صدر هذا الكتاب آليا بواسطة الموسوعة الشاملة
(اضغط هنا للانتقال إلى صفحة الموسوعة الشاملة على الإنترنت)
الكتاب : يتيمة الدهر |
ولاح لنا الهلال كشطر طوق ... على لبّات زرقاء اللباس (1/216)
وقال:
جاءك شهر السرور شوال ... وغال شهر الصيام مغتال
أما رأيت الهلال يرمقه ... قومٌ لهم إن رأوه إهلال
كأنه قيد فضة حرج ... فضّ عن الصائمين فاختالوا
قال في وصف الريحان:
وبساط ريحان كماء زبرجدٍ ... عبثت بصفحته الجنوب فأرعدا
يشتاقه الشرب الكرام فكلّما ... مرض النسيم سعوا إليه عوّدا
وقال في وصف طبل العزف:
ومقيد الطرفين يط ... رب عند تضييق القيود
ولقد يلطم خدّه ... في حال ترفيه الخدود
وكأنّما زأراته ... يحسبن زأرات الأسود
أنظر إليه مع المدا ... م ترى بروقاً مع رعود
وقال في وصف البراغيث:
وليلة من نقمات الدهر ... قطعتها نزر الكرى والصبر
مكلّم الظهر جريح الصدر ... مقسّما بين أعادٍ خزر
كُمتٍ إذا عاينتها وشقر ... كأنّها آثارها في الأرز
وصف المروحة:
ومبثوثة في كل شرق ومغرب ... لها أمّهات العراق قواطن
يحرّك أنفاس الرياح حراكها ... كأنّ نسيم الريح فيهن كامن
وصف منثور:
ومجرد كالسيف أسلم نفسه ... لمجرد يكسوه ما لا ينسجُ
ثوبٌ تمزّقه الأنامل رقةً ... ويصيبه الماء القراح فيبهج
فكأنه لما استوى في خصره ... نصفان ذا عاجٌ وذا فيروزج
وصف الديك:
كشف الصباح قناعه فتألّقا ... وسطا على الليل البهيم فأطرقا
وعلا فلاح على الجدار موشّحا ... بالوشي توّج بالعقيق وطوّقا
مرخٌ فضول التاج في لبّاته ... ومشمر وشياً عليه منمقا
وصف كلاب الصيد:
غدوت بها مجنونة في اغتدائها ... تلاقي الوحوش الحين عند لقائها
لهن شيات كالزوامج أصبحت ... مولّعة ظلماؤها بضيائها
وأيدٍ إذا سلّت صوالج فضةٍ ... على الوحش يوماً ذهبت بدمائها
وفي مثله:
إذا ما دعونا لاحقاً ومعانقا ... وقيد لدينا واثب ومخالس
فذلك يومٌ جانب السعد سربه ... وقوبل بالنحس الظباء الكوانس
كأن جلود الوحش بين كلابها ... وقد دميت أجيادها والمعاطس
مصندلة القمصان شقّت جيوبها ... ورقرق فيهن العبير العرائس
وقال في وصف قدر:
سوداء لم تنتسب لحام ... ولم ترم ساحة الكرام
كأنما تحتها ثلاقٌ ... مقترنات من الحمام
يلعب في جسمها لهيبٌ ... لعب سنا البرق في الظلام
لها كلامٌ إذا تناهت ... غير فصيح من الكلام
وهي وإن لم تذق طعاماً ... مملوءة الجسم من طعام
لم يخل من رفدها نديمي ... يوم خمار ولا مدام
ولى إذا الضيف عاد أخرى ... مصرّع حولها سوامي
عظيمة إن غلت أذابت ... بغليها لابس العظام
كأنما الجن ركّبتها ... على ثلاث من الأكام
لها دخان تضل فيه ... عجاجة الجحفل اللّهام
كأنّما النار ألبستها ... معصفرات من الضّرام
ولم يزل مالنا مباحاً ... من غير ذلّ ولا اهتضام
نأخذ للقوت منه سهماً ... وللندى سائر السهام
وصف حمل مشوى:
أنعته معصفر الردين ... أبيض صافي حمرة الجنبين
خلف شهرين على الخلفين ... ثم رعى بعدهما شهرين
فجسمه شبران في شبرين ... يا حسنه وهو صريع الحين
بين ذراعين مفصّلين ... كسارق حدّ من اليدين
وطرف يستوقف الطرفين ... كمثل مرآة من اللجين
مذهبة المقبض والوجهين ... تعرفه مرهفة الحدّين
بكفّ طاه عطر الكفين ... شق حشاه عن شقيقتين
أختين في القدّ شبيهتين ... كما قرنت بين كمأتين (1/217)
أو كرتي مسك لطيفتين
وقال يصف جام فالوذج ويعبث بأبي بكر الخالدي، ويشير إلى أنه يميل إلى البرطيل:
إذا شئت أن تجتاح حقاً بباطل ... وتغرق خصماً كان غير غريق
فسائل أبا بكر تجد منه سالكاً ... إلى ظلمات الظلم كل طريق
ولاطفه بالشهد المخلق وجهه ... وإن كان بالألطاف غير حقيق
بأحمر مبيض الزجاج كأنه ... رداء عروس مشرب بخلوق
له في الحشا برد الوصال وطيبه ... وإن كان يلقاه بلون حريق
كأنّ بياض اللوز في جنباته ... كواكب لاحت في سماء عقيق
وصف الفقاع:
لست بناف خمار مخمور ... إلاّ بصافي الشراب مقرور
يطير عن رأسه الفقاع إذا ... نفست عنه خناق مزرور
رام بسهم كأنّه خصر ... وطيب نشرٍ نسيم كافور
يميل أعلاه وهو منتصب ... كأنّه صولجان بلّور
وصف طبيب بارع:
برز إبراهيم في علمه ... فراح يدعى وراث العلم
أوضح نهج الطب في معشرٍ ... ما زال فيهم دارس الرسم
كأنّه من لطف أفكاره ... يجول بين الدّم واللّحم
إن غضبت روحٌ على جسمها ... أصلح بين الروح والجسم
وفي مثل ذلك:
هل للعليل سوى ابن قرّة شافي ... بعد الإله وهل له من كافي
أحيا لنا رسم الفلاسفة الذي ... أودى وأوضح رسم طبّ عافي
فكأنه عيسى ابن مريم ناطقا ... يهب الحياة بأيسر الأوصاف
مثلت له قارورتي فرأى بها ... ما اكتن بين جوانحي وشغافي
يبدو له الداء الخفي كما بدا ... للعين رضراض الغدير الصافي
وصف مزين حاذق:
هل الحذق إلا لعبد الكريم ... حوى فضله حادثاً عن قديم
إذا لمع البرق في كفّه ... أفاض على الرأس ماء النعيم
جهول الحسام ولكنّه ... يروح ويغدو بكفي حليم
نمنا بخدمته مذ نشا ... فنحن به في نعيم مقيم
أبو بكر محمد وأبو عثمان سعيد
ابنا هاشم الخالديان
إن هذان لساحران، يغربان بما يجلبان، ويبدعان فيما يصنعان، وكان ما يجمعهما من أخوة الأدب، مثل ما ينظمهما من أخوة النسب. فهما في الموافقة والمساعدة؛ يحييان بروح واحدة. ويشتركان في قرض الشعر وينفردان، ولا يكادان في الحضر والسفر يفترقان. وكانا في التساوي والتشابك. والتشاكل والتشارك، كما قال أبو تمام:
رضيعي لبان شريكي عنان ... عتيقي رهان حليفي صفاء
بل كما قال البحتري:
كالفرقدين إذا تأمل ناظر ... لم يعل موضع فرقد عن فرقد
بل كما قال أبو إسحاق الصابي فيهما:
أرى الشاعريين الخالديين سيّراً ... قصائد يفني الدهر وهي تخلّد
جواهر من أبكار لفظ وعونه ... يقصر عنها راجز ومقصد
تنازع قوم فيهما وتناقضوا ... ومرّ جدال بينهم يتردد
فطائفة قالت سعيد مقدم ... وطائفة قالت لهم بل محمد
وصاروا إلى حكمي فأصلحت بينهم ... وما قلت إلاّ بالتي هي أرشد
هما في اجتماع الفضل زوج مؤلّف ... ومعناهما من حيث يثبت مفرد
كذا فرقدا الظلماء لمّا تشاكلا ... علا أشكلا هل ذاك أم ذاك أمجد
فزوجهما ما مثله اتفاقه ... وفردهما بين الكواكب أوحد
فقاموا على صلح وقال جميعهم ... رضينا وساوى فرقد الأرض فرقد
وما أعدل هذه الحكومة من أبي إسحاق فما منها إلا منهما إلا محسن ينظم في سلك الإبداع ما فاق وراق. ويكاثر بمحاسنه وبدائعه الأفراد من شعراء الشام والعراق. وقد ذكرت ما شجر بينهما وبين السري في شأن المصالتة المسارقة، وما أقدم عليه السري من دس أحسن أشعارهما في شعر كشاجم، وكان أفاضل الشام والعراق إذ ذاك فرقتين: إحداهما - وهي في شق الرجحان - تتعصب عليه لهما. لفضل ما رزقناه من قلوب الملوك والأكابر. والأخرى تتعصب له عليهما، وقد بدأت بملح. (1/218)
شعر أبي بكر لأنه أكبر الأخوين
هذه نبذ مما اتفق له فيه التوارد مع السري أو التسارق
قال أبو بكر:
قام مثل الغصن الميّ ... اد في غضّ الشباب
بمزج الخمر لنا بال ... صفو من ماء الشراب
فكأن الكأس لما ... ضحكت تحت الحباب
وجنّة حمراء لاحت ... لك من تحت النقاب
وقال السري:
وكأن كأس مدامها ... لما ارتدت بحبابها
توريد وجنتها إذا ... ما لاح تحت نقابها
وقال أبو بكر:
إلا فاسقني والليل قد غاب نوره ... لغيبته في بدر الغمام غريق
وقد فضح الظلماء برقٌ كأنّه ... فؤاد مشوق مولع بخفوق
وإنما سرقة من قول أبن المعتز:
أمنك سرى يا سرّ طيفٌ كأنّه ... فؤاد مشوق مولع بخفوق
رجع:
مداماً كأن الكف من طيب نشرها ... وصفرتها قد خلّقت بخلوق
نعاينها نوراً جلاه تجسد ... ونشربها ناراً بغير حريق
كأن حباب الكأس في جنباتها ... كواكب درّ في سماء عقيق
وقد مر مثله للسري في وصف الفالوذج.
وقال أبو بكر:
مطرب الصبح هيج الطربا ... لما قضى الليل نحبه انتحبا
مغرد تابع الصباح فما ... ندري رضا كان ذاك أم غضبا
ما تنكر الطير أنه ملك ... لها فبالتاج راح معتصِباً
طوى الظلام البنود منصرفاً ... حين رأى الفجر ينشر العذبا
والليل من فتكة الصباح به ... كراهب شق جيبه طربا
وللسري في مثله:
كراهب للهوى طرباً ... فشق جلبابه من الطرب
قال أبو بكر:
فباكر الخمرة التي تركت ... بنان كف المدبر مختضبا
كأنما صب في الزجاجة من ... لطف ومن رقة نسيم صبا
وليس نار الهموم خامدة ... إلا بنور الكؤوس ملتهبا
يظل زق المداد ممتهناً ... سحباً وذيل المجون منسحبا
ومنها في وصف كانون نار:
ومقعد لا حراك ينهضه ... وهو على أربعٍ قد انتصبا
مصفر محرق تنفسه ... تخاله العين عاشقاً وصبا
إذا نظمنا في جيده سبحاً ... صيره بعد ساعة ذهبا
ومثله للسري:
وذو أربعٍ لا يطيق النهوض ... ولا يألف السير فيمن سرى
نحمله سبجاً أسوداً ... فيجعله ذهباً أحمرا
رجع:
فما خبت نارنا ولا وقفت ... خيول لهوٍ جرت بنا خببا
وساحر الطرف لا نقاب له ... إذ كان بالجلنار منتقبا
تقطف من ثغره ووجنته ... أنامل الطرف زهرة عجبا
شقائقاً مذهباً يرى خجلاً ... وأقحوانا مفضضاً شنبا
ومثله للسري:
سَفَرْنَ فلاح الأقحوان مفضضاً ... على القرب منا والشقيق مذهبا
رجع:
حتى إذا ما انتشى ونشوته ... قد سهلت منه كل ما صعبا
غلبت صحبي عليه منفرداً ... به وهل فاز غير من غلبا؟
أرشف ريقاً عذب اللمى خصرا ... كأن فيه الضريب والضربا
ما أخرج من شعره الذي ينسب في بعض النسخ إلى كشاجم غير ما تقدم ذكره من ذلك قال:
قامر بالنفس في هوى قمر ... ونال وصل البدور بالبدر
وافتض أبكار لهوه طرباً ... إلى عشايا المدام والبكر
مسرة كيلها بلا حشفٍ ... ولذة صفوها بلا كدر
قد ضربت خيمة الغمام لنا ... ورش خيش النسيم بالمطر (1/219)
وعندنا عاتقان حمراء كالش ... مس وأخرى صفراء كالقمر
مدامة كان من تقادمها ... عاصرها آدم أبو البشر
وبنت خدر تريك صورتها ... بدر الدجى في ردائها العطر
حنت على عودها وقد تركت ... مدامنا مجوناً قلائد الزهر
يا تاركاً طيب يومه لغد ... تبيع عين السرور بالأثر!
إن وترت قلبك الهموم فما ... مثل انتصار بالناي والوتر
وقوله:
رق ثوب الدجى وطاب الهواء ... وتدلت للمغرب الجوزاء
والصباح المنير قد نشرت منه ... على الأرض ريطة بيضاء
فاسقنيها حتى ترى الشمس في الغر ... ب عليها غلالة صفراء
قهوة بابلية كدم الشا ... دن بكراً لكنها شمطاء
قد كستها الدهور أردية الرق ... ة حتى جفا لديها الهواء
فهي في خد كأسها صفرة التب ... ر وفي الخد وردة حمراء
عجباً ما رأيت من أعجب الأش ... ياء تقدير من له الأشياء
سبج يستحيل منه عقيق ... وظلام ينسل منه ضياء
وقوله، وهو مما ينسب أيضاً إلى المهلبي الوزير:
خليلي إني للثريا لحاسد ... وإني على ريب الزمان لواجد
أيبقى جميعاً شملها وهي سبعة ... وأفقد من أحببته وهو واحد
وقوله من قصيدة في مرثية الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما:
إذا تفكرت في مصابهم ... أتعب زند الهموم قادحةُ
بعضهم قربت مصارعه ... وبعضهم بعدت مطارحه
أظلم في كربلاء يومهم ... ثم تجلى وهم ذبائحه
لا برح الغيث كل شارقة ... تهمي غواديه أو روائحه
على ثرى حلة ابن بنت رسو ... ل الله مجروحة جوارحه
ذل حماه وقل ناصره ... ونال أقصى مناه كاشحه
غفرتم بالثرى جبين فتى ... جبريل بعد النبي ماسحه!
يظل ما بينكم دم ابن رسو ... ل الله وابن السفاح سافحه!
سيان عند الأنام كلهم ... خاذله منكم وذابحه
وقوله:
محاسن الدير تسبيحي ومسباحي ... وخمره في الدجى صبحي ومصباحي
أقمت فيه إلى أن صار هيكله ... بيتي ومفتاحه للحسن مفتاحي
منادماً في قلاليه رهابنةً ... راحت خلائقهم أصفى من الراح
قد عدلوا ثقل أديان ومعرفة ... فيهم بخفة أبدان وأرواح
ووشحوا غرر الآداب فلسفة ... وحكمة بعلوم ذات إيضاح
في طب بقراط لحن الموصلي وفي ... نحو المبرد أشعار الطرماح
وكم حننت إلى حاناته وغدا ... شوقي يكاثر أصواتاً بأقداح
حتى تخمر خماري بمعرفتي ... وحيرت ملحي في السكر ملاحي
يا دير مران لا تعدم ضحى ودجى ... سجال غيث ملث الودق سحاح
إن تفن كأسك أكياسي فإن بها ... يفل جيش همومي جيش أفراحي
وإن أقسم سوق أطرابي فلا عجب ... هذا بذاك إذا ما قام نواحي
وقوله:
يا نفس موتي فقد جد الأسى موتي ... ما كنت أول صب غير مبخوتِ
بكى إلي غداة البين حين رأى ... دمعي يفيض وحالي حال مبهوت
فدمعتي ذوب ياقوت على ذهب ... ودمعه ذوب در فوق ياقوت
وقوله:
أنباك شاهد أمري عن مغيبةٍ ... وجد جد الهوى بي في تلعبه
يا نازحاً نزحت دمعي قطيعته ... هب لي من الدمع ما أبكي عليك به
وقوله من قصيدة:
لا تطنبن بكاء النوء والطنب ... ولا تحيي كثيب الحي من كثبِ
ولا تجد بغمام للغميم ولا ... تسمح لسرب المها بالواكف السرب
ربع تعفى فأعفى من جوى واسى ... قلبي وكان إلى اللذات منقلبي (1/220)
سيان بان خليط أو أقام به ... فإنما عامر البيداء كالخرب
أبهى وأجمل من وصف الجمال ومن ... إدمان ذكر هوى يهوى على قتب
مد البنان إلى كأس على سكر ... ورفع صوت بتطريب على طرب
حمراء حين جلتها الكأس نقطها ... مزاجها بدنانير من الحبب
كانت لها أرجل الأعلاج واترةً ... بالدوس فانتصفت من أرؤس العرب
يسقكيها من بني الكفار بدر دجىً ... ألحاظه للمعاصي أوكد السبب
يومي إليك بأطراف مطرفة ... بها خضابان للعناب والعنب
هذا ما أخرج من سائر ملحه وغرره قال من قصيدة مطلعها:
ما زاره الطيف بعد البين معتمدا ... إلا ليدني له الشوق الذي بعدا
ومنها:
كأنما من ثناياها وريقتها ... أيدي الغمام سرقن البرد والبَرَدا
وقال وهو في نهاية الحسن:
لو أشرقت لك شمس ذاك الهودج ... لأرتك سالفتي غزال أدعجِ
ومنها:
أرعى النجوم كأنما في أفقها ... زهر الأقاحي في رياضِ بنفسج
والمشتري وسط السماء تخاله ... وسناه مثل الزئبق المترجرج
مسمار تبر أصف ركبته ... في فص خاتمِ فضة فيروزج
وتمايل الجوزاء يحكي في الدجى ... ميلان شارب قهوة لم تمزج
وتنقبت بخفيف غيمٍ أبيض ... هي فيه بين تخفر وتبرج
كتنفس الحسناء في المرآة إذ ... كملت محاسنها ولم تتزوج
وهذا تشبيه لم يسبق إليه، وقال:
وسحاب يجر في الأرض ذيلي ... مطرف زره على الأرض زرا
برقة لمحة ولكن له رع ... د بطيء يكسو المسامع وقرا
كخلي منافق للذي يه ... واه يبكي جهراً ويضحك سراً
وقال:
ألست ترى الظلام وقد تولى ... وعنقود الثريا قد تدلى
فدونك قهوة لم يبق منها ... تقادم عهدها إلا الأقلا
بزلنا دنها واللي داج ... فصيرت الدجى شمساً وظلاً
وقال:
يا معيري بالصد ثوب السقام ... أنت هم في يقظتي ومنامي
أنت أمنيتي فإن رمت غمضاً ... سلمتك المنى إلى الأحلام
وقال:
حور شغلن قلوبنا بفراغِ ... لرسائل قصرت عن الإبلاغ
ومنعن ورد خدودهن فلم نطق ... قطفاً له لعقارب الأصداغ
وقال:
روحي الفداء لظاعنين رحيلهم ... أنكى وأفسد في القلوب وعاثا
فليقض عدته السرور فإنني ... طلقت بعدهم السرور ثلاثا
أخذه من قول أبي تمام وزاد ذكر العدة، وهو قوله:
بلد خلعت اللهو خلعي خاتمي ... فيه وطلقت السرور ثلاثا
وقال:
في كنف الله ظاعن ظعنا ... أودع قلبي وداعه حزنا
لا أبصرت مقلتي محاسنه ... إن كنت أبصرت بعده حسنا
وقال:
أهلاً بشمس مدام من يدي قمر ... تكامل الحسن فيه فهو تياه
كأن خمرته إذ قام يمزجها ... من خده اعتصرت أو من ثناياه
إذا سقتك من الممزوج راحته ... كأساً سقتك كؤوس الصرف عيناه
في وجهه كان ريحان تراح له ... منا قلوب وأبصار وتهواه
النرجس الغض عيناه، وطرتهبنفسجٌوجني الورد خداه
وقال:
قلت لما بدا الهلال لعينٍ ... منعتها من الكرى عيناكا
يا هلال السماء لولا هلال ال ... أرض ما بت ساهراً أرعاكا
وقال:
وبدر دجى يمشي به غصي رطب ... دنا نوره لكن تناوله صعب
إذا ما بدا أغرى به كل ناظر ... كأن قلوب الناس في حبه قلب
وقال:
لا تحسبوا أنني باغٍ بكم بدلاً ... ولو تمكنت من صبري ومن جلدي
قلبي رقيب على قلبي لكم أبداً ... والعين عين عليه آخر الأبد
وقال:
فديت من زرعت في القلب لحظته ... صبابة وسقى بالدمع ما زرعا
لو أن قلبي وفاه محبته ... أحبه بقلوب العالمين معا (1/221)
وقال:
كأنما أنجم الثريا لمن ... يرمقها والظلام منطبق
مال بخيل يظل يجمعه ... من كل وجه وليس يفترق
وقال:
يا خليلي من عذيري من الدن ... يا ومن جورها علي وصبري
عجباً أنني أنافس في عم ... ران أيامها وتخرب عمري!
