صدر هذا الكتاب آليا بواسطة الموسوعة الشاملة
(اضغط هنا للانتقال إلى صفحة الموسوعة الشاملة على الإنترنت)


الكتاب : يتيمة الدهر
المؤلف : الثعالبي
مصدر الكتاب : الوراق

[ الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع ]

وعلى السحاب الجون ليثٌ معظماً ... ذاك الرداء وزرٌ ذاك اليلمق
وكأن دارك جنةٌ حصباؤها ال ... جادي أو أنماطها الإستبرق
في موقفٍ تغصي العيون جلالةً ... فيه ويعثر بالكلام المنطق
والناس إما شاخصٌ متعجبُ ... مما يرى أو ناظرٌ متشوق
مالوا إليك محبةً فتجمعوا ... ورأوا عليك مهابةً فتفرقوا
وطعنت في غرر الكلام بفيصل ... لا يستقل به السنان الأزرق
وأنا القريب إليك فيه، ودونه ... لندى عدوك طود عز أعبق
عطفاً أمير المؤمنين فإننا ... في دوحة العلياء لا نتفرق
ما بيننا يوم الفخار تفاوتُ ... أبداً كلانا في المعالي معرق
إلا الخلافة ميزتك فإنني ... أنا عاطلٌ منها وأنت مطوقُ
هذه طريقة لم يسبق إليها، وما أحسنها في جمع أطراف الاستعطاف والمدح! وله من أخرى يذم الزمان، يفتخر:
توقعي أن يقال قد ظعنا ... ما أنت لي منزلاً ولا وطنا
يا دار قل الصديق فيكِ فما ... أحس وداً ولا أرى سكنا
كيف يخاف الزمان منصلتٌ ... مذ خاف غدر الزمان ما أمنا
لم يلبس الثوب من توقعه ... للأمر إلا وظنه كفناً
لي مهجةٌ لا أرى لها عوضاً ... غير بلوغ العلا ولا ثمنا
ما ضرنا أننا بلا جدةٍ ... والبيت والركن والمقام لنا
سوف ترى أن نيل آخرنا ... من العلا فوق نيل أولنا
وأن ما بز من مقادمنا ... يخلفه الله في أواخرنا
وورد عليه أمر أهمه وأقلقه فرأى شيباً في رأسه وسنة ثلاث وعشرون سنة.
فقال:
عجلت يا شيبُ على مفرقي ... وأي عذرٍ لك أن تعجلا؟
فكيف أقدمت على عارضٍ ... ما استغرق الشعر ولا استكملا
كنت أرى العشرين لي جنةً ... من كارقات الشيب إن أقبلا
فالآن سان ابن أم الصبا ... ومن تسدي العمر الأطولا
يا زائراً ما جاء حتى مضى ... وعارضاً ما جاد حتى انجلى
وما رأى الراؤون من قبلنا ... زرعاً ذوي من قبل أن يسبلا
ليت بياضاً جاءني آخراً ... فدى بياضٍ كان لي أولا
وليت صبحاً ساءني ضوؤه ... زال وأبقى ليله الأليلا
يا ذابلاً صوح فينانه ... قد آن للذابل أن يختلى
خط برأسي يققاً أبيضاً ... فكيف من جاوز أو من علا
هذا ولم أعدّ مجال الصبا ... فكيف من جاوز أو من علا
من خوفه كنت أهاب السرى ... شحاً على وجهي أن يبذلا
فليتني كنت تسربلتُه ... في طلب العز ونيل العلا
قالوا دعِ القاعد يزري به ... من قطع الليل وجاب الفلا
قل لعذولي اليوم عد صامتاً ... فقد كفاني الشيب أن أعذلا
طبت به نفساً ومن لم يجد ... إلا الردى أذعنُ واستقتلا
وقال من الوزير أبي القاسم علي بن أحمد يستصوب رأيه في الاستتار لأمر أوجبه:
تأبى الليالي أن تديما ... بؤساً بخلقٍ أو نعيما
والمرء بالإقبال يبلغ ... وداعاً خطراً عظيماً
وينال بغيته وما ... أنضى الذميل ولا الرسيما
فإذا انقضى إقباله ... رجع الشفيق له خصيما
وهو الزمان إذا نبا ... سلب الذي أعطى قديما
كالريح ترجع عاصفاً ... من بعد م ا بدأت نسيما
ذاك الوزير وكان لي ... وزراً أحزبه الخصوما
فالآن أغدو للعدى ... وبنالها غرضاً رجيما
سدي العلا وأنرا لا ... فض اللقاء ولا ملوماً

(1/360)


حتى إذا لم يبق إلا ... أن يلام وأن يليما
طرح العناء على اللئا ... م مجانباً ومضى كريماً
لم يعتلقه الحبس ممته ... ناً ولم يعزل ذميما
أفنى العدى وقضى المنى ... وبنى العلا ونجا ذميماً
وجه كأن البدر شا ... طره الضياء أو النجوما
لو قابل الليل البهي ... م لمزق الليل البهيما
يجلو الهموم ورب وج ... هٍ إن بدا جلب الهموما
كان العظيم، وغير بد ... عٍ منه أن ركب العظيما
والحرّ من حذر الهوا ... ن وحاول الأمر الجسيما
بعثوا سواك لها وكا ... ن مبلداً عنها مليما
والعاجز المأفون أق ... عد ما يكون إذا أقيما
فسقى بلادك حيث كن ... ت المزن منبعقاً هزيما
فلقد سقى خدي ذك ... رك دمع عيني السجوما
وقال:
عذيري من العشرين يغمزن صعدتي ... ومن نوب الأيام يقرعن مروتي
ألا لا أعد العيش عيشاً مع الأذى ... لأن رفيق الذل حي كميتِ
تخوفني بالموت والموت راحةٌ ... لمن سل عزمي قلبه مثل همتي
وكم بين ذي أنفٍ حمي وحاملٍ ... موارن قد عودن حمل الأحشة
وقال:
أكابرنا والسابقون إلى العلا ... ألا تلك آسادٌ ونحن شبولها
وإن أسوداً كنت شبلاً لبعضها ... لمحقوقةٌ أن لا يذلك قبيلها
وقال:
حذفت فضول العيش حتى رددتها ... إلى دون ما يرضى به المتعففُ
وأملت أن أجري خفيفاً إلى العلا ... إذا شئتم أن تلحقوا بفتخففوا
حلفت برب البدن تدمى نحورها ... وبالنفر الأطوار لبوا وعرفوا
لأبتذلن النفس حتى أصونها ... وغيري قد قيدٍ من الذل يوسفُ
فقد كالما ضيعت فرصةً ... وهل ينفع الملهوف ما يتلهف
وإن قوافي الشعر ما لم أكن لها ... مسفسفةً فيها عتيقٌ ومقرف
أنا الفارس الوثاب في صهواتها ... وكل مجيدٍ جاء بعدي مردف
وقال:
بنو هاشمٍ عينٌ، ونحن سوداها ... على رغم من يأبى، وأنتم قذاتها
وأعجب ما يأتي به الدهر أنكم ... طلبتم علاً ما فيكم أدواتها
وأملتم أن تدركوها طوالعاً ... دعوها سيسعى للمعالي سعاتها
غرست غروساً كنت أرجو لقاحها ... وآمل يوماً أن تطيب جناتها
فإن أثمرت لي غير ما كنت آملاً ... فلا ذنب لي إن حنظلت نخلاتها
وقال يرثي أبا منصور أحمد بن عبيد الله بن المرزبان الكاتب الشيرازي:
أي دموع عليك لم تصب ... وأي قلبٍ عليك لم يجب
ما لي وما للزمان يسلبني ... في كل يوم غرائب السلب
أما فتى ناضر الصبا كأخي ... عندي أو زائد المدى كأبي
وإنني للشقاء أحسبني ... ألعب بالدهر وهو يلعب بي
ما نمت عنه إلا وأيقظني ... من الرزايا بفيلقٍ لجب
في كل جدارٍ تغدو المنون، ومن ... كل الثنايا مطالع النوب
يفوز بالراحة الفقيد ولل ... فاقد تطول العناء والتعب
أحمد، كم لي عليك من كمدٍ ... باقٍ؟ ومن جود أدمعٍ سرب
ولوعةٍ تحطم الضلوع إذا ... ذكرت قرب اللقاء عن كثب
إن قطع الموت حبلنا فلقد ... عشنا وما حبلنا بمنقضب
كم مجلسٍ صبحته ألسننا ... نفضن فيه لطائم الأدب
من أثر يونق الفتى حسنٍ ... أو خبر يبسط المنى عجب
أو عرضٍ أصبحت خواطرنا ... تساقط الدر منه في الكتب
كالبارد العذب روقته صبا الف ... جر أو الظلم زين بالشنب

(1/361)


غاض غدير الكلام ما بقي ال ... دهر وقرت شقائق الخطب
يا علم المجد لم هويتَ وقد ... كنت أمين العماد والطنب؟
يا مقول الدهر لم صمت وقد ... كنت زماناً أمضى من الشهب؟
يا ناظر الفضل لم غضضت وما ... كنت قديماً تغضي على الريب؟
كنت قريني ولست لي لدةً ... كنت نسيبي ولست من نسبي
مما يقوي العزاء عنك وإن ... شرد قلبي العزاء بالكرب
أنك أحرزتها وإن رغم ال ... دهر ثمانين طلقة الحقب
فإن دموعي جرين نهنهها ... علمي أن قد ظفرت بالأرب
فليت عشرين بت أحسبها ... باعدن بين الورود والقرب
إني أظمأ إلى المشيب، ومن ... ينجُ قليلاً من الردى يشب
إن سرني طالع البياض أقل ... يا ليت ليل الشباب لم يغب
مرّ على ذلك التراب من الم ... زن خفوق الأعلام والعذب
فثم بشرٌ أصفى من الغدق الع ... ذب وجودٌ أندى من السحب
لا تحسبن الخلود بعدك لي ... إن المنايا أعدى من الجرب
إن أنجُ منها وقد شربت بها ... فإن خيل المنون في طلبي
ولست أدري في شعراء العصر أحسن تصرفاً في المراثي منه. ولما رثى أبا منصور الشيرازي بهذه القصيدة في سنة ثلاث رثى أبا إسحاق الصابي في سنة أربع وثمانين بالقصيدة التي أوردتها في بابه، ثم لما حال الحول وتوفي الصاحب في سنة خمس وثمانين وتعجب الناس من انقراض بلغاء العصر الثلاثة على نسق في ثلاث سنين، رثاه أيضاً بقصيدة سأورد غررها في مراثي الصاحب.
وله من قصيدة رثى بها أبا محمد بن أبي سعيد السيرافي، وكان من الأعيان الأعلام في العربية وما يتعلق بها، وتوفي بعيد الصاحب:
لم ينسنا كافي الكفاة مصابه ... حتى دهانا فيك خطبُ مضلع
قرحٌ على قرحٍ تقارب عهده ... إن القروح على القروح لأوجع
وتلاحُقُ الفضلاء أعدل شاهدٍ ... إن الحمام بكل علقٍ مولع
وقال من أخرى:
يا مصعباً بخست أيدي المنون به ... فقيد قودٍ ذليل الظهر مطواع
يسقي أسنته حتى تفيض دماً ... ويهدم العيس من شد وأيضاع
وقال:
هيهات أصبح سمعه وعبانه ... في التراب قد حجبتهما أقذاؤه
يمسي ولين مهاده حصباؤه ... فيه ومؤنس ليله ظلماؤه
قد قلبت أعيانه، وتنكرت ... أعلامه، وتكسفت أضواؤه
مغفٍ وليس لذةٍ إغفاؤه ... مغضٍ وليس لفكرةٍ إغضاؤه
وجه كلمع البرق غاض وميضه ... قلبٌ كصدر العضب قل مضاؤه
حكم البلى فيه فلو يلقى به ... أعداءه لرثى له أعداؤه
إن الذي كان النعيم ظلاله ... أمسى يطنب بالعراء خباؤه
قد خف عن ذاك الرواق حضوره ... أبداً، وعن ذاك الحمى ضوضاءه
كانت سوابقه طراز فنائه ... يجلو جمال روائهن رواؤه
ورماحه سفراؤه، وسيوفه ... خفراؤه، وجياده ندماؤه
ما زال يعدو والركاب خذاؤه ... بين الصوارم والعجاج رداؤه
لا تعجبن فما العجيب فناؤه ... بيد المنون، بل العجيب بقاؤه
من طاح في سبل الردى آباؤه ... فليسلكن طريقهم أبناؤه
ومن قصيدة رثى بها والدته:
أبكيك لو نقع الغليل بكائي ... وأقول لو ذهب المقال بدائي
أعوذ بالصبر الجميل تعزياً ... لو كان في الصبر الجميل عزائي
طوراً تكاثرني الدموع، وتارةً ... آوي إلى أكرومتي وحيائي
كم عبرةٍ موهتها بأناملي ... وسترتها متجملاً بردائي
أبدي التجلد للعدو، ولو درى ... بتململي لقد آشتفى أعدائي
فارقت فيك ضعفت فصارت أنة ... أتمتها بتنفس الصعداء

(1/362)


لهفان أنزو في حبائل كربةٍ ... ملكت علي جلادتي وعنائي
قد كنت أرجو أن أكون لك الفدا ... مما ألم فكنت أنت فدائي
وجرى الزمان على عوائد كيده ... في قلب آمالي وعكس رجائي
وتفرق البعداء بعد مودةٍ ... صعبٌ فكيف تفرق القرباء
وتداول الأيام يبلينا، كما ... يبلى الرشاء تطاوح الأرجاء
كيف السلو وكل موقع لحظةٍ ... أثرٌ لفضلك خالدٌ بإزائي
وقال:
قل لليالي قد ملكت فأسجحي ... ولغيرك الخلق الكريم الأسجح
إن ساء فعلك في فراق أحبتي ... فلسوء فعلك في عذاري أقبح
ضوءً تشعشع في سواد ذؤابتي ... لا أستضيء به ولا أستصبح
ومنها:
والذل بين الأقربين مضاضةٌ ... والذل ما بين الأباعد أروح
وإذا رمتك من الرجال قوارصٌ ... فسهام ذي القربى أشد وأجرح
لو لم يكن لي في القلوب مهابةٌ ... لم يطعنِ الأعداء في ويقدحوا
وقال:
أنا ابن الأناجب من هاشمٍ ... إذا لم تكن نجبٌ من نجبْ
تلاثُ برودهم بالرماح ... وتلوى عمائمهم بالشهب
عتاق الوجوه، وعتق الجيا ... د في الضمر تعرفه والقبب
يشف الوضاء خلال الشحو ... ب منها وخلف الدخان اللهب
وقال:
الراح والراحة ذل الفتى ... والعز في شرب ضريب اللقاح
ما أطيب الأمر ولو أنه ... على رزايا نعمٍ في المراح
وقال وأجاد:
ستعلمون ما يكون مني ... إن مد من ضبعي طول سني
أأدع الدنيا ولم تدعني ... وسعت أيامي ولم تسعني
أفضل عنها وتضيق عني وقال من أخرى:
تجاذبني يد الأيام نفسي ... ويوشك أن يكون لها الغلابُ
نهضت وقد قعدن بي الليالي ... فلا خيلٌ أعز ولا ركاب
وما ذنبي إذا اتفقت خطوبٌ ... مغاضبةٌ وأيامٌ غضاب
وبعض العدم مأثرةٌ وفخرٌ ... وبعض المال منقصةٌ وعاب
بناني والعنان إذا نبت بي ... ربي أرضٍ ورجلي والركاب
سواءٌ من أقلّ الترب منا ... ومن وارى معالمه التراب
كأنه من قول ابن نباته: ومن لبس التراب كمن علاه رجع:
وإن مزايل العيش اختصاراً ... مساوٍ للذين بقوا فشابوا
وأولنا العناء إذا طلعنا ... إلى الدنيا، وآخرنا الذهاب
وإن مقام مثلي في الأعادي ... مقام البدر تنبحه الكلاب
رموني بالعيون ملفقاتٍ ... وقد علموا بأني لا أعاب
وأني لا تدنسني المخازي ... وأني لا تروعني السباب
ولما لم يلاقوا في عيباً ... كسوني من عيوبهم وعابوا
وقال:
سأبذل دون العز أكرم مهجةٍ ... إذا قامت الحرب العوان على رجلٍ
وما ذاك أن النفس غير نفيسةٍ ... ولكن رأيت الجبن ضرباً من البخل
وما المكرهون السمهرية في الطلى ... بأشجع ممن يكره المال بالبذل
وقال في ذم بعض الناس:
الله يعلم ميلي عن جنابكم ... ولو تناهيت لي في البر واللطفِ
فكيف بي وعلى عينيك ترجمةٌ ... من الحقود وعنوانٌ من السرفِ
أخذه من قول البحتري:
وفي عينيك ترجمةٌ أراها ... تدل على الضغائن والحقود
رجع:
أطوف منك بوجهٍ غير ملتفتٍ ... إلى المناجي وعطفٍ غير منعطف
فما أغبك من عذرٍ ولا شغلٍ ... ولا أزورك من وجدٍ ولا شغف
لا قدس الله نفساً منك جامعةً ... كيد البغال وحقد الخلد والسرف
ولا سقى الغيث داراً أنت ساكنها ... إلا بأغير ناري الذرى قصف
وقال:
زللت من موقفي على طللٍ ... بالٍ فمن عاذري من الطلل
لما تأملت قبح صورته ... رجعت أبكي دماً على أملي

(1/363)


وجهُ كظهر المجن مسترق ال ... حسن وأنفٌ كغارب الجمل
وقال في الخليفة القادر بالله:
تخطينا الصفوف إلى رواقٍ ... تحجبُ بالصوارم والرماح
وحبينا عظيماً من قريش ... كأنّ جبينه فلق الصباح
عليه سيمياءُ المجد يبدو ... وعنوان الشجاعة والسماح
وقال في أبي الحسن النصيح، وقد لامه في تأخره عنه:
أكافينا النصيح بقي ... ت فينا دائماً أبدا
تحث إلى العلا قدماً ... وتبسط بالنوال يدا
لئن حرقتني عذلاً ... لقد نوهت بي صعدا
علي طروق داركمُ ... وليس علي أن أردا
أخذه من قول منصور:
علي أن أزوركمُ ... وليس علي أن أصلا
وقال من التقارب:
أبيعك بيع الأديم النغل ... وأطوي ودادك طي السجل
وأنفض ثقلك عن عاتقي ... فقد طالما آذيتني يا جبل
قوارص لفظٍ كحز المدى ... وشزرات الحظٍ كوقع الأسل
وإن أذل الأذلين من ... يروم ببضع النساء الدول
وقال:
يا ليلةً كرم الزما ... ن بها لو أن الليل باقي
كان اتفاقاً بيننا ... جارٍ على غير اتفاق
فاستروح المشتاق من ... زفرات هم واشتياق
واقتص للحقب الموا ... ضي بل تسلف للبواقي
حتى إذا نسمت ريا ... ح الصبح تؤذن بالفراق
برد السوار لها فأح ... ميت القلادة بالعناق
وله في وزير بذل مالاً كثيراً حتى الوزارة فاستصوب رأيه في ذلك:
اشترِ العز بما بي ... ع فما العز بغال
بالقصار الصفر إن شئ ... ت وبالسمر الطوال
ليس بالمغبون حظاً ... مشترٍ عزاً بمال
إنما يدخر الما ... ل لحاجات الرجال
والفتى من جعل الأ ... موال أثمان المعالي
وقال:
يا عذبة المبسم بلي الجوى ... بنهلةٍ من ريقك البارد
أرى غديراً شماً ماؤه ... بادٍ فهل للماء من وارد
من لي بذاك العسل الذائب ال ... جاري خلال البرد الجامد
وقال:
وسالمتُ لما طالت الحرب بيننا ... إذا لم تظفر في الحروب فسالم
وقال:
لنا الدوحة العليا التي نزعت لها ... إلى المجد أغصان الجدود الأطايب
إذا كان في جو السماء عروقها ... فأين عواليها وأين الذوائب؟
وله في غلام أعجمي:
حبيبي ما أزرى بحبك في الحشا ... ولا غض عندي منك أنك أعجمُ
بنفسي من يستدرجِ اللفظ عجمةً ... كما يمضغ الظبي الأراك ويبغم
وقال:
كما المقام على جيلٍ سواسيةٍ ... ترجو الندى من إناءٍ قط ما رشحا
تشاغل الناس باستدفاع شرهمُ ... عن أن تسومهمُ الإعطاء والمنحا
وقال:
واهاً على عهد الشباب وطيبه ... والغض من ورق الشباب الناضر
واهاً له ما كان غير دجنةٍ ... قلصت صبابتها كظل الطائر
وأرى المنايا إن رأت بك شيبةً ... جعلتك مرمى نبلها المتواتر
لو يفتدي ذاك السواد فديته ... بسواد عيني بل سواد ضمائري
أبياض رأسٍ واسوداد مطالبٍ؟ ... صبراً على حكم الزمان الجائر!
وكان عمل قصيدة في بهاء الدولة وأنفذها إليه، فنسبه بعض الحساد إلى الترفع عن إنشادها، فقال:
جناني شجاعٌ إن مدحت، وإنما ... لساني إن نسيم النشيد جبانُ
وما ضر قوالاً أطاع جنانه ... إذا خانه عند الملوك لسان
ورب حيي في السلام وقلبه ... وقاحٌ إذا لف الجياد طعان
ورب وقاح الوجه تحمل كفه ... أنامل لم يعرق بهن عنان
وفخر الفتى بالقول لا بنشيده ... ويروي فلانٌ مرةً وفلان
وورد عليه أمر أشغل قلبه فقال:
إن أنشب الخطب فلا روعةً ... أو عظم الأمر فصبرٌ جميل

