صدر هذا الكتاب آليا بواسطة الموسوعة الشاملة
(اضغط هنا للانتقال إلى صفحة الموسوعة الشاملة على الإنترنت)


الكتاب : يتيمة الدهر
المؤلف : الثعالبي
مصدر الكتاب : الوراق

[ الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع ]

وجهٌ عليه من الحياء سكينةٌ ... ومحبةٌ تجري مع الأنفاسِ
وإذا أحب الله يوماً عبده ... ألقى عليه محبّة للناس
وقوله:
لا غرو إن نال منك السقم ما سألا ... قد يكسف البدر أحياناً إذا كملا
ما تشتكي علّة في الدهر واحدة ... إلاّ اشتكى الجود من وجد بها عللا
وقوله:
قالوا نأيت عن الإخوان قلت لهم ... ما لي أخ غير ما تحوي عليه يدي
دعني أصنْ حرَّ وجهي عن إذالته ... وإِن تغرَّبت عن أهلي وعن ولدي
وقوله:
واعذر من أدمى الجفون من البكا ... كريمٌ رأى الدنيا بكفّ لئيم
أرى كل فدم قد تبجج في الغنى ... وذو الظرف لا تلقاه غير عديم
وقوله في الشيب:
بدا وضح المشيب على عذاري ... وهل ليل يكون بلا نهار
وألبسني النهى ثوباً جديداً ... وجردني من الثوب المعار
شريت سواد ذا ببياض هذا ... فبدّلت العمامة بالخمار
وما بعت الصبا بيعاً بشرط ... ولا استثنيت فيه بالخيار
وقوله في الشباب
ولّى الشباب وكنت تسكن ظله ... فانظر نفسك أي ظلّ تسكن
وانه المشيب عن الصبا لو أنه ... يدلي بحجته إلى ن يعلن
وقوله فيه:
كنت أليف الصبا فودّعني ... وداع من بان غير منصرف
أيام لهوي كظل أسجلةٍ ... وإذ شبابي كروضة أُنف
وقوله فيه:
شبابي كيف صرت إلى نفاد ... وبدلت البياض من السواد؟
وما أبقى الحوادث منك إلا ... كما أبقيت من القمر الدادي
فراقك عرّف الأحزان قلبي ... وفرّق بين عيني والرقاد
كأني منك لم أربع بربع ... وغادى نبته صوب الغوادي
زمان كان فيه الرشد غيّاً ... وكان الغي فيه من رشادي
فكم من غليل فيك خافٍ ... ولم لي من عويل فيك بادي
وقوله:
فكرت فيك أبحرٌ أنت أم قمرٌ ... فقد تحير فكري بين هذين
إن قلت بحرٌ وجدت البحر منحسراً ... وبحر جودك ممتدٌ العنانين
أو قلت بدرٌ رأيت البدر منتقصاً ... فقلت شتّان ما بين اليزيدين
وقوله في الزهد:
يا ويلتا من موقف ما به ... أخوف من أن يعدل الحاكمُ
أبارز الله بعصيانه ... وليس لي من دونه راحم
يا رب عفواً منك عن مذنب ... أسرف إلا أنه نادم
وقوله:
أتلهو بين باطيه وزير ... وأنت من الهلاك على شفير
فيا من غره أملٌ طويلٌ ... به يردى إلى أجل قصير
أتفرح والمنية كلّ يومٍ ... تريك مكان قبرك في القبور
هي الدنيا وإن سرتك يوماً ... فإن الحزن عاقبة السرور
ستسلب كل ما جمعت فيها ... بعارية ترد إلى معير
وتعتاض اليقين من التظنّي ... ودار الحق من دار الغرور
وقوله:
مدامع قد خدّدت في الخدود ... وأعينٌ مكحولة بالهجود
ومعشر أوعدهم ربهم ... فبادروا خشية ذاك الوعيد
قد كاد أن يعشب من دمعهم ... ما قابلت أعينهم في السجود
وقوله في الغزل:
أتقتلني ظلما وتجحدني قتلي ... وقد قام من عينيك لي شاهدا عدل
أطلاب ذحلي ليس بي غير شادن ... بعينيه سحر فاطلبوا عنده ذحلي
أغار على قلبي بعينه شادن ... أطالبه فيه أغار على عقلي
بنفسي التي ضنّت عليّ بوصلها ... ولو سألت قتلي وهبتُ لها قتلي
إذا جئتها صدّت حياء بوجهها ... فيعجبني هجر ألذّ من الوصل
كتمت الهوى جهدي فحرره الأسى ... بماء البلا هذا يخطُّ وذا يملي
وإن حكمت جارت عليّ بحكمها ... ولكنّ ذاك الجور أحلى من العدل

(1/179)


وأحببت فيها العذل حباً لذكرها ... فلا شيء أشفى في فؤادي من العذل
أقول لقلبي كلما ضامه الأسى ... إذا ما أبيت العز فاصبر على الذل
برأيك لا رأيي تعرضتَ للهوى ... وأمرك لا أمري وفعلك لا فعلي
وجدت الهوى نصلاً لموتي مغمداً ... فجردته ثم أتكيت على النصل
فإن كنت مقتولاً على غير ريبة ... فأنت الذي عرضت نفسك للقتل
وقوله، وهو من دقيق التشبيه وحسن النسيب:
حوراء راعتها النوى في حور ... حكمت لواحظها على المقدور
نظرت إليك بمقلتي أدمانةٍ ... وتلفّتت بسوالف اليعفور
وكأنما غاص الأسى بجفونها ... حتى أتاك بلؤلؤ منثور
وقوله:
أدعو إليك فلا دعاء يسمع ... يا من يضرّ بناظريه وينفع
للورد حينٌ ليس يطلع دونه ... والورد عندك كلّ حينٍ يطلع
من لي بأحور ما يبين لسانه ... خجلاً وسيف جفونه لا يقطع
منع الكلام سوى إشارة مقلةٍ ... منها يكلّمني وعنها يسمع
وقوله:
جمالٌ يفوت الوهم في غاية الفكر ... وطرفٌ إذا ما فاه ينطق بالسحر
ووجه أعار البدر ذلّة حاسدٍ ... فمنه الذي يسود في صفحة البدر
وقوله في النحول
لم يبق من جثمانه ... إلا حشاشة مبتئس
قد رقّ حتى ما يرى ... بل ذاب ما يحس
وقوله في البين:
فررت من اللقاء إلى الفراق ... فحسبي ما لقيت وما ألاقي
سقاني البين كأس الموت صرفاً ... وما ظني أموت بكف ساقي
فيا برد اللقاء على فؤادي ... أجرني اليوم من حرّ الفراق
وقوله في نوح الحمام:
ويهتاج قلبي كما كان ساكناً ... دعاء حمام لم يبت بوكون
وإن ارتياحي من بكاء حمامةٍ ... كذي شجنٍ داويته بشجون
كأن حمام الأيك لما تجاوبت ... حزينٌ بكى من رحمة لحزين
وقوله:
أناحت حمامات اللوى أم تغنّت ... فأبدت دواعي قلبه ما أجنّتِ
فديت التي كانت ولا شيء غيرها ... مني النفس أو يقضي لها ما تمنّت
وقوله فيه:
لقد سجعت في جنح ليلٍ حمامةٌ ... فأيّ أسى هاجت على الهائم الصبّ
لك الويل بل هيجت شجوي بلا جوى ... وشكوى بلا شكوى وكرباً بلا كرب
وأسكبت دمعاً من جفون مسهّد ... وما رقرقت منك المدامع بالسكب
وقوله في الرياض:
وما روضة بالحزن حاك لها الندى ... بروداً من الموشيّ حمر الشقائق
يقيم الدجى أعناقها ويميلها ... شعاع الضحى المستنّ في كلّ شارق
إذا صاحكتها الشمس تبكي بأعين ... مكللة الأجفان صفر الحمالق
حكت أرضها لون السماء وزانها ... نجوم كأمثال النجوم الخوافق
بأطيب نشراً من خلائقك التي ... لها خضعت في الحسن زهر الخلائق
وقوله في التضمين:
وروضة ورد بالسوسن الغض ... تحلّت بلون السام والذهب المحض
رأيت بها بدراً على الأرض ماشياً ... ولم أر قط يمشي على الأرض
إلى مثله تصبو إذا كنت صابياً ... فقد كاد منه البعض يصبو إلى البعض
وقل للذي يفني الفؤاد بحبّه ... على أنه يجزي المحبّة بالبغض
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشرّ أهون من بعض
وقوله:
وحاملة راحا على راحة اليد ... موردة تسعى بلون مورد
متى ما ترى الإبريق للكأس راكعاً ... تصلّ له من غير طهر وتسجد
على ياسمين كاللجين ونرجس ... كأقراط درٍّ في قضيب زبرجد
بتلك وهذي فاله يومك كلّه ... وعنها فسل لا تسأل الناس عن غد
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود
وقوله:

(1/180)


أيقتلني دائي وأنت طبيبي ... قريب وهل من لا يرى بقريب
لئن خنت عهدي إنني خير خائن ... وأيّ محبٍّ خان عهد حبيب
وساحبة فضل الذيول كأنها ... قضيب من الريحان فوق كثيب
إذا برزت من خدرها قال صاحبي ... أطعني وخذ من حظها بنصيب
فما كل ذي لب بمؤتيك نصحه ... وما كلّ مؤت نصحه بلبيب
وقوله:
يا طويل الهجر لا تنس وصلي ... واشتغالي بك عن كلّ شغل
يا هلالاً فوق جيد غزال ... وقضيباً فوق دعصة رمل
وقوله:
يا وميض البرق بين الغمام ... لا عليها بل عليك السلام
إنّ في الأحداج مقصورة ... وجهها يهتك ستر الظلام
تحسب الهجر حلالاً لها ... وترى الوصل عليها حرام
ما تأسيك لدارٍ خلت ... ولشعب شتّ بعد التئام
إنما ذكرك ما قد مضى ... ضلّةٌ مثلُ حديث المنام
وقوله:
يا عاتباً صرت له عاتباً ... رب مطلوب غدا طالبا
من يتب عن حب معشوقه ... لست عن حبي له تائبا
فالهوى لي قدر غالب ... كيف أعصي القدر الغالبا
ساكن القلب ومن حله ... أصبح القلب به ذاهبا
وقوله:
أيّ تفاح ورمان ... نجتني من خوط ريحان
أيّ ورد فوق خدٍّ بدا ... مستنيراً فوق سوسان
وثنٌ يعبد في خلوة ... صيغ من درٍّ ومرجان
من رأى الذلفاء ياقوتة ... أخرجت من كيس دهقان
وقوله:
من محب شفّه سقمه ... وتلاشى لحمه ودمه
كاتبٌ حنَّت صحيفته ... وبكى من رحمةٍ قلمه
خلٍّ عقلي يا مسفهه ... إنّ عقلي لست أتهمه
للفتى عقلٌ يعيش به ... حيث تهدي ساقه قدمه
وقوله:
زادني لومك إصراراً ... إنّ لي في الحب أنصارا
طار قلبي من هوى رشأ ... لو رثى للقلب ما طارا
خذ بكفي لا أمت غرقاً ... إن بحر الحب قد فارا
أنضجت نار الهوى كبدي ... ودموعي تطفئ النارا
رب نار بتُّ أرمقها ... تقضم الهنديّ والغارا
وقوله:
يا ليلة كان في ظلمائها نور ... إلاّ وجوهاً تضاهيها الدنانير
حورٌ سقتني كأس الموت أعينُها ... ماذا سقتني تلك الأعين الحور
إذا ابتسمن فدرٌّ الثغر منتظمٌ ... وإن نطقن فدر اللفظ منثور
خلّ الصبا عنك واختم بالنهى عملاً ... فإنّ خاتمة الأعمال تكفير
فالخير والشر مقرونان في قرن ... فالخير ممتنعٌ والشر محذور
وقوله:
يا طالباً في الحبّ ما لا ينال ... وسائلاً لم يعف ذلّ السؤال
ولت ليالي الصبا محمودة ... لو أنها ترجع تلك الليالي
وأعقبتك التي أوصلتها ... بالهجر لما رأت شيب القذال
لا تلتمس وصلةً من مخلف ... ولا تكن طالباً ما لا ينال
يا صاح قد أخلفت أسماء ما ... كانت تمنّيك من حسن وصال
وقوله:
ظالمتي في الحب لا تظلمي ... فتصرمي حبل من لم يصرم
أهكذا باطلاً عاقبتني ... لا يرحم الله من لا يرحم
قتلت نفساً بلا نفس وما ... ذنبٌ بأعظم من سفك الدم
لمثل هذا بكت عيني لا ... للمنزل القفر ولا للرسم
ماذا وقوفي على رسم عفا ... مخلولق دارس مستعجم
وقوله:
ما أقرب اليأس من رجائي ... وأبعد الصبر من بكائي
ما مذكي النار في جوائي ... أنت دوائي وأنت دائي
من لي بمخلفة وعدها ... تخلط لي اليأس بالرجاء
سألتها حاجةٌ فلم تفه ... لي بنعم لا ولا بلاء
قلت استجيبي فلما لم تجب ... فاضت دموعي على ردائي

(1/181)


كآبة الذل في كتابي ... ونخوة العزّ في الجواء
وله فيه:
قتلت نفساً بغير نفس ... فكيف تنجو من العذاب
خلقت من بهجة وطيب ... إذا خلق الناس من تراب
ولّت حميّا الشباب عني ... فلهف نفسي على الشباب
أصبحت والشيب قد علاني ... يدعو حثيثاً إلى الخضاب
وقوله:
تجافي النوم بعدك عن جفوني ... ولكن ليس تجفوها الدموعُ
يطير إليك من شوقٍ فؤادي ... ولكن ليس تتركه الضلوع
كأن الشمس لما غبت غابت ... فليس لها على الدنيا طلوع
يذكّرني تبسّمك الأقاحي ... ويحكي لي توردك الربيع
فما لي من تذكرك امتناع ... ودون لقائك الحصنُ المنيع
إذا لم تستطع شيئاً فدعهْ ... وجاوزه إلى ما تستطيع
وقوله:
حال الزمان له فبدّل حالا ... وكسا المشيب مفارقاً وقذالا
غابت غواني الحي عنك وربما ... طلعت إليك أكلة وحجالا
أضحى عليك حلالهن محرماً ... ولقد يكون حرامهن حلالا
إن الكواعب إن رأينك طاوياً ... وصل الشباب طوين عنك وصالا
وإذا دعونك عمّهن فإنه ... نسبٌ يزيدك عندهن خبالا
وقوله:
هتك الحجاب عن الضمائر طرفٌ به تبلى السرائرْ
يرنو فيمتحن القلو ... ب كأنّه في القلب ناظر
يا ساحراً ما كنت أع ... رف قبله في الناس ساحر
أقصيتني من بعد ما ... أدنيتني فالقلب طائر
وغررتني وزعمت أنّ ... ك لابنٌ في الصيف تامر
وقوله:
يا مقلة الرشأ الغري ... ر وشقة القمر المنير
ما رنّقت عيناك لي ... بين الأكلّمة والستور
إلا وضعت يدي على ... كبدي مخافة أن تطير
هبني كبعض حمام مكّ ... ة واستمع قول النذير
أبني لا تظلم بمك ... ة لا الصغير ولا الكبير
وقوله:
قل ما بدا لك وافعل ... واقطع حبالك أوصل
هذا الربيع فحيه ... وأنزل بأكرم منزل
وصل الذي هو واصلٌ ... وإذا كرهت تبدل
وإذا نبا بك منزلٌ ... أو مسكنٌ فتحوّل
وإذ افتقرت فلا تكن ... متخشعاً وتحمّل
وقوله:
يا دهر ما لك ضنكٌ ... وأنت غير مواتي
جرّعتني غصصا بها ... كدرت عليَّ حياتي
أين الذين تسابقوا ... في المجد للغايات
قوم بهم روع الحيا ... ة تردّ في الأموات
وإذا همو ذكروا الإسا ... ءة أكثروا الحسنات
وقوله فيه:
متى أشفي غليلي ... بنيل من بخيل
غزالٌ ليس لي منه ... سوى الحزن الطويل
حملت الضيّم فيه من ... حسودٍ أو عذول
جميل الوجه أخلاني ... من الصبر الجميل
وما ظهري لباغي الضي ... م بالظهر الذلول
وقوله:
لم أدر جنيٌّ سباني أم بشر ... أم شمس ظهرٍ أشرقت لي أم قمرْ
أم ناظر يهدي المنايا طرفة ... حتى كأن الموت فيه في النظر
ويحي قتيلاً ما له من قاتل ... إلا سهام الطرف ريشت بالحور
ما بال رسم الوصل أضحى دارسا ... حتى لقد أذكرني ما قد دثر
دارٌ لسلمي إذ سليمى جارة ... قفرٌ ترى آياتها مثل الزبر
وقوله:
قلبٌ بلوعات الهوى معمود ... حيٌّ كميت حاضر مفقود
ما ذقت طعم الموت في كأس الرّجا ... حتى سقتنيه الظباء الغيد
من ذا يداوي القلب من داء الهوى ... إذ لا دواء للضنى موجود
أم كيف أسلو غادة ما حبّها ... إلاّ قضاء ما له مردود

(1/182)


القلب منها مستريح سالم ... والقلب مني جاهد مجهود
وقوله:
يا أيها المشغوف بالحب التعب ... كم أنت في تقريب مالا يقترب
دع ودّ من لا يرعوي إذا غضب ... ومن إذا عاتبته يوماً عتب
إنك لا تجني من الشوك العنب
وقوله:
ِأنا في اللذات ممنوع العذار ... هائم في حب ظبي ذي احورار
صفرة في حمرة في خده ... جمعت روضة وردٍ وبهار
بأبي قلبي آسٍ أقبلت ... تنثني بين حجل وسوار
قادني قلبي وطرفي للهوى ... كيف من قلبي ومن طرفي حذاري
لو بغير الماء حلقي شرقٌ ... كنت كالغصان بالماء اعتصاري
وقوله:
يا مدير الصدغ بالخد الأسيل ... ومجيل السحر بالطرف الكحيل
هبْ لمحزون كئيبٍ نظرة ... منك يشفي بردها حرّ الغليل
وقليلٌ ذاك إلاّ أنه ... ليس من مثلك عندي بالقليل
بأبي أحور غنّي موهناً ... بغناء قصر الليل الطويل
يا بني الصيداء ردّوا فرسي ... إنما يفعل هذا بالذليل
وله:
شادنٌ يسحب أذيال الطرب ... ينثني ما بين لهوٍ ولعب
بجبين مفرغ من فضة ... فوق خد مشربٍ لون الذهب
كتب بالدمع بخدي عهده ... للهوى والشوق يملي ما كتب
يا لجهلي ما أراه ذاهباً ... وسواد الرأس منّي قد ذهب
قالت الخنساء لما جئتها ... شاب بعدي رأس هذا واشتهب
وقوله:
يا هلالاً في تجليه ... وقضيباً في تثنّيه
والذي لست أسمي ... ه ولكنّي أكنيه
شادنٌ ما تقدر العي ... ن تراه من تلاليه
كلما قابلها شخ ... ص رأى صورته فيه
لان حتى لو مشى ال ... ذر عليه كاد يدميه
وقوله:
يا هلالاً قد تجلّى ... في سحاب من حرير
وأميراً بهواه ... قاهراً كلَّ أمير
ما لخديك استعاراً ... حمرة الورد المنير
ورسوم الوصل قد أل ... بسها ثوب الدثور
وقوله:
أنت بما في نفسه أعلم ... فاحكم بما شئت به تحكمُ
ألحاظه في الحبّ قد هتكت ... مكتومة والحب لا يكتم
يا مقلتي وحشية قتلت ... نفساً بلا نفسٍ ولا تظلم
قالت تسليت فقلنا لها ... ما قال قبلي عاشق مغرم
وقوله:
ويحي قتيلاً ما له من عقل ... من شادن يهتزّ مثل النصل
مكحل ما مسّه من كحل ... لا تعذلاني إنني في شغل
يا صاحبي رحلي أقلا عذلي
وقوله فيه:
ِبيضاء مضمومة مقرطقة ... تنقدّ عن نهدها قراطقها
كأنما بات ناعماً جذلاً ... في جنة الخلد من يعانقها
وأي شيء ألذّ من أملٍ ... نالته معشوقةٌ وعاشقها
دعني أمتْ في هوى مخدرة ... يعلق نفسي بها علائقها
من لم يمت عبطة يمت هرماً ... الموت كأس المرء ذائقها
وقوله:
أنت دائي وفي يديك شفائي ... يا دوائي من الهوى وشفائي
إنّ قلبي يحبّ من لا أسمي ... في عناء أعظم به من عناء
كيف لا كيف أن ألذ بعيشٍ ... مات صبري به ومات عزائي
أيّها اللائمون ماذا عليكم ... أن تعيشوا وأن أموت بدائي
ليس من مات فاستراح بميتٍ ... إنّما الميت ميت الأحياء
وقوله:
ذات دلّ وشاحها قلق ... من ضمورٍ وحجلها شرقُ
برت الشمس نورها وحباها ... لحظ عينيه شادنٌ حدقُ
ذهب خدّها يذوب حياءً ... وسوى ذاك كله ورقُ
إن أمت ميتة المحبين يوماً ... وفؤادي من الهوى حرق
فالمنايا ما بين غادٍ وسارٍ ... كلّ حيّ برهنها علِق
وقوله:
أشرقت لي بدور ... في ظلام تنير

