ابن المعتز، على تركه الإقرار بالنظر في شعر المحدثين: فمما أخذه منه قوله:
وتكسب الشمس منك النور طالعةً ... كما تكسب منها نورها القمر
وهو معنى قول ابن المعتز:
البدر من شمس الضحى نوره ... والشمس من نورك تستملي
19 - وأخذ قوله، وهو من قلائده، ولعله أمير شعره:
أزورهم وسواد الليل يشفع لي ... وأنثني وبياض الصبح يغري بي
من مصراع لابن المعتز، ذكر ابن جني قال: حدثني المتنبي - وقت القراءة عليه - قال: قال لي ابن حنزابة وزير كافور: أحضرت كتبي كلها وجماعة من الأدباء يطلبون لي من أين أخذت هذا المعنى، فلم يظفروا بذلك! وكان أكثر من رأيت كتباً. (1/43)
قال ابن جني: ثم إني عثرت بالموضع الذي أخذه منه، إذ وجدت لابن المعتز مصراعاً بلفظ لين صغير جداً فيه معنى بيت المتنبي كله على جلالة لفظه وحسن تقسيمه، وهو قوله:
فالشس نمامة والليل قواد
ولن يخلو المتنبي من إحدى ثلاث: إما يكون ألم بهذا المصراع فحسنه وزينه، وصار أولى به، وإما أن يكون قد عثر بالموضع الذي عثر به ابن المعتز فأربى عليه في جودة الأخذ، وإما أن يكون قد اخترع المعنى وابتدعه وتفرد به، فلله دره! وناهيك بشرف لفظه، وبراعة نسجه! وما احسن ما جمع فيه أربع مطابقات في بيت واحد، وما أراه سبق إلى مثلها، وما زال الناس يعجبون من جمع البحتري ثلاث مطابقات في قوله:
وأمة كان قبح الجور يسخطها ... دهراً فأصبح حسن العدل يرضيها
حتى جاء أبو الطيب فزاد عليه مع عذوبة خمس مطابقات، ولكنه لا يستقل إلا بإنشاد بيتين قبله. وهي:
عذيري من الأيام مدت صروفها ... إلى وجه من أهوى يد النسخ والمحو
وأبدت بوجهي طالعات أرى بها ... سهام أبي يحيى مسددة نحوي
فذاك سواك الحظ ينهى عن الهوى ... وهذا بياض الوخط يأمر بالصحو
20 - وقال ابن الرومي:
أرى فضل مال المرء داء لعرضه ... كما أن فضل الزاد داء لجسمه
فليس لداء العرض شيء كبذله ... وليس لداء الجسم شيء كحسمه
ألم به أبو الطيب فقال:
يتداوى من كثرة المال بالإق ... لال جوداً كأن مالا سقام
بعض ما تكرر في شعره من معانيه
1 - قال في سيف الدولة:
وأنت المرء تمرضه الحشايا ... لهمته، وتشفيه الحروب
وقال يذكر الحمى التي كانت تغشاه بمصر:
وما في طبه أني جواد ... أضر بجسمه طول الجمام
2 - وقال يمدح بدر بن عمار:
ليت الحبيب الهاجري هجر الكرى ... من غير جرم واصلي صلة الضنا
وقال يمدح المغيث بن بشر العجلي:
إذا بدا حجبت عينيك هيبته ... وليس يحجبه ستر إذا احتجبا
وقال وقد حجبه بدر عمار:
أصبحت تأمر بالحجاب لخلوة ... هيهات لست على الحجاب بقادر
من كان ضوء جبينه ونواله ... لم يحجبا لم يحتجب عن ناظر
فإذا احتجب فأنت غير محجب ... وإذا بطنت فأنت عين الظاهر
4 - وقال من قصيدة يمدحه بها:
أمير أمير عليه الندى ... جواد بخيل بأن لا يجودا
وقال:
إلا أن الندى أضحى أميراً ... على مال الأمير أبي الحسين
5 - وقال يمدح بدر الدين بن عمار:
ومال وهبت بلا موعد ... وقرن سبقت إليه الوعيدا
وقال من القصيدة التي كتبها إلى السلطان من حبسه:
لقد حال بالسيف دون الوعيد ... وحالت عطاياه دون الوعود
6 - وقال من قصيدة يمدح بها أبا العشائر:
فسرت إليك في طلب المعالي ... وسار سواي في طلب المعاش
7 - وقال يمدح سعيد بن عبد الله:
قد علم البين منا البين أجفانا ... تدمي وألف في ذا القلب أحزانا
وقال في خلاص أبي وائل:
كأن الجفون على مقلتي ... ثياب شققن على ثاكل
8 - وقال يمدح بدر بن عمار:
كأنك بالفقر تبغي الغنى ... وبالموت في الحرب تبغي الخلودا
وقال في الحسين بن إسحاق التنوخي:
كأنك في الإعطاء للمال مبغض ... وفي كل حرب للمنية عاشق
9 - وقال:
الذي زلت عنه شرقاً وغرباً ... ونداه مقابلي ما يزول
وقال في سيف الدولة:
ومن فر من إحسانه حسداً له ... تلقاه منه حيث ما سار نائل
10 - وقال يمدح أبا أيوب أحمد بن عمران:
فكأنما نتجت قياماً تحتهم ... وكأنما ولدوا على صهواتها
وقال في الحسن بن عبيد الله بن طغج:
وطعن غطاريف كأن أكفهم ... عرفن الردينات قبل المعاصم
11 - وقال يشكو الحمى بمصر:
جرحت مجرحاً لم يبق منه ... مكان للسيوف وللسهام (1/44)
وقال في مرثية والدة سيف الدولة:
رماني الدهر بالأرزاء حتى ... فؤادي في غشاء من نبال
فصرت إذا أصابتني سهام ... تكسرت النصال على النصال
12 - وقال يمدح أبا علي هارون بن عبد الله الكاتب:
وشكيتي فقد السهام لأنه ... قد كان لما كان لي أعضاء
وقال قبيل مسيره من مصر يهجو كافوراً:
لم يترك الدهر من قلبي ومن كبدي ... شيئاً تتيمه عين ولا جيد
13 - وقال يصف مدينة مرعش:
تصد الرياح الهوج عنها مخافة ... وتفرغ فيها الطير أن تلقط الحبا
وقال من قصيدة في مدح كافور:
إذا أتتها الرياح النكب في بلد ... فما تهب بها إلا بترتيب
14 - وقال يمدح الحسن بن عبيد الله بن طغج:
إذا ضوؤها لاقى من الطير فرجة ... تدور فوق البيض مثل الدراهم
وقال من كلمة يمدح فيها عضد الدولة:
وألقى الشرق منها في ثيابي ... دنانيراً تفر من البنان
وقال يمدح أبا شجاع محمد بن أوس:
ولقد بكيت على السباب ولمتي ... مسودة، ولماء وجهي رونق
حذراً عليه قبل يوم فراقه ... حتى لكدت بماء جفني أشرق
15 - وقال وقد أهداه عبد الله بن خراسان هدية:
هدية ما رأيت مهديها ... إلا رأيت العباد في رجل
وقال يمدح بدر بن عمار:
أحلماً نرى أم زماناً جديداً ... أم الخلق في شخص حي أعيدا
ومثله في الحسين بن إسحاق التنوخي:
هي الغرض الأقصى، ورؤيتك المنى ... ومنزلك الدنيا، وأنت الخلائق
ثم كرره وزاد فيه فقال من كلمة يمدح فيها ابن العميد:
ولقيت كل الفاضلين كأنما ... رد الإله نفوسهم والأعصرا
نسقوا لنا نسق الحساب مقدماً ... وأتى فذلك إذ أتيت مؤخرا
والأصل فيه قول أبي نواس:
ليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد
وقال:
متى تخطي إليه الرجل سالمة ... تستجمع الخلق في تمثال إنسان
16 - وقال في سيف الدولة:
هو الشجاع يعد البخل من جبن ... وهو الجواد يعد الجبن من بخل
وقال وقد ضرب أبو العساكر خيمة على الطريق فكثر سؤاله وغاشيته:
فقلت إن الفتى شجاعته ... تريه في الشح صورة الفرق
والأصل فيه قول أبي تمام:
أيقنت أن من السماح شجاعةً ... تدمى، وأن من الشجاعة جودا
17 - وقال يمدح أبا شجاع عضد الدولة:
ومن أعتاض منك إذا افترقنا؟ ... وكل الناس زور ما خلاكا
وقال في مثله فتبرد وبالغ:
إنما الناس أنت، وما النا ... س بناس في موضع منك خال
18 - وقال في سيف الدولة:
إذا اعتل سيف الدولة اعتلت الأرض ... ومن فوقها والبأس والكرم المحض
وقال فيه أيضاً:
وما أخصك في برء بتهنئة ... إذا سلمت فكل الناس قد سلموا
19 - وقال يمدح كافوراً ولم يلقه بعد:
تجاوز قدر المدح حتى كأنه ... بأحسن ما يثنى عليه يعب
وقال في عبد الله بن يحيى البحتري:
وعظم قدرك في الآفاق أوهمني ... أني بقلة ما أثنيت أهجوكا
وقال يعزي عضد الدولة وقد ماتت عمته:
وكان من عدد إحسانه ... كأنه أسرف في سبه
والأصل في هذا قول البحتري:
جل عن مذهب المديح فقد كا ... د يكون المديح فيه هجاء
20 - وقال وهو مما سبق إليه:
نال الذي نلت منه مني ... لله ما تصنع الخمور
وقال:
أفيكم فتىً حي فيخبر ناعباً ... بما شربت مشروبه الراح من ذهني
21 - وقال يمدح سيف الدولة:
عليم بأسرار الديانات واللغى ... له خطرات تفضح الناس والكتبا
وقال في أبي العشائر علي بن الحسين:
كأنك ناظر في كل قلب ... فما يخفى عليك محل غاش
وقال:
ووكل الظن بالأسرار فانكشفت ... له سرائر أهل السهل والجبل
22 - وقال لبدر بن عمار يمدحه:
فاغفر فدى لك واحبني من بعدها ... لتخصني بعيطة منها أنا
وقال:
له أياد إلي سالفة ... أعد منها ولا أعددها (1/45)
23 - وقال وهو من قلائده:
خير أعضائنا الرؤس ولكن ... فضلتها بقصدك الأقدام
وقال من " المتقارب " :
وإن القيام الألى حوله ... لتحسد أرجلها الأرؤس
34 - وقال من قصيدة في مدح سيف الدولة:
وما الحسن في وجه الفتى شرف له ... إذا لم يكن في فعله والخلائق
وقال في وصف الخيل:
إذا لم تشاهد غير حسن شياتها ... وأعظائها فالحسن عنك مغيب
وقريب منه قوله:
يحب العاقلون على التصافي ... وحب الجاهلين على الوسام
25 - وقال في معنى قد تصرفت فيه الشعراء:
ذل من يغبط الذليل بعيش ... رب عيش أخف منه الحمام
وقال في صباه:
عش عزيزاً أو مت وأنت كريم ... بين طعن القنا وخفق البنود
26 - وقال لعلي بن إبراهيم التنوخي يمدحه:
إذا ما لم تسر جيشاً إليهم ... أسرت إلى قلوبهم الهلوعا
وقال من " الخفيف " :
بعثوا الرعب في قلوب الأعادي ... فكأن القتال قبل التلاقي
وقال:
قد ناب عنك شديد الخوف واصطنعت ... لك المهابة ما لا يصنع البهم
وقال:
أبصروا الطعن في القلوب دراكاً ... قبل أن يبصروا الرماح خيالا
وقال:
صيام بأبواب القباب جيادهم ... وأشخاصهم في قلب خائفهم تعدو
وقال:
تغير عنه على الغارات هيبته ... وماله بأقاصي البر أهمال
والأصل فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم " نصرت بالرعب " ثم أكثر الناس منه، ومن أوجز ما قالوا قول علي بن جبلة العكوك:
غدا مجتمع العزم ... له وقصر عما تشتهي النفس وجده
وقال:
لحى الله ذي الدنيا مناخاً لراكب ... فكل بعيد الهم فيها معذب
28 - وقال من الخفيف " :
ومعال إذا ادعاها سواهم ... لوزمته خيانة السراق
وقال:
مسكية النفحات إلا أنها ... وحشية بسواهم لا تعبق
والآن حين أذكر ما ينعى على أبي الطيب من معائب شعره ومقابحه:
ومن ذا الذي ترضي سجاياه كلها ... كفى المرء فضلاً أن تعد معائبه
ثم أقفى على آثارها بمحاسنه وسياق بدائعه وفرائده:
فحسن دراري الكواكب أن ترى ... طوالعفي داج من الليل غيهب
فمنها قبح المطالع
وحقه الحسن والعذوبة لفظاً، والبارعة والجودة معنى، لأنه أول ما يقرع الأذن ويصافح الذهن، فإذا كانت حاله على الضد مجه السمع، وزجه القلب، ونبت عنه النفس، وجرى أوله على ما تقوله العامة " أول الندى دردى " .
ولأبي الطيب ابتداءات ليست لعمري من أحرار الكلام وغرره، بل هي - كما نعاها عليه العائبون - مستشنعة لا يرفع السمع حجابه، ولا يفتح القلب لها بابه، كقوله:
هذي برزت لنا فهجت رسيساً ... ثم انصرفت وما شفيت نسيسا
فإنه لم يرض بحذف علامة النداء من " هذي " ، وهو غير جائز عند النحويين، حتى ذكر الرسيس والنسيس، فأخذ بطرفي الثقل والبرد.
وكقوله:
أوه بديل من قولتي واها
وهو برقية العقرب أشبه منه بافتتاح كلام في مخاطبة ملك.
زكقوله - وهو مما تكلف له اللفظ المتعقد، والترتيب المتعسف، لغير معنى بديع يفي شرفه وغرابته في استخراجه، ولا تقوم فائدة الانتفاع به بإزاء التأذي باستماعه:
وفاؤكما كالربع أشجاه طاسمه ... بأن تسعدا والدمع أشفاه ساجمه
وكقوله في استفتاح قصيدة في مدح ملك يريد أن يلقاه بها أول لقية:
كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا ... وحسب المنايا أن يكن أمانيا
وفي الابتداء بذكر الداء والموت والمنايا ما فيه من الطيرة، التي تنفر منها السوقة، فضلاً عن الملوك.
حكى الصاحب قال: ذكر الأستاذ الرئيس يوماً الشعر، فقال: وإن أول ما يحتاج فيه إليه حسن المطلع، فإن ابن أبي الشباب أنشدني في يوم نيروز قصيدة لبتداؤها:
أقبر وما طلت ثراك يد الطل؟
فتطيرت من افتتاحه بالقبر وتنغصت باليوم والشعر، فقلت: كذاك كانت حال ابن مقاتل لما مدح الداعي بقوله:
لا تقل بشرى ولكن بشريان ... غرة الداعي ويوم المهرجان
فإنه نفر من قوله " لا تقل بشرى " أشد نفار، وقال: أعمى وتبتدئ بهذا في يوم مهرجان؟! قال الصاحب: ومن عنوان قصائده التي تحير الأفهام، وتفوت الاوهام، وتجمع من الحساب ما لا يدرك بالأرتيماطيقي، وبالأعداد الموضوعة للموسيقى: (1/46)
أحاد أم سداس في أحاد ... لييلتنا المنوطة بالتنادي
وهذا كلام الحكل ورطانة الزط وما ظنك بممدوح قد تشمر للسماع من مادحه فصك سمعه بهذه الألفاظ الملفوظة والمعاني المنبوذة؟ فأي هزة تبقى هناك؟ وأي أريحية تثبت هنا؟.