وقال:
هو الفجر قابلنا بابتسام ... لتصرف عنا عبوس الظلام
ولاح فحل كأس الشمو ... ل صرفاً وحرم كأس المنام
ظللنا على شم ورد الخدود ... ومسك النحور ونقل اللثام
نعين الصباح على كشفه ... قناع الظلام بضوء المدام
وقال:
إن خانك الدهر فكن عائذاً ... بالبيض والظلمات والعيسِ
ولا تكن عبد المنى فالمنى ... رؤوس أموال المفاليس
وقال:
حور جعلن وقد رحلن وداعنا ... بمدامع نطقت وهن سكوتُ
فعيونا سبجٌ ونثر دموعها ... در وحمرة خدها ياقوت
وقال:
ما عذرنا في حبسنا الأكوابا ... سقط الندى وصفا الهواء وطابا
ودعا بحي على الصبوح مغرداً ... ديك الصباح فهيج الأطرابا
وكأنما الصبح المنير وقد بدا ... بازٌ أطار من الظلام غرابا
فأدم لذاذة عيشنا بمدامة ... زادت على هرم الزمان شبابا
سفرت فغار حبابها من لحظنا ... فعلا محاسنها وصار نقابا
وقال من قصيدة:
فلأشكرنٌ لدير قنا ليلةً ... أشرقت ظلمتها ببدر مشرقِ
بتنا نوفي اللهو فيها حقه ... بالراح والوتر الفصيح المنطق
والجو يسحب من عليل هوائه ... ثوباً يرش بطله المترقرق
حتى رأينا الليل قوس ظهره ... هرماً واثر فيه شيب المفرق
وكأن ضوء الفجر في باقي الدجى ... سيف حلاه من اللجين المحرق
يا طيبها من ليلة لو لم تكن ... قصرت فريع تجمع بتفرق
وقال، وهو من إحسانه المشهور:
يا شبيه البدر حسناً ... وضياء ومثالا
وشبيه الغصن ليناً ... وقواما واعتدالا
أنت مثل الورد لوناً ... ونسيماً وملالا
زارنا حتى إذا ما ... سرنا بالقرب زالا
وقال:
رب ليل فضحته بضياء ال ... راح حتى تركته كالنهارِ
ذي سماء كخرم ونجومٍ ... مشرقات كنرجسٍ وبهارِ
وهلال يلوح في ساعد الغر ... ب كدملوج فضة أو سوارِ
بستُّ أجلو فيه شموس وجوهٍ ... حملت في الدجا شموس عقار
وقال وقد أمر الأمير بجمع المتكلمين ليتناظروا بحضرته في يوم دجن:
هو يوم كما ترا ... ه مليح الشمائلِ
هاج نوح الحمام في ... ه غناء البلابل
ولركب السحاب في ال ... جو حق كباطل
مثلما فاه في المهن ... د بعض الصياقل
جليت شمسه لرق ... ته في غلائل
وعمود الزمان مع ... تدل غير مائل
حين ساوى حر الهوا ... جر برد الأصائل
وغدا الروض في قلا ... ئده والخلاخل
فمن العجز أن ترى ... فيه طوع العواذل
يا لهذا أبي الهذي ... ل وتوصيل واصل
وملاحاة عاقلٍ ... ومقاساة جاهل
وخصومٍ يكابرو ... ن وضوح الدلائل
أنفٍ كيد الجدال عن ... ك بصيد الأجادل
كل صلب العظام وال ... لحم رطب المفاصل
وهو أهدى من الردى ... في طريق المقاتل
كم غدونا به لطير التلاع السوابل
فانبرى أخرس الجنا ... ح صخوب الجلاجل
وتعامى عن الشوى ... واهتدى للشواكل
بسكاكينه التي ... ثبتت في الأنامل
عقفت ثم أرهفت ... فهي مثل المناجل (1/222)
صاعد خلف صاعد ... نازل خلف نازل
فتردى رداء له ... و إلى الليل شامل
ثم انثنى جذلان بي ... ن القنا والقنابل
نحو ربعٍ من المكا ... رم والمجد آهل
فترى الأنس في عبي ... دك عذب المناهل
من عقول قد بلبلته ... هن صفراء بابل
فإذا الليل كف ك ... ل رقيب وعاذل
صرت الفرش تحت قو ... مٍ صرير المحامل
وقال:
وأغيد روته المدامة فانثنى ... كما ينثني من ريه الغصن الغضُّ
دعوت إليها وهو في دعوة الكرى ... وقد أخذت في خلع أسودها الأرض
فقام وفي أعطافه فضل سكرة ... وفي عينه من ورد وجنته بعض
وقال:
ومدامةٍ صفراء في قارورةٍ ... زرقاء تحملها بد بيضاءُ
فالراح شمسٌ والحباب كواكبٌ ... والكف قطب والإناء سماء
وقال:
راحٌ كضوء الشهاب ... سلافة الأعنابِ
والمزج ماء غدير ... صافٍ كماء الشباب
لو لم يكن ماء مزنٍ ... لكان لمع سراب
كأنه جسم درٍ ... عليه درعٌ حباب
يجري خلال حصى أب ... يض كقطر السحاب
كأنه الريق يجري ... على الثنايا العذاب
وقال في مخدة:
بأبي التي كتمت محاسنها ... خوف العيون وليس تنكتمُ
لبست سواداً كي تعاب به ... والبدر ليس يشينه الظلم
وقال من قصيدة في المهلبي الوزير استهلاها:
مهاةً توهمها أم غزالا ... وشمساً تشبهها أم هلالا
منعمةٌ أطلقت لحظها ... فكان لعقل المعنى عقالا
وشمس ترجل في مجلسٍ ... لندمانها وتغنى ارتجالا
ولا تعرف اللحن ألحانها ... إذا ما الخفاف تبعن الثقالا
شدت رملا في مديح الوزير ... فظلنا من السكر نحكي الرمالا
وهل ثملٌ مفكر بعد أن ... تكون له راحتاه ثمالا
ومنها في التهنئة بعيد الفطر:
هنيئاً مريئاً بأجرٍ أقام ... وصومٍ ترحل عنك ارتحالا
وفطر تواصل إقباله ... لن له بالسعود اتصالا
رأى العيد فعلك عيداً له ... وإن كان زاد عليه جمالا
وكبر حين رآك الهلالُ ... كفعلك حين رأيت الهلالا
رأى منك ما منه أبصرته ... هلالاً أضاء ووجهاً تلالا
تولاك فيه إله السماء ... بعزٍّ تعالى ويمنٍ توالى
ولقيت سعداً إذا العيد عاد ... ولقيت رشدا إذا الحول حالا
وإن رمضان أطاح الكؤوس ... فشوال يأذن في أن تشالا
فواصل بيمنٍ كؤوس الشمول ... يميناً مقبلةً أو شمالا
ولا زلت تعن رتبٍ نلتها ... ومن ذا رأى جبلاً قطُّ زالا؟
وقال من قصيدة فيه أيضاً:
أيدت ملك معز دولة هاشم ... فزمانه عرسٌ من الأعراسِ
وتيقن الشعراء أن رجاءهم ... في مأمن بك من وقوع الباس
ما صح علم الكيمياء لغيرهم ... فيمن عرفنا من جميع الناس
تعطيهم الأموال في بدرٍ إذا ... حملوا الكلام إليك في قرطاس
وقد ألم في هذا المعنى بقول بكر بن النطاح لأبي دلف:
يا طالباً للكيمياء ونفعه ... مدح ابن عيسى الكيمياء الأعظمُ
لو لم يكن في الأرض إلا درهم ... ومدحته لأتاك ذاك الدرهم
ولكنه لطفه وزاد فيه، وقال:
وأخٍ جفا ظلماً، وملّ، وطالما ... فقنا الأنام مودة ونداما
فسلوت عنه وقلت ليس بمنكر ... للدهر أن جعل الكرام لئاما
فالخمر وهي الراح ربتما غدت ... خلاً وكانت قبل ذاك مداما
وقال في معناه أيضاً:
وكم من عدو صار بعد عداوة ... صديقاً مجلاً في المجالس معظما (1/223)
ولا غرو فالعنقود في عود كرمه ... يرى عنباً من بعد ما كان حصرما
وقال في استهداء نبيذ، وقد عزم على أخذ دواء:
يا سيدا بالعلا والمجد منفردا ... وواحدٍ الأرض لا مستثنياً أحدا
لهاك أوجدت الآمال ما فقدت ... وقربت لمنى الراجين ما بعدا
هذا زمان علاجٍ يتقي ضرر ال ... أخلاط فيه لن الفصل قد وفدا
فلست تبصر إلا شارباً قدحاً ... مراً وإلا نزيف الجسم مفتصدا
وقد عصيت الهوى مذ أمس محتمياً ... لما عدمت لديه الصبر والجلدا
مناكرٌ لطباعي غير أن له ... عقبى تمازج محموداتها الجسدا
وليس لي قهوة أطفى بجمرتها ... عن مهجتي شره الماء الذي بردا
فامنن بدستيجة المشروب يومك ذا ... فقد عزمت على شرب الدواء غدا
وقال في العتاب:
وأخ رخصتُ عليه حتى ملني ... والشيء مملول إذا ما يرخصُ
يا ليته إذ باع ودي باعه ... فيمن يزيد عليه لا من ينقص
ما في زمانك ما يعز وجوده ... إن رمته إلا صديق مخلص
وقال:
يا من جفا في القرب ثم نأى ... فشكا الهوى بالكتب والرسلِ
مهلاً فإنك في فعالك ذي ... مثل الذي قيل في المثل
ترك الزيارة وهي ممكنةٌ ... وأتاك من مصر على جمل!
وقال: في وصف سيف:
متوقد، مترقرق، عجباً له ... نارٌ وماءٌ كيف يجتمعان؟
وكأنما أبواه صرفا دهرنا ... أو كان يرضع درة الحدثان
تجري مضاربه دماً يوم الوغى ... فكأنما حداه مفتصدان
وقال في هجاء شاعر:
لما تبدى الكوفي ينشدنا ... قنا له: طعنة وطاعونا
تجمع يا أحمق العباد لنا ... شعرك في برده وكانونا؟
وقال في مثل ذلك:
لو أن في فمه جمراً وأنشدنا ... شعراً لما ضره من برد إنشاده
ما أخرج من
شعر أبي عثمان سعيد بن هاشم الخالدي
وهو منسوب في بعض النسخ إلى كشاجم لسبب الذي تقدم ذكره، وما وقع عثمان فيه التوارد مع السري أو التسارق.
قال أبو عثمان:
ادنُ من الدنّ بي فداك أبي ... واشرب وسق الكبير وانتخبِ
أما ترى الطل كيف يلمع في ... عيون نورٍ تدعو إلى الطرب؟
في كل عين للطل لؤلؤة ... كدمعةٍ في جفون منتحب
والصبح قد جردت صوارمه ... والليل قد هم منه بالهرب
والجو في حلة ممسكةٍ ... قد كتبتها البروق بالذهب
وللسري في مثله:
غيوم تمسك أفق السماء ... وبرق يكتبها بالذهبِ
فهاتها كالعروس محمرة ال ... خدين في معجزْ من الحبب
كادت تكون في الهوا في أرجال ... عنبر لو لم يكن من العنب
من كف راضٍ عن الصدود وقد ... غضبت في حبه على الغضب
فلو ترى الكأس حين يمزجها ... رأيت شيئاً من أعجب العجب
نارُ حواها الزجاج يلهبها ال ... ماء ودر يدور في اللهب
وقال من قصيدة:
وليس للقر غير صافية ... تدفع ما ليس يدفع الدلقُ
درياق أفعى الشتاء وهو إذا ... سل علينا سيوفه درق
وقال يدعو صديقاً له في يوم شك:
هو يوم شكٍّ يا عل ... ي وشره مذ كان يحذرْ
والجو حلته ممسّ ... كةٌ ومطرفه معنبر
والماء عوديّ القمي ... ص وطيلسان الأرض أخضر
ولنا فضيلاتٌ تكو ... ن ليومنا قوتاً مقدرْ
ومدامةٌ صفراء أد ... رك عمرها كسرى وقيصر
وحديثنا ما قد علم ... ت وشعرنا ما أنت أبصر
فانشط لنا لنحثَّ من ... كاساتنا ما كان أكبر
أو لا فإنك جاهل ... إن قلت إنك سوف تعذر
وقال، وهو مما ينسب إلى الوزير المهلبي: (1/224)
فديتك ما شبت من كبرٍ ... وهذي سني وهذا الحساب
ولكن هجرت فحلَّ المشيب ... ولو قد وصلْت لعاد الشباب
وقال:
بليت بأحسن الثقلي ... ن إقبالاً ومنصرفا
فمثل الخشف ملتفتاً ... ومثل الغصن منعطفا
يسوفني بنائله ... وقد أهدى لي الأسفا
وآخذ وصله عِدةً ... ويأخذ مهجتي سلفا
وقال، وهو مما ينسب أيضا إلى المهلبي الوزير:
دموعي فيك أنواء غزار ... وقلبي ما يقر له قرارُ
وكل فتى علاه ثوب سقمٍ ... فذاك الثوب مني مستعار
وقال:
وقفتني ما بين هم وبوس ... وثنت بعد ضحكة بعبوسِ
ورأتني مشطت عاجاً بعاجٍ ... وهي الآبِنوسُ بالآبنوس
وللسري في معناه:
رأت شيباً يضاحكها فصدت ... وكان جزاؤه منها العبوسا
وقالت إذ رأت للمشط فيه سواداً ... لا يشاكله نفيسا
تلقَّ العاج منك بمشط عاج ... ودع للآبنوس الآبنوس
وأنشدني أبو سعيد ين دوست للصاحب في مثل ذلك:
هات مشطاً إلى وليك عاجا ... فهو أدنى إلى مشيب الرؤوس
وإذا ما مشطت عاجاً بعاج ... فامشط الآبنوس بالآبنوس
ما أخرج من سائر غرر أبي عثمان وملحه فمنها قوله:
كأن الرعود خلال البرو ... ق والريح يكثر تحريضها
زنوجٌ إذا خفقت بينها ... دبادبها جردت بيضها
صدت مجانبة نوارُ ... ونأى بجانبها ازورارُ
ورأت ثيابي قد غدتْ ... وكأنها دِمَنٌ قفار
ويا هذه إن رحت في ... خلقٍ فما في ذاك عار
هذه المدام هي الحيا ... ة قميصها خزفٌ وقار
وقوله:
شعر عبد السلام فيه رديء ... ومحالٌ وساقط وبديع
فهو مثل الزمان فيه مصيف ... وخريف وشتوة وربيع
وقوله:
أما ترى الغيم يا من قلبه قاسي ... كأنه أنا مقياسا بمقياس
قطر كدمعي وبرق مثل نار جوى ... في القلب مني وريح مثل أنفاسي
وقوله:
يا نديمي أطلق الفج ... ر فما للكأس حبسُ
قهوة تعطيكها قب ... ل طلوع الشمس شمس
وهي كالمريخ لكن ... هي سعد وهو نحس
وقوله:
يا قضيباً يميس تحت هلال ... وهلالاً يرنو بعيني غزالِ
منك يا شمسنا تعلمت الشم ... س دنو السنا وبعد المنال
سرقه من قول ابن الرومي:
يا شبيه البدر في ال ... حس وفي بعد المنال
وقوله في جارية سوداء يقال شغف:
إذا تغنت بعودها شغفٌ جاء سرور يفوق كل منى
واحدة الحذق لا نظير لها ... كالمسك لوناً وبهجة وغنا
وقوله فيها:
تركتنا بطيبها إذ تغنت ... شغف بين أنة ونحيب
طِبَّة بالغناء فهي لأسقا ... م الندامى لطافة كالطبيب
ألفتها القلوب لما رأتها ... صاغها الله من سواد القلوب
وإنما سرقه من قول ابن الرومي:
أكسبها الحب أنها صبغت ... صبغة حب القلوب والحدق
ونقص أبو عثمان من المعنى إذ ذكر الحدق.