(1/183)


طار قلبي لحسنها ... من لقلب يطير!
يا بدور أنا بها ال ... دهر عان أسير
إن رضيتم بأن أمو ... ت فموتي حقير
كل خطبٍ ما لم تكو ... نوا غضبتم يسير
وقوله:
يا مليحة الدعج ... هل لديك من فرج
أم أراك قاتلي ... بالدلال والغنج
عاذلي ويحكما ... قد غرقت في لجج
وقوله:
أأحرم منك الرضى ... وتذكر ما قد مضى
وتعرض عن هائمٍ ... أبى عنك أن يعرضا
قضى الله بالحب لي ... فصبراً على ما قضى
رميت فؤادي فما ... تركت به منهضا
وقوسك شريانةٌ ... ونبلك جمر الغضا
وقوله:
وأزهر كالعيوق يسعى بأزهرٍ ... لنا منه داء وهو برءٌ من الداء
ألا بأبي صدغ حكى العين فتله ... وشارب مسكٍ قد حكى عطفة الراء
فما السحر ما يعزي إلى أرض بابل ... ولكن فتور اللحظ من طرف حوراء
وكيف أدارت مذهب اللون أصفرا ... بمذهبةٍ في راحة الكفّ صفراء
وقوله:
معذبتي رفقاً بقلب معذب ... وإن كان يرضيك العذاب فعذبي
لعمري لقد باعدت غير مباعد ... كما أنني قربت غير مقرّب
لو أن امرأ القيس بن حجر بدت له ... لما قال مرّا بي على أم جندب
وقوله:
محبٌّ طوى كشحاً على الزفرات ... وإنسان عين خاض في العبرات
فيا من بعينيه سقامي وصحتي ... ومن في يديه ميتتي وحياتي
بحبّك عاشرت الهموم صبابة ... كأني لها تربٌ وهنّ لداتي
فخدّي أرضٌ للهموم ومقلتي ... سماء لها تنهلُّ بالعبرات
وقوله:
طلّق اللهو فؤادي ثلاثاً ... لا ارتجاع لي بعد الثلاث
وبياض في سواد عذاري ... بدل التشبيب لي المراثي
غير أني لا أطيق اصطباراً ... وأراني صائراً لانتكاثي
بإناث في صفات ذكور ... وذكور في صفات إناثِ
وقوله:
صدعت قلبي صدع الزجاج ... ما له من حيلةٍ أو علاج
مزجت روحي ألحاظها ... فالهوى مني لروحي مزاج
يا قضيباً فوق دعص النقا ... وكثيباً تحت تمثال عاج
أنت نوري في سواد الدجا ... وسراجي عند فقد السراج
وقوله:
مستهام دمعه سافح ... بين جفنيه هوىً قادح
كلما أمَّ سبيل الهوى ... قاده السافح والنازح
حلّ فيما بين أعدائه ... وهو عن أحبابه نازح
أيها القادح نار الهوى ... أصلها يا أيها القادح
وقوله:
عاد منها كلّ مطبوخ ... غير داذي ومفضوح
فاعتقد من ود أهل الحجى ... كل ودّ غير مشدوخ
وانتشق ريّاك من ملتقى ... شارب بالمسك ملطوخ
إنّ في العلم وآثاره ... ناسخاً من بعد منسوخ
وقوله:
يا مجال الروح من جسدي ... والذي يفتر عن برد
وفريد الحسن واحده ... منتهاه منتهى العدد
خذ بكفي إنني غرق ... في بحار جمّة المدد
ورياح الهجر قد هدمت ... ما أقام الصبر من أودي
وقوله:
أذكرت من طيرناباذ ... فقري الكرخ فبغداذ
قهوة ليست ببارقةٍ ... لا، بتع ولا داذي
مرة يهذي الحليم بها ... بأبي ذلك من هاذي
فهي أستاذ الشراب معاً ... والمعاني دأب وأستاذ
وقوله:
نورٌ تولّد من شمس ومن قمر ... في طرفة سقمٌ أمضى من القدر
أصلي فؤادي بلا ذنب جوى حرقٍ ... لم يبق من مهجتي شيئاً ولم يذر
لا والرحيق المصفى من مراشفه ... وما بخديه من خال ومن طرر
ما أنصف الحب قلبي في حكومته ... ولا عفا الشوق عني غير مقتدر
ِوقوله:

(1/184)


خرجت أجتاز قفراً غير مجتاز ... فصادني أسهل العينين كالباز
صفرٌ على أنه صفر لوالبه ... ذا فوق نعلٍ وهذا فوق قفاز
كم موعد ليّ من ألحاظ مقلته ... لو أنه موعد يقضى بإنجاز
أبكي ويضحك منّي طرفه هزؤاً ... نفسي الفداء لذاك الضاحك الهازي
وقوله "
يا غصناً مائساً بين الرباط ... مالي من بعد العيش اغتباط
ما من إذا ما ابتدى ماشياً ... وددت أن له خدّي بساط
تترك عيناه من يبصره ... مختلط اللبسة كلّ اختلاط
قلت متى نلتقي يا سيدي ... قال غدا نلتقي عند الصراط
وقوله:
يا ساحراً طرفه إذ يلحظ ... وفاتنا لفظُه إذ يلفظ
يا غصناً ينثني من لينه ... وجهك من كل عين يحفظ
أيقظني إذ جاءني من نفسه ... من طرفه ناعس مستيقظ
ظبيٌ له وجنة من رقّة ... تجرحها مقلة من يلحظ
وقوله:
يا من دمي دونه مسفوك ... وكلّ حرٍّ له مملوك
كأنه فضّةٌ مسبوكةٌ ... أو ذهبٌ خالصٌ مسبوك
ما أطيب العيس لو لا أنه ... عن عاجلٍ كله متروك
وقوله:
إليك يا غرّة الهلال ... وبدعة الحسن والجمال
مددت كفاً بها انقباض ... وأين كفي من الهلال
شكوت ما بي إليك وجداً ... فلم ترقي ولم تبالِ
أعاضك الله من قريب ... حالاً من السقم مثل حالِ
وقوله:
بنفسي من مراشفه مدام ... ومن لحظات مقلته سهامُ
ومن هو إن بدا والبدر تمّ ... صبا من حسنه البدر التمام
أقول له وقد أبدى صدوداً ... فلا لفظ إليّ ولا ابتسام
تكلّم ليس يوجعك الكلام ... ولا يمحو محاسنك السلام
وقوله:
سلبت الروح من بدني ... وصمت القلب بالحزن
فلي بدن بلا روح ... ولي روح بلا بدن
قرنت مع الردى نفسي ... فنفسي وهو في قَرن
فليت السحر من عيني ... ك لم أره ولم يرني
وقوله:
غزالٌ من بني العاص ... أحسّ بصوت قناص
فأتلع جيده حذراً ... وأشخص أيّ إشخاص
أيا من أخلصت نفسي ... هواه كل إخلاص
أطاعك من ضمي القل ... ب غفواً كلّ معتاص
وقوله:
أوحت إليك جفونها بوداع ... خود بدت لك من وراء قناع
بيضاء ما باهى النعيم بصفرة ... فكأنها شمسٌ بغير شعاع
أما الشباب فودّعت أيامه ... ووداعهن موكلٌ بوداعي
لله أيام الصّبا لو أنها ... كرّت عليَّ بلذةٍ وسماع
وقوله:
أصغى إليك بكأسه مصغي ... صلت الجبين معقرب الصدغ
كأس تولّد بالمحبة بيننا ... طوراً وتنزغ أيما نزغ
في روضة درجت بزهرتها الصّبا ... والشمس في درجٍ من الفرغ
واشرب بكفِّ أغنَّ عقرب صدغه ... للقلب منك مميتة اللدغ
وقوله:
يا دمية ليست بمعتكف ... بل ظبية أوفت على شرف
ِبل درة زهراء ما سكنت ... بحراً ولا درّاً من الصدف
أسرفت في قتلي لا ترةٍ ... وسمعت قول الله في السرف
إني أتوب إليك معترفاً ... إن كنت تقبل قول معترف
وقوله:
يا فتنة بعثت على الخلق ... ما بينها والموت من فرق
شمس بدت لك في مغاربها ... يفتّر مبسمها عن البرق
ما كنت أدري قبل رؤيتها ... للشمس مطّلعاً سوى الشرق
يا من يضن بفضل نائله ... لو في يديك مفاتيح الرزق
وقوله:
طلعت له والليل دامس ... شمس تجلّت في حنادس
تختال في صفر المجا ... سد بين حارسةٍ وحارس
يا من لبهجة وجهه ... يستأسر البطل الممارس

(1/185)


لم يبق من قلبي سوى ... رسمٍ تغيّر فهو دارس
وقوله:
دع قول واشيةٍ وواشي ... واجعلهما كلبي هراش
واشرب معتّقةً تسل ... سلُ في العظام وفي المحاشي
حتى ترى العود المسن ... لها أرقَّ من الخشاش
وقوله:
ألحاظ عين تنتهي ... في روض ورد تزدهي
رتعت بها وتنزّهت ... منها بأي تنزه
يا أيها الخنث الجفو ... ن بنخوة وتكرّه
والمكتفي عجباً أما ... ترثي لأشعث أمره
وقوله:
أطفت شرارة لهوي ... ولوت بشرّة عدوي
شعل علون مفارقي ... ومضت ببهجة سروي
لما شككت عروضها ... ذهب الزحاف بحزوي
يا أيها الشاديّ صه ... ليست بساعة شدو
وقوله:
ألا يا زين قلبي لل ... شباب العفر إذ ولّى
جعلت الغيّ سربالي ... وكان الرشد بي أولى
بنفسي جائرٌ في الحك ... م يلفي جوره عدلاً
وليس الشهد في فيه ... بأحلى عنده من لا
وقوله:
هنا تفني قوافي الش ... عر هذا الرويّ
قوافٍ ألبست حلياً ... من الحلى الرويّ
تعالت عن جرير بل ... زهير بل عديّ
؟أبو عمرو يوسف بن هرون
المعروف بأبي سبيح
وأنشدت لأبي عمرو يوسف بن هرون الأندلسي المعروف بأبي سبيح يمدح أبا علي إسماعيل بن القاسم البغدادي القالي، من قصيدة:
من حاكم بيني وبين عذولي ... الشجو شجوي والعويل عويلي
في أيّ جارحة أصون معذبي ... سلمت من التعذيب والتنكيل
إن قلت في بصري فثم مدامعي ... أو قلت في كبدي فثمّ غليلي
وثلاث شيبات نزلن بمفرقي ... فعلمت أنّ نزولهن رحيلي
طلعت ثلاث في نزول ثلاثة ... واشِ ووجه مراقب ومقيل
فعذلنني عن صبوتي متذلّلاً ... ولقد سمعت بذلة المعذول
ومنها:
حتى إذا صدت الوحوش فلم تدع ... منهن غير معالمٍ وطلول
ونهت محافظة الحسان فلم تصل ... كفّي إلى ظبي أغنّ كحيل
ومكبّل لم يجترم جرماً ولا ... دامت صحابته بغير كبول
متلفت كتلفت المرتاع يق ... سم لحظه في الحول بعد الحول
حتى إذا ما السرب عنّ للحظه ... أومى بقادمتيه خلّ سبيلي
ولّت جماعتها وشدّ وراءها ... وكأنه بطل وراء رعيل
عجلت وأدركها ردىً في إثرها ... إنّ الردى قيدُ لكلِّ عجول
ولقد غدوت بأهرت متضائلٍ ... سر النفوس إليه غير ضئيل
ولربما اشتم الصعيد بأنفه ... حيناً فقام له مقام دليل
متتبّع لظلاله فكأنه ... في القيظ يطلب ظلّه لمقيل
فنزلت في فرش الرياض ولم يكن ... ليحوزها مثلي بغير نزولي
روضٌ تعاهده السحاب كأنه ... متعاهد من علم إسمعيل
قسه إلى الأعراب تعلم أنه ... أولى من الأعراب بالتفضيل
حازت قبائلهم لغات جمّعتْ ... فيهم وحاز لغات كل قبيل
فالشرق خال بعده فكأنما ... نزل الخراب بربعه المأهول
جمعوا بغيبته وموت شيوخه ... عنهم ولما يظفروا ببديل
مذ جاءهم وهم بليل همومهم ... منه فصاروا في دجى موصول
فكأنه شمس بدت في غربتنا ... وتغرّبت في شرقهم بأفول
يا سيدي هذا ثنائي لم أقلْ ... زوراً ولا عرّضت بالتنويل
من كان يأمل نائلاً فأنا امرؤ ... لم أرج غير القرب في تأميلي
وقوله:
وإني لأغضي الطرف عنك جلالة ... وخوفاً على خديك من لحظاتي
ولو أنني أهملت عيني بأن ترى ... سناك لحالت دونها عبراتي
رأيت وشاة الكاشحين أباعدا ... ولكن دمعي من عديد وشاتي

(1/186)


زعمت بأني حلت عنك ولم أكن ... أُعينك في بثّي وفي حسراتي
وهل أنا إلا طالبٌ لمنيتي ... إذا حلت عمّن في يديه وفاتي
وقوله:
عزمت على قتلي بغير تحرّجٍ ... شجى حتى تقتل الهائم الشجي
ولم يبد سرّي فيك رأي، وإنما ... تبدّي فراراً من حشيً متوهّج
نحولي ودمعي دبّجاً وجنتي بما ... رأت مقلتي من خدك المتدبج
بهاراً ودراً هبّت الريح فوقه ... بقروٍ فغطّت وردة بالنفسج
وقال يرثي البلدي الخباز:
أنا إن رمت سلّواً ... عنك يا قرة عيني
كنت في الإثم كمن شا ... رك في قتل الحسين
لك صولات على قل ... بي دليلات لحيني
مثل صولات عليّ ... يوم بدرٍ وحنين
ومن شعره قوله:
هبوا أن سجني مانعٌ لوصاله ... فما العذر أيضاً في امتناع خياله؟
بلى لم تنم عيني فيطرق طيفها ... زوال منامي علّةُ لزوالهِ
؟عبد الملك بن إدريس المعروف بالخريري
له من قصيدة كتب بها إلى ابنه عبد الرحمن من محبسه، أولها:
ألوي بعزم تجلّدي وتصبّري ... نأيُ الأحبة واعتياد تذكري
شحط المزار فلا قرار ونافرت ... عيني الهجوع فلا خيالٌ يعتري
أزرى بصبري وهو مشدود القوى ... وألان عودي وهو صلب المكسر
وطوى سروري كلّه وتلذذي ... بالعيش طيّ صحيفة لم تنشر
هلاّ بما ألقى الحبيب توهّماً ... بضمير تذكاري وعين تفكّري
وإذا الفتى فقد الشباب سما له ... حب البنين ولا كحب الأصغر
عجباً لقلبي يوم راعتنا النوى ... ودنا وداعك كيف لم يتفطر
ما خلتني أبقى خلافك ساعةً ... لو لا السكون إلى أخيك الأكبر
إنسان عيني إن نظرت وساعدي ... مهما بطشت وصاحبي المستوزر
فإذا شكوت إليه شكوى راحةٍ ... ذكّرته فشكا إليّ بأكثر
أربى عليّ فحظه ممّا بنا ... حظ المعلّى من قداح الميّسر
ومنها:
واعلم بأن العلم أرفع رتبة ... وأجل مكتسب وأسنى مفخر
وبضمر الأقلام يبلغ أهلها ... ما ليس يبلغ بالجياد الضّمّر
والعلم ليس بنافع أربابه ... ما لم يفد عملاً وحسن تبصر
فإذا دفعت إلى قرين فابلهُ ... قبل التقارض والتشارك واخبر
لا يستفزك منظر حسن بدا ... حتى تقابله بحسن المخبر
كم من أخ يلقاك منه ظاهر ... باد سلامته وباطنه وري
وأشرح لك ملم؟ةٍ صدراً وخذ ... بالحزم في كلّ الأمور وشمّر
واستنصح البرَّ التَّقيَّ وشاور ال ... فطن الذكي تكن ربيح المتجر
وأخزن لسانك واحترس من نطقه ... واحذر بوادر غيّه ثم احذر
واصفح عن العوراء إن قيلت وعد ... بالحلم منك على السفيه المعور
وكل المسيء إلى إساءته ولا ... تنعقب الباغي ببغيٍ تنصر
فكفاك من شرٍّ سماعك خبره ... وكفاك من خبرٍ قبول المخبر
وإذا سئلت فجد وإنّ قلّ الجدي ... جهد المقل إزاء جهد المكثر
واشكر لمن أوالك برّاً إنّه ... حقٌّ عليك ولا تكن بالممتري
ليس الحريص بزائد في حرصه ... بأتم حيلته هشيمة إذخر
أو ما رأيت غبيًّ قومٍ موسراً ... ولبيبهم يشقى بحال المعسر
قد أوعب التكوين كلّ مكوّن ... مذ أحكم التقدير كلّ مقدر
فلو ابتغيت لك جهد نيل ما ... سبق القضاء بمنعه لم تقدر
؟أبو عمر أحمد بن محمد بن دراج
الأندلسي المعروف بالقسطلي
كان بصقع الأندلس كالمتنبي بصقع الشام، وهو أحد الفحول. وكان يجيد ما ينظم ويقول، فمن ذلك قوله من قصيدة يمدح بها محمد بن أبي عامر:

(1/187)