وقد خطأه في اللفظ والمعنى كثير من أهل اللغة وأصحاب المعاني، حين احتيج في الاعتذار له، والنضح عنه، إلى كلام لا يستأهله هذا البيت، ولا يتسع له هذا الباب.
ومن ابتداءاته البشعة التي تنكرها بديهة السماع قوله:
ملث القطر أعطشها ربوعاً ... وإلا فاسقها السم النجيعا
وقوله:
أصلث فإنا أيها الطلل ... نبكي وترزم تحتنا الإبل
وقوله:
بقائي شاء ليس هم ارتحالا ... وحسن الصبر زموا لا الرحالا
قال الصاحب: ومن افتتاحاته العجيبة قوله لسيف الدولة في التسلية عند المصيبة:
لا يحزن الله الأمير فإنني ... لآخذ من حالاته بنصيب
قال الصاحب: لا أدري لم لا يحزن سيف الدولة إذا أخذ المتنبي بنصيب من القلق!
ومنها
إتباع الفقرة الغراء بالكلمة العوراء
والإفصاح بذلك في شعره عن كثرة التفاوت، وقلة التناسب، وتنافر الأطراف، وتخالف الأبيات، وما أكثر ما يحوم حول هذه الطريقة، ويعود لهذه العادة السيئة، ويجمع بين البديع النادر والضعيف الساقط. فبينا هو يصوغ أفخر حلي، وينظم أحسن عقد، وينسج أنفس وشي، ويختال في حديقة ورد، إذا به وقد رمى بالبيت والبيتين في إبعاد الاستعارة، أو تعويص اللفظ، أو تعقيد المعنى، إلى المبالغة في التكلف، والزيادة في التعمق، والخروج إلى الإفراط والإحالة والسفسفة، والركاكة والتبرد والتوحش، باستعمال الكلمات الشاذة، فمحا تلك المحاسن، وكدر صفاءها، وأعقب حلاوتها مرارة لا مساغ لها، واستهدف لسهام العائبين، وتحكك بألسنة الطاعنين: فمن متمثل بقول الشاعر:
أنت العروس لها جمال رائق ... لكنها في كل يوم تصرع
ومن مشبه إياه بمن يقدم مائدة تشتمل على غرائب المأكولات وبدائع الطيبات، ثم يتبعها بطعام وضر، وشراب عكر، أو من يتبخر بالند المعشب المثلث، المركب من العود الهندي والمسك الأصهب والعنبر الأشهب، ثم يرفقه بإرسال الريح الخبيثة، ويفسده بالرائحة الردية، أو بالواحد من عقلاء المجانين ينطق بنوادر الكلم، وطرائف الحكم، ثم يعتريه سكرة الجنون فيكون أصلح أحواله وأمثل أقواله أن يقول: اعذروني فإن العذرة متعذرة.
فمما نشر أبو الطيب من هذا النمط قوله:
أتراها لكثرة العشاق ... تحسب الدمع خلقة في المآقي؟
وهو ابتداء ما سمع بمثله، ومعنى تفرد بابتداعه، ثم شفعه بما لا يبالي العاقل أن يسقطه من شعره فقال:
كيف ترثي التي ترى كل جفن ... راءها غير جفنها غير راقي
وقوله:
ليالي بعد الظاعنين شكول ... طوال، وليل العاشقين طويل
يبن لي البدر الذي لا أريده ... ويخفين بدراً ما إليه وصول
وما عشت من بعد الأحبة سلوة ... ولكنني للنائبات حمول
وما شرقي بالماء إلا تذكراً ... لماء به أهل الخليط نزول
يحرمه لمع الأسنة فوقه ... فليس لظمآن إليه سبيل
من قصيدة اخترع أكثر معانيها، وتسهل في ألفاظها، فجاءت مصنوعة، ثم اعترضته تلك العادة المذمومة، فقال:
أغركم طول الجيوش وعرضها ... علي شروب للجيوش أكول
إذا لم تكن لليث إلا فريسة ... غذاه ولم ينفعك أنك فيل
ثم أتى بما هو أطم منه فقال، وذكر الصاحب أنه من أوابده التي لا يسمع طول الأبد بمثلها:
إذا كان بعض الناس سيفاً لدولة ... ففي الناس بوقات لها وطبول
فإن تكن الدولات قسماً فإنها ... لمن ورد الموت الزؤام تدول
قال الصاحب: قوله " الدولات " و " تدول " من الألفاظ التي لو رزق فضل السكوت عنها لكان سعيداً.
وقال من قصيدة جمع فيها الشذرة والبعرة، والدرة والآجرة: (1/47)
لك يا منازل في الفؤاد منازل ... أقفرت أنت، وهن منك أواهل
وهذا ابتداء حسن ومعنى لكيف، ثم قال:
وأنا الذي اجتلب المنية طرفه ... فمن المطالب والقتيل القاتل
وهو وإن كان مأخوذاً من قول دعبل:
لا تطلبا بظلامتي أحداً ... طرفي وقلبي في دمي اشتركا
فإنه آخذ بأطراف الرشاقة والملاحة، ثم استمر في قصيدته، فجاء بالمتوسط المقارب والبديع النادر والرديء النافر، حيث قال:
ولذا اسم اغطية العيون جفونها ... من أنها عمل السيوف عوامل
وهذا معنى في نهاية الحسن واللطف لو ساعده اللفظ، ثم قال:
كم وقفة سجرتك شوقاً بعدما ... غري الرقيب بنا ولج العاذل
فلم يحسن موقع قوله " سجرتك " أي ملأتك " هكذا الرواية بالجيم، ولو كانت بالحاء من السحر لم يكن بأس " ثم قال وملح:
دون التعانق ناحلين كشكلتي ... نصب أدفهما وضم الشاكل
أي: قريب بعضنا من بعض، ولم نتعانق خوف الرقيب. ثم قال فأحسن غاية الإحسان:
للهو آونة تمر كأنها ... قبل يزودها حبيب راحل
جمع الزمان فما لذيذ خالص ... مما يشوب، ولا سرور كامل
حتى أبو الفضل بن عبد الله رؤ ... يته المنى وهو المقام الهائل
قال ابن جني: وهذا خروج غريب ظريف حسن، وما أعرفه لغيره، يقول: إن المنى رؤيته إلا أن هيبته تهول. ثم قال فجمع أوصافاً في بيت واحد:
للشمس فيه وللرياح وللسحا ... ب وللبحار وللأسود شمائل
ثم قال وتحذق وتبرد:
ولديه ملعقيان والأدب المفا ... د وملحياة وملمات مناهل
وإنما ألم في صدر هذا البيت بقول أبي تمام:
نأخذ من ماله ومن أدبه
ثم قال:
علامة العلماء واللج الذي ... لا ينتهي، ولكل لج ساحل
ثم قال فأحال:
لو طاب مولد كل حي مثله ... ولد النساء وما لهن قوابل
قال القاضي أبو الحسن: إم طيب المولد لا يستغنى به عن القابلة، وإن استغنى عنها كان ماذا؟ وأي فخر فيه؟ وأي شرف ينال به؟ ثم توسط وقارب فقال:
ليزد بنو الحسن الشراف تواضعاً ... هيهات تكتم في الظلام مشاعل
ستروا الندى ستر الغراب سفاده ... فبدا، وهل يخفي الرباب الهاطل؟
ثم قال وتوحش وتبغض ما شاء الحاسد:
جفخت وهم لا يجفخون بها بهم ... شيم على الحسب الأغر دلائل
يريد بالجفخ الفخر والبذخ، ثم قال:
يا أفخر الناس فيك ثلاثة: ... مستعظم، أو حاسد، أو جاهل
أي: يا هذا افخر، فحذف المنادى، وتباغض وتبادى، ثم قال:
لا تجسر الفصحاء تنشد ههنا ... شعراً، ولكني الهزبر الباسل
ثم قال وأرسله مثلاً سائراً، وأحسن جداً:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني كامل
ما نال أهل الجاهلية كلهم ... شعري، ولا سمعت بسحري بابل
ثم قال وتعسف في اللفظ:
أما وحقك وهو غاية مقسم ... للحق أنت، وما سواك الباطل
الطيب أنت إذا أصابك طيبه ... والماء أنت إذا اغتسلت الغاسل
وتقدير الكلام: الطيب أنت طيبه إذا أصابك، والماء أنت غاسله إذا اغتسلت به، وإنما ألم فيه بقول القائل:
وتزيدين طيب الطيب طيباً ... إن تمسيه، أين مثلك أينا؟!
وقال من قصيدة كهذه التي تقدمت:
قد علم البين منا البين أجفانا ... تدمى، وألف في ذا القلب أحزانا
أملت ساعة ساروا كشف معصمها ... ليلبث الحي دون السير حيرانا
بالواخدات وحاديها وبي قمر ... يظل من وخدها في الخدر حشيانا
وحشيان - بالحاء المهملة - من الغريب الوحشي، الذي لا يأنس به السمع، ولا يقبله القلب، يقال: حشى الرجل حشياً فهو حشيان، إذا أخذه البهر. يقول: إذا وخدت الإبل تحت هذا القمر أخذه البهر لترفه. ومن المؤدبين من يروي خشيانا بالخاء معجمة من الخشية.
ثم قال، وأحسن ولطف وظرف:
قد كنت أشفق من دمعي على بصري ... فاليوم كل عزيز بعدكم هانا
ثم أراد أن يزيد على الشعراء في وصف المطايا، فأتى - كما قال الصاحب - بأخزى الخزايا، فقال: (1/48)
لو استطعت ركبت الناس كلهم ... إلى سعيد بن عبد الله بعرانا
قال الصاحب: ومن الناس أمه، فهل ينشط لركوبها؟ والممدوح لعل له عصبة لا يريد أن يركبوا إليه، فهل في الأرض أفحش من هذا السخف وأوضع من هذا التبسط؟ ثم أراد أن يستدرك هذه الطامة بقوله:
فالعيس أعقل من قوم رأيتهم ... عما يراه من الإحسان عميانا
وقال، ثم قال وأجاد في مدح الممدوح:
إن كوتبوا، أو لقوا، أو حوربوا، وجدوا ... في الخط واللفظ والهيجاء فرسانا
كأن ألسنهم في النطق قد جعلت ... على رماحهم في الطعن خرصانا
كأنهم يردون الموت من ظمأ ... أو ينشقون من الخطي ريحانا
ثم قال:
خلائق لو حواها الزنج لانقلبوا ... ظمي الشفاه جعاد الشعر غرانا
احتج عنه أصحاب المعاني بما يطول ذكره.
والعجب كل العجب من خاطر يقدح بمثل قوله في قصيدة:
وملمومة زرد ثوبها ... ولكنه بالقنا مخمل
يفاجئ جيشاً بها حينه ... وينذر جيشاً بها القسطل
ثم يتصور في هذا الكلام الغث الرث به حيث يقول:
جعلتك في هذا القلب لي عدةً ... لأنك باليد لا تجعل
ولو قاله بعض صبيان المكاتب لاستحيا له منه.
ومنها
استكراه اللفظ وتعقيد المعنى
وهو أحد مراكبه الخشنة التي يتسمنها، ويأخذ عليها في الطريق الوعرة فيضل ويضل ويتعب ولا ينجح، إذ يقول في وصف الناقة:
فتبيت تسئد مسئداً في نيها ... إسئادها في المهمه الأنضاء
وتقديره: فتبيت تسئد مسئد الأنضاء في نيها إسآدها في المهمة: أي كلما قطعت الأرض قطعت الأرض شحمها على احتذاء ومثال هذا بهذا.
ويقول في المدح:
أنى يكون أبا البرايا آدم ... وأبوك، والثقلان أنت، محمد
وتقديره: أنى يكون آدم أبا البرايا وأبوك محمد وأنت الثقلان.
وقال من نسيب قصيدة:
إذا عذلوا فيها أجبت بأنه ... حبيبتا قلبي فؤادي هيا جمل
أراد " يا حبيبتي " ثم أبدل الياء من حبيبتي ألفاً تخفيفاً، و " قلبي " منصوب لأنه بدل من حبيبتا، و " فؤادي " بدل من قلبي، وهذ كقولك: أخي سيدي مولاي، نداء بعد نداء، ويقال في النداء: يا زيد، وأيا زيد، وهيا زيد.
وأشباه هذه الأبيات كثيرة في شعره كقوله:
لساني وعيني والفؤاد وهمتي ... أود اللواتي إذا اسمها منك والشطر
وقوله:
فتى ألف جزء رأيه في زمانه ... أقل جزيء بعضه الرأي أجمع
وقوله:
لو لم تكن من ذا الورى اللذ منك هو ... عقمت بمولد نسلها حواء
وهو مما اعتل لفظه، ولم يصح معناه، فإذا قرع السمع لم يصل إلى القلب إلا بعد إتعاب الفكر، وكد الخاطر، والحمل على القريحة، ثم إن ظفر بعد العناء والمشقة فقلما يحصل على طائل.
ومنها
عسف اللغة والإعراب
وهو مما سبق إلى القلوب إنكاره، وإن كان عند المحتجين عند الاعتذار له، والمناضلة دونه، كقوله:
فدى من على الغبراء أولهم أنا ... لهذا الأبي الماجد الجائد القرم
ولم يحك عن العرب " الجائد " وإنما المحكى رجل جواد، وفرس جواد، ومطر جواد.
وكقوله:
فأرحم شعر تتصلن لدنه ... وأرحام مال لا تني تتقطع
وتشديد النون من " لدن " غير معروف في لغة العرب.
وكقوله:
شديد البعد من شرب الشمول ... ترنج الهند أو طلع النخيل
والمعروف عند العرب الأترج، والترنج مما يغلط فيه العامة. قال الصاحب: لا أدري الاستهلال أحسن، أم المعنى أبدع، أم قوله ترنج أفصح؟ وكقوله::
وتكرمت ركباتها عن مبرك ... تقعان فيه ليس مسكاً أذفرا
فجمع الركبات ثم انتقل إلى التثنية فقال " تقعان " ، وهو ضعيف وغير سديد في صناعة الإعراب.
وكقوله:
ليس إلاك يا علي همام ... سيفه دون عرضه مسلول
وكقوله:
لم تر من نادمت إلا كا ... لا لسوى ودك لي ذا كا
فوصل الضمير بإلا، وحقه أن ينفصل عنه كما قال الله تعالى: " ضل من تدعون إلا إياه " .
وكقوله:
لأنت أسود في عيني من الظلم (1/49)
وألف التعجب لا تدخل على أفعل، وإنما يقال: أشد سواداً وحمرة وخضرة.
