صدر هذا الكتاب آليا بواسطة الموسوعة الشاملة
(اضغط هنا للانتقال إلى صفحة الموسوعة الشاملة على الإنترنت)


الكتاب : يتيمة الدهر
المؤلف : الثعالبي
مصدر الكتاب : الوراق

[ الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع ]

كتابي أطال الله بقاء الأستاذ سيدي ومولاي من الحضرة التي نرحل عنها اختياراً، ونرجع إليها اضطراراً، ونسير عن أفيائها إذا أبطرتنا النعمة، ثم نعود إلى أرجائها إذا أدبتنا الغربة، ومن لم تهذبه الإقالة هذبه العثار، ومن لم يؤدبه والداه أدبه الليل والنهار. وما الشأن في هذا، ولكن الشأن في عشر سنين فاتت بين علم ينسى وغن لا يحصى، وإنفاق بلا ارتفاق، وأسفار لم تسفر عن طائل، ولم تغن عني ريش طائر، وبعد عن الوطن، على غير بلوغ الوطر. ورجعت يشهد الله صفر اليدين من البيض والصفر، أتلو والعصر إن الإنسان لفي خسر وأنا بين الرجاء في أن أقال العثار، والخوف من أن يقال زأر الليث فلا قرار، إلا أني كنت قدمت تطهير نفسي فلججت حتى حجبت، وعدت بغبار الإحرام، وبركة الشهر الحرام، وحين خيمت بأصبهان أنهى سيدنا الأستاذ الفاضل أبو العباس أدام الله تمكينه خبري إلى الحضرة العالية، حرس الله بهاءها وسناءها، والناس هل أقبل فيتلقوني بأكبر الرتب، أم أسخط فيتحاموني كالبعير الأجرب، فورد توقيع مولانا الصاحب الجليل، كافي الكفاة أدام الله مدته، وكبت أعداءه وحسدته، بعالي خطه، وقد نسخته على لفظه، ليعلم مولانا الأستاذ أدام الله عزه أن الكرم صاحبي لا برمكي، وعبادي لا حاتمي، وأنا نتجرم ثم نتندم، ونميل على جانب الإدلال، ثم لا نروى من الماء الزلال، والتوقيع.
ذكر مولاي أدام الله عزه عود أبي محمد الخازن أيده الله للفناء الذي فيه درج، والوكر الذي منه خرج. وقد علم الله أن إشفاقي عليه في اغترابه، لم يكن بأقل منه عند إيابه، فإن أحب أن يقيم مديدة يقضي فيها وطر الغائب، ويضع معها أوزار الآيب. فليكن في ظل من مولانا ظليل. ورأي منه جميل، وبر من ديواننا جزيل. وإن حفزه الشوق فمرحباً بمن قربته التربية لدينا، فأفسدته الغرة علينا، وردته التجربة إلينا. وسبيله أن يرفد بما يزيل شغل قلبه بعياله، ويعينه على كل ارتحاله، إن شاء الله تعالى.
هذي نسخة التوقيع الوارد على سيدنا الأستاذ أبي العباس، أدام الله عزه في معناي، فلا جرم أني أخذت مالاً، وأغنيت عيالاً، وقلت ليس إلا الجمازة والمفازة، فصبحت جرجان مسى عاشرة أهدى من القطا الكدري، كأني دعميص الرمل أستاف أخلاف الطرق، وأنا مع ذلك أحسب العفو عني حلماً، ولا أقدر ما جنيت يعقب حلماً، فكأني ما خطوت إلا في التماس قربه، وما أخطأت إلا لتأثيل حرمه، وكأني لم أفارق الظل الظليل، وأخذ فيّ بقول الله تعالى فافصح الصفح الجميل، فقد روى في التفسير أنه عفو من غير عتب، وعدنا للقرب في المجلس، وكرم اللقاء والمشهد، وراجعت أيدينا ثقل الصرر، وجلودنا لين الحبر. وركبنا صهوات الخيل، وسبحنا إلى دورنا بفضلات الخير. وأقبلنا على العلم، وصافحنا يد النثر والنظم. وراجع الطبع شيئاً كان يدعي الشعر، كذلك آدم أسكن الجنة بمن الله وفضله، ثم خرج عنها بما كان من جرمه. وهو عائد إليها بفضل الله وطوله، هذا خبري، وأما كتاب سيدي الأستاذ أدام الله عزه فورد وذكرت قول سلم الخاسر طيف ألم بذي سلم لأنه حل محل الخيال، وورد بأخصر المقال، وما تركت السؤال عن خبره ساعة وردت. فعرفت من سلامته ما بشرت به فاستبشرت. وعلمت كيف كانت النكبة، وكيف انحسرت المحنة، وكيف اتفق الخروج إلى بخار المزن من المزني صاب، بعد أن أصابه الدهر بما أصاب، وشوقي إلى سيدي الأستاذ الشوق الذي كنت أصلى بناره، وداري إزاء داره. ولم أستطع في التقريب أكثر من أن خرجت عن الموصل إلى جرجان، وشارفت أدنى خراسان، ولله اللطائف التي تخلصتني من الموصل، فإني كنت في وقعة باد أباده الله وعراني مما ملكت، وهتكني فتهتكت، وخرجت على مذهب مشايخنا في ضرب الحراب، على صفحة المحراب. وهذا حديث طويل، والكثير منه قليل. ذكر الأستاذ سيدي أن الشيخ أبا الفتح الحسن بن إبراهيم أخر عنه نسخة الرسائل مع خروج الأمر الناجز، وقد عجبت من ذلك، فإن أوامر الحضرة أقدار جارية، وسيوف ماضية. وأنا أجري حديثاً، وأنتجز كتاباً جديداً. فأما شعري فليس يروى إلا في ديوان باد، منذ فارقت آل عباد، وفجعت بكتبي جملة، وضرب عليها أولئك اللصوص ضربة. بل عملت في تهنئة مولانا أدام الله سلطانه، وحرس مكانه، حين رزق سبطاً نبوياً علوياً فأشرقت الأرض، ودعت السماء، وأمنت الكواكب، وقال الشعراء. وذلك أنه لما سمع الخبر قال:

(1/431)


الحمد لله حمداً دائماً أبداً ... إذ صار سبط رسول الله لي ولدا
فعملت على ذلك ما قد أثبته، فإن يكن ليس بالمسخوط فمن بركة الحضرة والخدمة، وإن يكن ممقوتاً فمن بقايا الغربة. ومن خبري أن لي ضيعة بأصبهان مقطعة، وقد برقت لي في حلها بارقة مطمعة، لأن مولانا أدام الله مدته أمرني أن أعمل في السلطان العظيم، أطال الله بقاءه مدحاً نيروزياً أشق بسموطه السماطين، هذا ولو كنت عاملاً لكنت اليوم في مرموق الدرجات، فقد وردت ورأيت جماعة لم أكن يومئذ دونها، وقد صارت في منازل أحتاج إلى خافية العقاب حتى ألحق بها، زادهم الله ولا نقصني، وهناهم ولا نغّصني. ومنهم شيخنا أبو القاسم الزعفراني أيده الله، وما أقول إنه ليس بأهل لأضعاف ما خول وتخول به ومول. إذ قد تفضل الله عليه بما أعلم أنه لو حكم بما تحكم فيه وقد قرنت بالقصيدة في المولود المسعود أخرى عيدية أبقى الله مولانا ما عاد عيد، وطلع نجم جديد، وسقى الله سيدي الأستاذ العهاد، والرذاذ، والطل، والوبل، والديمة، والتهتان، وجميع ما في كتاب المطر للنضر بن شميل، فما رأيت أتم منه، وحسبي الله، وصلواته على محمد وآله الطاهرين.
فهذا كلام كما تراه يجمع بين الجزالة والحلاوة، وحسن التصرف في لطائف الصنعة، ويملك رق الإتقان، والإبداع والإحسان، ويعرب عما وراءه من أدب كثير، وحفظ غزير، وطبع غير طبع، وقريحة غير قريحة. فأما شعره فجار مجرى عقد السحر، مرتفع الحسن عن الوصف، وما أصدق قوله:
لا يحسن الشعر ما لم يسترق له ... حرُّ الكلام وتستخدم له الفكر
انظر تجد صور الأشعار واحدة ... وإنما لمعان تعشق الصور
والمقدمون من الإبداع قد كثروا ... وهم قليلون إن عدوا وإن حضروا
قوم لو أنهم ارتاضوا لما قرضوا ... أو أنهم شعروا بالنقص ما شعروا
وكان أبو بكر الخوارزمي أنشدني لمعاً يسيرة من شعر أبي محمد، كقوله في وصف غبار الركب، وذكر أنه لم يسمع في معناه أملح منه. وأجمع لأقسام الحسن والظرف، وهو:
إن هذا الغبار ألبس عطفي سواداً وديني التوحيد
وكسا عارضي ثوب مشيب ... ورداء الشباب غض جديد
وقال في الغزل:
حثَّ المطي فهذه نجد ... بلغ المدى وتزايد الوجد
يا حبذا نجد وساكنها ... لو كان ينفع حبذا نجد
وبمنحنى الوادي لنا رشأ ... قد ضل حيت الضال والرند
هنذ ترى بسيوف مقلتها ... ما لا ترى بسيوفها الهند
وأعطاني نسختي القصيدتين اللتين ذكرهما في الكتاب الصادر، فشوقني إلى سائر شعره، وبقيت أسأل الرياح عنه، إلى أن أتحفني أبو عبد الله محمد بن حامد الحامدي في جملة ما لا يزال يهديه إليّ من ثمرات أرضه، ولطائف بلده بالعقيلة الكريمة، والدرة اليتيمة، من مجموع شعر أبي محمد، وقد كانت حضرة الصاحب جمعتهما، ومناسبة الأدب ألفت بينهما، فأوجب من الاعتداد، وفر الأعداد، وجمعت يدي منه على العلق النفيس، فرتعت في روضته الأنيقة فبينا أنا أباهي به، وأهتز لحصوله، إذ أصابه بعض آفات الكتب، وامتدت إليه يد بعض الخونة:
وسهم الرزايا بالذخائر مولع ... وأي نعيم لا يكدره الدهر
فصنع الله تعالى في القوارع من إخراج ما يصلح لكتابي هذا منه، فمن ذلك قوله من قصيدة في الاستعطاف والاعتذار عند تغير الصاحب عليه واستمرار الأسفار بأبي محمد:
أيا من عفوه دانى السحاب ... صدوق البرق ثقاب الشهاب
مديد الظل معقود الأواخي ... على الجانين مضروب القباب
فكيف حجبت عنك وأنت شمس ... تجل عن التستر بالحجاب
أيرتج باب عفوك دون ذنبي ... وعفوك لم يشن برتاج باب
وإعراض الوزير أشد مساً ... على الأحرار من ضرب الرقاب
ثنى غربي وفل شبا شبابي ... وصب عليَّ أسواط العذاب
ولم تبق الليالي في بقيا ... لعتب منك فضلاً عن عقابي
فهب لزيارتي خطئي، وعمدي ... لقصدي، واغتراري لاغترابي
فما في الأرض إلا من يراني ... بعين المحنق الضرم الضباب