وقال:
يا راقداً عارياً من ثوب أسقامي ... هب الرقاد لعين جفنها دامي
لا خلص الله قلبي من يدي رشأٍ ... رؤيا رجائي له أضغاث أحلام
وقوله:
يا حسنناً نحن في لهوٍ وليلتنا ... بزهر أنجمها ترمي العفاريتٌ
وقد تضايق في السكر العناق بنا ... كما تضايق في النظم اليواقيت
وقوله:
متبرم بعتابه ... مستعذب لعذابهِ
هجر العميد تعمداً ... فغدا وراح لما به
وكساه ثوب مشيبه ... في عنفوان شبابه
فتراه يؤذن في أوا ... ن مجيئه بذهابه
وقوله:
هتف الصبح بالدجى فاسقنيها ... قهوة تترك الحليم سقيها
لست تدري لرقةٍ وصفاءٍ ... هي في كأسها أم الكأس فيها (1/225)
وقوله:
ظالم لي وليته ال ... دهر يبقى ويظلم
وصله جنةٌ ول ... كن جفاه جهنم
ورضاه وسخطه ال ... دهر عرس ومأتم
وقوله:
إن شهر الصيام إذ جاء في فص ... ل ربيعٍ أودى بحسن وطيب
فكأن الورد المضعف في الصو ... م حبيب ٌ يمشي بجنبِ رقيب
وقوله:
وليلة ليلاء في ال ... لون كلون المفرقِ
كأنما نجومها ... في مغربٍ ومشرق
دراهم منثورةٌ على بساط أزرق
وقوله في معنى متداول:
بنفسي حبيب بان صبري لبينه ... وأودعني الأحزان ساعة ودعا
وأنحلني بالهجر حتى لو أنني ... قذى بين جفني أرمدٍ ما توجعا
وقوله من قصيدة:
صغير صرفت إليه الهوى ... وهل خاتم في سوى خنصرِ
فإن شئت فاعذر ولا تلْحُني ... وإن شئت فالح ولا تعذر
وقوله:
همته خمرٌ وما خور ... وهمه عود وطنبورُ
وليس دنياه ولا دينه ... إلا مهىً مثل الدمى حور
ذيل الصبا في الغير مجرور ... والعمر باللذات معمور
وليلة الهيكل كم أنفدت ... فيها دنان ودنانير
أقبلن كالروض تغشاه من ... در وياقوت أزاهير
على خصور أرهفت دقة ... ففي الزنانير زنانير
فما درينا أوجوه الدمى ... أحسن أم تلك التصاوير
وعندنا صفراء من قامرت ... بالسكر منا فهو مقمور
سلاف أعناب فعنقودها ... من قبل أن يعصر معصور
زاد على المصباح إشراقها ... فهو ظلمٌ وهي النور
حتى إذا ما انحل جيب الدجى ... فينا وجيب الصبح مزرور
جرّت هناة لي أجملتها ... فهل لها عندك تفسير؟
وقوله من أبيات:
ريقته خمرٌ، وأنفاسه ... مسكٌ، وذاك الثغر كافور
أخرج رضوان من داره ... مخافة تفتتن الحور
يلومه الناس على تيهه ... والبدر إن تاه فمعذور
وقوله:
مكحلٌ بالدعج ... منقب بالغنجِ
معصفر التفاح في ... خد مليح الضرج
خمشه الشعر وما ... ذاك لطول الحجج
وإنما عارضه ... شنفه بالسبج
وقوله:
يا حسن دير سعيد إذ حللت به ... والأرض والروض في وشي وديباجِ
فما ترى غصناً إلا وزهرته ... تجلوه في جبة منها ودواج
وللحمائم ألحان تذكرنا ... أحبابنا بين أرمال وأهزاج
وللنسيم على الغدران رفرفةٌ ... يزورها فتلقاه بأموج
والخمر تجلى على خطابها فترى ... عرائس الكرم قد زفت لأزواج
وكلنا من أكاليل البهار على ... رؤوسنا كأن شروان في التاج
ونحن في فلك اللهو المحيط بنا ... كأننا في سماء ذات أبراج
ولست أنسى ندامى وسط هيكله ... حتى الصباح غزالاً طرفه ساجي
أهز عطفي قضيب البان معتنقاً ... منه وألثم عيني لعبة العاج
وقولتي والتفاتي عند منصرفي ... والشوق يزعج قلبي أي إزعاج
يا دير يا ليت داري في فنائك أو ... يا ليت أنك لي في درب دراج
وقوله:
قمر بدير الموصل الأعلى ... أنا عبده وهواه لي مولى
لثم الصليب فقلت من حسدٍ ... قبل الحبيب فمي بها أولى
جدْ لي بإحداهن كي يحيا بها ... قلبي فحبته على المقلى
فاحمر من خجل وكم قطفت ... عيني شقائق وجنة خجلى
وثكلت صبري عند فرقته ... فعرفت كيف تحرق الثكلى
وقوله من قصيدة في المهلبي الوزير وقد عزم على الرجوع إلى وطنه:
إنا لنرحل والأهواء أجمعها ... لديك مستوطنات ليس ترتحلُ
لهن من خلقك الروض الأريض ومن ... نداك يغمرهن العارض الهطل (1/226)
لكن كل فقير يستفيد غنىً ... دعاه شوقٌ إلى أوطانه عجل
وكل غازٍ إذا جلت غنيمته ... فإن آثر شيءٍ عنده القف
وقوله:
وكنت أرى في النوم هجرك ساعةً ... فأجفو لذيذ النوم حولاً تطيرا
وتأمرني بالصبر والقلب كلما ... تقاضيته صبراً تقاضيت معسرا
فلما رأيت الغدر من شأنك اغتدى ... غدير التصافي بيننا متكدرا
فواله ما أهواك إلا تكلفا ... ولا أشتكي الهجران إلا تخمرا
وقوله في إنسان قصير ضئيل تزوج طويلة ضخمة:
يا من أحل به الرزية ... وأعاد نعمته بليهْ
حظي الردى بك إذ غدت ... لك بنت عمار حظيه
قل لي وكيف تنيكها ... مع دل قامتك القميّه؟
أنت البعوضة قلةً ... وكأنها جمل الضحية
نبئتها قالت وقد ... بصرت بأيرك كالشظية!
من ليس تشبعه الهري ... سة كيف تشبعه القلية؟
فلو اطلعت عليهما ... عند ارتكابها البليه
لذكرت في شخصيهما ال ... عنقاء قد خطفتْ صبيه!
وقوله:
قل لمن يشتهي المديح ولكن ... دون معروفه مطال ولي
سوف أهجوك بعد مدح وتحري ... ك وعتب، وآخر الداء كي
وقوله:
بغداد قد صار خيرها شرا ... صيرها الله مثل سامراً
اطلب وفتش واحرص فليس ترى ... في أهلها حرة ولا حراً
وقوله في قصيدة:
نيل المطالب بالهندية البتر ... لا بالأماني والتأميل للقدرِ
فإن عفا طلل أو باد ساكنه ... فلا تقف فيه بين البث والفكر
في شمك المسك شغل عن مذاقته ... وفي سنا الشمس ما يغني عن القمر
لو لم اكن مشبهاً للناس في خلقي ... لقلت إني من جيل سوى البشر
أو لم يكن ماء علمي قاهراً فكري ... لأحرفتني في نيرانها فكري
تزيدني قسوة الأيام طيب ثناً ... كأنني المسك بين الفهر والحجر
ألفتُ من حادثات الدهر أكبرها ... فما أعوج على أطفالها الأُخَر
لا شيء أعجب عندي في تباينه ... إذا تأملته من هذه الصور
أرى ثياباً وفي أثنائها بقر ... بلا قورن، وذا عيب على البقر!
قالت رقدت فقلت الهم أرقدني ... والهم يمنع أحياناً من السهر
كم قد وقعت وقوع الطير في شركٍ ... فضعضعت منتي منه قوى المرر
أصفو وأكدر أحياناً لمختبري ... وليس مستحسناً صفو بلا كدر
إني لأسير في الآفاق من مثلٍ ... فرد وأملأُ للآفاق من قمر
إذا تشككت فيما أنت مبصره ... فلا تقل إنني في الناس ذو بصر
وكيف يفرح إنسان بمقلته ... إذا نضاها فلم تصدقه في النظر!
لقد فرحت بما عاينت من عدمٍ ... خوف القبيحين من كبر ومن بطر
ولست أبكي لشيب قد منيت به ... يبكي على الشيب من يأسي على العمر
كن من صديقك لا من غيره حذراً ... إن كان ينجيك منه شدة الحذر
ما أطمئن إلى خلقٍ فأخبره ... إلا تكشف لي عن لؤم مختبر
وقد نظرت إلى الدنيا بمقلتها ... فاستصغرتها جفوني غاية الصغر
وما شكرت زماني وهو يصعدني ... فكيف أشكره في حال منحدر
لا عار يلحقني إني بلا نشبٍ ... وأي عار على عين بلا حور
فإن بلغت الذي أهوى فعن قدرٍ ... وإن حرمت الذي أهوى فعن عذر
أبو بكر محمد بن حمدان بن حمدان
المعروف بالخباز البلدي
هو من بلدة يقال لها بلد ، من بلاد الجزيرة التي فيها الموصل، وأبو بكر من حسناتها. (1/227)
ومن عجيب شأنه أنه كان أمياً، وشعره كله ملح وتحف، وغرر وطرف ولا تخلو مقطوعة له من معنى حسن أو مثل سائر، وهو القائل:
بالغت في شتمي وفي ذمي ... وما خشيت الشاعر الأمي
جربت في نفسك سماً فما ... أحمدت تجريبك للسم
وكان حافظاً للقرآن مقتبساً منه في شعره، كقوله:
ألا إن إخواني الذين عهدتهم ... أفاعي رمالٍ لا تقصر في لسعي
ظننت بهم خيراً فلما بلوتهم ... نزلت بوادٍ منهم غير ذي زرع
وقوله:
كأن يميني حين حاولت بسطها ... لتوديع إلفي والهوى يذرف الدمعا
وقائلةٍ هل تملك الصبر بعدهم ... فقلت لها لا والذي أخرج المرعى
يمين ابن عمران وقد حاول العصا ... وقد جعلتْ تلك العصا حية تسعى
وقوله:
أترى الجيرة الذين تداعوا ... بكرة للرحيل قبل الزوالِ
علموا أنني مقيم وقلبي ... راحل فيهم أمام الجمال
مثل صاع العزيز في أرحل القو ... م ولا يعلمون ما في الرحال
وقوله:
سار الحبيب وخلف القلبا ... يبدي العزاء ويضمر الكربا
قد قلت إذ سار السفين بهم ... والشوق ينهب مهجتي نهبا
لو أن لي عزاً أصول به ... لأخذت كل سفينة غصبا
وكان يتشيع، ويتمثل في شعره بما يدل على مذهبه، كقوله:
وحمائم نبهنني ... والليل داجي المشرقين
شبهتهن وقد بكي ... ن وما ذرفن دموع عين
بنساء آل محمدٍ ... لما بكين على الحسين
وكقوله:
جحدت ولاء مولانا علي ... وقدمت الدعي على الوصي
متى قلت إن السيف أمضى ... من اللحظات في قلب الشجي
لقد فعلت جفونك في البرايا ... كفعل يزيد في آل النبي
وكقوله:
أنا إ رمت سلواً ... عنك يا قرة عيني
كنت في الإثم كمن شا ... رك في قتل الحسينِ
لك صولات على قل ... بي بقدٍّ كالرديني
مثل صولات عليٍّ ... يوم بدرٍ وحنين
وكقوله:
أنا في قبضة الغرام رهين ... بين سيفين أرهفاً ورديني
فكأن الهوى فتى علويٌّ ... ظن أني وليت قتل الحسين
وكأني يزيد بين يديه ... فهو يختار أوجع القتلتين
وكقوله:
انظر إلي بعين الصفح عن زللي ... لا تتركني من ذنبي على وجل
موتي وهجرك مقرونان في قرنٍ ... فكيف أهجر من في هجره أجلي
وليس لي أمل إلا وصالكم ... فكيف أقطع من في وصله أملي
هذا فؤادي لم يملك غيركم ... إلا الوصي أمير المؤمنين علي
وكقوله:
تظن بأني أهوى حبيبا ... سواك على القطيعة والبعادِ
جحدت إذن موالاتي علياً ... وقلت بأنني مولى زياد
ما أخرج من سائر ملحه فمنها قوله:
إذا استثقلت أو أبغضت خلقاً ... وسرك بعده حتى التنادي
فشرده بقرض دريهماتٍ ... فإن القرض داعية البعاد
وقوله:
أقول لليلة فيها أتاني ... حبيب في مصارمتي لجوج
أيا ليلي الذي ما كنت تفنى ... قصرت وكنت قدما ما تروج!
أيأجوجٌ إذا نحن التقينا ... وأيام التهاجر أنت عوج
وقوله:
ذرى شجر للطير فيه تشاجرٌ ... كأن صنوف النور فيه جواهرُ
كأن نسيم الروض في جنباته ... لخالخ فيما بيننا وزرائر
كأن القمارى والبلابل حولها ... قيان وأوراق الغصون ستائر
شربنا على ذاك الترنم قهوةُ ... كأن على حافاتها الدر دائر
وقوله، وهو مما يتغنى به:
وروضةٍ بات طل الغيث ينسجها ... حتى إذا نجمت أضحى يدبجها
يبكي عليها بكاء الصب فارقه ... إلف فيضحكها طوراً ويبهجها
إذا تنفس فيها ريح نرجسها ... ناغى جَنِيّ خزاماها بنفسجها (1/228)
أقول فيها لساقينا وفي يده ... كأسٌ كشعلة نار إذ يؤججها
لا تمزجنها بغير الريق منك وإن ... تبخل بذاك فدمعي سوف يمزجها
أقل ما بي من حبيك أن يدي ... إذا دنت من فؤادي كان ينضجها
وقوله :
ومدام كست الكأ ... س من النور وشاحا
ظهرت في جنح ليلٍ ... فكأن الفجر لاحا
لم يكن وقت صباحٍ ... فحسبناه صباحا
وقوله:
قلت والليل له الو ... لُ مقيمٌ غير ساري
أعظم الخالق أجر ال ... خلق في شمس النهار
فلقد ماتت كما ما ... ت عزائي واصطباري
وقوله:
أنا أخفي من أن يحس بجسمي ... أحد حيث كنت لولا الأنينُ
فكأني الهلال في ليلة الش ... ك نحولاً فما تراني العيون
وقوله:
صدني عن حلاوة التشييع ... اجتنابي مرارة التوديعِ
لم يقم أنس ذا بوحشة هذا ... فرأيت الصواب ترك الجميع
وقوله:
يا ذا الذي أصبح لا والدٌ ... له على الأرض ولا والده
قد مات من قبلهما آدم ... فأي نفس بعده خالده
إن جئت أرضاً أهلها كلهم ... عور فغمض عينك الواحده
وقوله:
نكبت في شعري وثغري وما ... نفسي في صبري بمنكوبهْ
إذا دنت بيضاء مكروهة ... مني نأت بيضاء محبوبة
وقوله:
قالوا تكهل من هوي ... ت فقلت رسمٌ قد دثرْ
عاينت من طلابه ... زمراً مواصلةً زمر
وكذاك أصحاب الحدي ... ث نفاقهم عند الكبر
وقوله:
بكيت بدمع يفوق السحابَ ... إلى أن جرى الماء حولي وساحا
ولو لم أكن رجلاً سابحاً ... غرقت وألزمت نفسي الجناحا
وقوله:
ليل المحبين مطوي جوانبه ... مشمر الذيل منسوب إلى القصرِ
ما ذاك إلا لأنّ الصبح نمَّ بنا ... فاطلع الشمس من غيظٍ على القمر
وقوله:
بدائع خده ورد ... صوالج صدغه سبجُ
إذا اتصلت محاسنه ... نقطع بينها المهج
وقوله، وهو مما يستغفر منه:
يا قاسم الرزق لم خانتني القسم ... ما أنت متهم قل لي من أتهمُ؟
إن كان نجمي نحساً أنت خالقه ... فأنت في الحالتين الخصم والحكم!
وقوله في أمرد التحى:
انظر إلى ميت ولكنه ... خلو من الأكفان والغاسلِ
قد كتب الدهر على خده ... بالشعر هذا آخر الباطل
وقوله:
أهزك لا أني عرفتك ناسياً ... لوعدٍ ولا أني أردت تقاضيا
ولكن رأيت السيف من بعد سله ... إلى الهز محتاجاً وإن كان ماضيا
أحسن، وأبلغ منه في معناه قول محمد بن أبي زرعة الدمشقي:
لا ملومٌ مستقصر أنت في الب ... رِّ ولكن مستعطف مستزاد
قد يهز الهندي وهو حسام ... ويحث الجواد وهو جواد
عبيد الله بن أحمد البلدي النحوي
لم أسمع ذكره وشعره إلا من أبي الحسن المصيصي الشاعر، وكان قد عاشره واستكثر منه، فحكى لي أنه كان أعور، فاعتلت عينه الصحيحة، حتى أشرف على العمى فقال وأستغفر الله من كتبه:
إن قلت جوراً فلا تلمني ... بأن رب الورى المسيحُ
أراك تعمى وذاك يبري ... فهو إذاً عندي الصحيح
قال: وأنشدني عبيد الله لنفسه:
للحسن في وجهه شهود ... تشهد أنا له عبيدُ
كأنما خده وصالٌ ... وصدغه فوقه صدود
يا من جفاني بغير جرمٍ ... أقصر فقد نلت ما تريد
إن كان قد رق ثوب صبري ... عنك فثوب الهوى جديد
وقال: أنشدني لنفسه أيضاً:
يا ذا الذي في خده جيشان من زنجٍ ورومِ
هذا يغير على القلو ... ب وذا يغير على الجسوم
إني وقفت من الهوى ... في موقفٍ صعبٍ عظيم
كوقوف عارضك الذي ... قد حار في ماء النعيم
قال: وأنشدني أيضاً لنفسه: (1/229)
هات المدامة يا شقيقي ... نشرب على روض الشقيقِ
كأس العقيق نديرها ... ما بين أكناف العقيق
آخر القسم الأول من كتاب يتيمة الدهر حسب تقسيم المؤلف رحمه الله تعالى ويتلوه القسم الثاني، وهو في أخبار دولة آل بويه.
القسم الثاني من يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر وهو في
أخبار دولة آل بويه
بسم الله الرحمن الرحيم أبدأ - بعد حمد الله تعالى، والصلاة على محمد المصطفى وآله - بباب مقصور على ملوك آل بويه الذين شعروا ورويت أشعارهم، لما تقدم ذكره من الانتساب إلى قائلها، لا لكثرة طائلها، والله الموفق للصواب.
الباب الأول
في ذكرهم وما أخرج من ملحهم وأشعارهم
عضد الدولة أبو شجاع
فناخسرو بن ركن الدولة
كان - على ما مكن له في الأرض، وجعل إليه من أزمة البسط والقبض. وخص به من رفعة الشان، وأوتي من سعة السلطان - يتفرغ للأدب، ويتشاغل بالكتب، ويؤثر مجالسة الأدباء، على منادمة الأمراء، ويقول شعراً كثيراً يخرج منه ما هو من شرط هذا الكتاب من الملح والنكت، وما أدري كم فصل بارع، ووصف رائع، قرأته للصاحب عضد الدولة.
فمن ذلك: وأما قصيدة مولانا فقد جاءت ومعها عزة الملك، وعليها رواء الصدق، وفيها سيما العلم، وعندها لسان المجد، ولها صيال الحق.
ومنه: لا غرو إذا فاض بحر العلم، على لسان الشعر، أن ينتج ما لا عين وقعت على مثله، ولا أذن سمعت بشبهه.
ومنه: لو استحق شعر أن يعبد لعذوبة مناهله، وجلالة قائله، لكانت قصيدته هي. إلا أني اتخذتها عند امتناع ذلك قبله، أوجه إليها صلوات التعظيم، وأقف عليها طواف الإجلال والتكريم.
ومنه: شعر قد حبس خدمته على فكره، ووقف كيف شاء على أمره، فهو يكتب في غرة الدهر، ويشدخ جبهتي الشمس والبدر.
ثم من أراد أن ينظر في أخبار عضد الدولة ويقف على محاسن آثاره، فليتأمل الكتاب التاجي، من تأليف أبي إسحاق الصابي، لتجتمع له مع الإحاطة بها بلاغة من قد تسهل له حزونها، ولا ينته متونها، وأطاعته عيونها.
حدثني أبو بكر الخوارزمي، قال: كان ينادم عضد الدولة بعض الأدباء الظرفاء، ويحاضر بالأوصاف والتشبيهات، ولا يحضر شيء من الطعام والشراب وآلاتهما وغيرها، وإلا وأنشد فيه لنفسه أو لغيره شعراً حسناً، فبينا هو ذات يوم معه على المائدة ينشد كعادته إذ قدمت بهطة فنظر عضد الدولة كالآمر إياه بأن يصفها، فأرتج عليه، وغلبه سكوت معه خجل، فارتجل عضد الدولة وقال:
بهطة تعجز عن وصفها ... يا مدعي الأوصاف بالزور
كأنها في الجام مجلوة ... لآلئ في ماء كافور
وأنشدني محمد بن عمر الزاهر قال: أنشدني أبو القاسم عبد العزيز بن يوسف، قال: أنشدني عضد الدولة لنفسه في أبي تغلب، عند اعتذاره إليه من معاودة بختيار عليه، والتماسه كتاب الأمان منه:
أأفاق حين وطئت ضيق خناقه ... يبغي الأمان وكان يبغي صارما
فلأركبن عزيمة عضدية ... تاجية تدع الأنوف رواغما
ومما ينسب إليه ، وأنا أشك فيه، أبيات يتداولها القوالون وهي:
طربت إلى الصبوح مع الصباح ... وشرب السراح والغرر الملاح
وكان الثلج كالكافور نثراً ... ونار عند نارنج وراح
فمشموم ومسروب ونار ... وصبح والصبوح مع الصباح
لهيب في لهيب في لهيب ... صباح في صباح في صباح
وأنشدني أبو سعيد نصر بن يعقوب أبياتاً لعضد الدولة، اخترت منها قوله في الخيري:
يا طيب رائحة من نفحة الخيري ... إذا تمزق جلباب الدياجير
كأنما رش بالماورد أو عبقت ... فيه دواخن ند عن تبخير
كأن أوراقه في القد أجنحة ... صفر وحمر وبيض من دنانير
واخترت من قصيدته التي فيها البيت الذي لم يفلح بعده أبداً قوله:
ليس شرب الكأس إلا في المطر ... وغناء من جوار في السحر
غانيات سالبات للنهى ... ناغمات في تضاعيف الوتر
مبرزات الكأس من مطلعها ... ساقيات الراح من فاق البشر
عضد الدولة وابن ركنها ... ملك الأملاك غلاب القدر (1/230)
سهل الله له بغيته ... في ملوك الأرض ما دار القمر
وأراه الخير في أولاده ... ليساس الملك منه بالغرر
فيحكي أنه لم احتضر لم ينطق لسانه إلا بتلاوة قوله تعالى " ما أغنى عني ماليه، هلك عني سلطانيه " .