(1/364)


فليهون المرؤ بأيامه ... أن مقام المرء فيها قليل
إنا إلى الله وإنا له ... وحسبنا الله ونعم الوكيل
القسم الثالث من يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر وهو يشتمل على
ملح أشعار أهل الجبال وفارس
وجرجان وطبرستان
بسم الله الرحمن الرحيم
أحمد الله على آلائه، وأسأله شكر نعمائه، وأصلي على محمد المصطفى المختار، وأله وصحبه الأطهار.
وبعد، فلما تم القسم القاني من يتيمة الدهر أتبعته بالقسم الثالث منها، وهو يشتمل على ملح أشعار أهل الجبال وفاس وجرجان وطبرستان من وزراء الدولة الديلمية وكتابها وقضاتها وشعرائها، وسائر فضلائها وغربائها، وما ينضاف إليها من أخبارهم، وغرر ألفاظهم.
الباب الأول
في ذكر ابن العميد
وإيراد لمع من أوصافه وأخباره وغرره
من نثره ونظمه
هو أبو الفضل محمد بن الحسين، عين المشرق ولسان الجبل وعماد ملك آل بويه وصدر وزرائهم وأوجد العصر في الكتابة، وجميع أدوات الرياسة، وآلات الوزارة، والضارب في الآداب بالسهام الفائزة، والآخذ من العلوم بالأطراف القوية، يدعى الجاحظ الأخير، والأستاذ، والرئيس، يضرب به المثل في البلاغة، وينتهي إليه في الإشارة بالفصاحة والبراعة، مع حسن الترسل وجزالة الألفاظ وسلاستها، إلى براعة المعاني ونفاستها. وما أحسن وأصدق ما قال له الصاحب - وقد سأله عن بغداد عند منصرفه عنها - بغداد في البلاد، كالأستاذ في العباد. وكان يقال: بدئت الكتابة بعبد الحميد، وختمت بابن العميد. وقد أجرى ذكرهما معاً مثلاً أبو محمد عبد الله بن أحمد الخازن الأصبهاني في قصيدة فريدة مدح بها الصاحب، فلما انتهى إلى وصف بلاغته قال وأحسن ما شاء:
دعوا الأقاصيص والأنباء ناحيةً ... فما على ظهرها غير ابن عباد
والي بيانٍ متى يطلق أعنته ... يدع لسان إيادٍ رهن أقياد
وموردٍ كلماتٍ عطلت زهراً ... على رياض ودراً فوق أجياد
وتاركٍ أولاً عبد الحميد بها ... وابن العميد أخيراً في أبي جاد
ولم يرث ابن العميد الكتابة عن كلالة، بل كان كما قال ذو الرمة في وصف صياد حاذق: ؟ألفى أباه بذاك الكسب يكتسب لأن أباه أبا عبد الله الحسين بن محمد المعروف بكلة في الرتبة الكبرى من الكتابة ورسائله مدونة بخراسان.
وذكر أبو إسحاق الصابي في الكتاب التاجي أن رسائل أبي عبد الله لا تقصر في البلاغة عن رسائل ابنه أبي الفضل، وعندي أن هذا الحكم من أبي إسحاق فيه حيفٌ شديد على ابن العميد، والقاص لا يحب القاص.
ومن خبر أبي عبد الله أن أصله من قم، وكان يكتب لما كان بن كاكي، فلما قتل ما كان من المعركة واستبيح عسكره، وحمل قواده وخواصه مقرنين في الأصفاد إلى الحضرة ببخارى، وفي جملتهم أبو عبد الله نفعته شفاعة فضله ونبله. فأطلق عنه وأكرم ورتب في الدار السلطانية. ولما تقلد ديوان الرسائل للملك نوح بن نصر. ولقب الشيخ كالعادة فيمن يلي ذلك الديوان حسده أبو جعفر محمد بن العباس بن الحسين الوزير، فقال فيه:
تظلم ديوان الرسائل كله ... إلى الملك القرم الهمام وحق له
من أبيات أنسانيها تطاول المدة بها، واستعجم علي مكانها، وكان إذا ذاك أبو القاسم علي بن محمد النيسابوري الإسكافي يكتب في ديوانه، ويرى نفسه أحق برتبته ومكانه، ويتمنى زوال أمره ليقوم مقامه، ويقعد مقعده. وله فيه أبيات تستظرف وتستلمح، فمنها قوله:
وقائل ماذا الذي ... من كلةٍ تطلبه
قلت له أطلب أن ... يقلب منه لقبه
وقوله فيه، وكان يحضر الديوان في محفة لسوء أثر النقرس على قدمه:
يا ذا الذي ركب المحف ... ة جامعاً فيها جهازه
أرى الإله يعيشني ... حتى يرينيها جنازة
وقوله فيه، وقد أستوزر والديوان برسمه:
قول وقد سرنا وراء محفةٍ ... وفيها أبو عبد الإله كسيرا
شقاؤك من شكواك ثم شقاؤنا ... من أيام سوءٍ قدمتك وزيرا
ترقيك من هذي المحفة حيةٌ ... إلى النعش محمولاً تصر صريرا

(1/365)


ولم تطل الأيام حتى أتت على أبي عبد الله منيته، ووافت أبا القاسم أمنيته، وتولى ديوان الرسائل فسبق من قبله وأتعب من بعده، ولم يزل أبو الفضل في حياة أبيه وبعد وفاته بالري وكور الجبل وفارس. يتدرج إلى المعالي ويزداد على الأيام فضلاً وبراعة، حتى بلغ ما بلغ، واستقر في الذورة العليا من وزارة ركن الدولة، ورياسة الجبل، وخدمة الكبراء، وانتجعه الشعراء، وورد عليه أبو الطيب المتنبي عند صدوره من حضرة كافور الإخشيدي، فمدحه بتلك القصائد المشهورة السائرة التي منها:
من مبلغ الأعراب أني بعدهم ... شاهدت رسطاليس والإسكندرا
وسمعت بطليموس دارس كتبه ... متملكاً مبتدياً متحضرا
ولقيت كل الفاضلين كأنما ... رد الإله نفوسهم والأعصرا
نسقوا لنا نسق الحساب مقدماً ... وأتى فذلك إذا أتيت مؤخراً
بأبي وأمي ناطقٌ في لفظه ... ثمنٌ تباع به القلوب وتشتري
قطف الرجال القول وقت نباته ... وقطفت أنت القول لما نورا
ومدحه الصاحب بمدح كثيرة استفرغ فيها جهده، وألقى حميته، فمن عيون شعره فيه قوله من قصيدة:
ن لقب يهيم في كل واد ... وقتيل للحب من غير واد
إنما أذكر الغواني والمقص ... د سعدي مكثراً للسواد
وإذا ما صدقت فيه مرامي ... ومنائي وروضتي ومرادي
وندى ابن العميد إني عميدٌ ... من هواها ألية الأمجاد
لو درى الدهر أنه من بنيه ... لازدرى قدر سائر الأولاد
و درى الدهر أنه من بنيه ... لازدرى قدر سائر الأولاد
أو رأى الناس كيف يهتز للجو ... د لما عددوه في الأطواد
أيها الآملون حطوا سريعاً ... يرفع العماد واري الزناد
فهو إن جاد ضن حاتم طي ... وهو إن قال قل قسُّ إياد
وإذا ما ارتأى فأين زيادٌ ... من علاه وأين آل زياد
قبل العيد يستعير حلاه ... من علاه العزيزة الأنداد
سيضحي فيه لمن لا يوالي ... ه ويبقى بقية الأعياد
ومديحي إن لم يكن طال أبيا ... تاً فقد طال في مجالي الجياد
إن خير المداح من مدحته ... شعراء البلاد في كل ناد
ما أحسن ما أدمج الافتخار في أثناء المدح! وإنما ألم فيه بقول يزيد بن محمد المهلبي لابن المدبر:
إن أكن مهدياً لك الشعر إني ... لابن بيت تهدى له الأشعار
ومن مختار شعر الصاحب قوله فيه وقد قدم إصبهان:
قدم الرئيس مقدماً في سبقه ... وكأنما الدنيا جرت في طرقه
فجبالها من حلمه، وبحارها ... من جوده، ورياضها من خلقه
وكأنما الأفلاك طوع يمينه ... كالعبد منقاداً لمالك رقه
قد قاسمته نجومها: فنحوسها ... لعدوه، وسعودها في أفقه
ما زلت مشتاقاً لنور جبينه ... شوق الرياض إلى السحاب وودقه
حتى بدا من فوق اجرد سابحٍ ... إن قال فت الريح فاه بصدقه
يحكي السحاب طلوعه فصيله ... من رعده ومسيره من برقه
فنظمت مدحاً لا وفاء بمثله ... وسجدت شكراً لا نهوض بحقه
وقوله:
قالوا: ربيعك قد قدم ... فلك البشارة بالنعم
قلت: الربيع أخو الشتا ... ء أم الربيع أخو الكرم؟
قالوا: الذي بنواله ... يغني المقل عن العدم
قلت: الرئيس ابن العمي ... د إذاً؟ فقالوا لي: نعم!
وقوله:
أما ترى اليوم كيف جادلنا ... بمستهل الشؤبوب منسجمه
يحكى أبا الفضل في تفضله ... هيهات أن يعتزى إلى شيمه
كم حاسدٍ لي وكنت أحسده ... يقول من غيظه ومن ألمه:
نال ابن عباد المنى كملاً ... إذ عده ابن العميد من خدمه
وقوله في توديعه:

(1/366)


أودع حضرتك العالية ... ونفسي لا دمعتي هاميه
ومن ذا يودع هذا الجناب ... فتهنؤه بعده العافية
جنابٌ رعيت به جنةً ... قطوف مكارمها دانيه
رأيت به فائضات العلا ... وعلمت ما للهمم العاليه
كأني بغداد في شوقها ... إليك وأدمعها الجاريه
وأنت المرجى لإظفارها ... بآمالها وبآماليه
ولو كنت تأذن لي في المسير ... إذاً سرت في جملة الحاشيه
سبقت جوادك مدّ الطريق ... وسرت وفي يدي الغاشيه
ولابن خلاد القاضي فيه مدح تشوبها ملح، كقوله:
بأسعد طالعٍ عيدت يا من ... بطلعته سعادة كل عيد
فعش ما شئت كيف تشاء والبس ... جديد العمر في زمنٍ جديد
فقد شهدت عقول الخلق طراً ... وحسبك بالبصائر من شهود
بأن محاسن الدنيا جميعاً ... بأفنية الرئيس ابن العميد
ولأبي الحسن البديهي فيه من قصيدة:
إذا اعتمدتني خطوب الزمان ... وكان اعتمادي على ابن العميد
تذكرت قربي من قلبه ... فيممته من مكانٍ بعيد
تجاوز في الجود حد المزيد ... وجل نداه عن المستزيد
وفات الأنام، وفاق الكرام ... برأيٍ سديدٍ، وبأس شديد
ومما يستبدع فيه ويستحسن معناه قول أبي علي بن مسكويه له عند انتقاله إلى قصر جديد بناه:
لا يعجبنك حسن القصر تنزله ... فضيلة الشمس ليست في منازلها
لو زيدت الشمس في أبراجها مائة ... ما زاد ذلك شيئاً في فضائلها
وأنشده ابن أبي الشباب في يوم مهرجان قصدية في مدحه أولها:
أقبرٌ لنا طالت ثراك يد الطل ... وحيا الحيا المسكوب ذلك من ثل
نعيم فقدناه فما نرتجي له ... معاودةً إلا بفضل أبي الفضل
ودخل أبو بشر الفارسي الحافظ - وكان متقدماً في علم العربية، متأخراً في قول الشعر - عيه يوماً، وقد هاج به النقرس أنشده:
شكى النقرس نقريسٌ ... أخو علمٍ ونطيس
فما دام لكم قوسٌ ... فنفسي لكم جوس
فقال له: يا أبا بشر، هذه رقية النقرس.
ولا غنى لهذا الشرع عن التفسير، النقريس: الداهية، الحاذق من الادلاء، والنطيس: الفطن بالأمور العالم بها، وأنشد:
وقد أكون مرةً نطيساً ... طباً بأدواء النسا نقريسا
والقوس: صومعة الراهب، الجوس: جمع جايس، والجوسان: التردد، وفي القرآن (فجاسوا خلال الديار).
ومن أمثل شعر أبي بشر قوله:
وأني لا أكره من شيمتي ... زيارة حي بلا منفعه
ولا أحمد القول من قائلٍ ... إذا لم يكن منه فعلٌ معه
ومن ضاق ذرعاً بإكرامنا ... فلسنا نضيق بان نقطعه
وكان كل من أبي العلاء السروي، وأبي الحسن العلوي العباسي، وابن خلاد القاضي، وابن سمكة القمي، وأبي الحسين بن فارس، وأبي محمد بن هندو، يختص به ويداخله وينادمه حاضراً، ويكاتبه ويجاويه ويهاديه نثراً ونظماً، ويقال: إن أحسن رسائله الإخوانيات وما كانت به أبا العلاء، لصدوره عن صدر مائل إليه محب له مناسب بالأدب إياه.
فصول من رسائله
فصل من رسالة له إليه في شهر رمضان وهو مما لم يسبق إليه
كتابي - جعلني الله فداك - وأنا في كد وتعب، ومنذ فارقت شعبان وفي جهد ونصب من شهر رمضان، وفي العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر من ألم الجوع ووقع الصوم. ومرتهن بتضاعف حرور لو أن اللحم يصلى ببعضها غريضاً أتى أصحابه وهو منضج، وممتحن بهواجر يكاد أوارها يذيب دماغ الضب ويصرف وجه الحرباء عن التحنق، ويزويه عن التبصر، يقبض يده عن إمساك ساق وإرسال ساق:
ويترك الجاب في شغلٍ عن الحقب ... ويقدح النار بين الجلد والعصب
ويغادر الوحش وقد مالت هواديها:
سجوداً لدى الأرطى كأن رؤوسها ... علاها صداعٌ أو فواقٌ يصورها
وكما قال الفرزدق:
ليومٍ أتت دون الظلال شموسه ... تظل المها صوراً جماجمها تغلي
وكما قال مسكين الدارمي:

(1/367)


وهاجرةٍ ظلت كأن ظباءها ... إذا ما اتقتها بالقون سجودُ
تلوذ بشؤبوبٍ من الشمس فوقها ... كما لاذ من وخز السنان طريد
وممنو بأيام تحاكي ظل الرمح طولاً، وليال كإبهام القطاة قصراً، ونوم كلاً ولا قلة، وكسحو الطائر من ماء الثماد دقة، وكتصفيقة الطائر المستحر خفة:
كما أبرقت قوماً عطاشاً غمامةٌ ... فلما رجوها أقشعت وتجلت
وكنقر العصافير وهي خائفةٌ ... من النواطير يانع الرطب
وأحمد الله على كل حال، وأسجله أن يعرفني فضل بركته، ويلقيني الخير في باقي أيامه وخاتمته، وأرغب إليه من أن يقرب على القمر دوره، ويقصر سيره، ويخفف حركته، ويعجل نهضته. ينقض مسافة فلكه ودائرته، ويزيل بركه الطول من ساعاته، ويرد علي غرة شوال فهي أسر الغرر عندي وأقرها لعيني، ويسمعني النعرة في قفا شهر رمضان ويعرض على هلاله أخفى من السر، وأظلم من الكفر، وأنحف من مجنون بني عامر، وأضنى من قيس بن ذريح، وأبلى من أسير الهجر، ويسلط عليه الحور بعد الكور، ويرسل على رقاقته التي يغشى العيون ضوءها. ويحط من الأجسام نوؤها، كلفا يعمرها، وكسوفا يسترها، وبرينيه مغمور النور، مقمور الظهور، قد جمعه والشمس برج واحد ودرجة مشتركة. وينقص من أطرافه كما تنقص النيرات من طرف الزند، ويبعث عليه الأرضة، ويهدي إليه السوس، ويغري به الدود، ويبليه بالفار ويخترمه بالجراد، ويبيده بالنمل، ويجتحفه بالذر، ويجعله من نجوم الرجم، ويرمي به مسترق السمع. ويخلصنا من معاودته، ويريحنا من دورته، ويعذبه كما عذب عباده وخلقه، ويفعل به فعله بالكتان ويصنع به صنعه بالألوان، ويقابله بما تقتضيه دعوة السارق إذا افتتح بضوئه وتهتك بطلوعه ويرحم الله عبداً قال آمينا وأستغفر الله جل وجهه مما قلته إن كرهه، وأستعفيه من توفيقي لما يذمه، وأسأله صفحاً يفيضه، وعفواً يسيغه، وحالي بعد ما شكوته صالحة، وعلى ما تحب وتهوى جارية، ولله الحمد تقدست أسماؤه والشكر.
وقد أجمع أهل البصيرة في الترسل على أن رسالته التي كتبها إلى ابن بلكا ونداد خورشيد عند استعصائه على ركن الدولة غرة كلامه، وواسطة عقد وما ظنك بأجود كلام، لأبلغ إمام؟
فصل من أولها
كتابي وأنا مترجح بين طمع فيك، ويأس منك، وإقبال عليك، وإعراض عنك، فإنك تدل بسابق حرمةٍ، وتمتّ بسالف خدمة، أيسرهما يوجب رعاية، ويقتضي محافظة وعناية، ثم تشفعهما بحادث غلول وخيانة، وتتبعهما بآنف خلاف ومعصية. وأدنى ذلك يحبط أعمالكن ويمحق كل ما يرعى لك، لا جرم أني وقفت بين ميل إليك، وميل عليك: أقدم رجلاً لصدمك. وأؤخر أخرى عن قصدك، وأبسط يداً لاصطلامك واجتياحك، وأثني ثانية لاستبقائك واستصلاحك، وأتوقف عن امتثال بعض المأمور فيك، ضناً بالنعمة عندك، ومنافسة في الصنيعة لديك، وتأميلا لفيئتك وانصرافك، ورجاء لمراجعتك وانعطافك، فقد يغرب العقل ثم يؤوب، ويعزب اللب ثم يثوب، ويذهب الحزم ثم يعود، ويفسد العزم ثم يصلح، ويضاع الرأي ثم يستدرك، ويسكر المرء ثم يصحو، ويكدر الماء ثم يصفو، وكل ضيقة إلى رخاء، وكل غمرة فإلى انجلاء. وكما أنك أتيت من إساءتك بما لم تحتسبه أولياؤك، فلا بدع أن تأتي من إحسانك. ما لا ترتقبه أعداؤك، وكما استمرت بك الغفلة حتى ركبت ما ركبت، واخترت ما اخترت. فلا عجب أن تنتبه انتباهةً تبصر فهيا قبح ما صنعت، وسوء ما آثرت. وسأقيم على رسمي في الإبقاء والمماطلة ما صلح، وعلى الاستياء والمطاولة ما أمكن، طمعاً في إنابتك، وتحكمياً لحسن الظن بك، فلست أعدم فيما أظاهره من أعذار، وأرادفه من إنذار، احتجاجاً عليك واستدراجاً لك، فإن يشأ الله يرشدك، ويأخذ بك إلى حظك ويسددك، فإنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.
فصل منها

