صدر هذا الكتاب آليا بواسطة الموسوعة الشاملة
(اضغط هنا للانتقال إلى صفحة الموسوعة الشاملة على الإنترنت)
الكتاب : يتيمة الدهر |
كنت على طي شعره وذكره، إما لتقدم زمانه أو سفسفة كلامه، ثم تذكرت قرب عهده وتكلف ابن لنكك جمع ديوان شعره. فسنح لي أن أضمن هذا الكتاب. لمعاقد علقت بحفظي منه، والإعراض عن التصفح لباقي شعره وترك الفحص فما يصلح للإلحاق بها من ملحه، وعلى ذكره. فقد بلغني من غير جهة أنه كان أميا لا يكتب ولا يتهجى، وكانت حرفته خبز الأرز في دكانه بمربد البصرة، فكان يخبز وينشد أشعاره المقصورة على الغزل والناس يزدحمون عليه، ويتطرفون باستماع شعره، وبتعجبون من حاله وأمره. وأحداث البصرة ويتنافسون في ميله إليهم وذكره لهم، ويحفظون كلامه لقرب مأخذه وسهولته. وكان ابن لنكك - على ارتفاع مقداره - ينتاب دكانه ويسمع شعره. فحضره يوماً وعليه ثياب بيض فاخرة فتأذى بالدخان وساء أثره على ثيابه، فانصرف وكتب إليه: (1/287)
لنصر في فؤادي فرط حبٍ ... ينيف به على كل الصحاب
أتيناه فبخّرنا بخوراً ... من السّعف المدخّن بالتهاب
فقمت مبادراً وحسبت نصراً ... يريد بذاك طردي أو ذهابي
فقال متى أراك أبا حسينٍ ... قلت له إذا اتّسخت ثيابي
فلما قرئت عليه الرقعة التي فيها هذه الأبيات، أملى على من كتب له في ظهرها هذه الأبيات
منحت أبا الحسين صميم ودّي ... فداعبني بألفاظ عذابِ
أتى وثيابه كالشيب لوناً ... فعدن له كريعان الشباب
وبغضٌ للشيب أعدّ عندي ... سواداً لونه لون الخضاب
فإن يكن التقزز فيه فخراً ... فلم يكنى الوصيّ أبا تراب
ويحكى أنه لما كشف قناع الغربة قط لقصور همته على المذكر دون المؤنث وشعره شاهد بذلك: فمن النوادر أن شاعراً يكنى بزعمه أبا طاهر انتمى أليه وورد نيسابور بأشعار تناسب دعوته، وانتحل كثيراً من محاسن السري والخالدين وغيرهم من المحسنين، الذين لم تقع أشعارهم بعد إلى خراسان، حتى تقشر فلسه، وظهر عواره وخزيه، وجرى على ما قاله أحمد بن طاهر:
أظن دعوته في الشعر جائزةً ... له عليّ كما جازت على النّسب
وفيه يقول أبو بكر الخوارزمي:
يقول تصر أبي فقلت لهم ... عندي بهذا شهادة حسنه
نعم ولكن أمّه حملت ... من بعد ما مات شيخه بسنه
فمن ملح نصر قوله:
خليليّ هل أبصرتما وسمعتما ... بأكرم من مولى تمشى إلى عبدِ
أتى زائراً من غير وعد وقال لي ... أصونك عن تعليق قلبك بالوعدِ
فما زال نجم الكأس بين وبينه ... يدور بأفلاك السعادة والسعد
فطوراً على تقبيل نرجس ناظرٍ ... وطوراً على تعضيض تفاحة الخد
وقوله:
من يكن يهواه للخا ... ق فإنّي عبد خلقه
إن حسن الخلق أبهى ... للفتى من حسن خلقه خلقه
وقوله:
قالوا عشقت صغيراً قلت أرتع في ... روض المحاسن حتى يدرك الثمر
ربيع حسنٍ دعاني لافتتاح هوى ... لم؟ا تفتّح منه النّور والزهر
وقوله:
وددت أني بكفّه قلمٌ ... أو أنني مدّة على قلمه
يأخذني مرّةً ويلثمني ... إن علقت منه شعرة بفمه
وقوله:
قد قلت إذ خان صبري من كلفت به ... ولم يكن عنه لي صبرٌ ولا جلد
إن كان شاركني في حبّه وقحٌ ... فالنهر يشرب منه الكلب والأسد
وقوله:
لا تعشقن ابن الربيع فإنّه ... عند التجرّد آية الآيات
وجه كعبّادان ليس وراءه ... لمحبّه شيءٌ سوى الخشبات
وقوله:
تتجنّى عليّ ذنباً وتعتلّ ... بأن قد رأيت منِّي ذلّهْ
لعن الله قربةً ليس فيها ... لفتىً يطلب التعلّة علّة
وقوله:
ألم يكفني ما نالني في هواكم ... إلى أن طفقتم بين لاه وضاحك
شماتتكم بي فوق ما قد أصابني ... وما بي دخول النار بل طنز مالك
وأنشدني أبو القاسم الحسين بن محمد بن حبيب المذكور، قال: أنشدني عبد السميع ين محمد الهاشمي، قال: أنشدني نصر بن أحمد الخبز أرزي لنفسه:
شاقني الأهل لم تشقني الديارُ ... والهوى صائرٌ إلى حيث صاروا (1/288)
جيرةٌ فرّقتهم غربة البي ... ن وبين القلوب ذاك الجوار
كم أناسٍ رعوا لنا حين غابوا ... وأناسٍ جفوا وهم حضّار
عرضوا ثم أعرضوا، واستمالوا ... ثم مالوا، وانصفوا ثم جاروا
لا تلمهم على التجنّي فلو لم ... يتجنّوا لم يحسن الاعتذار
وأنشدني أبو حفص عمر بن علي الفقيه من قصيدة:
ورد الخدود ورمان النهود وأغ ... صان القدود تصيد السادة الصيّدا
شرطي إذا ما رأيت الخصر مختصراً ... والردف مرتدفاً والقدّ مقدوداً
أبو عاصم البصري
أنشدني أبو سعد نصر بن يعقوب لأبي عاصم في اقتران الهلال والثريا والزهرة:
رأيت الهلال وقد أحدقته ... نجوم الثريا لكي تسبقه
فشبّهته وهو في إثرها ... وبينهما الزّهرة المشرقة
بقوسٍ لرامٍ رمى طائراً ... فأتبع في إثره بندقه
وله في اقتران الهلال والزهرة:
قارن الزهرة والهلال، وكانا ... في افتراق ما بين صدّ وهجره
فإذا ما تقارنا قلت طوقٌ ... من لجين قد علقت فيه دره
وله في الغزل:
يا بنفسي من إذا جّمشته ... نثر الورد عليه ورقه
وإذا مدت يدي طرّته ... أفلتت مني وعادت حلقه
؟أبو الحسن الظاهر البصري
أنشدني أبو علي محمد بن عمر الزاهر. قال: أنشدني أبو الحسين الظاهر البصري لنفسه قوله:
نفسي الفداء لمن جاءت تودّعني ... يوم الفراق بقلب خائف وجلِ
قد كنت فارقت روحي خوف فرقتها ... لكن حييت بطيب الضّم والقبل
وله من قصيدة في مفصود:
كأنّما دمه في الطست حين جرى ... صرف من الراح في قعب من الذهب
حتى إذا رجعت في كمه يده ... كالشمس غابت عن الأبصار في الحجب
كانت كما قال في القرآن خالقنا ... واضمم جناحك يا موسى من الرهب
ووله في وصف حية قتلها في بعض أسفاه:
عرفت في الأسفار ما لم أعرف ... من كل موصوف وما لم يوصف
آليت لا أنصف من لم ينصف ... ولا أفي دهري لخلّ لا يفي
سرت وصحبي وسط قاعٍ صفصف ... إذ أشرفت من فوق طود مشرف
رقشاء ترنو من قليب أجوف ... تومي برأس مثل رأس المجدف
في ذنب مندمج معقف ... حتى إذا أبصرتها لا تنكفي
علوتها بحدّ سيفٍ مرهف ... فظل يجري دمها كالقرقف
أتلفتها لما أرادت تلفي ...
الباب السادس
في ذكر نفر من
شعراء العراق ونواحيها
سوى بغداد وسياق ملحهم ولطائفهم
ابن التمار الواسطي
شعره يتغنى بأكثره ملاحة ورشاقة، وإنما كان يقوله تطرباً لا تكسبا، وقد بلغني به أبيات قلائل إلا أنها قلائد، كقوله:
أما ترى اليوم في أثوابه الجدد ... يحكيك يا غرّة الأيام والأبد
فاشرب وسقّ الندامى من مشعشعةٍ ... كلون خدّك لم تنقص ولم تزد
على غدير إذا هبّ النسيم به ... أبصرته من حبيك الريح كالزّرد
وله :
الخمر شمس في غلالة لاذ ... تجري ومطلعها من الخرداذي
فاشرب على طيب الزمان فيومنا ... يوم التذاذ قد أتى برذاذ
وانظر إلى لمع البروق كأنها ... يوم الضّراب صفائح الفولاذ
وقوله عفا الله عنه:
قم فانتصف صروف الدهر والنوب ... واجمع بكأسك شمل اللهو والطرب
أما ترى الليل قد ولّت عساكره ... مهزومة وجيوش الصبح في الطّلب
والبدر في الجانب الغربيّ تحسبه ... قد مدّ جسراً على الشطّين من ذهب
؟أبو طاهر الواسطي المعروف بسيدوك
شعره يروي حين يروي، ويحفظ حين يلحظ، وما لظرفه نهاية، ولا للطفه، غاية، ولا عيب فيه غير أن الذي وقع إليّ منه قليل يلتقي طرفاه، وتجتمع حاشيتاه، وديوان شعره ضالتي المنشودة ودرتي المفقودة، ولا بأس من حصوله، أنشدني كل من أبي طاهر ميمون بن سهل الواسطي الفقيه وأبي الحسن المصيصي ومحمد بن عمر الزاهر قال: أنشدني سيدوك لنفسه، وهو أحسن وأبلغ ما سمعته في طول الليل: (1/289)
عهدي بنا ورداء الشمل يجمعنا ... والليل أطوله كاللّمح بالبصر
فالآن ليلي مذ غابوا فديتهم ... ليل الضّرير فصبحي غير منتظر
وأنشدني أبو نصر سهل بن المرزبان له:
أراح الله نفسي من فؤاد ... أقام على اللجاجة والخلاف
ومن مملوكةٍ ملكت رقاها ... ذوي الألباب بالخدع اللّطاف
كأن جوانحي شوقاً إليها ... بنات الماء ترقص في حقاف
وأنشدني ميمون الواسطي، قال: أنشدني سيدوك لنفسه:
أظن بليّة دهمت فؤادي ... وأحسبها غزال بني سليم
وإلا لم يغبّ فتعتريني ... مذلّة ضيمه من غير ضيم
ولي عينٌ إذا فقدته صارت ... كعين الشمس ملبسةٌ بغيم
وأنشدني له أيضاً:
أنت من القلب في السواد ... وموضع السرّ من فؤادي
يا ساكناً في سواد عيني ... وبين جفني والرقاد
لم تنأ لمّا نأيت عنّي ... ولا تباعدت بالبعاد
وأنشدني أيضاً له:
جنت صحبة الأضحى عليّ فأذهبت ... فؤادي فلا ضرّي ملكت ولا نفعي
فيا يوم عيد النحر ما لك مهدياً ... لنحري سهم النحر نبّت عن الشّرع
وله من أبيات:
حذري عليك أشدّ من ... حذري على بصري وسمعي
إن كنت تنكر ما أقو ... ل فهاك سل سهري ودمعي
ووجدت منسوباً إليه في بعض التعليقات:
جعلت فداءك قد زارني ... أخلاّء أعظم أقدارهمْ
وعزمي أكون لهم ساقياً ... فكن بأبي أنت خمّارهم
؟أبو عبد الله الحامدي
حامدة: من أعمال واسط، ولم يبلغني ذكر هذا الرجل إلا مما أنشدنيه ميمون الواسطي، قال: أنشدني أبو عبد الله لنفسه بالحامدة:
مشتاقة طرقت في النوم مشتاقاً ... أهلاً بمن لم يخن في العهد ميثاقاً
أهلاً بمن ساق لي طيف الأحبّة من ... أرض الأحبة، بل أهلاً بمن شاقا
يا زائراً زار من قرب على بعد ... آنست مستوحشاً لا ذقت ما ذاقا
الله يعلم لو أنّي استطعت لقد ... أفرشت ممشاك احداقاً وآماقا
يا ليل عرج على إلفين قد جعلا ... عقد السواعد للأعناق أطواقا
ضاق العناق وضمّ الشوق بينهما ... ضمّ القرينين أعناقاً فأعناقا
وأنشدني له أيضاً:
قل للملحية في الخمار المشمشي ... كم ذا الدلال عدمت كل محرش
يا من غدا قلبي كنرجس طرفها ... في الحب لا صاح ولا هو منتشي
هذا الربيع بصحن خدك قد بدا ... لمقبل ومعضضٍ ومخمّشِ
فمتى أبيت معانقاً لبهاره ... ولورده المستأنس المستوحش
وأنشدني له أيضا:
سقاني وحياني وبات معانقي ... فيا عطف معشوق على ذل عاشق
ويا ليلة باتت سواعدنا بها ... تدور على الأعناق دون المخانق
نبث من الشكوى حديثاً كأنه ... قلائد درّ في نحور العواتق
وأنشدني له:
يا راحلاً ترك البكاء مباحا ... ما رحت أنت، بل اصطباري راحا
إن اخلفتني فيك أسباب المنى ... وغدوت لي سقماً وكنت صلاحا
فلقد عهدتك مسعداً لي في الهوى ... وعهدت وجهك في الظلام صباحا
وأنشدني له:
ما الرأي عندك أيّها البدر ... في عاشق لك خانه الصبرُ
وقع برأيك فوق قصته ... يا من إليه النهى والأمر
لو أنّ حسناً زاد في عمرٍ ... لازددت عمراً بعده عمر
؟أبو بكر محمد بن أبي محمد القاسم
المعروف بالأنباري
بلغني له قصيدة فريدة تدل على أن صاحبها من أفراد الشعراء، وهي في ابن بقية لما قتل وصلب، وقد أثبتها كما هي: (1/290)
علو في الحياة وفي الممات ... لحقٌ أنت إحدى المعجزات
كأن الناس حولك حين قاموا ... وفود نداك أيام الصلات
وأخذه من قول ابن المعتز:
وصلوا عليه خاشعين كأنّهم ... وفودٌ وقوف للسلام عليه
رجع:
كأنك قائم فيهم خطيباً ... وكلهم قيام للصلاة
مددت يديك نحوهم احتفالاً ... كمدّها إليهم بالهبات
ولما ضاق بطن الأرض عن أن ... يضمّ علاك من بعد الممات
أصاروا الجو قبرك واستنابوا ... عن الأكفان ثوب السافيات
لعظمك في النفوس تبيت ترعى ... بحراس وحفاظ ثقات
وتشعل عندك النيران ليلاً ... كذلك كنت أيام الحياة
ركبت مطية من قبل زيدٍ ... علاها في السنين الماضيات
وتلك قضية فيها تأسٍ ... تباعد عنك تعيير العداة
ولم أر قبل جذعك قط جذعاً ... تمكن من عناق المكرمات
أسأت إلى النوائب فاستشارت ... فأنت قتيل ثأر النائبات
وكنت تجير من صرف الليالي ... فعاد مطالباً لك بالترات
وصيّر دهرك الإحسان فيه ... إلينا من عظيم السيئات
وكنت لمعشرٍ سعداً فلما ... مضيت تفرقّوا بالمنحسات
غليل باطنٌ لك في فؤادي ... حقيقٌ بالدموع الجاريات
أخذه من قول ابن الرومي:
لم يظلم الدهر أن توالى ... فيكم مصيباته دراكا
كنتم تجيرون من يعادي ... منه فعاداكم لذاكا
عاد:
ولو أني قدرت على قيامي ... بفرضك والحقوق الواجبات
ملأت الأرض من نظم القوافي ... ونحت بها خلاف النائحات
ولكنّي أصبّر عنك نفسي ... مخافة أن أعدّ من الجناة
ومالك تربةٌ فأقول تسقي ... لأنّك نصب هطل الهاطلات
عليك تحيّة الرحمن تترى ... برحماتٍ غوادٍ رائحات
؟أبو الحسين محمد بن عمر الثغري الكاتب
أحد المقلين المحسنين، ولم أسمع له إلا ملحاً نادرة، كقوله في خط العذار، وهو أحسن ما سمعت فيه على كثرته:
لي حبيب يزهى بحسنٍ عجيب ... وبقدٍّ مثل القضيب الرطيب
أحرقت بالسواد فضّةً خدي ... ه فقد أحرقت سواد القلوب
وقوله في وصف التمر:
أما ترى التمر يحكي ... في الحسن للنظار
مخازياً من عقيق ... قد قمعت بنضار
كأنّما زعفران ... فيه مع الشهد جاري
يشف مثل كؤوسٍ ... مملوءةٍ من عقار
وقوله في الباقلاء الرطب:
فصوص زبرجد في غلف درّ ... بأقماع حكت تقليم ظفرِ
وقد صاغ الإله ثياباً ... لها لونان من بيضِ وخضر
ربيعٌ للقلوب بكلّ أرضِ ... ونقل ما يملّ لشرب خمر
وله في الرمان:
ورمّان رقيق القشر يحكي ... ثديّ الغيد في أثواب لاذ
إذا قشّرته طلعت علينا ... فصوصٌ من عقيق أو بخاذ
أبو محمد بن زريق الكوفي
الكاتب رحمه الله تعالى
أنشدني أبو نصر سهل بن المرزبان، قال: أنشدني أبو سليمان المنطقي ببغداد، قال: أنشدني ابن زريق لنفسه:
سافرت أبغي لبغدادٍ وساكنها ... مثلاً فحاولت شيئاً دونه الياس
هيهات بغداد الدنيا بأجمعها ... عندي. وسكان بغدادٍ همُ الناس
وأنشدني له غيره في شعر الصولي:
داري بلا خيش ولكنّني ... عقدت من خيشي طاقين
دار إذا ما اشتد حرّ بها ... أنشدت للصولي بيتين
وله أيضاً في العيادة:
يا مريضاً بسقمه ... مرض الحلم والوفا
لم يكن تركي العيا ... دة هجراً ولا جفا
لم أطق أن أراك ياأكرم الناس مدنفا
طال خوفي عليك فا ... لحمد لله إذا كفى
وقال في قينة تسمى دبسية حسنة المخبر قبيحة المنظر: (1/291)
أبا سعيد أصخ لي ... يا سيدي ونديمي
منيت أمس بأمرٍ ... من الأمور عظيم
حصلت عند صديقٍ ... حرٍّ ظريفِ كريم
أسقي على شدو دبسيّة ... فتنفي همومي
فكنت حين تغنّي ... لدي جنان النعيم
وإن نظرت إليها ... ففي العذاب الأليم
وإن شربت بصوتٍ ... فالراح بالتسنيم
وإن شربت بلحظٍ ... فالمهل بالزقوم
فكان سمعي بخير ... ومقلتي في الجحيم
وأنشدني أبو نصر سهل بن المرزبان لأبي محمد بن زريق، يخاطب به أبا عبد الله الكوفي لما قلد أبي جعفر بن شيرزاد، وحصل في الدار التي كان أبو جعفر يناظر الناس فيها وعلى دسته وفي مثل حاله. وقد كان حضره قبل ذلك فحجب:
إنا رأينا حجباً منك قد عرضا ... فلا يكن ذلّنا فيه لك الغرضا
اسمع لنصحي ولا تغضب عليّ فما ... أبغي بقولي لا مالاً ولا عرضا
الشكر يبقى ويفنى ما سواه، وكم ... سواك قد نال ملكاً فانقضى ومضى
في هذه الدار في هذا الرواق على ... هذا السرير رأينا الملك فانقرضا
قال: فاعتذر إليه الكوفي، وقال له: حسبنا، وقضى حوائجه.