عز الدولة أبو منصور بختيار
بن معز الدولة
لم أسمع له شعراً حتى ورد نيسابور هرون بن أحمد الصيمري، ورأيته متصلاً بالأمير أبي الفضل عبيد الله بن أحمد الميكالي، فعرض على كتابه المترجم بحديقة الحدق، وفيه أنشدني بعض أخوالي قال: أنشدني القاضي أبو بكر بن قريعة، قال: أنشدني عن الدولة لنفسه:
فيا حبذا روضتنا نرجس ... تحيي الندامى بريحانها
شربنا عليها كأحداقنا ... عقاراً بكأس كأجفانها
ومسنا من السكر ما بيننا ... نجرر ريطاً كقضبانها
وبهذا الإسناد له:
اشرب على قطر السماء القاطر ... في صحن دجلة واعص زجر الزاجرِ
مشمولة أبدى المزاج بكأسها ... دراً نثيراً بين نظم جواهر
من كف اغيد يستبيك إذا مشى ... بدلال معشوق ونخوة شاطر
والماء ما بين الغصون مصفق ... مثل القيان رقصن حول الزامر
وأنشدني أبو سعيد قال: أنشدني أبو جعفر الطبري طبيب آل بويه، قال: أنشدني بختيار لنفسه:
وفاؤك لازم مكنون سري ... وحبك غايتي والشوق زادي
وخالك في عذارك في الليالي ... سواد في سواد في سواد
تاج الدولة أبو الحسين أحمد بن عضد الدولة
هو أدب آل بويه وأشعرهم وأكرمهم، وكان يلي الأهواز، فأدركته حرفة الأدب، وتصرفت به أحوال أدت إلى النكبة والحبس من جهة أخيه أبي الفوارس، فلست أدري ما فعل به الدهر الآن.
أنشدني أبو سعيد بن دوست، قال: أنشدني أبو الحسن محمد بن المظفر العلوي النيسابوري، قال: أنشدني أبو العباس الملحي والقوال بسوق الأهواز، قال: أنشدني تاج الدولة أبو الحسين بن عضد الدولة لنفسه:
سلام على طيف ألمّ فسلّما ... وأبدى شعاع الشمس لما تكلما
بدا فيه من وجهه البدر طالعاً ... لدى الروض يستعلي قضيباً منعّما
وقد أرسلت أيدي العذارى بخّده ... عذاراً من الكافور والمسك أسحما
وأحسب هاروتاً أطاف بطرفه ... فعلّمه من سحره فتعلّما
ألمّ بنا في دامس الليل فانجلى ... فلما انثنى عنّا وودّع أظلما
وأنشدني بديع الزمان له هذين البيتين:
هب الدهر أرضاني وأعتب صرفه ... وأعقب بالحسنى من الحبس والأسر
فمن لي بأيام الشباب التي مضت ... ومن لي بما أنفقت في الحبس من عمري؟
ووجدت مجموعاً من شعر تاج الدولة أبي الحسين بخط أبي الحسن علي بن أحمد بن عبدان، فاخترت منه قوله رحمه الله تعالى في أرجوزة:
ألا شفيت علّتي ... من العداة بالتي
وصارم مهنّدٍ ... ماض رقيق الشفرة
وليلة أحييتها ... منوطة بليلة
كأنما نجم الثريّ ... ا في الدجى ومقلتي
جوهرتا عقد على ... نحر فتاة طفلة
أفكر في بني أبي ... وفعل بعض إخوتي
تظن أنّي أحمل ال ... ضيم فأين همتي
تقنع بالأهواز لي ... وواسط والبصرة
لست بتاج الدولة ... سليل تاج الملة
إن لم تزر بغداد بي ... عمّا قليل كبّتي
وعسكر عرمرم ... يملك كلّ بلدة
حشو الجبال والفلا ... مواكب من غلمتي
نصرتهم منّي ومن ... ربّ السماء نصرتي
وقوله من قصيدة:
أنا ابن تاج الملة المنصور تا ... ج الدولة الموجود ذو المناقب
أسماؤنا في وجه كلّ درهم ... وفوق كلّ منبر لخاطب
وقوله من قصيدة:
أنا التاج المرصع في جبين ال ... ممالك سالك سبل الصلاح
كتائبنا يلوح النصر فيها ... برايات تطرق بالنجاح (1/231)
تكاد ممالك الآفاق شرقاً ... تسير إليّ من كل النواحي
ألا لله عرضٌ لي مصونٌ ... مقام المجد بالماء المباح
وقوله من طردية:
صرنا مع الصباح بالفهود ... مردفة فوق متون القود
قد وطئت توطئة المهود ... بالقطف والجلال واللبود
فهي كقوم فوقها قعود ... قد ألبست وشياً على الجلود
يخالها الناظر كالأسود ... تبكي لشبل ضائع فقيد
بأدمع على الخدود سود ... فقابلت مرادها في البيد
وقطعت حبائل المسود ... تفوت لحظ الناظر الحديد
ركضاً إلى اقتناص كل ورد ... فكم بها من هالك شهيد
منعفر الخدّ على الصعيد ... بنحسها نظلّ في السعود
جدنا بها، والجود بالموجود ... فكثرت ولائم الجنود
وشبّت النيران بالوقود
واخترت منه قوله في الغزل سامحه الله تعالى وعفا عنه:
سقاني سحراً خمره ... وقد لاحت لي النّثره
غزالٌ فاتن الطّرف ... مليح الوجه والطّرّه
أنا ملك وقد ملك ... ت قلبي صاحب الوفره
وقد زرفن صدغيه ... على أبهى من الزهره
فمن أسود في أبي ... ض في أحمر في صفره
إذا حاول أن يجه ... ل أو تبدو له نفره
أعان الشيخ إبليسٌ ... عليه فأتى مكره
وله في النكبة:
حتى متى نكبات الدهر تقصدني ... لا أستريح من الأحزان والفكر
إذا أقول مضى ما كنت أحذره ... من الزمان رماني الدهر بالغير
فحسبي الله في كلّ الأمور فقد ... بدّلت بعد صفاء العيش بالكدر
أبو العباس خسرو بن فيروز
بن ركن الدولة رحمهم الله تعالى
أنشدت له أبياتاً، تدل على فضل مستكثر من مثله، ولم يحضرني إلا هذه:
أدر الكأس علينا ... أيّها الساقي لنطرب
من شمول مثل شمس ... في فم النّدمان تغرب
فحكت حين تجلّت ... قمراً يلثم كوكب
ورد خديه جنىً ... لكن الناطور عقرب
فإذا ما لدغت فال ... ريق درياق مجرّب
الباب الثاني
في ذكر المهلبي الوزير
وملح أخباره ونصوص فصوله وأشعاره
هو أبو محمد الحسن بن محمد، من ولد قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة، كان من ارتفاع القدر، واتساع الصدر ونبل الهمة، وفيض الكف، وكرم الشيمة: على ما هو مذكور مشهور، وأيامه معروفة في وزارته لمعز الدولة، وتدبيره أمور العراق، وانبساط يده في الأموال، مع كونه غاية في الأدب والمحبة لأهله، وكان يترسل ترسلاً مليحاً، ويقول الشعر قولاً لطيفاً، يضرب بحسنه المثل، ولا يستحلي معه العسل، يغذي الروح، ويجلب الروح، كما قال بعض أهل العصر:
بأبي من إذا أراد سراري ... عبرت لي أنفاسه عن عبير
وسباني ثغر كدر نظيم ... تحته منطق كدرٍّ نثير
وله طلعة كنيل الأماني ... أو كشعر المهلّبي الوزير
حدثني أبو بكر الخوارزمي وأبو نصر بن سهل بن المرزبان وأبو الحسن المصيصي، فدخل حديث بعضهم في بعض فزاد ونقص، قالوا: كانت حالة المهلبي الوزير قبل الاتصال بالسلطان حال ضعف وقلة، وكان يقاسي منها قذى عينه، وشجى صدره، فبينما هو ذات يوم في بعض أسفاره مع رفيق له من أصحاب الجراب والمحراب، إلا أنه من أهل الآداب، إذ لقي في سفره نصباً، واشتهى اللحم، فلم يقدر على ثمنه، فقال ارتجالاً:
ألا موت يباع فأشتريه ... فهذا العيش ما لا خير فيه
ألا موتٌ لذيذ الطعم يأتي ... يخلّصني من العيش الكريه
إذا أبصرت قبراً من بعيد ... وددت لو آنني ممّا يليه
ألا رحم المهيمن نفس حرٍّ ... تصدّق بالوفاة على أخيه
فاشترى له رفيقه بدرهم واحد لحماً، فأسكن به قرمه وتحفظ الأبيات وتفارقا، وضرب الدهر ضرباته، حتى ترقت حالة المهلبي إلى أعظم درجة من الوزارة فقال: (1/232)
رقّ الزمان لفاقتي ... ورثى لطول تحرّقي
وأنالني ما ارتجى ... وأجار مما أتّقي
فلأصفحن عمّا أنا ... ه من الذنوب السبّق
حتى جنايته بما ... فعل المشيب بمفرقي
وحصل الرفيق تحت كلكل من كلاكل الدهر، ثقل عليه بركه وهاضه عركه فقصد حضرته، وتوصل إلى إيصال رقعة تتضمن أبياتاً منها:
ألا قل للوزير فدته نفسي ... مقال مذكّر ما قد نسيهٍ:
أتذكر إذ تقول لضنك عيشٍ ... ألا موتٌ يباع فأشتريه؟
فلما نظر فيها تذكره، وهزته أريحية الكرم، للحنين إليه، ورعاية حق الصحبة فيه، والجري على من قال:
إن الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا ... من كان يألفهم في المنزل الخشن
وأمر له في عاجل الحال بسبعمائة درهم، ووقع في رقعته " مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء " ثم دعا به وخلع عليه وقلده عملاً يرتفق به، ويرتزق منه. ونظير البيتين قول بعضهم:
قل للوزير أدام الله دولته ... أذكرتنا أدمنا، والخبز خشكار
إذ ليس في الباب بوّاب لدولتكم ... ولا حمار ولا في الشطّ طيّار
وحكى أبو إسحاق الصابي في الكتاب التاجي قال: كان لمعز الدولة أبي الحسين غلام تركي يدعى تكين الجامدار أمرد، وضيء الوجه، منهمك في الشرب لا يعرف الصحو، ولا يفارق اللعب واللهو، ولفرط ميل معز الدولة إليه وشدة إعجابه به، جعله رئيس سرية جردها لحرب بعض بني حمدان، وكان المهلبي يستظرفه ويستحسن صورته، ويرى أنه من عدد الهوى، لا من عدد الوغى، فمن قوله فيه:
ظبيٌ يرق الماء في ... وجناته ويرق عوده
ويكاد من شبه العذا ... رى فيه أن تبدو نهوده
ناطوا بمعقد خصره ... سيفاً ومنطقة تؤوده
جعلوا قائد عسكر ... ضاع الرعيل ومن يقوده؟
فما كان بأسرع من أن كانت الدائرة على هذا القائد، وخرج الأمر على ما أشار به المهلبي.
ومما يستحسن في هذا المعنى قول ابن المعتز في وصف خادم:
عجبت لتأمير الرجال مقرطقاً ... ينوء بخصر في القباء هضيم
يذّكر عذاب الجيوش إذا بدا ... بخدّ كعابٍ أو بمقلة ريم
وذكر الصابي أن أبا عيينة المهلبي، الذي استفرغ نسيبه في صاحبته دنيا من عمومة الوزير، وكان المهلبي يحفظ أكثر أشعاره، ويتأسف على ما فاته من زمانه فمن قوله:
إنّي وصلت مفاخري بأبٍ ... حاز الفخار وطاول العليا
وأجاب داعيه وخلّفني ... وحديثه فكأنما يحيا
وتلوث عمّي في تغزّله ... وشربت ريّا من هوى ريا
فكأنّني هو في صبابته ... وكأنّه في حسنها دنيا
وقوله لما قلد الوزارة:
لقد ظفرت والحمد لله منيتي ... بما كنت أهوى في الجهارة والنجوى
وشارفت مجرى الشمس فيما ملكته ... من الأرض واستقررت في الرتبة العليا
وعاينت من شعر العييني خلّة ... تعاون فيها الطبع والمهجهة الحرا
فحركتني عرق الوشيجة والهوى ... لعمّي وأطت بي إلى الرّحم القربى
فيا حسرتي أن فات وقتي وقته ... ويا حسرة تمضي وتتبعها أخرى
يا فوز نفسي لو بلغت زمانه ... وبغيته دنيا وفي يدي الدنيا
فمكنته من أهل دنيا وأرضها ... ففاز بما يهوى وفوق الذي يهوى
ما أخرج من كتاب الروزنامجة للصاحب إلى ابن العميد مما يتعلق بملح أخبار المهلبي
فصل: وردت أدام الله عز مولانا العراق، فكان أول ما اتفق لي استدعاء مولاي الأستاذ أبي محمد أيده الله، وجمعه بين ندمائه من أهل الفضل وبيني. وكان الذي كلمني منهم شيخ ظريف خفيف الروح أديب، متقعر في كلامه لطيف يعرف بالقاضي ابن فريعة فإنه جاراني في مسائل خفتها تمنع من ذكرها وافتضاضها إلا أني استظرفت قوله في حشو كلامه هذا الذي أوردته الصافة عن الصافة، والكافة عن الكافة، والحافة عن الحافة، وله نوادر غريبة وملح عجيبة. (1/233)
ومنها أن كهلاً تطايب بحضرة الأستاذ أبي محمد أيده الله سأله عن حد القفا مريداً تخجيله، فقال: هو ما اشتمل عليه جربانك، ومازحك فيه إخوانك، وباسطك فيه غلمانك، وأدبك عليه سلطانك، فهذه حدود أربعة.
فانصرفت وقد ورد الخبر بمضي أبي الفضل صاحب البريد رضي الله عنه ورحمه وأنسأ أجل مولانا ومد فيه، فساعدت القوم على الجلوس للتعزية عنه لما كان من الحال يعرف بيني وبينه:
صلة غدت في الناس وهي قطيعة ... عجباً وبرّ راح وهو جفاء
فما تمكنت أن جاءني رسول الأستاذ أبي محمد أيده الله يستدعيني فعرفته عذري وحسبته بعفيني، فعاودني بمن استحضرني فدخلت عليه وقد قعد للشرب فأكرهني عليه، ثم قال: أتعرف أحسن صنيعاً مني بك، وقد نقلتك عن واحرباه إلى واطرباه، وسمعت عنده خادمه المسمى سلافا، وهو يضرب بالطنبور ويجيد ويغني ويحسن، وفيه يقول وقد شربنا عنده سلافاً:
قد سمعنا وقد شربنا سلافاً ... وجمعنا بلطفه أوصافا
وشاهدت من حسن مجلسه وخفة روح أدبه وإنشاده للصنوبري وطبقته ما طاب به الوقت، وهشت له النفس، وشاكل ذلك رقة ذلك الهوى، وعذوبة ذلك اللمى: وكان فيما أنشدني لنفسه وقد علمه في بعض غلمانه:
خططّ مقوّمة ومفرق طُرّةٍ ... فكأنّ سنّة وجهه محراب
ورّيت في كشف الذي ألقى به ... فتعطّل النمّام والمغتاب
فانصرفت عنه وجعلت ألقاه في دار الإمارة، وهو على جملة من البر والتكرمة، حتى عرفت خروجه إلى بستان بالياسرية لم ير أحسن منه ولا أطيب من يومه فيه لا أني حضرته، ولكني حدثت بما أرى له فكتبت إليه شعراً:
قل للوزير أبي محمد الذي ... من دون محتده السّهى والفرقد
من إن سما هبط الزمان وريبه ... أو قام فالدهر المغالب يقعد
سقيتني مشمولة ذهبية ... كالنار في نور الزجاجة توقد
لما تخوّن صرف دهرٍ عارضِ ... صبري وقلبي مستهام مكمد
وفطمتني من بعدها عنها فقد ... أصبحت ذا حزن يقيم ويقعد
من أين لي مهما أردت الشرب عن ... دك يا أخا العلياء صبر يوجد
فاستطاب هذا الشعر وأعجب به، واستدعاني من غده، فحضرت وأبناء المنجم في مجلسه وقد أعدا قصيدتين في مدحه، فمنعها من النشيد لأحضره، فأنشد وجودا، وتمام هذه القصة في ذكر بني المنجم.
فصل من كتاب الروزنامجة
أيضاً
قد حضرنا حجرة تعرف بحجرة الريحان، فيها حوض مستدير ينصب إليه الماء من دجلة بالدواليب، وقد مدت الستارة وفيها حسن العكبراوية فغنت
سلام أيها الملك اليماني ... لقد غلب على التداني
فطرب الأستاذ أبو محمد أيده الله تعالى بغنائها، واستعادها الصوت مراراً وأتبعته أبياتاً وهي:
تطوي المنازل عن حبيبك دائماً ... وتظل تبكيه بدمع ساجم
هلا أقمت ولو على جمر الغضا ... قلّبت أو حدّ الحسام الصارم
وتبعتها جارية ابن مقلة، ولا غناء أطيب وأطرب وأحسن من غنائها فغنت بيتين للأستاذ وهما:
يا من له رتبٌ مم ... كنة القواعد في الفؤاد
أيحل أخذ الماء من ... متلهب الإحشاء صادي
ففتنت الجميع، ثم انبسطنا في الشرب، واشتغل في الشدو، وارتفع الأمر عن الضبط، والأصوات عن الحفظ، واتفقت في أثناء ذلك مذكرات، ومناشدات ومجاوبات، وافتراقنا.