ما كفر نعماك من شأني فيثنيني ... عمّن توالى لنصر الملك والدين
ولا ثنائي وشكري بالوفاء بما ... أوليتني دون بذل النفس يكفيني
حقُّ على النفس أن تبلى ولو فنيت ... في شكر أيسر ما أضحيت توليني
ها إنها نعمة ما زال كوكبها ... إليك في ظلمات الخطب يهديني
تنأى بجوهر ودٍّ غير مبتذلٍ ... عندي وجوهر حمدٍ غير مكنون
وحبذا النأي عن أهلي وعن وطني ... في كل برٍّ وبحرٍ منك يدنيني
وموقفٍ للنوى أغليت مُتّئدي ... فيه وأرخصت دمع الأعين العين
من كلّ نافرةٍ ذلّت لقود يدي ... في ثني ما يدك العلياء تحبوني
والخدر يخفق في أحشاء والهةٍ ... تردّد الشجو في أحشاء محزون
أجاهد الصبر عنها وهي غافلة ... عن لوعة في الحشى منها تناجيني
يا هذه كيف أعطي الشوق طاعته ... وهذه طاعة المنصور تدعوني
شدي عليّ نجاد السيف أجعله ... ضجيع جنب نبا عن مضجع الهون
رضيت منها وشيك الشوق لي عوضاً ... وقلت فيها للوعات الأسى بيني
فإن تشجَّ تباريح الهوى كبدي ... فقد عوضت قرباً منك يأسوني
وإن يمت موقف التوديع مصطبري ... فأحر لي بدنو منك يحييني
أو أفرط الحظ من نعماك منقلب ... من الوفاء بحظ فيك مغبون
وخازن عنك نفسي في هواجرها ... وليس جودك عن كفي بمخزون
وحاش للخيل أن تزهى علي بها ... والبيض والسمر أن تحظى بها دوني
وربما كنت أمضي في مكارهها ... قدماً وأثبت في أهوالها الجون
من كل أبيض ماضي الغرب ذي شطب ... وكل لدن طرير الحد مسنون
كذاك شأوي مفدى في رضاك إذا ... سعيت فيه فلا ساع يباريني
لكن سهام من الأقدار ما برحت ... على مراصد ذاك الماء ترميني
يحملن للروع أسدا في فرائسها ... تمد للطعن أمثال الثعابين
والبيض تحت ظلال النقع لامعة ... تغلغل الماء في ظل الرياحين
حتى يحوزوا لك الأرض التي اعترفت ... بملك آبائك الشم العانين
حيث استبوا فارساً والروم واعتوروا ... رق الأساور منهم والدهاقين
وقوله من البسيط:
لولا التحرج لم يحجب محياكِ
وحشية الفظ هل يودي قتيلكم؟ ... دمي مضاع وجاني ذاك عيناكِ
إني أراك بقتل النفس حاذقة ... قولي فديتك: من بالقتل أوصاك؟
ما لي وللبرق أستسقيه من ظمأٍ ... هيهات لا ري إلا من ثناياك
لولا الضلوع لظل القلب نحوكم ... ضعي بعيشك فوق القلب يمناكِ
أصليتني لوعة الهجران ظالمة ... رحماك من لوعة الهجران رحماك
أظن عزمك أن أخفي لأسلوكم ... حلي غريمي إني لست أسلاك
حاشاك أن تجمعي حسن الصفات إلى ... قبح الصنيع بمن يهواك حاشاك
إن كان واديك ممنوعا فموعدنا ... وادي الكرى فلعلي فيه ألقاك
ظبي وقلب فمن لي أن أصيدهما ... ضاع الفؤاد وقلب الظبي أشراكي
وقوله:
أصخْ نحوي لدعوة مستقيل ... ينادي من غيابات الخمولِ
رهينة كل هم مستكن ... ونهزه كل خطب مستطيل
ومأمون على ظلم الأعادي ... ونوام على ثوب الذحول
تراني منك في همم صحاح ... نكصن على دجى خطب عليل
ولكن رب دهر ساورتني ... غوائله على نهج السبيل
مظاهر لأمتي بغي ومكر ... ومصلت صارمي قال وقيل
ورام عن قسي الغل نبلاً ... أصبن مقاتل الأدب النبيل

(1/188)


أبا وبنين عن عرض منيع ... لقد أجلين عن أمل قتيل
فكان كأنه جفن سخين ... أسال دماً على خد أسيل
ومضطرم الحشى داء دويا ... تنفس منه عن سيف صقيل
فتلك معالمي علم الرزايا ... وتلك وسائلي درج السيول
وتلك مراتب الأخطار مني ... حمائم تنتحبن على هديل
لعل رضاك يا منصور يوماً ... يحل بساحتي عما قليل
ويقرع منك أسماع المعالي ... لنا بعثار عبد مستقيل
إليك جلوت أبكار المعاني ... معاذيراً بلألاء القبول
سوار في الظلام بلا نجوم ... هواد في الفلاة بلا دليل
وقوله من أخرى:
إليك شحنّا الفلك تهوي كأنها ... وقد ذعرت عن مغرب الشمس غربانُ
على لججٍ خضرٍ إذا هبت الصبا ... تراما بنا فيها ثبير وثهلانُ
وإن سكنت عنا الرياح جرى بنا ... زفير إلى ذكر الأحبة حنّان
يقلن وموج البحر والهم والدجا ... تموج بنا فيها عيون وآذان
ألا هل إلى الدنيا معاد وهل لنا ... سوى البحر قبر أو سوى الماء أكفان
وهبنا رأينا معلم الأرض هل لنا ... من الأرض مأوى أو من الأنس عرفان
هوت أمهم ماذا هوت برجالهم ... إلى نازح الآفاق سفن وأظعان
كواكب إلا أن أفلاك سيرها ... زمام ورحل، أو شراع وسكان
فإن غربت أرض المغارب موئلي ... وأنكرني فيها خليط وخلان
فكم رحبت ارض العراق بمقدمي ... وأجزلت البشرى على خراسان
وإن بلاداً أخرجتني لعاطل ... وإن زماناً خان عهدي لخوان
سلام على الإخوان تسليم آيسٍ ... وسقياً لدهر كان لي فيه إخوان
فلا مؤنس إلا شهيق وزفرة ... ولا مسعد إلا دموع وأجفان
وما كان ذاك البين بين أحبة ... ولكن قلوب فارقتهن أبدان
فيا عجباً للصبر منا كأننا ... لهم غير من كنا وهم غير من كانوا
مضى عيشهم بعدي وعيشي بعدهم ... كأني قد خنت الوفاء وقد خانوا
وأفجع من آوى صفيح وجلمد ... ووازت رمال بالفلاة وكثبان
وجوه تناءت في البلاد قبورها ... وإنهم في القلب مني لسكان
وما بليت في الترب إلا تجددت ... عليها من القلب المفجع أحزان
ومنها:
وأوردتها يوم اللقاء فراته ... كما انصرفت يوم الهباءة ذبيانُ
بكل كمي عامري يسوقه ... لحر الوغى قبل على الدين حران
حليهم بيض الصوارم والقنا ... لها وحلاها سابغات وأبدان
فيا ذل أعلام الهدى يوم عزهم ... ويا عز أعلام الهدى بك إذ هانوا
حفرت لهم في يوم ثبر فبقنا ... قبوراً هواء الأرض منهن ملآن
يطير بهم بازٍ ونسرٌ وناعبٌ ... ويغدو بهم ذئبٌ رميحٌ وسرحانُ
فلو نشر الأملاك يومك فيهم ... لألقى إليك التاج كسرى وخاقان
ولو رد في المنصور روح حياته ... غداة لقيت الموت والموت غرثان
وناديت في الهيجاء أبناء ملكه ... فلباك آساد عبيد وفتيان
جبال إذا أرسيتها حومة الوغى ... وإن تدعها يوماً إليك فعقبان
يقودهم داع إلى الحق مجلب ... على البغي يرضى ربه وهو غضبان
وأسمر يسري في بحار من الندى ... بكفك لكن يغتدي وهو ظمآن
تلألأ نوراً من سناك سنانه ... وقد دعت الفرسان للحرب فرسان
فحياك من أحييت منه شمائلا ... يموت بها في الأرض ظلم وعدوان
وناداك إسراراً وناداك معلناً ... وحسب المعالي منه سر وإعلان
ألا هكذا فليحفظ العهد حافظ ... ألا هكذا فليخلف الملك سلطان

(1/189)


فلله ماذا أنجبت منك عامر ... ولله ماذا ناسبت منك قحطان
ولله منا أهل بيت رمتهم ... إلى يدك العليا بحور وبلدان
فما قصرت بي عن علاك شفاعة ... ولا بك عن مثلي جزاء وإحسان
وقوله من أخرى:
بشر الخيل يوم كر الطراد ... وظبا الهند عند حر الجلاد
وسماء العلا بنجم المساعي ... ورياض المنى بصوب الغوادي
ثم واف القصور من ملك بصرى ... بالمشيدات من ذرى شداد
ثم نادى الأذواء عن ذي الرياسا ... ت نداء يصغي له كل ناد
وصلتكم أرحام ملك نمتكم ... من كرام الأملاك والأجواد
وهناكم منصور كم من نجيب ... في مساع جلت عن الأنداد
بلغت مجدكم نجوم الثريا ... ومساعيكم أقاصي البلاد
ونما منكم إلى الملك سيف ... نافذ الحكم في رقاب الأعادي
بسمات أهدت لكم هدى هود ... وبحلم أعاد أحلام عاد
وأنارت به نجوم المعالي ... وأنار الدنيا ببيض الأيادي
وهو في المنجبين أعلى وأزكى ... والد أنت أكرم الأولاد
قمر في مطالع الملك أوف ... طالعاً والمنى على الميعاد
وتلاقت زهر النجوم عليه ... بسعود الجدود والأجداد
وسما للإسلام باسم أبيه ... وانتحى باسم جده للأعادي
هو للبين بالحياة بشير ... وهو للشرك منذر بالبواد
سابق الشأو لو يؤخر مداه ... عن مداكم تأخر الميلاد
ولدته الحروب منكم تماماً ... فارس الخيل فارس الآساد
فاكتسى الدين منه ثوب سرور ... وصليب الضلال ثوب حداد
فهيئاً للتاج أي جبين ... عنده أي عاتق للنجاد
وهنيئاً لنا وللدين والدن ... يا وللبيض والقنا والجياد
وغريب أن تهوي به كل أرض ... وشريد ينبو به كل وادي
وهنيئاً لطيءٍ ولهمدا ... ن ولخم وكندة وإياد
وله من أخرى يرثي بها أم هشام المؤيد بالله:
بقاء الخلائق رهن الفناء ... وقصر التداني وشيك التنائي
لقد حل من يومه لاقتراب ... وقد حان من عمره لانتهاء
هل الملك يملك ريب المنون ... أم العز يصرف صرف القضاء
أرى الموت يصدع شمل الجميع ... ويكسو الربوع ثياب العفاء
يبيد الحياة ببطش شديد ... ويلقي النفوس بداء عياء
ألم تر كيف استباحت يداه ... حريم الملوك وعلق النساء
هو الرزء أودى بعزم الملوك ... مصاباً وأودى بحسن العزاء
فما في العويل له من كفاء ... ولا في الدموع له من شفاء
فهيهات فيه غناء الزفير ... وهيهات فيه انتصار البكاء
وأنى يدافع سقم بسقم؟؟ ... وكيف يعالج داء بداء
فتلك مآقي جفون رواء ... مفجرة من قلوب ظماء
فلا صدر إلا حريق بنار ... ولا جفن إلا غريق بماء
فقد كاد يصدع صم السلام ... ويضرم نار الأسى في الهواء
وجيب القلوب وشق الجيوب ... وشجو النحيب ولهف النداء
فمن مقلة شرقت بالدموع ... ومن وجنة غرقت بالدماء
وسافرة من قناع الحياء ... ونابذة صبرها بالعراء
وبيض صبغن بلون الحدا ... د حمر البرود وبيض الملاء
أنجماً هوى من سماء المعالي ... لتبك عليك نجوم السماء
وحاشا لرزئك أن يقتضيه ... عويل الرجال ولدم النساء
لبيض أياديك في الصالحات ... تمسك وجه الضحى بالضياء

(1/190)


فقل لفقيدك أن يحتبي ... عليك الصباح بثوب المساء
ومنها:
لئن حجبت تحت ردم اللحود ... ومن قبل في شرفات العلاء
فتلك مآثرها في التقى ... وبذل اللهى ما بها من خفاء
جزاك بأعمالك الزاكيا ... ت خير المجازين خير الجزاء
ولقيت من ضنك ذاك الضريح ... نسيم النعيم وطيب الثواء
وقوله أيضاً:
لك الله بالنصر العزيز كفيل ... أجد مقام أم أجد رحيل
هو الفتح أما يومه فمعجل ... إليك، وأما صنعه فجزيل
وآيات نصر ما تزال ولم تزل ... بهن عمايات الضلال تزول
سيوف تنير الحق أني انتضيتها ... وخيل يجول النصر حيث تجول
ألا في سبيل الله غزوك من غوى ... وضل به في الناكثين سبيل
لئن صدئت ألباب قوم بمكرهم ... فسيف الهدى في راحتيك صقيل
فإن يحى فيهم مكر جالوت جدهم ... فأحجار داود لدي مثول
خفيف على ظهر الجواد إذا عدا ... ولكن على صدر الكمي ثقيل
وجرداء لم تبخل يداها بغاية ... ولا كرهاً نحو الطعان بخيل
لها من خوافي لقوة الجو أربع ... وكشحان من ظبي الفلا وتليل
وبيض تركن الشرك في كل منتأى ... فلولا وما أزري بهن فلول
تمور دماء الكفر في شفراتها ... ويرجع عنها الطرف وهو كليل
وأسمر ظمآن الكعوب كأنما ... بهن إلى شرب الدماء غليل
إذا ما هوى للطعن أيقنت أنه ... لصرف الردى نحو النفوس رسول
وحنانة الأوتار في كل مهجة ... تعاصيك أوتار لها وذحول
إذا نبعها عنها أرن فإنما ... صداه نحيب في العدى وعويل
كتائب عز النصر في جنباتها ... وكل عزيز يممته ذليل
يسير بها في البر والبحر قائد ... يسير عليه الخطب وهو جليل
جواد له من بهجة العز غرة ... ومن شيم الفضل المبين حجول
به أمن الإسلام شرقاً ومغرباً ... وغالت غوايات الضلالة غول
حسام لداء المكر والغدر حاسم ... وظل على الدين الحنيف ظليل
إذا انشق ليل الحرب عن صبح وجهه ... فقد حان من يوم الضلال أفول
كريم التأني في عقاب جناته ... ولكن إلى صوت الصريخ عجول
وأيقن باغٍ حتفه أن أمه وقدامه الليث الهصور هبول
وله أيضاً:
اليوم أبهجت المنى أبهاجها ... وتوسطت شمس الضحى أبراجها
ما للوزارة لا تضيء لنا وقد ... أضحى سراج العالمين سراجها
شمس تبدت في ذوائب يعرب ... ركبت إلى الرتب العلا معراجها
لم تنتقل قدماً لأول منزل ... للمجد حتى استقبلت منهاجها
أنجبته ذخر الخلافة إن شكت ... ألماً تضمن برءها وعلاجها
وسللته سيفهاً لكل ملمة ... يفري بأول ضربة أوداجها
فنظمت في جيد الوزارة عقدها ... وعقدت في رأس الرياسة تاجها
والخيل جانحة إليه كلما ... رفع اللواء وأوجفت أسراجها
يا قبلة للآملين وكعبةً ... تدعو بحي على الندى حجاجها
أنت الذي فرجت عني كربة ... لله قد شدت على رتاجها
وجلوت عن قلق المنى من ليلة ... طاولت في ظلم الأسى إدلاجها
وسقيتني من جود كفك منعماً ... كأساً وجدت من الحياة مزاجها
فلألبسن الدهر فيك ملابساً ... للحمد أحكم منطقي ديباجها
ما عاقب الليل النهار ورجعت ... ورق الحمائم بالضحى أهزاجها
وقوله من قصيدة أخرى:
دعيت فأصغ لداعي الطرب ... وطاب لك الدهر فاشرب وطبْ

(1/191)


فهذا بشير الربيع الجديد ... يبشرنا أنه قد قرب
بهار يروق بمسك ذكي ... وصبغٍ بديعٍ خلقٍ عجب
غصون الزبرجد قد أورقت ... لنا فضة نورت بالذهب
فمن حقها أن ترى الشاربين ... وقد نفقت سوقهم بالنخب
وأن تسألوا الله طول البقاء ... لعبد المليك مليك العرب
فلولا محاسنه لم ترق ... ولولا شمائله لم تطب
وقوله:
ألم تعلمي أن الثواء هو النوى ... وأن بيوت العاجزين قبور
ولم تزجري طير السرى بحروفها ... فتنبيك إن يمن فهو سرور
يخوفني طول السفار وإنه ... لتقبيل كف العامري سفير
ذريني أرد ماء المفارز آجناً ... إلى حيث ماءُ المكرمات نمير
وأختلس الأيام خلسة فاتك ... إلى حيث لي من عدوهن خفير
فإن خطيرات المهالك ضمن ... لراكبها أن الجزاء خطير
ولما تدانت للوداع وقد هفا ... بصبري منها أنة وزفير
تناشدني عهد المودة والهوى ... وفي المهد مبغوم النداء صغير
عيي بمرجوع الخطاب، ولفظه ... بموضع أهواء النفوس خبير
تبوأ ممنوع القلوب، ومهدت ... له أذرع محفوفة ونحور
عصيت شفعي النفس فيه وقادني ... رواح لتدآب السرى وبكور
وطار جناح البين بي وهفت بها ... جوانح من ذعر الفراق تطير
ِلئن وعت مني غيوراً فإنني ... علىَّ ورقراق السراب يمور
أسلط حر الهاجرات إذا سطا ... على حر وجهي، والأصيل هجير
وأستنشق النكباء وهي نوازحٌ ... وأستمطئ الرمضاء وهي تفور
وللموت في عين الجبان تلون ... وللذعر في سمع الجريء صفير
ولو شاهدتني والسرى جل عزمتي ... وجرسي لحنان الفلاة سمير
وأعتسف الموماة في غسق الدجا ... وللأُسْد في غيل الغياض زئير
وقد خليت طرق المجرة أنها ... على مفرق الليل البهيم قتير
ودارت نجوم القطب حتى كأنها ... كؤوس طلا والى بهن مدير
لقد أيقنت أن المنى طوع همتي ... وأنّى بعطف العامري جدير
وأنّى بذكراه لهمي زاجر ... وأنى منه للخطوب نذير
تلاقت عليه من تميم ويعرب ... شموس تلالا في العلا وبدور
من الحميريين الذين أكفهم ... سحائب تهمى بالندى وبحور
هم صدقوا بالوحي حين أتاهم ... وما الناس إلا عابد وكفور
هم صدقوا بالوحي حين أتاهم ... وما الناس إلا عابد وكفور
مناقب يعيا الوصف عن كنه قدرها ... ويرجع عنها الوهم وهو حسير
ألا كل مدح عن نداك مقصر ... وكل رجاء في سواك غرور
ولما تراءوا للسلام ورُفعتْ ... عن الشمس في أفق الشروق ستور
وقد قام من زرق الأسنة دونه ... صفوف ومن بيض السيوف سطور
رأوا طاعة الرحمن كيف اعتزازها ... وآيات صنع الله كيف تنير
وكيف استوى بالبدر والبحر مجلس ... وقام بعبء الراسيات سرير
يقولون والأوجال تخرس ألسناً ... وحارت عيون منهم وصدور
لقد حاط أعلام الهدى بك حائطٌ ... وقدر فيك المكرمات قدير
ومنها:
أثرني لخطب الدهر والدهر معضلٌ ... وكِلني لليث الغاب وهو هصورُ
وقد تخفض الأسماء وهي سواكن ... ويعمل في الفعل الصحيح ضمير
وتنبو الردينيات والطول وافر ... ويبعد وقع السهم وهو قصير
وقوله من أخرى:

(1/192)