(1/432)


كأني قد أثرت بهم ذئاباً ... أو استنفرت منهم أسد غاب
حصلت وكنت ضيفك في الثريا ... وصرت ولست ضيفك في التراب
أعدني للقرى واجعل جوابي ... وإيجابي جفاناً كالجوابي
وجد برضاك فهو العيش غضاً ... وكلاّ فهو ريعان الشباب
ولو زعت الحسام العضب سخطاً ... لذاب ذبابه بين القراب
أعيذك أن تصيخ إلى عدوي ... وسمعك عن هنات القول نابي
على أنّي أتوب إليك ممّا ... كرهت فرقّ لي وأقبلْ متابي
وإن لم تعفُ عن ذنبي سريعاً ... فها إني وحقِّ أبي لمابي
سألثم مكن ثراك الروض عضّاً ... ومن يمناك منهلَّ السحاب
أصبت بخاطري فأتى بشعرٍ ... عليلٍ مسَّعهُ ألم المصاب
وما لي غير مدحٍ أم ثناءٍ ... مشيدٍ أمْ دعاءٍ مستحاب
وقوله من قصيدة في معناها هي أحسن عندي من اعتذارات النابغة إلى النعمان وإبراهيم بن المهدي إلى المأمون وعلي بن الجهم إلى المتوكل:
لنار الهمِّ في قلبي لهيبٌ ... فعفواً أيها الملك المهيبُ
فقد جاز العقاب عقاب ذنبي ... وضجَّ العشر واستعدى النسيب
وفاضت عبرةً مهجُ القوافي ... وغصَّصها التذلُّل والنحيب
وقد قصمتْ عراها واعتراها ... بسخطك بعد نضرتها شحوب
وقالت ما لعفوك ليس يندى ... لنا وسماء مجدك لا تصوب
ومن يك شوط همته بعيداً ... فمثنى عطفه سهلٌ قريبُ
تجاوزت العقوبة منتهاها ... فهبْ ذنبي اعفوك يا وهوب
وأحسنْ إنني أحينتُ ظنّي ... وأرجو أنّ ظنّي لا يخيب
أترضى أن أكون لقى مقيماً ... على خسفٍ أذوب ولا تثوب
أبيت ومقلتي أبِقٌ كراها ... وفي ألحاظها صابٌ صبيب
وقيذاً لا يلائمني طعامي ... ولا ينساغ إلى الماء الشروب
صببتَ عليَّ سوطاً من عذابٍ ... يذلّ لبأسه الدهر الغلوب
وأرهقني نكيرك لي صعوداً ... من الأشجان ليس له صبوب
وما عوني على بلواي إلا ... رجائي فيك والدمع السكوب
فإنْ تعطفْ على رجلٍ غريبٍ ... فإني ذلك الرجل الغريب
عليك أنيخ آمالي فرحِّبْ ... بها، وإليك من ذنبي أتوب
وأخطر ما يريب إذا دهتني ... غوامضه إلى ما لا يريب
فأيَّةُ طربةٍ للعفوّ إن ال ... كريم وأنت معناه طروب
فإني نشءُ دارك والمغذّى ... بسيبك والصنيعة والربيب
وأُبْتُ إليك من عفوٍ مدلاًّ ... بما يقضي علاك لمن يؤوب
ولذت ببابك المعمور علماً ... بأنّ ذراك لي مرعى خصيب
وأنّ شعابه أندى شعابٍ ... إليها يلجأ الرجل الأديب
وسقت بنات آمالي إليها ... وقد حفِيَتْ وأنضاها الدؤوب
فبوئني اختصاصك حيث تجني ... ثمار العز والعيش الرطيب
ولكنْ كادني خبٌّ حقودٌ ... لعقرب كيده نحوي دبيب
وما لجموح أٌلفته جنيبٌ ... وما لشمال فرقته جنوب
ولا يشفيه منّي لو رآني ... وقد أخذت بحلقومي شعوب
بلوت الناس من ناءٍ ودانٍ ... وخالطني القبائل والشعوب
فكلُّ عند مغمزه ركيكٌ ... وكل عند مشربه مشوب
فجدْ لي بالرضا واقبل متابي ... وعذري، إنني أسفٌ كئيب
طريحٌ في فنائك مستضامٌ ... غريبٌ لا يكلِّمني غريب
أأمنع من بوادي العلم منعاً ... كأني ليس لي فيها نصيب
وأحرم من كلامك كلّ بدعٍ ... تناهبه النواظر والقلوب
فلم لا ينتهي ويكفَّ عني ... عقابك بعد ما انتهت الذنوب

(1/433)


وغاية ما يصير إليه شعرٌ ... إذا استعطفت أو مدحٌ مصيبُ
ومن سقيا سحابك جاد طبعي ... ولولا الغيث لم ينبع قليب
وكتب إلى أبي العلاء بن سهلويه وقد ورد بغداد رسولاً وأبو محمد بها قصيدة منها:
أأبا العلاء وردت أكرم موردٍ ... أرض العراق وأنت أنجح آيبِ
وحويت في الحالين شأوَ مبرِّزٍ ... متحرِّزٍ لم يأت غير الواجب
وخدمت شاهنشاه أحسن خدمةٍ ... رضيت وأوثقها لرأي الصاحب
أبلغ رسالتي الوزير وقلْ له ... قولاً يسهِّل لي سبيل مطالبي
ويضيء آفاقي ويمرع مرتعي ... ويحقُّ آمالي ويخصب جانبي
بحياته قسم الكرام وعهدهمْ ... لا تلوني عنه بظنّ خائب
واذكر موالاتي الصريحة إنها ... أبهى وانضرُ من عهود حبائب
وكفاك علمك بي وودّي شاهداً ... فاذكرْ خلوص عقائدي ومذاهبي
خذها إليك شذور طبعٍ لاعبٍ ... بالعشر مرتاحٍ له لا لاعبِ
وكأنه في حسنه وروائه ... نظم العقود على نحور كواعب
أهديت من حلواء باب الطلق ما ... يزري على حلواء ذاك الجانب
وأشدّ منه حلاوة شعري الذي ... سحر القلوب بسحره المتناسب
وله من أبيات عملها بديهة لينشد الصاحب:
أبيتُ قديتك إلاّ الغضبْ ... على أخويك الندى والأدبْ
وأمرضت شعري وأحرضته ... وشبّبت تشبيبةَ المقتضب
بلِ اشتكت الغرر الستئرات ... وصاحب دواوين شعر العرب
وحال الجريض دوين القريض ... وضرب اليعاسيب دون الضرب
وقد كان شعري قضى نحبه ... فامسكه عفوك المرتقب
وأنك تحنو على سرحه ... وتعزر من مائه ما نضبْ
وتوقد من ناره ما خبا ... وتطلع من نجمه ما غرب
بكى غزلي حسن ورد الخدود ... وضرَّب بين اللّمى والشنب
وأعرض منخزلاً بعد ما ... تألَّق من حسنه والتهب
فلا توحش المهرجان الذي ... بنظمي يرى السامعين العجب
وأنظم باسمك عقد الهلا ... وأنشر عنك نضار الحسب
فهبْ لي ذنبي فأنت الشفي ... ع لا غير والمرء مع من أحبّ
وردَّ إليَّ نعيم الرضا ... ولا تصلّني بحجيم الغضب
وما لي ذنبٌ فإن كان لي ... فذنب حقيرٍ قصير الذنب
متى يرض عنّي الكفاة ... بلغت المراد ونلت الأرب
وله من صاحبية ذكر فيها برءه من مرض عرض له:
كذبت سعود المشتري فلو أنها ... حرمتْ سعادة جدّه لم تنجحِ
ما مسّه ألمٌ ولكن هزَّهُ ... ما هزَّ إفرند الحسام المصفح
نفض الأذى عن جسمه والروض قدْ ... ينقي الهشائم وهو غير مصوّح
ما بحت عنه سوى قذىً والعين لا ... تصفو من الأقذاء ما لم تضرح
عادت سلامته وأظهر دهره ... ندم المنيب وتوبة المستصفح
ومن أخرى:
ما زلت أعتسفُ المهامه والفلا ... وأواصل الأغوار بالأنجادِ
حتى نأيت عن الحواضر ملقياً ... رحلي بوادٍ في تخوم بوادي
فإذا بسعدي وهي بدرٌ طالع ... من فوق غصنٍ في نقاً منهاد
وطرقتها وعداتها رقباؤها ... في صورة المرتاب لا المرتاد
فحللت منها حيث كان وشاحها ... درعي وساعدها الوثير وسادي
وجناؤها حصني وساحر طرفها ... سيفي وفاحمها الأثيث نجادي
وعقاصها الموصول زهرة روّضتي ... ورضابها المعسول صوب عهادي
حيث الصبا عبق الحواشي مونقٌ ... تزهى بناعم غصنها المياد
والروض أحوى والحمائم هتَّفٌ ... والظلُّ ألمى والقيان شوادي
ولها ديارٌ غير شرقيِّ الحمى ... شحطت وشطّت عن لقاء أعادي