فصل منه أيضاً
وعلى ذكر عكبرا حضرنا مع الأستاذ أبي محمد أيده الله تعالى بها فاستدعى دنا للوقت، وخماراً من الدير، وريحانا من ألحانه، واقترح غناء من الماخور، وأخذنا في فن من الانخلاع عجيب، بطريق من الاسترسال رحيب، ورسم أن يقول من حضر شيئاً في اليوم، فاستنظروا وركبت فرسي، فاتفقت أبيات لم تكن عندي مستحقة لأن تكتب أو تسمع، لكن رضاء القوم جمل لدي صورتها، ولو لا حذري من توبيخ مولانا لطويتها: (1/234)
تركت لسافي الريح بانة عرعرا ... وزرت لصافي الراح حانة عكبرا
وقلت لعلج يعبد الخمر زفّها ... مشعشعة قد شاهدت عصر قيصرا
فناولنيها لو تفرّق نورها ... على الدهر نال الليل منها تحيّرا
وأوسعني آساً وورداً ونرجساً ... وأحضرني ناياً وطبلاً ومزهرا
هنالك أعطيت البطالة حقّها ... وألقيت هتك الستر مجداً ومفخرا
كأنّي الصبا جرياً إلى حومة الصبا ... أناغي صبياً من جلندا مزنّرا
فعانقته والراح قد عقرت بنا ... فكررت تقبيلاً وقد أقبل الكرى
وصدّ عن المعنى النعاس وصادني ... إلى أن تصدى الصبح يلمع مسفرا
وهبت شمال نظّمت شمل بغيتي ... فطارت بها عني الشمول تطيّرا
فكان الذي لو لا الحياء أذعته ... ولا خير في عيش الفتى إن تسترا
فصل أيضاً منه: وحضرت الأستاذ أبا محمد أيده الله تعالى في منظرة له على دجلة تنفتح منها أبواب إلى بساتين، فعمل بيتين صنعا في الوقت وغنى بهما، وهما
لئن عرفت جريراً ... أو اعتمدت قطيعاً
فلا ظفرت بعاص ... ولا أطعت المطيعا
والبيت الأول يحتاج إلى تفسير، فالمراد بالجرير جريرة وبالقطيع قطيعة وأنفذ الأستاذ أبو محمد أيده الله ليلة وقد مضى الثلث منها فاستدعاني، وقاد دابة نوبته كي لا أتأخر انتظاراً لدابتي، فمضيت وألفيته قد انتهى من بستانه الكبير إلى مصبها من دجلة على ميادين ريحان نضرة، فاستحسن الموضع وقعد فيه يشرب مع خدمه: أبي الكأس، وسلاف، وأبي المدام، وشراب، وخندريس وشمول، وراح. وأمر فنصب نحو مائة شمعة في أصول تلك الميادين صغيرة وقعدت فغنى سلاف:
يا شقيق النفس من حكم ... نمت عن ليلي ولم أنم
فقال الأستاذ: بل غن:
يا شقيق النفس من خدمي ... لم ينم ليلي ولم أنم
غنني من شعر ذي حكم ... يا شقيق النفس من حكم
ولم نزل نشرب الراح إلى أن باح الصبح بسره، وقام كل منا يتعثر في سكره.
؟ما أخرج من شعره في وصف كتب ابن العميد فمن ذلك قوله:
ورد الكتاب مبشراً ... قلبي بأضعاف السرور
ففضضته فوجدته ... ليلاً على صفحات نور
مثل السوالف والخدو ... د البيض زينت بالشعور
بنظام لفظٍ كالثغو ... ر كالعقود على النحور
أنزلته في القلب من ... زلة القلوب من الصدور
وقوله:
طلع الفجر من كتابك عندي ... فمتى للقاء يبدو الصباح
ذاك إن تمّ لي فقد عذب العي ... ش ونيل المنى وريش الجناح
وقوله:
وصل الكتاب طليعة الوصل ... بغرائب الإفضال والفضل
فشكرته شكر الفقير إذا ... أغناه ربّ المجد بالبذل
وحفظته حفظ الأسير وقد ... ورد الأمان له من القتل
وقوله:
ورد الكتاب فديته من وارد ... فله قلبي من حياتي مورد
فرأيت درّاً عقده منتظمٌ ... في كلّ فصل منه فصلٌ مفرد
ما أخرج من فصوله المردفة بأبيات الشعر فصل: رأيته فصيح الإشارة، لطيف العبارة:
إذا اختصر المعنى فشربة حائمٍ ... وإن رام إسهابا أتى الفيض بالمدّ
فصل: قد نظرته فرأيته جسماً معتدلاً، وفهماً مشتعلاً:
ونفساً تفيض كفيض الغمام ... وظرفاً يناسب صفو المدام
فصل: قد عمهم بنعمه، وغمرهم بشيمه:
وغزاهم بسوابغ من فضله ... جعلت جماجمهم بطائن نعله
فصل: كأن قلبه عين، وكأن جسمه سمع:
وكأنّ فطنته شهابٌ ثاقبٌ ... وكأن نقد الحدس منه يقين (1/235)
فصل: قد لاقت مناهجة، وراقت مباهجه:
وقصر يوم الضيف عندي وليلة ال ... شتاء سرور منه رفرف طائرة
فصل: قد اغتيل كمينه، واجتيح عرينه:
ودارت عليه رحى وقعة ... تظلّ الحجارة فيها طحينا
فصل: قد أدبته بزجرك، وهذبته بهجرك:
وإن لمست منه بعاد معاده ... وعصر جفاه الشرب أن يتعهدا
فصل: قد ضيعه الجملة، ومنعه المهلة:
وأصلاه حرّ جحيم الحدي ... د تحت دخان من القسطل
فصل: مضطرب اللسان، منتقض البيان:
قليل مجال الرأي فيما ينوبه ... نزول على حكم النوى والتودع
فصل: من تعرض للمصاعب، فليتثبت للمصائب:
ومن خاف أن الهمّ يملك نفسه ... فأولى به ترك العلا والجسائم
فصل: وصلة متينة، وقاعدة مكينة:
وأرحام ودّ دونها الرحم التي ... تدانت وجلت أن يطول بها الظنّ
فصل: إنه جريح سيفك، وطريح حيفك:
ومن إن تلافاه رضاك أعاشه ... ومن موته إن دام سخطك حائن
فصل: قد كثرت فتوقه، واتسعت خروقه:
وفات مداواة التلافي فساده ... وأعيت دلالات الخبير بكاهله
فصل: قد خبا قبسه، وكبا فرسه:
وصبا ذووه إلى جناب عدوه ... وتقطعت أقرانه وعلائقه
فصل: ربما وفي ضنين، وهفا أمين:
فللرجل الوافي جميل جزائه ... وللناصح الهافي جميل التجاوز
فصل: قد حل بربع مأنوس، وملك محروس:
يد؟ّبره ملكٌ ماهرٌ ... بهضم القويّ وجبر الضعيف
فصل: لئن فخر بعز لم يحضره، وبيت لم يعمره:
فإن عصير الثمار الثجير ... وإن نفيّ الحديد الخبث
فصل: قتل الإنسان ظلم، وقتل قاتله حكم:
والسيف يبدي الجور في حالة ... ويبذل الإنصاف في أخرى
فصل: استقر بساحة خضرة، واستبد بعيشة نضرة:
وغدا ابن دأبة عندهم كمهاً ... وابتزّ سوق صياحه خرس
فصل: عادل المكيال، وازن المثقال:
يجير على سلطانه حكم دينه ... ويبعد في حق البعيد أقاربه
فصل: فاتهم بشدة تجهمهم وسرعة تهجمهم:
تركوا مكيدة والكمين لجهرهم ... والنبل والأرماح للأسياف
فصل: قد علقت منه بحبل منهوك، وستر مهتوك:
وقلب شديد لا يلين لخلّة ... ولا يتلافاه الرّقى والتلطّف
فصل: أوحشت عني إبعاداً لك، وانعطافاً عنك:
وهل يباعد عذب الماء ذو غصصٍ ... أو ينثني عن لذيذ الزاد منهوم
ما أخرج من فصوله المجردة من أبيات الشعر وانخرط بعضه في سلك كتابي المترجم بسحر البلاغة
القلب لا يملك بالمخاتلة، ولا يدرك بالمجادلة، له أنعام كثيرة الشهود، وأفضال غزيرة المدود. لم يعلم في أي حتف تورط، وأي شر تأبط، محامد أقر بها الراضي والغضبان، وأوضحها الدليل والبرهان. كيس البيع رابح الشراء، حسن الأخذ والعطاء. يؤذي صدره ويمنعه من النفث، ويجرح خاطره ويعوقه عن العبث. لما أجاب أطاب. وتفسح في رحاب الصواب. قد ألنت عريكة الدهر له، وكففت غرب الزمان عنه. يفور غيظاً، ويتميز حقداً، ويتلظى غضباً، ويزيد حنقاً. قد قام بيني وبين وصلك حاجز من فعلك، قد ابتذلت جديد وده، واستحللت حرام صده. من حنث في أيمانه، وأخل بأمانته، فإنما ينكث على نفسه، حلف يمين بر شهد بها تصديقي، واستيقنتها نفسي، قد ترامت به البلدان والأسفار، ونبت عنه الأوطان والأوطار، وضاقت به الأعطان والأقطار. تركت قلبه طافحاً بوجده، ودمعه سافحاً على خده لو سالمه الأسد رام ظلمه، أو خاشنه الضر طلب سلمه قد أمرته أن يجعل رأيك سراجه، ورسمك منهاجه، قد شربت وشلا من وده، ولبست سملاً من عهده، لأكشفنه لكل ليل بارد، ونهار واقد، اكفف عن لحم يكسبك بشما وفعل يعقبك ندما. مستثقل من كراه، ثمل من عناه طرقني ثناء ما تتلقى شفتاي بذكره، ولا يثبت بالي لخطره لست غفلاً عن الدهر فتنكر نوائبه، ولا مطيقاً له فتدفع مصائبه. قد تناسخت الأيام قواه، وشذبت الحوادث هواه. تبدى وجه المطابق والموافق، وتخفى نظر المسارق المنافق، لو أن البرق فطنته، والريح جنبته، والسد سوره، لتغشاه حسبي، واستخرجه طلبي، ولما خذلته أنصاره، وقطعته أرحامه، وقعدت عنه أشياعه، أوليته من حمايتي عضداً. ومن عنايتي مدداً، وجدته أمد يداً من باعه، وأبسط قعوداً من قيامه، مكن موضع رجلك قبل مشيك. وتأمل عاقبة فعلك قبل سعيك. عصارة لؤم في قرارة خبث، غصن مهصور بالموت، معصور بالتراب، قد خفف همه بالشكوى، وحل حزنه بالبكاء كما حذيت النعل بالنعل ، وقد الشراك على المثل، يعدل عن النص إلى الخرص، وعن الحس إلى الهجس. في حكمه صارم فصل، وفي يده خاتم عدل، سديد المذاهب، سعيد المناقب، نجيح المطالب. دلاه في خطر، وأسلمه إلى غرر. لا زلت في إقامة ممهدة الحشايا. وحركة وطيئة المطايا. دفعه إلى شفير، وأطلعه على حقير، استدعى حضوري خالياً، واستدنى مجلسي مكرماً، واستوفى مقالي مصغياً، وأعطاني معروفه مسمحاً، ونزل على مسألتي مسهلاً، وقضى حاجتي مجملاً، وصرفني بالنجاح عجلاً، طيب المغرس، زاكي المنبت، نضير المنشأ، رفيع الفرع، لذيذ الثمر. متقلب بين استقبال شباب، واستقلال حال. وشرخ قصف، وفتاء ظرف. وجدت فيه مصطنعاً، وبه مستمتعاً، قد وفر همّه على مطعم يجودة. ومرقد يمهده، أنا أتذمم من استئصال مثلك، وأهب جرمك لفضلك. من ضاف الأسد قراه أظفاره، ومن حرك الدهر أراه اقتداره، وجدت فيه مع علو سنه، وأخذ الأيام من جسمه بقية حسنة. ومتعة حلوة، التصرف أسنى وأعلى، والتسيم أعفى وأصفى، ومهما اخترت من الأمرين أمراً فعنايتي تحرسك فيه، ونظري يمكنك منه، لو لم يكن في تهجين الرأي المفرد، وتبيين عجز التدبير الأوحد، إلا أن الأستلقاح - وهو أصل كل شيء - لا يكن إلا بين اثنين وأكثر الطيبات أقسام تجمع وأوصاف تؤلف ما أخرج من شعره في جاريته تجني من ذلك قوله: (1/236)
مرّت فلم تثن طرفها تيها ... يحسدها الغصن في تثنيها
تلك تجني التي جننت بها ... أعاذني الله من تجنّيا
وقوله:
ربّ ليل لبست فيه التصابي ... وخلعت العذار والعذل عنّي
في محلّ يحلّه لذّة العي ... ش ويجني سروره من تجني
وقوله:
لي صديق في ودّه لي صدوق ... وبرعي الحقوق مني حقيق
يا تجّني كتمت ثم بدا لي ... أنت ذاك الصديق لي والرفيق
كلّما سرت من فراقك ميلاً ... مال من مهجتي إليك فريق
فحياتي مصروفة في طريق ... للمنايا عليّ فيها طروق
وقوله:
منيّةٌ سابقت ورود البشير ... وموافٍ أوفى على التقدير
يا عروساً زفت إليّ فأهدي ... ت إليها رقى المكان المهور
بالتملّي وبالرجا والسرور ... يا حياتي والمنزل المعمور
قد لعمري وفيت لي وسأجزي ... ك وفاءً بالشرط بعد النذور (1/237)
وقوله:
لقد واظبت نفسي على الحب في الهوى ... بإنسانة ترعى الهوى وتواظب
صفا لي العيش والشيب شامل ... كما كان يصفو والشباب مصاحب
ما أخرج من شعره في الغزل وغيره فمن ذلك قوله:
أراني الله وجهك كلّ يوم ... صباحاً للتيمن والسرور
وأمتع ناظري بصحيفتيه ... لأقرا الحسن من تلك السطور
وقوله:
يا منى نفسي ويا حس ... بي من حسن وطيب
سابقي بالوصل موتي ... أو مشيبي ومغيبي
فهو للفتيان في الدن ... يا بمرصاد قريب
وله في غلام اسمه غريب
رعى الرحمن قوماً ملّكوني ... رشا قصير بلغت به المرادا
وسمّوه مع القربى غريباً ... كنور العين سمّوه سوادا
وقوله:
رب ليل قطعت فيه خماري ... بغزال كأنه مخمور
ومصاد سرحت فيه ونصر ... بازيازي مظفر منصور
بصقور مثل النجوم إذا انقض ... ت وعصف كأنّهن صقور
وقوله:
الورد بين مضمخ ومضرج ... والزهر بين مكلل ومتوج
والثلج يهبط كالنثار فقم بنا ... نلتذ بابنة كرمة لم تمزج
طلع النهار ولاح نور شقائق ... وبدت سطور الورد تلو بنفسج
فكأن يومك في غلالة فضة ... والنبت من ذهب على فيروزج
وقوله:
يوم كأن سماؤه ... شبه الحصان الأبرشِ
وكأنّ زهرة روضه ... فرشت بأحسن مفرش
فسماؤه دكن الخزو ... ز وأرضه خضر الوشي
كأنه أخذه من قول ابن الرومي:
يومنا للنديم يوم سرور ... والتذاذ ونعمة وابتهاج
ذو سماء كأدكن الخزّ قد غي ... مت وأرض كأخضر الديباج
وقوله:
يا هلالاً يبدو فيزداد شوقي ... وهزاراً يرنو فيزداد عشقي
زعم الناس أن رقك ملكي ... كذب الناس أنت مالك رقي
وقوله:
ألا يا منى نفسي وإن كنت حتفها ... ومعناي في سريّ ومغزاي في جهري
تصارمت الأجفان منذ صرمتني ... فما تلتقي إلاّ على عبرة وتجري
وقوله:
يا شادناً جدّد حبّي له ... من بعد حبّ سالف ساجي
بلحية قد أوصلت جمّةً ... مثل اتصال الطوق بالتاج
وله في غلام ناقه من علته:
نهض العليل فقلت حي ... ن بدا كغصن مائل
طلع الهلال لليلة ... بضياء بدر كامل
وقوله:
قال لي من أحب والبين قد بدّ ... د دمعي مواصلاً للشهيق:
ما الذي في الطريق تصنع بعدي؟ ... قلت: أبكي عليك طول الطريق
وقوله:
لو لا تسليّ بارتكاضي ... في البعد والقرب والتلاقي
ودفعي الهم بالأماني ... فارقت روحي مع الفراق
وقوله:
ينأى فأشتط وأنوي له ... تنقص الداني على النائي
حتى إذا أبصرته ذبت في ... يديه ذوب الملح في الماء
وقوله:
ولي حبيب ألوذ فيه بأو ... صاف وفحواه فوق ما أصف
كالبدر يعلو والشمس تشرق وال ... غزال يعطو والغصن ينعطف
وقوله:
إن كنت أزمعت الرحي ... ل فإن عزمي في الرحيل
أو كنت قاطنة أقم ... ت وإن منعت لذيذ سولي
كالنجم يصحب في المسي ... ر ولا يزول لدى النزول
أخذه من قول أبي تمام:
كالنجم إن سافرت كان مواكباً ... وإذا حططت الرحل كان جليساً
وقوله:
عزمي وعزم عصابة ركاضة ... موصولة الإلجام بالإسراج
كالنبل عامدة إلى أهدافها ... والطير قاصدة إلى الأبراج
وقوله:
وذي حاسد ولو حلّ بي ما يريده ... لأصبح مفجوعاً بفيض بناني
ولم أعطه جهلاً ولكن سحائبي ... تهمّ ذوي الإخلاص والشّنان
وقوله لأبي إسحاق الصابي
بّرد مصيفك وافرشه بميثرة ... فإنّني لمقام الخلّ أرتحل (1/238)
الذاكري وإن أضحي ويعجبني ... أن تستريح وأن تكتنّك الظلل
وقوله:
أوفي كلا وقتي قسط تأله ... وقسط هوىً لا يستمر لمحرم
ولذّة وجدي من لذاذة مطربي ... أسرّ إلى نفسي وأعذب في فمي
وقوله:
يا عارفاً بالداء مطّ ... رح السؤال عن الدواء
العلم عندي كالغذا ... ء فهل تعيش بلا غذاء
وقوله:
لو توسطت إذاً لم تترك ... وكففت القلب عن بعض الأرب
كان أرجى لك في العقبى من أن ... تملأ الدلو إلى عقد الكرب
وقوله:
هب البعث لم يأتينا نذره ... وجماحة النار لم تضرم
أليس بكاف لذي فكرة ... حياء المسيء من المنعم؟
وقوله:
يا من يسرّ بلذة الدنيا ... ويظنّها خلقت لما يهوى
لا تكذبن فإنّها خلقت ... لينال زاهدها بها الأخرى
وقوله:
بعثت إلى ربّ البرايا رسالةً ... توسل لي منها دعاء مناصح
فجاء جوابي بالإجابة وانجلت ... بها كرب ضاقت بهنّ الجوانح
الباب الثالث
في ذكر أبي إسحاق الصابي
ومحاسن كلامه
هو إبراهيم بن هلال بن هرون الصابي الحراني. أوحد العراق في البلاغة، ومن به تثنى الخناصر في الكتابة، وتتفق الشهادات له ببلوغ الغاية، من البارعة والصناعة، وكان قد خنق التسعين في خدمة الخلفاء، وخلافة الوزراء، وتقلد الأعمال الجلائل، مع ديوان الرسائل، وحلب الدهر أشطره، وذاق حلوه ومره. ولابس خيره، ومارس شره، ورئس وأس، وخدم وخدم، ومدحه شعراء العراق في جملة الرؤساء وسار ذكره في الآفاق، ودوّن له من الكلام البهي النقي ما تتناثر درره، وتتكاثر غرره، وفيه يقول بعض أله العصر:
أصبحت مشتاقاً حليف صبابة ... برسائل الصابي أبي إسحاق
صوب البلاغة والحلاوة والحجى ... ذوب البراعة سلوة العشاق
طوراً كما رق النسيم وتارة ... يحكي لنا الأطواق في الأعناق
لا يبلغ البلغاء شأو مبرزٍ ... كتبت بدائعه على الأحداق
ويقول بعض أهل العصر فيه أيضاً:
يا بؤس من يمنى بدمع ساجم ... يهمي على حجب الفؤاد الواجم
لو لا تعلّله بكأس مدامة ... ورسائل الصابي وشعره كشاجم
ويحكى أن الخلفاء والملوك والوزراء أرادوه على الإسلام، أداروه بكل حيلة، وتمنية جليلة، حتى إن عز الدولة بختيار عرض عليه الوزارة إن أسلم، فلم يهده الله تعالى للإسلام، كما هداه لمحاسن الكلام، وكان يعاشر المسلمين أحسن عشرة، ويخدم الأكابر على أرفع خدمة، ويساعدهم على صيام شهر رمضان، ويحفظ القرآن حفظاً يدور على طرف لسانه، وسن قلمه، وبرهان ذلك ما أوردته في كتاب الاقتباس من فصوله التي أحسن فيه كل الإحسان، وحلاها بآي من القرآن.