(1/368)


وزعمت أنك في طرف من الطاعة، بعد أن كنت متوسطها، وإذا كنت كذلك فقد عرفت حاليها، وحلبت شطريها. فنشدتك الله لما صدقت عما سألتك. كيف وجدت ما زلت عنه؟ ويكف تجد بليل، وهواء عذى وماء روي، ومهاد وطي، وكن كنين، ومكان مكين، وحصن حصين. يقيك المتالف، ويؤمنك المخاوف. ويكنفك من نوائب ا لزمان، ويحفظك من طوارق الحدثان، عززت به بعد الذلة، وكثرت بعد القلة، وارتفعت بعد الضعة، وأيسرت بعد العسرة، وأثريت بعد المتربة، واتسعت بعد الضيقة، وظفرت بالولايات، وخفقت فوقك الرايات، ووطئ عقبك الرجال، وتعلقت بك الآمال، وصرت تكاثر ويكاثر بك، وتشير ويشار إليك، ويذكر على المنابر اسمك، وفي المحاضر ذكرك. ففيم الآن أنت من الأمر؟ وما العوض عما عددت، والخلف مما وصفت؟ وما استفدت حين أخرجت من الطاعة نفسك، ونفضت منها كفك، وغمست في خلافها يدك؟ وما الذي أظلك بعد انحسار ظلها عنك؟ أظل ذو ثلاث شعب، لا ظليل ولا يغني من اللهب؟ قل نعم! كذلك، فهو والله أكثف ظلالك في العاجلة، وأروحها في الآجلة، إن أقمت على المحايدة والعنود، ووقفت على المشاقة والجحود.
ومنها - تأمل حالك وقد بلغت هذا الفصل من كتابي، فستنكرها، والمس جسدك، وانظر هل يحس؟ واجسس عرقك هل ينبض؟ وفتش ما حنا عليك هل تجد في عرضها قلبك؟ وهل حلى بصدرك أن تظفر بفوت سريح، أو موت مريح؟ ثم قس غائب أمرك بشاهدمه، وأخر شأنك بأوله.
قال مؤلف هذا الكتاب: بلغني عن بلكا - وكان أدب أمثاله - أنه كان يقول: والله ما كانت لي حال عند قراءة هذا الفضل إلا كما أشار إليه الأستاذ الرئيس، ولقد ناب كتابه عن الكتائب في عرك أديمي واستصلاحي، وردى إلى طاعة صاحبه.
أقرأني أبو الحسين محمد بن الحسين الفارسي النحوي - وقد اجتمعنا بإسفرائين عند زعيمها أبي العباس. الفضل بن علي - فصلاً من كتاب لابن العميد إلى عضد الدولة، وكنت مررت عليه وأنا عنه غافل، فنبهني على شرفه في جنسه، وحرك مني ساكناً معجباً بحسنه متعجباً من نفاسة معناه، وبراعة لفظه، وهو: قد يعد أهل التحصيل في أسباب انقراض العلوم وانقباض مددها. وانتقاض مررها. والأحوال الداعية إلى ارتفاع جل الموجود منها، وعدم الزيادة فيها: الطوفان بالنار والماء، والموتان العارض من عموم الأوباء، وتسلط المخالفين في المذاهب والآراء، فإن كل ذلك يحترم العلوم احتراماً. وينتهكها انتهاكاً، ويجتث أصولها اجتثاثاً، وليس عندي الخطب في جميع ذلك يقارب ما يولده تسلط ملك جاهل تطول مدته، وتتسع قدرته. فإن البلاء به لا يعد له بلاء، وبحسب عظم المحنة بمن هذه صفته، والبلوى بمن هذه صورته، تعظم النعمة في تملك سلطان عالم عادل، كالأمير الجليل الذي أحله الله من الفضائل بملتقى طرقها، ومجتمع فرقها، وهو نور، نوافر ممن لاقت حتى تصير إليه، وشرد نوازع حيث حلت حتى تقع عليه. تتلفت إليه تلفت الوامق وتتشوف نحوه نوازع حيث حلت حتى تقع عليه. تتلفت إليه تلفت الوامق وتتشوف نحوه تشوف الصب العاشق. قد ملكتها وحشة المضاع، وحيرة المرتاع:
فإن تغش قوماً بعده أو تزورهم ... فكالوحش يدنيها من الأنس المحلُ
وهذا فصول قصار له تجري مجرى الأمثال
وقد أخرجتها مما أخرجه الأمير أبو الفضل عبيد الله بن أحمد الميكالي، من غرره وفقره، وكفاني شغلاً شاغلاً، وقادني منه شكره، وليست تنكر أياديه عندي.
فمنها: من أسر داءه، وستر ظمأه بعد عليه أن يبل من غلله ويبل من علل متى خلصت للدهر حال من اعتوار أذى، وصفا فيه شرب من اعتراض قذى خير القول ما أغناك جده، وألهاك هزله الرتب لا تبلغ إلا بتدرج وتدرب، ولا تدرك إلى بتجشم كلفة وتصعب المرء أشبه شيء بزمانه، وصفة كل زمان منتسخة من سجايا سلطانه قد يبذلك المرء ماله في إصلاح أعدائه، فكيف يذهل العاقل عن حفظ أوليائه، هل السيد إلا من تهابه إذا حضر، وتغتابه إذا أدبر اجتنب سلطان الهوى، وشيطان الميل، وغلبة الإرادة المزح والهزل بابان إذا فتحا لم يغلقا إلا بعد العسر، وفحلان إذا ألقحا لم ينتجا غير الشر.
مكاتباته الشعرية مع ابن جلاد القاضي
ما أخرج من المكاتبات بالشعر التي دارت بينه وبين أبن جلاد القاضي

(1/369)


أهدى ابن خلاد إلى ابن العميد شيئاً من الأطعمة، وكبت إليه في وصفها، وابن العميد إذا ذاك في عقب مرض عرض له، فكتب إلى ابن خلاد قصدية أولها:
قل لابن خلاد المفضى إلى أمد ... في الفضل برز فيه أي تبريز
يعدى اهتزازك للعلياء كل فتى ... مؤخرٍ عن مدى الغايات محجوز
ماذا أردت إلى منهوض نائبةٍ ... مدفعٍ عن حمى اللذات ملهوز
هززت بالوصف في أحشائه قرماً ... ما زال يهتز فيها غير مهزوز
لم يترك فيه فحوى ما وصفت له ... من الأطايب عضواً غير محفوز
أهديت نبرمةً أهدت لآكلها ... كرب المطامير في آبٍ وتموز
نبرمة هكذا في النسخة، ولست أعرافها، وأظن أنها شيء يجمع من الحبوب، ويدق ويعجن بحلاوة.
ما كنت لولا فساد الحسن تأمل في ... جنسٍ من السمن في دوشاب شهريز
هل غير شتى حبوبٍ قد تعاورها ... جيش المهاريس أو نخز المناخيز
رمت الحلاوة فيها ثم جئت بها ... تحذى اللسان بطعمٍ جد ممزوز
لو ساعدتك بنو حواء قاطبةٍ ... عليه ما كان فيهم غير ملموز
أوقعت للشعر في أوصافها شغلاً ... بين القصائد تروى والأراجيز
لا أحمد المرء أقصى ما يجود به ... إذا عضرناه أصناف الشواريز
ما متعة العين من خد تورده ... يزهى عليك بخالٍ فيه مركوز
مستغرب الحسن في توشيع وجنته ... بدائعٌ بين تسهيمٍ وتطريز
يوفى على القمر الموفى إذا اتصلت ... يسراه بالكأس أو يمناه بالكوز
أشهى إليك من الشيراز قد وضحت ... في صحن وجنتها خيلان شونيز
وقد جرى الزيت في مثنى أسرتها ... فضارعت فضةً تغلى بأبريز
ماذا السماح بتقريظٍ وتزكيةٍ ... وقد بخلت بمذخورٍ ومكنوز
ومنها
لا غرو إن لم ترح للجود راحته ... فالبخل مستحسنٌ في شيمة الخوزى
هكذا في النسخة، وأظن أنه لم ترح للجود رائحة.
فأجابه ابن خلاد بقصيدة منها:
يا أيها السيد السامي بدوحته ... تاج الأكاسر من كسرى وفيروز
أتى قريضك يزهى في محاسنه ... زهو الربى باشرت أنفاس نيروز
يا حسنه لو كفينا ين يبهجنا ... خطب النبارم فيه والشواريز
أقررت بالعجز والألباب قد حكمت ... به علي فقدك اليوم تعجيزي
جوز قريضي في بحر القريض فكم ... من قائل عد قوالاً بتجويز
إن عدت في حلبةٍ تجري بها طمعاً ... إني لأشجع من عمرو بن جرموز
إنا لمن معشرٍ حطوا رحالهم ... لما استبيروا على أسطمة الخوز
لا نعرف الكسم والطرذين يوم قرى ... ولا الغبوق على لحمٍ وخاميز
وأهدى ابن خلاد إليه كتاباً في الأطعمة. وابن العميد ناقه من علة كانت به، فكتب إلى ابن خلاد قصيدة منها:
فهمت كتابك في الأطعمة ... وما كان نولي أن أفهمه
فكم هاج من قرم ساكنٍ ... وأوضح من شهوةٍ مبهمه
وأرث في كبدي غلةً ... من الجوع نيرانها مضرمه
فكيف عمدت به ناقهاً ... جوانحه للطوى مسلمه
خفوق الحشى إن تصخ تستمع ... من الجوع في صدره همهمه
تتيح له شرهاً موجعاً ... وتغري به نهمةً مؤلمه
وأين تكرمك المستفي ... ض فينا إذا غاضت المكرمه
وهلا أضفت إلى ما وصف ... ت شيئاً نهش لأن نطعمه
يمد الصديق إليه يداً ... إذا ما رآه ويشجى فمه
وأين سواريزك المرتضاة ... إذا ما تفاضلت الأطعمة
وأين كواميخك المجتبا ... ة دون الأطايب بالتكرمه
وهل أنت راضٍ بقولي إذا ... ذكرت: دعوه فما ألأمه!
إذا المرء أكرم شيرازه ... فلا أكرم الله من أكرمه

(1/370)


وكيف ارتقابي بقياً امرئٍ ... إذا ليم أعتب النبرمه
فإذا كان يجذبك نعت الطعام ... إذا الجوع ناب أذاه فمه
إذا جعت فاعمد لمسموطةٍ ... بجوذابة الموز مستفرمه
متى قستها بالمنى جاءتا ... سواءً كما جاءت الأبلمه
وبز السرابيل عن أفرخٍ ... تخال بها فلذ الأسنمه
تهب النفوس إلى ذاقه مجه ... ولا الطبع إن زاره استوخمه
ودونك وسطاً أجاد الصنا ... ع تلفيق شطريه بالهندمه
وعالي على دفه هيدبا ... كثيفاً كما تحمل المقرمه
ودنر بالجوز أجوازه ... ودرهم باللوز ما درهمه
وقاني بزيتونها والجبن ... صفائح من بيضةٍ مدعمه
فمن أسطرٍ فيه مشكولةٍ ... ومن أسطرٍ كتبت معجمه
وفوف بالبقل أعطافه ... فوافى كحاشية معلمه
موشى تخال به مطرفاً ... بديع التفاويف والنمنمه
إذا ضاحكتك تباشيره ... أضاءت له المعدة المظلمه
وهاك خبيصاً إذا ما اقترحت ... على العبد إنعامه أنعمه
إذا سار في ثغرة سدها ... أو انساب في خللٍ لأمه
فإن شئت فادخل به مفرداً ... إن شئت فادع إليه لمه
وإياك تهدم ما قد بنا ... ه هدماً وتنقض ما أبرمه
فإن لم تجد ذاك يجدي عليك ... إذا ما سغبت فقل لي لمه
تعد من الجود وصف الطعام ... ولست تقول بأن تطعمه
وتحظر ما قد أحل الإله ... ضراراً وتطلق ما حرمه
فهل نزلت في الذي قد شرعت ... على أحدٍ أيةٌ محكمه
وهل سنةٌ فيه مأثورةٌ ... رواها لأشياخكم علقمه
وقلت تواصوا بصبرٍ جميلٍ ... فأين ذهبت عن المرحمه
ومن عجبٍ حاكمٌ ظالمٌ ... يرجى ليحكم في مظلمه
فأجابه ابن خلاد بقصدية منها:
هلم الصحيفة والمقلمه ... وأدن المحيبرة المفعمه
لأكتب ما جاش في خاطري ... فقد عظم الخوض في النبرمه
وعجل علي بهذي وذي ... فإني من الخوض في ملحمه
ألا حبذا ثم يا حبذا ... كتابي المصنف في الأكعمه
كفانا به الله ما راعنا ... بعلة سيدنا المؤلمه
أطاب الحديث له في الطعام ... ففتق شهوته المبهمه
وعاد بأوصافه للغذاء ... وطاب لنا شكر من سلمه
ومن يشكر الله بعط المزيد ... كما قال الأعمش من خيثمه
أيا ذا الندى والحجى والعلا ... ومن أوجب الدين أن نعظمه
لئن كان نبرمتي أفسدت ... ولم تأت صنعتها محكمه
فسوف يزورك شيرازنا ... فنقسم بالله أن تكرمه
يميس بشونيزه كالعرو ... س يخطر في الحلة المسهمه
ويبطل وسط مسموطةٍ ... وجوذابةٍ عندها محكمه
ويزهى الخوان بتقديمه ... عليه ويحمد من قدمه
ويرمز إخواننا دونه ... كأنّ تحاورهم زمزمه
ما أخرج من إخوانياته
وكتب إلى أبي الحسن العباسي هذه الأبيات، وهي من مشهور شعره وجيده:
أشكو إليك زماناً ظل يعركني ... عرك الأديم ومن يعدى على الزمن
وصاحباً كنت مغبوطاً بصحبته ... دهراً فغادرني فرداً بلا سكن
هبت له ريحُ إقبالٍ فطار بها ... نحو السرور وألجاني إلى الحزن
نأى بجانبه عني وصيرني ... من الأسى ودواعي الشوق في قرن
وباع صفو ودادٍ كنت أقصره ... عليه مجتهداً في السر والعلن
وكان غالى به حيناً فأرخصه ... يا من رأى صفو ود بيع بالغبن

(1/371)


كأنه كان مطوياً على إحنٍ ... ولم يكن في ضروب الشعر أنشدني
إن الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا ... من كان يألفهم في المنزل الخشن
وكبت إلى بعض إخوانه هذه القصيدة، ليعرضها على أبي الحسن العباسي، وهي سائرة في الآفاق، وكأنه قد جمع فيها أكثر إحسانه، فقال:
قد ذبت غير حشاشةٍ وذماء ... ما بين حر هوى وحر هواء
لا أستفيق من الغرام ولا أرى ... خلواً من الأشجان والبرحاء
وصروف أيامٍ أقمن قيامتي ... بنوى الخليط وفرقة القرناء
ومثير هيجٍ لا يشق غباره ... فيما خباه مهيجُ الهيجاء
وجفاء خل كنت أحسب أنه ... عوني على السراء والضراء
ثبتِ العزيمة في العقوق ووده ... متنقلٍ كتنقل الأفياء
ذي ملةٍ يأتيك أثبت عهده ... كالخط يرقم في بسيط الماء
أبكي ويضحكه الفراق ولن ترى ... عجماً كحاضر ضحكه وبكائي
نفسي فداؤك يا محمد من فتى ... نشوان من أكرومةٍ وحياء
كأسٌ من الشيمِ التي في ضمنها ... درك العلا عارٍ من العوراء
عذب الخلائق قد أحطت بخبره ... وبلوته في شدةٍ ورخاء
وبلوت حاليه معاً فوجدته ... في العود أكرم منه في الإبداء
أبلغ رسالتي الشريف وقل له ... قدك اتئب أربيت في الغلواء
أنت رسالتي الشريف وقل هل ... قدك اتئب أربيت في الغلواء
أنت الذي شتت شمل مسرتي ... وقدحت نار الشوق في أحشائي
وجمعت بين مساءتي ومسرتي ... وقرنت بين مبرتي وجفائي
ونبذت حقي عشرتي ومودتي ... وهرقت مائي خلتي وإخائي
وثنيت آمالي على أدراجها ... ورددت خائبةً وفود رجائي
فرجعت عنك ما يؤوب بمثله ... راجي السراب بقفرةٍ بيداء
وعرضت ودي بالحقير ولم أكن ... ممن يباعُ وداده بلقاء
ورضيت بالثمن اليسير معوضةً ... مني، فهلا بعتني بغلاء
وزعمت أنك لست تفكر بعدما ... علقت يداك بذمة الأمراء
هيهات لم تصدقك فكرتك التي ... قد أوهمتك غنى عن الوزراء
لم تغن عن أحدٍ سماءٌ لم تجد ... أرضاً ولا أرضٌ بغير سماء
وسألتك العتبى فل ترني لها ... أهلاً، وجئت بغدره الشوهاء
وردت مموهة ولم يرفع لها ... طرفٌ ولم ترزق من الإصغاء
وأعار منطقها التذمم سكتةً ... فتراجعت تمشي على استحياء
لم تشف من كمدٍ، ولم تبرد على ... كبدٍ، ولم تمنح جوانب داء
من يشف من داءٍ بأخر مثله ... أثرت جوانحه من الأدواء
داوت جوى بجوى، وليس بحازمٍ ... من يستكف النار بالحلفاء
لا تغتنم إغضاءتي فلعلها ... كالعين تضيها على الأقذاء
واستبقِ بعض حشاشتي فلعلني ... يوماً أقيك بها من الأسواء
فلو آن ما أبقيت من جسمي قذى ... في العين لم يمنع من الإعفاء
نظيره قول المتنبي:
ولو قلمٌ ألقيت من شق رأسه ... من السقم ما غيرت من خط كاتب
رجع:
فلئن أرحت إلي غارب سلوتي ... ووجدت في نفسي نسيم عزاء
لأجهزن إليك قبح تشكرٍ ... ولأنثرن عليك سوء ثناء
ولأكسونك كل يومٍ حلة ... متروعةً من حيةٍ رقشاء
ولأعضلن مودتي من بعدها ... حتى أزوجها من الأكفاء
وكتب إلى العلوي:
يا من تخلى وولى ... وصد عني وملا
وأوسع العهد نكثاً ... وأتبع العقد حلاً
ما كان عهدك إلا ... عهد الشبيبة ولى
أو طائفاً من خيالٍ ... ألم ثم تولى

(1/372)