(1/434)


دارٌ بذي الأرطى ودارٌ بالغضا ... أخرى ودارٌ باللوى المنقاد
لو فاخرت ذات العماد بيوتها ... عادتْ مقوَّضةً بغير عماد
لا تكذبنَّ فما لها دارٌ إذا ... أنصفتني إلاّ صميم فؤادي
فلذاك لا تسقي السحائب أرضها ... إلاّ بردن حرارة الأكباد
ما أبدع هذا المعنى وأبرع هذا اللفظ!! وقد سبق إلى معنى البيتين ولكنه أبدع في الجمع بينهما وأحسن ما شاء.
ومنها:
ولرب ليلٍ لم أنمْهُ، ومقلتي ... مطروفةٌ مطروقةٌ بسهاد
شوقاً إلى نادٍ جنى ريحانه ... لمع القريض ونغمةُ الإنشاد
نادٍ تجلّى عن مقرِّ سريره ... قمرٌ أناف على البسيطة بادي
كافي الكفاة المستجار بظلّه ... والمستضاء بعزمه الوقّاد
ملكٌ محبَّته سلافة مزنةٍ ... ملكت مع الأرواح في الأجساد
ملكٌ يقال له حماد إذا التقت ... قحم السنين ولا يقال جماد
وهي طويلة، وما من أبياتها إلا غرة أو درة.
ومن أخرى:
ولما تنسَّمنا صبا صاحبيةٍ ... تعيد عجاج الجوّ وهو عبيرُ
تركنا لظى الرمضاء وهي حديقةٌ ... ندىً وحصى المعزاء وهي شذور
ونلنا هشيم النبت وهو منوّرٌ ... وردنا قتاد الأيك وهو حرير
ومنها:
وزيرٌ ومما يعجب المجد أنه ... وزيرٌ عليه للسماح أمير
ويخطب من فوق الثريّا بفخره ... فلا تعجبوا إنّ الخطيب خطير
لوى الراسيات الشمَّ أيسر سخطه ... ويكفي من السمِّ النقيع نقير
وذلَّل أعناق الليالي بهمّةٍ ... لها مرقبٌ فوق الأثير وثيرُ
وخمَّرَ رأياً لم يشطَّ ثباتُه ... فطورٌ ورأي الأكثرين فطير
له القاضيات الماضيات مهنّدٌ ... مبيرٌ وعزمٌ كالشهاب منير
وما كان للجوزاء لولا جوازه ... مجازٌ وللشعرى العبور عبور
تسعده الأقدار فيما يريده ... وتسعده الأفلاك كيف تدورُ
أواري بكرّ أبّاد صفْ صعداته ... وقد عقدت منها عليك حبور
وصفْ بأسه إذ ظلّ يصدم وحده ... ثلاثين ألفاً والجسور جسور
سبحان الله! ما أشرف هذا الكلام وأعلاه وأجله!! ومنها:
وألويةُ النصر المبين خوافقٌ ... تطيح بأشتاب العدا وتطير
وقد كشّرت عن نابها أمُّ قشعمٍ ... وللموت في وجه الكمِّي هرير
وفي يده اليمنى ثوابٌ وجنّةٌ ... وفي يده اليسرى ردىً وسعيرُ
ولي مِدَحٌ فيه غوادٍ روائحٍ ... أشيد مدى عمري بها وأشير
ووصف نسيبٍ لو أعير كثيراً ... لوفِّيَ تعظيماً وقيل كثير
وله من قصيدة في فخر الدولة:
سقى الله أياماً بشرقسِّ منبجٍ ... إلى العلم الأقصى بغربي منعَّجِ
إلى الحيرة الغنّاء مطمح ناظري ... ومسرح آمالي ومسرى تفرُّجي
منازل لو لم تخطُ سعدي بأرضها ... لما اهتزّ غصنٌ في نقا مترجرج
ولا راق درٌّ فوق أشنب واضحٍ ... ولا راع سحرٌ تحت أكحل أدعج
ولم يتحدَّرْ طلّ نرجسِ مقلةٍ ... على صفحتي تفّاح خدٍّ مضرَّج
عشية هزّت للوداع فأودعتْ ... محاسنها أعطاف جذعٍ مدبَّج
فكم غَرِدٍ لما استقلّ ركابها ... حدا طرباً والليل غضبان مدَّجي
وكم ثملٍ من نشوة الحبِّ يرتعي ... هوى عامرٍ ما بين حجلٍ ودملج
أقول وقد لاحت عوالي خيامها ... وفاحت غوالي روضها المتأرّج
أيا طارقي أحججْ ويا رائدي ابتهجْ ... ويا سابقي عرّج ويا صاحبي عجِ
ويا عبرتي كفّي ويا ناقتي قفي ... ويا شيبتي احتجي ويا صبوتي ادرجي

(1/435)


فقد كتبت أيدي المشيب مواعظاً ... بخطٍّ على فوديَّ غير مسبّج
ولئن كنت في بردٍ من العيش مبهجٍ ... لقد صرت في طمرٍ من الشيب منهج
ولذت من الدهر العسوف بحضرةٍ ... تحاط بأطراف الوشيج المزجَّج
هي الحضرة الغناء تهتزُّ نضرةً ... وتزري بأنواع الربيع المثجَّج
هنالك لا زند الرجاء لمرتجٍ ... بكابٍ ولا باب العطاء بمرتجِ
هكذا فلتمدح الملوك، وأبيات هذه القصيدة فرائد كلها، وقد كتبت أنموذجاً منها.
وله من أخرى في وصف الربيع:
طلع الربيع فقال للأرض اشكري ... نعم السماء وأبدئي وأعيدي
فغدتْ حدائقها تواصل شكرها ... بلسان كلّ مطوّق غرِّيد
روضٌ إذا نشرت طرائف وشيهِ ... طويتْ لها أبراد آل يزيد
ريّان لم يعثر نسيم صبابتي ... في ظلّها إلا بورد خدود
واعتلَّ نرجسه فعادته الصبا ... أحسِنْ بنظرة عائدٍ ومَعُود
وببلِّ مسكيِّ الصعيد معنبرٍ ... من مزنةٍ حثّت بجيش رعود
وزففت حرَّة مدحةٍ فخريةٍ ... تركت عبيداً وهو بعض عبيدي
وأنا الذي أجلو معاني مدحه ... زهراً طوالع في سماء قصيدي
يتنافس السحر الحلال، وتارةً ... يتناثر العثيان حول نشيدي
فليفترغْ أبكار لذّاتِ المنى ... وليضؤع الراقود للناجود
راحاً إذا كمنت جلتْ من حجبها ... فوق الخدود طلائع التوريد
ولتجلُ دولته عروساً كلَّلتْ ... علياه مفرِقَها بتاج خلود
وله من أخرى:
سمراءُ تخطر في الوشاح المذهب ... وتميس بين ربائبٍ أو ربربِ
هيفاء تعذل كلَّ يومٍ مرّةً ... شمس الضحى وتردّها في مغرِبِ
عقدت لواء الحسن ليلة أقبلتْ ... في موكب الفتيان أعجب موكبِ
غي ليلةٍ لو لم تجدْ بتبسّمٍ ... لم ينتطق خصرُ السماء بكوكب
خجلت وقد وجلت فهاك شقائقاً ... مغروسةً في أرض عاجٍ مذهب
وأرى الشباب إذا تطامن شرخه ... لتغيُّرٍ فقدِ انثنى لتغيُّبِ
ولئن أطلت فقد أطبت وإنني ... رجلٌ متى أصفُ المعالي أطنِب
أطري وأُطرب منشداً فليستعْ ... شاهانشاه نشيد مُطْرٍ مطرب
أبو العلاء الأسدي
قديم الصحبة للصاحب، شديد الاختصاص به. ممتد الغرة والتحجيل في شعرائه وصنائعه وندمائه. وكان يحبه ويأنس به. ويكاتبه نثراً ونظماً كقوله له:
قلبي على الجمرة يا أبا العلا ... فهل فتحت الموضع المقفلا
وإياه يعني بقوله:
أبا العلاء هلال الهزل والجدّ ... كم النجوم التي يطلعن للجدّ
وإليه كتب " أبا العلاء شيخي، أين ذلك الميعاد؟ وأين تلك العهود سقتها العهاد؟ وأين ليالينا بحزوى، وتصاببنا على أروى؟ بل أين الصبا وما ملك؟ وأين الشباب وأية سلك؟ وإذ قد غاب جميع ذلك مغيب الخيال الطارق، والضيف المفارق، فأين كتبك التي هي ألذ من انتهاء النفس إلى رجائها، وابتداء العين في إغفائها " من كتاب غير قصير.
فأما شعر أبي العلاء فليس بالمحل العالي، لا سيما في المدح، وقلة عيونه تمنع من إيراده يعد قلائد ولديه أبي سعيد وأبي محمد، ولما كان بعيد الصيت في أصحاب الصاحب لم أجد بداً من ذكره وكتابة ملح من أملح شعره.
أنشدني أبو بكر الخوارزمي، قال: أنشدني أبو العلاء لنفسه، قال: وأراه عرّض بالصاحب:
وربَّ كريمٍ تعتريه كزازةٌ ... كما قد رأيت الشوك في أكرم الشجرْ
وربَّ جوادٍ يمسك الله جوده ... كما يمسك الله السحاب عن المطرْ
وأنشدني غيره له:
سيسألني صديقي عنك فيما ... يدور من المسائل والحكايه
فأطرقُ إن سئلت لغير شطوى ... وإطراقي أشدّ من الشكايه
وله أيضاً، وهو ما يتغنى به:
لا لعمري ما أنصفوا حين بانوا ... حلفوا لي أنْ لا يخونوا فخانوا