؟أبو الورد
بلغني أنه كان من عجائب الدنيا في المطايبة والمحاكاة، وكان يخدم مجلس المهلبي الوزير، ويحكي شمائل الناس وألسنتهم، فيؤديها كما هي، فيعجب الناظر والمسامع ويضحك الثكلان. وكان أبو إسحاق الصابي قد بلي به حتى قال فيه:
ومن عجب الأيام أن صروفها ... تسوء امراً بمثلي أبي الوردِ
فيا ليتها اختارت نظيراً وأنّها ... رمتني بشنعاء الدّواهي على عمد
فكم بين معقور الكلاب وإن نجا ... ذليلاً ومقتول الضّراغمة الأسد
وفيه يقول السري حيث يذكر صفعه للملحي الشاعر:
وما خلت صفعان العراق يسومني ... لأمثاله ذماً يسيراً ولا حمدا
إذا ما أبو الورد انتحاه بكفه ... حسبت قفاه روضة تنبت الوردا
ولأبي الورد شعر لهو في الإضحاك مثل قوله:
أنا في كل سحيرٍ ... في مداراة لا يرى
دائباً يطلب وجهاً ... حسناً من بيت غيري
قلت نك يا أير من ير ... تع في خيري وميري
قال: لا أسطيع نيكاً ... لكسيرٍ وعوير
وقوله:
طفيلي يؤم الخبز أنّي ... رآه ولو رآه على يفاع
ولا يروي من الأخبار إلاّ ... أجبت ولو دعيت إلى كراع
وقوله:
وصديق جاءني يس ... ألني ماذا لديك
قلت: عندي بحر خمرٍ ... حوله آجام نيك
وقوله:
ولي صاحب أفسى البرية كلّها ... يشككني فيه إذا ما تنفسا
تحولّت الأنفاس منه إلى استه ... فما أحدٌ يدري تنفس أم فسا
وقوله:
ليس اشتقاق أبي المظفر ... من أن يرى ظفراً فيظفر
لكن تطاول ظفرهُ ... فلذاك قيل أبو المظفر
؟الباب السابع
في ذكر قوم من
شعراء بغداد ومحاسن أشعارهم
؟ابن نباتة السعدي
أبو نصر عبد العزيز ابن محمد بن نباتة
من فحول شعراء العصر وآحادهم، وصدور مجيديهم. وأفرادهم الذين أخذوا برقاب القوافي، وملكوا رق المعاني، وشعره مع قرب لفظه بعيد المرام، مستمر النظام، يشتمل على غرر من حر الكلام، كقطع الروض غب القطر، وفقر كالغنى بعد الفقر. وبدائع أحسن من مطالع الأنوار. وعهد الشباب، وأرق من نسيم الأسحار، وشكوى الاحباب، وأول ما وقع شعره إلى خراسان إنما وقع على يد أبي نصر سهل بن المرزبان، فإنه استصحبه من بغداد في جملة ما حصله بها، من ظرائف الدفاتر ولطائفها، وذخائرها وأخايرها، وأتحفني به وهو بغبار السفر، وجعلني في أبا عذرة النظر. فحسبته والطرف معقود به، شخص المحبوب بدا لعين محبه، وباكورة الأشعار، أرفع من باكورة الثمار، فكم مرتع أنس فيه رعيت. وكم فص مختص منه وعيت. وأنا كاتب من عيونه ما يمتع الخواطر، ويجلو النواظر ويصدق قوله، وقد أحسن فيه كل الإحسان: (1/292)
وكم لليل عندي من نجوم ... جمعت النثر منها في نظامي
عتاباً أو نسيباً أو مديحاً ... لخلّ أو حبيبٍ أو همامِ
تفيد بها العقول نهىً وصحواً ... وقد فعلت بها فعل المدام
لها في حلبة الآداب ركضٌ ... إلى حبّ القلوب بلا احتشام
وقوله:
خذها إذا أنشدت في القوم من ... طرب صدورها علمت فيها قوافيها
ينسى لها الراكب العجلان حاجته ... ويصبح الحاسد الغضبان يطريها
وقوله أيضاً:
فات عبد العزيز سابقة القو ... ل وإنّي لوصفه في لحاق
طلعت في القلوب ألفاظي الغ ... ر طلوع النجوم في الآفاق
وقوله:
هذا الكلام الذي خصصت به ... أخص في الخالدات من أحد
قول هو الماء لذ مطعمه ... فكل قولٍ سواه كالزّبد
؟ما أخرج من غرره في الغزل والنسيب قال من قصيدة:
وبدر تمام بتّ ألثم رجله ... وأكبره عن أن أقبل خدَّه
تعشقت فيه كلّ شيء يودّه ... من الجور حتى كدت أعشق صدّه
البيت الأول كأنه مأخوذ من قول ابن طباطبا:
وشادن روحي في يديه ... تبيت تهمي قبلي عليه
والبيت الثاني فيه رائحة من قول المنصور الفقيه:
سررت بهجرك لمّا علمت ... بأنّ لقلبك فيه سرورا
ولو لا سرورك ما سر؟ّني ... وما كنت يوماً عليه صبورا
لأني أرى كل ما ساءني ... إذا كان يرضيك سهلاً يسيرا
وقال من أخرى:
عجبت له يخفي سراه، ووجهه ... به تشرق الدنيا وبالشمس بعده
ولا بدّ لي من جهلةٍ في وصاله ... فمن لي بخلّ أودع الحلم عنده
ومن أخرى:
يا من أضر بحسن الشمس والقمر ... فلم يدع فيهما للناس من وطر
نفسي فداؤك من بدر على غصن ... تكاد تأكله عيناي بالنظر
إذا تفكرت فيه عند رؤيته ... صدّقت قول الحلوليين في الصور
ومن أخرى:
سقى الله أرضاً لا أبوح بذكرها ... فتعرف أشجاني بها حين تذكر
سوى أنها مسكيّة الترب ريحها ... ترفّ وتندي والهواجر تزفر
نعمت بها يجلو عليّ كؤوسه ... أغرّ الثنايا واضح البشر أحور
فو الله ما أدري مدامة ... من البدر تجني من الشمس تعصر؟
إذا صبّها جنح الظلام وعبّها ... رأيت رداء الليل يطوي وينشر
ومن أخرى:
دعهم وقلبي لا أريد رجوعه ... أبداً فقلبي كان أصل فسادي
لو يعلمون صلاح حالي بعدهم ... ما فرقوا بيني وبين فؤادي
ومن أخرى:
إن كنت تمنع سعدي من مطالبها ... فلست تمنع سعدي من تمنيها
لله نغمة أوتار ومسمعةٌ ... باتت تدل على شوقي أغانيها
وقهوة كشعاع الشمس طالعةٌ ... أفنيت بالمزج فيها ريق ساقيها
يا لذّةُ بيمين الدهر أدفعها ... في صدره وهو من أحشاي يدنيها
لو كان يعلم أنّي عنك أخدعه ... ثنى أنامله لي حين أثنيها
؟؟الشكوى وذم الزمان قال:
في كل يوم لنا في الدهر معركة ... هام الحوادث في أرجائها فلق (1/293)
حظيّ من العيش أكلٌ كلّه غصصٌ ... مرّ المذاق وشرب كلّه شرق
وقال:
وكم من خليل قد تمنيت قربه ... فجرّبته حتى تمنيّت بعده
وما للفتى في حادث الدهر حيلةٌ ... إذا نحسه في الأمر قابل سعده
أرى همم المرء اكتئاباً وحسرةً ... عليه إذا لم يسعد الله جّده
كأنه مأخوذ من قول المتنبي:
وأتعب خلق الله من زاد همه ... وقصّر عما تشتهي النفس وجده
وقال من قصيدة:
ما بال طعم العيش عند معاشرٍ ... حلوٌ، وعند معاشرٍ كالعلقم
من لي بعيش الأغبياء فإنّه ... لا عيش إلاّ عيش من لم يعلم
هذا معنى متداول، ومن احسن ما قيل فيه قول ابن المعتز:
وحلاوة الدنيا لجاهلها ... ومرارة الدنيا لمن عقلا
وقال من أخرى:
يأبى مقامي في مكان واحدٍ ... دهرٌ بتفريق الأحبّة مولعُ
كفكف قسيّك يا فراق فإنّه ... لم يبق في قلبي لسهمك موضع
كأنه من قول المتنبي:
رماني الدهر بالأرزاء حتى ... فؤادي في غشاء من نبال
فصرت إذا أصابتني سهامٌ ... تكسرت النصال على النصال
وقال:
برمت من الحياة، وأيّ عيشٍ ... يكون لمن مطاعمه الخبالُ؟
ولو أنّي أعدّ ذنوب دهري ... لضاع القطر فيها والرمال
سقام ما يصاب له طبيبٌ ... وأيامٌ محاسنها عيوبُ
ودهرٌ ليس يقبل من أديب ... كما لا يقبل التأديب ذيب
يحب على المصائب والرزايا ... فلا كان المحب ولا الحبيب
وقال:
متى أرجو مسالمة الهموم ... وآمل صحة الجسم السقيم؟
وكرّ الحادثات عليّ تجني ... جنايات القروف على الكلوم؟
وقال:
طلاب المعالي للمنون صديق ... وطول الأماني للنفوس عشيقُ
تسربل ثياب الموت أو حلّل الغنى ... تعش ماجداً أو تعتلقك علوق
وما الفقر إلا للمذلة صاحبٌ ... وما الناس إلاّ للغنيّ صديق
وأصغر عيبٍ في زمانك أنّه ... به العلم جهل والعفاف فسوق
وكيف يسرّ الحر فيه بمطلب ... وما فيه شيءٌ بالسرور حقيق
إذا لم تكن هذي الحياة عزيزةٌ ... فماذا إلى طول الحياة تتوق
ألا إنّ خوف الموت مرّ كطعمه ... وخوف الفتى سيفٌ عليه ذلوق
وإنك لو تستشعر العيش في الردى ... تحليت طعم الموت حين تذوق
وقال:
كيف السبيل إلى الغنى ... والبخل عند الناس فطنه
خذ من زمانك كلّ شيٍ ... لا يجرّ عليك منّه
ونبتْ بنا أرض العرا ... ق فما محنّاها بمحنه
غير الرحيل، كفى البلا ... د بنقلة الفضلاء هجنه
وقال رجمه الله:
وتأخذ من جوانبنا الليالي ... كما أخذ المساء من الصباح
أما في أهلها رجلٌ لبيبٌ ... يحسّ فيشتكي ألم الجراح
أرى التشمير فيه كالتواني ... وحرمان العطيّة كالنجاح
ومن لبس التراب كمن علاه ... فلا تخضعك أنفاس الرياح
وكيف يكدّ مهجته حريصٌ ... يرى الأرزاق في ضرب القداح
وقال سامحه الله:
أراحني الله من قلب منيت به ... يهوي القعود ويهوى أشرف الرتبِ
أطلب لصدرك هماّ بالمنى كلفاً ... وخلّ صدري فما لي فيه من أرب
والمجد يطلب بالآفات طالبه ... لم يحظ بالمجد من لم يحظ بالنكب
ما للزمان سوى أولاده درنٌ ... إن لم يكونوا بنيه فالزمان أبي
الفخر والحماسة قال:
خليليّ قد لجّ الزمان ولجّ بي ... مرادٌ، وأحداث الزمان تعوقُ
وأي فتى غنّيتما وسقيتما ... فتىً فيه نفث السحر ليس يحيق
فتىً تطرب الألحان من شرفٍ به ... ويسكر منه الخمر وهو مفيق (1/294)
كأنه نسجه على منوال قول القائل:
ريحان ريحانه إذا ورد ال ... روض، ومنه تأدبّ الأدبُ
تشربه الكأس ليس يشربها ... يطرب من حسن وجهه الطرب
وبعد قوله فتى تطرب الألحان قوله:
ولو شئت علّمت المكارم شيمتي ... ولكنّني بالمكرمات رفيق
أخاف عليها أن تجود بنفسها ... إذا ما أتاها في الزمان مضيق
وقال أيضاً:
ومغرور يحاول نيل عرضي ... فقلت له: الكواكب لا تنال
يعاين في المكارم فيض كفّي ... ويزعم أنه ذهب النوال
ويعجب أن حويت الفضل طفلاً ... ألا الله ثم لي الكمال
أحمّل ضعف جسمي ثقل نفسي ... ونفسي ليس تحملها الجبال
وأسمع كلّ قولٍ غير قولي ... فأعلم أنّه خطل محال
وقال من قصيدة:
رضينا وما ترضى السيوف القواضب ... نجاذبها عن هامكم وتجاذب
فإياكم أن تكشفوا عن رؤوسكم ... ألا إنّ مغناطيسهن الذوائب
أقول لسعدٍ والركاب مناخة ... أأنت لأسباب المنيّة هائب
وهل خلق الله السرور فقال لا ... فقلت أثرها أنت لي اليوم صاحب
وخلّ فضول الطيلسان فإنّما ... لباسك هذا للعلا لا يناسب
عمائم طلاّب المعالي صوارمٌ ... وأثواب طلاب المعالي ثعالب
ولي عند أعناق الملوك مآرب ... تقول سيوفي هنّ لي والكواثب
خلقنا باطراف القنا لظهورهم ... عيوناً لها وقع السيوف حواجب
أؤمل مأمولاً يغير صدورها ... فواخجلتا إنّي إلى المجد تائب
وله من قصيدة في صباه:
تضاءل الدهر حتى ضاع هممي هممي ... واستفحل المجد حتى صار من شيمي
فلو يكون سواد الشعر في ذممي ... ما كان للشيب سلطانٌ على اللّمم
فالعيش من نعمي والموت من نقمي ... وحكمة الفلك الدوار من حكمي
والحزم والعزم في الأقوام من خلقي ... كما الفصاحة في الأقوال من كلمي
لو يعلم الناس قدري في زمانهم ... صلّوا لوجهي واشتاقوا ثرى قدمي
ما زلت اعطف أيامي وتمنحني ... نيلاً أدقّ من المعدوم في العدم
حتى تخوف صرف الدهر بادرتي ... فرد كفّي وأوما أن يسدّ فمي
أذمّ كلّ خليلٍ بات يحمدني ... أنا الذي ماله خلّ سوى الندم
وليس سؤلي يا قلبي سوى رهجٍ ... تجوده من دم الفرسان بالدّيم
وقال:
وعنفني في موكب الموت معشرٌ ... وقالوا أيهوى الجدب من هو في الخصب
وإني لأدري أنّ في العجز راحةً ... وأعلم أن السهل أوطا من الصعب
ولو طلب الناس المكارم كلّهم ... لكان الغنى كالفقر والعبد كالرّب
ولكن أشخاص المعالي خفيّةٌ ... على كل عين ليس تنظر باللّب
لقد زادني حرب الزمان تجارياً ... فلا عشت في يوم يمرّ بلا حرب
ومن يك يعتاد الكروب فؤاده ... فإنك يا قلبي خلقت من الكرب
وقال:
وأنا البصير بكل علم غامض ... وإذا رأيت مذلّة فأنا العمي
والذلّ أثقل من جبال تهامةٍ ... عندي وأعذب منه سمّ الأرقم
وقال:
إذا استروح الغمر من همّه ... هربت إلى الهم مستروحا
وإني على شغفي بالمدي ... ح لست أسرّ بأن أمدحا
وما ينقم الدهر شيئاً علي ... سوى أنفي منه أن أفرحا
وقال من قصيدة:
وآخذ عفو العيش لا استكدّه ... لحى الله غنماً يستفاد مع الغرم
فإن كنت أرضى بالبشاشة منكمُ ... ويستر عدمي شيمتي وتكرّمي
فربّ جوادٍ قيد الفقر جوده ... ومبتسمٍ تعبيسه في التبسّم
وله من أخرى:
وهل ينفع الفتيان حسن جسومهم ... إذا كانت الأعراض غير حسان (1/295)
فلا تجعل الحسن الدليل على الفتى ... فما كلّ مصقول الحديد يماني
وله من أخرى:
حتى م نقدم والأيام تغلبنا ... وغيرنا يغلب الأيام بالفشل
يا أهل بابل عزمي قلبه فكري ... في النائبات وسيفي بعده عذلي
وعندكم نعمٌ عندي مصائبها ... لكم وصل الغواني والصبابة لي
قالوا حنيفة شجعان فقلت لهم ... كلّ الشجاعة والإقدام في الدول
ما لي أغير على دهري فأسلبه ... ويحجمون وفي أيديهم نفلي
إن لم تسلني المواضي عن جماجمهم ... إذا تطايرن فالتقصير من قبلي
غرر في المدح وما يتصل به قال من قصيدة في سيف الدولة:
يا أيها الدهر إنّ العيّ كالخطل ... ما دهرنا غير سيف الدولة البطل
نواله جعل الأرزاق من قبلي ... وعزّه صيّر الأيام من خولي
وما تمهّل يوماً في ندىً ورديً ... إلاّ قضيت للمح البرق بالكسل
ومنها في ذم الروم والأسرى منهم:
قد كنت تأسرهم بالسيف منصلتاً ... فصرت تأسرهم بالخوف والوهل
من يزرع الضرب يحصد طاعة عجبا ... ومن يربي العلا يأمن من الثكل
كانت سحابك فيهم كلّ بارقةٍ ... حمراء تهطل بالأيدي على القلل
فاليوم سحبك فيهم كلّ بارقةٍ ... غرّاء تهطل بالأموال والحلل
كأنه قول أخذه من قول أبي دهبل الجمحي في قوله:
ما زلت في العفو للذنوب وإط ... لاق لعانٍ بجرمه غلق
حتى تمنّى البراء أنهم ... عندك أمسوا في القدّ والحلق
ومنها في شكر صنائعه:
وما أريد عطاء غير ودكم ... وبشركم ينجلي من جودكم بجلي
قد جدت لي باللهى حتى ضجرت بها ... وكدت من ضجر أثني على البخل
إن كنت ترغب في بذل النوال لنا ... فاخلق لنا رغبةً، أولاً فلا تنل
لم يبق جودك لي شيئاً أؤمله ... تركتني أصحب الدنيا بلا أمل
وله أيضاً فيه:
سيوفك أمضى في النفوس من الردى ... وخوفك أمضى من سيوفك في العدى
فتىً يتحامى لذة النوم جفنه ... كأنّ لذيذ النوم في جفنه قذي
أطرفك شاكٍ أم سهادك عاشقٌ ... يغار على عينيك من سنّه الكرى
ومن سهرت في المكرمات جفونه ... رعى طرفه في جوّها أنجم العلا
فليس ينام القلب والجفن ساهرٌ ... ولا تغمد العينان والقلب منتضي
ومن قصيدة في المهلبي الوزير:
لا تأمنوا آراءه وظنونه ... إنّ العيون لها من الأمداد
وتعوذوا بالله من أقلامه ... إن السيوف لها من الحساد
ومن أخرى في علي بن دوست بن المرزبان:
أما لو تخيرت المنى لمنحته ... كمال علي أو سلوت عن الحب
ترى الشمس أمّاً والكواكب إخوة ... وتنظر من بدر السماء إلى ترب
غنيت عن الآمال حين رأيته ... فأصبح من بين الورى كلهم حسبي
فلم أطلب المعروف من غير كفّه ... وهل تطلب الأمطار إلاّ من السّحب
ومن أخرى:
فدتك بدائع الألفاظ طرّاً ... وأبكار القوافي والمعاني
نزلت من المكارم والمعالي ... بمنزلة الشباب من الغواني
فلا زالت لياليك البواقي ... مواصلة بأيام التهاني
وله من أخرى في المهلبي الوزير:
وتطرق أقفال الغيوب بصارمٍ ... من الرأي يخشى الغيب منه ويرهب
وتطعن في صدر الكتائب معلماً ... كأنّك في صدر الدواوين تكتب
ولست أرى كسب الدراهم نافعي ... ولكنها منك المودة تطلب
وقال لأبي العلاء صاعد بن ثابت يمدحه ويستهدي منه شراباً:
أيّ يوم من صاعد لم أرح في ... ه بخيل كثيرة الأسلاب
من نوال يسري بغير سؤال ... وعطاء يهمي بغير طلاب
جئته زائراً وقد ركب الأف ... لاك والنجم تحته في التراب (1/296)