أو عارضاً لاح حتى ... إذا دنى فتدلى
ألوت به نسماتٌ ... من الصبا فتجلى
أهلاً بما ترتضيه ... في كل حالٍ وسهلاً
ليجزينك ودي ... بمثل فعلك فعلاً
إن شئت هجراً فهجراً ... أو شئت وصلاً فوصلا
صبرت عني فانظر ... ظفرت بالصبر أم لا
إني إذا الخل ولى وليته ما تولى
وكتب إلى أبي محمد بن هندو، وقد أهدى له مداداً ارتضاه:
يا سيدي وعمادي ... أمددتني بمداد
كمسكنيك جميعاً ... من ناظري وفؤادي
أو كالليالي اللواتي ... رميننا بالبعاد
وكتب إلى أخيه أبي الحسن بن هندو صبيحة عرسه:
أنعم أبا حسن صباحاً ... وازداد بزوجتك ارتياحاً
قد رضت طرفك خالياً ... فهل استلنت له جماحاً؟
وقدحت زندك جاهداً ... فهل استنبت له انقداحاً؟
وطرقت منغلقاً فهل ... سنى الإله له انفتاحاً؟
قد كن أرسلت العيو ... ن صباح يومك والوراحا
وبعثت مصغيةً تبي ... ت لديك ترتقب النجاحا
فغدت علي بجملةٍ ... لم تولني إلا افتضاحا
وشكت إلي خلاخلاً ... خرساً وأوشحةً فصاحا
منعت وساوسها المسا ... مع أن تحس لكم صياحا
وهذه الأبيات بديعة في فنها، ولم أسمع أملح منها في معناها، إلا قول الصاحب وهو أقرب من التصريح وأظرف، وأبيات ابن العميد أجزل وأخفى، وأدخل في باب الكناية والتعريض:
قلبي على الجمرة يا أبا العلا ... فهل فتحت الموضع المقفلا
وهل فككت الختم عن كيسه ... وهل كحلت الناظر الأكحلا
إنك إن قلت نعم صادقا ... أبعث نثاراً يملأ المنزلا
وإن تجبني من حياءٍ بلا ... أبعث إليك القطن والمغزلا
هذا ما أخرج من مقارضاته
اجتمع عنده يوماً أبو محمد بن هندو، وأبو القاسم بن أبي لاحسين بن سعد، وأبو الحسين بن فارس، وأبو عبد الله الطبري، وأبو الحسن البديهي.
فحياه بعض الزائرين بأترجة حسنة، فقال لهم: تعالوا نتجاذب أهداب وصفها، فقالوا: إن رأى سيدنا أن يبتدئ فعل، فابتدأ وقال:
وأترجة فيها طبائع
فقال أبو محمد:
وفيها فنون اللهو للشرب أجمع
فقال أبو القاسم:
يشبهها الرائي سبيكة عسجد
فقال أبو الحسين بن فارس:
على أنها من فأرة المسك أضوع
فقال أبو عبد الله الطبري:
وما اصفر منها اللون للعشق والهوى
فقال أبو الحسن البديهي:
ولكن أراها للمحبين تجمع
وسئل بعض حاضري مجلسه عن قصة له. فقال ولم يقصد وزنا:
أي جهدٍ لقيته ... وشقاءٍ شقيته؟
فقال الأستاذ: قولوا على هذا الوزن شعراً، وفي المجلس أبو الحسن العباسي، وابن خلاد القاضي، فقال أبو الحسن:
بي عزالٌ مقرطقٌ ... شفني إذ هويته
أحرز السحر طرفه ... وحوى الغنج ليته
زاد في الكبر عامداً ... إذ رآني وليته
حسبي الله والرئي ... س لما قد دهيتُهُ
وقال ابن خلاد:
يا خليلي ساعدا ... ني على ما دهيتهُ
انظرا أي معذلٍ ... بقضاءٍ أتيته
سامني السيد الرئي ... س محالاً شنيته
ظل مستعدياً على ... رشأٍ قد هويته
عجباً أن يكون لي ... والياً من وليته
ما خشيت فيه الحروب في ... ه ولكن خشيته
فاز روحي لو أنني ... في منامي أريته
وقال الأستاذ:
أي جهدٍ لقيته ... وشقاءٍ شقيتُهُ
من نصيحٍ أود من ... نصحه لي سكوته
قلا صبراً وما درى ... أن صبري رزيته
قلت عنك الملام ما ... باختياري هويته

(1/373)


لم أكن أجشم البلا ... ء لو أني كفيته
رب ثوبٍ من المذل ... ة فيه كسيته
ضل عندي تجلدي ... فكأني نسيته
في فؤادي هوى يح ... رقني لو طويته
يا بن خلاد الذي ... شاع في الناس صيته
أنصف الهائم الذي ... شاع في الناس صيته
أنصف الهائم الذي ... يتجافى مبيته
قل لمن أشبه المها ... مقلتاه وليته
ثغره قد أشت شم ... ل اصطباري شتيته
ليس يحيى المتيم ال ... صب إلا مميته
أنت قوتي وما بقا ... ء امرئ بان قوته
أي ذنبٍ سوى المذل ... ة في الحب جيته
ما أسيغ السلو عن ... ك لو أني سقيته
كيف يرجو البقاء إن ... باين الماء حوته
ما أشاء السلو عن ... ك فإن شئت شيته
كل شيءٍ رضيتهُ ... من غرامي رضيتهُ
ما أخرج من شعره في الغزل
قال من قصيدة:
هبل البث إلا ما تحملينهِ ... أم البرح إلا ما تكلفينه
متى علقت نفسي حبيبا تعلقت ... به غيرُ الأيام تسلبنيه
شفيعي إذا استشفعت غير مشفعٍ ... ووجهي إذا وجهت غير وجيه
وقال:
ظلت تظللني من الشمس ... نفسٌ أعز علي من نفسي
فأقول واعجباً ومن عجبٍ ... شمسٌ تظللني من الشمس
وقال في الفصد لمعشوقه:
ويح الطبيب الذي جست يداه يدك ... ما كان أجهله فيما قد اعتمدك
بأي شيءٍ تراه كان معتذراً ... من مسه بحديدٍ مؤلم جسدك
لو أن ألحاظه كانت مباضعهُ ... ثم انتحاك بها من رقةٍ فصدك
ما أخرج من شعره في سائر الفنون
قال من قصيدته الهرية عارض فيها ابن العلاف:
يا هر فارقتنا مفارقةً ... عمت جميع النفوس بالثكل
لو كان بالحادثات لي قبلٌ ... إذاً أتاك الصريخ من قبلي
يا مثلاً سائراً إذا ذكر ال ... حسن تركت الحسان كالمثل
وقيل هل تفتديه إن قبل الد ... هر فداءً فقلت حيهل
أفديه بالصفوة الكرام من ال ... إخوان دون الأخدان والخلل
بل بمحل الكرى ومعتلج ال ... فكر وحب القلوب والمقل
بل بسكون الوجيب يجلبه ال ... أمن إلى قلب خائبٍ وجل
بل بحلول الشفاء يجنبه الص ... حة بعد الأوصاب والعلل
بل ببلوغ المنى وقاصية ال ... بغية عفواً ونهبه الأمل
وقال في المغني القرشي:
إذا غناني القرشي يوماً ... وعناني برؤيته وضربه
وددت لو أن أذني مثل عيني ... اك وأن عيني مثل قلبه
وللمهلبي في هذا المعنى:
إذا غناني القرشي ... دعوت الله بالطرش
وإن أبصرت طلعته ... فوا لهفي على العمشِ
وقال فيه أيضاً:
إذا غنى لنا أمماً ... حضوت مسامعي صمما
وإن أبصرت طلعته ... كحلت نواظري بعمى
وقال:
أخِ الرجال من الأبا ... عد، والأقارب لا تقارب
إن الأقارب كالعقا ... رب، بل أضر من العقارب
وقال:
وللرأي زلاتٌ يظل بها الفتى ... مركبةً فوق الثنايا أنامله
هذا ما أخرج من شعره في المعمي
قال في السفرجل:
يقولون خطبٌ من البين جلا ... ولم أر سير الخليط استقلاً
وقد لقبوه نوى غربةٍ ... ولم أر أقرب منه محلاً
وبزت سرابيله عنوةً ... فألفي لما تعرى تحلى
وأفرد من بين أترابه ... فما غض من حسنه أن تخلى
وزل فقلنا لعاً ناعشاً ... لعالٍ إذا ما تعلى تدلى
تزيد مكاسره لذةً ... إذا ما الغمام عليه استهلاً

(1/374)


إذا نال منه السليم استقل ... وإن نال منه السقيم استبلاً
إذا ما امرؤ مل روح الحياة ... فحاشا لذلك من أن يملا
وقال في ماء الورد:
قل للأديب أبي الحسي ... ن أتتك صماءُ الغير
نكراء في حالاتها ... لذوي البصائر معتبر
دهياء يعترف الضمي ... ر بها مسه قد الإبر
وتحفة من بعده ... تباشراً طرفاً وزر
أزرى به وسط الردى ... وهو الحياة المشتهر
فاكشف لنا عن سره ... بلطيف حدسك والنظر
وقال من الشمس:
ماذا ترى يا أبا العباس في عجبٍ ... تشابهت منه أولاه وأخراه
ترى مقمه شروى مؤخره ... حسناً، ويمناه في تمثال يسراه
من حيث واجهته أرضاك منظره ... وكيف قابلته أغناك مغناه
يهوى المباعد منه قرب منزله ... حتى إذا ما تغشاه تحاماه
الباب الثاني
في ذكر ابنه
أبي الفتح ذي الكفايتين
والأخذ بطرف من طرف أخباره، وملح بنات أفكاره
هو على بن محمد، ثمرة تلك الشجرة، وشبل ذلك القسورة وحق على ابن الصقر أن يشبه الصقرا وما أصدق ما قال الشاعر:
إن السري إذا سرى فبنفسه ... وابن السري إذا سرى أسراهما
وكان نجيباً ذكياً، لطيفاً سخياً، رفيع الهمة، كامل المروءة، ظريف التفصيل والجملة، قد تأنق أبوه في تأديبه وتهذيبه، وجالس به أدباء عصره، وفضلاء وقته، حتى تخرج وخرج حسن الترسل، متقدم القدم في النظم، آخذاً من محاسن الآداب بأوفر الحظ، ولما قام مقام أبيه قبل الاستكمال، وعلى مدى بعيد من الاكتهال. وجمع تدبير السيف والقلم لركن الدولة، لقب بذي الكفايتين، وعلا شأنه، وارتفع قدره، وبعد صيته، وطاب ذكره، وجرى أمره أحسن مجرى، إلى أن توفي ركن الدولة وأفضت حال أبي الفتح إلى ما سيأتي ذكره آخر الباب بمشيئة الله وعونه.
ومن طرف أخباره ما حدثنيه أبو جعفر الكاتب، وكان أبو بكر الخوارزمي يدعوه القمغدي لكونه قمي المولد بغدادي المنشأ، وكان أبو جعفر هذا من حاشية أبي الفتح فترامت به بعده الحوادث إلى نيسابور، قال: كان الأستاذ الرئيس قد قبض جماعة من ثقاته في السر يشرفون على الأستاذ أبي الفتح في منزلة ومكتبه ويشاهدون أحواله ويعدون أنفاسه وينهون إليه جميع ما يأتيه ويذره ويقول ويفعله.. فرفع إليه بعضهم أن أبا الفتح اشتغل ليلة بما يشتغل به الأحداث المترفون، من عقد مجلس الأنس واتخاذ الندماء، وتعاطي ما يجمع شمل اللهو، في خفية شديدة، واحتياط تمام، وأنه كتب في تلك الحالة رقعة إلى من سماه لي أبو جعفر، ونسيت اسمه، في استهداء الشراب، فحمل إليه ما يصلحهم من المشموم والنقل. فدس الأستاذ الرئيس إلى ذلك الإنسان من أتاه برقعة أبي الفتح الصادرة إليه، فإذا فيها بخطه: بسم الله الرحمن الرحيم. قد اغتنمت الليلة - أطال الله بقاك يا سيدي ومولاي! - رقدة من عين الدهر، وانتهزت فيها فرصة من فرص العمر، وانتظمت مع أصحابي في سمط الثريا، فإن لم تحفظ علينا النظام، بإهداء المدام، عدنا كبنات نعش، والسلام.
فاستطير الأستاذ فرحاً وإعجاباً، بهذه الرقعة البديعة، وقال: الآن ظهر لي أثر براعته، ووثقت بجريه في طريقي، وينابته منابي، ووقع له بألفي دينار.
وحكى أبو الحسين بن فارس، قال: كنت عند الأستاذ أبي الفتح في يوم شديد الحر فرمت الشمس بجمرات الهاجرة، فقال لي: ما قول الشيخ في قلبه؟ فلم أحر جواباً لأني لم أفطن لما أراد، فلما كان بعد هنية أقبل رسول والده الأستاذ الرئيس يستدعيني إلى مجلسه فقمت إليه، فلما مثلت بين يديه تبسم ضاحكاً إلي وقال: ما قول الشيخ في قلبه؟ فبهت وشكت، وما زلت أفكر حتى تنبهت على أنهما أرادا الخيش، فكأن من كان يشرف على أبي الفتح من جهة أبيه الأستاذ أتاه بتلك اللفظة في تلك الساعة، ولفرط اهتزازه لها أراد مجاراتي، وقرأت صحيفة السرور من وجهه إعجاباً بها، ثم أخذت أتحفه بنكت نثره، وملح نظمه.
وكان مما أ عجب به، وتعجب منه، واستضحك له، حكايتي رقعة له وردت علي، وصدرها: رقعة الشيخ أصغر من عنفقة بقة، وأقصر من أنملة نملة.

(1/375)


قال أبو الحسين: وجرى في بعض أيامنا ذكر أبيات استحسن الأستاذ الرئيس وزنها، واستحلى رونقها، وأنشد جماعة ممن حضر ما حضرهم على ذلك الروى، وهو قول القائل:
لئن كففت وإلا ... شققت منك ثيابي
فأصغى إلينا الأستاذ أبو الفتح، ثم أنشدني في الوقت:
يا مولعاً بعذابي ... أما رحمت شبابي
تركت قلبي قريحاً ... نهب الأسى والتصابي
إن كنت تنكر ما بي ... من ذلتي واكتئابي
فارفع قليلاً قليلا ... عن العظام ثيابي
قال: فتأمل هذه الطريقة، وانظر إلى هذا الطبع، فإنه أتى بمثل ما أنشده في رشاقته وخفته، ولم يعد الجنس، ولم يقصر دونه. وبذلك تعرف قدرة القادر على الخطابة والبلاغة.
قال: ومن شعره وهو في المكتب قوله من قصيدة في أبيه أولها:
أليلٌ هو أم شعرُ ... وبرقٌ هو أم ثغر
وحر الدر ما ضم ... نت الأحشاء أم جمر؟
ويهماء كمثل البحر ... يرتاع لها السفر
تعسفت على هولٍ ... وتحتي بازلٌ جسر
إلى من وجهه بدرٌ ... ومن راحته بحر
ومن جدواه مد لل ... ورى ليس له جزر
هو الغيث هو الليث ... هو الفخر هو الذخر
لأمر مظلمٍ يخشى ... وخطبٍ فادحٍ يعرو
وقوله من نيروزية فيه:
أبشر بنيروزٍ أتاك مبشراً ... بسعادةٍ وزيادةٍ ودوامِ
واشرب فقد حل الربيع نقابه ... عن منظرٍ متهلل بسامِ
وهديتي شعرٌ عجيبٌ نظمه ... ومديحه يبقى على الأيام
فاقبله واقبل عذر من لم يستطع ... إهداء غير نتيجة الأفهام
ومن إحسانه المشهورة قوله من قصيدة:
عودي وماء شبيبتي في عودي ... لا تعمدي لمقاتل المعمودِ
وصليه ما دامت أصايل عيشه ... تؤويه في فيء لها ممدود
ما دام من ليل الصبا في فاحمٍ ... رجل الذرى فينان كالعنقود
قبل المشيب فطارقات جنوده ... يبدلنه يققاً بسحمٍ سود
وقوله لما تقلد الوزارة بعد أبيه:
دعوت الغنى ودعوت المنى ... فلما أجابا دعوت القدح
إذا بلغ المرء آماله ... فليس له بعدها مقترح
وقال:
إذا أنا بلغت الذي كنتُ أشتهي ... وأضعافه ألفاً فكلني إلى الخمر
وقل لنديمي قم إلى الدهر فاقترح ... عليه تهوي ودعني مع الدهر
وله:
أين لي من يفي بشكر الليالي ... إذ أضافت خيالها وخيالي
لم يكن لي على الزمان اقتراحٌ ... غيرها منيةً فجاد بها لي
وقوله في أترجة أهداها إلى والده الأستاذ الرئيس:
أتتك صفراء تحكي لون ذي مقةٍ ... وريح راحٍ حشاها شادنٌ خنثُ
زففتها حين زفت لي على أملٍ ... إني غلامك لا مينٌ ولا عبثُ
وقوله من قصيدة أخرى في عذد الدولة، أولها:
عتبت على الأيام لو عرفت عتباً ... وعاتبتها لو أعقبت ذنبها عتبى
قضت بيننا أحكامها البين كلما ... طلعن بنا شرقاً غربن بها غربا
تحجب عني الشمس من نور وجهها ... وتمنح رياها الركائب والركبا
ومنها:
وكنت أظن الحب قبلُ خلابةً ... فها هو ذا يغري بمخلبه الخلبا
تدور السقاة بالأباريق بيننا ... فنحسبها سرباً يزجي لنا سربا
ومنها:
وقد نظمت شمل العصابة روضةٌ ... منورةُ النوار تحسبها عُصبا
ومنها في وصف النجائب:
متى لم أنل أقصى المنى بنجابها ... فلا نهضت نجباً تسير بنا نجبا
ولا رحلت نحو العفاة رحالها ... ولا كان لي ما بين آمالها نهبا
ولا كنت عبداً للذي الدهر عبدهُ ... أعد النجوم بعد صحبته حصبا
وقوله من قصيدة أخرى فيه، أولها:
أفضت عقوداً أم أفيضت مدامع ... وهذي موعٌ أم نفوسٌ هوامع؟

(1/376)


على الملك قوامٌ وللدين حافظٌ ... وللمال وهابٌ وللجار مانع
أسودٌ ولكن الحراب عرينها ... شموس ولكن الصفوف مطالع
أشاحوا وما شحوا ونابوا ومانبوا ... وكان لهم تحت المنايا مناقع
ومنها في ذلك الأعداء:
أذالهم ذل الهزيمة فانحنت ... قناة الظهور واستقام الأخادع
وكان لهم لبس المعصفر عادةً ... فخاطت لهم منه السيوف القواطع
ومنها:
بطرتم فطرتم والعصا زجرُ من عصى ... وتقويم عبد الهون بالهون نافع
ومنها:
تبسمت والخيل العتاق عوابسُ ... وأقدمت والبيض الرقاق هوالع
صدعت بصبح النصر ليل جموعهم ... وكيف بقاء الليل والصبح صادع
فما الصبح منادٌ ولا الليل خاذلٌ ... ولا النصل خوانٌ ولا السهم طالع
ومنها في وصف الشعر:
ومقترحاتٍ في القوافي بداءةً ... بدائع للإحسان فيها ودائع
كلامٌ شكورٌ أطلقت من عنانه ... صنائع تخجلن النهار نواصع
خدمت بقولي ذا ومن قبل قوله ... خدمت وغى والقول للفعل شافع
وقال من أخرى، وقد ذكر الشعر:
فإن كان مسخوطاً فقل شعر كاتبٍ ... وإن كان مرضياً فقل شعر كاتبي
ذكر آخر أمره
حدثني أبو منصور سعيد بن أحمد البريدي، قال: لما توفي ركن الدولة، وقام مقامه مؤيد الدولة خليفة لأخيه عضد الدولة، أقبل من أصبهان إلى الري، ومعه الصاحب أبو القاسم، وخلع على أبي الفتح خلعة الوزارة، وألقى إليه مقاليد المملكة، والصاحب على جملته في الكتابة لمؤيد الدولة والاختصاص به، وشدة الحظوة لديه، فكرة أبو الفتح مكانه، وأساء الظن به، فبعث الجند على أن يشغبوا عليه، وهموا بما لم ينالوا منه، فأمره مؤيد الدولة بمعاودة أصبهان وأسر في نفسه الموجدة على أبي الفتح لهذا الشأن وغيره، وانضاف ذلك إلى تغير عضد الدولة واحتقاده عليه لأشياء كثيرة في أيام أبيه وبعدها، منها ممايلته بختيار، ومنها ميل القواد إليه، بل غلوهم من موالاته وحبته، ومنها ترفعه عن التواضع له في مكاتباته، واجتمعت أراء الأخوين على اعتقاله، وأخذ أمواله. ولما اعتقل في بعض القلاع بدرت منه كلمات نمت إلى عضد الدولة، فزادت في استيحاشه منه، وأنهض من حضرته من طالبه بالأموال، وعذبه ومثل به، ويقال: إنه سمل إحدى عينيه، وقطع أنفه، وجز لحيته، ففي تلك الحال يقول أبو الفتح وقد يئس من نفسه، واستأذن في صلاة ركعتين، فصلاهما ودعا بدواة وقرطاس وكتب:
بدل من صورتي المنظر ... لكنه ما غير المخبر
ولست ذا حزمن على فائت ... لكن على من لي يستعبر
وواله القلب لما مسني ... مستخبرٌ عني ولا يخبر
فقل لمن سر بما ساءنا ... لا بد أن يسكل ذا المعبر
وأخبرني أبو جعفر الذي قدمت ذكره، وكأن مختصاً به. قال: كان أبو الفتح قبيل النكبة التي أتت على نفسه. قد أغرى بإنشاد هذين البيتين، لا يجف لسانهت من ترديدهما في أ كثر أوقاته وأحواله، ولست أدري أهماله أم لغيره:
دخل الدنيا أناسٌ قلبنا ... ورحلوا عنها وخلوها لنا
فنزلناها كما قد نزلوا ... ونخليها لقومٍ بعدنا
فلما حصل في الاعتقال، واستيقن أن القوم يريدون لا محالة وأنه لا ينجو منهم وإن بذل ماله، مد يده إلى جيب جبة عليه ففتقه عن رقعة فيها ثبت ما لا يحصى من ودائعه وكنوز أبيه وذخائره، فألقاها في كانون نار بين يديه، وقال للقائد الموكل به المأمور بقتله بعد مطالبته: اصنع ما أنت صانع فوالله لا يصل من أموالي المستورة إلى صاحبك دينار واحد، فما زال يعرضه على العذاب، ويمثل به، حتى تلف رحمه الله تعالى، وفيه يقول بعض أصحابه:
آل العميد وأل برمك ما لكم ... قل المعين لكم وذل الناصر!
كان الزمان يحبكم فبدا له ... إن الزمان هو المحب الغادر
ولأبي بكر الخوارزمي في مرثيته من قصيدة:
يا دهر إنك بالرجال بصيرُ ... فلذاك ما تجتاحهم وتبير
وهي تذكر في موضعها من شعره، إن شاء الله سبحانه وتعالى.
الباب الثالث