وكقوله:
جللاً كما بي فليك التبريح
وحذف النون من " يكن " إذا استقبلها الألف واللام خطأ عند النحويين، لأنها تتحرك إلى الكسر، وإنما تحذف استخفافاً إذا سكنت.
وكقوله:
أمط عنك تشبيهي بما وكأنه
والتشبيه بما محال وكقوله:
لعظمت حتى لو تكون أمانة ... ما كان مؤتمناً بها جبرين
قال الصاحب: وقلب هذه اللام إلى النون، أبغض من وجه المنون، ولا أحسب جبرائيل عليه السلام منه بهذا المجاز، هذا على ما في البيت من الفساد والقبح.
وكقوله:
حملت إليه من ثنائي حديقة ... سقاها الحجا سقي الرياض السحائب
أي: سقي السحائب الرياض.
ومنها
الخروج عن الوزن
كقوله:
تفكره علم، ومنطقه حكم ... وباطنه دين، وظاهره ظرف
وقد خرج فيه عن الوزن لأنه لم يجئ عن العرب مفاعيلن " في عروض الطويل غير مصرع، وإنما جاء مفاعلن " ، قال الصاحب: ونحن نحاكمه إلى كل شعر للقدماء والمحدثين على بحر الطويل، فما نجد له على خطئه مساعداً.
قال القاضي أبو الحسن: وقد عيب أيضاً بقوله:
إنما بدر بن عمار سحاب ... هطل فيه ثواب وعقاب
لأنه أخرج الرمل على " فاعلاتن " وأجرى جميع القصيدة على ذلك في الأبيات غير المصرعة، وإنما جاء الشعر على " فاعلن " وإن كان أصله في الدائرة فاعلاتن.
ومنها
استعمال الغريب الوحشي
وإذا كان المتنبي من المحدثين، بل من العصريين، وجرى على رسومهم في اختيار الألفاظ المعتادة المألوفة بينهم، بل ربما انحط عنهم بالركاكة والسفسفة، ثم تعاطى الغريب الوحشي، والشاذ البدوي، بل ربما زاد في ذلك على أقحاح المتقدمين - حصل كلامه بين طرفي نقيض، وتعرض لاعتراض الطاعنين.
فمن ذلك الفن الذي ينادي على نفسه، ويقلق موقعه في شعره وشعر غيره من أبناء عصره - قوله:
وما أرضى لمقلته بحلم ... إذا انتبهت توهمه ابتشاكا
والابتشاك: الكذب، ولم أسمع فيه شعراً قديماً ولا محدثاً سوى هذا البيت وقوله في وصف الغيث:
لساحيه على الأجداث حفش ... كأيدي الخيل أبصرت المخالي
الساحي: القاشر، ومنه سميت المسحاة لأنها تقشر وجه الأرض، والحفش: مصدر حفش السيل حفشاً، إذا جمع الماء من كل جانب إلى مستنقع.
وقوله في وصف السيف:
ودقيق قدي الهباء أنيق ... متوال في مستو هزهاز
قدي: بمعنى مقدار، يقال: بينهما قيد رمح، وقدي رمح.
وقوله:
تطس الخدود كما تطسن اليرمعا
تطسن: أي تدق، واليرمع: الحجارة الرخوة.
وقوله:
وإلى حصى أرض أقام بها ... بالناس من تقبيلها يلل
اليلل: إقبال الأسنان وانعطافها على باطن الفم، ولم أسمعه في غير شعره.
وقوله:
الشمس تشرق والسحاب كنهوراً
الكنهور: القطع من السحاب العظيمة.
وقوله:
وكيف أستر ما أوليت من حسن ... وقد غمرت نوالاً أيها النال
والنال: المعطي.
وقوله:
أسائلها عن المتديريها
قال الصاحب: لفظة " المتديريها " لو وقعت في بحر صاف لكدرته، ولو ألقى ثقلها على جبل سام لهده، وليس للمقت فيها نهاية، ولا للبرد معها غاية، المتديروها: المتخذوها داراً.
قال الصاحب: ومن أطم ما يتعاطاه التفاصح بالألفاظ النافرة، والكلمات الشاذة، حتى كأنه وليد خباء، وغذي لبن، لم يطأ الحضر، ولم يعرف المدر، فمن ذلك قوله:
أيفطمه التوارب قبل فطامه ... ويأكله قبل البلوغ إلى الأكل
وليس ذلك سائغاً لمثله، وهو وليد قرية، ومعلم صبية.
ومن الجموع الغريبة التي يوردها قوله في جمع الأرض:
أروض الناس من ترب وخوف ... وأرض أبي شجاع من أمان
وقوله في جمع اللغة:
عليم بأسرار الديانات واللغى
وقوله في جمع الدنيا:
أعز مكان في الدنى سرج سابح
وقوله في جمع الأخ:
كل آخائه كرام بني الدنيا
قال الصاحب: لو وقع " الآخاء " في رائية الشماخ لاستثقل، فكيف مع أبيات منها:
قد سمعنا ما قلت في الأحلام ... وأنلناك بدرة في المنام
والكلام إذا لم يتناسب زيفته جهابذته، وبهرجته نقاده.
ومنها
الركاكة والسفسفة (1/50)
بألفاظ العامة والسوقة ومعانيهم كقوله:
رماني خساس الناس من صائب استه ... وآخر قطن من يديه الجنادل
وقوله:
وإن ما ريتني فاركب حصاناً ... ومثله تخر له صريعا
وقوله:
إن كان لا يدعى الفتى إلا كذا ... رجلاً فسم الناس طراً إصبعا
وقوله:
قسا فالأسد تفزع من يديه ... ورق فنحن نفزع أن يذوبا
وقوله:
تألم درزة والدرز لين ... كما يتألم العضب الصنيعا
وعلى ذكر الدرز فقد حكى الصاحب في كتاب الروزنامجة من حديث لحظة الطولونية المغنية ما يشبه معنى هذا البيت، وهو أنه قال: سمعتها تقول: يا جارية، علي بالقميص المعمول في النسج، فقد آذاني نقل الدروز.
وقوله:
لسري لباسه خشن القط ... ن ومروي مرو لبس القرود
وقوله:
ما أنصف القوم ضبه ... وأمه الطرطبه
رموا برأس أبيه ... وباكوا الأم غلبه
وقوله:
بياض وجه يريك الشمس طالعة ... ودر لفظ يريك الدر مخلشا
وقوله:
إن كان مثلك كان أو هو كائن ... فبرئت حينئذ من الإسلام
قال الصاحب: " حينئذ " ، ههنا من عير منفلت.
قال: ومن ركيك صنعه، في وصف شعره، والزراية على غيره، قوله:
إن بعضاً من القريض هراء ... ليس شيئاً، وبعضه أحكام
منه ما يجلب البراعة والذه ... ن، ومنه ما يجلب البرسام
وقال: ههنا بيت نرضى باتباعه فيه، وما ظنك بمحكم مناوية ثقة بظهور حقه وإيراء زنده؟، ولو لم يكن التحكيم بعد أبي موسى من موجب العزم، ومقتضى الحزم، وهو:
أطعناك طوع الدهر يا ابن يوسف ... بشهوتنا والحاسدو لك بالرغم
وقوله:
تقضم الجمر والحديد الأعادي ... دونه قضم سكر الأهواز
وقوله:
فكأنما حسب الأسنة حلوة ... أو ظنها البرني والآزاذا
قال الصاحب: إذا جمع السكر إلى البرني والأزاذ تم الأمر.
قال: وكانت الشعراء تصف المآزر، تنزيهاً لألفاظها عما يستشنع ذكره، حتى تخطى هذا الشاعر المطبوع إلى التصريح الذي لم يهتد له غيره فقال:
إني على شغفي بما في خمرها ... لأعف عما في سراويلاتها
وكثير من العهر أحسن من هذا العفاف.
قال القاضي: ومن أمثاله العامية قوله:
وكل مكان أتاه الفتى ... على قدر الرجل فيه الخطى
ومنها
إبعاد الاستعارة والخروج بها عن حدها
كقوله:
مسرة في قلوب الطيب مفرقها ... وحسرة في قلوب البيض واليلب
وقوله:
تجمعت في فؤادهم همم ... ملء فؤاد الزمان إحداها
وقوله:
لم يحك نائلك السحاب، وإنما ... حمت به فصبيبها الرحضاء
وقوله:
إلا يشب حلواء البنين على الصبا ... فلا تحسبني قلت ما قلت عن جهل
فجعل للطيب والبيض واليلب قلوباً، وللسحاب حمى، وللزمان فؤاداً، وللكبد شيباً، وهذه استعارات لم تجر على شبه قريب ولا بعيد، وإنما تصح الاستعارة وتحسن على وجه من الوجوه المناسبة، وطرق من الشبه والمقاربة.
قال الصاحب: وما زلنا نتعجب من قول أبي تمام:
لا تسقني ماء الملام فإنني ... صب قد استعذبت ماء بكائي
فخف علينا بحلواء البنين.
ومنها
الاستكثار من قول ذا
قال القاضي: وهي ضعيفة في صنعة الشعر، دالة على التكلف، وربما وافقت موضعاً تليق به فاكتست قبولاً، فأما في مثل قوله:
قد بلغت الذي أردت من الب ... ر ومن حق ذا الشريف عليكا
وإذا لم تسر إلى الدار في وق ... تك ذا خفت أن تسير إليكا
وقوله:
لو لم تكن من ذا الورى اللذمنك هو ... عقمت بمولد نسلها حواء
وقوله:
عن ذا الذي حرم الليوث كماله ... تنسى الفريسة خوفه لجماله
وقوله:
وإن بكينا له فلا عجب ... ذا الجزر في البحر غير معهود
وقوله:
أفي كل يوم ذا الدمستق مقدم ... قفاه على الإقدام للوجه لاثم
وقوله:
أبا المسك ذا الوجه الذي كنت تائقاً ... إليه، وذا الوقت الذي كنت راجيا (1/51)
وقوله:
وأعجب من ذا الهجر، والوصل أعجب
وقوله:
أريد من زمني ذا أن يبلغني ... ما ليس يبلغه في نفسه الزمن
وقوله:
يضاحك في ذا اليوم كل حبيبة
فهو - كما تراه - سخافة وضعف، ولو تصفحت شعره لوجدت فيه أضعاف ما ذكرناه من هذه الإشارة، وأنت لا تجد منها في عدة دواوين جاهلية حرفاً، والمحدثون أكثر استعانة بها، لكن في الفرط والندرة، أو على سبيل الغلط والفلتة.
ومنها
الإفراط في المبالغة
والخروج فيه إلى الإحالة
كقوله:
ونالوا ما اشتهوا بالحزم هوناً ... وصاد الوحش نملهم دبيبا
وقوله:
وضاقت الأرض حتى صار هاربهم ... إذا رأى غير شيء ظنه رجلا
فبعده وإلى ذا اليوم لو ركضت ... بالخيل في لهوات الطفل ما سعلا
وقوله:
وأعجب منك كيف قدرت تنشا ... وقد أعطيت في المهد الكمالا
وأقسم لو صلحت يمين شيء ... لما صلح العباد له شمالا
وقوله:
بمن أضرب الأمثال؟ أم من أقيسه ... إليك وأهل الدهر دونك والدهر؟
وقوله:
ولو قلم ألقيت في شق رأسه ... من السقم ما غيرت من خط كاتب
وقوله:
من بعد ما كان ليلي لا صباح له ... كأن أول يوم الحشر آخره
فهو مما يستهجن في صنعة الشعر، على أن كثيراً من النقدة لا يرتضون هذا الإفراط كله.
ومنها
تكرير اللفظ في البيت الواحد
من غير تحسين
كقوله:
ومن جاهل بي وهو يجهل جهله ... ويجهل علمي أنه بي جاهل
وقوله في هذه القصيدة:
فقلقلت بالهم الذي قلقل الحشا ... قلاقل عيس كلهن قلاقل
قال الصاحب: وما زال الناس يستبشعون قول مسلم:
سلت وسلت ثم سل سليلها ... فأتى سليل سليلها مسلولا
حتى جاء هذا المبدع فقال:
وأفجع من فقدنا من وجدنا ... قبيل الفقد مفقود المثال
وأظن المصيبة في الراثي أعظم منها في المرثي.
وقوله:
عظمت فلما لم تكلم مهابة ... تواضت وهو العظم عظماً عن العظم
قال الصاحب: وما أحسن ما قال الأصمعي لمن أنشده:
فما للنوى جد النوى قطع النوى ... كذاك النوى قطاعة لوصال
لو سلط الله تعالى على هذا البيت شاة فأكلت هذا النوى كله! وقوله:
ولا الضعف حتى يتبع الضعف ضعفه ... ولا ضعف ضعف الضعف بل مثله ألف
وقوله:
ولم أر مثل جيراني ومثلي ... كمثلي عند مثلهم مقام
وقوله:
العارض الهتن ابن العارض الهتن اب ... ن العارض الهتن ابن العارض الهتن
وقوله:
وإني وإن كان الدفين حبيبه ... حبيب إلى قلبي حبيب حبيبي
وقوله:
لك الخير غيري رام من غيرك الغنى ... وغيري بغير اللاذقية لاحق
وقوله:
ملولة ما تدوم ليس لها ... من ملل دائم بها ملل
وقوله:
قبيل أنت أنت وأنت منهم ... وجدك بشر الملك الهمام
وقوله:
وكلكم أتى مأتى أبيه ... فكل فعال كلكم عجاب
وقوله:
وما أنا وحدي قلت الشعر كله ... ولكن شعري فيك من نفسه شعر
وقوله:
إنما الناس حيث أنت، وما النا ... س بناس في موضع خالي
وقوله:
ولولا تولى نفسه حمل حمله ... عن الأرض لانهدت وناء بها الحمل
وقوله:
ونهب نفوس أهل النهب أولى ... بأهل النهب من نهب القماش
وقوله:
وطعن كأن الطعن لا طعن عنده
وقوله:
أراه صغيراً قدرها عظم قدره ... فما لعظيم قدره عنده قدر
وقوله:
جواب مسائلي أله نظير ... ولا لك في سؤالك لا ألالا
قال الصاحب: ما قدرت أن مثل هذا البيت يلج سمعاً، وقد سمعت الفأفاء، ولم أسمع باللألاء، حتى رأيت هذا المتكلف المتعسف، الذي لا يقف حيث يعرف.
ومنها
إساءة الأدب بالأدب
كقوله:
فغدا أسيراً قد بللت ثيابه ... بدم، وبل ببوله الأفخاذا
وقوله:
وما بين كاذتي المستغير ... كما بين كاذتي البائل (1/52)
وقوله:
خف الله واستر ذا الجمال ببرقع ... فإن لحت حاضت في الخدور العوائق
ويقال: لما أنكرت عليه " حاضت " غيره فجعله " ذابت " ، وذكر البول والحيض مما لا يحسن وقوعه في مخاطبة الملوك والرؤساء.