بمعان سرقتها من علاه ... فكأنّي قرأتها من كتاب
وأشارت ألحاظه بدنوي ... فكأني سمعت فصل الخطاب
ثم قبلت ظاهر الكف منه ... فكأني قبلت وجه السحاب
يا جواداً أرواحنا من عطايا ... ه وأفهامنا مع الألباب
إن هذي الهموم تقدح فينا ... قدح كفيك في السلام الصلاب
فاسقنا صيب المدام سقاك الله ... صوب الآمال والآراب
خندريساً كأنّها تتقي المز ... ج بدرعٍ مسرودةٍ من حباب
خجلت من جلالكم فأتتنا ... في رداء مؤزر ونقاب
تهب المال للفقير وتغزو شربها في عساكر الأطراب
سرقت حسن خلقها من سجايا ... ك وأخلاقك الكرام الرغاب
إنها في السحاب وبل وفي الريح ... نسيمٌ ونشوةٌ في الشراب
خلق الله صاعداً يوم خلق الن ... اس للكأس والندى والضراب
ما سؤال الدنيا له وهي في عي ... نيه أدنى من ودّها الكذاب
قد ظلمناه في السؤال لأنّا ... ما سألناه ردّ شرخ الشباب
وقال من قصيدة لعضد الدولة:
يا عضد الدولة الذي قمعت ... دولته الدهر وهو جبار
أنت نهارٌ والعالمون دجىً ... وأنت طرفٌ والناس أعيار
ليس لنا في المديح محمدةٌ ... فعلك غيث والقول نوار
وله من أخرى فيه:
سلمت على عثرات الزما ... ن يا عضد الدولة المنتخب
ولا زلت ترفع من دولة ... تواضعت فيها بهذا اللقب
قسمت زمانك بين الهمو ... م تنعم فيها وبين الدأب
فيوماً تمير عفاة النسور ... ويوماً تمير عفاة الأدب
وقال من قصيدة في عضد الدولة يصف فيها نار الذسق:
لعمري لقد أذكى الهمام بأرضه ... مشهّرةً ينتابها الفجر صاليا
تغيب النجوم الزهر عند طلوعها ... وتحسد أيام الشهور اللياليا
هي الليلة الغراء في كلّ شتوةٍ ... تغادر جيد الدهر أتلع حاليا
وقال وقد كثر الإرجاف بعلة عضد الدولة رحمه الله تعالى:
إذا سمعت حديثاً عنك أحسبه ... يرتاع قلبي وما ألفي بمرتاع
تجلّد الحر لا ينسى حفيظته ... ولو رأى دمه يستنّ بالقاع
أرجوك أقرب ما قالوا به رمق ... وحين يؤيس منك المؤيس الناعي
وأسأل الركب هل أحسستم فزعا ... لو كان ميتاً لضاعت ثلّة الراعي
أرضى وأقنع بالأطماع كاذبة ... فما يضيرك لو أبقيت أطماعي
قد كاد يعرف وجه الذلّ في نظري ... ويظهر العجز والتقصير في باعي
غرر الأوصاف قال في وصف فرس أدهم أغر محجل، حمله عليه سيف الدولة أبو الحسن:
يا أيها الملك الذي أخلاقه ... من خلقه، ورواؤه من رائه
قد جاءني الطرف الذي أهديته ... هاديه يعقد أرضه بسمائه
أولايةٌ وليتنا فبعثته ... رمحاً سبيب العرف عقد لوائه
يختال منه على أغر محجلٍ ... ماء الدياج قطرة من مائه
نكأنما لطم الصباح جبينه ... فاقتص منه فخاض في أحشائه
متمهلاً والبرق من أسمائه ... متبرقعاً والبدر من أكفائه
ما كانت النيران يكمن حرها ... لو كان للنيران بعض ذكائه
لا تعلق الألحاظ في أعطافه ... إلا إذا كفكفت من غلوائه
لا يكمل الطرف المحاسن كلها ... حتى يكون الطرف من أسرائه
وقال أيضاً في وصف هذا الفرس:
وأدهم يستمد الليل منه ... وتطلع بين عينيه الثريا
سرى خلف الصباح يطير مشياً ... ويطوي خلفه الأفلاك طيّا
فلما خاف وشك الفوت منه ... تشبّث بالقوائم والمحيا
وله وصف سكين:
مرهفةٌ تعجز وصف اللسان ... للسيف معنى ولها معنيان (1/297)
تخلفه في حدّه تارةً ... وتارةً تخلف خدّ السنان
ما أبصر الراءون من قبلها ... ماءً وناراً جمعا في مكان
فقر وملح وأمثال وحكم قال في ذم العراق:
بلادٌ أنفس الأحرار فيها ... كضبّ القاع تروي بالنسيم
يجوز وينفق كلّ شيء ... سوى الآداب طرّاً والعلوم
وقال يصف كماة حرب:
نسوا أحلامهم تحت العوالي ... ولا أحلام للثوم الغضاب
إذا كانت نحورهم دروعاً ... فما معنى السوابغ في العياب
وقال يصف طيب الهواء:
ألا يا حبذا طيب الغبوق ... وملبوسٌ من العيش الرقيق
إذا ما الصبح أسفر نبّهتني ... جنوب مسّها مسّ الشفيق
ألم به بقول ابن المعتز:
والريح تجذب أطراف الرداء كما ... أفضى الشقيق إلى تنبيه وسنان
ورجع:
وفتيان تهمهمُ همومٌ ... حديثهمُ ألذُّ من الرحيق
وقال:
وكنت إذا ما حاجة حال دونها ... نهارٌ وليلٌ ليس يعتذارن
حملت على حكم القضاة ملامها ... ولم ألزم الإخوان ذنب زماني
وقال من قصيدة في سيف الدولة:
وأفلت نقفور يرقع جلده ... وفيه لآثار السلاح خروق
يجر العوالي والسهام بجسمه ... كمحتطب للحمل ليس يطيق
سرقه من قول عنترة:
وغادرن نضلة في معركٍ ... يجرّ الأسنة كالمحتطبْ
وقال:
ألا فاخش ما يرجى وجدّك هابطٌ ... ولا تخش ما يخشى وجدّك رافعُ
فلا نافع إلاّ مع النحس ضائرٌ ... ولا ضائر إلا مع السعد نافع
سرقه من قول يزيد بن محمد المهلبي:
وإذا جددت فكل شيء نافع ... وإذا حدت فكل شيء ضائر
وقال:
سعى رجال فنالوا قدر سعيهم ... لم يأت رزق بلا سعي ولا طلب
حسن التأتي مفاتيح الغنى، وعلى ... قدر المطالب تلقى شدة التعب
وقال في نظم مثل من كتاب كليلة ودمنة:
أحسد قوماً عليك قد غلبوا ... وكلّ من بادر المنى غلبا
وكنت كالكرم في تكرمه ... تلتف أوراقه بما قربا
وقال:
وإني لا أزال ألوم نفسي ... على طول التجنّب والبعاد
وما أعتاض بالأقوام منكم ... وهل يعتاض صدر من فؤاد؟
وقال:
وما استبطأت كفّك في نوالٍ ... على عدواء نأي واقتراب
ولو كان الحجاب لغير نفعٍ ... لما احتاج الفؤاد إلى حجاب
هذا أحسن ما قيل في الحجاب، وأحسبه بعد قول أبي تمام:
ليس الحجاب بمقص عنك لي أملاً ... إنّ السّماء لترجي حين تحتجب
وقال:
مثل خلعت على الزمان رواءه ... عوز الدراهم آفة الأجواد
وقال:
من لم يذق غصص التفرق لم يمتْ ... الموت رمحٌ والفراق سنانُهُ
وقال:
يهوي الثناء مبرّز مقصّر ... حبّ الثناء طبيعة الإنسان
وقال:
نعلّل بالدواء إذا مرضنا ... وهل يشفي من الموت الدواء؟
ونختار الطبيب وهل طبيب ... يؤخر ما يقدمه القضاء؟
وما أنفاسنا إلاّ حسابٌ ... وما حركاتنا إلاّ فناء
وقال، وهو من قلائد البديعة، لشرف الدولة أبي الفوارس:
أسرّ إليك مقال النصيح ... ولست إلى النصح بالمفتقرْ
عليك إذا ضاغنتك الرجال ... بضرب الرؤوس وطعن الثغر
ولا تحقرنّ عدواً رماك ... وإن كان في ساعديه قصر
فإن الحسام يحزّ الرقاب ... ويعجز عما تنال الإير
وينفع في الرّوع كيد الجبان ... كما لا يضرّ الشجاع الحذر
شبِ الرعب بالرهب وامزج لهم ... كما يفعل الدهر حلواً بمر
أبو الحسن محمد بن عبد الله السلامي
من أشعر أهل العراق، قولاً بالإطلاق، وشهادة بالاستحقاق. وعلى ما أجريته من ذكره، شاهد عدل من شعره والذي كتبت من محاسنه نزه العيون، ورقى القلوب، ومنى النفوس.
ومن خبره أنه ولد في كرخ بغداد، آخر نهار يوم الجمعة لست خلون من رجب سنة ست وثلاثين وثلاثمائة، ونسبته في بني مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب ابن لؤي بن غالب، وأمه شاعرة، وقال الشعر وهو ابن عشر سنين، فمن أول شعر قاله في المكتب قوله: (1/298)
بدائع الحسن فيه مفترقة ... وأعين الناس فيه متفقة
سهام ألحاظه مفوّقةٌ ... فكل من رام لحظه رشقه
قد كتب الحسن فوق عارضه ... هذا مليح وحقِّ من خلقه
وركب في صباه سمارية ولم يكن رأى دجلة قبل ذلك فقال:
وميدان تجول به خيول ... تقود الدارعين ولا تقاد
ركبت به إلى اللذات طرفاً ... له جسمٌ وليس له فؤاد
جرى فظننت أنّ الأرض وجهٌ ... ودجلة ناظرٌ وهو السواد
ورأى في يد غلام يميل إليه مرآه فقال:
رأيته والمرآة في يده ... كأنهما شمسةٌ على ملكِ
فقلت للصورة التي احتجبت ... من غير زهد فينا ولا نسك
يا أشبه الناس بالحبيب ألا ... تخبرنا عنك غير مؤتفك
قال أنا البدر زرت بدركم ... وهذه قطعة من الفلك
قلت فإني أرى بها صدأً ... فقال هذا بقية الحبك
وخرج من مدينة السلام، وورد الموصل وهو صبي حين راهق، فوجد بها أبا عثمان الخالدي، وأبا الفرج التلعفري، وشيوخ الشعراء، فلما رأوه عجبوا منه واتهموه بأن الشعر ليس له، فقال الخالدي: أنا أكفيكم أمره، واتخذ دعوة جمع الشعراء فيها، وحصل السلامي معهم، فلما توسطوا الشرب أخذوا في ملاحاته، والتفتيش على قدر البضاعة، فلم يلبثوا أن جاء مطر شديد وبرد ستر الأرض، فألقى أبو عثمان نارنجا كان بين أيديهم على ذلك البرد، وقال: يا أصحابنا هل لكم في أن نصف هذا؟ فقال السلامي ارتجالاً:
لله در الخالديّ ... الأوحد النّدب الخطير
أهدى لماء المزن عن ... د جموده نار السعير
حتى إذا صدر العتا ... ب إليه عن حنق الصّدور
بعثت إليه بعذرهِ ... من خاطري أيدي السرور
لا تعذلوه فإنّه ... أهدى الخدود إلى الثغور
فلما رأوا ذلك أمسكوا عنه. وكانوا يصفونه بالفضل، ويعترفون له بالحذق إلا التلعفري فإنه أقام على قوله الأول حتى قال فيه السلامي:
يا شاعراً بسقوطه لم يشعر ... ما كنت أول طامع لم يظفر
لو كنت تعرف والداً تسمو به ... لم تنتسب ضعةً إلى تلعفّر
تاه ابن بائعة الفسوق على الورى ... بقذال صفعان ونكهة أبخر
وبلادة في الشعر تشهد أنه ... تيسٌ ولو نصرت بطبع البحتري
يحلو بأفواه الأنامل صفعه ... حتى كأنّ قذاله من سكرّ
وقال فيه أيضاً:
سما التلعفري إلى وصالي ... ونفس الكلب تكبر عن وصاله
ينافي خلقه خلقي فتأبى ... فعالي أن تضاف إلى فعاله
فصنعتي النفيسة في لساني ... وصنعته الخسيسة في قذاله
فإن أشعر فما هو من رجالي ... وإن يصفع فما أنا من رجاله
ودخل يوماً إلى أبي تغلب وبين يديه درع فقال: صفها، فارتجل:
يا ربّ سابغةٍ حبتني نعمةً ... كافأتها بالسوء غير مفنّد
أضحت تصون عن المنايا مهجتي ... وظللت أبذلها لكلّ مهنّد
وورد حضرة الصاحب بأصبهان واستمطر من بنوء غزير، وسرى في ضوء قمر منير، ولقيه بقصيدة منها:
رُقى العذال أم خدع الرقيب ... سقت ورد الخدود من القلوب
وآباه الصبابة أم بنوها ... يروضون الشبيبة للمشيب
وقفنا موقف التوديع نوطي ... نجوم الدمع آفاق الغروب
تعجب من عناقٍ جرّ دمعاً وتقبيل يشيع بالنحيب
وقد ضاق العناق فلو فطنّا ... دخلنا في المخانق والجيوب
ونحن أولاك نطلب من بعيدٍ ... لعزتنا وندرك من قريب
تبسّطنا على الآثام لمّا ... رأينا العفو من ثمر الذنوب
هذا البيت من إحسانه المشهور، ولعله أمير شعره: (1/299)
ولولا الصاحب اخترع القوافي ... لما سهل الخلاص من النسيب
ومن يثني إلى ليث هصورٍ ... لواحظه عن الرشاء الربيب
وكيف يمسّ حد السيف طوعاً ... قريب الكفّ من غصن رطيب
وشبهنا فكنت أبا نواس ... ولكن جل عن قدر الخصيب
ومن يك مثل عباد أبوه ... يعش بين الأنام بلا ضريب
؟؟أحرز الخائف الجاني، وكنز ال - مقل المعتفى، وأخا الغريب
أما لك غير بأسك من عتادٍ ... ولا غير العظائم من ركوب
تروض مصاعب الأيام قهراً ... وتحملها على عودٍ صليب
وتبذل دون تاج الملك نفساً ... متيّمة بتنفيس الكروب
وجربت الملوك فما أصابت ... لداء الملك غيرك من طيب
فمن غصب الإمارة إذ حواها ... فما تحوي الوزارة بالغصوب
توارثها الكفاة وتقتضيها ... مناسب معرق فيها نسيب
تمائمكم مناطقكم إذا ما ... جفت بحضور شبّان وشيب
ولو صدقتك جن الليل عني ... شغفت بفن إنسيّ عجيب
مع القرنين من قلم وطرس ... أو العبدين من طاس وكوب
أشقّ الفكر عن لفظٍ بديعٍ ... فيقدم بي على معنىً غريب
ولقي مؤيد الدولة بقصيدة أولها:
وصل الخيال ومنك رمت وصالا ... هذي الزيارة لا تعدّ نوالا
زار الخيال فلا تزرني في الكرى ... حاشا لحسنك أن يكون خيالا
قد كنت فيك شككت يا بدر الدجى ... حتى رأيتك في اللثام هلالا
وهواك علمني القريض فزاد في ... حبّيك أني منه أكسب مالا
هو منهضي نحو الأمير وهمةٌ ... حملت إليه صلاته آمالا
ووتيرة الشعراء في مدحٍ وفي ... منحٍ فتجمع مفخراً ونوالا
ضربوا لك الأمثال في أشعارهم ... لكنني بك أضرب الأمثال
ولقي الصاحب بأرجوزة حسنة، منها:
يا راقداً لو لا الخيال ما رقد ... هل لك في عارية لا تسترد
موشيّ أثواب الجمال بالغيد ... وفّر حظ جيده من الجيد
لو لم يفض ماء الشباب لاتّقد ... قد استدار صدغه حتى انعقد
وصين ورد خده عمن ورد ... إن أبا القاسم كالسيف الفرند
ذو بدهات لم تخلّد في خلد ... أغرّ ميمون به الملك أعتضد
فما تحل الوزراء ما عقد ... بجهدهم ما قاله وما اجتهد
شتان ما بين الأسود والنقد ... هل يستوي البحر والخضم والثمد
أمنيتي من كل خيرٍ مستعد ... أن يسلم الصاحب لي طول الأبد
حتى يقال لم يطل عمر لبد ... فما أبو ألفٍ رئيس معتمد
كلّ غلام منهم رب بلد ... يا سعده من والد بما ولد
وشم بروق سيفه إذا وقد ... وانساب ماء المزن فيه واطّرد
كالروح لا تكمن إلا في جسد ... يحمله عبل الشوى عبل الكبد
ينجده وهو عريقٌ في النجد ... وإن جرى كانت له الريح مدد
خاض الدماء وتحلى بالزبد ... كأنّه إنسان عينٍ في رمد
يا مجري الفكر إلى أقصى أمد ... اسمع فقد انجز حرّ ما وعد
عذراء لم يقرع بها سمع أحد ... لو عرضت على أبي النجم سجد
وخلّ من عاندني وما اعتقد ... فليس للحاسد إلاّ ما حسد
وكتب من أصفهان إلى ذي الكفايتين أبي الفتح بن العميد وهو بالري قصيدة منها:
عبر الجواد بي الفرات ودجلة ... وأتي نداك فليس يعرف معبرا
فالآن يرجع يا عليّ القهقري ... لم يستطع متقدّماً فتأخّرا
وأعيذها من أن يعارض مثلها ... بادٍ هواك صبرت أم لم تصبرا
قالت وقد بعث الملوك بمهرها ... مهري سواك فكن لغيري جوهرا
ما ضرها إلاّ تواطؤ طيء ... فيها على نحت المعاني بحترا (1/300)
جمل غدا عنها جميل مفحماً ... وكثرن في تفصيلهن كثيّرا
وكان بحضرة الصاحب شيخ يكنى بأبي دلف مسعر بن مهلهل الينبوعي يشعر ويتطبب ويتنجم، ويحسد السلامي على منزلته، فيتعرض هل ويولع به. حتى ألقمه السلامي الحجر بأن قال له يوماً:
قال لنا يوماً أبو دلف أب ... رد من تطرق الهموم فؤاده
لي شعر كالماء قلت أصاب ال ... شيخ لكن لفظه براده
أنت شيخ المنجمين ولكن ... لست في حكمهم تنال السعاده
وطبيب مجرب ماله بال ... نجح في كلّ ما يجرب عاده
مر يوماً إلى عليل فقلنا ... قرّ عيناً فقد رزقت الشهادة
ولم يزل السلامي بحضرة الصاحب بين خير مستفيض، وجاه عريض، ونعم بيض، إلى أن آثر قصد حضرة عضد الدولة بشيراز، فجهزه الصاحب إليها، وزوده كتاباً بخطه إلى أبي القاسم عبد العزيز بن يوسف نسخته: قد علم مولاي أطال الله بقاه أن باعة الشعر من عدد الشعر، ومن يوثق بأن حليه التي يهديها من صوغ طبعه، وحلله التي يؤديها من نسج فكره. أقل من ذلك. وممن خبرته بالامتحان فأحمدته، وقررته بالاختيار فاخترته. أبو الحسن محمد بن عبد الله المخزومي السلامي أيده الله تعالى، وله بديهة قوية توفي على الروية، ومذهب في الإجادة يهش السمع لوعيه، كما يرتاح الطرف لرعيه، وقد امتطى أمله، وخير له إلى الحضرة الجليلة رجاء أن يحصل في سواد أمثاله، ويظهر معهم بياض حاله. فجهزت منه أمير الشعر في موكبه، وحليت فرس البلاغة بمركبه، وكتابي هذا رائده إلى القطر، بل مشرعه إلى البحر. فإن رأى مولاي أن يراعي كلامي في بابه، ويجعل ذلك ذرائع إيجابه، فعل إن شاء الله تعالى.