(1/377)


الصاحب بن عباد
في ذكر الصاحب أبي القاسم إسماعيل بن عباد وإيراد لمع من أخباره وغرر نظمه ونثره
ليست تحضرتي عبارة أرضاها للإفصاح عن علو محله في العلم والأدب وجلالة شأنه في الجود والكرم. وتفرده بغايات المحاسن، وجمعه أشتات المفاخر، لأن همة قولي تنخفض عن بلوغ أدنى فضائله ومعاليه، وجهد وصفي يقصر عن أيسر فواضله ومساعيه، ولكني أقول: هو صدر المشرق، وتاريخ المجد، وغرة الزمان، وينبوع العدل والإحسان، ومن لا حرج في مدحه بكل ما يمدح به مخلوق، ولولاه ما قامت للفضل في دهرنا سوق، وكانت أيامه للعلوية والعلماء، والأدباء والشعراء، وحضرته محط رحالهم، وموسم فضلائهم. ومترع آمالهم. وأمواله مصروفة إليهم، وصنائعه مقصورة عليهم، وهمته في مجد يشيده، وإنعام يحدده. وفاضل يصطنعه، وكلام حسن يصنعه أو يسمعه. ولما كان نادرة عطارد في البلاغة، وواسطة عقد الدهر في السماحة، جلب إليه من الآفاق وأقاصي البلاد كل خطاب جزل، وقول فصل. وصارت حضرته مشرعاً لروائع الكلام، وبدائع الأفهام. وثمار الخواطر، ومجلسه مجمعاً لصوب العقول. وذوب العلوم ودرر القرائح. فبلغ من البلاغة ما يعد في السحر، ويكاد يدخل ف يحد الإعجاز، وسار كلامه مسير الشمس، ونظم ناحيتي الشرق والغرب، واحتف به من نجوم الأرض، وأفراد العصر، وأبناء الفضل، وفرسان الشعر، من يربى عددهم على شعراء الرشيد، ولا يقصرون عنهم في الأخذ برقاب القوافي وملك رق المعاني، فإنه لم يجتمع بباب أحد من الخلفاء والملوك مثل ما اجتمع بباب الرشيد من فحولة الشعراء المذكورين، كأبي نواس، وأبي العتاهية، والعتّابي، والنمري ومسلم بن الوليد، وأبي الشيص، ومروان بن أبي حفصة، ومحمد بن مناذر، وجمعت حضرة الصاحب بأصبهان، والري وجرجان، مثل أبي الحسين السلامي، وأبي بكر الخوارزمي، وأبي طالب المأموني، وأبي الحسن البديهي، وأبي سعد الرستمي، وأبي القاسم الزعفراني، وأبي العباس الضبي، وأبي الحسن بن عبد العزيز الجرجاني، وأبي القاسم بن أبي العلاء، وأبي محمد الخازن وأبي هاشم العلوي، وأبي الحسن الجوهري، وبني المنجم، وابن بابك، وابن القاشاني، وأبي الفضل الهمذاني، وإسماعيل الشاشي، وأبي العلاء الأسدي، وأبي الحسن الغويري، وأبي دلف الخزرجي، وأبي حفص الشهزوري، وأبي معمر الإسماعيلي، وأبي الفياض الطبري، وغيرهم ممن لم يبلغني ذكرهم أو ذهب عني اسمه، ومدحه مكاتبة الشريف الموسوي الرضى، وأبو إسحاق الصابي، وابن حجاج، وابن سكرة، وابن نباته، ولذكر كل من هؤلاء مكان من هذا الكتاب، إما متقدم أو متأخر، وما أحسن وأصدق قول الصاحب:
إن خير المداح من مدحتهُ ... شعراء البلاد في كل نادي
لمع من أخبار محاسنه
وملح من نوادر توقيعاته
سمعت أبا بكر الخوارزمي يقول: إن مولانا الصاحب نشأ من الوزارة في حجرها، ودب ودرج في وكرها، ورضع أفاويق درها، وورثها من أبيه كما قال أبو سعيد:
ورث الوزارة كابراً عن كابر ... موصولة الإسناد بالإسناد
يروي عن العبّاس عبادٌ وزار ... ته وإسماعيل عن عباد
قال: ولما ملك فخر الدولة واستعفى الصاحب من الوزارة قال له: لك في هذه الدولة من إرث الوزارة، ما لنا فيها من إرث الإمارة، فسبيل كل منا أن يحتفظ بحقه.
وحدثني عون بن الحسين الهمداني التميمي، قال: كنت يوماً في خزانة الخلع للصاحب، فرأيت في ثبت حسبانات كاتبها - وكان صديقي - مبلغ عمائم الخز التي صارت الشتوة في خلع الخدم والحاشية، ثمانمائة وعشرين قال: وكان يعجبه الخز ويأمر بالاستكثار منه في داره، فنظر أبو القاسم الزعفراني يوماً إلى جميع من فيها من الخدم والحاشية عليهم الخزوز الفاخرة الملونة، فاعتزل ناحية وأخذ يكتب شيئاً، فسأل الصاحب عنه: فقيل: إنه غي مجلس كذا يكتب، فقال: علي به، فاستمهل الزعفراني ريثما يكمل مكتوبه، فأعجله الصاحب، وأمر بأن يؤخذ ما في يده من الدرج، فقام الزعفراني أليه، وقال: أيد الله الصاحب:
اسمعه ممن قاله تزدد به ... عجباً فحسن الورد في أغصانه
قال: هات يا أبا القاسم، فأنشده أبياتاً منها:
سواك يعد الغنى ما اقتنى ... ويأمره الحرص أن يخزنا
وأنت ابن عبادٍ المرتجى ... تعدّ نوالك نيل المنى

(1/378)


وخيرك من باسطٍ كفّهوممن ثناها قريب الجنى
غمرت الورى بصنوف الندى ... فأصغر ما ملّكوه الغنى
وغادرت أشعرهم مفحماً ... وأشكرهم عاجزاً ألكنا
أيا من عطاياه تهدى الغنى ... إلى راحتي من نأى أو دنا
كسوت المقيمين والزائرين ... كسى لم يخل مثلها ممكنا
وحاشية الدار يمشون في ... ضروب من الخز إلاّ أنا
ولست أذكر لي جارياً ... على العهد يحسن أن يحسنا
فقال الصاحب: قرأت في أخبار مع بن زائدة، أن رجلاً قال له: احملني أيها الأمير، فأمر له بناقة وفرس وبغلة وحمار وجارية، ثم قال له: لو علمت أن الله تعالى خلق مركوباً غير هذه لحملتك عليه، وقد أمرنا لك من الخز بجبة وقميص ودراعة وسراويل وعمامة ومنديل ومطرف ورداء وجورب، ولو علمنا لباساً آخر يتخذ من الخز لأعطيناكه، ثم أمر بإدخاله الخزانة، وصب تلك الخلع عليه وتسليم ما فضل عن لبسه في الوقت إلى غلامه.
وحدثني أبو عبد الله محمد بن حامد الحامدي، قال: عهدي بأبي محمد الخازن ماثلاً بين يدي الصاحب ينشده قصيدة له فيه، أولها:
هذا فؤادك نهبي بين أهواء ... وذلك رأيك شورى بين أراء
هواك بين العيون النجل مقتسمٌ ... داءٌ لعمرك ما أبلاه من داء
لا تستقرّ بأرض أو تسير إلى ... أخرى بشخصٍ قريبٍ عزمه نائي
يوماً بحزوة ويوماً بالعقيق وبال ... عذيب يوماً ويوماً بالخليصاء
وتارةً تنتحي نجداً وآونةً ... شعب العقيق وطوراً قصر تيماء
قال: فرأيت الصاحب مقبلاً عليه بمجامعه حسن الإصغاء إلى إنشاده، مستعيداً أكثر أبياته، مظهراً من الإعجاب به، والاهتزاز له، ما يعجب الحاضرين فلما بلغ قوله:
أدعى بأسماء نبزاً في قبائلها ... كأنّ أسماء أضحت بعض أسمائي
أطلعت شعري وألقت شعرها طرباً ... فألّفا بين إصباحٍ وإمساء
زحف عن دسته طرباً، فلما بلغ قوله ف بالمدح:
لو أن سحبان باراه لأسحبه ... على خطابته أذيال فأفاء
أرى الأقاليم قد ألقت مقالدها ... إليه مستبقاتٍ أي إلقاء
فساس سبعتها منه بأربعةٍ ... أمرٌ ونهيٌ وتثبيتٌ وإمضاء
كذاك توحيده ألوى بأربعةٍ ... كفرٌ وجبرٌ وتشبيهٌ وإرجاء
جعل يحرك رأس مستحسن، فلما أنشد:
نعم تجنّب " لا " يوم العطاء كما ... تجنّب ابن عطاءٍ لثغة الراء
استعاده وصفق بيديه، ولما ختمها بهذه الأبيات:
أطرى وأطرب بالأشعار أنشدها ... أحسن ببهجة إطرابي وإطرائي
ومن منائح مولانا مدائحه ... لأنّ من زنده قدحي وإيرائي
فخذ إليك ابن عباد محبرةً ... لا البحتري يدانيها ولا الطائي
قال: أحسنت أحسنت، ولله أنت، وتناول النسخة وتشاغل بإعارتها نظره، ثم أمر بخلعة وحملان وصلة.
وسمعت أبا عبد الله أيضاً يقول: أهدي إلى الصاحب هدية أهدى منها إلى شيخ الدولتين أبي سعيد الشبيبي، وكتب معها رقعة مصدرة بهذا البيت:
رويت السُّنّة المشهورة البركه ... أن الهدية في الإخوان مشتركه
وحدثني أبو الحسين محمد بن الحسين الفارسي النحوي، قال: سمعت الصاحب يقول: أنفذ إلى أبو العباس تاش الحاجب رقعة في السر بخط صاحبه نوح بن منصور ملك خراسان يريدني فيها على الانحياز إلى حضرته، ليلقى إلى مقاليد مملكته، ويعتمدني لوزارته، ويحكمني في ثمرات بلاده. فكان فيما اعتذرت به من تركي امتثال أمره والصدر ع رأيه، ذكر طول ذيلي وكثرة حاشيتي وضمنتي وحاجتي لنقل كتبي خاصة إلى أربعمائة جمل، فما الظن بما يليق بها من تحمل مثلي!

(1/379)


وحدثني أيضاً، قال: سمعت الصاحب يقول: حضرت مجلس ابن العميد عشية من عشايا شهر رمضان، وقد حضره الفقهاء والمتكلمون للمناظرة، وأنا إذ ذاك في ريعان شبابي، فلما تقوض المجلس، وانصرف القوم، وقد حل الإفطار نكرت ذلك فيما بيني وبين نفسي، واستقبحت إغفاله المر بتفريط الحاضرين مع وفور رياسته، واتساع حاله، واعتقدت ألا أخل بما أخلّ به إذا قمت يوماً مقامه، قال: فكان الصاحب لا يدخل عليه في شهر رمضان بعد العصر أحد كائناً من كان فيخرج من داره إلا بعد الإفطار عنده، وكانت داره لا تخلو في كل ليلة من ليالي شهر رمضان من ألف نفس مفطرة فيها، وكانت صلاته وصدقاته وقرباته في هذا الشهر تبلغ مبلغ ما يطاق منها في جميع شهور السنة.
وحدثني بديع الزمان أبو الفضل الهمذاني، قال: لما أدخلني والدي إلى الصاحب ووصلت إلى مجلسه، واصلت الخدمة بتقبيل الأرض، فقال لي: يا بني اقعد، كم تسجد. كأنك هدهد! قال: وقد قال يوماً لبعض من تأخر هم مجلسه لعلة وجدها: ما الذي كنت تشتكيه؟ قال " الحما " قال " قه " يعني " الحماقة " فقال " وه " يعني " القهوة " .
قال: واستأذن عليه الحاجب يوماً لإنسان طرسوسي فقال " الطر " في لحيته، و " السوس " في حنطته.
وسمعت الأمير أبا الفضل الميكالي يقول: سمعت بعض ندماء الصاحب يقول: كنت يوماً بين يدي الصاحب فقدم الصاحب فقلت " لا مترك " فقال " بالعجلة لمترك " ؟ وكنت أريد أن أقول لا مترك للبطيخ فسبقني إلى التنادر بهذا التجنيس.
حدثني أبو منصور البيع قال: دخلت يوماً على الصاحب فطاولته الحديث فلما أردت القيام قلت: لعلّي طوّلت فقال: لا بل تطوّلت.
وحدثني أبو منصور اللجيمي الدينوري، قال أهدي العميري قاضي قزوين إلى الصاحب كتباً وكتب معها:
العميري عبد كافي الكفاة ... ومن اعتدّ في وجوه القضاة
خدم المجلس الرفيع بكتبٍ ... مفعماتٍ من حسنها مترعات
فوقع تحتها:
قد قبلنا من الجميع كتاباً ... ورددنا لوقتها الباقيات
لست أستغنم الكثير فطبعي ... قول خذ، ليس مذهبي قول هات
قال: وكتب إليه بعض العلوية يخبر بأنه رزق مولوداً، ويسأله أن يسميه ويكنيه فوقع في رقعته.
أسعدك الله بالفارس الجديد، والطالع السعيد، فقد والله ملأ العين قرة، والنفس مسرة مستقرة. والاسم عليّ ليعلي الله ذكره، والكنية أبو الحسن ليحسن الله أمره. فإني أرجو له فضل جده، وسعادة جده، وقد بعثت لتعويذه ديناراً من مائة مثقال، قصدت به مقصد الفال، رجاء أن يعيش مائة عام، ويخلص خلاص الذهب الإبريز من نوب الأيام، والسلام.
قال: وكتب إليه أبو منصور الجرجاني:
قل للوزير المرتجى ... كافي الكفاة الملتجى
إني رزقت ولداً ... كالصبح إذ تبلجا
لا زال في ظلّك ظ ... ل المكرِمات والحجى
فسمِّه وكنِّهٍ ... مشرَّفاً متوّجا
فوقع تحتها:
هنئته هنتئه ... شمس الضحى بدر الدجى
فسمّه محسّناً ... وكنّه أبا الرجا
وعرض على بعض الإصبهانيين رقعة لأبي حفص الوراق الإصبهاني، قد أخذ منها البلى، وفيها توقيع الصاحب، وهذه نسخة الرقعة: لولا أن الذكرى - أطال الله بقاء مولانا الصاحب الجليل! - تنفع المؤمنين، وهزة الصمصام تعين المصلتين، لما ذكرت ذاكراً، ولا هززت ماضياً. ولكن ذا الحاجة لضرورته يستعجل النجح، ويكن الجواد السمح. وحال عبد مولانا - أدام الله تأييده! - في الحنطة مختلفه، وجرذان داره عنها منصرفه. فإن رأى أن يخلط عبده بمن أخصب رحله، ولم يشد رحله، فعل إن شاء الله تعالى... وهذه نسخة التوقيع: أحسنت أبا حفص قولاً، وسنحسن فعلاً، فبشر جرذان دارك بالخصب، وأمنها من الجدب، فالحنطة تأتيك في الأسبوع، ولست عن غيرها من النفقة بممنوع، إن شاء الله تعالى.

(1/380)


وسمعت أبا النصر محمد بن عبد الجبار العتبي، يقول: كتب بعض أصحاب الصاحب رقعة إليه في حاجة فوقع فيها، ولما ردت إليه لم ير فيها توقيعاً، وقد تواترت الأخبار بوقوع التوقيع فيها، فعرضها على أبي العباس الضبي، فما زال يتصفحها، حتى عثر بالتوقيع وهو ألف واحدة وكان في الرقعة: فإن رأى مولانا أن ينعم بكذا فعل، فأثبت الصاحب أمام " فعل " ألفأ يعني " أفعل " .
وسمعت الأمير أبا الفضل الميكالي، يقول: كتب بعض العمال رقعة إلى الصاحب في التماس شغل، وفي الرقعة: إن رأى مولانا أن يأمر بإشغالي ببعض أشغاله، فوقع تحتها: من كتب إشغالي، لا يصلح لأشغالي.
وحدثني أبو الحسن علي بن محمد الحميري، قال: رفع الضرابون من دار الضرب قصة إلى الصاحب في ظلامة لهم مترجمة بالضرابين، فوقع تحتها " في حديد بارد " .
وحدثني أبو سعد نصر بن يعقوب، قال: كان الصاحب يقول بالليالي لجلسائه إذا أراد أن يبسطهم ويؤنسهم: نحن بالنهار سلطان، وبالليل إخوان.
وحدثني أيضاً قال: قال الصاحب: ما أفحمني أحد كالبديهي، فإنه كان عندي يوماً، وأتينا بفاكهة ومشمش فأمعن فيه، فاتفق أتي قلت: إن المشمش يلطخ المعدة، فقال: لا يعجبني الميزبان إذا تطبب.
وسمعت أبا نصر سهل بن المرزبان يقول: كان الصاحب إذا شرب ماء بثلج أنشد على أثره:
قعقعة الثلج بماءٍ عذبِ ... تستخرج الحمد من أقصى القلب
ثم يقول: اللهم جدد اللعن على يزيد.
وحدثني أبو الحسن الدلفي المصيصي، قال: انتحل فلان يعني أحد المتشاعرين بحضرة الصاحب شعراً له، وبلغه ذلك، فقال: أبلغوه عني:
سرقت شعري، وغيري ... يضام فيه ويخدع
فسوف أجزيك صفعاً ... يكدُّ رأساً وأخدع
فسارق المال يقطع ... وسارق الشعر يصفع
قال: فاتخذ الليل جملاً، وهرب من الريّ.
وحدثني غيره قال: كتب إنسان إلى الصاحب رقعة وقد أغار فيها على رسائله وسرق جملة من ألفاظه، فوقع فيها هذه بضاعتنا رُدت إلينا.
ووقع في رقعة استحسنها أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون؟.
ووقع في كتاب بعض مخالفيه فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون.
ووقع في رقعة أبي محمد الخازن وكان ذهب مغاضباً ثم كتب إليه يستأذنه في معاودة حضرته ألم نربّك فينا وليداً ولبثت فينا من عمرك سنين وفعلت فعلتك التي فعلت.
وعرض على أبو الحسن الشقيقي البلخي توقيع الصاحب إليه في رقعة: من نظر لدينه نظرنا لدنياه، فإن آثرت العدل والتوحيد، بسطنا لك الفضل والتمهيد، وإن أقمت على الجبر، فليس لكسرك من جبر.
ووقع في رقعة بعض خطاب الأعمال: التصرف لا يلتمس بالتكفف إن احتجنا إليك صرفناك، وإلا صرفناك.
ورفه إليه بعض منهي الأخبار: أن رجلاً ممن ينطوي له على غير الجميل يدخل داره في الناس، ثم يتلوّم على استراق السمع، فوقع: دارنا هذه خان، يدخلها من وفى ومن خان.
وحدثني أبو الحسين النحوي قال: كان مكي المنشد قد انتاب الصاحب بجرجان، وكان قديم الخدمة له، أدبه غير مرة، فأمر الصاحب بخبسه، فحبس في دار الضرب وهي بجواره بجرجان، فاتفق أنه صعد يوماً سطح داره لحاجة في نفسه وأشرف على دار الضرب، فلما رآه مكي نادى بأعلى صوته: فاطلع فرآه في سواء الجحيم فضحك الصاحب وقال اخشوا فيها ولا تكلمون ثم أمر بإطلاقه.
وحدثني أبو النصر العتبي قال: سمعت أبا جعفر دهقان بن ذي القرنين يقول: قدمت إلى الصاحب هدية أصحبنيها الأمير أبو علي محمد بن محمد برسمه واعتذرت إليه بأن قلت: إنها إذا نقلت إلى حضرته من خراسان كانت كالتمر ينقل إلى كرمان. فقال: قد ينقل التمر من المدينة إلى البصرة على جهة التبرك وهذه سبيل ما يصحبك.
وحدثني الهمداني قال: كان واحد من الفقهاء يعرف بابن الخضيري، يحضر مجلس النظر للصاحب بالليالي، فغلبته عيناه مرة وخرج منه ريح لها صوت، فخجل وانقطع عن المجلس، فقال الصاحب: أبلغوه عني:
يا ابن الخضيريّ لا تذهبْ على خجل ... لحادثٍ منك مثل الناي والعود
فإنها الريح لا تستطيع تحبسها ... إذ أنت لست سليمان بن داود
وحكي أن مثل هذا الأمر وقع للهمداني في مجلس الصاحب فخجل، وقال: صرير التخت، فقال الصاحب: أخشى أن يكون صرير التحت، فيقال إن هذه الخجلة كانت سبب مفارقته الحضرة وخروجه إلى خراسان.