وأقبح موقعاً من ذلك قوله في قصيدة يرثي بها أخت سيف الدولة، ويعزيه عنها حيث يقول:
وهل سمعت سلاماً لي ألم بها ... فقد أطلت وما سلمت عن كثب
وما باله يسلم على حرم الملوك، ويذكر منهن ما يذكره في قوله:
يعلمن حين تحي حسن مبسمها ... وليس يعلم إلا الله بالشنب
وكان أبو بكر الخوارزمي يقول: لو عزاني إنسان عن حرمة لي بمثل هذا لألحقته بها، وضربت عنقه على قبرها، قال الصاحب: ولقد مررت على مرثية له في أم سيف الدولة تدل مع فساد الحس، على سوء أدب النفس، وما ظنك بمن يخاطب ملكاً في أمه بقوله:
بعيشك هل سلوت فإن قلبي ... وإن جانبت أرضك غير سالي؟
فيتشوق إليها، ويخطئ خطأ لم يسبق إليه، وإنما يقول مثل ذلك من يرثي بعض أهله، فأما استعماله إياه في هذا الموضع فدال على ضعف البصر بمواقع الكلام، وفي هذه القصيدة:
رواة العز فوقك مسبطر ... وملك علي ابنك في كمال
ولعل لفظه السبطرار في مرائي النساء من الخذلان الرقيق الصفيق المتبر قال: ولما أبدع في هذه القصيدة واخترع قال:
صلاة الله خالقنا حنوط ... على الوجه المكفن بالجمال
فلا أدري هذه الاستعارة أحسن أم وصفه وجه والدة ملك يرثيها بالجمال أم قوله في وصف قرابتها وجواريها.
أتتهن المصائب غافلاتفدمع الحزن في دمع الدلال!؟ومنها الإيضاح عن ضعف العقيدة ورقة الدين
على أن الديانة ليست عياراً على الشعراء، ولا سوء الاعتقاد سبباً لتأخير الشاعر، ولكن للإسلام حقه من الإجلال الذي لا يسوغ الإخلال به قولاً وفعلاً ونظماً ونثراً، ومن استهان بأمره، ولم يضع ذكره وذكر ما يتعلق به في موضع استحقاقه، فقد باء بغضب من الله تعالى، وتعرض لمقته في وقته، وكثيراً ما قرع استحقاقه، فقد باء بغضب من الله تعالى، وتعرض لمقته في وقته، وكثيراً ما قرع المتنبي هذا الباب بمثل قوله:
يترشفن من فمي رشفات ... هن فيه أحلى من التوحيد
وقوله:
ونصفي الذي يكنى أبا الحسن الهوى ... ونرضى الذي يسمى الإله ولا يكنى
وقوله من قصيدة مدح بها العلوي:
وأبهر آيات التهامى أنه ... أبوكم، وإحدى مالكم من مناقب
وقوله:
تتقاصر الأفهام عن إدراكه ... مثل الذي الأفلاك فيه والدنا
وقد أفرط جداً؛ لأن الذي الأفلاك فيه والدنا هو علم الله عز وجل.
وقوله:
الناس كالعابدين آلهةً ... وعبده كالموحد اللاها
وقوله:
لو كان علمك بالإله مقسماً ... في الناس ما بعث الإله رسولا
أو كان لفظك فيهم ما أنزل ال ... توراة والفرقان والإنجيلا
وقوله:
لو كان ذو القرنين أعمل رأيه ... لما أتى الظلمات صرن شموساً
أو كان صادف رأس عازر سيفه ... في يوم معركة لأعيا عيسى
عازر: اسم الرجل الذي أحياه المسيح عليه الصلاة والسلام، بإذن الله عز وجل.
أو كان لج البحر مثل يمينه ... ما انشق حتى جاز فيه موسى
وكأن المعاني نلوذ من الزمان بظله ... أبداً، ونطرد باسمه إبليسا
وقوله وقد جاز حد الإساءة:
أي محل أرتقي؟! ... أي عظيم أتقي؟!
وكل ما خلق الل ... ه وما لم يخلق
محتقر في همتي ... كشعرة في مفرقي
وقبيح بمن أوله نطفة مذرة، وأخره جيفة قذرة، وهو فيما بينهما حامل بول وعذرة، أن يقول مثل هذا الكلام الذي لا تسعه معذرة.
ومنها
الغلط بوضع الكلام في غير موضعه
كقوله:
أغار من الزجاجة وهي تجري ... على شفة الأمير أبي الحسين
وهذه الغيرة إنما تكون بين المحب ومحبوبه، كما قال أبو الفتح كشاجم وأحسن:
أغار إذا دنت من فيه كأس ... على در يقبله الزجاج
فأما الأمراء والملوك فلا معنى للغيرة على شفاهها! وكقوله: (1/53)
وغر الدمستق قول الوشا ... ة إن علياً ثقيل وصب
فجعل الأمراء يوشى بهم، وإنما الوشاية السعاية ونحوها " من الرعية " ، ومن شأن الممدوح أن يفضل على عدوه، ويجري العدو مجرى بعض أصحابه وليس في اللغة أن يقال: وشى فلان بالسلطان إلى بعض رعيته.
وكقوله في وصف الحمى المعرقة:
إذا ما فارقتني غسلتني ... كأنا عاكفان على حرام
وليس الحرام أخص بالأغتسال منه من الحلال.
وكقوله في وصف مهرة:
وزاد في الأذن على الخرانق
وأذن الفرس يستحب فيها الدقة والانتصاب، وتشبه بطرف القلم، وأذن الأرنب، على الضد من هذا الوصف.
ومنها
امتثال ألفاظ المتصوفة
واستعمال كلماتهم المعقدة، ومعانيهم المغلقة، في مثل قوله في وصف فرس:
وتسعدني في غمرة بعد غمرة ... سبوح لها منها عليها شواهد
وقوله:
إذا ما الكأس أرعشت اليدين ... صحوت فلم تحل بيني وبيني
وقوله:
نال الذي نلت منه مني ... لله ما تصنع الخمورا!
وقوله:
كبر العيان علي حتى إنه ... صار اليقين من العيان توهما
وقوله:
ولولا أنني في غير نوم ... لكنت أظنني مني خيالا
قال الصاحب: ولو وقع قوله:
نحن من ضايق الزمان له في ... ك، وخانته قربك الأيام
في عبارات الجنيد والشبلى لتنازعته المتصوفة دهراً بعيداً.
ومن أشد ما قاله في هذا المعنى قوله:
ولنك الدنيا إلي حبيبة ... فما عنك لي إلا إليك ذهاب
ومنها
الخروج عن طريق الشعر
إلى طريق الفلسفة كقوله:
ولجدت حتى كدت تبخل حائلاً ... للمنتهى، ومن السرور بكاء
وقوله:
والأسى قبل فرقة الروح عجز ... والأسى لا يكون قبل الفراق
وقوله:
إلف هذا الهوى أوقع في الأن ... فس أن الحمام مر المذاق
وقوله:
تخالف الناس حتى لا اتفاق لهم ... إلا على شجب والخلف في الشجب
فقيل: تخلص نفس المرء سالمة، ... وقيل: تشرك جسم المرء في العطب
وقوله:
خلفت صفاتك في العيون كلامه ... كالخط يملأ مسمعي من أبصرا
وقوله:
تمتع من سهاد أو رقاد ... ولا تأمل كرى تحت الرجام
فإن لثالث الحالين معنى ... سوى معنى انتباهك والمنام
قال ابن جني: أرجو أن لا يكون أراد بذلك أن نومة القبر لا انتباه لها.
ومنها
استكراه التخلص
قال القاضي: لعلك لا تجد في شعره تخلصاً مستكرهاً إلا قوله:
أحبك أو يقولوا: جر نمل ... ثبيراً وابن إبراهيم ريعا
فأما قوله:
فأفنى وما أفنته نفسي، كأنما ... أبو الفرج القاضي له دونها كهف
وقوله:
لو استطعت ركبت الناس كلهم ... إلى سعيد بن عبد الله بعرانا
وقوله:
أعز مكان في الدنا سرج سابح ... وخير جليس في الزمان كتاب
وبحر أبو المسك الخضم الذي له ... على كل بحر زخرة وعباب
فهي وإن لم تكن مستحسنة مختارة فليست بالمستهجن الساقط.
ومنها
قبح المقاطع
كقوله بعد أبيات أحسن فيها غاية الإحسان، وترقى الدرجة العالية، وهي:
ولله سر في علاك، وإنما ... كلام العدا ضرب من الهذيان
أتلمس الأعداء بعد الذي رأت ... قيام دليل أو وضوح بيان؟
رأت كل من ينوي لك الغدر يبتلي ... بغدر حياة أو بغدر زمان
قضى الله يا كافور أنك واحد ... وليس بقاض أن يرى لك ثاني
فما لك تختار القسي، وإنما ... عن السعد ترمي دونك الثقلان
وما لك تعنى بالأسنة والقنا ... وجدك طعان بغير سنان؟!
ولم تحمل السيف الطويل نجاده ... وأنت غني عنه بالحدثان
أرد لي جميلاً أو لم تجد به ... فإنك ما أحببت في أتاني
هذا البيت الذي هو عوذتها.
لو الفلك الدوار أبغضت سعيه ... لعوقه شيء عن الدوران (1/54)
وقوله في قصيدة منها:
في خطة من كل قلب شهوة ... حتى كأن مداده الأهواء
ولكل عين قرة في قربه ... حتى كأن مغيبه الأقذاء
هذا البيت الذي جعله المقطع.
لو لم تكن من ذا الورى اللذ منك هو ... عقمت بمولد نسلها حواء
وكقوله في آخر القصيدة:
خلت البلاد من الغزالة ليلها ... فأعاضهاك الله كي لا تحزنا
هذا آخر المقابح والمعائب، وأول المحاسن والروائع والبدائع والقلائد والفرائد التي زاد فيها على من تقدم، وسبق جميع من تأخر.
فمنها
حسن المطالع
كقوله:
فديناك من ربع وإن زدتنا كربا ... فإنك كنت الشرق للشمس والغربا
نزلنا عن الأكوار نمشي كرامة ... لمن بان عنه أن نلم به ركبا
وقوله:
الرأي قبل شجاعة الشجعان ... هو أول، وهي المحل الثاني
فإذا هما اجتمعا لنفس مرة ... بلغت من العلياء كل مكان
وقوله:
إذا كان مدح فالنسيب المقدم ... أكل فصيح قال شعراً متيم؟
لحب ابن عبد الله أولى: فإنه ... به يبدأ الذكر الجميل ويختم
وقوله:
أعلى الممالك ما يبنى على الأسل ... والطعن عند مجبيهن كالقبل
وقوله:
فؤاد ما تسليه المدام ... وعمر مثل ما يهب اللئام
وقوله:
أفاضل الناس أغراض لذا الزمن ... يخلو من الهم أخلاهم من الفطن
وقوله:
اليوم عهدكم فأين الموعد ... هيهات ليس ليوم عهدكم غد؟
الموت أقرب مخلباً من بينكم ... والعيش أبعد منكم لا تبعدوا
وقوله:
المجد عوفي إذ عوفيت والكرم ... وزال عنك إلى أعدائك الألم
ومنها
حسن الخروج والتخلص
كقوله:
مرت بنا بين تربيها فقلت لها: ... من أين جانس هذا الشادن العربا
فاستضحكت ثم قالت: كالمغيث ... يرى ليث الشرى وهو من عجل لإذا انتسبا
وقوله:
وغيث ظننا تحته أن عامراً ... علا لم يمت أوفى السحاب له قبر
وقوله:
وإلا فخانتني القوافي، وعاقني ... عن ابن عبيد الله ضعف العزائم
إذا صلت لم أترك مصالاً لصائل ... وإن قلت لم أترك مقالاً لعالم
وقوله:
نودعهم والبين فينا كأنه ... قنا ابن أبي الهيجاء في قلب فيبق
وقوله:
ةمقانب بمقانب غادرتها ... أقوات وحش كن من أقواتها
أقبلتها غرر البلاد كأنما ... أيدي بني عمران في جبهاتها
وقوله:
حدق يذم من القواتل غيرها ... بدر بن عمار بن إسماعيلا
وقوله:
ولو كنت في أسر غير الهوى ... ضمنت ضمان أبي وائل
فدى نفسه بضمان النضار ... وأعطى صدور القنا الذابل
ومنها
النسيب بالأعرابيات
كقوله:
من الجآذر في زي الأعاريب ... حمر الحلى والمطايا والجلابيب؟
إن كنت تسأل شكا في معارفها ... فمن بلاك بتسهيد وتعذيب؟
سوائر ربما سارت هوادجها ... منيعة بين مطعون ومضروب
أي: لكثرة الرغبة فيهن، وشدة الذب عنهن، والمحاربة دونهن.
وربما وخدت أيدي المطي بها ... على نجيع من الفرسان مصبوب
كم زروة لي في الأعراب خافية ... أدهى وقد رقدوا من زورة الذيب
أزورهم وسواد الليل يشفع لي ... وأنثني وبياض الصبح يغري بي
قد وقع التنبيه على حسن هذا البيت في شرف لفظه ومعناه، وجودة تقسيمه، وكونه أمير شعره.
قد وافقوا الوحش في سكنى مراتعها ... وخالفوها بتقويض وتطنيب
فؤاد كل محب في بيوتهم ... ومال كل أخيذ المال محروب
ما أوجه الحضر المستحسنات به ... كأوجه البدويات الرعابيب
حسن الحضارة مجلوب بتطرية ... وفي البداوة حسن غير مجلوب
أفدي ظباة فلاة ما عرفن بها ... مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب (1/55)
ولا برزن من الحمام مائلة ... أوراكهن صقيلات العراقيب
ومن هوى كل من ليست مموهة ... تركت مشيبي غير مخضوب
ومن هوى الصدق في قولي وعادته ... رغبت عن شعر في الوجه مكذوب
وناهيك بهذه الأبيات جزالة وحلاوة وحسن معادن.
وله ظريفة في وصف البدويات قد تفرد بحسنها وأجاد ما شاء فيها، فمنها قوله:
هام الفؤاد بأعرابية سكنت ... بيتاً من القلب لم تضرب به طنبا
مظلومة القد في تشبيه غصناً ... مظلومة الريق في تشبيه ضربا
وقوله:
إن الذين أقمت واحتملوا ... أيامهم لديارهم دول
الحسن يرحل كلما رحلوا ... معهم، وينزل حيثما نزلوا
في مقلتي رشأ تديرهما ... بدوية فتنت بها الحلل
تشكو المطاعم طول هجرتها ... وصدورها ومن الذي تصل
وصفتها بقلة الطعم، وهي محمودة في نساء العرب.