فلما وردها تكفل به أبو القاسم، وأفضل عليه، وأوصله إلى عضد الدولة، حتى أنشده قصيدته التي منها:
إليك طوى عرض البسيطة جاعل ... قصارى المطايا أن يلوح لها القصر
فكنت وعزمي في الظلام وصارمي ... ثلاثة أشباه كما اجتمع النسر
فبشرت آمالي بملك هو الورى ... ودار هي الدنيا ويوم هو الدهر
فاشتمل عليه جناح القبول، ودفع إليه مفتاح المأمول. واختص بخدمة عضد الدولة في مقامه. وظعنه إلى العراق، وتوفر حظه من صلاته وخلعه، واللهى تفتح اللهى، وسير فيه قصائد كتبت عيون غررها، وكان عضد الدولة يقول: إذا رأيت السلامي في مجلس ظننت أن عطارد نزل من الفلك إلي، ووقف بين يدي. ولما توفي عضد الدولة تراجع طبع السلامي، ورقت حاله، ثم مازالت تتماسك مرة وتتداعى أخرى حتى انتقل إلى جوار ربه، في سنة أربع وتسعين وثلاثمائة.
ما أخرج من غرره في النسيب والغزل قال:
منيت بمن إذا منّيت أفضت ... مناي إلى بنفسج عارضيه
وفاضت رحمة لي حين ولّى ... مدامع كاتبيّ وكاتبيه
وقال أيضاً:
ومختصر الخصر من بعده ... هربت فألقيت في صدّهِ
وقابلني وجهه مقبلاً ... بحدّ الحسام وإفرنده
فما زلت أعصر من خدّه ... وأقطف من مجتنى ورده
أشمّ بنفسج أصداغه ... وزهراً تعصفر في خدّه
وأظما فأرشف من ريقه ... فيا حرّ صدري من برده
وما للحاظ سوى وجهه ... وما للعناق سوى قدّه
وقال أيضاً سامحه الله تعالى:
وفيهن سكرى للحظ سكرى من الصبا ... تعاتب حلو اللفظ حلو الشمائل
أدارت علينا من سلاف حديثها ... كؤوساً وغنّتنا بصوت الخلاخل
وقال من قصيدة شبب فيها بغلام بدوي كان معه:
تعلّقته بدوي اللسا ... ن والوجه والزي ثبت الجنانِ
أعانق من قده صعدةً ... ترى اللحظ منها مكان السنان
أدار اللثام على ثغره ... فأهدى الشقيق إلى الأقحوان
ومسك ذوائبه سائلٌ ... على آس ديباجه الخسرواني
يذوب اشتياقاً لنبح الكلاب ... إذا هاجنا طرب الغطرفان
أحييه بالورد والياسمين ... فيصبو إلى الشيح والأيهقان
ويشتاق فينا عواء الذئاب ... إذا هاجنا طرب العترفان (1/301)
فيا بدويّ سهامُ الجفون ... صر عن ضيوفك حول الجفان
فإن كان دينك رعي الذمام ... فقل أنت من ذمتي في أمان
ومن قصيدة شبب فيها بغلام عيار من الشطار:
يا مرهفاً في لحاظة مرهف ... ومخطف القدّ سهمه مخطف
من أودع الورد وجنتيك ومن ... نقش طرز العذار أو غلّفْ
وما لهذا الصدغ المشوش قد ... عارض طرق التقبيل واستهدف
أطلع أفق العجاج لي قمراً ... بين نجوم تجول أو تزحف
يقطر ماء الجمال منه وير ... تج إذا ارتج ردفه المردف
ومسرف الحسن لا يلام إذا ... جار على عاشقيه أو أسرف
عقّف كلاّبه وأرهفه ... فقلت يكفيك صدغك الأعقف
تغنيك عن سهمك اللحاظ وعن ... صارمك العضب قدّك الأهيف
ومال كفى على سوالفه ... والموت من دون لمسها يسلف
فمر مرّ السحاب يسحب فض ... ل الكم عجباً وفاضل المطرف
وقال والورد قد تعصفر في ... خديه غيظاً وآن أن يقطف
مثلك يلقي يداً عليّ أما ... يخاف من ناظري أن يتلف
لو مر بي الليث مات خوفاً ولو ... أبصر طيفي في النوم لم يطرف
أنا العذاب المذاب والأسد الأ ... سود بأساً والمقرب المقرف
أشطر منّي فتىً إذا وقعت ... عليه عيني في الوقت لم يتلف
إذا شربنا بنت الكروم فبال ... بيض نحيا وبالقنا نتحف
لولا توقيّ أو مراقبتي ... أنّي عزيز وأنت مستضعف
نحرت حتى السماء واقعةٌ ... فوقي والأرض تحتنا تخسف
فقلت مهلاً فلست أول من ... أخطأ جهلاً من قبل أن يعرف
البدر لا ينسخ الظلام على ... ديباجتيه والبحر لا ينزف
عزمت أن أدعي عليك فلا ... تصغ إلى من لحا ومن عنف
ولا تكلني إلى اليمين فلو ... شئت أكلت الزبور والمصحف
فافترّ عن لؤلؤٍ وأسفر عن ... ورد وقبّلته فما استنكف
وقال ما تشتهي فقلت له ... نقصف حسادنا بأن نقصف
فمال بي والظلام شملته ... وفجره في يمينه مرهف
إلى رياضٍ يغازل القطر ما ... دبج من زهرها وما فوّف
ما بين فتيان لذة عرفوا ال ... عيش فنالوا نعيمه الألطف
هذا يحيّي وذا يغار وذا ... يلثم كرهاً وذاك يستعطف
برد الثرى بردنا وقد زرّر ال ... بدر علينا دواجه المحصف
وبيننا خمرتان من ريقة ال ... كرم وريق أشهى من القرقف
ولطّف الله لي بمدرجةٍ ... أمثالها عند مثلي تلطف
أنشدته شعر مكشف فأتى ... يلثم تلك السطور والأحرف
ومات سكراً فمتّ من فرحٍ ... وكاد ستر الغلام أن يكشف
وله في غلام عباسي قد التحى فازداد حسناً:
لما التحى أصبحت عمامته ال ... سوداء تجلي مخضرة الحبك
وصار يختال أن يلين بخلق ال ... خز عن ردفه أو الفتك
في كلّ يوم تراه مؤتزراً ... بالروض بين الحياض والبرك
وما علمنا أنه قمراً ... حتى اكتسى قطعة من الفلك
وقال من أرجوزة:
وليلة كأنّها على حذرٍ ... ممرّها أسرع من لمح البصرْ
من قبلها لم أر ليلاً مختصر ... ولا زماناً لم يبن من القصر
والليل لا يكرب إلاّ في غرر ... إذا وفى أحبابنا فيه غدر
زار وما اسودّ الدجى ولا اعتكر ... أبيض إلا المقلتين والشّعر
أغر أوقاتي إذا زار غرر ... فلم يكن إلا السلام والنظر (1/302)
أو قبلة خالستها على خطر ... حتى انتضى الصبح حساماً مشتهر
وانفلّ من أهواه في جيش البكر ... فبتّ محزوناً كأنّي لم أزر
واحسرتا لليلنا كيف انحسر
وقال:
عذارك جادت عليه الرياض ... بأجفانها وبآماقها
وطال غرام الغواني به ... فقد طرّزته بأحداقها
وقال:
فاض ماء الجمال في الأقطار ... كلّ مطرّز بعذارِ
قد أرانا عقارب الشعر من خدّ ... يه تأوي مكامن الجلنار
وقال من قصيدة:
يفض الغزال جفون الغزل ... وقد فضح الكحل فيها الكحل
ولا وجني الورد في وجنتي ... ه ما أوجب اللثم ذاك الخجل
وقال من أخرى:
ما تسرع الألحاظ تخطف وردة ... من خدّه إلا عثرن بخاله
مذ نقبوه وزرفنوا أصداغه ... ختموا بغاليةٍ على أقفاله
وقال:
تعرّض الشعر لعارضيه ... وأطلق العشاق من يديهِ
كان الصبا يهتز في عطفيه ... والحسن تجري خيله إليهِ
حتى إذا أبصر وجنتيه ... حجبتا بمثل حاجبيه
جاد عذاريه بعبرتيه ... كأنما يغسل من خديّه
صحيفة قد كتبت عليه
وقال من قصيدة شبب فيها بغلام تركي:
علقت مفترس الضراغم فارساً ... رحب المدى والصدر والميدان
قمرٌ من الأتراك تشهد أنّه ال ... خود الحصان على أقبّ حصان
البدر في ظل الغمامة والنقا ... في سرجه والغصن في الخفتان
ألّفت طرّته وغرته وما ... كان الدجى والصبح يأتلفان
ورمى بلحظيه القلوب وسهمه ... فعجبت كيف تشابه السهمان
بطلٌ حمائله كعارضه وحا ... جبه الأزج كقوسه المرنان
حييّته فدنا وأمطر راحتي ... قبلاً فليت فمي مكان بناني
وخدعته بالكأس حتى ارتاض لي ... ودرأت عنّي الحدّ بالكتمان
والمرء ما شغلته فرصة لذّةٍ ... ناسي العواقب آمن الحدثان
وقال من قصيدة:
وأعرضت إذ رأت في عارضي درراً ... منظومة معها الأحزان تنتظمُ
وللصبابة قومٌ لا يسرّهم ... أن يلبسوا الوشي إلاّ تحته سقم
أشتاق أهلي لظبي بين أرحلهم ... والحب يوصل إذ لا توصل الرحم
ومن أخرى:
ما ضنّ عنك بموجودٍ ولا بخلا ... أعزّ ما عنده النفس التي بذلا
يحكي المطايا حنيناً والهجير جوىً ... والمزن دمعاً وأطلال الديار بلى
ومن أخرى
الحبّ كالدهر يعطينا ويرتجع ... لا اليأس يصدقنا عنه ولا الطمع
صحبته والصّبا يغري الصبابة بي ... والوصل طفل غريرٌ والهوى يفع
أيام لا النوم في أجفاننا خلسٌ ... ولا الزيارة من أحبابنا لمع
وليلة لا ينال الفكر آخرها ... كأنما طرفاها الصبر والجزع
إذ الشبيبة سيفي والهوى فرسي ... ورايتي اللهو واللذات لي شيع
أحييتها ونديمي في الدحا أملٌ ... رحب الذرى وسميري خاطر صنع
ومن أخرى:
رسولي إذا لم يغشهنّ رسول ... صباً وقبولٌ بل صباً وقبولُ
وقلبٌ سوى قلب الكتيبة باسلٌ ... وحدّ سوى حد الحسام صقيل
وما حسن صبر ما ترين ولا رضا ... بنأي ولكن المحبّ حمول
كأنه ألم في بقول المتنبي:
وما عشت من بعد الأحبّة سلوة ... ولكنّني للنائبات حمول
ومن أخرى:
أنوارٌ وأين دار نوار ... أظلم الناس في أشط الديار
ذات صدغ من البنفسج قد ما ... ل على وجنةٍ من الجلنار
ومن أخرى:
ويغريني بذكر الربع غيدٌ ... به صيد وحور فيه عينُ
سللن من الحداق السود بيضاً ... فما ندري قيانٌ أم قيون
الخمريات وما يتعلق بها
من سائر الأوصاف والتشبيهات كتب إلى صديق له يصف النارنج: (1/303)
أتنشط للصبوح أبا عليّ ... على حكم المنى ورضا الصديق
بنهر للرياح عليه درع ... تذهب بالغروب وبالشروق
إذا اصفرّت عليه الشمس صبّت ... على أمواجه ماء الخلوق
وقفت به فكم خدّ رقيقٍ ... يغازلني على قدّ رشيق
وجمر شبّ في الأغصان حتى ... أضاع الماء في وهج الحريق
وكتب إليه في وصف الجلنار:
أحنّ إلى لقاء أبي عليٍّ ... ويأبى أن يحنّ إلى جواري
وقد جلبت علينا الراح حتى ... مللنا جلوة البيض العذاري
وصفّر أوجه العذّال يومٌ ... وجوه شموسه تحكي اصفراري
ونهرٌ تمرح الأمواج فيه ... مراح الخيل في رهج الغبار
إذا اصفرت عليه الشمس خلنا ... نمير الماء يمزج بالعقار
كأن الماء أرض من لجين ... مغشّاة صفائح من نضار
وأشجار محمّلة كؤوساً ... تضاحك في احمرار واخضرار
إذا أبصرن في نهرٍ سماء ... وهبن له نجوم الجلنار
فزرنا إن نار الراح تكفي ال ... ندامى خيفتي عار ونار
وقال في الدير الذي بقنطرة النوبندجان، وقد شربوا هناك ولبسوا أكاليل الزهر ورموا البنادق:
أقنطرة النوبندجان وديريها ... وحور مهى لا تألف الحور غيرها
شربنا بها والروض يخلع زهره ... على الشرب والأشجار تنثر طيرها
كتب يستهدي الشراب:
أرسلت أشكو إليكم غدوة ظمئي ... وما شككت بأني سوف أغتبق
فقد كتبت إلى أن خانني قلمي ... وقد ترددت حتى ملّني الطرق
أنت امرؤ جوده غمرٌ ونائله ... همرٌ ووبل نداه مسبل غدق
فابعث إليّ بصفو الراح يشبهه ... منّي قريض ومنك العرف والخلق
وكتب إلى أبي القاسم عبد العزيز بن يوسف:
أظنّ اليوم يهطل بالمدام ... فإن الأفق محمّر الغمام
وما عودت حمل الكأس إلاّ ... على سكر الكروم أو الكرام
وعهد سماء جودك بالعطايا ... كعهد دم الأعادي بالحسام
إذا طلعت شموس الراح فينا ... وهبنا كل مسرجة اللجام
أبحر الجود في بحر الأماني ... وبدر الملك في بدر التمام
ومن عبد ابن يوسف صير اسمي ... وصيّره الندى مولى السلامي
إذا كبت أناملنا كميتاً ... من الحبب المفضض في لجام
تحيينا بذكرك وانتقلنا ... بمدحك دون سادات الأنام
طربت فما أبالي ما ورائي ... ونار الراح مشعلة أمامي
جفون المزن مذ عدمت بواكٍ ... لرحمتنا وخدّ الورد دامي
فأحي بها فتىً أحلى مناه ... تقدّم من فداك إلى الحمام
وكتب إلى صديق يستدعيه أبياتاً منها :
يوماً لبست به الخلاعة حلّة ... وسحبتها فسحبت خير لباس
في مجلس زجل الغناء متوّج ال ... كاسات فيه مهذب الجلاس
والطير قد طربت بحسن غنائها ... لو أنها فطنت لشرب الكاس
والشمس من حسد تغير لونها ... أن لا تكون كغرّة العباس
أنا لا أبالي من فقدت من الورى ... إما حضرت فأنت كلّ الناس
وقال من قصيدة:
وظبية من بنات الإنس في يدها ... ووجهها للصبا والحسن خاتام
قد حللت لؤلؤ الأزرار عن درر ... لهنّ في ثغرها الفضيّ أتوام
وزارت الروض منها مقلتان لها ... وحشيتان وعذب الريق بسّام
والكأس للمسكر التبريّ صائغة ... والماء للحبب الدريّ نظّام
بتنا نكفكف الكاسات أدمعنا ... كأننا في حجور الروض أيتام
هذا البيت من إحسانه المشهور في ابتداع الاستعارة: وقال من أخرى:
نفرغ أكياسنا في الكؤوس ... نبيع العقار ونشري العقارا
حمدنا الهوى ونسينا الفراق ... ومن يشرب الخمر ينس الخمارا (1/304)
ومن أخرى:
أشربا واسقيا فتىً يصحب الأي ... ام نفساً كثيرة الأوطار
والنفوس الكبار تأنف للسا ... دة أن يشربوا بغير الكبار
في جوار الصبا نحلّ بيوتاً ... عمرت بالغصون والأقمار
ونصلّي على أذان الطنابي ... ر ونصغي لنغمة الأوتار
بين قوم إمامهم ساجدٌ لل ... كأس أو راكع على المزمار
ومن أخرى:
نسب الرياض إلى الغمام شريف ... ومحلّها عند النسيم لطيفٌ
فاشرب وثقّل وزن جامك إنّه ... يومٌ على قلب الزمان خفيف
أو ما ترى طرز البروق وتوسطت ... أفقاً كأن المزن فيه شفوف
واليوم من خجل الشقيق مضرّجٌ ... خجلٌ، ومن مرض النسيم ضعيف
والأرض طرسٌ والرياض سطوره ... والزهر شكلٌ بينها وحروف
وكأنّما الدولاب ضلٌ طريقه ... فتراه ليس يزول وهو يطوف
ومن أخرى:
ولبّاسةٍ حلى الشباب لعوبةٍ ... بطرق الهوى عقادة للزمائم
غزال صريم في رجوم صوارم ... وبدر تمام في نجوم تمائم
وكان رقادي بين كأس وروضةٍ ... فصار سهادي بين طرف وصارم
ولو لا نسيب مطربٌ من قصائدي ... لما احتال طيفٌ في زيارة نائم
ومن أخرى:
أنسيم هل للصلح عندك موضعٌ ... فيزور طيفٌ أو تهبّ نسيمُ
والشيب دونك وهو موتٌ مضمرٌ ... والهجر وهو تفرقٌ مكتوم
بيني وبين الراح مثل حبابها ... دمعٌ على وجناتها منظوم
ومن أخرى:
وقد خالط الفجر الظلام كما التقى ... على روضة خضراء ورد وأدهم
وعهدي بها والليل ساق ووصلنا ... عقار وفوها الكأس أو كأسها فم
إلى أن بدرنا بالنجوم وغربها ... يفض عقود الدر والشرق ينظم
ونبهت فتيان الصبوح للذةٍ ... فلبّوا وما فيهم سوى الليل محرم
وفي كلّ كأس للندامى بقيّةٌ ... تلوح كدينار يغطّيه درهم
سائر الأوصاف نزل عضد الدولة شعب بوان والسلامي معه متوجهاً إلى العراق، فقال له: قل في الشعب، فقد سمعت ما قال المتنبي، فعاد إلى خيمته وكتب:
اشرب على الشعّب واحلل روضة أنفا ... قد زاد في حسنه فازدد به شغفاً
إذ ألبس الهيف من أغصانه حللاً ... ولقّن العجم من أطياره نتفا
وأثمرت حسن الأغصان مثمرةً ... من نازع قرطاً أو لابس شنفا
والماء يثني على أعطافه أزرا ... والريح تعقد في أطرافها شرفا
والشمس تخرق من أشجارها طرفاً ... بنورها فترينا تحتها طرفا
من قائل نسجت درعاً مفضضة ... وقائل ذهبت أو فضضت صحفا
ظلّت تزفّ له الدنيا محاسنها ... وتستعد له الألطاف والتّحقا
من عارض وكفا، أو طائر هتفا ... أو بارق خطفا، أو سائر وقفا
هذا مما قاله بديهاً وليس بمستحسن في الوزن إلا أن أبا تمام قال:
يقول فيسمع، ويمشي فيسرع ... ويضرب في ذات الإله فيوجع
رجع:
ولست أحصي حصي الياقوت فيه ولا ... درّاً أصادفه في مائه صدفا
يظنّ من وقفت فيه الشجون به ... أنّ الصبابة شابت والهوى خرفا
تعسفّ الشوق فيه كلّ ذي شجن ... والشوق ألطفه ما كان معتسفا
فاحلل عرى الهمّ واشربها مشعشعة ... رقّ النسيم مباراةً لها وصفا
ماذا يقول لك المدّاح؟ قد نفدت ... فيك المعاني وبحر اللفظ قد نزفا
لم يبق لي حلية إلاّ الدعاء فإن ... يسمع ظللت عليه الدهر معتكفاً
وقال من سذقيه في أبي الفوارس وأبي دلف:
ما زلت أشتاق ناراً أوقدت لهما ... حتى ظننت عذاب النار قد عذبا
يعلو الدخان بسودٍ من ذوائبها ... قد عطّ فيها قناع التبر واستلبا (1/305)
قد كلّلت عنبراً بالمسك ممتزجاً ... وطوقت جلناراً واكتست ذهبا
فالنور يعلب في أطرافها مرحاً ... والخمر يرعد في أكنافها رهبا
وطار عنها شرارٌ لو جرى معه ... برقٌ دنا أو تلقى كوكبا لكبا
لو كان وقت نثار خلته درراً ... أو كان وقت انتصار خلته شهبا
والليل عريان فيه من ملابسه ... نشوان قد شق أثواب الدجى طربا
أقسمت بالطرف لو أشرقت حين خبت ... جعلت أنفس أعضائي لها حطبا
وقال من قصيدة أخرى:
فسمونا والفجر يضحك في الشر ... ق إلينا مبشّراً بالصباحِ
والثريا كراية أو كجام ... أو بنان أو طائر أو وشاح
وكأن النجوم في يد ساقٍ ... تتهاوى تهاوي الأقداح
وجمعنا بين اللواحظ والرا ... ح وبين الخدود والتفاح
وشممنا بنفسج الصدغ حتى ... طالعتنا من الثغور الأقاح
زمن فات بين بهو وشربٍ ... وغناء وراحةٍ وارتياح
معقلي نهر معقل فإن ارتح ... ت إلى منزل فدير نجاح
وحياتي بما حوته إلى الخمّ ... ار مصروفةٌ أو الملاّح
مركبي مثل لمّتي أدهم جو ... نٌ ويحكيهما نديمي وراحي
مركبة السفينة الزورق وهما أسودان، ولمته سوداء لأنه شاب، ونديمه أسود لأنه عربي، ونبيذه نبيذ التمر وهو أسود.