(1/436)


شتّتوا بالفراق شملي ولكنْ ... جمعَ الله شملهم أين كانوا
وله في المجون:
أنا والله أشتهيك فكن عن ... تراً إن شئت أو كعمرو بن معدي
وتفارسْ إن شئت أو فتراجلْ ... ليس هذا مما يضرّك عندي
أبو الحسن الغويري
هو في الاختصاص بالصاحب، والاشتهار في أصحابه، كأبي العلاء، وكان كثير الشعر، قليل الملح، وكانت في خزانة الأمير أبي الفضل عبيد الله بن أحمد كجلدة ضخمة الحجم من شعر الغويري بخطه، فاستعرتها واجتمعت أنا وأبو نصر سهل بن المرزبان على إخراج ما هو شرط كتابي هذا منها، فما أقل ما حصلنا عليه من ذلك. ولم نجد له خيراً من الأبيات الدارية التي مرت في أخواتها، ومن أشف ما وقعت العلامة عليه من ذلك قوله في الاعتذار من هفوة السكر:
بالله ربِّ السماء ... بخاتم الأنبياء
بسيّد الأوصياء ... بزوجه الزهراء
بالبيت والبطحاء ... بالقبر في كربلاء
حلفت ما ليَ ذنبٌ ... الذّنب للصهباء
وليس لي من شفيعٍ ... إليك غير رجائي
فكنْ محقِّق ظنّي ... يا غرَّة الوزراء
فجرح سكري جبارٌ ... كالجرح من عجماء
وقوله في الصاحب والبيت الأخير مضمن:
قل للوزير مقالةً عن واجدٍ ... يا من نداه كالفرات الزائد
ما لي حرمت من الأمير نواله ... وسواي يكرع في الزُّلال البارد
ما ضاقت الدنيا عليَّ بأسرها ... حتى تراني راغباً في زاهد
وقوله من قصيدة ربيعية:
أيُّها الصاحب الربيع تجلّى ... في رياضٍ تحارُ فيها العقول
نرجسٌ ناضرٌ وأحمر وردٍ ... وشقيقٌ يزينه التكحيل
وغصونٌ تجرُّ أذيال نورٍ ... في حواشي جداولٍ وتميل
للزرازير في خلال الأزاهي ... ر صفيرٌ وللحمام هديل
فأقمْ رسمنا صبيحة نيرو ... زٍ به ربع أنسنا مأهول
بكؤوسٍ مملوءةٍ من مدامٍ ... أنت فيها لمن حساها عذول
واجتنبْ جلسة الثقيل إليها ... فعلى الشرب لا يخفّ الثقيل
وله من مهرحانية:
أسيوفُ الهند سلَّتْ ... أمْ ظبا أجفان هند
يا لأيام الصبا والعي ... ش في أكتاف نجد
ربّ حسناء رداحٍ ... ألصقت خدّاً بخدِّ
أطبقتْ صفرة دينا ... رٍ على حمرة ورد
أيها الصاحب عليا ... ك على الأيام تعدي
وعلى جدواك قد عوّ ... لت في حَلِّي وعقدي
مهرجانٌ ثغره يف ... ترُّ عن يمنٍ وسعد
ورده وردُ جسادٍ ... فاح عن مسكٍ وندِّ
فابقَ ما شئت كما شئ ... ت لتنويلٍ ورفد
وله:
يا أيها الشيخ الذي ... هو مشتكاي من البشرْ
أصبحت أختار العمى ... في ناظريَّ على البصر
أسفاً على عمرٍ يك ... دِّره لقاء أبي عمرْ
الباب السادس
في ذكر الشعراء الطارئين على حضرة الصاحب من الآفاق
الشعراء الطارئون على حضرة الصاحب
سوى من يقع ذكره منهم في أهل خراسان وطبرستان فإن لهم باباً مفرداً في هذا الربع الثالث، وسوى أبي طالب الماموني، وأبي بكر الخوارزمي، وبديع الزمان أبي الفضل الهمذاني، فإن لذكر كل منهم مكاناً في الربع الرابع.
أبو الحسن علي بن محمد البديهي
من شهرزور كثير الشعر، نابه الذكر، خليفة الخضر. سمعت أبا بكر الخوارزمي يقول: وقد جرى ذكره بين يديه، إنه كان لا يرجع من البديهة التي انتسب إليها وتلقب بها إلا إلى لفظة الدعوى، دون حقيقة المعنى، وفي ذلك يقول له الصاحب:
تقول البيت في خمسين عاماً ... فلم لقَّبتَ نفسك بالبديهي
ثم أقبل عليّ وقال: أنا أقول في البديهي ما قاله الجاحظ في عمرو القصافي زعم أنه قال الشعر ستين سنة فلم يسر له هذا البيت الواحد:
خوصٌ نواجٍ إذا جدّ الحداة بها ... رأيت أرجلها قدَّام أيديها

(1/437)