أوجعت خيلي في الهوا وركابي ... وقذفت نبلي في الصبا وحرابي
وسللت في سبل الغواية صارماً ... عضباً ترقرق فيه ماء شبابي
ورفعت للشوق المبرح رايةً ... خفاقة بهزائج الأطراب
ولبست للوام لأمة خالع ... مسرودة بصبابة وتصابي
وبرزت للشكوى بشكة معلم ... نكص الملام بها على الأعقاب
فاسأل كمي الوجد كيف أثرته ... بغروب دمع صائب التكساب
واسأل جنود العذل كيف لقيتها ... في جحفل البرحاء والأوصاب
وقلد كررت على الملام بزفرة ... ذهل العتاب بها في الإعتاب
حتى تركت العاذلين لما بهم ... شغفاً بحب التاركيَّ لما بي
من كل ممنوع اللقاء اغتاله ... صرف النوي فنأى به ودنا بي
حتى افتتحت على الأحبة معقلاً ... وعر المسالك مقفل الأبواب
ووقفت موقف عاشق حلت له ... فيه غنيمة كاعب وكعاب
بحدائق الحدق التي أفنينني ... بأحد من سيفي ومن نشابي
في روضة جاد النعيم نباتها ... فتفتحت بكواعب أتراب
من كل مغنوم لقلبي غانم ... عشقاً ومسبي لعقلي سابي
في جنح ليل كالغراب أطار لي ... عن ملتقى الأحباب كل غراب
وجلا لعيني كل بدر طالع ... قمنٍ بهتك حجابه وحجابي
جاب الظلام فلم يدع من دجنه ... إلا غدائر شعره المنجاب
فظللت بين صبابة وظلامة ... مغري الجفون بطرفه المغري بي
فإذا كتبت بناظري في قلبه ... أخفى فخطّ بناظريه جوابي
وإذا سقاني من عقار جفونه ... أبقى علي فشجها برضاب
وسلافة الأعناب توقد نارها ... تهدي إلي بيانع العناب
فسكرت والأيام تسلب جدتي ... والدهر ينسج لي ثياب سلابي
سكرين من خمر كأن خمارها ... فقد الشباب وفرقة الأحباب
لمدى تناهى في الغواية فانتهى ... فينا إلى أجل له وكتاب
ومنها:
وشملتني بشمائل أذكرنني ... في طيبها طوبى وحسن مآب
ورضاك رد لي الرضا في أوجه ... من جور أيام علي غضاب
وهداك أشرق لي وليلي مظلم ... وسناك أبرق لي وزندي كابي
فحللت منه خير دار مقامة ... وثويت منه في أعز رحاب
وأسمت في أزكى البقاع صوافني ... وضربت في أعلى البقاع قبابي
وشويت للأضياف لحم ركائبي ... في نار أحلاسي وفي أقتابي
ولقد كسوت برغم دهر ضامني ... ما أخلقت عصراه من أثوابي
وقوله يصف الهلال:
وَمَحَقَ الشهرُ كمالَ البدرِ ... فلاحَ في أولى الصباح النضرِ
كأنه قرطٌ بأذن الفجرِ
الباب العاشر
في ذكر شعراء الموصل وغرر أشعارهم
فمنهم
السري بن أحمد الكندي
السري وما أدراك من السري؟ صاحب سر الشعر. الجامع بين نظم عقود الدر، والنفث في عقد السحر، ولله دره ما أعذب بحره، واصفى قطره، وأعجب أمره! وقد أخرجت من شعره ما يكتب على جبهة الدهر، ويعلق في كعبة الفكر. فكتبت منه محاسن وملحاً، وبدائع وطرفاً، كأنها أطواق الحمام، وصدور البزاة البيض، وأجنحة الطواويس، وسوالف الغزلان، ونهود العذارى الحسان، وغمزات الحدق الملاح، وبدأت بصدر من أخباره، وبطرف لأشعاره.
بلغني أنه أسلم صبياً في الرفائين بالموصل، فكان يرفو ويطرز إلى أن قضى باكورة الشباب،وتكسب بالشعر. ومما يدل على ذلكما قرأته بخطه، وذكر أن صديقاً له كتب إليه يسأله عن خبره وهو بالموصل في سوق البزازين يطرز، فكتب إليه:
يكفيك من جملة أخباري ... يسري من الحب وإعساري
في سوقة أفضلهم مرتد ... نقصاً، ففضلي بينهم عاري
وكانت الإبرة فيما مضى ... صائنة وجهي وأشعاري

(1/193)


فأصبح الرزق بها ضيقاً ... فكأنه من ثقبها جاري
وهذه الأبيات ليست في ديوان شعره الذي في أيدي الناس، وإنما هي في مجلدة بخط السري استصحبها أبو نصر سهل بن المرزبان من بغداد، وهي عنده الآن، وكل خبر عندنا من عنده.
ولماجد اسري في خدمة الأدب وانتقل عن تطريز الثياب، إلى تطريز الكتاب،فشعر بجودة شعره، ونابذ الخالديين الموصليين وناصبهما العداوة، وادعى عليهما سرقة شعره وشعر غيره، وجعل يورق وينسخ ديوان شعر أبي الفتح كشاجم، وهو إذ ذاك ريحان أهل الأدب بتلك البلاد، والسري في طريقه يذهب، وعلى قالبه يضرب، وكان يدس فيما يكتبه من شعره أحسن شعر الخالديين، ليزيد في حجم ما ينسخه، وينفق سوقه، ويغلي سعره، ويشنع بذلك على الخالديين، ويغض منهما، ويظهر مصداق قوله في سرقتهما، فمن هذه الجبهة وقعت في بعض النسخ من ديوان كشاجم زيادات ليست في الأصول المشهورة منها، وقد وجدتها كلها للخالديين بخط أحدهما، وهو أبو عثمان سعيد ابن هاشم. في مجلدة أتحف بها الوراق المعروف بالطرسوسي ببغداد أبا نصر سهل بن المرزبان وأنفذها إلى نيسابور في جملة ما حصل عليه من طرائف الكتب باسمه، ومنها وجدت الضالة المنضودة من شعر الخالدي المذكور وأخيه أبي بكر محمد بن هاشم، ورأيت فيها أبياتاً كتبها أبو عثمان لنفسه، وأخرى كتبها لأخيه، وهي بأعيانها للسري بخطه في المجلدة المذكورة لأبي نصر، فمنها أبيات في وصف الثلج واستهداء النبيذ:
يا من أنامله كالعارض الساري ... وفعله أبداً عار من العار
أما ترى الثلج قد خاطت أنامله ... ثوباً يزر على الدنيا بأزرار
نار ولكنها ليست بمبدية ... نوراً، وماءٌ ولكن ليس بالجاري
والراح قد أعوزتنا في صبيحتنا ... بيعاً ولو وزن دينار بدينار
فامنن بما شئت من راح يكون لنا ... ناراً فإنا بلا راح ولا نار
ومن قوله أيضاً:
ألذ العيش إتيان الصبيح ... وعصيان النصيحة والنصيحِ
وإصغاءٌ إلى وتر ونايٍ ... إذا ناحا على زق جريح
غداة دجنة وطفاء تبكي ... إلى ضحك من الزهر المليح
وقد حديت قلائصها الحيارى ... بحاد من رواعدها فصيح
وبرق مثل حاشيتي رداء ... جديد مذهب في يوم ريح
هكذا بخط السري، والذي بخط الخالدي حاشيتي لواء، ولست أدري أأنسب هذه الحال إلى التوارد أم إلى المصالتة، وكيف جرى الأمر فبينهم مناسبة عجيبة، ومماثلة قريبة في تصريف أعنة القوافي وصياغة حلى المعاني.
وأنا أجعل فصلاً لشعر السري في ذكر سرقتهما منه وغارتهما عليه، ثم أسوق غرر الخالديين مع نبذ من أخبارهما إذا فرغت من قضاء حق السري بإذن الله تعالى ومشيئته.
ولم يزل السري في ضنك من العيش إلى أن خرج إلى حلب واتصل بسيف الدولة، واستكثر من المدح له، فطلع سعده بعد الأفول، وبعد صيته بعد الخمول، وحسن موقع شعره عند الأمراء من بني حمدان ورؤساء الشام والعراق. ولما توفي سيف الدولة ورد السري بغداد، ومدح المهلبي الوزير وغيره من الصدور، فارتفق بهم، وارتزق معهم، حسنت حاله، وسار شعره في الآفاق ونظم حاشيتي الشام والعراق، وسافر كلامه إلى خراسان وسائر البلدان، وكنت أحسب أنني استغرقت شعره لجمعي فيه بين لمع أنشدنيها وأنسخنيه أبو بكر الخوارزمي أولاً، وبين ديوان شعره المجلوب من بغداد، وهو أول ما رأيته مما أنفذه أبو عبد الله محمد بن حامد الخوارزمي من بغداد، إلى أبي بكر وبين المجلدة بخط السري التي وقعت إلي من جهة أبي نصر وفيها زيادات كثيرة على ما في الديوان. فقرأت في كتاب الوساطة للقاضي أبى الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني أبياتاً أنشدها للسري في جملة ما أنشده لأكابر الشعراء مما يتضمن الاستعارة الحسنة مع إحكام الصنعة. وعذوبة اللفظ، وهي:
أقول لحنّان العشاء المغرّد ... يهز صفيح البارق المتوقد
تبسم عن ري البلاد صبيبه ... ولم يبتسم إلا لإنجاز موعد
ومنها:
ويا ديرها الشرقي لا زال رائح ... يحل عقود المزن فيك ومغتدى
عليلة أنفاس الرياح كأنما ... يعل بماء الورد نرجسها الندى

(1/194)


يشق جيوب الورد في شجراتها ... نسيم متى ينظر إلى الماء يبرد
فأعجبت جداً بها وتعجبت منها،وتأسفت على ما فاتني من أخواتها من هذه القصيدة وغيرها، ثم قرأت في كتاب تفسير ابن جني لشعر المتنبي بيتاً واحداً أنشده السري من قصيدة، وذكر أنه أخذه من قول المتنبي:
سقاك وحيانا بك الله، إنما ... على العيس نور والخدود كمائمه
وهو:
حيا بك الله عاشقيك فقط ... أصبحت ريحانة لمن عشقا
فكدت أقضي بأني لم أسمع في معناه أظرف منه ولا ألطف ولا أعذب ولا أخف، وطلبت القصيدتين فعزتا وأعوزتا،وعلمت أن الذي حصلت من شعره غيض من فيض ما لم يقع إلي.
ولما وجدت السري أخذ جديد القميص في حسن السرقة وجودة الأخذ من الشعر كسره هذا الفصل على ذكر سرقاته: قال السري من قصيدة في سيف الدولة وذكر بعض غزواته:
طلعت على الديار وهم نبات ... وأغمدت السيوف وهم حصيد
فما أبقيت إلا مخطفات ... حماها الخصر منها والنهود
وكرر هذا المعنى فقال:
أفنت ظباك الروم حتى إنها ... لم تبق إلا ظبية أو ريما
وإنما سرقه من قول المتنبي:
فلم يبق إلا من حماها من الظبا ... لمى شفتيها والثدي النواهد
وقال السري من قصيدة:
حييت من طلل أجاب دثوره ... يوم العقيق سؤال دمع سائل
يخفي وينزل وهو أعظم حرمةً ... من أن يذال براكب أو ناعل
وهو من قول المتنبي:
نزلنا على الأكوار نمشي كرامة ... لمن بان عنه أن نلم به ركبا
وفي قصيدة السري:
فالدهر يمسح منه غرة سابق ... لاقاه أول سابقين أوائل
وهو من قول مروان بن أبي حفصة:
مسحت معدٌ وجه معنٍ سابقاً ... لما جرى وجرى ذوو الأحساب
وقال السري من قصيدة وذكر الخيال:
وافى يحقق لي الوفاء ولم يزل ... خدن الصبابة بالوفاء حقيقا
ومضى وقد منع الجفون خفوقها ... قلب لذكرك لا يقر خفوقا
فالتجنيس أخذه من قول التنوخي:
يفديك قلب خافق ... أبداً وطرف ما خفق
واللفظ من قول ابن المعتز:
ما بال قلبك لا يقر خفوقا
وقال السري من قصيدة:
نضت البراقع عن محاسن روضة ... ريضت بمحتفل الحيا أنوارها
فمن الثغور المشرفات لجينها ... ومن الخدود المذهبات نضارها
أغصان بانٍ أغربت في حملها ... فغرائب الورد الجني ثمارها
وهو من قول ابن الرومي:
غصون بان عليها الدهر فاكهة ... وما الفواكه مما يحمل البان!
وقال السري:
تلك المكارم لا أرى متأخراً ... أولى بها منه ولا متقدما
عفو أظل ذوي الجرائم كلهم ... حتى لقد حسد المطيع المجرما
وهو من قول أبي تمام:
وتكفل الأيتام عن آبائهم ... حتى وددنا أننا أيتام
والأصل فيه قول أبي دهبل الجمحي:
ما زلت في العفو للذنوب وإط ... لاقٍ لعانٍ بجرمه غلقِ
حتى تمنى البراء أنهم ... عندك أضحوا في القد والحلقِ
وقال السري من قصيدة:
إذا ذكر العقيق لنا نثرنا ... عقيق الدمع سحاً وانهمالا
طلول كلما حاولن سقياً ... سقتها العين أدمعها سجالا
تحن جمالنا هوناً إليها ... فأحسبها ترى منها جمالا
ونسأل من معالمها محيلاً ... فنطلب من إجابتها محالا
وهو من قول ديك الجن:
قالوا السلام عليك يا أطلالُ ... قلت السلام على المحيل والمحالُ
وقال السري من قصيدة يتشوق بها بني فهد:
تناؤوا ولما ينصرم عزهم ... وحاشا لذاك الحبل أن يتصرما
فشرق منهم سيد ذو حفيظة ... وغرب منهم سيد فتشأما
كأن نواحي الجو تنثر منهم ... على كل فج قاتم اللون أنجما
وهو من قول الشاعر:
رمى القفر بالفتيان حتى كأنهم ... بأقطار آفاق البلاد نجومُ
وقال من قصيدة:
تناهى فاطمأن إلى العاب ... وأحسن للعواذل في الخطاب

(1/195)


وصار جنيب غصن غير رطب ... وكان جنيب أغصان رطاب
خلت منه ميادين التصابي ... وعرى منه أفراس الشباب
وزهده خضاب الله لما ... تولى عنه في زور الخضاب
وإنما أخذ مصراع البيت الثالث من قول زهير:
وعزي أفراس الصبا ورواحله
وذكر في خضاب الله في البيت الرابع، وهو من قول أبي تمام:
ورأت خضاب الله وهو خضابي
وفي قصيدة السري:
وكنت كروضة سقيت سحاباً ... فأثنت بالنسيم على السحاب
وهو من قول المتنبي:
وذكي رائحة الرياض كلامها ... تبغي الثناء على الحيا فيفوح
والأصل فيه قول ابن الرومي:
شكرت نعمة الولي على الوس ... ميِّ ثم العهاد بعد العهاد
فهي تثني على السماء ثناءً ... طيب النشر شائعاً في البلاد
وقال السري من قصيدة:
ليالينا بأحياء الغميم ... سقيت ذهاب مذهبة الغيومِ
مضت بك رأفة الأيام فينا ... وغفلة ذلك الزمن الحليم
فكنا منك في جنات عيشٍ ... وَفَتْ حسناً بجنات النعيم
رياض محاسن وسنا شموسٍ ... وظل دساكر وجنى كروم
وأجفان إذا لحظت جسوماً ... جعلن سقامهن على الجسوم
وإنما أخذ هذا المثال من قول أبي تمام:
فيا حسن الرسوم وما تمشى ... إليها الدهر في صور البعادِ
وإذ طير الحوادث في براها ... سواكن وهي غنَّاء المراد
مذاكي حلبةٍ وشروب دجنٍ ... وسامر قينةٍ وقدور صادِ
وأعين ربربٍ كحلتْ بسحرٍ ... وأجسادٌ تضمخُ بالجساد
وممن أخذ هذا المثال مع ركوب هذه القافية القاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني حيث قال من قصيدة:
وأجفان تروي كل شيءٍ ... سوى قلب إلى الأحباب صادي
بذاك جزيت إذ فارقت قوماً ... لبست لبينهم ثوبي حداد
معادن حكمة وغيوث جدب ... وأنجم حيرةٍ وصدور نادي
وقال السري من قصيدة:
ترتع حولي الظباء آنسةً ... نظائراً في الجمال أشباها
رقت عن الوشى نعمة فإذا ... صافح منها الجسوم وشّاها
وهو من قول المتنبي:
حِسان التثني ينقش الوشى مثله ... إذا مِسْن في أجسامهن النواعمِ
وقال من أبيات:
وأغيدَ مهتزٍّ على صحن خدِّهِ ... غلائل من صبغ الحياء رقاقُ
أحاطت عيون العاشقين بخصره ... فهنّ له دون النطاق نطاق
وهو أيضاً من قول المتنبي:
وخصر تثبت الإحداق فيه ... كأن عليه من حدق نطاقا
وكتب إلى صديق له قد اتهمه بغلام بعثه إليه في حاجة:
أبا بكر أسأت الظن فيمن ... سجيَّيتُهُ التمنع والخلافُ
وخفت عليه في الخلوات مني ... ولم تك بيننا حالٌ تخاف
جفوت من الصبا وما ليس يُجفى ... وعفت من الهوى ما لا يعاف
فلو أني هممت بقبح فعلٍ ... لدى الإغفاء أيقظني العفاف
وإنما أخذه من قول أبي الحسن بن طباطبا:
ماذا يعيب الناس من رجلٍ ... خلص العفاف من الأنام له
يقظاته ومنامه شرعٌ ... كل بكلٍّ منه مشتبه
إن هم في حلم بفاحشة ... زجرته عفته فينتبه
وقال السري من أبيات لصديق له أهدى إليه ماء ورد فارسي في قارورة بيضاء مزينة بقراطيس مذهبة:
بعثت بها عذراء حالية النحر ... مشهرة الجلباب حورية النحر
مضمنة ماء صفا مثل صفوها ... فجاءت كذوب التبر في جامد الدر
ينوب بكفي عن أبيه وقد مضى ... كما نبت عن آبائك السادة الغر
وإنما هو عكس قول المتنبي:
فإن يك سيار بن مكرم انقضى ... فإنك ماء الورد إن ذهب الورد
وقال من قصيدة في سيف الدولة:
لما تراءى لك الجمع الذي نزحت ... أقطاره ونأت بعداً جوانبه
تركتهم بين مصبوغٍ ترائبه ... من الدماء ومخضوب ذوائبه

(1/196)