(1/381)


وحدثني أبو نصر النمري بجرجان قال: سمعت القاضي أبا الحسن علي بن عبد العزيز يقول: انصرفت يوماً من دار الصاحب، وذلك قبيل العيد، فجاءني رسول بعطر الفطر ومعه رقعة بخطه فيها هذان البيتان:
يا أيها القاضي الذي نفسي له ... مع قرب عهد لقائه مشتاقه
أهديت عطراً مثل طيب ثنائه ... فكأنّما أهدى له أخلاقه
وقال: سمعته يقول: إن الصاحب يقسم لي من إقباله وإكرامه بجرجان أكثر مما يتلقاني بع في سائر البلاد، وقد استعفيت يوماً من فرط تحفّيه بي أو توضّعه لي، فأنشدني:
أكرم أخاك بأرض مولده ... وأمدّه من فعلك الحسن
فالعزّ مطلوبٌ وملتمسٌ ... وأعزه ما نيل في الوطن
ثم قال لي: قد فرغت من خذا المعنى في العينية، فقلت: لعل مولانا يريد قولي:
وشيّدت مجدي بين قومي فلم أقلْ ... ألا ليت قومي يعلمون صنيعي
فقال: ما أردت غيره، والأصل فيه قول الله تعالى " يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين " .
وحدثني أبو حنيفة الدهشتاني، قال: كتب الصاحب إلى أبي هاشم العلوي وقد أهدى إليه في طبق فضة عطراً:
العبد زارك نازلاً برواقكا ... يستنبط الإشراق من إشراقكا
فأقبل من الطيب الذي أهديته ... ما يسرق العطار من أخلاقكا
والظُّرف يوجب أخذه مع ظَرفِه ... فأضف به طبقاً إلى أطباقكا
وحدثني عون بن الحسين الهمداني، قال: سمعت أبا عيسى بن المنجم يقول: سمعت الصاحب يقول: ما استأذن لي على فخر الدولة وهو في مجلس الأنس إلا انتقل إلى مجلس الحشمة، فيأذن لي فيه، وما أذكر أنه تبذّل بين يدي ومازحني قطّ إلا مرة واحدة، فإنه قال لي في شجون الحديث، بلغني أنك تقول المذهب الاعتزال، والنيك نيك الرجال. فأظهرت الكراهة لانبساطه وقلت بنا من الجد ما لا نفرغ للهزل، ونهضت كالمغاضب، فما زال يعتذر إليّ مراسلة، حتى عاودت مجلسه، ولم يعد بعدها لما يجري مجرى الهزل والمدح.
وسمعت أبا الحسن العلوي الهمداني الوصي، قال: لما توجهت تلقاء الري في سفارتي إليها من جهة السلطان، فكرت في كلام ألقى به الصاحب. فلم يحضرني ما أرضاه، وحين استقبلني في العسكر، وأفضى عناني إلى عنانه، جرى على لساني " ما هذا بشراً إلا ملك كريم " فقال " إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون " ثم قال: مرحباً بالرسول ابن الرسول، الوصي ابن الوصي.
وحدثني أبو الحسين النحوي قال: كان الصاحب منحرفاً عن أبي الحسين ابن فارس لانتسابه إلى خدمة ابن العميد، وتعصبه له، فأنفذ إليه من همدان كتاب الحجر من تأليفه، فقال الصاحب: رد الحجر من حيث جاءك، ثم لم تطب نفسه بتركه، فنظر فيه وأمر له بصلة.
وسمعت أبا القاسم الكرخي يقول: دخل أبو سعيد الرستمي يوماً دار الصاحب فنظر إلى الخلع والأحبية السلطانية المحمولة برسم الصاحب والناس يقيمون رسم النثار لها، فارتجل قصيدة أولها:
ميلوا إلى هذه النعمى نحييها ... ودار ليلى فخلّوها لأهليها
وسمعت أبا جعفر الطبري الطبيب المعروف بالبلاذري، يقول: إن للصاحب رسالة في الطب لو علمها ابن قرة وابن زكرياء لما زادا عليها. فسأله أن يعيرنيها إن كانت عنده، فذكر أنها في جملة ما غاب عنه من كتبه، فاستغربت واستبعدت ما حكاه من تطبب الصاحب ونسبته في نفسي إلى التزيد والتكثر، إلى أن ظفرت في نسخة الرسائل المؤلفة المبوبة للصاحب برسالة قدرتها تلك التي ذكرها أبو جعفر، ووجدتها تجمع إلى ملاحة البلاغة، ورشاقة العبارة، حسن التصرف في لطائف الطب وخصائصه، وتدل على التبحر في علمه وقوة المعرفة بدقائقه، وهذه نسختها، وأكثر ظني أنه قد كتبها إليّ أبو العباس الضبي.

(1/382)


قد عرفت ما شرحه مولاي من أمره، وأنبأ عنه من أحوال جسمه، فدلتي جملته على بقايا في البدن يحتاج معها إلى الصبر على التنقية، والرفق بالتصفية، فأما الذي يشكوه من ضعف معدته وقلة شهوته فلأمرين: أحدهما أن الجسم كما قلت آنفاً لم ينق فتنفتق الشهوة الصادقة وترجع العادة السابقة. والآخر أن المعدة إذا دامت عليها المطفئات ولزت بها المبردات قلت الشهوة وضعف الهضم، ومع ذلك فلا بد مما يطفي ويغذي. ثم يمكن من بعد أن يتدارك ضعف المدة بما يقوى منها ويزيل العارض المكتسب عنها، كما يقول الفاضل جالينوس: قدم علاج الأهم ثم عد وأصلح ما أفسدت. والأقراص في آخر الحميات خير ما نقيت به المعدة، وأصلحت بها العروق. وقوي به الطحال، ليتمكن من جدب العكر لا سيما والذي وجده مولاي ليس الذنب فيه للحميات التي وجدها والبلدة التي وردها، فلو صادف الهواء المتغير جسداً نقياً من الفضول لما أثر هذا التأثير. ولا طول هذا التطويل. وإنما اغتر مولاي بأيام السلامة فكان يتبسط في أنواع الطعام ويسرف في تناول الشراب، فامتلأ الجسم من تلك الكيموسات الرديئة، وورد بلداً شديد التحليل مضطرب الأهوية فوجدت النفس عوناً على حل مل انعقد. ونقض ما اجتمع. وسيتفضل الله بالسلامة فتطول صحبتها وتتصل مدتها لأن الجسد يخلص خلاص الإبريز، إذا زال عنه الخبث، وسبك ففارقه الدرن. وأما الرعشة التي يتألم مولاي منها، ويضيق صدراً بها، فليست والحمد لله محذورة العاقبة، وإنها لتزول بإقبال العافية. فالرعشة التي تتخوف هي التي تعرض من ضعف القوة الحيوانية كما تعرض للمشايخ، وتؤذي لمشاركتها الدماغ كثيراً من العظام، فأما هذه التي تعتاد عقيب الحمى فهي على ما قال جالينوس من أن حدوثها يكون إذا شاركت العروق التي تحدث فيها علة العصب، وتزول عنه بزوال الفضل. وعجب مولاي من تكرهه شم الفواكه، ولا غرو إذا عرف السبب، فإن العفونة التي في العروق قد طبقت روائحها آلات الشم، فما يصل إليها من الروائح الزكية، يرد على النفس مغموراً بتلك الروائح الخبيثة فتكرهها ولا تقبلها. وتأباها ولا تؤثرها.
ألا يرى مولاي أن الأشياء الحلوة توجد في فم ذي الصفراء بطعم الأشياء المرة، لامتلاء المرارة المضادة للحلاوة على آلات الذوق والمضغ والإدارة وهذا راجع إلى مثل ما حكمنا به أولاً من أن هناك فضلاً لا يمكن الهجوم على تحليله، لما يخشى من سقوط القوة، وإن كان مما لم يخرج لم يوثق بوفور الصحة، وأنا أحمد الله إذ ليست شهوة سيدي متزايدة، فالشهوة الغالبة مع الأخلاط الفاسدة تغري صاحبها بالأكل الزائد، وتعرض للمزاج الفاسد. إلا أن التغذي لا يجوز إهماله دفعة والتبرم به ضربة. فإن البدن إذا احتاج إليه وجب للعليل أن يتناوله تناول الدواء الذي يصبر عليه. وذلك أن في دقة الحمية وترك الرجوع أول فأول إلى عادة الصحة إماتة للشهوة، وخيانة للقوة.
وجالينوس يشرط في العلاجات أجمع استحفاظ القوى، لأن الذي يفعله الضعف لا يتداركه أمر، إلا أن ذلك بإزاء ما قال الحكيم الأول بقراط في البدن السقيم: إنك متى ما زدته غذاء زدته شراً، وهو في نفسه يقول: إن الحمية التي في غاية الدقة ليست محمودة، فالطرفان من الإسراف والإجحاف مذمومان، والواسطة أسلم، أغنى الله مولاي عن الطب والأطباء بالسلامة والشفاء.
وسمعت عوناً الهمداني يقول: أتى الصاحب بغلام مثاقف، فلعب بين يديه، فاستحسن صورته. وأعجب بمثاقفته، فقال لأصحابه: قولوا في وصفه، فلم يصنعوا شيئاً، فقال الصاحب:
مثاقفٌ في غاية الحذق ... فاق حسان الغرب والشرق
شبّهته والسيف في كفّه ... بالبدر إذ يلعب بالبرق
وأنشدني أبو سعيد بن دوست الفقيه، قال: أنشدني أبو علي العراقي العوامي الرازي، قال: أنشدني الصاحب لنفسه:
كم نعمةٍ عندك موفورة ... لله فاشكرْ يا ابن عباد
قمْ فالتمس زادك وهو التقى ... لن تسلك الطرق بلا زاد
جرى الشعراء بحضرة الصاحب
في ميدان اقتراحه الديارات
أقرأني أبو بكر الخوارزمي كتاباً لأبي محمد الخازن ورد عليه في ذكر الدار التي بناها الصاحب بإصبهان وانتقل إليها، واقترح على أصحابه وصفها، وهذه نسخته بعد الصدر.

(1/383)


نعم الله عند مولانا الصاحب أدام الله تأييده مترادفة، وأياديه لديه متضاعفة، وأرى أولياء النعم كبت الله أعداءهم تتظاهر كل يوم حسناً في إعظامه وبصائرهم تترامى قوة في إكرامه، والوفود على بابه المعمور، كرجل الجراد، وانتقل إلى البناء المعمور بالفأل المسعود فرأينا يوماً مشهوداً، وعيداً يجنب عيداً، واجتمع المادحون، وقال القائلون، ولو حضرتني القصائد لأنفذتها إلا أني علقت من كل واحدة ما علق بحفظي. والشيخ يعرف ملك النسيان لرقي، فقصيدة الأستاذ أبي العباس الضبي أولها:
دار الوزارة ممدودٌ سرادقها ... ولا حقٌّ بذرى الجوزاء لاحقها
والأرض قد واصلت غيظ السماء بها ... فقطرها أدمعٌ تجري سوابقها
بودّها أنها من أرض عرصتها ... وأن أنجمها فيها طوابقها
فمن مجالي يخلفن الطواوس قد ... أبرزن في حللٍ شاقت شقائقها
ومن كنائس يحكين العرائس قد ... ألبسن مجسدة راقت طرائقها
تفرّعت شرفاتٌ في مناكبها ... يرتدّ عنها كليل العين رامقها
مثل العذارى وقد شدّت مناطقها ... وتوّجت بأكاليل مفارقها
كلّ امرئٍ سوّغته الحجب رؤيتها ... وأشرقت في محيّاه مشارقها
مخلِّفٌ قلبه فيها وناظره ... إذا تجلّت لعينيه حقائقها
والدهر حاجبها يحمي مواردها ... عن الخطوب إذا صالت طوارقها
مواردٌ كلما همّ العفاة بها ... عادت مفاتح للنعمى مغالفها
دار الأمير التي هذي وزارتها ... أهدت لها وشحاً راقت نمارقها
هذي المعالي التي اغتصّ الزمان بها ... وافتك منسوفة والله ناسفها
إن الغنائم قد آلت معاهدةً ... لا زايلتها ولا زالت تعانقها
لأرضها كلّما جادت مواهبها ... وفي ديار معاديها صواعقها
ومن قصيدة الشيخ أبي الحسن صاحب البريد وهو ابن عمة الصاحب:
دارٌ على العزّ والتأييد مبناها ... وللمكارم والعلياء مغناها
دارٌ، تباهى بها الدنيا وساكنها ... طرّاً، وكم كانت الدنيا تمنّاها
فاليمن أصبح مقروناً بيمناها ... واليسر أصبح مقروناً بيسراها
من فوقها شرفاتٍ طال أدناها ... يد الثريا فقلْ لي كيف أقصاها
كأنها غلمةٌ مصطفّةٌ لبستْ ... بيض الغلائل أمثالاً وأشباها
انظر إلى القبّة الخضراء مذهبةً ... كأنما الشمس أعطتها محيّاها
تلك الكنائس قد أصبحن رائقةً ... مثل الأوانس تلقانا وتلقاها
فالربع بالمجد لا بالصحن متسعٌ ... والبهو لا بالحلى بل بالعلا باهى
لما بنى الناس في دنياك دورهم ... بنيت في دارك الغرّاء دنياها
فلو رضيت مكان البُسْط أعيننا ... لم تبق عينٌ لنا إلا فرشناها
وهذه وزراء الملك قاطبةً ... بيادق، لم تزل ما بيننا شاها
فأنت أرفعها مجداً وأسعدها ... جدّاً وأجودها كفّاً وأكفاها
وأنت آدبها بل أنت اكتبها ... وأنت سيدها بل أنت مولاها
كسوتني من لباس العزِّ أشرفه ... المال والعزّ والسلطان والجاها
ولست أقرب إلا بالولاء وإنْ ... كانت لنفسي من علياك قرباها
ومن قصيدة مولاي أبي الطيب الكاتب:
ودارٍ ترى الدنيا عليها مدارها ... تحوز السماء أرضها وديارها
بناها ابن عبادٍ ليعرض همّةً ... على هممٍ إسرافهنّ اقتصارها
يردُّ على الدنيا بها كلّ غدرةٍ ... إذا ما تبارت داره وديارها
وإن قيل بهتاً قد حكت تلك هذه ... فقد يتوارى ليلها ونهارها
فإن لم يكن في صحن دارك بعض ما ... أصدر فالدنيا يصحّ اعتذارها
ومن قصيدة أبي سعيد الرستمي:
نصبن لحبات القلوب حبائلا ... عشيّة حلّ الحاجبات حبائلا

(1/384)


نشدن عقولاً يوم برقة منشدٍ ... ضللن فطالبنا بهن العقائلا
عقائل من أحياء بكرٍ ووائلٍ ... يحببن للعشّاق بكراً ووائلا
عيونٌ ثكلن الحسن منذ فقدنها ... ومن ذا رأى قلبي عيوناً ثواكلا
جعلت ضنى جسمي لديها ذرائعاً ... وسائل دمعي عندهنّ وسائلا
وركب سَروا حتى حسبت بأنهم ... لسرعتهم عدواً إليك المراحلا
إذا نزلوا أرضاً رأوني نازلاً ... وإنْ رحلوا عنها رأوني راحلا
وإنْ أخذوا في جانبٍ ملت آخذاً ... وإنْ عدلوا عن جانبٍ ملت عادلا
وإنْ وردوا ماء وردت وإن طووا ... طويت وإن قالوا تحوّلت قائلا
وإنْ نصبوا للحرّ حرَّ وجوههم ... تمثّلت حرباء على الجِذل مائلا
وإن عرفوا أعلام أرضٍ عرفتها ... وإن أنكروا أنكرت منها المجاهلا
وإن عزموا سيراً شددت رحالهم ... وإن عزموا حلاًّ حللت الرحائلا
وإن وردوا ماءً حملت سقاءهم ... أو انتجعوا غيثاً حدوت الزواملا
أو استنفدت خوص الركائب منهلاً ... أعدن لهم من فيض دمعي مناهلا
يظنّون أني سائلٌ فضل زادهمْ ... ولولا الهوى ما ظنّني الركب سائلا
وأقسمت بالبيت الجديد بناؤه ... يحيّي ومن يحفي إليه المراقلا
هي الدار أبناء الندى من حجيجها ... نوازل في ساحاتها وقوافلا
يزرنك بالأمال مثنىً وموحداً ... ويصدرن بالأموال دثراً وجاملا
قواعد إسماعيل يرفع سمكها ... لنا كيف لا نعتدّهنّ معاقلا
فكم أنفسٍ تأوي إليها مغذّةً ... وأفئدة تهوي إليها حوافلا
وسامية الأعلام تلحظ دونها ... سنا النجم في آفاقها متضائلا
نسخت بها إيوان كسرى بن هرمزٍ ... فأصبح في أرض المدائن عاطلا
فلو أبصرت دار العماد عمادها ... لأمست أعاليها حياءً أسافلا
ولو لحظت جنّات تدمر حسنها ... درت كيف تبنى بعدهنّ المجادلا
يناطح قرن الشمس من شرفاتها ... صفوف ظباء فوقهنّ مواثلا
وعولٌ بأطراف الجبال تقابلت ... ومدّت قروناً للنطاح موائلا
كأشكال طير الماء مدّت جناحها ... وأشخصن أعناقاً لها وحواصلا
وردّت شعاع الشمس فارتدّ راجعاً ... وسدّت هبوب الريح فارتدّ ناكلا
إذا ما ابن عبادٍ مشى فوق أرضها ... مشى الزهو في أكتافها متمايلا
كنائس ناطت بالنجوم كواهلاً ... وعادت فألقت بالنجوم كلاكلا
وفيحاء لو مرّت صبا الريح بينها ... لضلّت فظلّت تستنير الدلائلا
متى ترها خلت السماء سرادقاً ... عليها وأعلام النجوم تماثلا
ومنها في وصف الماء الجاري، وهو أحسن ما سمعت فيه على كثرته:
هواءٌ كأيام الهوى فرط رقةٍ ... وقد فقد العشّاق فيها العواذلا
وماءٍ على الرضراض يجري كأنه ... صفائح تبرٍ قد سكن جداولا
كأنّ بها من شدّة الجري جنّةً ... فقد ألبستهنّ الرياح سلاسلا
ولو أصبحت داراً لك الأرض كلها ... لضاقت بمن ينتاب دارك أملا
ولو كنت تبنيها على قدر همّةٍ ... سمت بك واستسرت إليك المراسلا
عقدت على الدنيا جداراً فحرزتها ... جميعاً، ولم تترك لغيرك طائلا
وأغنى الورى عن منزلٍ من بَنَتْ له ... معاليه فوق الشعريين منازلا
ولا غرو أن يستحدث الليث بالسرى ... عريناً، وان يستطرف البحر ساحلا
ولم يعتمد داراً سوى حومة الوغى ... ولا خدماً إلاّ القنا والقنابلا