وقال، وكتب بها إلى الشريف الرضي، وكان خرج من داره في المطر فأعطاه كساء استتر به:
مازال بي مهر الشبيبة جامحاً ... حتى حملت على المشيب الكابي
فسمعت أقبح ما سمعت نداءها ... ما بال هذا الأشيب المتصابي
إنّي حلفت بربّ أشرف كعبةٍ ... في مشهد النشوات والأطراب
وبكل مخلوع العذار مجّررٍ ... فضل الإزار مسحّب سحّاب
بمصرع الدّنّ الجريح وحرمة ال ... وتر الفصيح وذمّة المضراب
ومتى خلفت بمثلها متأولاً ... فصدقت بالأزلام والأنصاب
وأنا دعي في البلاغة ملصق ... في الشعر منسلخ عن الآداب
ويباع في الأكراد شعري إنّه ... يغلو إذا ما بيع في الأعراب
لقد ارتقت تبغي أبا الحسن العلي ... يطمحن منه إلى الأبي الآبي
الموسوي الناصري أبوّةً ... وخؤولة علويةٌ الأنساب
في حيث أرّثت النبوة نارها ... فخبا لنور الحقّ كلّ شهاب
لا أدعي لك، إنما بك أدعي ... أنّي وصلت إلى أعز جناب
زاد الإله بكم قريشاً رفعةً ... وأقرّ عين قصيها بن كلاب
متناسلين وأنت كنت مرادهم ... مترددين إليك في الأصلاب
حتى ولدت فأغفلوا أنسابهم ... وغدا وجودك أشرف الأنساب
ألسان هاشمٍ الذي بغروبه ... تفري وناظر غالب الغلاب
أشكو إليك عشيّةً لم نفترق ... فيها على مللٍ ولا استعتاب
ما كنت إلاّ جنّة فارقتها ... كرهاً فصبّ عليّ سوط عذاب
ودّعت دارك والسماء تجودني ... بيد الغمام فلا أرى بك ما بي
ما زلت أركض في الوحول مبارياً ... فيها الخيول لواحق الأقراب
فجريت والعكاز أخصر شكّتي ... قصراً ولكني أعزّ ركابي
ورأيت غالية الطريق ومسكه ... طيناً معدّاً لي على الأثواب
وحمى كساؤك لا عدمت معيره ... درّاعتي وعمامتي وجبابي
فوليت يا بحر السماحة كسوتي ... وولي أخوك الغيث بلّ ثيابي (1/306)
غيثان هذا ابن الذي من أجله ... خلق السحاب وذا سليل سحاب
فوصلت أشكو ذا وأشكر ذا وبال ... غيثين ما بهما من التسكاب
وخريدة عذراء رحت أزفها ... ما بين ألفاظ شرفن عذاب
جاءتك يحملها الجمال، وربّما ... وقف الجباء بها دوين الباب
أهديتها خجلاً إلى متغلغل ال ... أفكار محصد مرة الآداب
لأبي القريض ابن المعاني بل أخي ال ... إعراب حين بفوه والإغراب
ضمن الحسين له وموسى رتبةً ... في الفضل نافرة عن الخطّاب
انظر بعين رضاً إلى ما صنعته ... وأعره سمع مسامح وهّاب
وتجاوز الخطأ الشنيع وأخفه ... عن ناظر المتفيهق المغتاب
واجهر إذا أنشدتها في محفل ... فعثرت بين عيوبها بصواب
وقال من قصيدة عضدية في يوم صب الماء:
عدل الحبيب فمن يجور ... ودنا فأين بنا يسيرُ
عوّضت من عيسٍ تدو ... ر بي الفلا كأساً تدور
وشربت ما وسع الصغي ... ر وزدت ما حمل الكبير
نبّهت ندماني وقد ... عبرتْ بنا الشعري العبور
هببّوا فقد عيّي الرقي ... ب ونام وانتبه السرور
وأشار إبليس فقلنا ... كلّنا نعم المشير
صرعى بمعركة تع ... فّ الوحش عنها والنسور
نوّار روضتنا خدو ... د والغصون بها خصور
والعيش أستر ما يكو ... ن إذا تهتّكت الستور
هبّوا إلى شرب المدا ... م فإنّما الدنيا غرور
عذراء يكتمها المزا ... ج كأنّها فيه ضمير
وتظنّ تحت حبابها ... خدّاً تقبله ثغور
وإذا صحونا فاللسا ... ن للعذب والفكر الغزير
نفتض معنىً أو يولّد ... بيننا مثلٌ يسير
أو يمدح الملك الجلي ... ل السيّد الفرد الخطير
ما عزه شيءٍ بغا ... ه فكيف أعوزه النظير
وغداة أنسٍ بشّرت ... ك بها المعازف والخمور
إذا ماء غيثنا ... والأرض تربتها عبير
تغري بصبّ الماء يا ... ملكاً أنامله بحور
ويقول سيبك هكذا ... صبّت على العافي البدور
ويقول سيفك هكذا ... تجري، إذا غضب، النحور
هيهات تبتسم الثغو ... ر ولم تسدّ بك الثغور
قد أذعنت أرض العد ... و وجاء بالنصر البشير
هذي الأماني لي عبيدٌ ... والسرور معي أجير
لاقيته فغضضت طر ... في إذا بدا القمر المنير
وجررت أذيالي بمج ... لسة وقلت فمن جرير
وكأن عاماً عشته ... في ظلّه يومٌ قصير
وقال يصف الفقاعة، وألقاها على طريق الإلغاز:
شغفت بداية لي أشتهيها ... وما فيها عن الوصل امتناع
بباردة المجسّ وما اقشعرّت ... معصّبةٌ وليس بها صداع
تمنّع أو تحل ذؤابتاها ... ويحسر عن مفارقها القناع
وقال يصف سوداء:
يا رب غانية بيضاء تصحبني ... من العتاب كؤوساً ليس تنساغ
أشتاق طرّتها أم صدغها ومعي ... من كلها طرر سودٌ وأصداغ
كأننا لا أتاح الله فرقتنا ... يا لعبة المسك بازٍ تحته زاغ
وأمره عضده الدولة أن يعمل أربعة أبيات تكتب على خواتيم النساء فكتب:
مرقومة الجنبات بالبدع التي ... لم يهدها قط الربيع لروضة
كتمت روائحها فلما عذّبت ... بالنار فاح نسيمها فأقرّت
وكأنما الملك الأجل السيد ال ... منصور عضد الدولة تاج الملك (1/307)
أذكي مجامرها بنار ذكائه ... وغدا الدخان على علوّ الهمّة
وقال من قصيدة عضدية سذقيه:
ألست ترى الأوضاح في دهمة الدجى ... ومنشؤها بالناظرين رفيقُ
دخاناً سخامي الصفات شراره ... بروقٌ وعقد الريح فيه وثيق
وليلاً كيوم الوصل أمّا رياضه ... فزهر وأما مسكه ففتيق
وبغداد بحرٌ ساحلاه جواهر ... ودجلة روضٌ طرّتاه شقيق
وقد صار ياقوتاً حصاها وعنبراً ... ثراها وأمسى الماء وهو رحيق
وقال من أخرى:
ولم نر بحراً جرى بالعقار ... ولا ذهباً صيغ منه جبل
إلى أن جرت دجلة في الشعاع ... وطنّب بالنور أعلى القلل
سحاب الدخان وبرق الشرار ... ورعد الملاهي وغيث الجدل
وما زال يعلو عجاج الدخا ... ن حتى تلوّن منه زحل
فكنا نرى الموج من فضةٍ ... فذهبه النور حتى اشتعل
وقال من أخرى يستهدي مهراً ويصفه:
إليك بعثناها شوارد ضمّنت ... معاني لولاها لما شرف الشعرُ
عروساً ولكن زوّجت بنت ليلةٍ ... مخدّرة لكنّ فكري لها خدر
إذا قال جسمي تستحل بحلة ... تقول له رجلاي بل مهرها مهر
فمن لي به إلا الدهم فازت بلونه ... ولا البرش خازت بردتيه ولا الصفر
كميتٌ تذال الشهب والبلق إن بدا ... وتسمو بما نالته من شبهه الشقر
يخوض إذا لاقى دماً لونه ... ولا ماء إلا ما ء رونقه الغمر
فغرّته مبيضّةٌ وحجولة ... ولكن أريقت فوق سائره الخمر
وأسبق من عاف إليك وشاعر ... قوافيه أفراد محجلة غرّ
فلو شامه في أرض فارس فارسٌ ... لما أمسيا إلاّ ومصرٌ له مصر
نتاج فتى في الحرب تنتج خيله ... وبالدم تسقى والنزال لها ضمر
وقال من أخرى في وصف السكر المبني بشيراز:
على نهر سل في دجى الليل من رأى ... كواكبه زهراً تأمل أم زهرا
إذا طلعت فيه النجوم فما ترى ... به العين إلا الثلج مستودعا جمرا
ثري قد أعاد الليل مسكاً عبيره ... وماءُ أعاد البدر فضته تبرأ
ومن أبيات يصف فيها ارتطامه في الوحل وتلوث ثيابه:
جملة أمري أني ركبت إلىدارك لما أتيتها الخطرا
لبست درّاعتي وعمّتي ال ... خزّ فصارا كما ترى حبرا
أصبحت في الطين عقعقاً بلقا ... وإن تعرّيت خلتني نمرا
ومن أخرى في وصف عمامة:
حسناء صافيةً بيضاء ضافية ... كأنّ رونقها في صارمٍ ذكر
يزين أطرافها طرزٌ كما رقمت ... على المجرّة طرز الأنجم الزهر
وقال في وصف زنبور:
ولابس لوننٍ واحد وهو طائر ... ملوّنة أبراده وهو واقع
أغرّ محشي الطيلسان مدبج ... وسود المنايا في حشاه ودائع
إذا حك أعلى رأسه فكأنما ... بسالفتيه من يديه جوامع
يخاف إذا ولّى ويؤمن مقبلا ... ويخفي على الأقران ما هو صانع
بدا فارسيّ الزي يعقد خصره ... عليه فباء زيّنته الوشائع
فمعجره الوردي أحمر ناصع ... ومئزرة التبري أصفر فاقع
يرجّع ألحان الغريض ومعبدٍ ... ويسقي كؤوساً ملؤها السم ناقع
غرر مدائحه العضدية وما يتصل بها
قال من قصيدة:
يزور نائلك العافي وصارمك ال ... عاصي فتحويها أيدٍ وأعناق
في كلّ يوم لبيت المجد منك غنىً ... وثروةٌ، ولبيت المال إملاق
كم خضعت في لجّة كالبحر زاخرة ... ماء المنون بها حاشاك ذفاق
في فتية من ليوث الحرب قد حفظت ... بالمرهفات لهم في الروع أرماق
من كلّ بعل حياةٍ لا يعاقدها ... إلاّ على أنه في الحرب مطلاق (1/308)
أمام كل خميس كل يوم وغى ... كأنه في صدور الخيل ألحاق
رم أين شئت من الدنيا تنله فما ... للجوّ عرضٌ ولا للبحر أعماق
من شكّ أنك مخلوق لتملكه ... كمثل من شكّ أن الله خلاّق
فللسماء سماءٌ من علاك ولل ... آفاق من ذكرك المحمود آفاق
ومن أخرى:
يا أهل لست بمشتاق إلى وطني ... حتى أرى خيل فناخسر بينكمُ
أضحي بهنّأ في الأضحى بمنزلةٍ ... لا العرب نالت مراقيها ولا العجم
أصغر بأضحية في غير يوم وغى ... فما أضاحيك إلا الخيل والبهم
وإنما أنت ألطف الله جسّمه ... لنا وفي يديك الأرزاق والقسم
عدلت حتى هممنا أن نجور، وكم ... من شاكر نعماً في ضمنها نقم
إنّ المسيح وقد بانت دلالته ... لولا هداه لما ضلّت به الأمم
في كلّ ناحية لم ترعها أممٌ ... الهدي منها بيعد والأذى أمم
إن البلاد ومن فيها مروّعة ... بها إليك وإن ما طلتها قرم
وما نبالي إذا ما كنت شاهدها ... إن غاب معتضد عنها ومعتصم
عدها بنصرك أو قل سوف أدركها ... فإنّ قولك في أمثالها قسم
ومن أخرى:
يشبهها المداح في البأس والندى ... لمن لو رآه كان أصغر خادم
ففي جيشه خمسون ألفاً كعنتر ... وأمضى وفي خزّانه ألف حاتم
ومن أخرى:
ومدح غيرك ذنب لا يقال، وما ... نصوغه فيك تهليل وتحميدُ
فعش أعش في ذري رحب ودم تدم ال ... خيرات لي وابق يبق المجد والجود
وقال من أخري يصف بها قصراً بني على دجلة ونقشت على حيطانه أشعاره:
فالروض عقفت الصّبا أصداغه ... والموج صفقت الشمال طراره
وأظن دجلة أسلمت، أو ما رأي ... ت الجسر يقطع وسطها زنّاره
وحكى بناء المجد فيها غارس ... غرس الصنائع حولها أشجاره
قد صوّر الفلك المدار كأنّه ... أنشاه قبل كيانه وأداره
وبنى على شرف الثريا قصره ... وطحا على فلك النعائم داره
فالشيّد يصقل صانعوه لجينه ... والسّاج ينقش مخلصوه نضاره
شغلت خواطرنا ولحظ عيوننا ... مذ صار يجعل طرزه أشعاره
أوسع مثالاً إن خطرت بباله ... ونل السماء إذا بلغت دياره
ينسى العمالق واصفٌ أخباره ... ويهين مصر معدّدٌ أمصاره
ومن أخرى في وصف الحرب، وهو أحسن ما قيل فيها:
يا سيف دين الله ما أرضى العدى ... لو أنّ سيفك مثل عدلك يعدل
ما إن سننت لهم سناناً في الوغى ... إلا أطلّ عليه منهم أيطل
فالروض من زهر النجوم مضرّجٌ ... والماء من ماء الترائب أشكل
والنقع ثوبٌ بالنسور مطيّر ... والأرض فرشٌ بالجياد مخيّل
يهفو العقاب على العقاب ويلتقي ... بين الفوارس أجدلٌ ومجدّل
وسطور خيلك إنما ألفاتها ... سمرٌ تنقّط بالدماء وتشكل
ومن أخرى في وصف يوم الفصح وإقامة رسمه:
لو لا اشتياق الماء كفك لم يكن ... قلب الندى وحشي السحائب تنزلُ
ولقد نثرت على الهوا أمثاله ... ذا سجسجٌ صافٍ وهذا سلسل
وكأنما ذهبيّ زرّافاتنا ... ترمي بأسهم فضة تسلسل
من فوق كل ذؤابتين سحهابةٌ ... أو بين كلّ اثنين منّا جدول
فأرقت حتى ماء وجهي إنّه ... مع غير ماء الورد لا يتبدّل
فاترك لنا ماء الشباب ولا ترق ... ماء الصوارم فهو فيها أجمل
ومن أخرى وقد دخل عبد الله الدولة إصبهان والتقى مع أبيه ركن الدولة وأخويه :
لم يدر حيّ وقد جاء البشير به ... إنّ الزمان لما نرجوه متّسع (1/309)
فزارها ليث غاب فرسٌ ... وبدر تمّ عليه التاج والخلع
لما تطلع والرايات تكتمه ... في ظلها وشعاع الشمس مرتفع
أعدى بإقباله من أهلها نفراً ... لم يعلموا أن درّ السعد يرتضع
فليهنها منه روض زهره درر ... فتن العقود ومزن قطره دفع
لاحظ أباك فهذي مصر معرضة ... وأنت يوسف والأسباط قد جمعوا
لكنهم ما نووا غدراً ولا نقضوا ... عهداً ولا أضمروا غلاً ولا ابتدعوا
أيا أخا الجود وابن المجد لا بلدٌ ... إلاّ بذكرك أو بالسيف يفترع
فدىً لجودك آمالي وسابقها ... ومطمع من بحار الشعر ممتنع
فالقائلون بطاء عن مداي، وإن ... أبدعت معنىً فهم في أخذه سرع
همُ إذا خلطوا شعري بشعرهم ... كالطير يهذون أو يحكون ما سمعوا
ومن أخرى يذكر فيها التقاه بالطائع لله بعد أن رده إلى مدينة السلام وكان فارقها وهو شاب وعاد وهو أشيب:
واشتاق طلعتك الخليفة مظهراً ... لك شوقه المطوي في أسراره
ودعا الملوك فلم يلبّ دعاءه ... إلاّ أحقهم بدار قراره
عظّمت أمر الله في تعظيمه ... وأقمت دين الله في استحضاره
وافاك في برد النبي محمد ... بهدي النبي وسمته ووقاره
يشكو إلى الإسلام وخط مشيبه ... ما كلّفته الترك من أسفاره
حتى بدا عضد الهدى وكأنّما ... كان الخضاب أحال شيب عذاره
حتى إذا أبدى الإمام أمامه ... ملكاً كبدر التمّ في أنواره
خلنا على الكرسي ليثاً غابه ... سمر القنا نبتت بفيض بحاره
وغداة ظلت مساير الإقبال في ... خلع الإمام وطوقه وسواره
متسوراً بأهلة متطوقاً ... بالشمس أو بالبدر أو بإطاره
في خلعةٍ صبغ الشباب بلونها ... فالخلق قد جبلوا على إيثاره
هذا من أملح ما مدح به اللباس الأسود، وقد سبق إلى ذلك.
؟؟غرر من سائر مدحه وما يتصل بها قال من قصيدة في أبي الوفاء طاهر بن محمد:
ركوب الهول أركبك المذاكي ... ولبس الدّرع ألبسك الغلائل
ويومك ضامنٌ لغدٍ علوّاً ... وعامك ملحق البشري بقابل
وله في عبد العزيز بن يوسف يذكر قدومه على الخليفة الطائع لله رسولاً من عضد الدولة وبلاغته فيما تحمله:
ولما وقفت أمام الإملم ... تأخر خلصانه والشيعْ
دنوت إلى تاجه والسرير ... فهذا تعالى وذاك اتسع
وضاحك برد النبي القضي ... ب أنساً بخوضك فيما شرع
سفرت فتيمّه ما رأى ... وقلت فأطربه ما سمع
وأثنت فضائلك الباهرات ... على ملك الدهر فيما اصطنع
طلعت فكنت كنجم الصبا ... ح دلّ على الشمس لما طلع
ومن كلف الدهر أمثالكم ... فقد كلف الدهر ما لم يسع
وما أحسنها في دلالة الرسول على المرسل.