فحائر وشهاب الرمح لاحقه ... وهارب وذباب السيف طالبه
يهوي إليه بمثل النجم طاعنه ... وينتحيه بمثل البرق ضاربه
يكسوه من دمه ثوباً ويسلبه ... ثيابه فهو كاسيه وسالبه
وهو من قول البحتري:
سلبوا وأشرقت الدماء عليهم ... محمرة فكأنهم لم يسلبوا
وقال السري من قصيدة في سيف الدولة، وذكر العدو:
تروع أحشاءه بالكتب وهولها ... خوف الردى ورجاء السلم مستلم
لا يشر الماء إلا غص من حذرٍ ... ولا يهوم إلا راعه الحلم
وهو من قول أشجع السلمي:
فإذا تنبه رعته، وإذا غفا ... سلَّت عليه سيوفك الأحلام
وقال من قصيدة:
وقفنا نحمد العبرات لما ... رأينا البين مذموم السجايا
كأن خدودهن إذا استقلت ... شقيق فيه من طل بقايا
وهو من قول الناشئ الأوسط:
كأن الدموع على خدها ... بقية طل على جلنار
وقال من قصيدة في مرثية أم أبي تغلب:
تذال مصونات الدموع إزاءها ... ونمشي حفاة حولها الرجل والركب
تساوت قلوب الناس في الحزن إذ ثوت ... كأن قلوب الناس في موتها قلب
ومصراع البيت الأول من قول المتنبي:
مشى الأمراء حوليها حفاة
والبيت الثاني من قول ابن الرومي:
سلالة نورٍ ليس يدركها اللمس ... إذا ما بدا أغضى له البدر والشمسُ
به أضحت الأهواء بجمعها هواً ... كأن نفوس الناس في حبه نفس
ولأبي بكر الخالدي في الأخذ منه:
وبدر دجى يمشي به غصن رطبُ ... دنا نوره لكن تناوله صعبُ
إذا ما بدا أغرى به كل ناظرٍ ... كأن قلوب الناس في حبه قلب
وقال السري من قصيدة:
أيام لي في الهوى العذري مأربةٌ ... وليس لي في هوى العذال من أرب
سقى الغمام رُباها دمع مبتسمٍ ... وكم سقاها التصابي دمع مكتئبِ
وردد هذا المعنى فقال:
ولما اعتنقنا خلْتُ أن قلوبنا ... تناجي بأفعال الهوى وهي تخفقُ
هي الدار لم يخلِ الغمام ولا الهوى ... معالمها من عبرةٍ تترقرق
وهو من قول أبي تمام:
دمنٌ طالما التقت أدمع المز ... ن عليها وأدمع العشاقِ
وفي قصيدة السري:
وطوّقت قوماً في الرقاب صنائعاً ... كأنهم منها الحمام المطوقُ
وهو من قول المتنبي:
أقامت في الرقاب له أيادٍ ... هي الأطواق والناس الحمامُ
وللسري من قصيدة في سيف الدولة:
تبسم برق الغيم فاختال لامعاً ... وحل عقود الغيث فارفض هاملا
فقلت عليٌّ منك أعلى صنائعاً ... إذا ما رجوناه وأرجى مخايلا
وإنما نسج فيه على منوال البحتري فقال:
قد قلت للغيم الركام ولج في ... إبراقه وألح في إرعاده
لا تعرضن لجعفرٍ متشبهاً ... بندى يديه فلست من أنداده
وقال السري من قصيدة:
قامت تميل للعناق مقوماً ... كالخوط أبدع في الثمار وأغربا
حملت ذاره الأقحوان مفضضاً ... يسقي المدامة والشقيق مذهَّبا
وأبت وقد أخذ النقاب جمالها ... حركات غصن البان أن تتنقبا
وهو من قول أبي تمام:
أرخت خماراً على الفرعين وانتقبت ... للناظرين بقدٍّ ليس ينتقب
وقال السري في وصف شعره:
وغريبةٍ تجري عليك رياحها ... أرجاً إذا لفحت عدوك نارها
ممن له غرر الكلام تفتحت ... أبوابها وترفعت أستارها
تجري وتطلبه عصاب قصرت ... عن شأوها فقصارها إقصارها
فتعيش بعد مماته أشعاره ... وتموت قبل مماتها أشعارها
وهو من قول دعبل:
يموت رديء الشعر من قبل أهله ... وجيده يبقى وإن مات قائله
وقال من قصيدة:
صادق البشر يرى ماء الندى ... يرتقي في وجهه أو ينحدرْ
قلت إذ برز سبقاً في العلا ... أإلى المجد طريق مختصر؟
وهو من قول البحتري:

(1/197)


ما زال يسبق حتى قال حاسده ... له طريق إلى العلياء مختصرُ
وفي قصيدة السري:
قد تقضى الصوم محموداً فعدْ ... لهوىً يحمد أو راجٍ يسرْ
أنت والعيد الذي عاودته ... غرّتا هذا الزمان المعتكر
لذ فيك المدح حتى خلته ... سمراً لم اشق فيه بسهر
وهو من قول ابن الرومي:
يا مسرعاً كان لي بلا كدر ... يا سمراً كان لي بلا سهر
وقال من قصيدة ذكر فيها جراحاً نالته في بعض أسفاره:
نوبٌ لو علت شماريخ رضوى ... أوشكت أن تخر منهن هدّا
عرضتني على الحسام فأضحى ... كل عضو مني لحديه غمدا
وكست مفرقي عمامة ضربٍ ... أرجوانية الذوائب تندى
وهو من قول ابن المعتز:
ألا رب يوم قد كسوكم عمائما ... من الضرب في الهامات حمر الذوائبِ
وقال السري من قصيدة في المهلبي الوزير:
وأرى العدو نقيصة في عمره ... وأرى الصديق زيادة في حالِهِ
بوقائع للبأس في أعدائه ... ووقائع للجود في أمواله
عذلوه في الجدوى ومن يثني الحيا ... أم من يسد عليه طرق سجاله
وهو من قول المتنبي:
وما ثناك كلام الناس عن كرمٍ ... ومن يسد طريق العارض الهطل؟!
وقال من قصيدة في وصف طير الماء:
وآمنة لا الوحش يذعر سربها ... ولا الطير منها داميات المخالب
هي الروض لم تنش الخمائل زهره ... ولا اخضل عن دمع المزن ساكب
إذا انبعثت بين الملاعب خلتها ... زرابي كسرى بثها في الملاعب
وهو من قول ابن الرومي:
زرابي كسرى بثها في صحونه ... ليحضر وفداً أو ليجمع مجمعاً
وفي قصيدة السري:
وإن آنستْ شخصاً من الناس صرصرت ... كما صرصرت في الطرس أقلام كاتب
وهو من قول أبي نواس:
كأنما يصفرن عن ملاعقٍ ... صرصرة الأقلام في المهارق
وقال في وصف رقاص:
إذا اختلجت مناكبه لرقصٍ ... نزتْ طير القلوب إليه نزوا
أفارس أنت أحسن من تثنى ... على صنجٍ وأملح من تلوى
وهو من قول الصنوبري:
فمن متلوٍّ على نايهِ ... ومن متثنٍّ على صنجهٍ
وقال من قصيدة في سيف الدولة:
يكاهل الملك سيف الدولة أطَّأدتْ ... قواعد الدين واشتدت كواهله
من الرماح وإن طالت مخاصره ... كما الدروع وإن أوهت غلائله
وهو من قول البحتري:
ملوك يعدون الرماح مخاصراً ... إذا زعزعوها والدروع غلائلا
وقال في وصف السحاب والبرق من قصيدة:
وعارض أكلأ فيه بارقاً ... كالنار شبت في ذرى طودٍ أشم
كأنّه نشوان جرَّ ذيله ... فكلما ريع انتضى عضباً خذم
وهو من قول ابن المعتز:
كأن الرَّباب الجون دون سحابه ... خليعٌ من الفتيان يسحب مئزرا
إذا أدركته روعةٌ من ورائه ... تلفَّت واستل الحسام المذكرا
وفي قصيدة السري:
ورب يوم تكتسي البيض به ... لوناً فتكسو لونها سود اللمم
وهو من قول المتنبي:
واستعار الحديد لوناً وألقى ... لونه في ذوائب الأطفال
وقال من قصيدة:
وأنا الفداء لمرغمٍ في العدى ... إذ زارني وهناً على عدوائه
قمرٌ إذا ما الوشي صين أذاله ... كيما يصون بهاءه ببهائه
وهو من قول المتنبي:
لبسن الوشى لا متجملاتٌ ... ولكن كي يصن به الجمالا
وفي قصيدة السري:
ضعفت معاقد خصره وعهوده ... فكأن عقد الخصر عهد وفائه
واللفظ من قول ابن المعتز:
وشادن ضعيف عقد الخصر:
وقال السري من قصيدة:
حَلِيَّةٌ وثناياه وعنبره ... كلٌّ ينمُّ عليه أو يراقبه
فلست أدري إذا ما سار في أفقٍ ... شمائل الأفق أذكى أم جنائبه
سرى من الخيف يخفي البدر منتقباً ... والبدر يأنف أن تخفي مناقبه
وإنما ألم فيه بقول كشاجم:

(1/198)


بأبي وأمي زائرٌ متقنع ... لم يخف ضوء البدر تحت قناعه
وقال في وصف القلم من قصيدة في أبي إسحاق الصابي:
وفتىً إذا هز اليراع حسبته ... لمضاء عزمته يهز مناصلا
من كل ضافي البرد ينطق راكباً ... بلسان حامله ويصمت راجلا
وهو من قول أبي تمام:
فصيحٌ إذا استنطقته وهو راكبٌ ... وأعجم إن خاطبته وهو راجل
وقال السري من قصيدة:
الغيث والليث والهلال إذا ... أقمر: بأساً وبهجةً وندى
ناسٍ من الجود ما يجود به ... وذاكرٌ منه كل ما وعدا
وهو من قول الشاعر:
رأيت يحيى أدام الله بهجته ... يأتي من الجود ما لم يأته أحدُ
ينسى الذي كان من معروفه أبداً ... إلى الرجال ولا ينسى الذي يعد
وقال من قصيدة:
بعيدٌ إذا رمت إدراكه ... وإن كان في الجود سهلاً قريبا
ضرائب أبدعتها في السماح ... فلسنا نرى لك فيها ضريبا
وهو من قول البحتري:
بلونا ضرائب من قد نرى ... فما إن رأينا لفتح ضريبا
وقال من قصيدة:
فتىً شرع المجد المؤثّل:فالعلا ... مآربه، والمكرمات شرائعُهْ
إذا وعد السراء أنج وعده ... وإن أوعد الضراء فالعفو مانعه
وهو من بيت تشتمل عليه قصة حكاها المبرد عن أبي عثمان المازني، قال: حدثني محمد بن مسعر، قال: جمعنا بين أبي عمرو بن العلاء وعمر بن عبيد في مسجدنا، فقال له أبو عمرو: ما الذي يبلغني عنك في الوعيد؟ فقال: إن الله وعد وعداً وأوعد إيعاداً فهو منجز وعده ووعيده، فقال له أبو عمرو: إنك أعجمي ولا أعني لسانك، ولكن فهمك، إن العرب لا تعد ترك الإيعاد ذما، وتعده مدحاً، ثم أنشد:
وما يرهب ابن العم ما عشت صولتي ... وما أختشي من صولة المتوعدِ
وإني إذا أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
فقال له عمرو: أفليس يسمى تارك الإيعاد مخلفاً؟ قال: بلى، قال: أفتسمي الله مخلفاً إذا لم يفعل ما أوعد؟ قال: فقد أبطلت شاهدك.
وقال السري من أبيات:
لحظت عزمتي العراق فسلَّتْ ... همتي للرحيل سيف اعتزامي
فسلامٌ على جنابك والمن ... هل والظل والأيادي الجسام
وهو من قول البحتري:
فسلام على جنابك والمن ... هل فيه وربعك المأنوسِ
حيث فعل الأيام ليس بمذمو ... مٍ ووجه الزمان غير عبوس
وقال في وصف أشعاره:
خلعٌ غضة النسيم غذاها ... صفو ماء العلوم والآداب
فهي كالخرد الأوانس يخلط ... ن شماس الصبا بأنس التصابي
رقة فوق رقة الحضر تبدي ... فطنةٌ فوق فطنة الأعراب
وهو من قول الطائي:
لا رقة الحضر اللطيف عدتهمُ ... وتباعدوا عن فطنة الأعراب
وقال السري من قصيدة:
ألبستني النعمى التي غيرن لي ... ود الصديق فعاد منها حاسدا
فتلبسن بها الثناء مسيراً ... ومخلداً مادام يذبل خالدا
والبيت الأول من قول البحتري:
وألبستني النعمى التي غيرت أخي ... علي فأمسى نازح الود أجنبا
وقد أخذت بطرف من ذكر سرقاته، ولا بأس أن أورد بعض ما كرره من معانيه، فما منها إلا بارع رائع، وإنما كررها إعجاباً بها واستحساناً لما اخترعه منها.
ذكر ما تكرر من معانيه قال من أبيات في الاستزارة:
ألست ترى ركب الغمام يساق ... وأدمعه بين الرياض تراق
ورقت جلابيب النسيم على الثرى ... ولكن جلابيب الغيوم صفاق
وقال في معناه:
راح الغمام به صفيقاً شربه ... وغدا به ثوب النسيم رقيقا
وقال في قريب منه:
فهواؤه سكب الردا ... ء وغيمه جافي الإزار
وقال من تلك الأبيات:
وذو أدب جلت صنائع كفه ... ولكن معاني الشعر منه دقاق
وقال في معناه:
أعلي كم نعم منحت جليلة ... منحتك معنى في الثناء دقيقاً

(1/199)


يلقى الندم برقيق وجهٍ مسفرٍ ... إذا التقى الجمعان عاد صفيقاً
رحب المنازل ما أقام فإن سرى ... في جحفل ترك الفضاء مضيقاً
وقال في معناه:
فطوراً لكم في العيش رحب منازلٍ ... وطوراً لكم بين السيوف زحام
وقال يمدح:
فلتشكرنك دولة جددتها ... فتجددت أعلامها ومنارها
حليتها وحميت بيضة ملكها ... فغرار سيفك سورها وسوارها
وقال في معناه:0
تحلى الدين أو تحمي حماه ... فأنت عليه سور أو سوار
وقال:
نشر الثناء فكان من إعلانه ... وطوى الوداد فكان من أسرارهِ
كالنخل يبدي الطلع من أثماره ... حيناً ويخفي الغض من جُمّارهِ
وقال في معناه:
أصبحت أظهر شكراً عن صنائعه ... وأضمر الود فيه أي إضمارِ
كيانع النخل يبدي للعيون ضحىً ... طلعاً نضيداً ويخفي غض جمّارِ
وقال في وصف الشمع:
أعددت لليل إذا الليل غسق ... وقيد الألحاظ من دون الطرق
قضبان تبر عريت عن الورق ... شفاؤها إن مرضت ضرب العنق
وقال في معناه:
فرّجتها بصحائح إن تعتلل ... فلهن من ضرب الرقاب شفاءُ
وقال في معناه:
وإذا عرتها مرضة ... فشفاؤها ضرب الرقاب
وقال في معناه:
سيافها يضرب أعناقها ... وهو بذاك الفعل يحييها
وقال:
قد أغتدي نشوان من خمر الكرى ... أجرّ بردي على برد الثرى
والصبح حمل بين أحشاء الدجى
وقال في مثله:
والصبح حملٌ في حشى الظلماء
وقال في وصف الخمر:
ألا غادها مخطئاً أو مصيباً ... وسر نحوها داعياً أو مجيبا
وخذ لهباً حرّه في غدٍ ... إذا الحر قارن يوماً لهيباً
وقال في معناه:
هاتها لم تباشر النار واعلم ... أنها في المعاد للشرب نارُ
وقال في أبيات:
أنظر إلى الليل كيف تصدعه ... راية صبح مبيضةُ العذبِ
كراهبٍ حن للهوى طرباً ... فشقّ جلبابه من الطرب
وقال في معناه:
والفجر كالراهب قد مزقت ... من طرب عنه الجلابيبُ
وقال يمدح:
يخضب الكف بالمدام وطوراً ... يخضب السيف من دم مهراقِ
وقال في معناه:
وتخضب بالراح أيماننا ... ونخضب بالدم أرماحنا
وقال في الغزل، وهو من غرره:
بنفسي من أجود له بنفسي ... ويبخل بالتحية والسلام
وحتفي كامنٌ في مقلتيه ... كمون الموت في حد الحسام
وقال، ونقل معناه إلى الخمر:
ويريه أعلى الرأي حزم كامن ... فيه كمون الموت في حد القضب
وقال في معناه:
أما للمحبين من حاكمٍ ... فينصفني اليوم من ظالمي
حمامي في طرفه كامنٌ ... كمون المنية في الصارم
وقال في معنى آخر:
وفتية زهر الآداب بينهمُ ... أبهى وأنضر من زهر الرياحين
مشوا إلى الراح مشي الرَّخِ وانصرفوا ... والراح تمشي بهم مشي الفرازين
وقال في معناه:
حتى إذا الشمس بها آذنت ... خيامها الصفر بقلع الأواخي
راحوا عن الراح وقد أبدلوا ... مشي الفرازين بمشي الرخاخ
وقال في قلب معناه ووصف الشطرنج:
يبدي لعينك كلما عاينته ... قرنين جالا مقدماً ومخاتلا
فكأن ذا صاحٍ يسير مقوما ... وكأن ذا نشوان يخطر مائلا
وقال يصف كانون نار:
وذو أربعٍ لا يطيق النهوض ... ولا يألف السير فيمن سرى
نحمله سبجاً أسودا ... فيجعله ذهباً أحمرا
وقال في معناه:
وأحدقنا بأزهر خا ... فقات حوله العذبُ
فما ينفكُّ من سبجٍ ... يعود كأنه ذهب
وقال يمدح:
وكم خرق الحجاب إلى مقامٍ ... توارى الشمس فيه بالحجاب
كأن سيوفه بين العوالي ... جداول يطردن خلال غاب
وقال في معناه:

(1/200)


كأن سيوف الهند بين رماحه ... جداول في غاب سما فتأشبا
وقال في معناه:
أسدٌ لها من بيضها وسمرها ... جداولٌ مطردات وأَجَمْ
وقال في وصف شعره:
إليك زففتها عذراء تأوي ... حجاب القلب لا حجب القبابِ
أذبت لصوغها ذهب القوافي ... فأدت رونق الذهب المذاب
وقال في معناه:
وخذها كالتهاب الحلى تغني ... عن المصباح في الليل التهابا
مشعشعة كأن الطبع أجرى ... على صفحاتها الذهب المذابا
وعلى ذكر الشعر فإني كاسر عليه فصلاً، لفرط استحساني جودة وصفه لي، وموافقته الموصوف. قال في وصف شعره من قصيدة:
وما زالت رياح الشعر شتى ... فمن ريا الهبوب ومن سمومِ
تحيّي الصاحب الطلق المحيا ... وتعلن شتم ذي الوجه الشتيم
منحتك من محاسنها ربيعاً ... مقيم الزهر سيار النسيم
وقال من أخرى:
قل للعدو إليك عن ذي عدة ... ما ثار إلا نال أبعد ثأره
صلّ القريض إذا ارتوت أنيابه ... من سمّه قطرت على أشعاره
لو أنه جارى عتيقي طيء ... في الحلبتين تبرقعا بغباره
وقال من أخرى:
شغلتك عن حسن السماع مدائحٌ ... حسنت فما تنفك تطرب سامعا
طلعت عليك أبا الفوارس أنجمٌ ... منهن يخجلن النجوم طوالعا
زهرٌ إذا صافحن سمع معاند ... خفض الكلام وغض طرفاً خاشعا
جاءتك مثل بدائع الوشي الذي ... ما زال في صنعاء يتعب صانعا
أو كالربيع يريك أخضر ناضراً ... ومورداً شرقاً وأصفر فاقعا
وقال من أخرى:
وكم مدحة غب النوال تبسمت ... كما ابتسم النوار غب حياً أروى
وما ضر عقداً من ثناء نظمته ... وفضلته أن لا يعيش له الأعشى
وقال من أخرى:
جاءتك كالعقد لا تزري بناظمها ... حسناً وتزري بما قالوا وما نظموا
والشعر كالروض ذا ضامٍ وذا خضلٌ ... وكالصوارم ذا ناب وذا خذم
أو كالعرانين هذا حظه خنس ... مزرٍ عليه وهذا حظه شمم
وقال:
وفكر خواطره ألبست ... علاك من الحمد ثوباً خطيرا
محاسن لو علقت بالقتير ... لحسّن عن الحسان القتيرا
إذا ما جفت خلع المادحين ... عليهن رقت فكانت حريرا
وقال:
وخلعة من ثناي دبجها ال ... فكر ففاقت بحسها البدعا
وقرب الحذق لفظها فغدا ... من قربها مطمعاً وممتنعا
وقال:
سأبعث الحمد موشياً سبائبه ... إلى الأمير صريحاً غير مؤتشب
إن المدائح لا تهدى لناقدها ... ألا وألفاظها أصفى من الذهب
كم رضْت بالفكر فيها روضة أنفاً ... تفتح الزهر عن جنى الأدب
لفظٌ يروح له الريحان مطرحا ... إذا جعلناه ريحاناً على النجب
وقال:
أتتك يجول ماء الطبع فيها ... مجال الماء في السيف الصقيل
قوافٍ إن ثنتْ للمرء عطفاً ... ثنى الأعطاف في برد جميل
وقال:
شرقت بماء الطبع حتى خلتها ... شرقت لرونقها بتبر ذائب
ويقول سامعها إذا ما أنشدت ... أعقود حمد أم عقود كواكب
وقال:
والبس غرائب مدحةٍ دبجتها ... فكأنما دبجت منها مطرفا
من كل بيت لو تجسم لفظه ... لرأيته وشيا عليك مفوفا
وقال:
ألفاظه كالدر في أصدافه ... لا بل يزيد عليه في لألائه
منكل رائقة الجمال كأنها ... جاد الشباب لها بريقة مائه
وقال:
والشعر بحرٌ نلت أنفس دره ... وتنافس الشعراء في حصبائه
وقال:
وغرائبٍ مثل السيوف إضاءةً ... وجدت من الفكر الدقاق صياقلا
فلو استعار الشيب بعض جمالها ... أضحى إلى البيض الحسان سائلا
جاءتك بين رصينه ودقيقه ... تهدي إليك مطارفاً وغلائلا