وكذلك البديهي قال شعراً كثير العدة، في زمان طويل المدة، فم يستملح له إلا هذا البيت:
أتمنّى على الزمان محالاً ... أن ترى مقلتاي طلعة حرِّ
وهذا الحكم منه فيه حيف شديد على البديهي، فليس شعره في سلامة المتون وقلة العيون على ما ذكره، والبيت الذي أشار إليه من أبيات بديعة أولها:
ربَّ ليلٍ قطعته باجتماعٍ ... مَعَ بيضٍ من الأخلاّء غرِّ
وكأن الكؤوس زهرُ نجومٍ ... والثريّا كأنها عقد درِّ
مرّ من كنت أصطفيه وللده ... ر صروفٌ تشوب حلواً بمرِّ
ومن سائر شعر البديهي قوله:
يا شهرزور سقيت الغيث من بلدٍتودُّ وجداً به أنّا نقابلُه
طال الفراق فلا وافٍ يراسلنا ... على العباد ولا آتٍ نسائله
وله من قصيدة صاحبية وكان الصاحب أخذه معه من بغداد إلى أصبهان أولها:
قد أطعتُ الغرام فاعصِ العذولا ... ما عسى عائبُ الهوى أنْ يقولا
وصحبناه في فيافٍ فقارٍ ... كاد فيها الخليل يجفو الخليلا
فبلونا منه دماثة أخلا ... قٍ أعادت تلك الحزون سهولا
وأوينا إلى رحابِ رحابٍ ... لم نجد للعفاة عنها عدولا
وله من تشبيب قصيدة:
ولم أرَ لي يوم الرحيل مساعداً ... على الوجد حتى أقبل الدمع مسعِدا
وكان دماً فابيضّ منه احمراره ... بنار التصابي حين فاض مصعِّدا
أخذه من قول من قال:
أرابك دمعي إذ حرى فحملتني ... من الضرّ والبلوى على مركبٍ صعب
فلا تنكرنّ دمعي فإنما ... يبيّضها تصعيدها من دم القلب
وللمعروفي بالفارسية في معناه.
خون سيبد بارم بردورخان زردم ... آرى سبيذ باشذ خودل معد
وله من قصيدة أخرى ذكر فيها حسن أيامه:
كيف تقضي ليَ الليالي قضاءَ ... يشبه العدل والليالي خصومي
ربَّ ليلٍ قطعته في هوى الشع ... ر كأنّ الشعرى العبور نديمي
فتأمّل فلست في الخلق والخل ... ق المرادين بالذميم الذميم
أنا من آلة الندى فلو أحضرتن ... ي لم يعب نداماك خيمي
يُرتضى مشهدي ويؤمن غيبي ... وأرى في الملمِّ غير مليم
ومن نوادر شعره قوله:
لمّا أتيتك زائراً ومسلِّماً ... خرج الغلام وقال إنك نائمُ
فأجبته أَبِلا لحافٍ نائمٌ ... هذا المحال وأنت عندي ظالم
أنت اللحاف فكيف تطعم عينه ... طعم الرّقاد وأنت عنه قائم
فتضاحك الرشأ الغرير وقال لي ... أو أنت أيضاً بالفضيحة عالم
والله ما أفلتَّ منه ساعة ... حتى حلفت له بأني صائم
وما يتغنى به من شعره قوله:
ذريني أواصل لذّتي قبل فوتها ... وشيكاً لتوديع الشباب المفارق
فما العيش إلا صحة وشبيبةٌ ... وكأس وقربُ من حبيبٍ موافق
ومن عرف الأيام لم يغترِزْ بها ... وبادر باللذات قبل العوائق
أبو القاسم الزعفراني عمر بن إبراهيم
من أهل العراق، شيخ شعراء العصر، وبقية ممن تقدمهم، واسطة عقد ندماء الصاحب، وما هم إلا نجوم الفضل وهذا منهم كالبدر، وكانت له في صحبته وخدمته هجرة قديمة، وله حرمة وكيدة، وحاله عنده كما قرأت في كتاب له وأما شيخنا أبو القاسم الزعفراني أيده الله فصورته لدى صورة الأخ، أو وده أرسخ. ومحله محل العم، أو اشتراكه أعم.
وكان - مع حسن ديباجة شعره، وكثرة رونق كلامه، واختلاط ما ينظمه بأجزاء النفس لنفاسته - لين قشرة العشرة، ممتع المؤانسة، حلو المذاكرة، جامعاً آداب المنادمة. عارفاً بشروط المعاقرة، حاذقاً بلعب الشطرنج، متقدم القدم فيه، وحين سرى في طريق الرشد بمصباح الشيب، وساعد الصاحب على رفض الشراب، ونفض تلك الأسباب، أراده فخر الدولة على مجالسته وأخذه بفضّ ختام توبته، ودرّت عليه بحسن رأي الصاحب سحائب إنعامه، وأجنت له ثمرات إكرامه، ففي ذلك يقول من قصيدة:

(1/438)


هاتها لا عدمت مثلي نديماً ... قهوةٌ تنتج السرور العقيما
قد أطعتُ الأمير إذ سامني الشر ... ب ولم أعصِ أمره المحتوما
وتخطّيت توبتي في هواه ... فوصلتُ التي هجرتُ قديما
قرقفاً تنتمي إلى الشمس لا تعر ... ف في جنسها الكرى والكروما
خالفت دنَّها الغليظ فرقَّتْ ... واستفادت من السموم نسيما
كُرمتْ عنصراً فلو مُتَّ فيها ... أبخل الناس غادرته كريما
وكأني لما رجعت إليها ... كنت من كلّ لذّةٍ محروما
كم عقارٍ صليت منها بنارٍ ... فحكيت الخليل إبراهيما
وكؤوسٍ شربت منها سروراً ... كاد يهوي والجلد ينمي هموما
قد وجدت الروض الأريض حميماً ... ووجدت الخسيف عاد حموما
شافهت بي مناي بالقرم فخر ال ... دولة اليوم جنّةً ونعيما
وبلغت الذي تمنيت واستخدم ... ت فاخترت مجلساً مخدوما
ورآني الأمير أيَّده الل ... ه لبيباً فقال كنْ لي نديما
جل الرزق موضعي ورأى آ ... ثار شاهنشاه فصار عليما
أرشدته إليَّ كفُّ كريمٍ ... ألزمته أنْ لا يكون لئيما
وكان قد نادم أخاه عضد الدولة، وله فيه القصيدة الشطرنجية التي لم يسبق إلى مثلها، وه نهاية في الحسن والظرف، فمنها:
لي فؤادٌ لو أنه لي غريمٌ ... كان عذري لديه أني عديم
وأنا مبتلىً بقلبي الذي أقع ... د فيما يسومني وأقوم
ليس يدري لجهله وهو يقضي ... أن كلّي بما جناه زعيم
غصبتني عليه خودٌ وقالت ... أنا من قد عرفت واسمي ظلومُ
هو ثأرٌ نالته يمنايَ فاطلب ... ه بحربٍ يشيب فيها الفطيم
وانثَنَت بي إلى مجالٍ فسيحٍ ... تدمنُ الركض فيه زنجٌ وروم
فأقمنا صدور فرسان حربٍ ... خلف رجّالة لها لا تريم
وإذا استقدمتْ تقدَّمت الخي ... ل وطاب الطراد والتصميم
فالتقى العسكران في حومة النق ... ع أسودٌ على أسودٍ تحوم
كل فيلٍ نُجّت من الصلم أذنا ... ه وأودى ناباه والخرطوم
وطمرٍّ إذا علته العوالي ... غاب فيها وعاد وهو سليم
فاختلطنا وجال في الحرب فرزا ... ني وقال الكميّ من لا يخيم
ثم نادى شاهي برخيه كرّاً ... ليس بعد الوقوف إلا الهجوم
فأحاطا بشاهنا في مضيقٍ ... ضاق ذرعاً بمثله المكظوم
ثم أزعجته بفيلي فولّى ... مستكيناً كما يولّي اللئيم
وكشفت العراء عن وجه رخيٍ ... فعراه الحمام وهو مليم
فتخفّتْ من الحياء وغطّت ... ورد خدٍّ كأنه ملطوم
ثم قالت خذِ الفؤاد سليماً ... إن حبس المرهون عارٌ ولوم
ولشتّان بين خيلي في الغ ... ي وخيل صراطها مستقيم
قارع الدهر فوقها عضد الدو ... لة حتى انتهى إلى ما يروم
فأباد العدا وقلم به الديّ ... ن وركن الخلافة المهدوم
وستقرّت به زلازل بغدا ... د وعاد الخليفة المظلوم
ومن غرر قصائده في فخر الدولة:
لو عاينتْ عيناك بركةَ زلزلِ ... ونزلت من عرصاتها في منزل
عمرْتَ دور قيانها بك جامعاً ... بين الغزالة والغزال الأكحل
وبسطتَ كفيَّ باذلٍ متخرِّقٍ ... فأقمت غير محلىءٍ عن منهل
وسمعت ما يدعو النفوس إلى الهوى ... طرباً ويفتح كلّ قلبٍ مقفل
وشربتَ صافيةً كأنّ شعاعها ... لهبُ الحريق من الرحيق السلسل

(1/439)