ومن أخرى له فيه:
كرمت وسدت فالجدوى انتهاب ... إذا زرناك والمدح اقتضاب
أخزّانٌ وما أبقيت مالاً؟ ... وأبواب وقد رفع الحجاب
ومن عيدية:
وإذا هنّئ الملوك فصبّح ... ت من العيد أسعد التهنئات
وفداك المحل فالنحر في أر ... ض منىً والمهل في عرفات
وتعجّلت أجر من خلع الإح ... رام عنه الأطمار في الميقات
وأجاب الإله فيك دعائي ... غافر الذنب سامع الأصوات
زرته والغنى مني ويدي قد ... أتعب الناس عهدها بالصلات
فكأني ملكت ناصية الده ... ر فصرّفتها على شهواتي
ومن قصيدة أخرى:
إن كان بالكرم الخلود فما أرى ... في العالمين سوى سعيد يسلمُ
وله من الحسن البديع برافعٌ ... وعليه من بشر السماحة ميسم (1/310)
عبقٌ به مسك الثناء تكاد في الن ... ادي نوافج ذكره تتكلم
ومن أخرى:
قد قلت حين أفاض أحمد سيبه ... يا شقوة المتشبهين بأحمد
يشرون مثل جياده وعبيده ... أفيقدرون على ابتياع السؤدد
ومن أخرى:
هو بحرٌ من مائه ذائب التب ... ر وأدنى أحجاره الياقوت
لي طعام من داره وشرابٌ ... ومقيل في ظله ومبيت
ومن أخرى له:
أقبل عليّ وقل ضيفي ومتّبعي ... وشاعري قاصدي راجي ممتاري
أنت الإمام فمن أدعو وحضرتك ال ... دنيا فأين أقضي بعض أوطاري
ومن أخرى:
أفارق بغداد لا عن قلىً ... وأسري إلى البين لا عن كرم
أروح وأغدو ولي قائدا ... ن عزّ الإباء وذلّ العدم
وأرجو فتىً مكرم للندى ... كما رجّت الأرض صوب الديم
ومن أخرى:
ليس الوزارة إلاّ عندكم ولكم ... ولا مغارسها إلا بدوركم
لو أنصفت كلّ أرضٍ في منابتها ... لكان في أرض قمٍّ ينبت الكرم
الشكوى والعتاب قال:
أفلا أجاز ولي ثلاثة أشهرٍ ... لا تعلمون بما أقيم تجمّلي
قد بعت حتى بعت طرفاً قائماً ... تحت القدور على ثلاثة أرجل
ورهنت حتى قد رهنت منادمي ... ومناشدي ومذكري ومعللي
فرأيت حالة حاسديك كحالتي ... ورأيت منزل حاسيديّ كمنزلي
ومن أخرى:
لبست العدم حتى صار ذيلي ... يضيق تقبلي فيه كزيقي
وكادحت المطالب بعد ضرّ ... ودارأت المعيشة بعد ضيق
فقد أوقدت صندوقي ثيابي ... وصبّ الماء في حبّ الدقيق
فهل في الناس يا للناس حرّ ... يبيض وجه ممتحن مضيق؟
أريد حين يصلح بعض حالي ... فإنّ الناس كلّهم صديقي
ومن أخرى:
قطعتكم برغم المجد شهراً ... أشدّ عليّ من شهر الصيام
وكيف أزوركم والمزن تبكي ... على داري بأربعة سجام
وكانت منزلا طلق المحيا ... فصارت وادياً صعب المرام
وبحراً من عجائبه خلوصي ... إليكم ظامئاً والبحر طامي
بناتي كالضفادع في ثراها ... وأهلي في الروازن كالحمام
حوالينا بذاك ولا علينا ... كفانا الله شرّك من غمام
تهافت ركّع الجدران فيها ... سجوداً للرعود بلا إمام
كأنّ مصون ما أحرزت فيها ... على أبواب مشرعة الخيام
فلا بابٌ يردّ ولا جدار ... يرد الطّرف عن وجهٍ حرام
وكانت جنّة الفردوس عادت ... ملاعب جنّةٍ ووكور هام
ومن أخرى:
زرت حتى حجبت وانتقب النا ... س نقابين طرّزا باحتشامِ
إن بوّابك القصير طويل ال ... باع في سوء عشرتي واهتضامي
هو تعويذ ملكك البارع الحس ... ن وشيطان عبدك المستضام
سمج الوجه لو غدا حاجب البي ... ت كفرنا بالحجّ والإحرام
ومن أخرى في سابور الوزير يشكو حاله وسقطه في سكره:
محاسن غضّت ناظري من تعتبا ... وفضل نهاني وصفه أن أشببّا
ترى كبرياء الملك فوق جبينه ... فتقرأ سطراً بالمهانة معربا
وليس الذي آباؤه وجدوده ال ... ملوك كمصنوع إذا ما تنسيا
فيا ناظر الإسلام هل أنت ناظرٌ ... إلى خادم أثنى عليك وأطنبا
إلى شاعر نادى وقد فغر الردى ... له فاه سابور معي فتهيّبا
ألم يخبر الشرب النشاوي بقصتي ... ولم يتغن الركب بي حين أهدبا
ولم تتحدث في الخدور بسقطتي ... عذارى يقلّبن البنان المخضبا
فدى الشعراء الشامتون بقصتي ... فتى في سماء الشعر يطلع كوكبا
فتى لم يسر إلا الذي صاغ أو روى ... وإن قعقع المغرور منهم وأجلبا (1/311)
أظنوا بأني إن سقطت تكسرت ... فوافي أو عاودت فكري وقد أبى
توهن جسمي فاشمتوا أو تجملوا ... ولكنّ عضباً بين فكي ما نبا
وكم سار شعر قاعد عنه ربه ... ودوّن قول من سطيح وصوّبا
سلوا الموت عني كيف فللت غربه ... ونازعته نفسي وقد كرّ مغضبا
شربنا وكان الشرب بعد سفورنا ... على نرجس قبل الشبيبة شيبا
ودجلة تجلو في المصندل شاطئاً ... يرق وطيّاراً يحفّ وربربا
وكانت لنا في جبهة الدهر ليلةٌ ... كهمّك لان العيش فيها وأخصبا
عفا الدهر عنها بعدما كان ساخطاً ... وأحسن فيها بعدما كان مذنبا
فيا فرحتا لو كنت أصبحت سالما ... ويا سوءتا إن مركبي زلّ أو كبا
إذا لم أعربد في أواخر نشوتي ... فلا عار إن خطب علي توثبا
وصبراً على خير الخمار وشره ... بما قلت أهلا للكوؤس ومرحبا
أروح وصبغ الراح يخضب راحتي ... وأغدو بعضو من دمي قد تخضبا
فلو بصرت عين الوزير بشاعر ... على مركب قد شانه الله مركبا
رأى اللهو ميتاً والمجون ممدداً ... صريعاً وجثمان السرور معذبا
وباكرني أشياخ قومي فأكثروا ال ... فضول لعمري والأذى والتعجبا
يقولون لي تب لا تعود لمثلها ... وهيهات ضاع الواعظ عندي وخيّبا
وكم قبلها قد متّ بالسكر مرةً ... وعدت فكان العود أحلى وأطيبا
كذا أبداً إما تراني مجرراً ... ذيولي سكراً أو كسير مشعبا
ولكن على الأحرار حمل مؤونتي ... إذا ذهبت بي نبوة الدهر مذهبا
ولما جفانا من ألفنا وصاله ... وأخلف عام كان يرجى وأجدبا
رهنّا وصرّفنا وبعنا منادلا ... وحليا ومذخوراَ إلينا محببا
رأيت ابنتي قد أحرزت بعض حليها ... فأنشدت تعريضاً لها وتشبّبا
تجول خلاخيل النساء ولا أرى ... لرملة خلخالاً فقالت هيا أبا
سلبت الجواري حليهن فلم تدع ... سواراً ولا طوقاً على النحر مذهبا
فقلت لها ظل الوزير يبيحنا ... جناباً إذا رضنا به الدهر أعتبا
إذا كان بدر الملك سابور طالعاً ... فلست أبالي بعده من تغيبا
؟ما أخرج في وصف شعره قال من قصيدة في أبي الريان:
لي فيك التي ترى البحتري أم ... تار في نظمها أبا تمام
فهي لفظٌ سهلٌ ومعنى بديع ... غرّه الفكر درّة في النظام
كلما أنشدت شهدت بأن ال ... شهر أمر مسلّم للسلامي
ومن أخرى:
وأزور دارك وهي آنس جنّةٍ ... فيفيض حولي من نداك الكوثر
وأقول فيك فلا تفاخر طيّءٍ ... إلا وتسجد لي وتركع بحتر
ومن أخرى:
وهنّيته وحياً من الشعر لم يلق ... بألفاظ غيري عند غيرك درسه
صحيفته قلبي إذا ما كتبه ... وأقلامه الأفكار والطبع نقسه
ومن أخرى:
وقافية منك أوضاحها ... ولكنّ لفظي فيها لمعْ
عراقية اللفظ شامية ال ... محاسن علوية المصطنع
فيا واحد المجد صنها فمن ... سوى واحد الشعر ما تستمع
مدحتك حتى بلغت المشيب ... وكنت ببابك دون اليفع
وقال من أخرى:
وأعطيت طبع البحتري وشعره ... فمن بالي بمال البحتري وعمره
وقال من أخرى:
ومضمومة تحت حضن الدجى ... مقبّلة بشفاه الأماني
تروق زهيرا أزاهيرها ... ويعشو إلى ضوئها الأعشيان
ومن أخرى:
وقد زعمت رواة الشعر أنّي ... ملكت عنان أبلقه العقوق
///بن سكرة الهاشم
أبو الحسن محمد بن عبد الله بن محمد (1/312)
شاعر متسع الباع، في أنواع الإبداع. فائق في قول الملح والظرف، أحد الفحول الأفراد، جار في ميدان المجون والسخف ما أراد. وكان يقال ببغداد: إن زماناً جاد بابن سكرة وابن الحجاج لسخي جداً. وما أشبههما إلا بجرير والفرزدق في عصريهما، فيقال: إن ديوان ابن سكرة يربى على خمسين ألف بيت، منها في قينة سوداء يقال لها خمرة أكثر من عشرة آلاف بيت، وكانت عرضة نوادره وملحه، كطيلسان بن حرب، وهن أبي حكيمة، وحمار طباب، وضرطة وهب. وحكى أبو طاهر ميمون بن سهل الواسطي أن ابن سكرة حلف بطلاق امرأته - وي ابنه عمه - أنه لا يخلى بياض يوم من سواد شعره في هجاء خمرة، ولما شعرت امرأته بالقصة كانت كل يوم إذا انفتل زوجها من صلاة الصبح تجيئه بالدواة والقرطاس وتلزم مصلاه لزوم الغريم غير الكريم، فلا تفارقه ما لم يقرض ولو بيتاً في ذكرها وهجائها، وقد أخرجت من عيون ملحه ما يجمع الحجول والغرر، ويمتع السمع والبصر.
الغزل والنسيب قال في غلام بيده غصن لوز قد نور:
غصنُ بانٍ بدا وفي اليد منه ... غصنٌ فيه لؤلؤ منظومُ
فتحيرتُ بين غصنين في ذا ... قمرٌ طالع وفي ذا نجوم
وقال:
وغزالٍ لولا تميمة شعرٍ ... ذكرته لقلت بعض الجواري
شارب أشرب الصبابة قلبي ... وعذارٌ خلعت فيه عذاري
وقال:
ويوم لا يقاس إليه يومٌ ... يلوح ضياءه من غير نار
أقمنا فيه للذات سوقاً ... نبيع العقل فيها بالعقار
وقال:
من عذيري من شادنٍ لا يراني ... وهو روحي أهلاً لردّ السلام؟
أنا من خده وعينيه والثغر ... ومن ريقه البعيد المرامِ
بين وردٍ ونرجسٍ وتلالي ... أقحوانٍ وبابلي مدام
وقال:
الغصن منسوبٌ إلى قده ... والورد منثورً على خدهِ
بدرٌ يود البدر في حسنه ... بأنه يُعزى إلى عبده
سألته في صحوة قبلةً ... فردني والموت في رده
حتى إذا السكر لوى رأسه ... قبلته ألفاً بلا حمده
وقال في غلام يهواه وهو سميه:
إذا باسمي دعيتُ حننت شوقاً ... وذكرني به الداعي حبيبي
فليت كما اتفقنا بالأسامي ... وألفتها اتفقنا بالقلوبِ
وقال:
الليالي تسوء ثم تسر ... وصروف الزمان ما تستقر
غير أني عن الحوادث راضٍ ... بعد سخط والعيش حلوٌ ومر
كنت صباً بواحد ثم ثني ... ت فلي بالجميع وصلٌ وهجرُ
من كمثلي وعن يمينه شمسٌ ... تتجلى وعن شمالي بدرُ
ذا على خده من المسك سطرٌ ... وعلى طرف ذا من الغنج سطر
بت يجري علي من ريق هذي ... ن وكأسي شهدٌ ومسكٌ وخمرٌ
لي من ريق ذا ومقلة هذا ... مع كأسي سكرٌ وسكرٌ وسكرُ
وقال:
حذار من وصل من بليت به ... فقد لقيت الردى بجفوته
دنوت منه كميا أقبله ... فلم تدعني نيرانُ وجنته
وقال:
قالوا التحى وستسلو عنه قلتُ لهم ... هل يحسن الروض ما لم يطلع الزهر
هل التحى طرفه الساجي فأهجره ... أم هل تزحزح على ألحاظه الحورُ
وقال:
يا ضاحكاً يستهل مضحكه ... عن برد واضحٍ وعن شنب
أعطيتني قبلةً رشف بها ال ... شهد مشوباً بعبرة العنب
كأنني إذ لثمتُ فاك بها ... لثمت تفاحةً من الذهب
وقال:
فديتُ من الناس من لحظه ... بلا خنجرٍ كاد أن يجرحا
كتمت هواه زمان الصبا ... وصرحت بالحب لما التحى
وقيل محا الشعر لما بدا ... محاسنه منه واستقبحا
فقلت لهم ما محا حسنه ... ولكن صبري عنه محا
بنفسي عذارٌ بدا طالعاً ... على ناضر الورد ما أملحا
فصير في رزةٍ أصبعي ... وأوثق كفي تحت الرحى
وقال:
أشبهه وحاشية لديه ... ثقالاً كلهم رخمٌ وبومٌ
ببدر التمِّ إشراقاً وحسناً ... وقد سترت محاسنه الغيومُ (1/313)
عهدت البدر تكنفه نجومٌ ... وذا بدرٌ تطيف به رجوم
وقال:
عابوا وقالوا تسل عنه ... فقلتُ هذا أوان حبي
إنّ الذي عبتموه منهُ ... هو الذي يشتهيه قلبي
وكلما عبتموه عندي ... زاد جنوني به وعجبي
وقال:
أحببت بدراً ما له مشبهٌ ... في الحسن لولا أنه جافي
أحورُ في مقلته حجةٌ ... للعين والشين مع القاف
وفي ارتجاج الردف داعٍ إلى ... نونٍ وياءٍ قبل ما كاف
سألته الوصل فلم يحتشم ... وقال قدم نقدك الوافي
وقال:
يا سيدي مؤملي ... قد شفني شوقي إليكا
دمعي عليك موردٌ ... فكأنه من وجنتيكا
وقال في غلام أعرض:
قالوا بليت بأعرجٍ فأجبتهم ... العيب يحدث في غصون البان
ماذا علي إذا استجدت شمائلاً ... وروادفاً تغني عن الكثبان
إني أحب جلوسه وأريده ... للنوم لا للجري في الميدان
في كل عضوٍ منه حسنٌ كاملٌ ... ما ضرني أن زلت القدمان
وله:
ليس شرف المدام للمستهام ... مذهباً ما به من الأسقام
كلما دبت المدامة في الأع ... ضاء دب اشتياقه في العظام
وقال في غلام رش عليه ماء الورد:
ليت شعري عن ماء وردك هذا ... هو من وجنتيك أم شفتيكا
رق حسناً وطاب عرفاً فقد د ... ل بأوصافه الظراف عليكا
وقال:
بات سكران لا يحيرُ جواباً ... عن كلامي وبت ألثم فاهُ
وأتاني إبليس يأمر بالسو ... ء فما كان ذاك لا وهواه
شيمة الظرف أن أصون حبيبي ... عن قبيح يراه أو لا يراه
أي فرقٍ بين الحبيب إذا ني ... ك ولم يحتشم وبين سواه
وقال:
في وجه إنسانةٍ كلفتُ بها ... أربعةً ما اجتمعن في أحد
الخد وردٌ، والصدغ غاليةٌ ... والريق خمرٌ، والثغر من برد
لكل جزءٍ من حسنها بدعٌ ... تودع قلبي بدائع الكمد
وقال:
يا نظير البدر في صورته ... وشبيه الغصن في قامته
والذي ينتسب الورد إلى ... روضةٍ تضحك في وجنته
ما ترى في عاشق مكتئبٍ ... دمعه وقفٌ على مقلته
واقفٌ بالباب يشكو ما به ... فمتى تنظر في قصته
وقال:
بأبي الأسمر الذي فزتُ منه ... بهلالٍ يبين للناظرينا
قد سقانا فما شفانا مداماً ... وشربنا من ريقه فروينا
وقال:
غزالُ فؤادي إليه صبا ... وهش ولولاه لم يهشش
أجل نظراً في نقا خده ... وفي خدي الأصفر الأنمش
تجد صحن خديه تفاحة ... وخدي من أجله مشمشي
وقال:
خذ من الدهر ما صفا لك منه ... ودع الفكر في بنات الطريقِِ
أي شيءٍ يكون أطيب من كأ ... س رحيقٍ شيبت بريق عشيق
وقال:
تظن أني أسلو ... كلا وربٌ البنيه
الآن تيم قلبي ... باللحية السجية
الخدُ خمرة فضلٍ ... على الخدود النقيه
فيه بقية حسن ... لم تبقِ مني بقيه
وله:
أنا والله تالفٌ ... أيسٌ من سلامتي
أو أرى القامة التي ... قد أقامت قيامتي
وقال:
وشادن ما رأيته غرته الغ ... راء إلا شككت في القمر
قد قلت لما رأيت صورته ... تبارك الله خالق الصور
وقال في غلام زطي زامر:
ظبي من الزط تعلقته ... فصار معشوقي ومولاي
أحسن والإحسان لم يجمعا ... في حسنٍ إلا لبلواي
إذا نأت روحي عن جسمها ... رد لي النأي بالناي
وقال في غلام يعرف بابن برغوث من مشاهير الملاح:
بليت ولا أقول بمن لأني ... متى ما قتل من هو يعشقوهُ
حبيبٌ قد نفا عني رقادي ... فإن غمضتُ أيقظني أبوه (1/314)
وقال:
مستهامٌ ضاق مذهبهُ ... في هوى من عز مطلبه
كل أمري في الهوى عجبُ ... وخلاصي منه أعجبهُ
لي حبيبٌ كله حسنٌ ... فعيون الناس تنهبه
صيغ من ماءٍ ولي نظرٌ ... ليس يروي حين يشربه
ضاع من عيني فمقلتها ... في بحار الدمع تطلبه
منعتني من مقبلهِ ... حين أدنوا منه عقربه
واستدارت فهي تحرسه ... من فمي بخلاً وترقبه
وقال:
أهلاً وسهلاً بمن زارت بلا عدةٍ ... تحت الظلام ولم تحذر من الحرس
تسترت بالدجى عمداً فما استترت ... وناب إشراقها ليلاً عن القبس
ولو طواها الدجى عنا لأظهرها ... برق الثنايا وعطر النحر والنفس
المجون وما يجري مجراه قال:
قد قلتُ لما مر بي معرضاً ... كالبدر تحت الغسق الداجي
يهتز في حشيته متعباً ... من كفل كالموج رجراج
ويلي على حل سراويله ... فإنه شد على عاج
وقال في غلام تركي شرب معه:
أيها التركي ما عن ... دك للصب النحيل
هل إلى ما يستر القر ... طق عني من سبيل؟
أشتهي ذاك وأخشى ... صولة الليث الثقيلِ
وقال:
يا ليلةً ليس فيها ... إلى الفقاح سبيلٌ
طالت على ذي اهتياج ... له قمد طويل
مسكرجٌ تتوالى ... دموعه وتسيل
رقاده في الدياجي ... حتى ينيك قليل
موترُ مستقيم ... عليه رأس ثقيل
أنزلته خان سوء ... عنه يطيب الرحيل
وقال:
قل للكويتب عني ... بأي أيرٍ تنيكُ؟
والأير منك صغير ... نضوٌ ضعيفٌ ركيك