(1/385)


ولا حاجباً إلا حساماً مهنّداً ... ولا عاملاً إلا سناناً وعاملا
ووالله ما أرضى لك الدهر خادماً ... ولا البدر منتاباً ولا البحر نائلا
ولا الفلك الدوار داراً ولا الورى ... عبيداً ولا زهر النجوم قبائلا
أخذت بضبع الأرض حتى رفعتها ... إلى غايةٍ أمسى بها النجم جاهلا
فإن الذي يبنيه مثلك خالدٌ ... وسائر ما يبنى الأنام إلى بلى
ومن قصيدة أبي الحسن الجرجاني:
ليهنَ ويسعدْ من به سعُد الفضل ... بدارٍ هي الدنيا، وسائرها فضل
تولّ!ى له تقديرها رحب صدره ... على قدره، والشكل يعجبه الشكل
بنيّة مجدٍ تشهد الأرض أنها ... ستطوى وما حاذى السماء لها مثل
تكلّف أحداق تشهد العيون تخاوصاً ... إليه كأنّ الناس كلّهم قبل
منارٌ لأبصار الرواة، وربّها ... منارٌ لآمال العفاة إذا ضلّوا
سحابٌ علا فوق السحاب مصاعداً ... وأحرى بأن يعلو وأنت له وبل
وقد أسبل الخيري كمي مفاخرٍ ... بصحنٍ به للملك يجتمع الشمل
كما طلع النسر المنير مصفّقاً ... جناحيه لولا أن مطلعه عقل
بنيت على هام العداة بنيّةً ... تمكّن منها في قلوبهم الغلُّ
ولو كنت ترضى هامهم شرفاً لها ... أتوك بها جهد المقلّ ولم يألوا
ولكن أراها لو هممت برفعها ... أبى الله أن تعلو عليك فلم تعلو
تحجُّ لها الآمال من كلّ وجهةٍ ... وينحر في حافاتها البخل والمحل
وما ضرّها ألاّ تقابل دجلةً ... وفي حافتيها يلتقي الفيض والهطل
تجلّى لأطراف العراق سعودها ... فعاد إليها الملك والأمن والعدل
كذا السعد قد ألقى عليها شعاعه ... فليس لنحسٍ في مطارحها فعل
وقالوا تعدّى خلقه في بنائها ... وكان وما غير النوال به شغل
فقلت إذا لم يلهه ذاك عن ندىً ... فماذا على العلياء إنْ كان لا يخلو
إذا النصل لم يذمم نجاراً وشيمةً ... تأنّق في غمدٍ يصان به النصل
تملّ على رغم الحواسد والعدى ... علاك، وعش للجود ما قبح البخل
ومن قصيدة أبي القاسم الزعفراني:
سرّك الله بالبناء الجديد ... تلك حال الشكور لا المستزيد
هذه الدار جنّة الخلد في الدن ... يا فصلها وأختها بالخلود
أمةٌ زيّنت لسيدها الما ... لك لا زينة الفتاة الرود
حليها حسنها فقد غنيت عن ... كل مستطرفٍ بلبس التليد
إرم المسلمين لا ذكر شدّا ... د بن عادٍ فيها ولا اسم شديد
ما تشكّكت أن رضوان قد خا ... ن وإلا لم مثلها في الصعيد؟
كلّ مستخدمٍ فداء وزيرٍ ... خدمته الرجال بعد الأسود
ألزم الإنس كلّ جافٍ شديدٍ ... عمل الجن كل جافٍ مريد
فابتنوا ما لو أن هامان يدنو ... منه لم يرض صرحه للصعود
قد تولى الإقبال خدمته في ... ه على رسمه كبعض الجنود
ودرى أنه يزيد معيناً ... مثله فاستعان بالتسميد
قال للجصّ كن رصاصاً وللآ ... جر لما علاه كن من حديد
فتناهى البنيان وارتفع الإي ... وان حتى أناف بالتشديد
وتبدّت من فوقه شرفاتٌ ... كنساءٍ أشرفن في يوم عيد
قسماً لا مدحت بعد ابن عبا ... د منيل الشباب والتخليد
لا لقيت الزمان إلا بوجهٍ ... ماؤه لا يجول في جلمود
ويدٍ ما حسرت ردّني عنها ... فهي سيفٌ يصان عن تجريد

(1/386)


أجمع الناس أنه أفضل النا ... س اضطراراً أغنى عن التقليد
فلهذا أعدّ قربي منه ... نعمةً ليس فوقها من مزيد
لا ذكرت العراق ما عشت إلا ... أن أراه يؤمه في الجنود
ومن قصيدة أبي القاسم بن أبي العلاء:
دارٌ تمكّنت المناهج فيها ... نطقت سعود العالمين بفيها
ومن قصيدة أبي محمد بن المنجم:
هجرت ولو أنو الصدود ولا الهجرا ... ولا أضمرت نفسي الصروف ولا الغدرا
وكيف وفي الأحشاء نار صبابةٍ ... تشبّب لي في كلّ جارحةٍ جمرا
تقول لي الأفكار لما دعوتها ... لتنظم في معمور بنيانه شعرا
بنى مسكناً باني المفاخر أم فخراً ... وجنّتنا الأولى بدت أم هي الأخرى؟
أم الدار قد أجرى الوزير سعودها ... فلم تجر دارٌ في الثرى المجرى
وتبدو صحونٌ كالظنون فسيحة ... تقدّرها حلماً فتنعتها حزرا
وفي القبة العلياء زهر كواكبٍ ... من الضرب المضروب والذهب المجرى
إذا ما سما الطرف المحلّق نحوها ... رآها سماءً صحف أنجمها تقرا
ومن قصيدة أبي عيسى بن المنجم:
هي الدار قد عمّ الأقاليم نورها ... ولو قدرت بغداد كانت تزورها
ولو خبّرت دار الخلافة بادرت ... إليها وفيها تاجها وسريرها
ولو قد تبقّت سر من را بحالها ... لسار إليها دورها وقصورها
لتسعد فيها يوم حان حضورها ... وتشهد ديناً لا يخاف غرورها
فما حلمت عين الزمان بمثلها ... وحاشا لها من أن يحسّ نظيرها
يقول الأولى قد فوجئوا بدخولها ... وحيَّرهم تحبيرها وحبيرها
أفي كلّ قطرٍ غادةٌ وحليُّها ... وفي كل بيتٍ روضةٌ وغديرها
وأبوابها أثوابها من نفوسها ... فلا ظلم إلا حين ترخي ستورها
معظّمةٌ إلا إذا قيس سمكها ... بهمّة بانيها فتلك نظيرها
هي الهمّة الطولى أجالت بفكرها ... مباني تكسوها العلا ويعيرها
فجاء بدارٍ دار بالسعد نجمُها ... وجنِّبت المحذور ليس يطورها
وقال لها الله الوفيّ ضمانُهُ ... سأحميك ما ضمّ الليالي كرورها
أهنيك بالعمران والعمر دائمٌ ... لبانيك ما أفنى الدهور مرورها
وقد أسجل الإقبال عهدة ملكها ... وخطّت بأقلام السعود سطورها
ودارت لها الأفلاك كيف أدرتها ... ودانت إلى أن قيل أنت مديرها
وهاك ابنة الفكر قد خطبتها ... وقدّم من قبل الزفاف مهورها
فإن كان للدار التي قد بنيتها ... نظيرٌ ففي عرض القريض نظيرها
وإلاّ جررت الذيل في ساحة العلا ... وقلت القوافي قد أعيد جريرها
ومن قصيدة أبي القاسم عبيد الله بن محمد بن المعلى، أبوه يكتب لأبي دلف سهلان بن مسافر، وقد ورد الباب منذ أشهر، وهو ممن يفهم ويدري، وله بديهة ومعرفة حسنة:
بي من هواها وإن ظهرت لي جلداً ... وجدّ يذيب وشوقٌ يصدع الكبدا
رَمَت بأسهم هجرٍ لا تقوم لها ... خيل العزاء وإن ألبستها زردا
من مبلغٍ عنّي الماهات مألكةً ... تحيي الصديق وتردي كلّ من حسدا
أني ترحّلت عن قومي بها قنصاً ... فإنْ رجعتُ إليهم أبصروا أسدا
قل للوزير ابن عبادٍ بنيت هلاً ... أم منزلاً أم كلا هذين أم بلدا
فمن رأى دار مولانا وزينتها ... رأى بها كوكباً في أفقه فردا
رأى الربيع رأى الروض المريع رأى ال ... طود المنيع رأى ثهلان قد ركدا
ومن قصيدة أبي العلاء الأسدي:
أسعد بدارك إنها الخلد ... والعيش فيها ناعمٌ رغدُ
دارٌ ولكن أرضها شرفٌ ... ربعٌ ولكن سقفه مجد

(1/387)


قد أثمرته همة صعدٌ ... هي قبل والدنيا لها بعدُ
هي للعفاة وللندى قبلٌ ... صلّى إليها الشكر والحمد
إيوان كسرى في مدائنه ... من ابتنيت دموعه سرد
ولماردٍ همَّ يعانقه ... وكذاك يشجي الأبلق الفرد
والجعفرية لأقوام لها ... وصفا البديع وولول القرد
أحييت عباداً وأسرته ... فضلاً ولم يشقق لهم لحد
والحي مَنْ حييَتْ مناقبه ... بابنٍ يؤرّخ باسمه المجد
هذي العقيلة من بني أسدٍ ... تجلى وتحذر صولها الأسد
بكرٌ فلم يعرض لها بشرٌ ... قبلي ولم يقدح لها زند
زفّت إليك وحليها أدبٌ ... وزكي لديك ومهرها نقد
ومن قصيدة أبي الحسن الغويري:
دارٌ غدت للفضل داره ... أفلاك أسعده مداره
منها المحامد مستقا ... ةٌ والمحاسن مستعاره
شرفاتها هيفُ الخصو ... ر لها تحاسينٌ وشاره
فلكلّ طرفٍ نحوها ... ولكل جارحةٍ إشاره
وعلى جميع الدور في ال ... دنيا تقلّدت الإماره
فترابها مسكٌ سحي ... قٌ شقّ برد الليل فاره
لا تهتدي لنعوت أد ... ناها الفحول بنو عماره
ومن قصيدة لبعض الشبان من أهل البلد:
هي دنياً بنيتها أم دار ... فجميع الأفلاك فيها تدار
ولبعض الشعراء من الغرباء من قصيدة أولها:
رأينا طلعة الدار ... شموساً مع أقمار
ولي مسألة بعد ... فعاجلني بأخبار
بنيت الدار في دنيا ... ك أم دنياك في الدار
أخذ هذا المعنى من حيث أخذه أبو الحسن بن أبي الحسن البريدي:
لما بنى الناس في دنياك دورهم
وهما أخذاه من قول أبي العيناء حين قال له المتوكل: كيف ترى دارنا هذه؟ فقال: يا أمير المؤمنين، عهدي بالناس يبنون الدور في هذه الدنيا وأنت بنيت الدنيا في دارك هذه.
ولبعضهم قصيدة أولها:
إن الوزير قد بنى داراً ... والسعد في أكنافها دارا
ومن قصيدة أخرى:
هنّئت جنّتك التي تبنيها ... وبقيت غضّاً ناضراً تبليها
ومن قصيدة هزلية لابن عطية الشاعر:
الملك ملكٌ والأمير أمير ... والدار دارٌ والوزير وزير
ومنها وقد جد:
تزهى الملوك بدورها ولأنت من ... تزهى به الدنيا فكيف الدور
لا يعدم الأمراء منك سياسةً ... لولا سعادتها وهي التدبير
وكان في جملة الطارئين شيخ أنطاكي في زي الكتاب حسن البيان ظريف اللهجة قد أنافت سنوه على الثمانين وخنقت التسعين، فقال قصيدة أولها:
ما أنصف الدار واقفٌ فيها ... يثني على غيرها ويطريها
فقفْ بها ناشراً محاسنها ... وانح به ما نوت نواحيها
ووفّها النعت غير مختصرٍ ... فليس نزر الثناء يكفيها
يكاد يجري السفين سافلها ... يكاد يعلو النجوم عاليها
لم يبق في الناس من إذا ذكرت ... بوحدة الكون لم يقل إليها
فعجْ بها الصحب واقضِ واجبها ... وقف بها وقفةَ المنيها
إنْ أغدُ ذا نعمةٍ فواهبها ... أنت فداك الورى ومنشيها
وما تراه عليَّ من حللٍ ... فأنت كأسٍ بها ومعطيها
وكل ما ضمّ منزلي وبدي ... من نعمةٍ لي فأنت موليها
لا نسي الله حسن فعلك بلْ ... أسأله في الحياة ينسيها
قال مؤلف الكتاب: وأنشدني أبو بكر الخوارزمي لنفسه في دار الصاحب عارض بها قصية الرستمي في الوزن والقافية إذ هي أجود القصائد فمنها:
أكلُّ بناءٍ أنت بانيه معجزُ ... بنيت المعالي أم بنيت المنازلا
فلا الإنس تبني مثلهنّ معالماً ... ولا الجنّ تبني مثلهنّ معاقلا
كنائس أضحت للغمام عمائماً ... علواً وأمسّت في الظلام قنادلا

(1/388)


رحابٌ كأنْ قد شاكلت صد ربّها ... وبيضٌ كأنْ قد نازعته الشمائلا
وبهوٌ تباهي الأرض منه سماءها ... بأوسع منها آخراً وأوائلا
وصحنٍ يسير الطرف فيه ولم يكنْ ... ليقطعه بالسير إلا مراحلا
تلوح نقوش الجصّ في جدرانه ... كما زيّن الوشم الدقيق الأناملا
وماءٌ إذا أبصرتَ منه صفاءه ... حسبت نجوم الليل ذابت سوائلا
رأيت سيوفاً قد سللن على الثرى ... وصارت لها أيدي الرياح صياقلا
وروضٌ كعيش السائليك نضارةً ... ووجهك بشراً حين تلحظ آملا
أصائله للنور أضحت هواجراً ... هواجره للطيب أضحت أصائلا
هي الدار أمست مطرح العلم فاغتذى ... لها ناهل الآمال ريّان ناهلا
إذا ما انتحاها الركب لم يتطلبوا ... إليها دليلاً غير من كان قافلا
وأنت امرؤٌ أعطيت ما لو سألته ... إلهك قال الناس أسرفت سائلا
وإني وإلزاميك بالشعر بعدما ... تعلّمته منك الندى والفواضلا
كملزم ربّ الدار أُجرةَ داره ... ومثلك أعطى من طريقين نائلا
وأنشدني أيضاً لنفسه فيها:
بنيت الدار عاليةً ... كمثل بنائك الشرفا
فلا زالت رؤوس عدا ... ك في حيطانها شرَفا
ذكر البرذونيات
لما نفق برذون أبي عيسى بن المنجم بأصبهان وكان أصدا قد جمله الصاحب عليه وطالت صحبته له أو عز الصاحب إلى الندماء المقيمين في جملته أن يعزو أبا عيسى ويرثوا أصداه فقال كل منهم قصيدة فريدة، فمن قصيدة أبي القاسم الزعفراني:
كنْ مدى الدهر في حمى النعماء ... مستهيناً بحادث الأرزاء
ينثني الخطب حين يلقاك عن طو ... د شديد الثبات للنّكباء
بك يا أحمد بن موسى التسلّي ... والتعزّي عن سائر الأشياء
ومعزّيك لا يزيدك خبراً ... بالذي قد عرفته بالعزاء
قد سخا طرفك المفارق بالنف ... س وطرفي من بعده بالماء
يا له جمرةٌ ونجماً وشؤبو ... باً وبرقاً وطائراً في الرواء
راكب الليل خائض السيل عيّن ال ... خيل عانته أعين الأعداء
فقد الوحش منه أوّل قطّا ... عٍ إليها المدى أمام الضرّاء
واستراحت من نقعه مقلة الشم ... س ومن لطمه خدود الفضاء
ما بدا والصباح قد لاح إلاّ ... جاءنا من قتامه بالمساء
وترى الطود حين يمثل مجمو ... عاً على ضمر القنا في الهواء
كم ركبت البراق منه أبا عيس ... ى وإن لم تكن من الأنبياء
فرسٌ لو علاه ذو الزهد عمرو ب ... ن عبيدٍ لتاه في الخيلاء
عدّة الفارس الذي خانه الصب ... ر فرامى بصدره في اللقاء
قد تملّيته وإن كنت ما شا ... هدت في ظهره وغى الهيجاء
فترى ما يراه غيرك في الحر ... ب وتقلى طريقه الندماء
كل بؤسي أتتك من قبل الل ... ه فسلَّم فيها لجاري القضاء
سوف تعتاض من خصيِّك فحلاً ... لم يشنه بيطاره بالخصاء
من لهى سيدٍ سخيٍّ سريٍّ ... يشتري بالغلاء كلّ العلاء
أي رزءٍ وأي وزرٍ على من ... يتقوّى بأنهض الوزراء
أيها الصاحب الجليل أتمّ الل ... ه نعماك عندنا بالنماء
كم كرعنا من بحر عزفك في كفّ ... ك أصفى ماءٍ بأوفى إناء
سنّةٌ سنها فتى لا يريد الو ... صل بين البيضاء والصفراء
جمع الله شمل معتصمٍ من ... ك بحبلي مودّةٍ وولاء
ومن قصيدة أبي الحسن بن عبد العزيز الجرجاني:

(1/389)