(1/201)


ما أخرج من غرره في الخالديين وغيرهما ممن ادعى شعره قال يتظلم من الخالديين والتلعفري إلى سلامة بن فهد:
هل الصبر مجد حين أدرع الصبرا ... وهل ناصر للشعر يوسعه نصرا
تحيف شعري يا ابن فهد مصالت ... عليه فقد أعدمت منه وقد أثرى
وفي كل يومٍ للغبيين غارةٌ ... تروع ألفاظي المحجلة الغرا
إذا عن لي معنى يضاحك لفظه ... كما ضاحك النوار في روضه الغدرا
غريب كشطر البرق لما تبسمت ... مخائله للفكر أودعته سطرا
فوجه من الفتيان يمسح وجهه ... وصدر من الأقوام يسكنه الصدرا
تناوله مثرٍ من الجهل معدمٌ ... من الحلم معذورٌ حتى خلع العذرا
فبعد ما قربت منه غباوة ... وأوزر ما سهلت من لفكه وعرا
فمهلاً أبا عثمان مهلاً فإنما ... يغار على الأشعار من عشق الشعرا
لأطفأتما تلك النجوم بأسرها ... ودنستما تلك المطارف والأُزرا
فويحكما هلاً بشطر قنعتما ... وأبقيتما لي من محاسنه شطرا
وقال من قصيدة مدح بها أبا البركات لطف الله بن ناصر الدولة يتظلم إليه من الخالديين، وقد ادعيا شعره وشعر غيره ومدحا المهلبي وغيره:
يا أكرم الناس إلا أن يعد أباً ... فات الكرام بآباءٍ وآثارِ
أشكو إليك حليفَيْ غارة شهرا ... سيف الشقاق على ديباج أفكاري
ذئبين لو ظفرا بالشعر في حرم ... لمزقاه بأنياب وأظفار
سلاً عليه سيوف البغي مصلتة ... في جحفل من صنيع الظلم جرار
وأرخصاه فقل في العطر ممتهناً ... لديهما يشتري من غير عطار
لطائم المسك والكافور فائحة ... منه ومنتخب الهندي والغار
وكل مسفرة الألفاظ تحسبها ... صفيحة بين إشراق وإسفار
أرّقت ماء شباب في محاسنها ... حتى ترقرق فيها ماؤها الجاري
كأنها نفس الريحان يمزجه ... صبا الأصائل من أنفاس نوار
إن قلداك بدر فهو من لججي ... أو ختماك بياقوت فأحجاري
باعا عرائس شعري بالعراق فلا ... تبعد سباياه من عون وأبكار
مجهولة القدر مظلوم عقائلها ... مقسومة بين جهال وأغمار
ما كان ضرهما والدر ذو خطر ... لو حلياه ملوكاً ذات أخطار
وما رأى الناس سبياً مثل سبيهما ... بيعت نفيسته ظلماً بدينار
والله ما مدحا حياً ولا رثياً ... ميتاً ولا افتخرا إلا بأشعاري
هذا وعندي من لفظ أشعشعه ... سلافة ذات أضواء وأنوار
كريمة ليس من كرم ولا التثمت ... عروسها بخمار عند خمار
تنشا خلال شغاف القلب إن نشأت ... ذات الحباب خلال الطين والقار
لم يبق لي من قريض كان لي وزرا ... على الشدائد إلا ثقل أوزاري
أراه قد هتكت أستار حرمته ... وسائر الشعر مستور بأستار
كأنه جنة راحت حدائقها ... من الغبيين في نار وإعصار
عار من النسب الوضاح منتسب ... في الخالديين بين العر والعار
وقال من قصيدة في أبي تغلب ذكر فيها أحد الخالديين:
ولا بد أن أشكو إليك ظلامة ... وغارة مغوار سجيته الغصبُ
يخيل شعري أنه قوم صالح ... هلاكاً وأن الخالدي له سقب
رعى بين أعطان له ومسارح ... فلم ترع فيهن العشار ولا النجب
وكان رياضاً غضةً فتكدرت ... مواردها واصفر في تربها العشب
يساق إلى الهجن المقارف حليه ... وتسلبه الغر المحجلة القب
غصبت على ديباجه وعقوده ... فديباجه غصب كما روع السرب

(1/202)


وكنت إذا ما قلت شعراً حدت به ... حداة المطايا أو تغنى به الشرب
وقال في الخالدي الأصغر وقد ادعى كثيراً من شعره:
لا بد من نفثة مصدور ... فحاذروا صولة مخدور
قد أنست العالم غاراته ... في الشعر غارت المغاوير
أثكلني غيد قواف غدت أبها من الغيد المعاطير
أطيب ريحاً من نسيم الصبا ... جاءت بريا الورد من جور
من بعد ما فتحت أنوارها ... فابتسمت مثل الأزاهير
وبات فكري تعباً بينها ... ينشها نقش الدنانير
يا وارث الأغفال ما حبروا ... من القوافي والمشاهير
اعط قفا نبك أماناً فقد ... راحت بقلب منك مذعور
وقال من قصيدة خاطب فيها أبا الخطاب المفضل بن ثابت الضبي وقد سمع أن الخالديين يريدان الرجوع إلى بغداد، وذلك في أيام المهلبي الوزير:
بكرت عليك مغيرة الأعراب ... فاحفظ ثيابك يا أبا الخطابِ
ورد العراق ربيعة بن مكدم ... وعتيبة بن الحارث بن شهاب
أفعندنا شك بأنهما هما ... في الفتك لا في صحة الأنساب
جلبا إليك الشعر من أوطانه ... جلب التجار طرائف الأجلاب
فبدائع الشعراء فما جهزا ... مقرونة بغرائب الكتاب
شنا على الآداب أقبح غارة ... جرحت قلوب محاسن الآداب
فحذار من حركات صلي قفرة ... وحذار من حركات ليثي غاب
لا يسلبان أخا الثراء وإنما ... يتناهيان نتائج الألباب
إن عز موجود الكلام عليهما ... فأنا الذي وقف الكلام ببابي
أو يهبطا من ذلة فأنا الذي ... ضربت على الشرف المطل قبابي
كم حاولا أمدي فطال عليهما ... أن يدركا إلا مثار ترابي
عجزاً ولن تقف العبيد إذا جرت ... يوم الرهان مواقف الأرباب
ولقد حميت الشعر وهو لمعشر ... ذم سوى الأسماء والألقاب
وضربت عنه المدعين وإنما ... عن حوزة الآداب كان ضرابي
فغدت نبيط الخالدية تدعي ... شعري وترفل في حبير ثيابي
قوم إذا قصدوا الملوك لمطلب ... نقضت عمائمهم على الأبواب
من كل كهل تستطير سباله ... لونين بين أنامل البواب
مغض على ذل الحجاب يرده ... دامي الجبين تجهم الحجاب
ومفوهين تعرضا لحرابتي ... فتعرضت لهما صدور حرابي
نظرا إلى شعر يروق فتربا ... منه خدود كواعب أتراب
شرباه فاعترفا له بعذوبة ... ولرب عذب عاد سوط عذاب
في غارة لم تنثلم فيها الظبا ... ضربا ولم تند القنا بخضاب
تركت غرائب منطقي في غربة ... مسبية لا تهتدي لإياب
جرحي وما ضربت بحد مهند ... أسرى وما حملت على الأقتاب
لفظ صقلت متونه فكأنه ... في مشرقات النظم در سحاب
وكأنما أجريت في صفحاته ... حر اللجين وخالص الزرياب
أغربت في تحبيره فرواته ... في نزهة منه وفي استغراب
وقطعت فيه شبيبة لم تشتغل ... عن حسنه بصباً ولا بتصابي
وإذا ترقرق في الصحيفة ماؤه ... عبق النسيم فذاك ماء شبابي
يصغي اللبيب له فيقسم لبه ... بين التعجب منه والإعجاب
جد يطير شراره وفكاهة ... تستعطف الأحباب للأحباب
أعزر علي بأن أرى أشلاءه ... تدمي بظفر للعدو وناب
أفنٌ رماه بغارة مأفونة ... بات ظباء الروم في الأعراب
إني أحذر من يقول قصيدة ... غراء خدني غارة ونهاب
إني نبذت على السواء إليكما ... فتأهبا للقادح المنتاب

(1/203)


وإذا نبذت إلى امرئ ميثاقه ... فليستعد لسطوتي وعقابي
وهي طويلة متناسبة العذوبة.
وقال من قصيدة في أبي إسحاق الصابي، وقد ورد عليه كتاب الخالديين بأنهما منحدران إلى بغداد في سرعة:
قد أظلتكَ يا أبا إسحاقَ ... غارة اللفظ والمعاني الدقاقِ
فاتخذ معقلاً لشعرك تحمي ... ه مروق الخوارج المراق
قبل رقراقه الحديد تريق ال ... سم في صفو مائه الرقراق
كان شن الغارات في البلد القف ... ر فأضحى على سرير العراق
غارة لم تكن بسمر العوالي ... حين شنت ولا السيوف الرقاق
جال فرسانها علي جلوساً ... لا أقلتهم ظهور العتاق
فجعت أنفس الملوك أبا الهي ... جاء حربا بأنفس الأعلاق
يعني أبا الهيجا حرب بن سعيد أخا أبي فراس الحمداني.
بقوافٍ مثل الرياض تمشت ... بين أنوارها جياد السواقي
بدع كالسيوف أرهفن حسناً ... وسقاهن رونق الطبع ساقي
مشرقات تريك لفظاً ومعنى ... حمرة الحلي في بياض التراقي
يا لها غارة تفرق في الحو ... مة بين الحمام والأطواق
تسم الفارس السميدع بالعا ... ر وبعض الإقدام عار باقي
لو رأيت القريض يرعد منها ... بين ذاك الإرعاد والإبراق
وقلوب الكلام تخفق رعاً تحت ثني لوائها الخفاق
وسيوف الظلام تفتك فيها ... بعذارى الطروس والأوراق
والوجوه الرقاق دامية الأب ... شار في معرك الوجوه الصفاق
لتنفست رحمة للخدود ال ... مر منهن والقدود الرشاق
والرياض التي ألح عليها ... كاذب الودق صادق الإحراق
والنجوم التي تظل نجوم ال ... أرض حسادها على الإشراق
بعدما لحن في سماء المعالي ... طُلعاً وانتثرن في الآفاق
وتخيرت حليهن فلم تع ... د خيار النحور والأعناق
وقطعت الشباب فيه إلى أن ... هم برد الشباب بالإخلاق
فهو مثل المدام بين صفاء ... وبهاء ونفحة ومذاق
منطق يخجل الربيع إذا ح ... ل عليه السحاب عقد النطاق
يا هلال الآداب يا ابن هلال ... صرف الله عنك صرف المحاق
سوف أهدي إليك من خدم الم ... جد إماءً تعاف قبح الإباق
كل مطبعة على اسمك بادٍ ... وسمها في الجباء والآماق
غرر من أهاجيه للشعراء قال من قصيدة هجا بها أبا العباس النامي، ويحكي أنه كان جزاراً بالمدينة:
أرى الجزار هيجني وولى ... فكاشفني وأسرع في انكشافي
ورقع شعره بعيون شعري ... فشاب الشهد بالسم الذعاف
لقد شقيت بمديتك الأضاحي ... كما شقيت بغارتك القوافي
توعر نهجها بك وهو سهل ... وكدر وردها بك وهو صافي
فتكت بها مثقفة النواحي ... على أشد من الثقاف
لها ارجُ السوالف حين تجلى ... على الأسماع أو أرج السلاف
جمعن الحسنيين فمن رياح ... معنبرة وأرواح خفاف
وما عدمت مغيراً منك يرمي ... رقيق طباعها بطباع جافي
معان تستعار من الدياجي ... وألفاظ تقد من الأثافي
كأنك قاطف منها ثماراً ... سبقت إليه إبان القطاف
وشر الشعر ما أداه فكر ... تعثر بين كد واعتساف
سأشفي الشعر منك بنظم شعر ... تبيت له على مثل الأثافي
وأبعد بالمودة عنك جهدي ... فقف لي بالمودة خلف قاف
وقال يعرض بالتلعفري المؤدب:
ينافسني في الشعر والشعر كاسد ... حسود كبا عن غايتي ومعاند
وكل غبي لو يباشر برده ... لظى النار أضحى حرها وهو بارد
أفيقوا فلن يعطى القريض معلم ... وهل يتولى الأغبياء عطارد

(1/204)


ولا تمنحوا منه الكرام قلائداً ... فليس من الحصباء تهدى القلائد
وقال من قصيدة في أبي الحسن الشمشاطي:
قد كانت الدنيا عليك فسيحة ... فاليوم أضحت وهي سم خياطِ
أسخطني وجناة عيشك حلوة ... فجنيت مر العيش من إسخاطي
وعلمت إذ كلفت نفسك غايتي ... أن الرياح بعيدة الأشواط
أترومني وعلى السماك محلتي ... شرفاً وبين الفرقدين صراطي
من بعد ما رفع الأكابر مجلسي ... فجلست بين مؤمل وسماط
وغدت صوارم منطقي مشهورة ... بين العراق تهز والفسطاط
وقد امتحنت دعاويا لكبينت ... عن بحر تمويه بعيد الشاطي
فرأيت علمك من خراً وخراطة ... ووجدت شعرك من فسا وضراط
وقال من أرجوزة في الخالدي:
بؤساً لعرس الخالدي بوسا ... أكل يوم تغتدي عروسا
خلته واعتاضت فتى نفيساً ... وفارقت من نتنه ناووسا
فصادفت ربع هوى مأنوساً ... وبدلت من رخم طاوسا
وكيف تهوى وجهه العبوسا ... وهي ترى الأقمار والشموسا
هذه ملح مما قاله في ابن العصب الملحي الشاعر وكان شيخاً يتصابب، ويتعصب للخالديين على السري، وكان السري يهجوه جاداً وهازلاً، وينسبه إلى القيادة، ويذكر كثيراً مشاهدة أهل الريب في منزله، ولا يبقى ولا يذر في التولع به، فمن ملحه فيه قوله من قصيدة:
ومن عجب أن الغبيين أبرقا ... مغيرين في أقطار شعري وأرعدا
فقد نقلاه عن بياض مناسبي ... إلى نسب في الخالدية أسودا
وإن علياً بائع الملح بالنوى ... تجرد لي بالسب فيمن تجردا
وعندي له لو كان كفوا قوارصي ... قوارص ينثرن الدلاص المسردا
ومغموسة في الشري والأري هذه ... ليردي بها باغٍ وتلك لترتدي
لك الويل إن اطلعت بيض سيوفها ... وأطلقتها خزر النواظر شردا
ولست لجدِّ القول أهلاً وإنما ... أطير سهام الهزل مثنى وموحدا
نصبت لفتيان البطالة قبة ... ليدخلها الفتيان كهلاً وأمردا
وكان طريق القصف وعراً عليهم ... فسهلته حتى رأوه معبدا
وكم لذة لا من فيها ولا أذى ... هديت لها خدن الضلالة فاهتدى
قصدتهم وزناً فساويت بينهم ... ولم تأخذ السهم الحديد ليقصدا
وجئتهم قبل ارتداد جفونهم ... بمائدة تكسي الشرائح والمدى
ومبيضة مما قراه محمد ... أبوك لكي تبيض عرضاً وتحمدا
نثرت عليها البقل غضاً كأنما ... نثرت على حر اللجين الزبرجدا
ومصبوغة بالزعفران عريضة ... كأن على أعطافها منه مجسدا
تريك وقد عطت بياضاً بصفرة ... مثالاً من الكافور ألبس عسجدا
فحف بها منهم كهول وفتية ... كأنهم عقد يحف مقلدا
فلا نظر الداعي إلى الزاد كفهم ... ولا خجلة المدعو ردت لهم يدا
وملت بهم من غير فضلٍ عليهم ... إلى الورد غضاً والشراب موردا
مناهدة إن فات مثلك طيبها ... تنفس مجروح الحشا أو تنهدا
معداً لهم في كل يوم مجددٍ ... من الراح والريحان عيشاً مجددا
إذا وصلوا أضحى الخوان مدبجا ... وإن هجروا أضحى سليباً مجردا
وإن شرعوا في لذة كنت بيعةً ... وإن طمعوا في مرفق كنت مسجدا
لك القبة العلياء أوضحت تهجها ... وأطلعت منها للفتوة فرقدا
يصادف منها الزور عيشاً مبرداً ... وباطية ملأى وظبياً مغردا
وقد فضلت شم القباب لأنني ... نصبت عليها بالقصائد مطردا
وقوله فيه:
طوى وده الملحي عني فانطوى ... وقد كان لي خلافاً فأعرض والتوى

(1/205)


دعاني فغاداني بإنشاد شعره ... ولولا انصرافي عنه مت من الطوى
وقال أتاك الحلي قلت ممازحاً ... أتاك النوى يا بائع الملح بالنوى
وناولني مسودة لو قرنتها ... إلى القار كانا في سوادهما سوا
وقال أرى هذا الشراب لصفوه ... ورقته كالنجم قلت إذا هوى
وفضل في الشعر أمرأً غير فاضلٍ ... فقلت له أمسكْ نطقت عن الهوى
ولو أنني أحمي الثقاف لمثله ... وأعمل فيه الغمز لانصان واستوى
وقوله فيه:
سل الملحي كيف رأى عقابي ... وكيف وقد أثاب رأي ثوابي
سقاني الهاشمي فسل ضغني ... وأغمد عنه تأنيبي ونابي
أراه عني ابن سكرة الهاشمي فإنه كان صديق الملحي، ولهذا قال:
سقاني الهاشمي فسل ضغني إلخ
وقال أخو المودة والتصافي ... وعون أخي الصبابة والتصابي
وشيخ طاب أخلاقاً فأضحى ... أحب إلي الشباب من الشباب
له قفص إذا استخفيت فيه ... أمنت فلم تنلك يد الطلاب
طرقناه وقنديل الثريا ... يحط وفارس الظلماء كابي
فرحب واستمال وقال حطتْ ... ركابكم بأفنية رحاب
وحض على المناهدة الندامى ... بألفاظ مهذبة عذاب
وقال تيمموا الأبواب منها ... فكل جاء من تلقاء باب
فهذا قال قدر من طعام ... وهذا قال دن من شراب
وهذا قال ريحان ونقل ... وثلج مثل رقراق السراب
وسمح القوم من سمحت يداه ... بخدر غريرة بكر كعاب
فتم لهم بذلك لهو يوم ... غريب الحسن عذب مستطاب
إذا العبء الثقيل توزعته ... أكف القوم خف على الرقاب
وقوله فيه:
أقررت يا ابن العصب العيونا ... ورحت حبلاً للخنا متينا
علمت قوماً كيف يقصفونا ... فاطرحوا الحشمة مسرعينا
ودخلوا القبة آمنينا ... فأكلوا يومهم سمينا
ولم يكن سرورهم ممنونا ... يا من يرى نزف الدنان دينا
ومن يداري العيش كي يلينا ... ما العيش إلا للمناهدينا
مؤونة قضت على عشرينا ... ولو تفردنا بها خرينا
وقوله فيه من قصيدة:
ملنا إلى غرفة الملحي إن بها ... ظبياً من الإنس مبذول الخلاخيل
نزوره وبقايا الليل تسترنا ... فنهتدي لخليعٍ منه ضليل
يرضى النديم ويرضى عن مروءته ... إذا أتاه بمشروب ومأكول
وإن رآه رقيق الوجه قال أرق ... كأس الحياء بضم أو بتقبيل
فزدت غذ زرته قنديل بيعته ... فالزيت ينشر أضواء القناديل
وقوله من أخرى:
قد وهى ستر رقيق ... ومضى ورد عليلُ
قصرت أيامنا البي ... ضُ وفي يومك طول
دعوة ينتسب القح ... ط إليها والمحول
ليس إلا العطش القا ... تل والماء الثقيل
مجلس فيه لأربا ... ب الخنا قالٌ وقيل
وضراط مثل ما انش ... ق الدبيقي الصقيل
فإذا اختالت خلال ال ... شرب عذراء شمول
لعبت أيدٍ لها أق ... فيةُ القوم طبول
لست من شكلك والنا ... سليمان ضروب وشكول
أنت للحاجة حتى ... يصدر الورد خليل
فاقطع الرسل فقد أز ... رى بنا منك الرسول
وقوله فيه:
شيخ لنا من شيوخ بغداذ ... أغذ في القصف أي إغذاذ
رق طباعاً ومنطقاً فغدا ... وراح في المستشف كاللاذ
تظن تحت الأكف هامته ... إذا علتها طنين فولاذ
قواد إخوانه فإن ظمئوا ... سقاهم الراح سقي نباذ
له على الشط غرفة جمعت ... كل خليع نشا ببغداذ