شارك بأيرك أيري ... ونك فنعم الشريك
وقال:
إني بليت بشادن غنجٍ ... حسن الشمائل وافر الكفلِ
يبغى الدراهم وهي معوزةٌ ... عندي فحبلي غير متصل
مستعجم الألفاظ أجهل ما ... يبدي ويجهل فهمه غزلي
وإذا مدحت فليس يفهمه ... والفارسية ليس من عملي
فبحق ما بيني وبينك من ... ود بلا زيغ ولا ميل
امنن علي بقربه فعسى ... أحيا بزورته ويسمح لي
الجود منك سجيةٌ أبداً ... والمدح والتقريظ من قبلي
وقال:
إذا لم يكن للأير بختٌ تعذرت ... عليه جهات النيك من كل ناحية
حرمت الغزال الواسطي لشقوتي ... فدمعة أيري فوقه خصييه جاريه
وفاز به كل البرايا، وربما ... غدت عقدي في خدعة المرد واهيه
أقول لأيري وهو يرقب فتكةً ... به خبت يا أيري وغالتك داهيه
عزاءً فقد خاس الرجل بسيدي ... علي ولاذوا بالدعي معاويه
وقال:
لما رأت كلفي بها وصبابتي ... وتأملت شمطاً يلوح بعارضي
قالت أكلت جناك ثم أتيتنا ... بمدود من تمر عمرك حامض
أفحين نام الأير منك وصلتنا ... تبغي النكاح بغير أيرٍ ناهض
لا تعرضن لمهرةٍ إن لم ترض ... كل الرضى كسرت ضلوع الرائض
وقال:
وجاهلة هبت سفاهاً تلومني ... وما عندها من لذة القصف ما عندي
توبخني بالشيب مرشدٌ ... لعمري ولكن لست أنشط للرشد
فقلت لها كفي ملامك إنني ... بطيء عن العذال في زمن الورد
وقال:
وبات في السح معي واحدٌ ... من أكرم الناس ذوي الفضل
أفسوا فيفسو وهو لي مسعدٌ ... كأنما أملي له ويستملي
وقال:
عشقت للحين قينةً عطفت ... قلبي بالحسن كل منعطفِ
ورمت نيكاً لها فكيف به ... لولا سفاهي والبدع من حرفي
قلت أرفقي بالشريف فابتسمت ... عن لؤلؤٍ ما اعتزى إلى صدف (1/315)
عجباً وأبدت كالقعب عض له ... أيري علي بيضه من الأسف
وصفقت فوقه تحسرني ... وهو كثيف المجس كالهدف
حتى إذا ما رنا له ذكري ... وطال حتى علا على كتفي
قلت بحقي عليك تطمع أن ... تولج في ذا بالشعر والشرف
تالله لا نكتني بقافيةٍ ... ولا بفخرٍ فانسل أو فففِ
أسبلت ثوبها عليه فلم ... أملك سلواً ولج بي كلفي
فعجت عنها والأير ينشدني ... بيتاً ويبكي بأدمع ذرف
قال لي الشوق قف لتلثمه ... فمن حذار الرقيب لم أقف
وقال:
أيا من كله قمر ... وكل لحاظه حورٌ
لقد طالت عداتك لي ... وأيامي بها قصر
متى في البرج تحصل كي ... تزيف ويهدر الذكر
وتنشر بيننا قبلٌ ... يطير لنارها شرر
وقال:
وسوداء بورك في بعضها ... ولا نال بؤساً فما أضيقا
نزوت عليها ولا علم لي ... بأن لها كعثناً محرقاً
وكدت في الحر أن أشتوي ... ومن شدة الضيق أن أخنقا
وألفيت من جسدينا معاً ... لمبصرنا شبحاً أبلقا
فإن أخدشت قرطست بالمنى ... وإن تممت ولدت عقعقا
وقال:
لخمرة عندي حديثٌ يطول ... رأتني أبول فكادت تبولُ
فلما نهضت أتاني الكتاب ... وجاء الهدايا ووافى الرسول
وقالت تقول بنا يا فتى ... فقلت وأنعظت لم لا أقول
وقال:
وأجر غلماني في واسط ... جوعٌ، وكانوا لا يرامونا
جادوا بما كنت ضنيناً به ... فاتسعوا مما يناكونا
لو أنّ رزقي مثلُ أدبارهم ... كنت من الإثراء قارونا
ملح من أهاجيه لخمرة قال:
غشت خميرة يوم العرس حاجبها ... بريقها وأتتني وهي مختضبه
فقلت للزوج لا تغررك حُمرتها ... فإنها القفل موضوعٌ على خربه
وقال من السريع
يا سائلي عن ليلةٍ لي مضت ... وطيبها عند أبي الجيش
وكيف غنت خمرةٌ لا تسل ... غنت فأغنتنا عن الخيش
كف على الطبل لإيقاعها ... وكفها الأخرى على الفيش
وربما مرت لها فسوةٌ ... من فمها عفت على العيش
وقال:
رب عجوزٍ مستعينيه ... سلقيةِ اللون سلوقيه
عاجية الشعر إذا استضحكت ... أبدت ثنايا آبنوسيه
ذات حر عنبلهُ بارزٌ ... كمرقبٍ في وسط بريه
وشعرةٍ بالقمل منظومةٍ ... كالودع في عقصةٍ كرديه
يفتر ذاك الصدغ عن بظرها ... كقنفذ عض على ريه
مسنة تصبو إلى أمردٍ ... فهي على العاهة لوطيه
وقال:
عجبت لخمرة البخراء أنى ... أقامت مع مؤاجرها زماناً
وليس لأيره طولٌ ولكن ... ينيكُ به فيردفه لساناً
لحاه الله كيف يدس فيها ... لساناً ربما درس القرانا
وقال:
هل لك يا خمرة في تجرةٍ ... مربحةٍ ما مثلها تجره
صيري إلى البصرة واسترزقي ... ربك بالنكهة في البصره
فلو عرضت الريق في سوقها ... لا بتيعت التفلة بالبدره
تزكو بها النخل وتحمر في ... غير أوان الحمرة البسره
وقال:
لا تسمعوا خمرة فقد هرمت ... وانكسرت تلكم القواريرُ
رث غناها ورث كعثنها ... والخلق المسترث مهجور
وكل بازٍ يمسهُ هرمٌ ... تخرى على رأسه العصافير
وقال:
وقد كنت قبل الشيب أعشق خمرةً ... وتفرطُ في عشقي وتضرطُ من حبي
إلى أن عفا حرها ودبب منعظي ... وصارت قفا نبك وصرت ألا هبي
وقال:
حسبي سواك وبسي من وصالك لي ... شغلت عنك بمن أهواه فاشتغلي
لا تعذليني على ما كان من مللٍ ... من ذا يراك فلا يصبو إلى الملل (1/316)
هرمت حتى تناسيت اللحون معاً ... وصرت مفرغة الألحاظ والمقل
إن كنت أبصرت أسى منك في بصري ... فلا بلغت الذي أهواه من أملي
البحر أنت وأيري ليس من سمكٍ ... وليس بيني وبين البحر من عمل
وحصل معها في دعوة فغنت. فقال ابن سكرة:
ذنبي عظيمٌ ما أرى يُغفرُ ... في وصل من نكهتها مبعر
فالحمد لله على حكمه ... هذا دليلٌ أنني مدبر
قد قلت لما لاح لي ثغرها ... ولا منه الخزف الأخضر
وانتثر السوسن من صدغها ... وثار منها نفس أبخر
وشف قلبي نتن آباطها ... يا معشر الناس قفوا فانظروا
ما أخرج من سائر أهاجيه قال:
تهت علينا ولست فينا ... ولي عهدٍ ولا خليفه
فته وزد ما علي جارٍ ... يقطع عني ولا وظيفه
ولا تقل ليس في عيبٌ ... قد تقذف الحرة العفيفه
الشعر نارٌ بلا دخانٍ ... وللقوافي رقى لطيفه
كم من ثقيل المحل سامٍ ... هوت به أحرفٌ خفيفه
لو هجى المسك وهو أهل ... لكل مدحٍ لصار جيفه
وقال:
أما الصيام فشيء لست أعدمهُ ... مدى الزمان وإن بيتُ إفطارا
أغشى أناساً فأغشى في منازلهم ... جوعاً علي ولا أغشى لهم نارا
قد ألجموا القمل أن ترزأ دماءهم ... وألجموا في الكوى الجرذان والفارا
قال:
وهنوا بالصيام فقلت مهلاً ... فإني طول دهري في صيام
وهل فطر لمن يمسي ويضحي ... يؤمل فضل أقواتِ اللئام
وقال:
أكره أن أدنو إلى داركم ... لأنني أخشى على نفسي
ضرسي طحونٌ وعلى خبزكم ... من أكل مثلي آية الكرسي
وهو الذي أقعدني عنكمُ ... فكيف آتي ومعي ضرسي؟
وقال:
عليلٌ لا يعاد من الخساسة ... له نفس تحيد عن النفاسه
دخلت أعوده فازور عني ... كأني جئته لأدق رأسه
وقال:
قام إلى كلبٍ له مثله ... فلم يزل يعلوه بالسيفِ
فقلت ما ذنب أخيك الذي ... يقنع من زادك بالطيفِ
فقال لي لا عفو عن ذنبه ... حاف علينا أيما حيف
صانعه الضيف بعظمٍ له ... فنحن في ريب من الضيف
وقال:
كل العجائب قد سمعت وما أرى ... أني سمعت لشاعرٍ قرنان
قرن يحك به السماء ومثله ... ذنب يزور الحوت في الأزمان
وإذا تحدث أحدثت لهواتهُ ... فترى الأنوف تلوذ بالأردان
وترى أخادعه تعط كأرنبٍ ... عكفت عليه مناسر العقبان
وقال:
لا قدست أرضٌ أقمنا بها ... قريبةٌ من طبرستان
ليست خراسان ولكنها ... تقرب من أرض خراسان
لا سقيت جرجان من وابلٍ ... قطراً ولا ساكن جرجان
قومٌ إذا حل غريبُ بهم ... مات من الشوق إلى البان
وقال:
لا وصل الروح إلى تربةٍ ... تضمنت روح أبي روح
والضرطُ والفسو على قبره ... أولى من التأبين والنوح
وقال:
يا جو أمرد يا حليف البلاده ... لك في الفسق عادةٌ أي عاده
أنت لا تعرف الصلاة فقل لي ... لم تأنقت في شرا سجاده
وقال:
يا شاعراً جمت مصائب دبره ... وتكاثفت لوداقه أوجاعه
طلب التطبع في القريض بجهده ... فجرت طبيعته وقام طباعه
وقال:
علامة النحس والخذلان والشوم ... إغراض وجهك عن صقر إلى بوم
كراغبٍ في بناء الزنج من أفنٍ ... وزاهدٍ في بنات الترك والروم
وقال:
تجشأت في وجه بوابه ... ليعرف شبعي فلا أمنعُ
وقلت له إن بي تخمةً ... فهل من دواء لها ينفع؟
فقال لقد غرني معشر ... بهذا الحديث الذي أسمع (1/317)
فلما نذرت بهم صاحبي ... ولاحت موائده أوجعوا
فراحوا بطاناً ذوي كظةٍ ... وأقبلت من أجلهم أصفع
وقال:
يطيل المكث في الإصطبل حتى ... يرى أير الحمار إذا اسبطراّ
فيمرسه ويكثرُ قول طوبى ... لغمدٍ ضم هذا النصل شهراً
وقال:
لنا شيخ يصلي من قعودٍ ... وينكح حين ينكح من قيامِ
صموت فمٍ أخو عي ولكن ... له دبرٌ يطفل بالكلام
وقال لكاتب وعده كاغداً فلم ينجز:
كددتني أن سألتك الورقا ... فكيف حالي إن قاسمتك الورقا
يا كاتباً برزت كتابته ... فصار فيها مقدماً لبقا
أسلم في مكتب المروءة وال ... ظرف وكسب العلا فما حذقا
حتى إذا أسلموه في مكتب ال ... لؤم جرى كيف شاء وانطلقا
ما أخرج من خمرياته وما يتصل بها من الأوصاف قال:
اشرب فلليوم فضلٌ لو علمت به ... بادرت باللهو واستعجلت بالطربِ
ورد الخدود ورد الروض قد جمعا ... والغيم مبتسمٌ والشمس في الحجب
لا تحبس الكأس واشربها مشعشعةً ... حتى تموت بها موتاً بلا سبب
وقال، وقد شرب في الغمر بواسط:
ليلتي في الغمر دهري ... أو يقضي العمر عمري
مر لي في العمر يومً ... لا أجازيه بشكر
بين غزلان النصارى ... أمزج الريق بخمر
وقال، وقد شرب عند الأمير أحمد بن ورقاء:
للأمير الجليل لا ... حط من نبل قدره
قهوةٌ أشبهت سجا ... ياه في كل أمره
ذات صفوٍ كوده ... ونسيمٍ كنشرهِ
فشربنا بحمده ... وانتقلنا بشكرهِ
وسمعنا غرائباً ... من أفانين شعرهِ
فكأنا في الخلد نر ... تع في طيب زهره
وقال:
قم يا غزال من الكرى ... روحي فداؤك من غزالِ
هذا الصبوح وأنت ... أنت وهذه بكر الحجالِ
لا تخدعن عن الشمو ... ل يشوبها ماء الشمالِ
وقال سامحه الله تعالى:
قد بدا الصبح مؤذناً بسفور ... وفرى الفجر حلةَ الديجورِ
فاستقني قهوةً تترجم بالرق ... ة عن دمع عاشقٍ مهجور
وقال:
يا ساهر الطرف قد بدا السحرُ ... وجمشتنا بنشرها الزهر
ورق جلبابٌ ليلنا ودعا ... إلى الصبوح الصباح والقمرُ
فما ترى في اصطباح صافيةٍ ... بكرٍ حناها في الحانة الكبر
رقت فراقت وفات ملمسها ... ولم يفتنا النسيم والنظر
فهي لمن شم ريحها أثرٌ ... وهي لمن رام لمسها خبر
ترى الثريا والغرب يجذبها ... والبدر يهوى والفجر ينفجر
كف عروسٍ لاحت خواتمها ... أو عقد در في الجو ينتثر
في روضةٍ راضها الربيع وما ... قصر في وشي بردها المطر
حيث نأى الناي بالعقول وقد ... أبلغ في نيل وتره الوتر
وقال، وكتب بها إلى يحيى بن فهيد بستهدي نبيذاً:
رسالة من مكد ... وشاعرٍ وشريفِ
إلى فتى مستبد ... بكل فعلٍ ظريف
إليك يحيى اشتكائي ... صحوي بيومٍ طريف
ولست مضمر نسكٍ ... كلاَّ ولا بعفيف
ولو أسام بديني ... لبعته برغيف
موت الوزير دعاني ... إلى التماس طفيف
ولم أزل وهو حي ... في كل خصبٍ وريف
وأنت منه اعتياضي ... يا ذا المحل المنيف
أجل وكهفي وغوثي ... على الزمان العنيف
وفي النبيذ سلو ... عن الغرام المطيف
فامنن علي بضمٍ ... من الدنان كثيف
مستودعٍ ذات لونٍ ... ومطعمٍ حريف
كأنها وهم حس ... أتى بحدسٍ لطيف (1/318)
فقد تبدد شملي ... وأنت للتأليف
وقال:
يا من ثناه وذكره ... بين الورى مسكٌ وعنبر
إني كتبت وزائري ... ظبي مليحٌ الدل أحور
متمنعٌ في الصحو يسم ... ح بالبضاعة حين يسكر
وارى تعذر أمره ... في الكف إن سكرٌ تعذر
فامنن علي بقهوةٍ ... أنف الحبيب بها يعفر
فأنال منه أنا المنى ... وتحوز أنت ثناً وتؤجر
وقال:
إن كنت تنشط للمدي ... ح وللثناء عليك مني
فابعث إلي مع الرسو ... ل إذا أتاك بملء دنِّ
ومتى رضيت بأن أقط ... ع أو أهجن أو أزني
فاصرف رسولي خائباً ... وادفع بقبحك حسن ظني
وقال:
يا فتى الجصاص قد أع ... دمتني الإحسان دفعة
ولزمت الشح بالرا ... ح فما تسخو بجرعه
قد أتى العيد وصحوي ... فيه يا مولاي بدعه
أملي فيك قريبٌ ... ليس فيه لي منعه
شربةٌ من خمرك الصا ... في ومن ندك قطعه
ينبذ الحبُّ فيستنف ... ده الشعر برقعه
وقال:
لنا على النار قدرٌ ... بخاتم النار بكرُ
وعندنا من بقايا ... صبيحة العيد خمر
وقد دعونا غلاماً ... كالغصن أعلاه بدر
فاطلع علينا وساعد ... أو لا فما لك عذر
وقال:
على الأثافي لنا قدورُ ... ساكنةٌ النبض لا تفور
قامت على سوقها لأكل ... ونحن من حولها ندورُ
وعندنا من شراب عمروٍ ... دنٌّ رحيبُ الحشى كبيرُ
لما فضضناه فاح منه ... نسيم مسكٍ ولاح نور
فكن لنا مسعداً وبادر ... يكمل بك الحسن والسرور
واغنم من الدهر صفو يومٍ ... فهو بتكديره جدير
وقال يستهدي نبيذا في ذكره:
وزنجيةٍ لم تعرف الزنج طفلةٍ ... خميصة بطنٍ مسها عندك العطش
فجاءتك تستسقي من الخمر ريها ... فترجع كالحبلى من النسوة الحبش
فكم من هزيل مثلها في ضمورها ... عنيت به حتى تضلع وانتعش
وقال:
للورد عندي محلٌّ ... لأنه لا يملُّ
كلُّ الرياحين جندٌ ... وهو الأمير الأجلُّ
إن غاب عزّوا وباهوا ... حتى إذا عاد ذلوا
وقال من قصيدة:
ويومٍ لا يقاس إليه يومٌ ... يلوح ضياؤه من غير نار
أقمنا فيه للذات سوقاً ... نبيع العقل فيه بالعقار
الشكوى والتفجع وقال:
أرى حللاً وديباجاً حساناً ... فألحظها بطرفِ المستريبِ
وأعرف قصتي وأراد طرفي ... وفي قلبي أحرُّ من اللهيبِ
جنى نسبي علي وصد رزقي ... وأثكلني من الدنيا نصيبي
فوا أسفاً على كستيج قس ... ويا لهفاً على قوس الصليب
وقال:
قد أتى العيد لا أتى ... فلقد أنهج المهج
يليس فيه لهاشم ... ي سرورٌ ولا فرج
إنه عيد أهل ق ... م وقاشان والكرج
يتلاقى بياضهم ... بقلوبٍ من السبج
وقال يتأسف على أيام المهلبي الوزير:
يا صاحبي قفا أبثكما ... ما قد منيت به من النوبِ
وافى الربيع وقد ألفت به ... درر السقاة بدائر النخب
في روضةٍ صبغ الربيع بها ... ورد الخدود بعصفر العنب
وإذا الغلام أدار في يده ... صفراء بعد المزج كالذهب
حمراء يضحك فوق مفرقها ... ثغر الحباب كثغر ذي شنب
أسجدت فوق الخد منه فمي ... شكراً لما أوليت من طرب
هذا حديثٌ كان لي ومضى ... كالأمس ولى ثم لم يثب
أيام كنت من المهالب في ... ربعٍ أغنّ ومرتعٍ خصب
فبمن أعوذ اليوم من كمدٍ ... لا أستقلُّ به من الكرب (1/319)
والورد قد وافى بنضرته ... والنفس تطلب غاية الطلب
طلقتُ لذاتي الثلاث فما ... بيني وبين اللهو من سبب
فإذا بصرت بوردةٍ قنعت ... نفسي بها وقضت مدى أربي
فعلى السرور وكل فائدةٍ ... بعد الوزير سلام محتسب
وقال:
مضى ملكٌ عم البرية جوده ... رؤوف وإن راع الأسود شفيق
سكرت بنعماهُ وجود وزيره ... فقالت لي الأيام سوف تفيق
وقال:
لا عذب الله ميتاً كان ينعشني ... فقد لقيت بضري مثل ما لاقى
طواه موتٌ طوى مني مكارمه ... فذقت من بعده بالموت ما ذاقا
وقال بعض الوزراء:
يا سيدي أنت إن لي خبراً ... أجرى لساني وصلب الحدقهْ
هاك حديثي فإن نشطت له ... فاسمع وإلا فخرق الورقهْ
مستأنس زارني وحسبك بال ... ببغاء ضيفاً ذا فقحةٍ شبقه
باكرني جائعاً فهتكني ... ومص مني دمي ولا علقه
وهو على البخت ناقة فمتى ... قدمت ثوراً بفرثه شرقه
لم يبق في روح برمتي رمقاً ... أتى على اللحم واحتسى المرقه