وغدوت مخموراً جنيب هوىً إلى ... حِجْرِ الجواري غدوة المتغزّل
فسرحْتَ بين قدودها وخدودها ... ونهودها طرف الشجيّ المتأمل
وملكت منهنّ التي لو أنها ... طيفٌ لفزت بقربه المتخيِّل
وثويتَ في قفرٍ بشاطئ دجلةٍ ... ما بين مزمارٍ وعودٍ معمل
متنقّلاً من روضةٍ مهضوبةٍ ... حلّت إلى الروض الذي لم يحلل
ورقدتّ بالنجميِّ رقدة شاربٍ ... تحت الغصون وحملها المتهدّل
وسباك صوت خرير ماءٍ سائحٍ ... وشجاك تغريدُ الحمام المهدِلِ
وسعيتَ سعياً في البطالة والصبا ... لم يدر دمعك في محلٍ محول
ولقت واأسفاً على القصف الذي ... لم أجنه بالقفص أو قطربُّل
لا أتبع الأعراب إنْ هم قوّضوا ... من مجهلٍ حتى أحطَّ بمجهل
وصرير أرجاء السّرير بمسمعي ... أحلى بقلبي من صرير المحمل
فالكرخ دار اللهو أعذبُ مشرعاً ... من مشرعٍ يختصُّ دارة جلجل
لا درَّ درُّ العيش في متربّعٍ ... بمخيَّمٍ بين الدخول فحومل
خفضُ عليك وكلُّ خفضٍ إنما ... أوقاته فرصٌ تعنُّ لمعجل
والعيش عندي ما حبيت بدرّه ... في ظلّ مغشيِّ الجناب مؤمَّل
قد ألقت الدنيا أزمّتها إلى ... ملكِ الملوك عليَّ بنِ أبي علي
فاطربْ سروراً بالزمان وحسنه ... واشرب على إقبال دولة مقبل
وقوله من نيروزية:
بي سكرٌ ما ولَّدتْهُ العقار ... ليَ جسمٌ للعين عنه ازورارُ
أنا من غادرته أيدي المطايا ... والرزايا شعاره والدثار
أيها الليل عقَّهمْ بدياجي ... ك وهيهات ذاك فيهم نوار
غادةٌ ما دجا عليها ظلامٌ ... قطُّ إلا ليلٌ علاه خمارُ
يا ربيع الربيع للعيش من بع ... د اصفرارٍ براحتيك اخضرار
لا يحول الذي بكفِّك يسقي ... بل يحول الذي سقاه القطار
فهنيئاً بطيب فصلٍ ويومٍ ... زار فيه نيروزك الزوّار
يخصب المجد في ذراك وتخضَ ... رُّ الأيادي وتورق الأخبار
وتغنِّيك في النديِّ طيورٌ ... أنا وحدي من بينهن الهزار
ومن غرر قصائده الصاحبية قوله من قصيدة:
وليلٍ دعاني فجره فلقيته ... بمجلسٍ طلق الوجه سهل التخلُّق
إذا شئت خضنا في حديث منمنمٍ ... وإن شئت عِمْنا في رحيقٍ معتَّق
يردّ شبابي وهو عنّي شاسعٌ ... ويدني التصابي بعد ما شاب مفرقي
ومنها في المدح:
لقد أعتقتني نعمةٌ لك أطلقتْ ... يمينيَ بعد اليأس من قدِّ موثق
فإنْ أنتسب كان انتسابي إلى أبي ... وكان ولائي بعد ذاك لمعتقي
ومن أخرى:
وصرت إلى الباب الذي ليس دونه ... حجابٌ ولا كفٌّ تردُّ من اجتنى
فما شمت إلاّ بارقاً كان صادقاً ... ولا رحت حتى عِمْتُ في أبحر الغنا
وقوله من أخرى:
مُسَدَّدٌ ضربت أيام دولته ... على عيون أعاديه بأسداد
هدى إلى الحق وانهلت يداه ندىً ... فهو الدّليل يعين السَّفْرَ بالزّاد
لي عند جرجان ثأرٌ سوف أطلبه ... بكلِّ رحب القرى أو مشرفِ الهادي
حتى أراه فأستغني برؤيته ... عمّا رويناه عن قومٍ بإسناد
وقوله فيه، وقد أزمع الورود عليه والطريق مخيفة:
يا شوقُ قد قَرُبَ السفر ... ودنا الرحيل المنتظر
وغدا بإذن الله أو ... تاليه يظهرُ ما استترْ
ويسير بي التيسير في ... زمرٍ بأيديهم زبر
وسيراً يبشِّر بالسعا ... دة والسلامة والظفر
سينيف بي الفرس الأغ ... ر غدا على الملك الأغرّ

(1/440)


يا حادييَّ ليقَّنا ... أني أفارق من فتر
وينال رفدي منكما ... ماضٍ يقهقه إنْ عثر
لا يقشعر إذا دنا ... منه الغضنفر أو زأر
وِرْدي ووردكما سرى ... ينسيكما ذكر الصدر
إن جال في عيني الكرى ... رفقاً فأعقبها العور
لا زلت أبدع في السّرى ... فعلاً تعاظمه القدر
وأشقُّ قلب الليل عن ... ولدٍ يقال له السحر
حتى يقول الحزن لي ... والسهل لست من البشر
وتقول خوص تجائبي ... لا خاب سعيك يا عمر
إن الجليل من الثوا ... ب لمن يدقِّق في النظر
سأغضُّ عن زهر الكوا ... كب أو يعنُّ ليَ القمر
إني أخفُّ إلى البحو ... ر ولا أسفُّ إلى المطر
وإذا لقيت الصاحب ال ... مأمون أدركت الوطر
وإذا جلست علوت دي ... باجاً وسائده بدر
وإذا ركبت مشى عبي ... دي في المناطق والحبر
وإأقيم مبتسماً إقا ... مة من يزاد إذا شكرْ
في نعمةٍ تصفو عليّ ... به وأخرى تنتظرْ
ذكروا فسادَ طريقنا ... واستشعروا منه الحذر
قلتُ اركبوه على الذي ... فيه وإن عظُم الخطر
فالله خيرُ حافظاً ... واسمُ الوزير لنا وزر
إن كان غاب فخوفه ... في كل قلبٍ قد حضر
ملكٌ تخرُّ له الملو ... ك الصيد من مدِّ البصر
فالطيب فوق لحاهُمُ ... وجباههم تحت العفر
وأجلّهم من حدَّ من ... ه إليه في وقت النّظر
جرجان ما نصبي ولا ... دأبي إليك على غرر
فيك الذي من ماله ... لحمي وجلديَّ الشعر
لولا ابنُ عبادٍ رأي ... ت الصبر أفضل مدّخر
وسلكت في زهدٍ عن ال ... دنيا سبيل من انزجرْ
واعتل قبل ورده ووصله بهذه القصيدة:
قد كنت أحسب أن عين ... ي سوفُ تظفر بالنظرْ
وفمي سيلثم أخمصي ... ك وما وطئت من العفر
وإذا بلغتك سالماً ... في النفس أدركت الوطر
حتّى منيت بعائقٍ ... ينهى العليل عن السفر
حمّى يعاضدها السعا ... ل وما برجلي من خدر
ولعلَّ سيدنا إذا ... عرف المقوِّق لي عذر
وقوله من أخرى في فخر الدولة:
حبيبٌ عليه من سناه رقيبُ ... يصدُّ الدُّجى عن وجهه فيغيب
تيمَّمني والليل في طرقاته ... فلما تبدّى حال عنه مريبُ
تحمَّل لوم الشمس فيه وجاءني ... هلال عن البدر المنير ينوب
فكان لراحي وارتياحي ومجلسي ... وكلي بطيب الوقت منه نصيب
وساعدني ليلي وأرخى سدوله ... وهبَّ نسيمٌ للحياة نسيب
وأنعمتَ حتى ليس يشتاق عاشقٌ ... حبيباً ولا ينوي الإياب غريب
ومنها في المدح:
ومزمعٍ حجّ ينثني عنك ماضياً ... ويذكر ما أوليته فيؤوب
عممتَ الورى بالبرّ حتى كأنما ... يردُّ عليهم من لهاك غصزب
وعرَّفتهم طرق الثناء فكلُّهم ... على طبقات شاعرٌ وخطيب
رأى المزن ما تعطي فضمَّ على الأسى ... فؤاداً كأن البرق فيه طبيب
وكم لاح برقٌ وابتسمت لشائمٍ ... فكنت صدوق الوبل وهو كذوب
وقوله من أخرى فيه:
يا سامع الزُّور فيَّ لي ذِمَمُ ... منها الضّنى في هواك والسَّقمُ
أنت الذي دِنْت بالسّجود له ... حتى لقد قيل ربُّه صنم
ولي فؤادٌ غدوت مالكه ... بلا شريكٍ فليس ينقسم
حتى إذا صرت في ذرى فلك ال ... أمة حيث التقتْ به الأمم
خيَّمتُ في دولةٍ مجدّدةٍ ... خيّم فيها الوفاء والكرمُ

(1/441)


وقلت للسفر قد وصلتْ إلى ... مناي، رحلي، وناقتي لكُمُ
أكرم بحظّي لقد أتى فمحا ... ما خطّه في جبيني العدمُ
وله من قصيدة في الصاحب يصف فيها علته بجرجان وتأذيه بهوائها وبراغيثها وبقها ويستأذن للعود إلى أصفهان:
ألا يا حيُّ جادتك الغوادي ... مجلَّلةَ العزالى والمزاد
ولا زالت رباك تفوح مسكاً ... يضوع نسيمه في كل نادي
فإنك جنّةُ الدنيا لثاوٍ ... أقام بخير أمصار البلاد
وأمٌّ للغريب فكلُّ آتٍ ... نظيرُ بنيك عندك في الولاد
فواأسفي على زمنٍ جنى لي ... ودادك واجتنى لك من ودادي
كذا الملك ابن عبادٍ عماد ال ... هدى وردى العدا وحيا العباد
ومن برقاه دون ظباه أسرى ... فأصلح بين غيِّك والرشاد
وجاد فكان أجرى من سحابٍ ... سقى زهر الروابي والوهاد
وقد أصبحتُ بعدك في بليدٍ ... دريَّة كلّ داهيةٍ نادي
ولولا أن سيّدنا به لمْ ... تكن جرجان تثنى من قيادي
أقمت بها أعالج كلَّ بؤسٍ ... من الأعلال لا العيش المهاد
تحدِّثني بحمّى لو تبدّت ... بخيبَر ألحقتها بالبوادي
ملازمةٌ إذا لسعت شقياً ... فكلُّ زمانها وقت العداد
تعاونها عليَّ سموم صيفٍ ... بلفحٍ من لظاهُ واتّقاد
وذبَّانٌ أُشرِّدها فتأبى ... وترجع كالمراغم ذي الكياد
كأني حين أطردها وتأبى ... أفرّق بين ذي سغبٍ وزاد
ويا ويلي من الليل الموافي ... فإني حين يطرق في جهاد
له جيشاً براغيثٍ وبقٍّ ... يطلّ عليَّ إطلال الجراد
ولي فرشٌ هي الميدان فيه ... براغثه وخمشي في طراد
وبقٌّ فعله في كلِّ عضوٍ ... فعال النار في يبس القتاد
عصائب ينتحين على عروقي ... بعوجٍ كالمباضع في الفصاد
فتروى ثم ترجع عاطفاتٍ ... عليَّ وهنَّ كالهيم الصوادي
وأنقف بعضهنّ وفي حشاها ... دمىً فأنال ثأراً من أعادي
تفرّق بين جنبي والحشايا ... وتجمع بين جفني والسهاد
ولو أني ثملت وملت سكراً ... لحالت بين طرفي والرقاد
واستر دونها وجهي بكفّي ... وعطف الردن وهو لهنّ بادي
وأظهر في صباحي كلّ يومٍ ... بوجهٍ مجدرٍ قلقِ الوساد
وأدمن حكَّ ما تركت بجسمي ... فيحسبني جربت ذوو عنادي
وقد وقف الوزير على بلائي ... بما ضاقت به حيلي وآدي
وإني لا نهار أقرّ فيه ... ولا ليلٌ يقيني منه فادي
صديقي في دجا ليلي عدوي ... وعبدي لا يجيب إذا أنادي
وأُترك في ظلام دجاه وحدي ... فأذكر ضيق لحدي وانفرادي
وفي يمنايَ مروحةٌ فطَوْراً ... أذود بها وما يغني ذيادي
وطوراً أستريح إلى انتصابي ... وطوراً أنثني ويدي اعتمادي
وعلّمني البعوض بلطم خدّي ... خلائق لسْنَ من شيمي وعادي
فهل للصاحب المأمول عطفٌ ... على عجزي عن الكرب الشداد
بإذنٍ لست أسأله اختباراً ... ولكنّ اضطراري في ازدياد
شقاءٌ لا يعاقبه رخاءٌ ... وبلوى تستنيم إلى التّمادي
وسيّدنا أدقّ الناس حدساً ... وأعرفهم بدخلةِ من يصادي
وحسبني ما بلاه في اختياري ... وشاهد من ولائي واعتقادي
وأنشدني أبو بكر الخوارزمي، قال: أنشدني الزعفراني لنفسه:
لي لسانٌ كأنه لي مُعادي ... ليس ينبي عن كنه ما في فؤادي