سمعت أبا منصور سعيد بن أحمد البريدي ببخارى يقول: إن أبا إسحاق الصابي، كان من نساك أهل دينه والمتشددين في ديانته، وفي محاماته على مذهبه وتصونه عما يدعو إليه الهوى:
حمتني لذاتي رتب المعالي ... وضّني بالمروءة والوقار
ودينٌ ضاق فيه مجال فتكي ... لخوف عقوبة وحذار نار
فوا شوقاً إلى خلع العذار ... وفعلي ما أريد بلا اعتذار
ويا لهفي على حلّ الإزار ... صريعاً بين سكر أو خمار
وحدثني أبو نصر سهل بن المرزبان، قال: بلغني أن الصابي حضر يوماً مائدة المهلبي، فامتنع عن الأكل، لباقلاء كانت عليها، لأنه محرم على الصابئة كيفما كان من السمك ولحم الخنزير ولحم الجمل وفراخ الحمام والجراد، فقال له المهلبي: لا تبرد وكل معنا من هذه الباقلاء، فقال: أيها الوزير لا أريد أن أعصي الله في مأكول، فاستحسن ذلك منه.
وكان أبو إسحاق في أيام شبابه واقتباله أحسن حالاً، وأرخى بالاً منه في أيام استكماله وزمن اكتهاله، وأورى زنداً وأسعد جداً منه حين مسه الكبر، وأخذ منه الهرم، في ذلك يقول:
عجباً لحظي إذ أراه مصالحي ... عصر الشباب، وفي المشيب مغاضبي
أمن الغواني كان حتى ملّني ... شيخاً وكان على صباي مصاحبي؟ (1/239)
أمع التضعضع ملّني متجنّباً ... ومع الترعرع كان غير مجانبي
يا ليت صبوته إليّ تأخرت ... حتى تكون ذخيرة لعواقبي
من قصيدة في فنها فريدة كتب بها إلى الصاحب، يشكو فيها بثه وحزنه ويستمطر سحابه، بعد أن كان يخاطبه بالكاف ولا يرفعه عن رتبة الأكفاء.
وكان المهلبي لا يرى إلا به الدنيا، ويحن إلى براعته وتقدم قدمه، ويصطنعه لنفسه، ويستدعيه في أوقات أنسه. فلما توفي المهلبي وأبو إسحاق يلي ديوان الرسائل والخلافة مع ديوان الوزارة، اعتقل في جملة أعمال المهلبي، فمن قوله في ذلك الاعتقال من قصيدة:
يا أيها الرؤساء، دعوة خادم ... أوفت رسائله على التعديد
أيجوز في حكم المروءة عندكم ... حسبي وطول تهددي ووعيدي؟
قلّدت ديوان الرسائل فانظروا ... أعدلت في لفظي عن التسديد؟
أعليّ رفع حسام ما أنشأته ... فأقيم فيه أدلتي وشهودي؟
أنسيتم كتباً شحنت فصولها ... بفصول درّ عندكم منضود؟
ورسائلا نفذت إلى أطرافكم ... عبد الحميد بهنّ غير حميد
يهتز سامعهن من طرب كما ... هزّ النديم سماع ضرب العود
أنا بين إخوان لنا قد أوثقوا ... بسلاسل وجوامع وقيود
وموكلين بنا نذل لعزّهم ... فكأننا لهم عبيد عبيد
والله ما سمع الأنام ولا رأوا ... نقداً توكل قبلهم بأسود
من كلّ حر ماجد صنديد ... في كل وغد عاجز رعديد
قصرت خطاه خلاخل من قيده ... فتراه فيها كالفتاة الرود
يمشي الهوينا ذلّة لا عزة ... مشي النزيف الخائف المزءود
فتفضلوا وتعطّفوا وهبوا لنا ... عفواً قديم حفائظ وحقود
وتعلموا أن الولاية عندكم ... عارية ليست بذات خلود
وسأجعل لأخوات هذه الأبيات مما قاله في هذا الاعتقال وغيره فصلاً في جملة الفصول، من غرر شعره.
ولما خلي عنه وأعيد إلى عمله لم يزل يطير ويقع وينخفض ويرتفع إلى أن دفع في أيام عضد الدولة إلى النكبة العظمى والطامة الكبرى. إذ كانت في صدره حزازة كبيرة، من إنشاءات له عن الخليفة الطائع في شأن عز الدولة بختيار نقمها منه، واحتقدها عليه.
حدثني أبو منصور سعيد بن أحمد البريدي وأبو طاهر محمد بن عبد الصمد الكاتب، قالا: كان من أقوى أسباب تغير عضد الدولة لأبي إسحاق بعد ميله إليه وضنه به فصل من كتاب أنشأه عن الخليفة في شأن بختيار، وهو: وقد جدد له أمير المؤمنين مع هذه المساعي السوابق، والمعالي السوابق التي تلزم كل دان وقاص، وعام وخاص. أن يعرف له حق ما كرم به منها ويتزحزح عن رتبة المماثلة فيها، فإنه أنكر عليه هذه اللفظة أشد إنكار؟ ولم يشك في التعريض به، وأسرها في نفسه إلى أن ملك بغداد، وسائر بلاد العراق، وأمر أبا إسحاق بتأليف كتاب في أخبار الدولة الديلمية، يشتمل على ذكر قديمه وحديثه، وشرح سيره وحروبه وفتوحه، فامتثل أمره وافتتح كتابه المترجم بالتاجي الذي تقدم ذكره، فاشتغل في منزله به، وأخذ يتأنق في تصنيفه وترصيفه، وينفق من روحه على تقريظه وتشنيفه، فرفع إلى عضد الدولة أن صديقاً للصابي دخل عليه يوماً فرآه في شغل شاغل من التعليق والتسويد والتبديل والتبيض، فسأله عما يعمله من ذلك فقال: أباطيل أنمقها، وأكاذيب ألفقها، فأنضاف تأثير هذه الكلمة في قلب عضد الدولة إلى ما كان في قلبه من أبي إسحاق. وحرك من ضغنه الساكن، وأثار من سخطه الكامن، فأمر بأن يلقى تحت أرجل الفيلة. فأكب نصر بن هرون ومطهر بن عبد الله وعبد العزيز بن يوسف على الأرض يقبلونها بين يديه، ويستشفعون إليه في أمره، ويتلطفون في استيهاب دمه، إلى أن أمر باستيحائه مع القبض عليه وعلى أشيائه واستئصال أمواله، فبقي في ذلك الاعتقال بضع سنين إلى أن تخلص في آخر أيام عضد الدولة، وقد رزحت خاله وتهتك ستره. وكان الصاحب يحبه أشد حب ويتعصب له ويتعهده على بعد الدار بالمنح، وأبو إسحاق يخدم حضرته بالمدح.
وقرأت له فصلاً من كتاب في ذر صلة وصلت منه إليه استظرفته جداً، وهو: ورد - أطال الله تعالى بقاء سيدنا ومولانا - أبو العباس أحمد بن الحسين وأبو محمد جعفر بن شعيب حاجين، فعرجا إلى ملمين، وعاجا على مسلمين، فحين عرفتهما، وقبل أن أرد السلام عليهما، مددت اليد إليهما، كما مدها حسان بن ثابت إلى رسول جبلة بن الأيهم ثقة مني بصلته، وتشوقاً إلى تكرمته واعتياداً لإحسانه، وإلفاً لموارد إنعامه، وتيقنا أن خطوري بباله، مقرون بالنصيب من ماله، وأن ذكراه لي مشفوعة بجدواه، وقمت عند ذلك قائماً، وقبلت الأرض ساجداً، وكررت الدعاء والثناء مجتهداً، وسألت الله تعالى أن يطيل له البقاء، كطول يده بالعطاء، ويمد له في العمر، كامتداد ظله على الحر. وأن يحرس هذا البدد، وأفاء عليهم من نداه، وأسامهم فيه من مراتعه، وأعذبه لهم من شرائعه، التي هم محلئون إلا عنها، ومحرومون إلا منها. (1/240)
وله رسائل وقصائد كثيرة إليه، وقد أودعت هذا الكتاب شرطة منها.
وبلغني أن الصاحب كان يتمنى انحيازه إلى جنبته، وقدومه إلى حضرته، ويضمن له الرغائب على ذلك إما تشوقاً أو تفوقاً، وكان أبو إسحاق يحتمل ثقل الخلة، وسوء أثر العطلة، ولا يتواضع للاتصال بجملة الصاحب بعد كونه من نظرائه وتحليه بالرياسة في أيامه.
وأخبرني ثقات منهم أبو القاسم علي بن محمد الكرخي، وكان شديد الاختصاص بالصاحب، أنه كثيراً ما كان يقول: كتاب الدنيا وبلغاء العصر أربعة: الأستاذ ابن العميد، وأبو القاسم عبد العزيز بن يوسف، وأبو إسحاق الصابي، ولو شئت لذكرت الرابع، يعني نفسه، وأما الترجيح بين هذين الصدرين - أعني الصاحب والصابي - في الكتابة فقد خاض فيه الخائضون. وأخب فيه المخبون ومن أشفي ما سمعته في ذلك أن الصاحب كان يكتب كما يريد وأبو إسحاق كان يكتب ما يؤمر، وبين الحالين بون بعيد. وكيف جرى الأمر فهماً هما وقد وقف فلك البلاغة بعدهما.
وأنا كاتب أنموذجاً من فصوص فصول الصابي وفرائد قلائده، ومقف على أثره بما فصلته من غرر أشعاره والمشتملة على بدائع معانيه بمشيئة الله تعالى وإذنه.
فصل من كتابه الى عضد الدولة
فصل له من كتاب إلى عضد الدولة في التهنئة بتحويل سنة أسأل اله تعلى مبتهلاً لديه، أن يحيل على مولانا هذه السنة وما يتلوها من أخواتها بالصالحات الباقيات، وبالزائدات الغامرات، ليكون كل دهر يستقبله وأمد يستأنفه موفياً على المتقدم يه، قاصراً على المتاجر، ويوفيه من العمر أطوله وأبعده، ومن العيش أعذبه وأرغده، عزيزاً منصوراً محمياً موفوراً باسطاً يده، فلا قبضها إلى على نواصي أعداء وحساد، سامياً طرفه، فلا يغضه إلا على لذة غمض وقاد. مستريحة ركابه فلا يعملها إلا لاستضافة عز وملك فائزة قداحة فلا بجيلها إلا لحيازة مال وملك، حتى ينال أقصى ما تتوجه إليه أمنيته جامحاً، وتسمو له همته طامحاً.
فصل من كتاب عن بختيار إلى مؤيد الدولة لما قبض على أبي الفتح بن العميد ذي الكفايتين في الشفاعة له
وهذا غلام أفسدته سجية ركن الدولة الشريفة في شدة الاحتمال، والصبر على الإدلال، واجتمع له إلى التقلب في نعمة حازها حيازة وارث لها، لم يكدح في تأثيلها، ولا مسه النصب في تثميرها، ولا اهتدى إلى طريق استيفائها، ولا تحزن من طرق دواعي انتقالها، ومن ألزم اللوازم في حكم الرعاية أن نحفظه من سكر نعمة نحن سقيناه بكأسها، وأن نعذره عند هفوة قد شاركناه في إيجاد أسبابها. وأن تكون نفسه محروسة والبقية من حالة يعد أخذ فضلها المفسد له متروكة، وأن يتحدث الناس بأن سيدي الأمير أصاب غرض الحزم بالقبض عليه، ثم طبق مفصل الكرم في التجاوز عنه.
فصل عنه إلى أبي تغلب في الشفاعة لأخ له
وقد يكون لعمري من ذوي الأرحام الشابكة، والقرابات الدانية، من يتمادى في العقوق، ويذهب عن حفظ الحقوق، ولا يسع ترك تألفه حتى يرجع، واستصلاحه حتى ينزع، فإن تجشم الإعراض عنه لرياضة تقصد، أو عاقبة نفع تحمد، لم يبلغ به إلى قطع المعيشة، ومنع المادة، لأن قباحة ذلك بمن يستعمله أكثر من مضرته بمن يعمل معه، وقد قيل إن الملوك تؤدب بالهجران، ولا تعاقب بالحرمان، هذا في الاتباع والأصحاب، فكيف في الأقران والأتراب؟
فصل عن نفسه إلى عبد العزيز بن يوسف
كتب الأتباع محتاجة عند الملوك إلى قائد يطرق ويمهد لها. وسائق يشيع ويحدو بها، وناصح يعضدها في متضمناتها، ويشفع لها في ملتمساتها، ويعتمد بعرضها في أوقات الفراغ والنشاط. وأحيان الخلوة والانبساط. (1/241)
فصل عن بختيار إلى أبي تغلب في ذكر فرس أهداه إليه
أما الفرس الذي سألت إيثارك به، فقد تقدمنا بقوده إليك، والله تعالى يبارك لك فيه، ويجعل الخير معقد ناصيته، والإقبال غرة وجهه. وإدراك المطالب تحجيل قوائمه، ونيل الأماني طلق شده، وفتح الفتوح غاية شأوه. وسلامة العواقب مثنى عنانه.
فصل عن نفسه إلى صدق له منجم يسأله الحكم عن تحويل سنته
ما أحوج من حالي حاله إلى تفضل منك عائد بعد باد، وتال بعد ماض، وبالحكم على السنة المستقبلة التي تصل زايرجتها درج هذا الكتاب، مستقصياً له ومدققاً فيه ومتوفراً عليه، ومتوصلاً إلى استنباء دفينه واستثارة كمينه، والإفصاح بكلياته وجزئياته، غير مغرق في تفخيم ما يلوح من السعادة سهلها الله تعالى. كيلا أتوقع منها أكثر من حدها، ولا مقتصراً في الإنذار بالمنحسة صرفها الله تعالى، لئلا أكون كالغافل الذاهل عنها. فإن ثمرة هذه الصناعة هي تقدمة المعرفة بما يكون، والاستعداد له بما يمكن. ولا أقول إن ذلك يؤدي إلى دفع مقدور نازل ، ولا معارضة محتوم حاصل، ولكني أقول: ربما كان من سعادة السعيد أن يعلم هذا الأمر فيتصدى لحيازة ما يجب، ويتوقى حلول ما يكره، وربما كان من منحسة المنحوس أن يجهله فيكون كالمسلوب بصره وسمعه، الذي لا يرى فيتحفظ، ولا يسمع فيتيقظ. وكلا الأمرين لسابق قضاء الله تعالى موافق، ولمتقدم علمه مطابق. وإنما ذكرت ذلك استظهاراً لنفسي إن تعداك كتابي إلى غيرك، ممن لا يهتدى للجمع بين الأمرين، والتعلق منهما بالعروتين، فيظن أن المراعي لأحدهما مخل بالآخر، وعندي أن الفاصل بينهما لا يخلو من أن يكون ناقص الحظوظ في أدبه، أو ناقص اليقين في دينه. وأنت ولي ما تفضل به في ذلك معتمد تقديمه، ونترك تأخيره، إذ للنفس راحة في تيسير المنتظرات، وعليها في أن تتمادى بها الأوقات، على أن ظني بك الإيثار لما أثرت، والتحرز مما حاذرت.
فصل من رسالة عن صديق في الخطبة
و لو لم للخاطب إلى المخطوب إليه سبب غير ابتدائه إياه بالثقة، والتماس المشابكة، ورضاه به شريكاً مفوضاً في الولد واللحمة والحال والنعمة لكفاه وأجزأه، وأغناه عن كل ما سواه، حتى أنه لو خطب إلى زاهد لوجب عليه أن يرغب أو إلى معتاص للزمه أن ينقاد، لأن هذا المطلب إذا صدر عن الأحرار إلى الأحرار استهجن الرد عنه، والمقابلة له بضده، فكيف وقد انتظمت بيننا دواعي الإجابة، وارتفعت عن المدافعة؟ بالله جهد المقسم أن والدي أيدهما الله تعالى يسومانني التأهل منذ سنين كثيرة، فأحمل نفسي على التقاعس عما آثره مع ما افترض على من طاعتها اشتطاطا مني في شرائط أحببت أن تجتمع لي في الخبيئة التي أواصلها، وقلما تتكامل إلا فيمن طهر الله أصله، وجمل أمره وأظهر فضله. وقد دعاني بالدعاء إلى ذلك كثير من الرؤساء الأكابر وذوي الأخطار والأفاضل. بفارس والبصرة وبغداد، فامتنعت من أجل شذوذ بعض شرائطي عليهم، حتى إذا أوجدنيها الله في جهتك الجليلة، وجمعها لي في منازلك المصونة، بعثتني البواعث وحفزتني الحوافز إلى أن يتألف بيننا الشمل، ويتصل بنا الحبل، فكتبت إليك هذه الرقعة خاطباً إليك كريمتك فلانة، على أن أكون لها كالجفن الواقي لمقلته، والصدري الحاوي لمهجته، ولك كالولد المطيع لأبيه، ولأخيها كالأخ المعاضد لأخيه، فإن رأيت يا سيدي أن تتأمل ما كتبت به من هذه الجملة، وتسمع من موصلها ما تجمله عني من تفصيلها، وتتوخى بإجابتي إلى ما سألت تحقيق ظني، وتصديق أملي، فعلت إن شاء الله.
؟فصل من عهد للخليفة إلى قاض
وأمره أن يجلس للخصوم، وقد نال من المطعم والمشرب طرفاً يقف به عند أول حد من الكفاية، ولا يبلغ منه إلى آخر النهاية، وأن يعرض نفسه على أسباب الحاجة كلها، وعوارض البشرية بأسرها، لئلا يلم به من ذلك ملم ويطيف به طائف، فيحيلانه عن رشده، ويحولان بينه وبين سداده.
فصل في ذكر تقليد المطيع ابنه الطائع ما كان إليه من الخلافة
ولما صار في السن العليا، والعلة العظمى، بحيث يحرج أن تقيم معه على إمامة قد كل عن تحمل كلها، وضعف عن النهوض بعبئها وحملها، خلع ذلك السربال على أمير المؤمنين الطائع لله، خلع الناض إليه، والمسلم عليه. (1/242)
؟فصل عن بختيار إلى عضد الدولة في التأليف.
وإن من أعظم محن هذا البيت، أن تزول منابت فروعه عن منابت أصوله، وأن تؤتى مراسي أوتاده من ذوائب عروشه، وأن تدب بينهم عقارب المشاحنة، وتسري إليهم أراقم المناقشة. وتنبث الدواهي فيهم من ذاتهم، وقد كانت محسومة من أضدادهم وعداتهم.
فصل إلى صديق له في الشكوى والاستماحة
ولما صارت صروف الدهر على بعد التطريف، وتجحف بي بعد التحييف. وصادف ما يجدد علي في هذا الوقت منها أشلاء مني منهوكة، وأعظماً مبرية، وحشاشة مشفية، وبقية مودية. جعلت اختبار الجهات، واغتنام الجنبات، لأنحو منها ما لا يعاب سائله إذا سأل، ولا يخيب آمله إذا أمل. وكان سيدي أولها إذا عددت، وأولاها إذا اعتمدت. وكتبت كتابي هذا بيد يكاد وجهي يتظلم منها إذا تخطه، إشفاقاً على مائة مما يريقه، لولا الثقة أنه يحقن مياه الوجوه ويحميها، ويجمها ولا يقذيها.
فصل في مثله
ولما أناخت النكبة من حالي على طلل قفر، وبلقع صفر، وعون المغارم أثقل وطأة من أبكارها، وأبغ تأثيراً في ثلمها وإضرارها. فقد أضطرني إلى تجشم ما كنت أجمه من نداه، والتعرض لما كنت أدخره من جدواه. وإنما تخرج الكرائم وتبذل النفائس من تزايد الضغطة، وتضايق الخطة.