جلّ والله ما داهك وعزّاً ... فعزاءً إنّ الكريم معزى
والحصيف الكريم من إن أصابت ... نكبةٌ بعد ما يعزُّ يعزّى
هي ما قد علمت أحداث دهرٍ ... لم تدع عدّةً تصان وكنزا
قصدت دولة الخلافة جهراً ... فأبادت عمادها والمعزّا
وقديماً أفنت جديساً وطمساً ... حفزتهم إلى المقابر حفزا
اصغِ والحظّ هل ترى منْ ... أحدٍ منهمُ وتسمع ركزا
ذهب الطرف فاحتسبْ وتصبَّرْ ... للرزايا فالحرّ من يتعزّى
فعلى مثله استطير فؤاد ال ... حازم الندب حسرةً واستفزّا
لم يكن سمع القياد على الهو ... ن ولا كان نافزاً مشمئزّاً
ربَّ يومٍ رأيته بين جردٍ ... تتقفاه وهو يجمز جمزا
وكأنّ الأبصار تعلق منه ... بحسامٍ يهزّ في الشمس هزّا
وتراه يلاعب العين حتى ... تحسب العين أنه يتهزّا
وسواءٌ عليه هجّر أو أس ... رى أو انحطّ أو تسنّم نشزا
وكأن المضمار يبرز منه ... متنُ حسّي ينزّ بالماء نزّا
استراحت منه الوحوش وقد كا ... ن يراها فلا ترى منها حرزا
كم غزالٍ أنحى عليه وعيرٍ ... نال منه وكم تصيّد فزا
وصروف الزمان تقصد فيما ... يستفيد الفتى الأعزّ الأعزّا
فإذا ما وجدت من جزع النك ... بة في القلب والجوانح وخزا
فتذكر سوابقاً كان ذا الطر ... ف إليهنّ حين يمدح يُعزى
أين شقّ وداحسٌ وصبيبٌ ... غمزتها حوادث الدهر غمزا
غلن ذا اللمة الجواد ولزّت ... طرباً واللزاز والسلب لزّا
ولقد بزّت الوجيه ومكتو ... ماً بني أعصرٍ وأعوج بزّا
وتصدت للاحقٍ فرمته ... وغرابٍ وزهدمٍ فاستفزّا
فاحمد الله إن أهون ما تُر ... زأ ما كنت أنت فيه المعزى
قد رثينا ولم نقصر وبالغ ... نا وفي البعض ما كفاه وأجزى
ومن العدل أن نثاب أبا عيس ... ى على قدر ما فلنا ونجزى
ومن قصيدة أبي القاسم بن أبي العلاء:
عزاءً وإن كان المصاب جليلاً ... وصبراً وإن لم يغن عنك فتيلا
وخفّض أبا عيسى عليك ولا تفضْ ... دموعاً وإن كان البكاء جميلا
وراجع حجاك الثبت لا يغلب الأسى ... أساك وإن حمّلت منه ثقيلا
ولا تسنفزّنّك الهموم وبرحها ... فحملك قبل اليوم كان أصيلا
وإن نفق الطرف الذي لو بكيته ... دماً كان في حكم الوفاء قليلا
أقبّ يروق الحين حسناً ومنظراً ... ويرجعها يوم الحضار كليلا
إذا ما بدا أبدى لعطفك هزّةً ... ونفسك إعجاباً به وقبولا
كلمع الشهاب خفّةً وتوقّداً ... وجذع الحضار هادياً ودليلا
إذا قلت قفْ أبصرته الماء جامداً ... وإن قلت سر ماءٌ أصاب مسيلا
خلت قصاب السبق منه وأيقنتْ ... رياح الصبا أن لا يجدن رسيلا
خلت جلال الخز وانتحبت له ... مخالي حريرٍ رحن منه عطولا
أقام عليه آل أعوج مأتماً ... وأعلى له آل الوجيه عويلا
ففي كلّ اصطبل أنينٌ وزفرةٌ ... تردّد فيه بكرةً وأصيلا
ولو وفت الجرد الجياد حقوقه ... لما رجعت حتى الممات صهيلا
وقد أنصفته الخيل ما ذقن بعده ... شعيراً ولا تبناً ومتن غليلا
فقدت أبا عيسى بطرفك مركباً ... جليلاً وخلاًّ ما علمت نبيلا
عتادك في الجلى وكهفك في الوغى ... وعونك يوماً إنْ أردت رحيلا
تفرقتما لا عن تقالٍ وكنتما ... لفرط التصافي مالكاً وعقيلا

(1/390)


وهبت لعقبان الفلاة لحومه ... وكنت بها لولا القضاء بخيلا
ووزعتها بين النسور غنيمةً ... صفايا ومرباعاً لها وفضولا
وأعززته دهراً فلما سطا به الرد ... ى تجد بدّاً فصرت مذيلا
على أنها الأيام شتّى صروفها ... تذلّ عزيزاً أو تعزّ ذليلا
ومن قصيدة أبي الحسن السلامي:
فدى لك بعد رزئك من ينام ... ومن يصبو إذا سجع الحمام
ونفسي بالفداء عنيت لا من ... ينام عن الحقوق ولا يلام
ألا نفق الجواد فلا عجاجٌ ... تقوم به الحروب ولا ضرام
وكان إذا طغت حرب عوانٌ ... جرى ورسيله الموت الزؤام
إذا رميت به الغابات صلّت ... صفوف الخيل وهو لها إمام
تمهّر في الوقائع وهو مهرٌ ... ولا سرجٌ عليه ولا لجام
فلما لم يدع في الأرض قرناً ... تخوّنه فعاجله الحمام
وعوّد عافيات الطير طعماً ... وشُرْب دمٍ إذا حرم المدام
فلما لم يطقْ نهضاً أتته ... فقال لها أنا ذاك الطعام
وجاد بنفسه إذا لم يجد ما ... يجود به، كذا الخيل الكرام
وكنت البدر عارضه كسوفٌ ... بنحسٍ حين تم له التمام
فلا تبعد وإن أبعدت عنّا ... فهذا العيش ليس له انتظام
إذا لم تكشف الأصدا همومي ... فليت الخيل أصداه وهام
طوى الحدثان طرفك يا ابن يحيى ... فطرفي ما يعاوده المنام
ولم أحضره يوم قضى فيشكو ... تحمحمه الذي صنع السقام
ولا خبرت ليلة جرّ جسمٌ ... زكت عندي له نعمٌ جسام
ألم أقسم عليك لتخبرنّي ... أمحمولٌ على النعش الهمام
مضوا يتناقلون به خفافاً ... عليه من الصباغ له قيام
فبزّوه وما عرّوه درعاً ... نبت عنه الصوارم والسهام
أيقتله الحمام أشدّ قرنٍ ... واكرمه وتسلبه اللئام
أبا عيسى تعزّ فدتك نفسي ... فإن الموت قرنٌ لا يضام
أٌمْ في ظلّ إسماعيل تضمنْ ... لك الدرك السلامة والدوام
إذا بقي الوزير لنا وفينا ... فقل للدهر يهلك والأنام
وعظت بها أخاً ورثيت مالاً ... وأدّيت الأمانة والسلام
ومن قصيدة أبي محمد الخازن:
لو سامح الدهر أعصماً صدعاً ... أو كاسراً فوق مربأٍ وقعا
أو صاحباً ساقه نواهضه ... أو سبعاً في عرينه شبعا
ابقى لنا ذلك الجواد ولم ... يغدو لصفو الهبات منتزعا
لست أقيل الزمان عثرته ... فليس يدري الزمان ما صنعا
آهٍ على ذلك الجواد فقدْ ... جرّع قلبي من كأسه جرعا
آهٍ عليه من أصدأٍ جزعٍ ... طاوع دهراً أودى به جزعا
آهٍ عليه وقد سرى لمعاً ... فراح غيضاً كبارق لمعا
لم يكبُ في جريه إذا كنت ال ... خيل ولا قال راكبوه لعا
صفا أديماً وحافزاً وقحاً ... والعين والساعدين والسفعا
عريض زورٍ وبلدةٍ وصلاً ... رحيبُ صدرٍ ومنخرٍ ومعا
إذا هوى فالعقاب منخفضاً ... وإن رقى فالسحاب مرتفعا
كأنّه بالسماك منتعلٌ ... فليس يشكو في وقعه وقعا
أوجعك الله يا زمان فقد ... رحت حزيناً بفقده وجعا
قد لان للموت أخدعاه ومنْ ... خادعه الدهر عاد منخدعا
كم قلت للنفس وهي مزعجةٌ ... أيتها النفس أجملي جزعا
قد شرّع القائلون باباً إلى الصب ... ر عليه فأصبحوا شرعا

(1/391)


لا تصحب الهمّ في الجوادا أبا ... عيسى ودعه ولا تكنْ جزعا
فنائل الصاحب الجليل أبي ال ... قاسم إسماعيل الحيا همعا
وانظر إليه كأنه قمرٌ ... أزهر من ثنيّ دسته طلعا
ولا تضق بالذي فقدت يداً ... إن لنا في نداه متّسعا
فاسمع قريضاً من موجعٍ جزعٍ ... ويرحم الله صاحب سمعا
ومن قصيدة أبي سعيد الرستمي:
لو أعتب الدهر من يعاتبه ... ولان للعاذلين جانبه
أو كان يصغي إلى شكاة شجٍ ... صبّت على قلبه مصائبه
أحسنت عنك المناب في حرقٍ ... تشعلها في الحشى نوائبه
ولم أزل عن شكاته أبداً ... ولم أزل دائباً أعاتبه
لهفي على ذلك الجواد وهل ... يفكّ رهن المنون نادبه
لو كان غير الممات حاوله ... لفلّلت دونه مخالبه
أو كان غير المنون يخطبه ... رمّل أنفٌ أبداه خاطبه
أو حارب الدهر مشفقٌ حدبٌ ... لقمت في وجهه أحاربه
من لجوىً حلّ بي عساكره ... وحطّ بين الحشى مضاربه
فلست أرجو انقلاعه أبداً ... أو يجلب الصبر لي جوالبه
يرتدّ بين الضلوع لي نفسٌ ... من ذكره ضاق بي مساربه
لهفي على ذلك الجواد مضى ... في سفرٍ لا يؤوب غائبه
لو عرف الخيل من نعيت لها ... ضاقت بها في السُّرى مذاهبه
أو علم القفر من نعيا له ... لانسدّ للسالكين لاحبه
تباشر الوحش في الفلاة له ... فقد ضفت بعده مشاربه
فنام ملء الجفون شارده ... وسام ملء البطون ساربه
تبكي لتقريبه الرياح معاً ... فهنّ في جريها أقاربه
عهدي به والجنوب تجنبه ... إذا جرى والصبا تجانبه
والهوج في حضره تحاذره ... والنكب في سيره تناكبه
يا حسنه والعيون ترمقه ... وأنت يوم الرهان راكبه
ترخي عليه العنان في عنقٍ ... حتى إذا ما التوى تجاذبه
إن سار في السهل هاج ساكنه ... أو سار في الحزن صاح صاحبه
يوسعه إن رآه حاسده ... مدحاً ويثني عليه جاذبه
أخذه من قول أبي تمام:
عوّذه الحاسد بخلاً به
رجع:
أصدأ يحكي الظلام، غرّته ال ... بدر وتحجيله كواكبه
أعاره الروض وشي زهرته ... فعاد في لونه يناسبه
وطالبٍ لا يفوز هاربه ... وهاربٍ لا ينال طالبه
كم موكبٍ سار في جوانبه ... فاهتزّ زهواً به كتائبه
وعسكرٍ زانه تحمحمه ... فارتجّ من صوته مواكبه
ومجهلٍ راح وهو جائبه ... لولاه لم تطوه نجائبه
صبراً جميلاً وإن سلبت أبا ... عيسى جليلاً فالموت سالبه
والموت إن جار في الحكومة أم ... أنصف فالمرء لا يغالبه
في الصاحب المرتجى لنا خلفٌ ... من كلّ ماضٍ خفت ركائبه
إن نَفَق الطرف أو أصبت به ... ما نفقت عندنا مواهبه
لم يود طرفٌ وإن فقدت به ... علقاً نفيساً ما عاش واهبه
دام لنا في النعيم ما طلعت ... شمس وجلّى الظلام ثاقبه
ومن قصيدة أبي العباس الضبي:
دعا ناظري لذيذ اغتماضه ... وقلبي يستعرْ أليم ارتماضه
فقد جاد سبّاق الجياد بنفسه ... فلا ظهر منها لم يملْ لانهياضه
أبيد فما للبيد طرفٌ وطرفه ... صحيحٌ ولم يقرحه حرّ ارفضاضه
نفوسٌ عتاق الخيل فيضي لفقده ... وأعينها فيضي لوشك انقراضه
وأظهرها حطّي السروج تفجعاً ... له ورِدي ماء الردى من حياضه

(1/392)


لقد كان وفق الجو عند ارتفاعه ... نشاطاً وملء الأرض عند انخفاضه
لو أن خدود الورد أرضٌ لأرضه ... لما مسّها منه أذىً بارتكاضه
يريك نحول السهم عند اقتباله ... ويبدي مثول الطود عند اعتراضه
ويخفى اصطفاق الرعد رجع صهيله ... ويخفت صوت الليث بين غياضه
تعزّ أبا عيسى وليّك ثابتٌ ... وجل التسّلي لم يرعْ بانتقاضه
ومن عرف الدنيا استهان بخطبها ... ولا سيّما من طال عهد ارتياضه
ولو قبل الدهر الخؤون ذخائري ... لقدّمتها عنه رضىً باعتياضه
ولكنه يبقى الذي لا نودّه ... ويردي الذي نهوى بصرف غضاضه
وهذا الذي بي لو غدا زاد مرضعٍ ... لشيّب فوديه اشتعال بياضه
سقا الأصدأ الكدريّ ما نقع الصدا ... غمامٌ حداه الرعد عند ائتماضه
وفي بعض حملان الوزير معوضةً ... وسلوان قلبٍ مسلمٍ لانقضاضه
فسرْ كيفما آثرت فوق جياده ... ومِسْ كيفما أحببت بين رياضه
ومن أرجوزة أبي دلف الخزرجي:
دهرٌ على أبنائه وثّابُ ... تعجمهم أنيابه الصّلاب
فما لهم من كيده حجاب ... يا لك دهراً كلّه عقاب
أصبح لا يردعه العتاب ... إن المنايا ولها أسباب
تصيدنا والصيد مستطاب ... واهاً لناءٍ ما له إياب
لكلّ قلبٍ بعده اكتئاب ... مسوّمٍ تعنو له الأسراب
أصدأ بادي الحسن لا يعابُ ... قد كملت في طبعه الآداب
وهذّبت أخلاقه الذعاب ... أقبُّ مما ولّد الأعراب
ذو نسبٍ تحسده الأنساب ... وميعةٍ ينزو بها الشباب
كأنما غرّته شهاب ... كأنما لبّاته محراب
كأنما حجوله سراب ... كأنما حافره مجواب
للصخر عند وقعه التهاب ... إذا تدانى فهو الحِباب
إن القرارات له انصباب ... وإن علا فالصقر والعقاب
للريح في مذهبه ذهاب ... فالوحش ما يلقاه والهراب
دماؤها لنحره خضاب ... يا غائباً طال به الإياب
لا خبرٌ منك ولا كتاب ... ما كنت إلا روضة تنتاب
مستأنساً تألفك الرحاب ... تعشقك العيون والألباب
ترتجّ كالموج له عباب ... تناوبتك للردى أنياب
تجزع من أمثالها الأحباب ... وكنت لو طالت بك الأوصاب
يخفّ في مصرعك المصاب ... ما طاب عن إضرابك الإضراب
ولا صحا من حبك الأصحاب ... وأنت فردٌ ما له أتراب
يا حزناً إذ ضمّك الخراب ... وأغلقت من دونك الأبواب
كصارمٍ أسلمه القراب ... وقد جرى من فمك اللعاب
وامتاز منه النحل والذباب ... واعتورتك الفئة الغضاب
وفيك أطراف المدى تنساب ... حتى نضى عن جسمك الإهاب
هل هو إلا هكذا العذاب ... وقد إذا الإصطبل والجناب
يبكيك والسائس والبوّاب ... والسّرج واللجمام والركاب
قل لأبي عيسى وما الإسهاب ... بنافعٍ تمّ لك الثواب
والرأي في دفع صواب ... فاسكن فهذا الصاحب الوهّاب
شيمته السخاء والإيجاب ... في جوده وفضله مناب
آلاؤه ليس بها ارتياب ... يضلّ في إحصائها الحساب
لا زال والدعاء يستجاب ... يبقى لنا ما بقي التراب
ومن قصيدة أبي محمد محمود:
بكاءً على الطرف يسبق الطرفا ... على ذلك الإلف الذي فارق الإلفا
وقفْ مدد الأحزان وقفاً مؤبداً ... عليه وخلّ الدمع يجري له وكفا

(1/393)


على أصدأٍ زان الحليّ إذا اغتذت ... عليه وزان البيض والبيض والزعفا
على أصدأٍ جاراه ألف مشهّرٍ ... عتيق فوافانا وقد سبق الألفا
على فرسٍ جارى الرياح على حفّاً ... فغادرها حسرى وخلّفها ضعفى
جواب الذي ينعى إليه أيا لهفاً ... على ذلك الأصدا وقلّ له لهفى
أقام بمثواه الجياد مناحةً ... كما عقدت وحش الفلاة به قصفا
وآل الغراب والوجيه ولاحقٍ ... ادامت عويلاً لا أطيق له وصفا
فكم أقرحت خدّاً وكم ألهبت حشاً ... وكم أوجعت قلباً وكم أدمعت طرفا
ولو عرفت حسناء داود حقّه ... لما ضفّرت شعراً ولا خضّبت كفّا
فكم قد حماها يوم حربٍ وغارةٍ ... وكم نزعت من خوفها القلب والشنفا
يطير على وجه الصعيد إذا جرى ... فما إن يمسّ الأرض من أرضه حرفا
ويعطيك عفواً من أفانين ركضه ... إذا سمته التقريب أو سمته القطفا
له ذنبٌ ضافٍ يجرّ على الثرى ... طويلٌ كأذيال العرائس بل أضفى
له غرّةٌ مثل السراج ضياؤها ... وأي سراجٍ بالنوائب لا يطفا
سقى الغيث وهو مشبهاً ذلك الكتفا ... وطوداً منيفاً حاكياً ذلك الردفا
يواجه وجه الوحش إن سار خلفها ... فيجعلها من حيث لم يحتسب خطفا
ويرجع مخضوب البنان كأنه ... عروسٌ وقد زفّت إلى خدرها زفّا
وإن خاف من عين النواظر أهله ... عليه فمدّوا دون مربطه سحفا
إذا ما غزا الغازي عليه قبيلةٌ ... فلا حافراً أبقى عليه ولا خفّا
يراه كميتٍ وهو لهفان والهٌ ... لمنيته يطوي الظلام وما أغفى
ولو أنه قد كان حقّق موته ... لجزّ عليه للأسى الشعر الوحفا
وما أنا ممّن يظهر الشجو أمناً ... وإن عظيمات المصائب لا تخفى
ولولاه وفاءٌ فيه كنت أقوده ... إليك بلا منٍّ ولكنّه استعفى
كراهيةً من أن يقوم مقامه ... حفاظاً وبعض الخيل يستعمل الظرفا
وأعفيته أن الوزير معوّضٌ ... ومن ذا الذي نداه ولا يكفى
فعوّل أبا عيسى عليه فإنه ... سيطفيك خطب الدهر وهو به أكفى
ولو لم يرد تعويضه لك عاجلاً ... لقال له رفقاً وقال له وقفا
فإن صروف الدهر تحت يمينه ... فإن شاءها بعثاً وإن شاءها صرفا
هو البحر يغني الناس من كلّ جانبٍ ... فغرقاً من البحر الذي زرته غرقا
هو الغيث يعطي كلّ غادٍ ورائحٍ ... عطاءً جزيلاً لا بكيئاً ولا نشفا
كريمٌ إذا ما جاءه ابن حظيّةٍ ... ألان له عِطفاً وأبدى له عَطفا
أقام مناراً لالندى والهدى معاً ... فعاد لنا كهفاً وصار لنا لطفا
تعزّ أبا عيسى وإنْ أعوز الأسى ... وعاودْ هُديت اللهو والطيب والعرفا
وهاك كأمثال الرياض سوابقاً ... تسير قوافي الشعر من خلفها خلفا
ومن قصيدة أبي عيسى:
لقد عظمت عندي المصيبة في الأصدا ... وأبدت لي اللذات من بعده صدّا
وأهدي إلى قلبي المصاب بفقده ... من الحزن ما لو نال يدبل لانهدّا
ولو كان يغنيني الفداء فديته ... بنفسي وأهلي فهو أهلٌ لأنْ يفدى
ولكنه لبّى المنون مبادراً ... ويا ليته لمّا دعاه الردى ردّا
مضى الطرف واستولى على الطرف دمعه ... وألهب في الأحشاء من حرقٍ وقدا
مضى الفرس السباق في حلبة الوغى ... فعادت عيون الخيل من بعده رمدا
يبيد الرياح كلّها في حضاره ... فتتركه كرهاً وقد بدّلت جهدا

(1/394)