(1/206)


أعد فيها ابنة الشباك لهم ... ممكورة الجنب في ابنة الداذي
ولذةٍ من صباح قطربلٍ ... وجؤذرا من ملاح كلواذا
يقول للزائر الملم به ... أوصل هذا ألذ أم هذي؟
وشاعر جوهر الكلام له ... ملك فمن تارك وأخاذ
وخير ما فيه أنه رجل ... يخدمني الدهر وهو أستاذي
إذا انتشى أقبلت أنامله ... تنشر ميتاً خلال أفخاذي
وقوله فيه، وكان دعاه في يوم حار إلى غرفة له حارة على الشط، فأطعمه هريسة وسقاه نبيذ الدبس وماء بئر يعرف بكرخايا:
أرى الشاعر الملحي راح بنا صباً ... نباغضه عمداً ويوسعنا حبا
دعانا ليستوفي الثناء فأظلمتْ ... خلائق يستوفي لصاحبها السبا
تيمم كرخايا فجاد قليبها ... عليه وما شرب القليب لنا شربا
وأحضرنا محبوسة طول ليلها ... معذبة بالنار مسعرة كربا
تخير من رطب الذؤابة لحمها ... ومن يابس الحب النقي لها حبا
وساهرها ليلاً يضيق سجنها ... فما أضاء الصبح أوسعها ضربا
إذا مسحتها الريح راحت كأنها ... تمسح موتي كشفت عنهم التربا
وداذية تنهي الصباح إذا بدا ... وتفسد أنفاس النسيم إذا هبا
شراب يغض الظرف عنه وعمره ... ثلاثة أيام وقد شب لا شبا
يحد بأطراف النهار وما افترى ... ولا كان خدناً للجناة ولا تربا
فلما تراءت للجميع إزاءنا ... عجبت لمضروبين ما جنيا ذنبا
وقوله فيه:
أربعاءٌ حسامه مشهور ... حين يأتي وشره محذورُ
نتوقاه أول الشهر إن دا ... ر ونخشاه آخراً لا يدور
فاغدُ سراً بنا إلى قفص المل ... حي فالعيش فيه غض نضير
نتوارى من الحوادث والده ... ر خبير بمن توارى بصير
مجلسٌ في فناء دجلة يرتا ... ح إليه الخليع والمستور
طائر في الهواء فالبرق يسري ... دون أعلاه والحمام يطير
وإذا الغيم سار أسبل منه ... كلل دون خدره وستور
وإذا غارت الكواكب صبحاً ... فهو الكوكب الذي لا يغور
ليس فيه إلا خمار وخمر ... وممات من نشوة ونشور
وحديث كأنه زهر المن ... ثور حسناً أو لؤلؤٌ منثور
وجريح من الدنان تسيل ال ... راح من جرحه وقدر تفور
ولك الظبية الغريرة إن شئ ... ت وإن عفتها فظبي غرير
فتمتع بما تشاء نهاراً ... ثم بت معرساً وأنت أمير
كل هذا بدرهمين فإن زد ... ت فأنت المبجل المحبور
وقوله فيه من قصيدة:
شققت قذال الخالدي بمنطق ... يشق من الأعداء كل قذال
وناضلني الملحي عنه فأصبحت ... جوارحه مجروحة بنبال
وقد كان يخلي بيته لمآربي ... إذا زار إلف أو حبا بوصال
على أنه يكريه يوماً بخمسة ... موجهة بيض الوجوه ثقال
تحلت بذكر الله من كل جانب ... فهن بذكر الله خير حوالي
يبيح بها الملحي طوراً قذاله ... وطوراً حريمي منزلٍ عيال
فإن شئت أن تحظى بوصل غزالة ... مهفهفة الكشحين أو بغزال
فقدم له الجدي الرضيع وثنِّهِ ... بعذراء من ماء الكروم زلال
ولا تلقهُ إلا بخير وسيلةٍ ... يلوح على وجهيه خير مقال
ببازٍ إذا أرسلته صاد كل ما ... تروم به أو نال كل منال
وقوله فيه من أخرى ووصف دعوة دعاه فيها:
على ابن العصب الملح ... ي يثني اليوم من أثنى
على الجلد وإن صاد ... ف في عظمه وهنا
ضحينا عنده يوماً ... شديد الحر فالتحنا
ولم يحو به الأجر ... ولم نعدم به المنّا

(1/207)


جياعاً نصف الزيتو ... ن لو أمكن والجبنا
ونطري السمك البن ... يَّ والجردق والبنّا
وكنا ننثر الدرّ ... من اللفظ فخلطنا
فلو طارت بنا ضعفاً ... صبا لاعبةٍ طرنا
ولو أنا دعونا الل ... ه في دعوته فزنا
إلى أن كبر العصر ... وهللنا فكبرنا
ونش السمك المق ... لوّ بالقرب فسبحنا
وقلنا هذه الرحم ... ة جاءت فأظلتنا
وظلنا إذ رأينا الخب ... ز ندنو قبل نستدنى
إلى مائدة حُفَّتْ ... بها أرغفة متنى
عليها البقل لا نلح ... قه بالخلّ أو يفنى
ومنسوب إلى دجل ... ة ما زال لها خدنا
جرى في مائها قبل ... يجاري ماؤها السفنا
فأضحى لامتداد العم ... ر أعلى صيدها سنا
طوى أقرانه الدهر ... فلم تبقِ له قرنا
فلما اكتحلت عيني ... به أوسعته لعنا
حللنا عقد الشوا ... ء عن جسم له مضنى
ومزقنا له درعاً ... يواري أعظماً حجنا
نرد اليد بالخيب ... بة عن أقربها مجنى
فما تم لنا الإفطا ... ر بالقوت ولا صمنا
وطاف الشيخ بالدن ... إلى أن نزف الدنا
فأدنى كدر العيش ... بها لا كان ما أدنى
مدام تجلب الهم ... ولا تطرده عنا
فلا النفس بها سرت ... ولا القلب لها حنا
كأن شرابه مطبوخ ... على راحته اليمنى
وفاح البخر القات ... ل منه فتبخرنا
وقال اغتنموا وصل ... فتاةٍ برعت حسنا
فجاءت تخجل البدر ... وغصن البانة اللدنا
وتصطاد قلوب الشر ... ب أجفان لها وسنى
فكدنا وأبى الله ... لنا والشيم الحسنى
وقمنا نعطف الأزر ... على العفة إذ قمنا
وقلنا يا لحاك الله ... نزني بعد ما شبنا!
فأبدى الأنس للقوم ... وأخفى الحقد والضغنا
وهو الشن وما واف ... ق منا طبق شنا
وقوله فيه:
لك يا ابن العصب الملح ... ي عرض مستباحُ
وقفاً فيه لأيدي الش ... رب جد ومزاح
هو للصفع قريحٌ وهو للرحب قراح
وقريضٌ مثلما تن ... طق باللغو الفقاح
لست أدري أسلاح ... لك منه أم سلاح
غرر من الغزل والنسيب وما يتغنى به من شعر السري وما أراني أروي أحسن ولا أشرف ولا أعذب ولا ألطف من قوله:
قسمت قلبي بين الهم والكمد ... ومقلتي بين فيض الدمع والسهدِ
ورحت في الحسن أشكالا مقسمةً ... بين الهلال وبين الغصن والعقد
أريتني مطراً ينهلُّ ساكنه ... من الجفون وبرقاً لاح من برد
ووجنة لا يروى ماؤها ظمئي ... بخلاً وقد لذعت نيرانها كبدي
فكيف أبقى على ماء الشئون وما ... أبقى الغرام على صبري ولا جلدي
ومما يأخذ بمجامع القلوب قوله:
بلاني الحب منك بما بلاني ... فشأني أن تفيض غروب شاني
أبيت الليل مرتفقاً أناجي ... بصدق الوجه كاذبة الأماني
فتشهد لي على الأرق الثريا ... ويعلم ما أجنّ الفرقدان
إذا دنت الخيام به فأهلا ... بذاك الخيم والخيم الدواني
فبين سجوفها أقمار تم ... وبين عمادها أغصان بان
ومذهبة الخدود بجلنار ... مفضضة الثغور بأقحوان
سقانا الله من رياك ريا ... وحيانا بأوجهك الحسان
ستصرف طاعتي عمن نهاني ... دموع فيك تلحي من لحاني
ولم أجهل نصيحته ولكن ... جنون الحب أحلى في جناني

(1/208)


فيا ولع العواذل خل عني ... ويا كف الغرام خذي عناني
وقال من قصيدة:
ومن وراء سجوف الرقم شمس ضحى ... تجول في جنح ليل مظلم داجي
مقدودة خرطت أيدي الشباب لها ... حقين دون مجال العقد من عاج
عهدي بأبي بكر الخوارزمي يحن على هذا الوصف.
وقال من أخرى:
لطمت خدها بحمرٍ لطاف ... نال منها عذاب بيض عذابِ
فتشكى العناب نور الأقاحي ... واشتكى الورد ناضر العناب
وقال:
قامت وخوط البانة ال ... مياس في أثوابها
ويهزها سكران سك ... ر شرابها وشبابها
تسعى بصهباوين من ... ألحاظها وشرابها
فكأن كأس مدامها ... لما ارتدت بحبابها
توريد وجنتها إذا ... ما لاح تحت نقابها
وقال:
لبست مصندلة الثياب فمن رأى ... صنماً تسربل قبلها أثوابا
وحكت من الظبي الغرير ثلاثة ... جيداً وطرفا فاتراً وإهابا
وقال من قصيدة طويلة:
إذا برزت كان العفاف حجابها ... وإن سفرت كان الحياء نقابها
حمتنا الليالي بعد ساكنة الحمى ... مشارب يهوى كل ظامٍ شرابها
ألاحظها لحظ الطريد محله ... وأذكرها ذكر الشيوخ شبابها
تذكر أيام الصبا ومواطن الهوى
ما أحسن وأظرف قوله من قصيدة:
أسلاسل البرق الذي لحظ الثرى ... وهناً فوشح روضه بسلاسلِ
أذكرتنا النشوات في ظل الصبا ... والعيش في سنة الزمان الغافل
أيام أستر صبوتي من كاشحٍ ... عمداً واسرق لذتي من عاذل
وقوله من أخرى:
تثنى البرق يذكرني الثنايا ... على أثناء دجلة والشعابا
وأياماً عهدت بها التصابي ... وأوطاناً صحبت بها الشبابا
وقوله من أخرى:
ما كان ذاك العيش إلا سكرةٌ ... رحلت لذاذتها وحل خمارها
ومن أخرى:
وكم ليلة شمرت للراح رائحاً ... وبت لغزلان الصريم مغازلا
وحليت كأسي والسماء بحليها ... فما عطلت حتى بدا الأفق عاطلا
وقوله من قصيدة يتشوق بها الموصل ونواحيها وهو بحلب:
أمحلّ صبوتنا دعاء مشوق ... يرتاح منك إلى الهوى الموموقِ
هل أطرقن العمر بين عصابة ... سلكوا إلى اللذات كل طريق
أم هل أرى القصر المنيف معمماً ... برداء غيم كالرداء رقيق
وقلا لي الدير التي لولا النوى ... لم أرمها بقلى ولا بعقوق
محمرة الجدران ينفح طيبها ... فكأنها مبنية بخلوق
ومحل خاشعة القلوب تغردوا ... بالذكر بين فروقه وفروقي
أغشاه بين منافقٍ متجملٍ ... ومناضلٍ عن كفره زنديق
وأغنّ تحسب جيده إبريقه ... ما دام يسفح عبرة الإبريق
يتنازعون على الرحيق غرائباً ... يحسبن زاهره كؤوس رحيق
صدرت عن الأفكار وهي كأنها ... رقراق صادرة عن الراووق
دهر ترفق بي فواقاً صرفه ... وسطا علي فكان غير رفيق
فمتى أزور قباب مشرقة الذرى ... فأورد بين النسر والعيون
وأرى الصوامع في غوارب أكمها ... مثل الهوادج في غوارب نوق
ما نظرت إلى الصوامع بقرية بوزن من نيسابور إلى تذكرت هذا البيت واستأنفت التعجب من حسن هذا التشبيه وبراعته وفصاحته.
حمراً تلوح خلالها بيض كما ... فصلت بالكافور سمط عقيق
كلف تذكر قبل ناهية النهى ... ظلين ظل هوى وظل حديق
فتفرقت عبراته في خده ... إذ لا خير له من التفريق
حسن الخروج والتخلص فمنه قوله من قصيدة في الوزير المهلبي:
عصر مزجت شمائلي بشموله ... وظلاله ممزوجة بشماله
حتى حسبت الورد من أشجاره ... يجني أو الريحان من آصاله

(1/209)


وكأنني لما ارتديت ظلاله ... جار الوزير المرتدي بظلاله
وقال من أخرى:
أكني عن البلد البعيد بغيره ... وأرد عنه عنان قلب مائل
وأود لو فعل الحيا بسهوله ... وحزونه فعل الأمير بآمل
ومن أخرى:
وركائب يخرجن من غلس الدجى ... مثل السهام مرقن منه مروقا
والفجر مصقول الرداء كأنه ... جلباب خود أشربته خلوقا
أغمامة بالشام شمن بروقها ... أم شمن من شيم الأمير بروقا
ومن أخرى:
وبكر إذا جنبتها الجنوب ... حسبت العشار تؤم العشارا
ترى البرق يبسم سراً بها ... إذا انتحب الرعد فيها جهارا
إذا ما تنمر وسميها ... تعصفر بارقها فاستطارا
يعارضها في الهواء النسيم ... فينثر في الأرض دراً صغارا
فطوراً يشق جيوب الحيا ... وطوراً يسح الدموع الغزارا
كأن الأمير أعار الربا ... شمائله فاشتملن المعارا
ملح من المدح قال من قصيدة:
ظلم التليد وليس من أعدائه ... وحبنا الحسود وليس من أحبابه
فالغيث يخجل أن يلم بأرضه ... والليث يفرق أن يطيف بغابه
ومن أخرى:
أقول للمبتغي إدراك سؤدده ... خفِّضْ عليك أليس النجم مطلوبا
إن تطلب السلم تسلم من صوارمه ... أو تؤثر الحرب ترجع عنه محروبا
كم من جبين أزار السيف صفحته ... لعاد طرساً بحد السيف مكتوبا
وكم له في الوغى من طعنة نظمت ... عداه أو نثرت رمحاً أنابيبا
ومن أخرى:
كالغيث يحيي إن همى والسيل ير ... دي إن طما والدهر يصمي إن رمى
شتى الخلال يروح إما سالباً ... نعم العدى قسراً وإما منعما
مثل الشهاب أصاب فجاً معشباً ... بحريقه وأضاء فجاً مظلما
أو كالغمام الجون إن بعث الحيا ... أحيا وإن بعث الصواعق ضرما
أو كالحسام إذا تبسم متنه ... عبس الردى في حده فتجهما
كلف بدر الحمد يبرم سلكه ... حتى ترى عقداً عليه منظما
ويلم من شعث العلا بشمائل ... أحلى من اللعس الممنع واللمى
ومن أخرى:
خلق سهول المكرمات سهوله ... وتوعر الأيام من أوعاره
إن لاح فهو الصبح في أنواره ... أو فاح فهو الروض في نواره
ومن أخرى:
لقد شرفتْ بسؤددك القوافي ... وفاز بمجدك الشرف التليدُ
فيوم الحرب تطربك المذاكي ... ويم السلم يطربك النشيد
ومن أخرى:
ومقتبل السن سن الندى ... فأعطى الفتوة حق الفتاءِ
بكفٍّ ترقرق ماء الحياة ... ووجه يرقرق ماء الحياء
ومن أخرى:
أما السماح فقد تبسم نوره ... بعد الذبول وعاد نور ذبالهِ
أطلقْت من أغلاله وشفيت من ... أعلاله وفتحت من أقفاله
ومن أخرى:
نسب أضاء عموده في رفعة ... كالصبح فيه ترفع وضياءُ
وشمائل شهد العداة بفضلها ... والفضل ما شهدت به الأعداء
ومن أخرى:
يريك من رقة الألفاظ منطقه ... در العقود غدت محلولة العقدِ
جعلته جنة من كل نائبة ... ورحت من جوده في جنة الخلد
المدح بالبأس ووصف الجيش والسلاح والحرب قال من قصيدة:
ناديك من مطر الإحسان ممطور ... ومرتجيك بغمر الجود مغمورُ
والبيض ظل عليك الدهر منتشرٌ ... والنقع جيب عليك الدهر مزرور
والشرك قد هتكت أستار بيضته ... بحد سيفك والإسلام منشور
كم وقعة لك شبت في الضلال بها ... نار فأشرق منها في الهدى نور
ونهضة خر فسطاط الكفور لها ... خوفاً وأذعن بالفسطاط كافور
ومن أخرى:
لله سيف تمنّى السيف شيمته ... ودولة حسدتها فخرها الدولُ

(1/210)