ما أسأرت في القعب من لبن ... تركته وهو المسك والعسل
قالت ألا تصحو فقلت لها ... أعلمتني أن الهوى ثمل
وقوله:
ديار اللواتي دارهن عزيزة ... بطول القنا يحفظن لا بالتمائم
حسان التثني ينقش الوشي مثله ... إذا مسن في أجسادهن النواعم
ويسمن عن در تقلدن مثله ... كأن التراقي وشحت بالمباسم
ومنها
حسن التصرف في سائر الغزل
كقوله:
قد كان يمنعني الحياء من البكا ... فالآن يمنعه البكا أن يمنعا
حتى كأن لكل عظم رنة ... في جلده ولكل عرق مدمعا
سفرت وبرقعها الحياء بصفرة ... سترت محاسنها ولم تك برقعا
فكأنها والدمع يقطر فوقها ... ذهب بسمطي لؤلؤ قد رصعا
كشفت ثلاث ذوائب من شعرها ... في ليلة فأرت ليالي أربعا
واستقبلت قمر السماء بوجهها ... فأرتني القمرين في وقت معا
وهي مما يتغنى به لرشاقتها وبلوغها كل مبلغ من حسن اللفظ وجودة المعنى، واستحكام الصنعة.
وكقوله:
أيدري الربع أي دم أراقا؟ ... وأي قلوب هذا الركب شاقا؟
لنا ولأهله أبداً قلوب ... تلاقي في حسوم ما تلاقى
معناه ينظر إلى قول ابن المعتز:
إنا على البعاد والتفرق ... لنلتقي بالذكر إن لم نلتقي
ومنها:
فليت هوى الأحبة كان عدلاً ... فحمل كل قلب ما أطاقا
ومنها:
وقد أخذ التمام البدر فيهم ... وأعطاني من السقم المحاقا
وبين الفرع والقدمين نور ... يقود بلا أزمتها النياقا
وطرف إن سقى العشاق كأساً ... بها نقص سقانيها دهاقا
وخصر تثبت الأحداق فيه ... كأن عليه من حدق نطاقا
وقوله:
كأنما قدها إذا انفتفلت ... سكران من خمر طرفها ثمل
يجذبها تحت خصرها عجز ... كأنه من فراقها وجل
وقوله:
مثلت عينك في حشاي جراحة ... فتشابها كلتاهما نجلاء
نفذت علي السابري، وربما ... تندق فيه الصعدة السمراء
وكقوله:
كأن العيس كانت فوق جفني ... مناخات فلما ثرن سالا
لبسن الوشي لا متجملات ... ولكن كي يصن به الجمالا
وضفرن الغائر لا لحسن ... ولكن خفن في الشعر الضلالا
ومنها
حسن التشبيه بغير أداة التشبيه
كقوله:
بدت قمراً، ومالت غصن بان ... وفاحت عنبراً، ورنت غزالا
وقوله:
ترنو إلي بعين الظبي مجهشة ... وتمسح الطل فوق الورد بالعنم
وقوله:
قمراً ترى وسحابتين بموضع ... من وجهه ثقل ما تحوي مآزره
وقوله:
عرفت نوائب الحدثان حتى ... لو انتسبت لكنت لها نقيبا
وقوله:
فأتيت معتزماً ولا أسد ... ومضيت منهزماً ولا عل
وقوله في وصف الخيل:
خرجنا من النقع في عارض ... ومن عرق الركض في وابل (1/56)
وقوله:
وجياد يدخلن في الحرب أعرا ... ءً ويخرجن من دم في جلال
واستعار الحديد لوناً وألقى ... لونه في ذوائب الأطفال
ومنها
الإبداع في سائر التشبيهات والتمثيلات
كقوله:
وإن نهاري ليلة مدلهمة ... على مقلة من فقدكم في غياهب
بعيدة ما بين الجفون كأنما ... عقدتم أعالي كل هدب بحاجب
ذكر ابن جني أنه مثل قول بشار:
جفت عيني عن التغميض حتى ... كأن جفونها عنها قصار
وذكر القاضي أنه مأخوذ من قول الطرمي في رطاناته:
ورأسي مرفوع إلى النجم كأنما ... قفاي إلى صلبي بخيط مخيط
وقوله:
كأن رقيباً منك سد مسامعي ... عن العذل حتى ليس يدخلها العذل
كأن سهاد العين يعشق مقلتي ... فبينهما في كل هجر لنا وصل
وقوله:
رأيت الحميا في الزجاج بكفه ... فتشبهتها بالشمس في البدر في البحر
وقوله في الحمى:
وزئرتي كأن بها حياء ... فليس تزور إلا بالظلام
بذلت لها المطارف والحشايا ... فعافتها وباتت في عظامي
وقوله في وصف الظبي:
أغناه حسن الجيد عن لبس الحلى ... وعادة العري عن التفضل
كأنه مضمخ بصندل
وقوله في سرعة الأوبة وتقليل اللبث:
وما أنا غير سهم في هواء ... يعود ولم يجد فيه امتساكا
قال ابن جني: قد اختلف أهل النظر في هذا الموضع، فقال قوم: إن السهم والحجر ونحوهما إذا رمي به صعدا فتناهى صعوده كانت له في آخر ذلك لبثة ما، ثم يتصوب منحدراً. وقال آخرون: لا لبثة له هناك، وإنما أول وقت انحداره وقت صعوده.
وقوله - وهو أحسن ما قيل في وصف محنة نهكت صاحبها، واشتدت به، ثم عاد إلى حال السلامة وقد هذبته تلك الحال وزادته صفاء وسهولة:
وربتما شفيت غليل صدري ... بسير أو مقام أو حسام
وضاقت خطة فخرجت منها ... خروج الخمر من نسج الفدام
وقوله وهو مما لم يسبق إليه:
كريم نفضت الناس لما لقيته ... كأنهم ما جف من زاد قادم
وكاد سروري لا يفي بندامتي ... على تركه في عمري المتقادم
وقوله وهو من بدائعه:
رضوا بك كالرضا بالشيب قسراً ... وقد وخط النواصي والفروعا
وقوله في وصف الشعر:
إذا خلعت على عرض له حللاً ... وجدتها منه في أبهى من الحلل
بذي الغباوة من إنشادها ضرر ... كما تضر رياح الورد بالجعل
وذلك أن الجعل إذا طرح عليه الورد غشى عليه.
ومنها
التمثيل بما هو من جنس صناعته
كقوله:
وإنما نحن في جيل سواسية ... شر على الحر من سقم على البدن
حولي بكل مكان منهم خلق ... تخطي إذا جئت في استفهامها بمن
" من " إنما يستفهم بها عمن يعقل، يقول: هؤلاء كالبهائم، فقولك لهم " من أنتم " خطأ، إنما ينبغي أن يقال لهم " ما أنتم " لأن موضع " ما " لما لا يعقل، ويحكى أن جريراً لما قال:
يا حبذا جبل الريان من جبل ... وحبذا ساكن الريان من كانا
قال الفرزدق: ولو كان ساكنه قروداً؟ فقال له جرير: لو أردت هذا لقلت ما كانا ولم أقل من كانا.
وكقوله:
نتاج رأيك في وقت على عجل ... كلفظ حرف وعاه سامع فهم
وقوله:
من اقتضى بسوى الهندي حاجته ... أجاب كل سؤال عن هل بلم
وقوله:
أمضى إرادته فسوف له قد ... واستقرب الأقصى فثم له هنا
" سوف " للاستقبال، و " قد " موضوعة للمضي ومقاربة الحال، يقول: إذا نوى أمراً فكأنما يسابق نيته، وقوله:
دون التعانق ناحلين كشكلتي ... نصب أدقهما وضم الشاكل
وقوله:
ولولا كونكم في الناس كانوا ... هراء كالكلام بلا معان
وقوله:
قشير وبلعجان فيها خفية ... كراءين في ألفاظ ألثغ ناطق
وقوله:
إذا كان ما تنويه فعلاً مضارعاً ... مضى قبل أن تلقى عليه الجوازم
المضارع ما كان في أوله إحدى الزوائد الأربع، مثل: أقوم، ونقوم وتقوم، ويقوم، يقول: إذا نويت فعلاً أوقعته قبل فوته. وقبل أن يقال لم يفعل، وأن يفعل، وقوله: (1/57)
وكان ابنا عدو كاثراه ... له يآءي حروف أنيسيان
" أنيسيان " تصغير إنسان وتحقيره، وإنسان عدد حروفه خمسة، وهو اسم مكبر، فإذا صغرته زدت عليه ياءين فزادت حروفه ونقص معناه، فكذاك إذا كان لعدوه ابنان فكاثره بهما، فيكونان زائدين في عدده ولكن ناقصين، لسقوطهما وتخلفهما.
ومنها
المدح الموجه
كالثوب له وجهان ما منهما إلا حسن، كقوله:
نهبت من الأعمار ما لو حويته ... لهنئت الدنيا بأنك خالد
قال ابن جني: لو لم يمدح أبو الطيب سيف الدولة إلا بهذا البيت وحده لكان قد بقي فيه ما لا يخلقه الزمان، وهذا هو المدح الموجه، لأنه بنى البيت على ذكر كثرة ما استباحه من أعمار أعدائه، ثم تلقاه من آخر البيت بذكر سرور الدنيا ببقائه، واتصال أيامه، وكقوله:
عمر العدو إذا لاقاه في رهج ... أقل من عمر ما يحوي إذا وهبا
مال كأن غراب البين يرقبه ... فكلما قيل هذا مجتد نعبا
وقوله:
تشرق تيجانه بغرته ... إشراق ألفاظه بمعناها
وقوله:
تشرق أعلااضهم وأوجهم ... كأنما في نفوسهم شيم
وقوله:
إلى كم ترد الرسل فيما أتوا له ... كأنهم فيما وهبت ملام
وقوله:
يخيل لي أن البلاد مسامعي ... وأني فيها ما تقول العواذل
وقوله:
كأن ألسنهم في النطق قد جعلت ... على رماحهم في الطعن خرصانا
ومنها
حسن التصرف في مدح سيف الدولة
بجنس السيفية
كقوله:
لقد رفع الله من دولة ... لها منك يا سيفها منصل
وقوله:
لولا سمي سيوفه ومضاؤه ... لما سللن لكن كالأجفان
وقوله:
عزاءك سيف الدولة المقتدى به ... فإنك نصل والشدائد للنصل
وقوله:
يسمى الحسام وليست من مشابهة ... وكيف يشتبه المخدوم والخدم
كل السوف إذا طال الضراب بهايمسها غير سيف الدولة السأم
وقوله:
تهاب سيوف الهند وهي حدائد ... فكيف إذا كانت نزارية عربا
وقوله:
تحير في سيف: ربيعة أصله ... وطاببعه الرحمن، والمجد صاقل
وقوله:
قلد الله دولة سيفها أن ... ت حساماً بالمكرمات محلى
فإذا اهتز للندى كان بحراً ... وإذا اهتز للعدا كان نصلا
وقوله:
وأنت حسام الملك والله ضارب ... وأنت لواء الدين والله عاقد
وقوله:
لقد سل سيف الدولة المجد معلماً ... فلا المجد مخفيه ولا الضرب ثالمه
على عاتق الملك الأغر نجاده ... وفي يد جبار السموات قائمه
وإن الذي سمى علياً لمنصف ... وإن الذي سماه سيفاً لظالمه
وما كل سيف يقطع الهام حده ... وتقطع لزبات الزمان مكارمه
وقوله:
إن الخليفة لم يمسك سيفه ... حتى بلاك فكنت عين الصارم
وإذا تتوج كنت درة تاجه ... وإذا تختم كنت فص الخاتم
وقوله:
من للسيوف بأن تكون سميها ... في أصله وفرنده ووفائه
طبع الحديد فكان من أجناسه ... وعلي المطبوع من آبائه
ومنها
الإبداع في سائر مدائحه
كقوله:
ملك سنان قناته وبنانه ... يتباريان دماً وعرفاً ساكبا
يستصغر الخطر الكبير لوفده ... ويظن دجلة ليس تكفي شاربا
كالبدر من حيث التفت رأيته ... يهدي إلى عينيك نوراً ثاقبا
كالشمس في كبد السماء وضوؤها ... يغشى البلاد مشارقاً ومغاربا
كالبحر يقذف للقريب جواهراً ... جوداً، ويبعث للبعيد سحائبا
وقوله:
ليس التعجب من مواهب ماله ... بل من سلامتها إلى أوقاتها
عجباً له حفظ العنان بأنمل ... ما حفظها الأشياء من عاداتها
لو مر يركض في سطور كتابه ... أحصى بحافر مهره ميماتها
كرم تبين في كلامك ماثلاً ... ويبين عتق الخيل في أصواتها (1/58)
أعيا زوالك عن محل نلته ... لا تخرج الأقمار من هالاتها
فيه مدح، ومثل مضروب، وتشبيه نادر.