فصل في ذكر الأقدار
لله تعالى أقدار في أوقاتها، وقضايا تجري إلى غاياتها، لا يرد شيء منها عن شأوه ومداه، ولا يصد دون مبلغه ومنحاه، فهي كالسهام التي لا تثبت في الأغراض، ولا ترجع بالاعتراض. والناس فيها بين غبطة يجب الشكر عليها، ورزية يوثق بالعوض عنها.
؟فصل في ذكر الشكر والكفر
للنعم شروط من الشكر لا تريم ما وجد، ولا تقيم ما قعد، وكثيراً ما تسكر الواردين حياضها، وتغشى عيون المقتبسين إيماضها، فيذهلون عن الامتراء لدرتها، ويعمهون عن الاستمتاع بنضرتها. ويكونون كمن أطار طائرها لما وقع، ونفر وحشيها لما أنس، فلا يلبثون أن يتعروا من جلبابها، وينسلخوا من إهابها، ويتعوضوا منها الحسرة والغليل، والأسف الطويل.
فصل عن بختيار إلى سبكتكين الغزني
ليت شعري بأي قدم تواقفنا وراياتنا خافقة على رأسك ومماليكنا عن يمينك وشمالك، وخيلنا موسومة بأسمائنا تحتك، وثيابنا المنسوجة في طرزنا على جسدك، وسلاحنا المشحوذ لأعدائنا في يدك.
فصل له إليه أيضاً
لم يدر في خلده أن مثل إحسانه إليك يكفر، ومثل متجره فيك يخسر وقد جذب بضبعك من مطارح الأرقاء العبيد، إلى مراتب الأحرار الصيد.
؟فصل إليه أيضاَ
تناولتك الألسن العاذلة، وتناقلت حديثك الأندية الحافلة، وقلدت نفسك عاراً لا يرحضه الاعتذار، ولا يعفيه الليل ولا النهار.
فصل في ذكره
هو أرق دينا وأمانة، وأخفض قدراً ومكانة، وأتم ذلاً ومهانة، وأظهر عجزاً وزمانه، من أن تستقل به قدم مطاولتنا، أو تطمئن له ضلوع على منابذتنا، وهو في نشوزه عنا وطلبنا إياه كالضالة المنشودة، وفيما نرجوه من الظفر به كالظلامة المردودة.
؟فصل في مثله أيضاً
ولما بعد صيته بعد الخمول، وطلع سعده بعد الأفول، وجمعت عنده الأموال، ووطئت عقبة الرجال، وتضرمت بحسده جوانح الأكفاء، وتقطعت لمنافسته أنفاس النظراء، نزت به بطنته، فأدركته شقوته. ونزغ به شيطانه، وامتدت في الغي أشطانه.
فصل عن بختيار في ذكر عضد الدولة وما جرى بينهما
والله عالم أني مع ما عودنيه الله من الإظهار، وأوجدنيه من الاستظهار، ومنحنيه من شرف المكان، وظل السلطان وكثرة الأعوان، لأجزع في مناضلة عبد عضد الدولة من أن يصيب الغرض منه، كما أجزع من أن يصيب الغرض مني، وأكره أن أظفر به كما أن يظفر بي، وأشفق من أن أطرف عيني بيدي، وأعض لحمي بناني.
فصل في ذكره أيضاً
إن انتثار النظام إذا بدا والعياذ بالله تعالى لم يقف عند الحد الذي يقدر فلان أن يقف عنده، ولم يخصص الجانب الذي يظن أنه يلحقه وحده، بل يدب دبيب النار في الهشيم، ويسري كما يسري النغل في الأديم، وكثيراً ما تعدى الصحاح مبارك الجرب، ويتخطى الأذى إلى المرتقى الصعب.
فصل في ذكره أيضاً
قد لحقني من مولانا ما يلحق الرجل تذوي يمينه، وهو بين أن يقطعها ليسلم له ما بعدها. ويا لها من خطة ما أصعبها وأشقها، وورطة ما أحرجها وأضيقها. وبين أن يغضي عليها فيرمي إلى ما هو أعظم من قطعها، وأمض من فقدها. (1/243)
فصل في ذكر القواد
عادوا إلى الحضرة عود الأنياب إلى أفواهها، والأظفار إلى براثنها. والنصال إلى أجفانها، والسهام إلى كنائنها.
فصل عن الخليفة في رعاية حقوق الآباء في الأبناء واصطناع أولاد الأولياء
وأمير المؤمنين يذهب على آثار الأئمة المهديين، والولاة المجتهدين، في إقرار ودائعهم عند المترشحين لحفظها، والمضطلعين بحملها. من أولاد أوليائهم وذرية نصائحهم، إذ لا بد للأسلاف أن تمضي، وللأخلاف أن تنمو، كالشجر الذي يغرس لدنا فيصير عظيماً، والنبات الذي ينجم رطباً فيعود دهشماً، فالمصيب من تخير الغرس من حيث استنجب الشجر، واستحلى الثمر، وتعهد بالعرف من طاب عنه الخبر، وحسن منه الأثر.
فصل من رسالة في وصف المتصيد والصيد وخيلنا كالأمواج المتدفقة، والأطواد الموثقة. متشوقة عاطية. مستبقة جارية، تشتاق الصيد وهي لا تطعمه، وتحن إليه كأنه قضيم تقضمه، وعلى أيدينا جوارح موللة المخالب والمناسر، مدربة النصال والخناجر، طامحة الألحاظ والمناظر، بعيدة المرامي والمطارح، زكية القلوب والنفوس، قليلة القطوب والعبوس، سابقة الأذناب، كريمة الأنساب، صلبة الأعواد. قوية الأوصال، تزيد إذا طمعت شرهاً وقرماً. وتتضاعف إذا شبعت كلباً ونهماً فبينا نحن سائرون. وفي الطلب ممعنون، إذ وردنا ماء زرقا جمامه، طامية أرجاؤه يبوح بأسراره صفاؤه، ويلوح في قراره حصباؤه، وأفانين الطير به محدقة، وغرائبه عليه واقعة، متغايرة الألوان والصفات، مختلفة اللغات والأصوات، فمن صريح خلص وتهذب نوعه، ومن مشوب تهجن عرقه، فلما أوفينا عليها أرسلنا الجوارح إليها، كأنها رسل المنايا، أو سهام القضايا، فلم نسمع إلا مسميّا ولم نر إلا مذكيّا، وعدنا لشأننا دفعات، وأطلقناها مرات.
؟فصل منها
ثم عدلنا عن مطارح الخيام، إلى مسارح الآرام، نستقري ملاعبها، ونؤم مجامعها، حتى أفضينا إلى أسراب لاهية بأطلائها، راتعة في أكلائها، ومعنا فهود أخطف من البروق، وألقف من الليوث، وأمكر من الثعالب وأدب من العقارب، وأنزل من الجنادب، خمص الخصور قب البطون، رقش المتون، حمر الآماق، خزر الأحداق، هرت الأشداق،عراض الجباه، غلب الرقاب، كاشرة عن أنياب كالحراب.
فصل منها
وكم من قبر أطلقنا عليه بازياً فعرج إلى السماء عروجاً، ولجج في أثره تلجيجاً، فكأن ذلك يعتصم منه بالخالق، وكان هذا يستطعمه من خالق. حتى غابا عن النظار، واحتجبا عن الأبصار، وصارا كالغيب المرجم، والظن المتوهم، ثم خطفه ووقع كهيئة الطائر الواحد، فأعجبنا أمرهما، وأطربنا منظرهما.
فصل من رسالة في وصف الرمي عن قسي البندق
مآرب الناس منزلة بحسب قربها من هزل أو جد، ومرتبة على قدر استحقاقها من ذم أو حمد، وإذا وقع التأمل عليها والتدبير لها، وجد أولاها بأن تعده الخاصة نزهة وملعباً، والعامة حرفة ومكتسباً، الصيد الذي فاتحته طلاب لذة ونظر، وخاتمته حصول مغنم وظفر، وقد اشتركت الملوك والسوقا في استجماله، واتفقت الشرائع المختلفة على استحلاله، ونطقت الكتب المنزلة بالرخصة فيه، وبعثت المروءات على مزاولته وتعاطيه. وهو رائض الأبدان، وجامع شمل الإخوان، وداع إلى اتصال العشرة منهم والصحبة، وموجب لاستحكام الألفة بينهم والمحبة.
؟فصل إلى بعض الوزراء في إهداء دواة ومرفع
قد خدمت مجلس سيدنا حرسه الله تعالى وآنسه بدواة تداوي مرض عفاته، وتدوي قلوب عداته، على مرفع يؤذن بدوام رفعته، وارتفاع النوائب عن ساحته.
فصل من كتاب له إلى الصاحب
كتبت أطال الله بقاء الصاحب هذا الكتاب، وأنا أود أن سواد عيني مداده، وبياضها طرسه، شوقاً إلا لألاء غرته، وقرماً إلى تقبيل أنامله، وظمأ إلى ارتشاف بساطه.
؟فصل من هذا الكتاب
وما عسيت أن أبلغ في شكر سيدنا وحمده، على ما أهلني له من بره ورفده، وجهدي يقصر عن عفوه، وإسهابي يعجز عن وصفه. وهل أنا في ذلك لو فعلته إلا كمن جارى الحصان بالأتان، وواحة الغزالة بالذبالة، وقارع الحسام بالعصا، وبارى الدر بالحصى.
ما أخرج من شعره في الغزل
فمن ذلك قوله: (1/244)
تورد دمعي إذ جرى ومدامتي ... فمن مثل ما في الكأس عيني تسكب
فوالله ما أدري أبالخمر أسبلت ... جفوني أم من عبرتي كنت أشرب
وقوله في معناه:
جرت الجفون دماً وكأسي في يدي ... شوقاً إلى من لج في هجراني
فكأن ما في الجفن من كأسي جرى ... وكأن ما في الكأس من أجفاني
وقوله:
لست أشكو هواك يا من هواه ... كل يوم يروعني منه خطب
مرٌّ ما مرّ بي من أجلك حلوٌ ... وعذابي في مثل حبك عذب
وقوله:
أيها اللائم المضيق صدري ... لا تلمني فكثرة اللوم تغري
قد أقام القوام حجة عشقي ... وأبان العذار في الحب عذري
وقوله:
حذرت قلبي أن يعود إلى الهوى ... لما تبدل النزاع نزوعا
فأجابني لا تخش مني بعد ما ... أفلت من شرك الغرام وقوعا
حتى إذا داع دعاه إلى الهوى ... أصغى إليه سامعاً ومطيعا
كذبالة أخمدتها فكما دنا ... منها الضّرام تعلقته سريعا
وقوله:
مرضت من الهوى حتى إذا ما ... بدا ما بي لإخواني الحضور
تكنّفني ذوو الإشفاق منهم ... ولاذوا بالدعاء وبالنذور
وقالوا للطبيب أشر فإنّا ... نعدك للمهم من الأمور
فقال شفاؤه بغير عمد ... ولكن ذاك رمان الصدور
وقوله:
إلى الله أشكو ما لقيت من الهوى ... بجارية أمسى بها القلب يلهجُ
إذا امتزجتْ أنفاسنا بالتزامنا ... توهّمت أنّ الروح بالروح تمزج
كأنّي وقد قبّلتها بعد هجعةٍ ... ووجدي ما بين الجوانح يعلج
أضفت إلى النفس التي بين أضلعي ... بأنفاسها نفساً إلى الصدر تولج
فإن قيل لي اختر أيّما شئت منهما ... فإني إلى النفس الجديدة أحوج
وقوله:
أحشمتها بالعتب عند لقائها ... فتلثّمت من شدة استحيائها
واستكملت صفة البدور بطلعةٍ ... وبحلّة صبغت بلون سمائها
فبهتّ أنظر من لجين جبينها ... متخفراً في لازورد ردائها
وقوله:
هيفاء تحكي قضيباً ... قد جشمته الرياح
تفترُّ عن سمط درٍّ ... عليه مسكٌ وراح
جرّدتها واعتنقنا ... كلٌّ لكلٍّ وشاح
باتت وكلُّ مصونٍ ... لي من حماها مباح
في ليلةٍ لم يعبها ... في الدهر إلاّ الصباح
وقوله:
هيفاء كالغصن في رشاقته ... لفَّاء كالدعص في كثافته
تبخرت والعثان يكنفها ... فكانت البدر وسط هالته.
وقوله:
أقول وقد جردتها من ثيابها ... وعانقتها كالبدر في ليلة التم
لئن آلمت صدري لشدّة ضمها ... لقد جبرت قلبي وإن أَوهنتْ عظمي
وقوله:
إن نحن قسناك بالغصن الرطيب فقد ... خفنا عليك إذاً ظلماً وعدوناً
الغصن أحسن ما نلقاه مكتسياً ... وأنت أحسن ما نلقاك عريانا
وقوله:
يا من بدت عريانة ... فرأيت كل الحسن منها
كانت ثيابك عورةً ... فسترت بالتجريد عنها
وقوله:
يا قمراً كالخشف في نظرته ... وكالقضيب اللدن في خطرته
خلتك صيداً صار في قبضي ... فصرت من صيدي في قبضته
فديتُ من لاحظني طرفها ... من خيفة الناس بتسليمته
لما رأت بدر الدجا تائهاً ... وغاظها ذلك من شيمته
أزاحت البرقع عن وجهها ... فردّت البدر إلى قيمته
وقوله:
ما أنس لا أنس ليلة الأحد ... والبدر ضيفي وأمره بيدي
قبّلت منه فماً مجاجته ... تجمع بين المدام والشّهد
كأن مجرى سواكه بردٌ ... وريقه ذوب ذلك البرد
وقوله:
طيب عيشي في عناقك ... ووفاتي في فراقكْ
أنت لي بدرٌ فلا عش ... ت إلى يوم محاقك
فاسقني الصهباء صرفاً ... أو بمزجٍ من رياقك (1/245)
لا أريد الماء إلاّ ... عند غسلي من عناقك
وقوله:
كلّ الورى من مسلمٍ ومعاهد ... للدين منه فيك أعدل شاهدِ
فإذا رآك المسلمون تيقّنوا ... حور الجنان لدى النعيم الخالدِ
وإذا رأى منك النصارى طبيةً ... تعطو ببدرٍ فوق غصن مائدٍ
أثنوا على تثليثهم واستشهدوا ... بك إذ جمعت ثلاثة في واحد
وإذا اليهود رأوا جبينك لامعاً ... قالوا لدافع دينهم والجاحد
هذا سنا الرحمن حين أبانه ... لكليمه موسى النبيِّ العابد
وترى المجوس ضياء وجهك فوقه ... مسودّ فرعٍ كالظلام الراكد
فتقوم بين ظلام ذاك ونور ذا ... حججٌ أعدّوها لكلّ معاند
أصبحت شمسهمُ فكم لك فيهمُ ... من راكعٍ عند الظلام وساجد
والصابئون يرون أنّك مفردٌ ... في الحسن إقراراً لفردٍ ماجد
كالزّهرة الزهراء أنت لديهمُ ... مسعودةٌ بالمشتري وعطارد
فعلى يديك جميعهم مستبصرٌ ... في الدين من غاوى السبيل وراشد
أصلحتهم وفتنْتني وتركتني ... من بينهم أسعى بدينٍ فاسد
ما اخرج من شعره في الخمر
وما يضاف اليه
فمن ذلك قوله:
كوكب الإصباح لاحا ... طالعاً والديك صاحا
فاسقنيها قهوة تأ ... سو من الهمّ جراحا
ذات نشر كنسيم ال ... روض غبّ القطر فاحا
يا غلامي ما أرى في ... ها ولا فيك جناحا
حرم الماء وأبعد ... ه وإن كان مباحا
أقراحٌ أنا حتى ... أشرب الماء القراح
وقوله في نبيذ يدور به ساق يشبهه بالعروس التي تجلى، وتبرز أمامها سوداء قبيحة، لتكون كالعوذة لها، وتكون محاسن العروس أظهر بإزاء مقابحها:
بنفسي مقبلاً يهدي فنونا ... إلى الشّرب الكرام بحسن قدّهْ
وفي يده من التمريَّ كأسٌ ... كسوداء العروس أمام خدّه
وقوله:
صفراء كالتبر جامها يقق ... شعاعها كالذبال يأتلقُ
كأنّ في كفّ من أتاك بها ... ضحى نهارٍ في وسطه شفق
وقوله من قصيدة شبه له فيها مجلس الأنس بالمعركة:
ألاقي همومي في جحفل ... لها من مقامي فيه قرارُ
دبادبة من طوال القيا ... ن والناي بوق له مستعار
ومجلسنا حومةٌ أرهجت ... لزحف الندامى إليها بدار
كأن فكاهاتهم إذ علت ... غماغم للحرب فيها شعار
كأن الكؤوس بأيدي السقاة ... سيوفٌ لها بالدماء احمرار
كأن مناديل أكتافهم ... حمائلها إذ عليهم تدار
كأن رجوم تحاياهمُ ... سهامٌ على الجيش منها نثار
كأن المجامر خيلٌ جرتْ ... وقد ثار للند منها غبار
كأن السكارى رجل الوغى ... وقد عقرتهم هناك العقار
وقد جدلتهم جروحٌ بهم ... وجرح المدامة فيها جبار
كأن تسكابها في الزجاج ... حريقٌ له من حبابٍ شرار
فيا لك من مأقط لي به ... بلاء وقولٌ إليه يشار
ولما برزت إلى الهمّ فيه ... ولي بالسرور عليه اقتدار
وقوله في قصيدة:
رب عذراء راوحتني من الرا ... ح بعذراء تطرد الهمّ طردا
خندريس إذا المزاج علاها ... نظمت بالحباب للكأس عقدا
تترك البال ناعماً وأخا الشج ... و خلياً وطائر اللهو سغدا
عبقتني بكأسها ذات دلٍّ ... دلّ قلبي إلى الهوى فتعدّى
وكتب إلى صديق له يستدعيه ويصف ما عنده من رءوس الحملان والشراب والفستق للنقل والمطرب الممتع، فقال:
طباخنا صانعٌ رءوسا ... يسقط في طيبها الخلافُ
مبيضةٌ كاللجين لوناً ... شهيةٌ كلّها نظاف
وأخذها من الرقاق يحكي ... صريع حمّى له لحاف (1/246)
من بين عجل إلى خروف ... تزهى بتنضيدها الصحّاف
مختلفات القدود لكن ... لها بأسنانها ائتلاف
وكلها راضعٌ صغيرٌ ... له على ضرعها اعتكاف
قد اسمنتهنّ أمهاتٌ ... من طول إرضاعها عجاف
نسقي على ذاك روح دنٍّ ... أرقّ أسمائها السلاف
عروس دنٍّ صفت وطابت ... لوناً وطعماً فما تعاف
كأن إبريقها لدينا ... ناكس رأسٍ به رعاف
والنقل من فستق جنيٍ ... رطبٌ حديثٌ به القطاف
لي فيه تشبيه فيلسوف ... ألفاظه عذبة خفاف
زمرد زانه حريرٌ ... في حق عاجٍ له غلاف
ومسمعٌ مطرب مليح ... يحرم عن مثله العفاف
يظلمني صاحياً ولكن ... في سكره ما به انتصاف
فصر إلينا غداً بليلٍ ... أفديك من كلّ ما يخاف
فأنت أصل السرور عندي ... وكل ما بعده مضاف
؟ما أخرج من شعره في الأوصاف والتشبيهات
ومن ذلك قوله في الورد:
وزائرة لنا في كلّ حولٍ ... لها حظان من حسنٍ وطيبِ
تنال النفس حين تشمّ منها ... منال العين من وجه الحبيب
كأنّ زمانها نعتاض فيه ... إذا طلعت شباباً من مشيب
وقال في قصيدة:
أما ترى الورد قد حيّاك زائره ... بنفحة فرجت عن كل مصدور
كأن أنفاسه أنفاس غانية ... معشوقة خالطت أنفاس مخمور
تفتّحت وجنات في جوانبه ... كأنّما انتزعت من أوجه الحور