(1/442)


حكم الله لي عليه فلو أنص ... ف قلبي عرفت قدر وِدادي
وأنشدني له من قصيدة فصلية هذين البيتين، وأظهر إعجاباً شديداً بهما،:
وفصلٍ فيه للأرض اختيالٌ ... لأنّ جميع ما لبست حرير
وللأغصان من طربٍ تثنَّ ... إذا جعلت تغنّيها الطيور
أبو دلف الخزرجي الينبوعي مسعر بن مهلهل
شاعر كثير الملح والظرف، مشحوذ المدية في الجدية، خنق التسعين في الإطراب والاغتراب،وركوب الأسفار الصعاب، وضرب صفحة المحراب بالجراب. في خدمة العلوم والآداب. وفي تدويخه البلاد يقول من أبيات أنشدنيها أبو الفضل الهمذاني:
وقد صارت بلاد الل ... ه في ظعني وفي حلّي
تغايرن بلبثي و ... تحاسدن على رحلي
فما أنزلها إلا ... على أنسٍ من الأهل
وكان ينتاب حضرة الصاحب، ويكثر المقام عنده، ويكثر سواد غاشيته وحاشيته، ويرتفق بخدمته، ويرتزق في جملته، ويتزود كتبه في أسفاره، فتجري مجرى السفاتج في قضاء أوطاره، وكان الصاحب يحفظ مناكاة بني ساسان حفظاً عجيباً، ويعجبه من أبي دلف وفور حظه منها، وكانا يتجاذبان أهدابها ويجريان فيما لا يفطن له حاضرهما، ولما أتحفه أبو دلف بقصيدته التي عارض بها دالية الأحنف العكبري في المناكاة وذكر المكدين والتنبيه على فنون حرفهم وأنواع رسومهم وتنادر بإدخال الخليفة المطيع لله في جملتهم وقد فسرها تفسيراً شافياً اهتز ونشط لها وتبجّح بها وتحفظ كلها وأجزل صلته عليها، وقد كتبت معظمها بأخرة، وكان السلامي هجاه بالأبيات التي أولها:
قال يوماً لنا أبو دلفٍ أب ... رد نت تطرقُ الهموم فؤادّهْ
لي شعرٌ كالماء قلت أصاب ال ... شيخ لكن لفظه برّاده
أنت شيخ المنجمين ولكنْ ... لست في حكمهم تنال السعاده
وطبيبٍ مجربٍ ما له بالح ... ذق في كل يجرِّب عاده
مرّ يوماً إلى مريضٍ فقلنا ... قرَّ عيناً فقد رزقت الشهاده
فقال أبو دلف:
ظلّ السلاميّ يهجوني فقلت له ... حييت قلبي ومعشوقي وأستاذي
إن لم تكن ذاكراً بالريّ صحبتنا ... فاذكر ضراطك من تحتي ببغداد
وأنشدني عون بن الحسين الهمذاني، قال: أنشدني أبو دلف الخرزجي الينبوعي لنفسه في أبي عبد الله العلوي:
لولا النبيُّ محمدٌ ... ووصيُّه ثم البتولُ
لعلمت أني شاعرٌ ... آسِمُ الرجال بما أقول
لكنّني أعرضت عن ... ذاك الحديث وفيه طولُ
وتركت للخمر الخما ... ر، وحبّذا تلك الشمول
وأنشدني أبو علي محمد بن عمر البلخي، قال: أنشدني أبو دلف الخزرجي لنفسه في إنسان بالدينور يقال له المشقاع:
يا من يسائلني عن المشقاعِ ... قد ضاق شعري عنده ورقاعي
كاتبته في حاجةٍ عرضتْ لنا ... فكأنّني كاتبتُ وحش القاع
نعم الفتى لو لم تكن أخلاقُه ... ممزوجةً بتوابل الفقّاع
أنا مثله في جنسه من طرزه ... إن لم أضرِّطه على الإيقاع
وأنشدني بديع الزمان لأبي دلف، ونسبه في بعض المقامات إلى أبي الفتح الإسكندري:
ويحك هذا الزمان زورُ ... فلا يغرّنّك الغرور
زوِّقْ ومخرِقْ وكل وأطبق ... واسرقْ طلبقْ لمن يزور
لا تلتزم حالةً ولكنْ ... درْ بالليالي كما تدورُ
وهذا ما اخترته من قصيدته الساسانية التي أولها:
جفونٌ دمعها يجري ... لطول الصد والهجرِ
وقلبٌ ترك الوجد ... به جمراً على جمرِ
لقد ذقت الهوى طعمي ... ن من حلوٍّ ومن مرِّ
ومن كان مِنَ الأحرا ... ر يسلو سلوة الحرِّ
ولا سيما وفي الغر ... بة أودى أكثر العمر
تعرّيت كغصن البا ... ن بين الورق والخضر
وشاهدت أعاجيباً ... وألواناً من الدهر
فطابت بالنّوى نفسي ... على الإمساك والفطر
على أني من القوم ال ... بهاليل بنى الغرّ

(1/443)