ذكر الأنام لنا فكان قصيدة ... أنت البديع الفرد من أبياتها
وهذا البديع الفرد من أبيات هذه القصيدة، وكقوله:
وما زلت حتى قادني الشوق نحوه ... يسايرني في كل ركب له ذكر
واستكبر الأخبار قبل لقائه ... فلما التقينا صغر الخبر الخبر
هذا ضد قولهم " تسمع بالمعيدي خير من أن تراه " :
أزالت بك الأيام عتبي كأنما ... بنوها لها ذنب وأنت لها عذر
وكقوله:
ألا أيها المال الذي قد أباده ... تعز فهذا فعله بالكتائب
لعلك في وقت شغلت فؤاده ... عن الجود أو أكثرت جيش محارب
وقوله:
بعثوا الرعب في قلوب الأعادي ... فكأن القتال قبل التلاقي
وتكاد الظبا لما عودوها ... تنتضي نفسها إلى الأعناق
كل ذمر يزيد في الموت حسناً ... كبدور تمامها في المحاق
كرم خشن الجوانب منهم ... فهو كالماء في الشفار الرقاق
ومعال إذا ادعاها سواهم ... لزمته جناية السراق
وكقوله:
خير أعضائنا الرءوس ولكن ... فضلتها بقصدك الأقدام
وكقوله:
قوم بلوغ الغلام عندهم ... طعن نحور الكماة لا الحلم
كأنما يولد الندى معهم ... لا صغر عاذر ولا هرم
إذا تولوا عداوةً كشفوا ... وإن تولوا صنيعة كتموا
تظن من فقدك اعتدادهم ... بأنهم أنعموا وما علموا
إن برقوا فالحتوف حاضرة ... أو نطقوا فالصواب والحكم
أو شهدوا الحرب لاقحاً أخذوا ... من مهج الدارعين ما احتكموا
أو حلفوا بالغموس واجتهدوا ... فقولهم " خاب سائلي " القسم
أو ركبوا الخيل غير مسرجة ... فإن أفخاذهم لها حزم
تشرق أعراضهم وأوجههم ... كأنها في نفوسهم شيم
أعيذكم من صروف دهركم ... فإنه في الكرام متهم
وكقوله:
الناس ما لم يروك أشباه ... والدهر لفظ وأنت معناه
والجود عين وأنت ناظره ... والبأس اع وأنت يمناه
يا راحلاً كل من يودعه ... مودع دينه ودنياه
إن كان فيما تراه من كرم ... فيك مزيد فزادك الله
وكقوله:
تمشي الكرام على آثار غيرهم ... وأنت تخلق ما تأتي وتبتدع
من كان محل الشمس موضعه ... فليس يرفعه شيء ولا يضع
وكقوله:
فلما رأوه وحده دون جيشه ... دروا أن كل العالمين فضول
وكقوله:
وأوردهم صدر الحصان وسيفه ... فتى بأسه مثل العطاء جزيل
جواد على العلات بالمال كله ... ولكنه بالدارعين بخيل
وكقوله:
أرى كل ذي ملك إليك مصيره ... كأنك بحر والملوك جداول
إذا أمطرت منهم ومنك سحابة ... فوابلهم طل وطلك وابل
وقوله:
ودانت له الدنيا فأصبح جالساً ... وأيامه فيما يريد قيام
وكل أناس يتبعون إمامهم ... وأنت لأهل المكرمات إمام
ورب جواب عن كتاب بعثته ... وعنوانه للناظرين قتام
وكقوله:
هم المحسنون الكر في حومة الوغى ... وأحسن منهم كرهم في المكارم
ولولا احتقار الأسد شبهتها بهم ... ولكنها معدودة في البهايم
وكقوله:
أغر أعداؤه إذا سلموا ... بالهرب استكثروا الذي فعلوا
إنك من معشر إذا وهبوا ... ما دون أعمارهم فقد بخلوا
كتيبة لست ربها نفل ... وبلدة لست حليها عطل
وكقوله:
لو كفر العالمون نعمته ... لما عدت نفسه سجاياها
كالشمس لا تبتغي بما صنعت ... منفعة عندهم ولا جاها (1/59)
وكقوله:
فجاءت بنا إنسان عين زمانه ... وخلت بياضاً خلفها ومآقيا
وهذا أحسن ما يمدح به ملك أسود، ولا نهاية لحسنه، وشرف معناه، وجودة تشبيهه وتمثيله:
ترفع عن عون المكارم فعله ... فما يفعل الفعلات إلا عذاريا
أبا كل طيب، لا أبا المسك وحده ... وكل سحاب لا أخص الغواديا
يدل بمعنى واحد كل فاخر ... وقد جمع الرحمن فيك المعانيا
ألم فيه بقول أبي نواس:
كأنما أنت شيء ... حوى جميع المعاني
ومنها
مخاطبة الممدوح من الملوك
بمثل مخاطبة المحبوب والصديق، مع الإحسان والإبداع وهو مذهب له: تفرد به، واستكثر من سلوكه، اقتداراً منه، وتبحراً في الألفاظ والمعاني، وفعاً لنفسه عن درجة الشعراء، وتدريجاً لها إلى مماثلة الملوك، في مثل قوله لكافور:
وما أنا بالباغي على الحب رشوة ... ضعيف هوىً يبغي عليه ثواب
وما شئت إلا أن أدل عواذلي ... على أن رأيي في هواك صواب
وأعلم قوماً خالفوني فشرقوا ... وغربت، أني قد ظفرت وخابوا
إذا نلت منك الود فالمال هين ... وكل الذي فوق التراب تراب
وقوله له " وقد أهداه مهراً أسوداً " :
فلو لم تكن في مصر ما سرت نحوها ... بقلب المشوق المستهام المتيم
وقوله لابن العميد يودعه:
تفضلت الأيام بالجمع بيننا ... فلما حمدنا لم تدمنا على الحمد
فجد لي بقلب إن رحلت فإنني ... مخلف قلبي عند من فضله عندي
وقوله لعضد الدولة:
أروح وقد ختمت على فؤادي ... بحبك أن يحل به سواكا
فلو أني استطعت حفظت طرفي ... فلم أبصر به حتى أراكا
من قصيدة تشتمل على أبيات من هذا الطراز، سأكتبها في آخر الباب.
وكقوله لسيف الدولة:
ما لي أكتم حباً قد برى جسدي ... وتدعي حب سيف الدولة الأمم؟
إن كان يجمعنا حب لغرته ... فليت أنا بقدر الحب نقتسم
يا أعدل الناس إلا في معاملتي ... فيك الخصام وأنت الخصم والحكم
إذا رأيت نيوب الليث بارزة ... فلا تظنن أن الليث يبتسم
أعيذها نظرات منك صادقة ... أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم
وما انتفاع أخي الدنيا بناظره ... إذا استوت عنده الأنوار والظلم
يا من يعز علينا أن نفارقهم ... واجداننا كل شيء بعدكم عدم
ما كان أخلقنا منكم بتكرمة ... لو أن أمركم من أمرنا أمم
إن كان سركم ما قال حاسدنافما لجرح إذا أرضاكم ألم
وبيننا، لو رعيتم ذاك، معرفة ... إن المعارف في أهل النهى ذمم
كم تطلبون لنا عيباً فيعجزكم ... ويكره الله ما تأتون والكرم
ما أبعد العيب والنقصان من شرفي ... أنا الثريا وذان الشيب والهرم
ليت الغمام الذي عندي صواعقه ... يزيلهن إلى من عنده الديم
أرى النوى تقتضيني كل مرحلة ... لا تستقل بها الوخادة الرسم
لئن تركنا ضميراً عن ميامننا ... ليحدثن لمن ودعتهم ندم
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا ... ألا تفارقهم فالراحلون هم
شر البلاد بلاد لا صديق بها ... وشر ما يكسب الإنسان ما يصم
وشر ما قنصته راحتي قنص ... شهب البزاة سواء فيه والرخم
وهي - على براعتها، واستقلال أكثر أبياتها بأنفسها - تكاد تدخل في باب إساءة الأدب بالأدب، وقد تقدم ذكره.
ومنها
استعمال ألفاظ الغزل والنسيب
في أوصاف الحرب والجد وهو أيضاً مما لم يسبق إليه، وتفرد به، وأظهر فيه الحذق بحسن النقل، وأعرب عن جودة التصرف والتلعب بالكلام، كقوله:
أعلى الممالك ما يبني على الأسل ... والطعن عند محبيهن كالقبل
وقوله، وهو من فرائده:
شجاع كأن الحرب عاشقة له ... إذا زارها فدته بالخيل والرجل (1/60)
وكقوله:
وكم رجال بلا أرض لكثرتهم ... تركت جمعهم أرضاً بلا رجل
وما زال طرفك يجري في دمائهم ... حتى مشى بك مشي الشارب الثمل
وكقوله:
والطعن شزر والأرض واجفة ... كأنما في فؤادها وهل
قد صبغت خدها الدماء كما ... يصبغ خد الخريدة الخجل
والخيل تبكي جلودها عرقاً ... بأدمع ما تسحها مقل
وكقوله:
تعود أن لا تقضم الحب خيله ... إذا الهام لم ترفع جنوب العلائق
ولا ترد الغدران إلا وماؤها ... من الدم كالريحان تحت الشقائق
وكقوله:
فأتتك دامية الأظل كأنما ... حذيت قوائمها العقيق الأحمرا
وإذا الحمائل ما يخدن بنفنف ... إلا شققن عليه برداً أخضرا
وكقوله:
قد سودت شجر الجبال شعورهم ... فكأن فيه مسفة الغربان
وجرى على الورق النجيع القاني ... فكأنه النارنج في الأغصان
وكقوله:
حمى أطراف فارس شمري ... يحض على التباقي في التفاني
بضرب هاج أطراب المنايا ... سوى ضرب المثالث والمثاني
كأن دم الجماجم في العناصي ... كسا البلدان ريش الحيقطان
فلو طرحت قلوب العشق فيها ... لما خافت من الحدق الحسان
وكقوله:
كرعن بسبت في إناء من الورد
ومنها
حسن التقسيم
حكى أبو القاسم الآمدي في كتاب الموازنة بين شعري الطائيين، قال: سمع بعض الشيوخ من نقدة الشعر قول العباس بن الأحنف:
وصالكم هجر، وحبكم قلى ... وعطفكم صد، وسلمكم حرب
وأنتم بحمد الله فيكم فظاظة ... وكل ذلول من مراكبكم صعب
فقال: والله هذا أحسن من تقسيمات إقليدس، وقول أبي الطيب المتنبي في هذا الفن أولى بهذا الوصف:
ضاق الزمان ووجه الأرض عن ملك ... ملء الزمان وملء السهل والجبل
فنحن في جذل، والروم في وجل ... والبر في شغل، والبحر في خجل
وكقوله:
الدهر معتذر، والسيف منتظر ... وأرضهم لك مصطاف ومرتبع
للسبي ما نكحوا، والقتل ما ولدوا ... والنهب ما جمعوا، والنار ما زرعوا
وقوله:
فلم يخل من نصر له من له يد ... ولم يخل من شكر له من له فم
ولم يخل من أسمائه عود منبر ... ولم يخل دينار ولم يخل درهم
وقوله:
قليل عائدي، سقم فؤادي ... كثير حاسدي، صعب مرامي
عليل الجسم ممتنع القيام ... شديد السكر من غير المدام
وقوله:
بمصر ملوك لهم ما له ... ولكنهم ما لهم همه
فأجود من جودهم بخله ... وأحمد من حمدهم ذمه
وأشرف من عيشهم موته ... وأنفع من وجدهم عدمه
وقوله:
لم نفتقد بك من مزن سوى لثق ... ولا من البحر غير الريح والسفن
ولا من الليث إلا قبح منظره ... ومن سواه سوى ما ليس بالحسن
وقوله:
يجل عن التشبيه: لا الكف لجة ... ولا هو ضرغام، ولا الرأي مخذم
ولا جرحه يؤسى، ولا غوره يرى ... ولا حده ينبو ولا يتثلم
محلك مقصود، وشانيك مفحم ... ومثلك مفقود، ونيلك خضرم
وقوله:
أذم إلى هذا الزمان أهيله ... فأعلمهم فدم، وأحزمهم وغد
وأكرمهم كلب، وأبصرهم عم، ... وأسهدهم فهد، وأشجعهم قرد
وقوله:
وغناك مسألة، وطيشك نفحة ... ورضاك فيشلة، وربك درهم
وقوله:
عربي لسانه، فلسفي ... رأيه، فارسية أعياده
وقوله:
سقتني بها القطربلي مليحة ... على كاذب من وعدها ضوء صادق
سهاد لأجفان، وشمس لناظر، ... وسقم لأبدان، ومسك لناشق
وأغيد يهوى نفسه كل عاقل ... عفيف، ويهوى جسمه كل فاسق
ومنها
حسن سياقة الأعداد
كقوله:
على ذا مضى الناس: اجتماع وفرقة ... وميت ومولود، وقال ووامق (1/61)
وقوله:
ألا أيها السيف الذي ليس مغمداً ... ولا فيه مرتاب، ولا منه عاصم
هنيئاً لضرب الهام والمجد والعلا ... وراجيك والإسلام أنك سالم
وقوله:
لا يستحي أحد يقال له ... فضولك آل بويه أو فضلوا
قدروا عفوا، وعدوا وفوا، سئلوا ... أغنوا، علوا أعلوا، ولوا عدلوا
وقوله من قصيدة يمدح بها سيف الدولة:
ورب جواب عن كتاب بعثته ... وعنوانه للناظرين قتام
حروف هجاء الناس فيه ثلاثة: ... جواد، ورمح ذابل، وحسام
لما سمى الجيش جواباً جعل حروفه جواداً ورمحاً وحساماً، اقتداراً واتساعاً في الصنعة، وقوله:
ومرهف سرت بين الجحفلين به ... حتى ضربت وموج الموت يلتطم
فالخيل والليل والبيداء تعرفني ... والسيف والرمح والقرطاس والقلم
قال ابن جني: قد سبق الناس إلى ما ذكر ما جمعه في هذا البيت، ولكن لم يجتمع مثله في بيت ما علمت، وقد قال البحتري:
اطلبا ثالثاً سواي فإني ... رابع العيس والدجى والبيد
وهذا اللفظ عذب، ولكن ليس فيه جميع ما في بيت المتنبي، وقوله:
أنت الجواد بلا من ولا كدر ... ولا مطال ولا وعد ولا مذل
وقوله:
بي حر شوق إلى ترشفها ... ينفصل الصبر حين يتصل
فالثغر والفجر والمخلخل وال ... معصم دائي، والفاحم الرجل
وقوله:
ولكن بالفسطاط بحراً أزرته ... حياتي ونصحي والهوى والقوافيا
وقوله:
أميناً وإخلاقاً وغدراً وخسة ... وجبناً، أشخصاً لحت لي أم مخازيا؟
ومنها
إرسال المثل في أنصاف الأبيات
كقوله:
مصائب قوم عند قوم فوائد
وقوله:
ومن قصد البحر استقل السواقيا
وقوله:
وخير جليس في الزمان كتاب
وقوله:
إن المعارف في أهل النهى ذمم
وقوله:
وربما صحت الأجسام بالعلل
وقوله:
وفي الماضي لمن بقي اعتبار
وقوله:
وتأبى الطباع على الناقل
وقوله:
ومنفعة الغوث قبل العطب
وقوله:
هيهات تكتم في الظلام مشاعل
وقوله:
ومخطئ من رميه القمر
وقوله:
وما خير الحياة بلا سرور
وقوله:
بجبهة العير يفدى حافر الفرس
وقوله:
ولا رأي في الحب للعاقل
وقوله:
ولكن طبع النفس للنفس قائد
وقوله:
وليس يأكل إلا الميت الضبع
وقوله:
كل ما يمنح الشريف الشريف
وقوله:
والجوع يرضي الأسود بالجيف
وقوله:
ومن فرح النفس ما يقتل
وقوله:
ويستصحب الإنسان من لا يلائمه
وقوله:
إن النفيس غريب حيثما كانا
وقوله:
فمن الرديف وقد ركبت غضنفراً
وقوله:
إذا عظم المطلوب قل المساعد
وقوله:
ومن يسد طريق العارض الهطل
وقوله:
وأدنى الشرك في نسب جوار
وقوله:
وفي عنق الحسناء يستحسن العقد
وقوله:
لا تخرج الأقمار من هالاتها
وقوله:
إن النفوس عدد الآجال
وقوله:
ولكن صدم الشر بالشر أحزم
وقوله:
أنا الغريق فما خوفي من البلل
وقوله:
أشد من السقم الذي أذهب السقما
وقوله:
فإن الرفق بالجاني عتاب
وقوله:
إن القليل من الحبيب كثير
وقوله:
بغيض إلي الجاهل المتعاقل
وقوله:
وليس كل ذوات المخلب السبع
وقوله:
وللسيوف كما للناس آجال
وقوله:
في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل
وقوله:
فأول قرح الخيل المهار
وقوله:
والبر أوسع والدنيا لمن غلبا
وقوله:
ليس التكحل في العينين كالكحل
وقوله:
ويبين عتق الخيل في أصواتها
ومنها
استرسال المثالين
في مصراعي البيت الواحد
كقوله:
وكل امرئ يولي الجميل محبب ... وكل مكان ينبت العز طيب
وقوله:
في سعة الخافقين مضطرب ... وفي بلاد من أختها بدل
وقوله:
الحب ما منع الكلام الألسنا ... وألذ شكوى عاشق ما أعلنا (1/62)
وقوله:
ذل من يغبط الذليل بعيش ... رب عيش أخف منه الحمام
من يهن يسهل الهوان عليه ... ما لجرح بميت إيلام
وقوله:
كفى بك داءً أن ترى الموت شافياً ... وحسب المنايا أن يكن أمانيا
وقوله:
أفاضل الناس أغراض لذا الزمن ... يخلو من الهم أخلاهم من الفطن
وقوله:
وأتعب من ناداك من لا تجيبه ... وأغيظ من عاداك من لا تشاكل
وقوله:
لا تشتر العبد إلا والعصا معه ... إن العبيد لأنجاس مناكيد
وقوله:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ... وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا ... مضر كوضع السيف في موضع الندى
وما قتل الأحرار كالعفو عنهم ... ومن لك بالحر الذي يحفظ اليدا
وقيدت نفسي في ذراك محبة ... ومن وجد الإحسان قيداً تقيدا
ومنها
إرسال المثل والاستملاء والموعظة
وشكوى الدهر والدنيا والناس وما يجري مجراها
كقوله:
وما الجمع بين الماء والنار في يدي ... بأصعب من أن أجمع الجد والفهما
وقوله:
يخفي العداوة وهي غير خفية ... نظر العدو بما أسر يبوح
وقوله:
والأمر لله، رب مجتهد ... ما خاب إلا لأنه جاهد
وقوله:
إليك فإني لست ممن إذا اتقى ... عضاض الأفاعي نام فوق العقارب
وقوله:
خير الطيور على القصور، وشرها ... يأوي الخراب ويسكن الناووسا
وقوله:
ليس الجمال لوجه صح مارنه ... أنف العزيز بقطع العز يجتدع
وقوله:
وليس يصح في الأفهام شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل
قال ابن جني: هذا كما يقول أهل الجدل " من شك في المشاهدات فليس بكامل العقل " .