وعاشق خيلاء الخيل مبتذلٌ ... نفساً تصان المعالي حين تبتذل
أشم تبدي الحصون الشم طاعته ... خوفاً ويسلم من فيها ويرتحل
تشوقه ورماح الخط مشرعةٌ ... نجل الجراح بها لا الأعين النجل
كأنه وهجير الروع يلفحه ... نشوان مد عليه ظل الأسل
فالصافنات حشاياه وإن قلقت ... والسابغات وإن أوهت له حلل
لما تمزقت الأغماد عن شغل ... تمزقت عن سنا أقمارها الكلل
أكرم بسيفك فيها صائلاً غزلاً ... يفري الشؤون وتثني غربه المقل
ومن أخرى:
وأغلب عامه في السلم يومٌ ... ولكن يومه في الحرب عامُ
يهجر والرماح عليه ظل ... ويسفر والعجاج له لثام
ومن أخرى:
جيش إذا لاقى العدو صدوره ... لم يلق للأعجاز منه لحوقا
حجبت له شمس النهار وأشرقت ... شمس الحديد بجانبيه شروقا
ومن أخرى:
كم معركٍ عرك القنا أبطاله ... فسقاهم في النقع سماً ناقعا
هبت رياحك في ذراه سمائما ... وغدت سماؤك تستهل فجائعا
فتركت من حر الحديد مصائفاً ... فيه ومن فيض الدماء مرابعا
ومن أخرى:
والضحى أدهم بالنقع فإن ... ضحكت فيه الظبا كان أغر
موقف لو لم يكن ناراً إذن ... لم تكن رزق عواليه شرر
ينظم الطعن كلى أعدائه ... وعقود الهام فيه تنتثر
العتاب قال من قصيدة:
إلى كم أحبر فيك المديح ... ويلقى سواي لديك الحبورا
لهمت عرائسه أن تصد ... وهمت كواكبه أن تغورا
أيسلمني بعد أن رحت لي ... على نوب الدهر جاراً مجيرا
وأسفر حظي لما رآ ... ك بيني وبين الليالي سفيرا
سأهدي إليك نسيم العتاب ... وأضمر من حر عتب سعيرا
وقال في معناه:
أبا الهيجاء أصبحت القوافي ... تخب إليك حجاً واعتمارا
عتاباً كالنسيم جرى لعتبٍ ... يضرم في الحشى مني استعارا
وقال يعاتب صديقاً أفشى له سراً:
رأيتك تبري للصديق نوافذا ... عدوك من أمثالها الدهر آمنُ
وتكشف أسرار الأخلاء مازحاً ... ويا رب مزحٍ راح وهو ضغائن
سأحفظ ما بين وبينك صائناً ... عهودك إن الحر للعهد صائن
وألقاك بالبشر الجميل مداهناً ... فلي منك خل ما عرفت مداهنُ
أنم بما استودعته من زجاجةٍ ... ترى الشيء فيها ظاهراً وهو باطن
وقال في مثل ذلك:
ثنتني عنك فاستشعرت هجراً ... خلال فيك لست لها براضِ
وأنك كلما استودعت سراً ... أنم من النسيم على الرياض
وقال في مثل ذلك:
لسانك السيف لا يخفى له أثر ... وأنت كالصل لا تبقي ولا تذرُ
سري لديك كأسرار الزجاجة لا ... يخفى على العين منها الصفو والكدر
فاحذر من الشعر كسراً لا انجبار له ... فللزجاجة كسر ليس ينجبر
وقال في مثل ذلك:
أروم منك ثماراً لست أجنيها ... وأرتجي الحال قد حلت أواخيها
أستودع الله خلاً منك أوسعه ... وداً ويوسعني غشاً وتمويها
كأن سري في أحشائه لهبٌ ... فما تطيق له طياً حواشيها
قد كان صدرك للأسرار جندلة ... ضنينة بالذي تخفي نواحيها
فصار من بعد ما استودعت جوهرة ... رقيقة تستشف العين ما فيها
وقال من قصيدة:
لا تأنفن من العتاب وقرصه ... فالمسك يسحق كي يزيد فضائلا
ما أحرق العود الذي أشممته ... خطأٌ ولا غُمَّ البنفسج باطلا
هذا مما أخرج له في الربيع وآثاره وأنواره وأزهاره فمنه قوله من قصيدة:
أما ترى الجو يجلي في ممسكةٍ ... والأرض تختال في أبرادها القشبِ

(1/211)


إذا ألح حسام البرق مؤتلقاً ... في الومض جد خطيب الرعد في الخطب
والريح وسنى خلال الروض وانية ... فما يراع لها مستيقظ الترب
وقال من أخرى:
شاقني مستشرف الدير وقد ... راح صوب المزن فيه وبكرْ
أهواء رق في أرجائه ... أم هو راق فما فيه كدر
أم خدود سفرت عن وردها ... أم ربيع عن جنى الورد سفر
مجلس ينصرف الشرب وما ... طويت من بسطه تلك الحُبُر
وكأن الشمس فيه نثرت ... ورقاً ما بين أوراق الشجر
بين غُدرٍ تقع الطير بها ... فتراهن رياضاً في غدر
ونسيم وكره الروض فإن ... طار في الصبح ارتدينا عطرا
وثرى يشهد بالطيب له ... عبق خالف أطراف الأزر
وغيوم نشرت أعلامها ... فلها ظلّ علينا منشر
ومن أخرى:
وحدائق يسبيك وشي برودها ... حتى تشبهها سبائب عبقر
يجري النسيم خلالها وكأنما ... غمست فضول ردائه في العنبر
باتت قلوب المحل تخفق بينها ... بخفوق رايات السحاب الممطر
من كل نائي الحجرتين مولع ... بالبرق داني الظلتين مشهر
تحدي بألسنة الرعود عشاره ... فيسير بين مغرد ومزمجر
طارت عقيقة برقه فكأنما ... صدعت ممسّك غيمه بمعصفر
وقال في روض وغدير فيه طير الماء من أرجوزة:
وضاحك الروض محلّى المنزل ... سبط هبوب الريح جعد المنهل
موشّح بالنّور أو مكلل ... مفروجة حلته عن جدول
أقبل قد غصن بمدّ مقبل ... والطير ينقض عليه من عل
تساقط الوشي على المصندل
وقال في الورد:
لو رحبّت كأس بذي زورةٍ ... لرحّبت بالورد إذ زارها
جاء فخلناه خدوداً بدت ... مضرمةً من خجل نارها
وعطّر الدنيا فطابه به ... لا عدمت دنياه عطارها
وقال في وصف الروض وقوس قزح:
إن عنّ لهو أو سنح ... فاغد إلى الراح ورح
رضيت أن أحظى بعزّ ... الكأس والحظ منح
وصاحب يقدح لي ... نار السرور بالقدح
في روضة قد لبست ... من لؤلؤ الطلّ سبح
يألفني حمامها ... مغتبقاً ومصطبح
أوقظه بالعزف أو ... يوقظني إذا صدح
والجو في ممسك ... طرازه قوس قزح
يبكي بلا حزن كما ... يضحك من غير فرح
وقال:
هفا طرباً في أوان الطرب ... فأنخب أقداحه كالنخب
وغنّى ارتياحاً إلى عارض ... يغني وعبرته تنسكب
غيومٌ تمسك أفق السماء ... وبرق يكتبه بالذهب
وخضراء ينثر فيها الندى ... فريد ندىً ماله من ثقب
فأنوارها مثل نظم الحلى ... وأنهارها مثل بيض القضب
حللت بها مع ندامى سلوا ... عن الجد واشتهروا باللعب
وأغتنم عن بديع السماع ... بدائع ما ضمنّته الكتب
وأحسن شيء ربيع الحيا ... أضيف إليه ربيع الأدب
وقال في وصف البرد:
يوم خلعت به عذاري ... فعريت من حلل الوقار
وضحكت فيه إلى الصبا ... والشيب يضحك في عذاري
متلوّن يبدي لنا ... طرفاً بأطراف النهار
فهواؤه سكب الردا ... ء وغيمه جافى الإزار
يبكي فيجمد دمعه ... والبرق يكحله بنار
الشراب وما يتصل به قال يصف باقي زجاجة الكأس من أعلاها إذا كانت ناقصة من الشراب:
أعاذل إنّ النائبات بمرصد ... وإن سرور المرء غير مخلّد
إذا ما مضى يوم من العيش صالح ... فصله بيوم صالح العيش من غد
وحالية من حسنها وجمالها ... وإن برزت عطل الشّوى والمقلد
تعاطيك كأساً غير ملأى كأنما ... فواقعها أحداق درع مزرد

(1/212)


كأنّ أعاليها بياض سوالف ... يلوح على توريد جيب مورّد
وقال في مثل ذلك:
وصفراء من ماء الكروم شربتها ... على وجه صفراء الغلائل غضةِ
تبدّت وفضل الكأس يلمع فوقها ... كأترجة زينت بإكليل فضة
وقال في مثل ذلك:
دعانا إلى اللهو داعي السرور ... فبتنا نبوح بما في الصدور
وطافت علينا بشمس الدّنا ... ن في غسق الليل شمس الخدور
كأنّ الكؤوس وقد كللت ... بفضلاتهن أكاليل نور
جيوب من الوشي مزرورة ... يلوح عليها بياض النحور
وقال:
وفتية دارت السعود لهم ... فدار للراح بينهم فلك
بتنا وضوء الكؤوس يهتك بال ... إشراق ستر الدجى فينتهك
ترى الثريا والبدر في قرن ... كما يحيا بنرجس ملك
وقال وقد شرب ليلة في زورق:
ومعتدل يسعى إليّ بكأسه ... وقد كاد ضوء الصبح بالليل يفتك
وقد حجب الغيم السماء كأنّما ... يزرّ عليها منه ثوب ممسّك
ظللنا نبث الوجد والكأس دائرٌ ... ونهتك أستار الهوى فتهتك
ومجلسنا في الماء يهوي ويرتقي ... وإبريقنا في الكأس يبكي ويضحك
وقال من قصيدة:
وساق يقابل إبريقه ... كما قابل الظبي ظبياً ربيبا
يطوف علينا بشمسية ... نروع بها الشمس حتى تغيبا
وقال من أخرى:
وملآن من عبرات الكروم ... كأنّ على فمه عصفرا
إذا قربته أكفّ السّقاة ... من الكأس قهقه واستعبرا
تروّحه عذبات الفدام ... برياً النسيم إذا ما جرى
وريم إذا رام حث الكؤو ... س قطّب للتيه واستكبرا
وجرّد من طرفه خنجراً ... ومن نون طرّته خنجرا
ترى ورد وجنته أحمرا ... وريحان شاربه أخضرا
وقال:
أشرب فقد شرّد ضو ... ء الصبح عنّا الظلما
وانبسط النور على ... وجه الثرى فابتسما
كأنّما أطلع ما ... ء المزن فيه أنجما
وصوّب الإبريق في ال ... كأس مداماً عندما
كأنّه إذ مجها ... مقهقهٌ يبكي دما
وقال يذكر ليلة سكر فيها بقرطبل ويصف الشمع:
كستك الشبيبة ريعانها ... وأهدت لك الراح ريحانها
قد للنديم على عهده ... وغاد المدام وندمانها
فقد خلع الأفق ثوب الدجى ... كما نضت البيض أجفانها
وساق يواجهني وجهه ... فتجعله العين بستانها
يتوّج بالكأس كفّ النديم ... إذا نظم الماء تيجانها
فطوراً يوشح ياقوتها ... وطوراً يرصع عقيانها
رميت بأفراسها حلبة ... من اللهو ترهج ميدانها
وديراً شغفت بغزلانه ... فكدت أقبل صلبانها
فلما دجى الليل فرّجته ... بروح تحيف جثمانها
بشمع أعير قدود الرماح ... وسرج ذراها وألوانها
غصون من التبر قد أزهرت ... لهيبا يزين أفنانها
فيا حسن أرواحها في الدجى ... وقد أكلت فيه أبدانها
سكرت بقطربل ليلةً ... لهوت فغازلت غزلانها
وأي ليالي الهوى أحسنت ... إليّ فأنكرت إحسانها
وقال:
قم فأنتصف من صروف الدهر والنوب ... واجمع بكأسك شمل اللهو والطرب
أما ترى الصبح قد قامت عساكره ... في الشرق ينشر أعلاماً من الذهب
والجو يختال في حجب ممسكّة ... كأنّما البرق فيها قلب ذي رعب
وجانبتك صروف الدهر فانصرفت ... وقابلتك سعود العيش عن كثب
فاخلع عذارك واشرب قهوة مزجت ... بقهوة الفلج المعشوق والشنب

(1/213)


فالعيش في ظل أيام الصبا فإذا ... ودّعت طيب الشباب الغض لم يطب
جربت في حلبة الأهواء مجتهداً ... وكيف أقصر والأيام في طلبي
توّج بكأسك قبل الحادثات يدي ... فالكأس تاج يد المثري من الأدب
وقال:
خذوا من العيش فالأيام فانيةٌ ... والدهر منصرف والعيش منقرض
في حامل الكأس من بدر الدجى خلف ... وفي المدامة من شمس الضحى عوض
كأنّ نجم الثريا كفّ ذي كرم ... مبسوطة بالعطايا ليس تنقبض
دارت علينا كؤوس الراح مترعةٌ ... وللدجى عارض في الجوّ معترض
حتى رأيت نجوم الليل غائرة ... كأنّهنّ عيونٌ حشوها مرض
وقال يصف ظل كرم:
أدرها ففقد اللوم إحدى الغنائم ... ولا تخش إثماً لست فيها بآثم
ولا عيش إلا في اعتصام بقهوة ... يروح الفتى منها خصيب المعاصم
ولا ظلّ إلاّ ظلّ كرم معرّش ... يغنّيك في قطريه ورق الحمائم
سماء غصون تحجب الشمس أن ترى ... على الأرض إلاّ مثل نثر الدراهم
وقال:
اليوم يعذب وردٌ فيه تكدير ... ويستفيد من الهجران مهجور
حثّ الكؤوس فذا يوم به قصرٌ ... وما به عن تمام الحسن تقصير
صحو وغيمٌ يروق العين حسنهما ... فالصحو فيروزجٌ والغيم سمّور
وقال:
وبكر شربناها على الورد بكرةً ... فكانت لنا ورداً إلى ضحوة الغد
إذا قام مبيضٌ اللباس يديرها ... توهّمته يسعى بكمٍّ مورد
؟استهداء الشراب كتب إلى أبي الحسن الشمشاطي:
أبا حسن إنّ وجه الربيع ... جميلٌ يزان بحسن العقار
فإن الربيع نهار السرو ... ر والراح شمس لذاك النهار
وإنك مشرقها إن أردت ... وإن لم ترد غربت في استتار
فأجر إليّ بحار العقار ... فمن فيض كفيك فيض البحار
وقد عبّأ الهم لي جيشه ... وليس له غير جيش الخمار
وكتب في يوم فصده إلى أبي إسحاق الصابي:
أبا إسحق يا جبلي ... ألوذ به ومعتصمي
أرقت دمي وأعوزني ... سليل الكرم والكرم
وبين يديّ مخجلةٌ ... سواد القار والظلم
ترى اللهوات تحجبها ... إذا وقعت حيال فمي
ولست أسيغها إلا ... كلون الورد والعنم
فشيئاً من دم العنقو ... د أجعله مكان دمي
وكتب إلى أبي الهيجاء الحمداني:
تجنّبني حسن المدام وطيبها ... فقد ظمئت نفسي وطال شحوبها
وعندي ظروف لو تظرف دهرها ... لما بات مغرى بالكآبة كوبها
وشعث دنان خاويات كأنها ... صدور رجال فارقتها قلوبها
فسقياك لا سقيا السحاب فإنما ... بي العلة الكبرى وأنت طبيها
وكتب إلى صديق له:
أبا الحسين دعت نفسي أمانيها ... إلى يد منك مشكور أياديها
تصرم الصوم عنّا بعد ما ظمئت ... له النفوس وفقد الراح يظميها
فجد بعذراء مثل الشمس تعذرها ... إن أظهرت صلفاً للحسن أوتيها
واعلم بأنّ ظروف الراح إن كبرت ... عند الهدية أبدت ظرف مهديها
وكتب إلى صديق له في وقت كثير الثلج شديد البرد من أبيات:
طرقتك ممتاحاً وليس لطارقٍ ... يرومك من وقع الضريب طريق
جنوب تحث المزن حثاً وشمألٌ ... تعبس منه الوجه وهو طليق
وضوء حريق ألبس الأرض ثوبه ... يخاف على الإقدام منه حريق
تثير الصبا في الجو منه عجاجة ... كما انتثر الكافور وهو سحيق
وما انفل حد القرّ إلاّ بقهوة ... ترقرق في كاساتها فتروق
إذا لبست أثوابها فعقيقةٌ ... وإن نشرت أنفاسها فخلوق
تدور علينا كأسها في غلائل ... رقاق تردّ العيش وهو رقيق

(1/214)


فألبس منها جبّة حين أنتشي ... وأخلعها بالكره حين أفيق
وإني خليق من نداك بمثلها ... وأنت بما أملت منك خليق
هذا ما أخرج له في الأستزارة ووصف آلاتها قال يدعو صديقاً له، ويصف غرفة له بالموصل مشرفة على الربض الأسفل والنهر، ويصف ما عنده من قدر وكانون ونار وشراب:
لنا غرفة حسنت منظراً ... وطابت لساكنها مخبرا
ترى العين من تحتها روضة ... ومن فوقها عارضاً ممطرا
وينساب قدّامها جدولٌ ... كما ذعر الأيم أو نفرا
وراح كأن نسيم الصّبا ... يحمل من نشرها العنبرا
وعندي علق قليل المكاس ... وندمان صدق قليل المرا
ودهماء تهدر هدر الفنيق ... إذا ما امتطيت لهباً مسعرا
تجيش بأوصال وحشيةٍ ... رعت زهرات الربا أشهرا
كأن على النار زنجية ... تفرّج ثوبا لها أصفرا
وذو أربع لا يطيق النهوض ... ولا يألف السير فيمن سرى
تحمله سبجاً أسودا ... فيجعله ذهباً أحمرا
وقد بكّر العبد من عندنا ... يزفّ لك الطرف الممطرا
فشمّر إلى روضة ترتضى ... فإن أخا الجدّ من شمّرا
وقوله:
لم ألق ريحانة ولا راحا ... إلاّ ثنتني إليك مرتاحا
وعندنا ظبية مهفهفةٌ ... ترأم ريماً يحنّ صداحا
تفسد قلبي إن أصلحته ولا ... أرى لما أفسدته إصلاحا
وفتية إن تذاكروا ذكروا ... من الكلام المليح أرواحا
وقد أضاءت نجوم مجلسنا ... حتى اكتسى غرّة وأوضاحا
إن جمدت راحنا غدت ذهبا ... أو ذاب تفاحنا غدا راحا
عصابة إن شهدت مجلسهم ... كنت شهاباً له ومصباحا
أغلق باب السرور دونهم ... فكن لباب السرور مفتاحا
وقال يصف كانون ويدعو صديقاً:
يوم رذاذ ممسك الحجب ... يضحك فيه السرور عن كثب
ومجلس أسبلت ستائره ... على شموس البهاء والحسب
وقد جرت خيل راحنا خبباً ... في جريها أو هممن بالخبب
والتهبت نارنا فمنظرها ... يغنيك عن كل منظر عجب
إذا ارتمت بالشرار واطردت ... على ذراها مطارد اللهب
رأيت ياقوتةً مشبكةً ... تطير عنها قراضة الذهب
فصر إلى المجلس الذي ابتسمت ... فيه رياض الجمال والأدب
وقال:
نفسي فداؤك كيف تصبر طائعاً ... من فتيةٍ مثل البدور صباحِ
حنّت نفوسهم إليك فأعلنوا ... نفساً بغلِّ مسالك الأرواح
وغدوا لراحهم وذكرك بينهم ... أذكى وأطيب من نسيم الراح
فإذا جرت خبباً على أيديهم ... جعلوه ريحاناً على الأقداح
وقال:
لنا روضة في الدار صيغ لزهرها ... قلائد من حمل الندى وشنوف
يطوف بنا منها إذا ما تبسّمت ... نسيم كعقل الخالدي ضعيف
وندمان صدق نثره ونظامه ... ربيع إذا قارضته وخريف
وقد رق ثوب الغيم حتّى كأنما ... تنشر دون الأفق منه شفوف
فزر مجلساً قد شرّف الله أهله ... وفضّلهم إنّ الأديب شريف
ولا تعد أفعال الظريف، فإنّه ... زمان رقيق الحلبتين ظريف
وقال:
هواء كالهوى حسناً وظرفاً ... وخيش ليس يترك أن يجفّا
وفتيان كرام باكروه ... ونجم صباحهم يبدو ويخفى
فإن بادرتهم جعلوك بدراً ... وإن خالفتهم جعلوك خلفا
؟أوصاف شتى قال في وصف الهلال:
ألا عدلي بباطية وكاسٍ ... ورع همّي بإبريق وطاس
وذاكرني بشعر أبي فراس ... على روض كشعر أبي نواس
وغيمٍ مرهفات البرق فيه ... عوار، والرياض به كواسي
وقد سلّت جيوش الفطر فيه ... على شهر الصيام سيوف باس

(1/215)