وعاث في سفرتي كمشبلةٍ ... غرثى بتلك الأنامل اللبقه
قلعاً وبلعاً بلا مراقبةٍ ... لله في عيلتي ولا شفقه
قل للرئيس الذي أنامله ... مبسوطةٌ بالنوال منخرقه
حلت لي الميتة التي حُرمتْ ... فكيف تنبو نفسي عن الصدقه
وقال:
يا سيداً ظل فرداً في سيادته ... يخشى ويرجى لدفع الحادث الجللِ
الشوق ينهضني والعدم يقُعدني ... فمن شناك به ما بي من الخللِ
وقال:
جملة أمري أنني مفلسٌ ... وليس للمفلس إخوانُ
ولك ذي عيش بلا درهمٍ ... فعيشه ظلمٌ وعدوان
وقال:
قيل ما أعددتَ للبر ... د فقد جاء بشده
قلت دراعةُ عريٍ ... تحتها جبةْ رعده
وقال:
وجاهل قال لي: لا بد من فرجٍ ... فقلت للغيظ: لم لا بد من فرج؟
فقال من بعد حين قلت يا عجباً ... من يضمن العمر لي يا بارد الحجج
لو كان ما قلتَ حقاً لم أكن رجلاً ... مقسمُ العمر في الروحات والدلج
أسعى لأدرك حظاً لو حظيت به ... ما كنت أول محظوظٍ من الهمج
ذنبي إلى الدهر أني أبطحي أبٍ ... ولست أعزى إلى قم ولا كرج
وقال:
أمسى يسائل عن حالي يخبرها ... وكيف أمسيت في أهلي وفي بلدي
فقلت حالي بحالٍ من رثائتها ... وعلة الحال تنسي علة الجسدِ
المدائح وما يقترب بها قال من قصيدة في الفرج:
وقائل لم غبتَ عن لحظه ... وأنت من أصغر غلمانه
فقلت ما أجهل فخري بمن ... تسمو به سادات أزمانه
هيبته تمنع من قربه ... وحب يغري بغشيانه
وقد تبلدتُ فهل حيلةٌ ... تبسط أنسي عند لقيانه
وقال لابن لوزة، وقد أهدى إليه دواه:
أخٍ مزجت بروحي روحه جرى ... مني كمجرى دمي في الجسم أفديه
ثم اتفقنا على ألقاب سالفنا ... فصرت في كل حالٍ ما أضاهيه
أهدى إلي دواةً لو كتبت بها ... دهري أياديه لم تنفد أياديه
وقال في أبي الحسن محمد بن عمر بن يحيى:
لقد أمسكت من عمر بن يحيى ... بحبل لا أخاف له انبتاتا
حباني في الحياة ورم حالي ... وأوصى بي أبا حسنٍ وماتا
فكنت مجاوراً للحبر منه ... فلما مات جاورت الفراتا
وقال يهنئ بالعيد من الوافر
عماد الدين قابلك السعود ... وعشت كما تريد لمن تريدُ
وأظهرك الإله على الأعادي ... ومات بدائه فيك الحسود
أتاك العيد مقتبلاً جديداً ... وجدك فيه مقتبلُ سعيد
يهني الناس بالأعياد فينا ... وأنت لنا برغم العيد عيدُ (1/320)
وقال:
ولعمر الإله لولا أيادي ... ك لمات خواطر الشعراء
عشت تطوي الأعياد طي الأعادي ... في سرورٍ ونعمةٍ ورخاءِ
سائر الملح والنوادر قال:
اقر اللهُ عينكِ يا جفوني ... فقد أعتقت من رق السهاد
ويا عيني لك البشرى فنامي ... وتهنيك السلامة يا فؤادي
نزعت عن الهوى وبرئت منه ... إليك وكنت دهري في جهاد
وقال:
يا شاعراً نمتار من ... أفكاره الفقر الدقاقا
شعرٌ لو أن الشهد قي ... س به وجدناه زعاقا
وقال يصف رمكة شقراء:
شقراء إلا حجولٌ مؤخرها ... فهي مدامٌ ورسغُها الزبد
تعطيك مجهودها فراهتها ... في السير فالحضر عندها وتد
قال:
قلت للنزلة حلي ... وانزلي غير لهاتي
واتركي حلقي بحقي ... فهو دهليز حياتي
وقال في غلام له كبر فأخرجه:
ما تركناه وفيه ... لمحب من طباخ
هدر الطير ومن عا ... داتنا أكل الفراخ
وقال:
وهامةٍ نبطت بها لحيةً ... يظلم من قد قاسها باللحى
قد نصل الخضب إلى نصفها ... فهي كمثل النمل إذا أجنحا
وقال:
فإن كنت من هاشمٍ في الذرى ... فقد ينبت الشوك وسط الأقاحي
وقال:
هو البحر إلا أنه عذب موردٍ ... ومن عجبٍ أن العذوبة في البحر
وقال:
الجوعُ يطرد بالرغيف اليابس ... فعلام تكثرُ حسرتي ووساوسي
والموت أنصف حين عدل قسمةً ... بين الخليفة والفقير البائس
وقال:
كنتُ فقيراً ثم أغنيتني ... وعدت في الفقر من الراس
كمثل من بخره أهله ... وهو على مجمره فاسي
وله:
أما ترى الروضة قد نورت ... وظاهر الروضة قد أعشبا
كأنما الأرض سماءٌ لنا ... نقطف منها كوكباً كوكبا
وقال:
أطعمني في خروفكم خرفي ... فجئت مستعجلاً ولم أقفِ
غدوت أرجو طرافه فغدتْ ... في طرفٍ والسماك في طرفِ
وقال:
لقد بان الشباب وكان غضاً ... له ثم وأوراق تظلك
وكان البعض منك فمات فاعلم ... متى ما مات بعضك مات كلك
أخذه من قول الخريمي:
إذا ما مات بعضك فابك بعضاً ... فبعض الشيء من بعضٍ قريبُ
وقال في الزهد يخاطب نفسه:
محمدُ، ما أعددت للقبر والبلى ... وللملكين الواقفين على القبر؟
وأنت مصر لا تراجع توبةً ... ولا ترعوي عما يذم من الأمر
تبيت على خمرٍ تعاقر دنها ... وتصبح مخموراً مريضا من الخمر
سيأتيك يومٌ لا تحاول دفعه ... فقدم له زاداً إلى البعث والحشر
الباب السابع
نذكر فيه
محاسن أبي عبد الله الحسن
بن أحمد بن الحجاج وغرائبه
وهو وإن كان في أكثر شعره لا يستتر من العقل بسجف، ولا يبني رجل قوله إلا على سخف. فإنه من سحرة الشعر، وعجائب العصر. وقد اتفق من رأيته وسمعت به من أهل البصيرة في الأدب وحسن المعرفة بالشعر على أنه فرد زمانه في فنه الذي شهر به، وأنه لم يسبق إلى طريقته، ولم يلحق شأوه في نمطه، ولم ير كاقتداره على ما يرده من المعاني التي تقع في طرزه، مع سلاسة الألفاظ وعذوبتها، وانتظامها في سلك الملاحة والبلاغة. وإن كانت مفصحة عن السخافة، مشوبة بلغات الخلديين والمكدين وأهل الشطارة. ولولا أن جد الأدب جد وهزله هزل كما قال إبراهيم بن المهدي لصنت كتابي هذا عن كثير من كلام من يمد يد المجون فيعرك بها أذن الحرم. ويفتح جراب السخف فيصفع بها قفا العقل. ولكنه على علاته تتفكه الفضلاء بثمار شعره، وستملح الكبراء ببنات طبعه، وتستخف الأدباء أرواح نظمه، ويحتمل المحتشمون فرط رفثه وقذعه.
ومنهم من يغلو في الميل إلى ما يضحك ويمتع من نوادره، ولقد مدح الملوك والأمراء، والوزراء والرؤساء، فلم يخل قصيدة فيها من سفاتج هزل، ونتائج فحشه، وهو عندهم مقبول الجملة غالي مهر الكلام، موفور الحظ من الإكرام والأنعام، مجاب إلى مقترحه من الصلات الجسام، والأعمال المجدية التي ينقلب منها إلى خير حال، وكان طول عمره يتحكم على وزراء الوقت ورؤساء العصر، تحمكم الصبي على أهله، ويعيش في أكنافهم عيشة راضية، ويستثمر نعمة صافية ضافية. وديوان شعره أسير في الآفاق من الأمثال، وأسرى من الخيال. وقد أخرجت من ملحة الخيالة من الفحش المفرط، الحالية بأحسن المقرط، ونوادره التي تسر النفس، وتعيد الأنس. (1/321)
ما يستغرق وصف ابن الرومي:
شرك العقول ونزهةٌ ما مثلها ... للمطمئن وعقله المستوفز
إن كال لم يملل وإن هي أوجزت ... ود المحدث أنها لم توجز
فمن ذلك وصفه لشعره ولسخفه كقوله:
فإن شعري ظريفٌ ... من بابة الظرفاء
ألذ معنى وأشهى ... من استماع الغناء
وقوله:
قرمَ إذا أنشدته ... شعري البديع تهللاً
فحسبت أن أبا عبا ... دة يمدح المتوكلا
وقوله:
إن عاب ثعلب شعري ... أو عاب خفة روحي
خريت في باب أفعل ... ت من كتاب الفصيح
وقال:
يا سيدي هذي القوافي التي ... وجوها مثل الدنانير
خفيفةٌ من نضجها هشةٌ ... كأنها خبز الأبازير
ومن أخرى يصف فيها نفسه:
حدثُ السن لم يزل يتلهى ... علمه بالمشايخ الكبراء
خاطرٌ يصفع الفرزدق في الشع ... ر ونحو ينيك أم الكسائي
غير أني أصبحت أضيع في القو ... م من البدر في ليالي الشتاء
ومن جملتها:
رجل يدعي النبوة في السخ ... ف ومن ذا يشك في الأنبياء
جاء بالمعجزات يدعو إليها ... فأجيبوا يا معشر السخفاء
وقال:
بالله يا أحمد بن عمرو ... تعرف الناس مثل شعري
شعرٌ يفيض الكنيف منه ... من جانبي خاطري ونحري
نسيمه منتن المعاني ... كأنه فلتة بجحر
لو جد شعري رأيت فيه ... كواكب الليل كيف تسري
وإنما هزله مجونٌ ... يمشي به في المعاش أمري
وقال من قصيدة:
ألست تعلم أني ... في غيبتي وحضوري
ما زلت فيك بمدحي ... أنيك أم جرير
ومن أخرى:
ويدٌ تخرج العرائس في مد ... حك بين الأقلام والأدراج
فاستمعها مني ألذ وأشهى ... من سماع الأرمال والأهزاج
بمعانٍ بخورها لك طيبٌ ... وفساها في لحية الزجاج
حلقت في الطول ذقن جريرٍ ... والأراجيز لحية العجاج
وكتب إليه بعض الرؤساء:
يا أبا عبد الإله ... بك أصبحت أباهي
غير أن السخف في شع ... رك قد جاز التناهي
وقد أعطيت من ذا ... ك ملاحات الملاهي
أقدم الآن على القو ... ل ولا تصغِ لناهي
فأجابه:
سيدي شكرك عندي ... مثل شكري لإلهي
سيدي سخفي الذي قد ... صار يأتي بالدواهي
أنت تدري أنه يد ... فع عن مالي وجاهي
ليت من عاداك عندي ... وهو ساهي الذقن لاهي
فترى لحيته في است ... ي إلى الصدغ كما هي
وقال:
وشعري سخفه لا بد منه ... فقد طبنا وزال الاحتشامُ
وهل دارٌ تكون بلا كنيفٍ ... فيمكن عاقلاً فيها المقام
وقال:
تراني ساكناً حانوت عطرٍ ... فإن أنشدت ثار لك الكنيفُ
وقال:
شعري الذي أصبحت فيه ... فضيحةً بين الملا
لا يستجيب لخاطري ... إلا إذا دخل الخلا
ومن أخرى:
ألا أيها الأستاذ دعوة شاعرٍ ... طريقته في الشعر لا تتبهرج
إذا أنت وظفت القوافي فخيرها ... وإن قل ما يرجو وما يتروج
ومن كان يحوي العطر دكان شعره ... فإن كناس وشعري له مخرج (1/322)
وقال من قصيدة في بعض الوزراء خالية من السخف:
وهذي القصيدة مثل العروس ... موشحةٌ بالمعاني الملاح
بلا نفحة من فسا عارضٍ ... ولا ووزن خردلةٍ من سلاح
فلو أنها جُعلت خطبةٌ ... لكانت تحلُّ عقود النكاح
بعثت بها عنبراً في الشتاء ... وفي الصيف كافور خرطٍ رياحي
فما مسحت خفشلنج الخصى ... ولا حنكت بلعوق الفقاح
وشعري لا بد من سخفه ... ولا بد للدار من مستراح
ولما غلب على شعره هذا الفن من ذكر المقاذر، وما ينضاف إليها، سئل يوماً ابن سكرة عن قيمة ديوان شعره، فقال قيمته بربخ أي لكثرة ما يشتمل عليه مما يقع فيه، وبلغني أن كثيرا ما بيع ديوان شعره بخمسين ديناراً إلى سبعين، وأنا كاسر فصلاً على ذكر ما أشرت إليه، والحديث شجون.
قطعة من نوادره في ذلك
كتب إلى أبي أحمد بن ثوابة، وقد شرب دواء مسهلاً:
يا أبا أحمد بنفسي أفدي ... ك وأهلي من سائر الأسواء
كيف كان انحطاط جعسك في طا ... عة شرب الدواء يوم الدواء
كيف أمسى سبال مبعرك النذ ... ل عريقاً في المرة الصفراء
يا أبا أحمد ونصحك عندي ... واجبٌ في الإخاء فاحفظ إخائي
رب ريح يوم الدواء دبورٌ ... شوشت في عصاعص الأغبياء
قدروها فساً وقد كمن الجع ... س لهم في مهب ذاك الفساء
فإذا الفرش في خليج سلاحٍ ... ذائبٌ في قوام جسم الماء
فاتق الله أن تغرك ريح ... عصفت في جوانب الأحشاء
لا تنفس خناق سرمك عنه ... أو تخلي سبيله في الخلاء
والغذاء الغذاء فاحذر بأن تفس ... و فوق الفراش بعد الغذاء
احترس إنها نصحية شيخٍ ... حنكته تجارب الآراء
وأهدي إليه صديق له نبيذاً كتب له من السريع
مدامةٌ تمريةٌ صافيه ... تلبس من يشربها العافية
زففتها طوعاً إلى شاعرٍ ... ما وقفت قط له قافيه
فصادف وصول النبيذ خلفة عرضت له فكتب إليه:
مولاي قد أحسستُ لما أتى ... شعرك بالعافية الشافيه
لكنني في صورة للخرا ... جملتها مقنعةٌ كافية
قد كتبت سطراً على عصعصي ... هذا لسلطان الخرا ضافيه
وقال يهجو:
ولقد عهدتك تشتهي ... قربي وتستدعي حضوري
وأرى الجفا بعد الوفا ... مثل الفسا بعد البخور
يا خرية العدس الصحي ... ح النيء والخبز الفطير
في جوف منحل الطيبيع ... ة والقوى شيخ كبير
يخرى فيخرج سرمه ... شبرين من وجع الزحير
يا فسوةً بعد العشا ... بالبيض واللبن الكثير
وفطائر عجنت بلا المل ... ح الجريش ولا الخمير
يا ضرطة الشيخ المبج ... ل بين حسادٍ حضور
يا ريح سرقين البغا ... ل يداف في بول الحمير
يا نتن رائحة الطبي ... خ إذا تغير في القدور
يا عش بيض القمل فر ... خ في السوالف والشعور
يا بول صبيان الفطا ... م ويا خراهم في الحجور
يا بغض تدخين الجشا ... في الصوم من تخم السحور
يا حر قولنج البطو ... ن وبرد أعصاب الظهور
يا ذلة المظلوم أصب ... ح وهو معدومُ النصير
يا سوء عاقبة التعق ... د تمشية الأمور
يا حيرة الشيخ الأصم وح ... سرة الحدث الضرير
يا قعدة في دجلةٍ ... والريح تلعب بالجسور
يا قرحة السل التي ... هدت شراسيف الصدور
يا أربعاءٌ لا تدو ... ر به محاقات الشهور
يا هدة الحيطان تنق ... ض بالمعاول والمرور (1/323)
يا قرحةً في ناظرٍ ... غلطوا عليها بالذرور
فتسلخت مع ما يلي ... ها في الجفون من البثور
يا خيبة الأمل الذي ... أمسى يُعلل بالغرور
يا غملة المتخدرا ... ت وراء أبواب القصور
يا ملتقى سمعف الأيو ... ر على عراجين البظور
يا وحشة الموتى إذا ... صاروا إلى ظلم القبور
يا ضجرة المحمور بال ... غدوات من ماء الشعير
يا شؤم إقبال الشتا ... ء أضر بالشيخ الفقير
يا دولة الحزن التي ... خسفت بأيام السرور
يا ضجة الصخب المصد ... ع ذي التنازع والشرور
يا عثرة القلم المرش ... ش بين أثناء السطور
يا ليلة العريان غ ... ب عشية اليوم المطير
يا نومة في شمس آ ... ب على التراب بلا حصير
يا فجأة المكروه في ال ... يوم العبوس القمطرير
يا نهشة الكلب العقو ... ر ونكهة الليث الهصور
يا عيش عانٍ موثقٍ ... في القيد مغلول أسير
يا حدة الرمد الذي ... لا يستفيق من القطور
يا حيرة العطشان وق ... ت الظهر في وسط الهجير
من لي بأن تلقاك خي ... لُ بني كلاب بلا خفير
وأرى بعيني لحمك الم ... طبوخ في نار السعير
في الأرض ما بين السبا ... ع وفي السماء بين النسور
وقال في المهلبي الوزير:
قيل إن الوزير قد قال شعراً ... يجمع الجهل شملهُ ويعمه
ثم أخفاه فهو كالهر يخرا ... في زوايا البيوت ثم يطمه
ليتني كنت حاضراً حين يروي ... ه فأفسو في راحتي وأشمه
وقال:
وذي همةٍ في حضيض الكنيف ... وقرنين في فلك المشتري
دخلت عليه انتصاف النهار ... على غفلة حين لم يشعر
وبين يديه رغيفان مع ... سكرجة كان فيها مري
فلما قعدت فسا فسوةً ... فلم تخط عصفتها منخري
وأقبل يضرط في إثرها ... فقلت أقوم وإلا خري
وقال في شيخ بني بعجوز:
أفصح ودعني من الرموز ... قد دخل الشيخ بالعجوز
من لي بها حين ضاجعته ... في ذلك الموضع الحريز
فكنت أخرا على زليخا ... وهي إلى جانب العزيز
وقال وقد ركب إلى قوم فوجد بعضهم نائماً وبعضهم شارب دواء:
قد أصبحوا كما ترى ... ما بين نومٍ وخرا
قومٌ برئت منهمُ ... لأنهم مني برا
ما إن أرى مثلاً لهم ... ولا أرى أني أرى
وقال وقد عاتب إنساناً على زلة فجاء بأكبر منها:
لي صديق جنى عل ... ي مراراً فأكثرا
ثم لما عتبته ... غسل البول بالخرا
وقال:
فقدت بختي إنهُ ... ما زال بختاً قذرا
لو كان شيئاً ناطقاً ... لكان شيخاً أبخرا
من حيث ما درتُ به ... لطخ وجهي بالخرا
وقال:
يقول قومٌ أبصروني وقد ... تلفتُ ما بينهم سكرا
قم بالحق الظهر ولو ركعةً ... فالناس قد صلوا بنا العصرا
فقلت ما أحسن ما قلتمُ ... أقوم حتى ألحق الظهرا
أقوم والركعة من عند من ... نعم وإن قمت فمن يقرا
قالوا فلا تسكر فلسنا نرى ... لعاقلٍ في سكره عذرا
والله لولا السكر يا سادتي ... ما ذقت مطبوخاً ولا خمرا
قالوا فهذا السكر ما حده ... فقلت حد السكر أن أخرا
وقال:
قومي تنحي فلست من شأني ... قومي اذهبي لا يراك شيطاني
لا كان دهر عليك حصلني ... ولا زمان إليك ألجاني