وقوله:
وقد يتزيا بالهوى غير أهله ... ويستصحب الإنسان من لا يلائمه
وقوله:
وما تنفع الخيل الكرام ولا القنا ... إذا لم يكن فوق الكرام كرام
وقوله:
ما كل ما يتمنى المرء يدركه ... تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
وقوله:
وأحب أني لو هويت فراقكم ... فارقته والدهر أخبث صاحب
وقوله:
من خص بالذم الفراق فإنني ... من لا يرى في الدهر شيئاً يحمد
وقوله:
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى ... عدواً له ما من صداقته بد
وقوله:
وإذا كانت النفوس كباراً ... تعبت في مرادها الأجسام
وقوله:
تلف الذي اتخذ الشجاعة جنة ... وعظ الذي اتخذ الفرار خليلا
وقوله:
فإن يكن الفعل الذي ساء واحداً ... فأفعاله اللاتي سررن ألوف
وقوله:
وإذا خفيت على الغبي فعاذر ... أن لا تراني مقلة عمياء
وقوله:
إن كنت ترضى بأن يعطوا الجزي بذلوا ... منها رضاك ومن للعور بالحول؟!
وقوله:
فآجرك الإله على مريض ... بعثت به إلى عيسى طبيبا
وقوله:
إذا أتت الإساءة من لئيم ... ولم ألم المسيء فمن ألوم
وقوله:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني فاضل
وقوله:
إذا ما قدرت على نطقة ... فإني على تركها أقدر
وقوله:
واحتمال الأذى ورؤية جاني ... ه غذاء تضوي به الأجسام
وقوله:
وتوهموا اللعب الوغى والطعن في ال ... هيجاء غير الطعن في الميدان
وقوله:
وإذا ما خلا الجبان بأرض ... طلب الطعن وحده والنزالا
وقوله:
ومن الخير بطء سيبك عني ... أسرع السحب في المسير الجهام
وقوله:
وليس الذي يتبع الوبل رائداً ... كمن جاءه في داره رائد الوبل
وقوله:
أبلغ ما يطلب النجاح به ال ... طبع، وعند التعمق الزلل
وقوله:
كم من مخلص وعلاً في خوض مهلكة ... وقتلة قرنت بالذم في الجبن
وقوله:
وما قلت للبدر أنت اللجين ... ولا قلت للشمس أنت الذهب (1/63)
ومن ركب الثور بعد الجوا ... د أنكر أظلافه والغبب
وقوله:
فقر الجهول بلا قلب إلى أدب ... فقر الحمار بلا رأس إلى رسن
لا يعجبن مضيماً حسن بزته ... وهل يروق دفيناً جودة الكفن
وقوله:
إذا ما الناس جربهم لبيب ... فإني قد أكلتهم وذاقا
فلم أر ودهم إلا خداعاً ... ولم أر دينهم إلا نفاقا
وقوله:
ذريني أنل من لا ينال من العلا ... فصعب العلا في الصعب والسهل في السهل
تريدين لقيان المعالي رخيصة ... ولا بد دون الشهد من إبر النحل
وقوله:
تمن يلذ المستهام بمثله ... وإن كان لا يغني فتيلاً ولا يجدي
وغيظ على الأيام كالنار في الحشا ... ولكنه غيظ الأسير على القد
وقوله:
ومكائد السفهاء واقعة بهم ... وعداوة الشعراء بئس المقتني
لعنت مقاربة اللئيم فإنها ... ضيف يجر من الندامة ضيفنا
وقوله:
وما الخيل إلا كالصديق قليلة ... وإن كثرت في عين من لا يجرب
إذا لم تشاهد غير حسن شياتها ... وأعضائها فالحسن عنك مغيب
وقوله:
تصفو الحياة لجاهل أو غافل ... عما مضى منها وما يتوقع
ولمن يغالط في الحقائق نفسه ... ويسومها طلب المحال فتطمع
كأنه مأخوذ من قول لبيد:
أكذب النفس إذا حدثتها ... إن صدق النفس يزري بالأمل
وكقوله:
وأتعب خلق الله من زاد همه ... وقصر عما تشتهي النفس وجده
فلا ينحلل في المجد مالك كله ... فينحل مجد كان في بالمال عقده
ودبره تدبير الذي المجد كفه ... إذا حارب الأعداء والمال زنده
فلا مجد في الدنيا لمن قل ماله ... ولا مال في الدنيا لمن قل مجده
إذا كنت في شك من السيف فابله ... فإما تنفيه وإما تعده
وما الصارم الهندي إلا كغيره ... إذا لم يفارقه النجاد وغمده
وقوله:
إنما تنجح المقالة في المر ... ء إذا وافقت هوىً في الفؤاد
وإذا الحلم لم يكن في طباع ... لم يحلم تقادم الميلاد
إنما أنت والد، والأب القا ... طع أحنى من واصل الأولاد
وقوله:
وما الحسن في وجه الفتى شرفاً له ... إذا لم يكن في فعله والخلائق
وما بلد الإنسان غير الموافق ... ولا أهله الأدنون غير الأصادق
وجائزة دعوى المحبة والهوى ... وإن كان لا يخفى كلام المنافق
وما يوجع الحرمان من كف حارم ... كما يوجع الحرمان من كف رازق
وقوله:
إنما أنفس الأنيس سباع ... يتفارسن جهرة واغتيالا
من أطاق التماس شيء غلاباً ... واقتسار لم يلتمسه سؤالا
كل غاد لحاجة يتمنى ... أن يكون الغضنفر الرئبالا
وقوله:
لولا المشقة ساد الناس كلهم ... الجود يفقر والإقدام قتال
وقلما يبلغ الإنسان غايته ... من كل ماشية بالرجل شملال
إنا لفي زمن ترك القبيح به ... من أكثر الناس إحسان وإجمال
ذكر الفتى عمره الثاني، وحاجته ... ما قاته، وفضول العيش أشغال
وقوله:
يرى الجبناء أن العجز حزم ... وتلكخديعة الطبع اللئيم
وكل شجاعة في المرء تغني ... ولا مثل الشجاعة في الحكيم
قيل له: أنى يكون الشجاع حكيماً؟ فقال: هذا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه!.
وكم من عائب قولاً صحيحاً ... وآفته من الفهم السقيم
ولكن تأخذ الأذهان منه ... على قدر القرائح والعلوم
وقوله:
ولقد رأيت الحادثات فلا أرى ... يققاً يميت ولا سواداً يعصم
والهم يخترم الجسيم نحافة ... ويشيب ناصية الصبي ويهرم
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله ... وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم (1/64)
لا يخدعنك من عدو دمعه ... وارحم شبابك من عدو يرحم
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدم
قال ابن جني: أشهد بالله لو لم يقل غير هذا البيت لتقدم به أكثر المحدثين.
وهذه الأبيات كلها غرر وفرائد، لا يصدر مثلها إلا عن فضل باهر، وقدرة على الإبداع ظاهرة.
والظلم من شيم النفوس، فإن تجد ... ذا عفة فلعلة لا يظلم
ومن البلية عذل من لا يرعوي ... عن جهله، وخطاب من لا يفهم
ومن العداوة ما ينالك نفعه ... ومن الصداقة ما يضر ويؤلم
وقوله:
أرى كلنا يبغي الحياة لنفسه ... حريصاً عليها مستهاماً بها صباً
فحب الجبان النفس أورده التقى ... وحب الشجاع النفس أورده الحربا
ويختلف الرزقان والفعل واحد ... إلى أن ترى إحسان هذا لذا ذنبا
وقوله:
وفيك إذا جنى الجاني أناة ... تظن كرامة وهي احتقار
بنو كعب وما أثرت فيهم ... يد لم يدمها إلا السوار
بها من قطعه ألم ونقص ... وفيها من جلالته افتخار
لهم حق بشركك في نزار ... وأدنى الشرك في نسب جوار
لعل بنيهم لبنيك جند ... فأول قرح الخيل المهار
وما في سطوة الأرباب عيب ... ولا في ذلة العبدان عار
وقوله:
من اقتضى بسوي الهندي حاجته ... أجاب كل سؤال عن هل بلم
ولم تزل قلة الإنصاف قاطعة ... بين الرجال وإن كانوا ذوي رحم
هون على بصر ما شق منظره ... فإنما يقظات العين كالحلم
لا تشكون إلى خلق فتشمته ... شكوى الجريح إلى الغربان والرخم
وكن على حذر للناس تستره ... ولا يغرنك منهم ثغر مبتسم
وقت يضيع وعمر أنت مدته ... في غير أمته من سائر الأمم
أتى الزمان بنوه في شبيبته ... فسرهم وأتيناه على الهرم
وقوله:
الرأي قبل شجاعة الشجعان ... هو أول، وهي المحل الثاني
فإذا هما اجتمعا لنفس مرة ... بلغت من العلياء كل مكان
ولربما طعن الفتى أقرانه ... بالرأي قبل تطاعن الأقران
لولا العقول لكان أدنى ضيغم ... أدنى إلى شرف من الإنسان
وقوله " يمدح كافوراً:
لحا الله ذي الدنيا مناخاً لراكب ... فكل بعيد الهم فيها معذب!
ألا ليت شعري هل أقول قصيدة ... ولا أشتكي فيها ولا أتعتب!؟
وبي ما يذود الشعر عني أقله ... ولكن قلبي، يا ابنة القوم، قلب
أما تغلط الأيام في بأن أرى ... بغيضاً تنائي أو حبيباً تقرب؟
وقوله يمدحه أيضاً:
أبي خلق الدنيا حبيباً تديمه ... فلما طلبي منها حبيباً ترده؟
وأسرع مفعول فعلت تغيراً ... تكلف شيء في طباعك ضده
وقوله يمدحه أيضاً:
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه ... وصدق ما يعتاده من توهم
وعادي محبيه يقول عداته ... وأصبح في ليل من الشك مظلم
ومنها:
وما كل هاو للجميل بفاعل ... ولا كل فعال له بمتمم
ومنها:
فأحسن وجه في الورى وجه محسن ... وأيمن كف فيهم كف منعم
وأشرفهم من كان أشرف همه ... وأكثر إقداماً على كل معظم
لمن تطلب الدنيا إذا لم ترد بها ... سرور محب أو مساءة مجرم؟
وقوله يمدح المغيث بن علي العجلي:
فؤاد ما تسليه المدام ... وعمر مثل ما يهب اللئام
ودهر ناسه ناس صغار ... وإن كانت لهم جثث ضخام
وما أنا منهم بالعيش فيهم ... ولكن معدن الذهب الرغام
وشبه الشيء منجذب إليه ... وأشبهنا بدنيانا الطغام
ولو لم يعل إلا ذو محل ... تعالى الجيش وانحط القتام (1/65)
ولو حيز الحفاظ بغير عقل ... تجنب عنق صيقله الحسام
وقوله:
أبداً تسترد ما تهب الدن ... يا فيا ليت جودها كان بخلا
فكفت كون فرحة تورث الغ ... م وخل يغادر الوجد خلا
وهي معشوقة على الغدر لا تح ... فظ عهداً ولا تتمم وصلا
كل دمع يسيل منها عليها ... وبفك اليدين عنها تخلى
أي: كل من أبكته الدنيا فإنما يبكي لفوت شيء منها، ولا يخليها الإنسان إلا قسراً بفك يديه.
وفي هذه القصيدة:
شيم الغانيات فيها فلا أد ... ري لذا أنث اسمها الناس أم لا؟
ولذيذ الحياة أنفس في النف ... س وأشهى من أن يمل وأحلى
وإذا الشيخ قال أف فما م ... ل حياة وإنما الضعف ملا
آلة العيش صحة وشباب ... فإذا وليا عن المرء ولى
ومنها
افتضاضه أبكار المعاني
في المراثي والتعازي
كقوله:
سالم أهل الوداد بعهدهم ... يسلم للحزن لا لتخليد
أي: إذا مات الصديق يسلم صديقه للحزن لا للخلود، لأن كلا ميت.
فما ترجى الخلود من زمن ... أحمد حاليه غير محمود
أي: أحمد حاليك أن تبقى مع صديقك، وهو مع ذلك غير محمود لتعجيل الحزن وانتظار الأجل.
وقوله:
المجد أخسر والمكارم صفقة ... من أن يعيش بها الكريم الأروع
والناس أنزل في زمانك منزلاً ... من أن تعايشهم وقدرك أرفع
قبحاً لوجهك يا زمان؛ فإنه ... وجه له من كل قبح برقع
أيموت مثل أبي شجاع فاتك ... ويعيش حاسده الخصي الأوكع؟
وقوله:
عدمته وكأني سرت أطلبه ... فما تزيدني الدنيا على العدم
من لا يشابهه الأحياء في شيم ... أمسى يشابهه الأموات في الرمم
أحسن والله أبدع ما شاء!.
وقوله:
وقد فارق الناس الأحبة قبلنا ... وأعيا دواء الموت كل طبيب
سبقنا إلى الدنيا، فلو عاش أهلها ... منعنا بها من جيئة وذهوب
تملكها الآتي تملك سالب ... وفارقها الماضي فراق سليب
هذا كقول بعضهم في الموعظة: " وإن ما في أيديكم أسلاب الهالكين، ويستخلفها الباقون كما تركها الماضون " .