وقال في النرجس:
ربّ يومٍ نقعت فيه غليلي ... وهمومي بين الضلوع كمونُ
بوجوه مملوءة بعيونٍ ... وعيونٍ تخشى عليها العيون
تلك من نرجس نضير وهذي ... من غوان وجدي بهنّ جنون
وقال في وصف شمامة كافور
كافورةٌ جعلتها ... لأسود العين غرضْ
حتّى وددت أنّها ... من أبيض العين عوض
وقال فيها:
وشمّامةٍ كالبدر عند اعتراضه ... وكالكوكب الدريّ عند انقضاضه
يود سواد العين من شغف ... بها لو اعتاضها مستبدلاً من بياضه
وقال في النافجة:
وشميمة من نسل بط ... نٍ لم تكن من ظهر فحل
أهدت إليك جنينها ... من غير تطريق بحمل
فغدت بضاعة تاجر ... لا تشتري إلاّ ببذل
فيها لنفس قوتها ... لكن بشمٍّ لا بأكل
حلت محلاً لا ترى ... إلاّ لذي الخطر الأجلّ
وقال في عتيدة الطيب:
وعتيدة للطيب إن تستدعها ... تبعث إليك أمامها ببشيرها
يلقاك قبل عيانها أرجٌ لها ... فكأنّه مستأذنٌ لحضورها
نفحاتها لم تدر من كافورها ... تأتيك أم من مسكها وعبيرها
مزجت ببعض بعضها فتوحدّت ... عن أن تقاس بشكلها ونظيرها
لا عيب فيها غير أن نسيمها ... مثل اللسان يشيع سرّ ضميرها
وقال في مدخنة:
ومكروبة الأحشاء يعلو زفيرها ... وتعصف ريح الطيب بين فروجها
إذا روحت عن نفسها بخروجها ... فللنفس مني راحة في ولوجها
وقال فيها:
ومحرورة الأحشاء تحسب أنها ... متيمةٌ تشكو من الحبّ تبريحا
تناجيك نجوى يسمع الأنف وحيها ... وتجهله الأذن السميعة إذ يوحى
إذا استودعت سراً من الطيب مجملاً ... أشاعته تفصيلاً وأفشته مشروحا
وإن حاولت إخفاءه في ضميرها ... أبى عرفها إلا اعترافاً وتصريحا
يحرق فيها العود عوداً وبدأةً ... فتأخذه جسماً وتبعثه روحا
؟وقال فيها
ومجلس سماؤه ... من النجوم عائمه
في جوه سحابةٌ ... لها الأنوف شائمه
تنتابه مدخنةٌ ... لحاصريه خادمه
داخلها مجمرة ... مثل القطاة الجاثمه (1/247)
كأنها طارمةٌ ... فيها فتاة نائمه
تهدي لنا روائحاً ... من الجنان قادمه
لنا عليها خلعٌ ... من الذبول دائمه
لكنها عاريةٌ ... تخرج منها راغمه
؟وقال عن لسان مدخنة محلاة وأمر بنقشها فيها
جمعت من حليتي وعرفي ... ما بين حسنٍ وبين طيب
أدخل في الذيل من محبٍّ ... طوراً وفي الكمِّ من حبيب
فكم ترددت بين هذا ... وذا برغم من الرقيب
وقال في الغالية:
غالية تنتمي لحام ... قد استعارت لباس قارِ
في قدحٍ ينتمي لسامٍ ... من سنة البدر مستعار
جامع ما بين ذا وهذا ... قد أولج الليل في النهار
وقال فيها:
غالية صرح عطارها ... في عجنها عن خالص النية
تعزى إلى تبت من مسكها ... وهي من العنبر شحريه
منشورة الطيب على أنها ... في قدح البلور مطويه
كأنها فيه وقد حازها ... رومية حبلى بزنجيه
وقال في غلام له أسود شهر برشد:
أبصرت ف رشد وقد أحببته ... رشدي، ولم أحفل بمن قد ينكرُ
يا لائمي أعلى السواد تلومني ... من لونه وبه عليك المفخر
دع لي السواد وخذ بياضك إنني ... أدري بما آتي وما أتخير
مئوي البصيرة في الفؤاد سواده ... والعين بالمسود منها تبصر
والدين أنت مناظر فيه بذا ... وكذاك في الدنيا بهذي تنظر
بسواد ذينك تستضيء ولو هما اب ... يضا تغشاك الظلام الأكدر
فغدا بياضك وهو ليل دامس ... وغدا سوادي وهو فجر أنور
وقال فيه:
قد قال رشد وهو أسود للذي ... ببياضه استعلى علو مباين
ما فخر خدك بالبياض وهل ترى ... أن قد أفدت به مزيد محاسن
ولو أن مني فيه خالاً زانه ... ولو أن منه في خالاً شاقني
وقال فيه يخاطبه:
لك وجه كأن يمناك خطته ... بلفظ تمله آمالي
فيه معنى من البدور ولكن ... نفضت صبغها عليه الليالي
لم يشنك السواد بل زدت حسناً ... إنما يلبسن السواد الموالي
فبمالي أفديك إن لم تكن لي ... وبروحي أفديك إن كنت مالي
وقال في الشمعة:
وليلة من محاق الشهر مدجنة ... لا النجم يهدي السرى فيها ولا القمر
كلفت نفسي بها الإدلاج ممتطياً ... عزماً هو الصارم الصمصامة الذكر
إلى حبيب له في القلب منزلة ... ما حلها قبله سمع ولا بصر
ولا دليل سوى هيفاء مخطفةٍ ... تهدي الركاب وجنح الليل معتكر
غصنٌ من الذهب الإبريز أثمر في ... أعلاه ياقوتةٌ صفراء تستعر
تأتيك ليلاً كما يأتي المريب فإن ... لاح الصباح طواها دونك الحذر
وقال في وصف القبجة وأرسلها إلى أبي الفرج الببغاء:
أنعت طارونية الثياب ... لابسة خزاً على الإهاب
تصبغت تصبغ التصابي ... وأبرزت وجهاً بلا نقاب
ريان من محاسن الشباب ... مكحولة العينين كالكعاب
مغموسة الحاجب بالخضاب ... منقارها أحمر كالعناب
كأنما تسقى دم الرقاب ... محذورة محميّة الجناب
لها على الأرجل والأعقاب ... حملات ليث من ليوث غاب
أقفاصها كمحبس الحجاب ... مدورات الشكل كالقباب
تسمعنا منها وراء الباب ... تمتمةً بالقاف في الخطاب
كأنما تقرأ من كتاب ... مكروزة زادت على الحساب
قهقهة الإبريق بالشراب ... ملآن منكباً على الأكواب
أهلاً بصياد لها جلاّب ... جاء بها كريمة النصاب
ربيبة الجبال والهضاب ... كريمة الأعراق والأنساب (1/248)
لم تدر ما بادية الأعراب ... غريبة صارت من الأحباب
دونك يا ذا المفخر اللباب ... أرجوزة من صنعة الكتاب
باكورة من ثمر الألباب ... وتحفة من تحف الآداب
هدية الأتراب للأتراب ... قل ما ترى فيها ولا تحابي
هل خلصت من هجنة وعاب ... وسلمت من عيبة العياب
أم خلتها أشبه بالصواب ... فهات ما عندك من جواب
وقال في الخطاطيف:
وهندية الأوطان زنجية الخلق ... مسودة الأثواب محمرة الحدق
كأن بها حزناً وقد لبست له ... حداداً وأذرت من مدامعها العلق
إذا صرصرت صرّت بآخر صوتها ... كما صرَّ ملوى العود بالوتر الحرق
تصيف لدينا ثم تشتو بأرضها ... ففي كل عامٍ نلتقي ثم نفرق
وقال في البق والبراغيث والبيت الأخير أملح ما سمعت في معناه:
وليلة لم أذق من حرّها وسناً ... كأن من جوها النيران تشتعل
أحاط بي عسكر للبق ذو لجب ... ما فيه إلاّ شجاع فاتكٌ بطل
من كل سائلة الخرطوم طاعنة ... لا تحجب السجف مسراها ولا الكلل
طافوا علينا وحرّ الصيف يطبخنا ... حتى إذا طبخت أجسامنا أكلوا
ما أخرج مما قاله في البصرة
وكان خرج إليها في صباه ليستوفي مالاً على ضامنها، من ذلك قوله:
ليس يغنيك في الطهارة بالبص ... رة إن حانت الصلاة اجتهادُ
إن تطهرت فالمياه سلاح ... أو تيممت فالصعيد سماد
وقال فيها:
لهف نفسي على المقام ببغدا ... د وشربي من ماء كوز بثلج
نحن بالبصرة الدميمة نسقي ... شر سقيا من مائها الأترجي
أصفر منكر ثقيل غليظ ... خاثر مثل حقنة القولنج
كيف نرضى بشربه وبخير ... منه في كنف أرضنا نستنجي
وقال في قصر روح بها:
أحبب إليّ بقصر روح منزلاً ... شهدت بنيته بفضل الباني
سور علا وتمنعت شرفاته ... وكأن إحداهن هضب أبان
وكأنما يشكو إلى زواره ... بين الخليط وفرقة الجيران
وكأنما يبدو لهم من نفسه ... إطراق محزون الحشى حرّان
وقال عند رحيله عنها:
توليت عن أرض البصيرة راحلاً ... وأفئدة الفتيان حشو حقائب
منازل تقري ضيفها كل ليلة ... بأمثال غزلان الصريم الربائب
أقمت بها سوق الصبا والند معاً ... لعاشقة حرى وحيران لاعب
فما تظهر الأشواق إلاّ صنائعي ... ولا تستر الجدران إلاّ حبائبي
ما أخرج من شعره والدته وأولاده
قال:
أسرة المرء والداه وفيما ... بين حضنيهما الحياة تطيبُ
فإذا ما طواهما الموت عنه ... فهو في الناس أجنبي غريب
وقال، وقد عتب على بعض ولده:
أرضى على ابني إذا ما عقني حذراً ... عليه أن يغضب الرحمن من غضبي
ولست أدري بم استحققت من ولدي ... إقذاء عيني وقد أقررت عين أبي؟
وله من رقعة يلتمس فيها من بعض ... الرؤساء إجراء الرزق لبعض ولده
وما أنا إلا دوحة قد غرستها ... وسقيتها حتى تراخى بها المدى
فلما أقشعر الجلد منها وصوحت ... أتتك بأغصان لها تطلب الندى
وكتب إلي بعض الرؤساء قصيدة في إنفاذه ابنه إليه ليستخدمه، فمنها:
بعثت إليك أبني وبالله إنه ... لأحلى من النفس المقيمة في جنبي
وهل أنا إلا نسخة هي أصله ... وهل هو إلا كالمحررّ في الكتب
وفي النسخة السوداء ما أنت عارف ... من المحور الإصلاح والحلك والضرب
أخذ المعنى من قول ابن الرومي:
فقال لا تلحينا في تفاوتنا ... فإننا كتبٌ آباؤنا نسخ
رجع:
وهذا الذي يرضك مرأى ومخبراً ... ويمضي مضاء السهم والصارم العضب
وشتان بين العود أيبس وانحنى ... وبين النبات الغضّ والغصن الرطب (1/249)
فدونك فاقبله وثق منه بالذي ... يراد من العبد المناصح للربّ
وجرده من غمد التقبض باسطاً ... وجربه فالتجريب عن رشده ينبي
وقال وقد رأى ولداً لولده مترعرعاً ناشئاً:
أبو علي محسنٌ كبدي ... وقد نشأ من فتاه لي خلبُ
كأن هذا وذاك إذ نسبا ... منّي سوادُ يضمّه قلب
لا زلت ألقي الخطوب دونها ... حتّى كأنِّي عليها حجب
وقال يرثي أبا سعيد سناناً ابنه:
أسعداني بالدمعة الحمراء ... حل ما حلَّ بي عن البيضاء
يؤلم القلب كلّ فقد ولا مث ... ل افتقاد الآباء للأبناء
هدّ ركني مثوى سنان وقد كا ... ن يهدّ الأركان من أعدائي
عكست فيك دعوتي إذ أفدي ... ك برغمي فصرت أنت فدائي
إنما كنت فلذة من فؤادي ... خطفتها المنون من أحشائي
كنت منّي وكنت منك اتفاقاً ... والتئاما مثل العصا وللحاء
كنت في اليتم في أجمل منّي ... فيك للثكل في أوان فنائي
ولئن كان في أخيك وأولا ... دكما ما يغضُّ من برحائي
فلعموي لربما هيجوا الشو ... ق فزادوا في لوعتي وبكائي
ألم فيه بقول ابن الرومي، ولم يحسن بعض إحسانه:
وأنّيوإن متعت بابني بعدهلذاكره ما حنَّت النِّيب في نجدِ
وأولادنا مثل الجوارح أيما ... فقدناه كان الفاجع البيّن الفقد
لكلٍّ مكانٌ لا يسد اختلاله ... مكان أخيه من جزوع ومن جلدِ
هل العين بعد السمع تكفي مكانه ... أم السمع بعد العين يهدي كما تهدي
وكتب إليه ولده أبو علي المحسن يسليه في إحدى نكباته:
لا تأس للمال إن غالته غائلةٌ ... ففي حياتك من فقد اللهي عوضُ
إذ أنت جوهرنا الأعلى وما جمعت ... يداك من تالد أو طارف عرض
فأجابه بهذه الأبيات:
يا درّة أنا من دون الردى صدف ... لها أقيها المنايا حين تعترض
قد قلت للدهر قولاً كان مصدره ... عن نية لم يشبْ إخلاصها مرض
دع المحسن يحيا فهو جوهرةٌ ... جواهر الأرض طراً عندها عرض
فالنفس لي عوضُ عما أصيب به ... وإن أصبت بنفسي فهو لي عوض
اتركه لي وأخاه ثم خذ سلبي ... ومهجتي فهما مغزاي والغرض
ما أخرج من شعره في الفخر
قال:
أيسير جودي أنّني كلّما ... أسرفت في السكر ولا أدري
ندمت في صحوي على كل ما ... أبقيت من مالي في سكري
وقال في صباه:
لقد علمت خيل هذي الخيام ... ونسوانها القاصرات الغواني
بأني شفاء صدور الجميع ... وأكرم من ضمَّه الخافقانِ
أسرّ القرينة ليل العناق ... وأفتك القرن يوم الطعان
فبطن الحصان وظهر الحصان ... على بما قلته يشهدان
وقال من قصيده:
وقدم علم السلطان أني لسانه ... وكاتبه الكافي السديد الموفقُ
أوازره فيما عرى وأمدّه ... برأي يريه الشمس والليل أغسق
يجدد بي نهج الهدى وهو دارس ... ويفتح بي باب النهى وهو مغلق
فيمناي يمناه ولفظي لفظهُ ... وعيني له عينٌ بها الدهر يرمق
ولي فقرٌ تضحي الملوك فقيرة ... إليها لدى أحداثها حين تطرق
أردّ بها رأس والجموح فنثني ... وأجعلها سوط الحرون فيعنق
فإن حاولت لطفاً فماء مروق ... وإن حاولت عنفاً فنار تألّق
يسلم لي قسٌّ وسحبان وائل ... ويرضى جرير مذهبي والفرزدق
فيغضي لنثري خاطب وهو مصقع ... ويعنو لنظمي شاعرٌ وهو مفلق
معال لو الأعشى رآهن لم يقل ... وبات على النار الندى والمخلق
وله من قصيدة قالها في الحبس:
يعيرني بالحبس من لو يحله ... حلولي لطالت واشمخرت مراكبهُ (1/250)
وربّ طليقٍ أطلق الذلّ رقّه ... ومعتقل عانٍ وقد عزَّ جانبه
وإني لقرن الدهر يوماً تنوبني ... سطاه ويوماً تنجلي بي نوائبه
ومن مد نحو النجم كيما يناله ... يداً كيدي لاقته أيدٍ تجاذبه
ولا بدّ للساعي إلى نيل غاية ... من المجد من ساع تدبُّ عقاربه
وإني وإن أودت بمالي نكبة ... نظيري فيها كل قرم أناسبه
فما كنت كالقسطار يثري بكيسه ... ويملق إن أنحى على الكيس سالبه
ولكن كليث الغاب إن رام ثروة ... حوتها له أنياب ومخالبه
يبيت خميصاً طاوياً ثم يغتدي ... مباحاً له من كل طعم أطايبه
كذلك مثلي نفسه رأس ماله ... بها يدرك الربح الذي هو طالبه
وللمال آفات يهنأ ربه ... بها إن تخطته إليه مصائبه
ومن يكن السلطان فيه خصيمه ... فلا عار في الغضب الذي غاضبه
وما ضرني إن غاض ما ملكت يدي ... وفي فضل جاهي أن تفيض مذاهبه
إذا كان مالي من طريف وتالد ... قتيل يدي فضلي فمفنيه جالبه
؟ما أخرج من شعره في المدح
قال في المهلبي الوزير:
قل للوزير أبي محمد الذي ... قد أعجزت كلّ الورى أوصافُه
لك في المحافل منطق يشفي الجوى ... ويسوغ في أذن الأديب سلافه
فكأنّ لفظك لؤلؤٌ منخّلٌ ... وكأنما آنذاننا أصدافه
وقال فيه من قصيدة:
وكم من يدٍ بيضاء حازت جمالها ... يدٌ لك لا تسودّ إلا النّقسِ
إذا رقشت بيض الصحائف خلتها ... تطرّز بالظلماء أرديه الشمس
وله من قصيدة فيه:
وتعلقت بالرئيس الذي صر ... ت رئيساً مذ عدّني في العبيد
والوزير الذي غدا وزراء ال ... ملك ركنا لعزِّه الموطود
أريحيٌّ مهلبي سعيد ال ... جد صافي الجدوى كريم الجدود
وإذا استنطق الأنامل جادت ... ببيان كالجوهر المنضود
في سطور كأنما نشرت يم ... ناه منها عصائباً من برود
فقر لم يزل فقيراً إليها ... كل مبدي بلاغة ومعيد
يغتدي البارع المفيد لديها ... لاحقاً بالمقصد المستفيد
بيان شاف ولفظ مصيب ... واختصار كاف ومعنى سديد
وكتب إليه وهو بدجلة البصرة متوجهاً إلى عمان:
لقد كنفت منك السعود موفقاً ... مصادره محمودة والموارد
كأني بالبحر الذي خيف هوله ... وقد خاف حتى ماؤه فيه جامد
يرى منك بحراً زاخراً فوق متنه ... فيصبح جاري موجه وهو راكد
كأنّ عصا موسى بكفك فوقه ... وقد خرّ إعظاماً لها وهو ساجد
ستعنو لما تبغي ظهور صفائه ... وتبلغ ما تهوى وجدك صاعد
فلا تخش من صرف النوائب نبوة ... فنصرك محتومٌ عليه شواهد
إذا عادة الله التي أنت عارف ... تذكرتها هانت عليك الشدائد
وقال في فاصد من غير علة:
تنبع جود لا دم من يمينه ... فأضحى لكي يعطي الأطباء فاصدا
وليس به أن يفصد العرق حاجة ... ولكنه ينحو المحامد قاصدا
يسبب أسباب الندى لعفاته ... ويرقبها مستفرصاً ومراصدا
وقوله في معناه:
لهجت يمينك بالندى فبنانها ... أبدا يفيض على العفاة عطاء
حتى فصدت وما بجسمك حاجةٌ ... كما تسبب للطبيب حباء
ولقد أرقت دماً زكياً من يدٍ ... حقنت بتدبير الأمور دماء
تجري العلا في عرقة جري النّدى ... في عوده فهو اللباب صفاء
لو يقدر الأحرار حين أرقته ... جعلوا له حب القلوب وعاء
فانعم وعش في صحة وسلامة ... تحيي الوليّ وتكبت الأعداء