علينا لك الإسعاد إن كان نافعاً ... بشق قلوب لا بشق جيوب
فرب كئيب ليس تندى جفونه ... ورب كثير الدمع غير كئيب
وللواجد المكروب من زفراته ... سكون عزاء أو سكون لغوب
وقوله:
ما كنت أحسب قبل دفنك في الثرى ... أن الكواكب في التراب تغور
ما كنت آمل قبل نعشك أن أرى ... رضوى على أيدي الرجال تسير
خرجوا به، ولكل باك خلفه ... صعقات موسى يوم دك الطور
حتى أتوا جدثاً كأن ضريحه ... في كل قلب موحد محفور
كفل الثناء له برد حياته ... لما انطوى فكأنه منشور
وقوله في تعزية سيف الدولة عن أخته:
ولعمري لقد شغلت المنايا ... بالأعادي فكيف يطلبن شغلا
وكم انتشت بالسوف من الده ... ر أسيراً وبالنوال مقلا
خطبة للحمام ليس لها رد ... وإن كانت المسماة ثكلا
وإذا لم تجد من الناس كفواً ... ذات خدر أرادت الموت بعلا
هذا أحسن ما قيل في مرثية حرم الملوك.
وقوله في مرثية طفل لسيف الدولة وتعزيته عنه:
فإن تك في قبر فإنك في الحشا ... وإن تك طفلاً فالأسى ليس بالطفل
ومثلك لا يبكي على قدر سنه ... ولكن على قدر المخيلة والفضل
عزاءك سيف الدولة المقتدى به ... فإنك نصل، والشدائد للنصل
ولم أر أعصى فيك للحزن عبرة ... وأثبت عقلاً، والقلوب بلا عقل
تخون المنايا عهده في سليله ... وتنصره بين الفوارس والرجل (1/66)
ويبقى على مر الحوادث صبره ... ويبدو كما يبدو الفرند على الصقل
وما الموت إلا سارق رق شخصه ... يصول بلا كف ويسعى بلا رجل
يرد أبو الشبل الخميس عن ابنه ... ويسلمه عند الولادة للنمل
إذا ما تأملت الزمان وصرفه ... تيقنت أن الموت ضرب من القتل
وما الدهر أهل أن يؤمل عنده ... حياة وأن يشتاق فيه إلى النسل
وقوله:
نحن بنو الدنيا فما بالنا ... نعاف ما لا بد من شربه
تبخل أيدينا بأرواحنا ... على زمان هن من كسبه
فهذه الأرواح من جوه ... وهذه الأجسام من تربه
لو فكر العاشق في منتهى ... حسن الذي يسبيه لم يسبه
لم ير قرن الشمس في شرقه ... فشكت الأنفس في غربه
يموت راعي الضأن في جهله ... موتة جالينوس في طبه
وربما زاد على عمره ... وازداد في الأمن على سربه
وغاية المفرط في سلمه ... كغاية المفرط في حربه؟
فلا قضى حاجته طالب ... فؤاده يخفق من رعبه!
ومنها
الإيجاع في الهجاء
كقوله:
إن أوحشتك المعالي ... فإنها دار غربه
أو آنستك المخازي ... فإنها لك نسبة
وقوله:
إني نزلت بكذابين ضيفهم ... عن القرى وعن الترحال محدود
جود الرجال من الأيدي، وجودهم ... من اللسان، فلا كانوا ولا الجود!
ما يقبض الموت نفساً من نفوسهم ... إلا وفي يده من نتنها عود
يعني العود الذي يتناوله المعالج للشيء القذر ليكون واسطة بينه وبين يده.
وقوله:
العبد ليس لحر صالح بأخ ... لو أنه في ثياب الحر مولود
لا تشتر العبد إلا والعصا معه ... إن العبيد لأنجاس مناكيد
من علم الأسود المخصي مكرمة ... أقومه البيض أم آباؤه الصيد؟
أم أذنه في يد النخاس دامية ... أم قدره وهو بالفلسين مردود؟
وذاك أن الفحول البيض عاجزة ... عن الجميل فكيف الخصية السود
كأنه من قول أبي علي البصير:
عجز الراكب البصير، وأولى ... منه بالعجز راجل مكفوف
وقوله:
فلا ترج الخير عند امرئ ... مرت يد النخاس في رأسه
وقوله:
أخذت بمدحه فرأيت لهواً ... مقالي للأحيمق يا حكيم
ولما أن هجوت رأيت عياً ... مقالي لابن آوى يا حليم
فهل من غادر في ذا وهذا ... فمدفوع إلى السقم السقيم
وقوله:
لقد كنت أحسب قبل الخصي ... بأن الرءوس مقر النهى
فلما نظرت إلى عقله ... رأيت النهى كلها في الخصى
وقوله يهجو إسحاق بن إبراهيم بن كيغلغ:
يمشي بأربعة على أعقابه ... تحت العلوج ومن وراء يلجم
وجفونه ما تستقر كأنها ... مطروفة أو فت فيها حصرم
وتراك أصغر ما تراه ناطقاً ... ويكون أكذب ما يكون ويقسم
وإذا أشار مكلماً فكأنه ... قرد يقهقه أو عجوز تلطم
يقلي مفارقة الأكف قذاله ... حتى يكاد على يد يتعمم
ومنها
إبراز المعاني اللطيفة
في معارض الألفاظ الرشيقة الشريفة والرمز بالطرف والملح
كقوله في الجمع بين مدح سيف الدولة وقد فارقه، وبين مدح كافور وقد قصده في بيت واحد:
فراق ومن فارقت غير مذمم ... وأم ومن يممت حير ميمم
ثم قال معرضاً بسيف الدولة:
وما منزل اللذات عندي بمنزل ... إذا لم أبجل عنده وأكرم
رحلت فكم باك بأجفان شادن ... علي، وكم باك بأجفان ضيغم
المصراع الثاني تصديق لقوله:
ليحدثن لمن ودعتهم ندم
وما ربة القرط المليح مكانه ... بأجزع من رب الحسام المصمم
فلو كان ما بي من حبيب مقنع ... عذرت، ولكن من حبيب معمم (1/67)
وهذا أيضاً مما نبهت عليه من إجرائه الممدوح من الملوك مجرى المحبوب في كثير من شعره:
رمى واتقى رمي، ومن دون ما اتقى ... هوى كاسر كفي وقوسي وأسهمي
وكقوله في مدح كافور والتعريض بالقدح في سيف الدولة:
قالوا: هجرت إليه الغيث؟ قلت ل ... هم إلى غيوث يديه والشآبيب
إلى الذي تهب الدولات راحته ... ولا يمن على آثار موهوب
ولا يروع بمغرور به أحداً ... ولا يفزع موفوراً بمنكوب
يا أيها الملك الغاني بتسمية ... في الشرق والغرب عن نعت وتلقيب
يعني أنا مستغن بشهرته عن لقب كلقب سيف الدولة.
أنت الحبيب ولكني أعوذ به ... من أن أكون محباً غير محبوب
وهذا أيضاً من ذاك.
وقوله من قصيدة لسيف الدولة بعد ما فارق حضرته باستزادة يومه وشكر أمسه، وهو من فرائده:
وإن فارقتني أمطاره ... فأكثر غدرانها ما نضب
وإني لأتبع تذكاره ... صلاة الإله وسقي السحب
ومنها التعريض بكافور:
ومن ركب الثور بعد الجوا ... د أنكر أظلافه والغبب
وقوله في هز كافور والتعريض باستزادته:
أبا المسك هل في الكأس فضل أناله ... فإني أغني منذ حين وتشرب
يقول: مديحي إياك كما يطرب الغناء الشارب، فقد حان أن تسقيني من فضل كأسك.
وهبت على مقدار كفي زماننا ... ونفسي على مقدار كفيك تطلب
وقوله أيضاً في التعريض بالاستزادة:
أرى لي بقربي منك عيناً قريرة ... وإن كان قرباً بالبعاد يشاب
وهل نافعي أن ترفع الحجب بيننا ... ودون الذي أملت منك حجاب؟
أقل سلامي حب ما خف عنكم ... وأسكت كيما لا يكون جواب
وفي النفس حاجات وفيك فطانة ... سكوتي بيان عندها وخطاب
وكقوله في وصف الفرس:
ويوم كليل العاشقين كمنته ... أراقب فيه الشمس أيان تغرب
وعيني إلى أذني أغر كأنه ... من الليل باق بين عينيه كوكب
أي: كأنه قطعة من الليل، وكأن الغرة في وجهه كوكب، وعينه إلى أذنه لأنه كامن لا يرى شيئاً، فهو ينظر إلى أذني فرسه، فإن رآه قد توجس بهما تأهب في أمر وأخذ لنفسه، وذلك أن أذن الفرس تقوم مقام عينيه، وتقول العرب: أذن الوحشي أصدق من عينيه.
له فضلة عن جسمه في إهابه ... تجيء على صدر رحيب وتذهب
شققت به الظلماء أدنى عنانه ... فيطغى، وأرخيه مراراً فيلعب
أي: إذا جذبت عنانه طغى برأسه لطماحه وعزة نفسه، وإذا أرخيت عنانه لعب برأسه.
وأصرع أي الوحش قفيته به ... وأنزل عنه مثله حين أركب
وكقوله في التوديع:
وإني عنك بعد غد لغاد ... وقلبي في فنائك غير غاد
محبك حيث ما اتجهت ركابي ... وضيفك حيث كنت من البلاد
وكقوله:
سر حيث شئت يحله النوار ... وأراد فيك مرادك المقدار
وإذا ارتحلت فشيعتك سلامة ... حيث اتجهت وديمة مدرار
وأراك دهرك ما تحاول في العدا ... حتى كأن صروفه أنصار
أنت الذي بجح الزمان بذكره ... وتزينت بحديثه الأسمار
وكقوله في اللطف بالصديق والعنف بالعدو:
إني لأجبن عن فراق أحبتي ... وتحس نفسي بالحمام فأشجع
ويزيدني غضب العداة جراءةً ... ويلم بي عتب الصديق فأجزع
وكقوله في حسن الكناية:
تشتكي ما اشتكيت من ألم الشو ... ق إلينا، والشوق حيث النحول
وإنما كنى عن تكذيبها ولم يصرح به: أي أنا أشتكي الشوق ونحولي يدل على ذلك، وهي غير ناحلة فليست مشتاقة.
وكقوله:
أبيض ما في تاجه ميمونه ... عفيف ما في ثوبه مأمونه
أي: عفيف الفرج، فكنى به.
وكقوله في حسن الحشو:
صلى عليك الله غير مودع ... وسقى ثرى أبويك صوب غمام
" غير مودع " حشو، ولكنه حسن.
وكقوله:
ويحتقر الدنيا احتقار مجرب ... يرى كل ما فيها، وحاشاك، فانيا (1/68)
سبحان الله! ما أحسن الحشو بقوله " وحاشاك " ! وكقوله:
إذا خلت الأرض منك حمص، لا خل ... ت أبداً فلا سقاها من الوسمي باكره
وكقوله في العيادة:
لا نعذل المرض الذي بك، شائق ... أنت الرجال، وشائق علاتها
ومنازل الحمى الجسوم، فقل لنا: ... ما عذرها في تركها خيراتها؟
أي: لا عذر للحمى في تركها جسمك، إذ هو أفضل الجسوم.
وكقوله:
قصدت من شرقها ومغربها ... حتى اشتكتك البلاد والسبل
لم تبق إلا قليل عافية ... قد وفدت تجتديكما العلل
وقوله:
تجشمك الزمان هوىً ووداً ... وقد يؤذي من المقت الحبيب
وكيف تعلل الدنيا بشيء ... وأنت لعلة الدنيا طبيب؟
وكيف تنوبك الشوى بداء ... وأنت المستجار لما ينوب؟
وكقوله في التهنئة وهي تهنئة سيف الدولة:
المجد عوفي إذ عوفيت والكرم ... وزال عنك إلى أعدائك الألم
وما أخصك في برء بتهنئة ... إذا سلمت فكل الناس قد سلموا
وكقوله:
إنما التهنئات للأكفاء ... ولمن يدني من البعداء
وأنا لا يهنئ عضو ... بالمسرات سائر الأعضاء
وكقوله:
الصوم والفطر والأعياد والعصر ... منيرة بك، حتى الشمس والقمر
ما الدهر عندك إلا روضة أنف ... يا من شمائله في دهره زهر
ما ينتهي لك في أيامه كرم ... فلا انتهى لك في أعوامه عمر
فإن حظك من تكرارها شرف ... وحظ غيرك منها النوم والسهر
وكقوله:
تغير حللي والليالي بحالها ... وشبت وما شاب الزمان الغرانق
وكقوله:
تسود الشمس منا بيض أوجهنا ... ولا تسود بيض العذر واللمم
وكان حالهما في الحكم واحدة ... لو احتكمنا من الدنيا إلى حكم
وقوله:
مشب الذي يبكي الشباب مشيبه ... فكيف توقيه وبانيه هادمه
وما خضب الناس البياض لأنه ... قبيح، ولكن أحسن الشعر فاحمه
ومنها
حسن المقطع
كقوله:
قد شرف الله أرضاً أنت ساكنها ... وشرف الناس إذ سواك إنسانا
قال ابن جني: لا يعجبني قوله " سواك إنسانا " لأنه لا يليق بشرف ألفاظه، ولو قال " أنشاك " أو نحو ذلك لكان أليق بالحال.
قلت أنا: ولو قال غير ما قاله لم يكن فصيحاً شريفاً. لأن في القرآن " ثم سواك رجلاً " ولا أفصح ولا أشرف مما ينطق به كتاب الله عز ذكره وكقوله:
سما بك همي فوق الهموم ... فلست أعد يساراً يسارا
ومن كنت بحراً له يا عل ... ي لم يقبل الدر إلا كبارا
وكقوله يمدح سيف الدولة:
أنلت عبادك ما أملوا ... أنالك ربك ما تأمل
وكقوله في المغيث بن علي العجلي:
وأعطيت الذي لم يعط خلق ... عليك صلاة ربك والسلام
ذكر آخر شعره وأمره
لما أنجحت سفرته، وربحت تجارته بحضرة عضد الدولة. ووصل إليه من صلاته أكثر من مائتي درهم - استأذنه في المسير عنها ليقضي حوائج في نفسه، ثم يعود إليها، فأذن له، وأمر بأن تخلع عليه الخلع الخاصة، ويقاد إليه الحملان الخاص، وتعاد صلته بالمال الكثير، فامتثل ذلك، وأنشده أبو الطيب الكافية التي هي آخر شعره، وفي أضعافها كلام جرى على لسانه كأنه ينعي فيه نفسه، وإن لم يقصد ذلك، فمنه قوله:
فلو أني استطعت خفضت طرفي ... فلم أبصر به حتى أراكا
وهذه لفظة يتطير منها، ومنه:
إذا التوديع أعرض قال قلبي ... عليك الصمت لا صاحبت فاكا
ولولا أن أكثر ما تمنى ... معاودة لقلت ولا مناكا
أي: لو أن أكثر ما تمنى قلبي أن يعاودك لقله له: ولا بلغت أنت أيضاً منتك، وهذا أيضاً من ذاك، ومنه:
قد استشفيت من داء بداء ... وأقتل من أعلك ما شفاكا