بنى ساسان والحامي ال ... حمى في سالف العصر
تغرّبنا إلى أنا ... تناءينا إلى شهر
فظلّ البينُ يرمينا ... نوى بطناً إلى ظهر
كما تفعل الريح ... بكُثْبِ الرمل في البر
فطبنا نأخذ الأوقا ... ت في العسر وفي اليسر
فما تنفكُّ من صمّي ... وما تفترُّ من متر
فأحلى ما وجدنا العي ... ش بين الكمد والخمر
الصمى: الشرب، والمتر، والكمد: هو النيك.
فنحن الناس مل النا ... س في البرّ وفي البحر
أخذنا جزية الخلق ... من الصين إلى مصر
إلى طنجة بل في ك ... ل أرضٍ خيلُنا تسري
إذا ضاق بنا قطرٌ ... نزلْ عنه إلى قطر
لنا الدنيا بما فيها ... من الإسلام والكفر
فنصطاف على الثلج ... ونشتو بلد التمر
فنحن الميزقانيو ... ن لا ندفع عن كبر
همُ شتّى فسلني عن ... همُ ينبيك ذو خبر
فمنا كل كمّاذٍ اللبوسات مع الهرّ
ومنا كل صلاّجٍ ... بكيذٍ وافرٍ نكر
الكماذ: النياك، واللبوسات: الأحراح، والهر: الدبر، والصلاج: الذي يصلج أي يجلد عميرة، والكيذ: الأير.
قد استكفى بمفّيه ... عن الثيِّب والبكر
فلا يخشى من الإثم ... ولا يؤخذ بالمهر
ولا يحذر من حيضٍ ... ولا حملٍ على طُهر
ومنا الكاغ والكاغ ... ة والشيشق في النحر
الكاغ والكاغة: المتجانن والمتجاننة، والشيشق: الحدائد والتعاويذ التي يلقونها على أنفسهم.
وأشكالٌ وأغلالٌ ... من الجلد أو الصُّفر
ومن دروز أو حر ... زأو كوز بالدغر
دروز: إذا دار على السكك والدروب وسخر بالنساء، حرز: إذا كتب التعاويذ والحراز، كوز: إذا أقام في المجلس، والمكوز: هو الذي يقوم في مجالس القصاص فيأمر القاص أصحابه بإعطائه ثم إذا تفرقوا تقاسموا ما أعطوه. والدغر: المقاسمة.
ومن درّع أو قشّع ... أو دمّع في القرّ
درع: إذا جاء الهراس وطلب قصعة من الهريسة فإذا أعطاه إياها لحسها، قشع: إذا مشى وعينه إلى الأرض لطلب القطع، دمع: إذا بكى في الأسواق عند البرد حتى يعطى.
ومن رعّس أو كبّ ... س أو غلّس في الفجر
رعس: إذا على حوانيت الباعة فأخذ من هنا جوزة ومن هنا تمرة وتينة، كبس: إذا دار فإذا نظر إلى رجل قد حلّ سفنجته كبسه وأخذ منه قطعة، غلس: إذا خرج إلى الكدية بغلس.
وحاجورٌ وكذّابا ... تُ أهل الأوجه الصفر
الحاجور: الذي يثقب بيضة ويجعلها في حجره وهي تسيل ماء أصفر، الكذابات: العصابات يشدونها على جباههم فيوهمون أنهم مرضى.
ومن شطَّب أو ركّ ... ب للضربات والعقر
شطب: إذا عقر نفسه بالموسى وجعل يكذب على الأعراب والأكراد والصوص، ركب: إذا طلى بالشيرج حتى يسوده جلده واوهم أنه جلد أو لطمته الجن ليلاً.
ومن مَيْسَر أو مَخْطَ ... ر واستنغَزَ للثغر
ميسر: إذا كدى على أنه من الثغر، ويقال هل: الميسراني. مخطر: إذا بلع لسانه وأوهم أن الروم قطعوه.
ومن ناكذ في القينو ... ن من جوفِ أبي شمر
المناكذة: أن يتقاسموا ما يأخذونه من الثياب والسلاح بعلة الغزو. والقينون: موضع القسمة. أبو شمر: أول من كدى بعلة الغزاة.
ومن رشّ وذو المكوى ... ومن درمَكَ بالعطر
رش: إذا كدى بعلة ماء الورد يرشه على الناس. ذو المكوى: الذي يبخر الناس. درمك: إذا باع العطر على الطريق.
ومن دكّك أو فكّ ... ك أو بلّغك بالحر
المدكك: الذي يخرج اللوى من العصيان ويحتال على من به وجع الضرس حتى يجعل دود الجبن فيما بين أسنانه ثم يخرجه ويوهم أنه أخرجه بالرقية، فكك: إذا فك السلاسل على الطرق. بلغك: إذا جر الخواتيم بالإبريسم الرقيق.
ومن قصّ لإسرائي ... ل أو شبراً على شبر
من قص: هو الذي يروي الحديث عن الأنبياء والحكايات القصار ويقال لها الشبريات.

(1/444)


ومن بشْرَك أو نوْ ... ذك أو أشرَك بالهبر
بشرك: نزيا بزي الرهبان تزهداً. نوذك: إذا كدي على أنه من الحجاج، أشرك بالهبر: إذا شركاءه ما يأخذه.
ومن قدّس أو نمّ ... س أو شولس بالشعر
قدس: إذا أكل الكبد المطحونة المجففة في شهر رمضان خاصة وأوهم أنه يطوي ولا يفطر في الشهر إلا مرة أو مرتين. نمس: من الناموس. شولس: من الشالوسة، وهم الزهاد يكدون بلباس الشعر.
ومنا العشيريون ... بنو الحملة والكرّ
العشيريون: الذين يتثاقفون على دوابهم كالغزاة يكدون.
ومنا المصطانيو ... ن من ميزَقَ بالأسر
المصطبانيون: قوم يزعمون أنهم خرجوا من الروم وتركوا أهاليهم رهائن عندهم فطافوا البلاد ليجمعوا ما يفكونهم به، وتكون معهم شعورهم ويقال لذلك الشعر: المصطبان، ميزق: كدى.
ومنا كلّ زمكدان ... غدا محدودب الظهر
ومنا كلّ مطراش ... من المكلوذة البتر
المطراش: الذي معه يده يكدى عليها، ويقال اليد المقطوعة: المكلوذة.
وفي المدرجة الغبرا ... ء منا سادة الغبر
المدرجة: هؤلاء قوم يقعدون وينامون في السكك والأسواق على طريق المارة ومدرجة الرياح فتعلوهم غبرة التراب حتى يرحموا ويعطوا.
ومنا كلُّ قنّاءٍ ... على الإنجيل والذكر
القناء: الذي يقرأ التوراة والإنجيل ويوهم أنه كان يهودياً أو نصرانياً فأسلم.
ومن ساق الولا بالما ... ء أو قوْسِ أبي حجر
ومن ساق: هؤلاء قوم يسقون الناس الماء، والولا: أن يثق فيقول: أنا المولى الأبطحي، ومنهم من يكون معه قوس عربية، وأول من فعل ذلك في الحضر أبو حجر.
ومن طفْشَلَ أو زَنْكَ ... لَ أو سطّل في السر
طفشل: إذا علق لسانه وتشبه بالأعراب، زنكل: إذا احتال في سلبهم، سطل: إذا تعامى وهو بصير، يقال للأعمى: الإسطيل.
ومن زقّى الشغاثات ... غداءاتٍ وبالعصر
زقى: صلى. والشغاثات: المساجد، واحدها شغاثة، يكدون فيها إذا صلى الناس.
ومن دشَّش أو رشَّ ... ش أو قشَّش يستدري
دشش: إذا جعل في استه شبه حشو كحقنة وينام على الطريق ويخرج من استه كالدشيشة، رشش: إذا كانت معه مبولة مع خصاه فإذا جاءه البول رششه على الناس، ويقال له: المرشش، قشش: إذا فسا في المساجد فيتأذى به المصلون فيعطونه حتى يخرج.
ومن يزنقُ أو يخن ... قُ أو يذلق بالدّبر
يزنق: يثقب في بدنه ثقبة وينفخ فيها حتى يتورم بدنه، يخنق: يصنع المنديل في رقبة نفسه ويفتله حتى ينتفخ رأسه ووجهه، يذلق: يمشي عريان الاست.
ومنا كلُّ مستعشٍ ... من النعارة الكدر
مستعش: قوم يدورون على أبواب الدور فيما بين العشاءين ويقولون:رحم الله من عشى الغريب الجائع، وينعرون بذلك حتى يأخذوا من كل دار كسرة ويرجعوا بها.
ومن شدّد في القول ... ومن رمّد في القصر
ومن شدد: قوم يكون معهم دفاتر حديث يروونها ويشددون على الناس في اللواط وشرب الخمر، القصر: هو الآتون يدخله الواحد من القوم فيطرح نفسه في الرماد ثم يخرج وعليه غبرة الرماد، ويوهم أنه أوى إليه من شدة البرد وعدم الملبوس.
ومن يزرع الهادو ... ر تكسيحاً من البذر
ومن يزرع في الهادور: قوم ينظرون في الفال والزجر والنجوم ويعطون قوماً دارهم حتى يأتوهم ويسألوهم عن نجمهم وعما هم فيه فينظروا لهم ثم يردون الدراهم عليهم وربما أخذوا وقالوا لا نأخذها لأن نجمك ما خرج كما تريده. الهادور: كلام الحلقة التي يجتمع الناس عليها، والتكسيح: الممانعة.
إلى أن يقع التنب ... ل في محصدة الجزر
التنبل: هو الأبله الذي يقبل المخاريق على نفسه، ويغتر بما يورد المنجم عليه، فيخرج هو أيضاً دراهمه طمعاً في ردها فيأخذها منه ويسخر به.
ومن قنْوَنَ أم بنْو ... نَ أو طيَّن بالشعر

(1/445)


وقنون: من المقنون، وهو الذي يقول: كان أبي نصرانياً وأمي يهودية وإن النبي صلى الله عليه وسلم جاءني في النوم وقال: لا تغتر بدين أبويك واتبع ملتي، فأسلمت. بنون: إذا انتسب إلى البانوانية وهم الشطار وقال: كنت محبوساً فاحتلت بكذا حتى خرجت، طين: وجهه وساعديه بطين الحمرة وروى الأشعار على رؤوس الأشهاد في الأسواق.
ومنا منفذ الطين ... وأصحاب اللحى الحمر
منفذ الطين: قوم يخضبون لحاهم بالحناء، ويدعون أنهم شيعة ويحملون السبح والألواح من الطين ويزعمون أنها من قبر الحسين بن علي رضي الله عنهما فيتحفون بها الشيعة.
ومَنْ شقَّف بالماء ... ومن شقَّف بالجمر
والمشقف: هو الذي يأخذ ماء النوشادر فيكتب بها الرقاع ويتركها بين يديه فإذا مر به الأبله له جرب بختك وخذ رقعة من هذه فيأخذها ثم يعطيه إياها فيقذفها في النار فيظهر المكتوب أسود، وقد يعمل هذا الجنس بماء العفص فإذا غمس في ماء الزاج خرج أسود، ويقال للرقعة: الشقيفة.
ومنْ كدى على كيسا ... ن في السرِّ وفي الجهر
كيسان: قوم عرفوا قوماً من الكيسانية والغلاة فيجيبونهم، ويكدون عليهم بالمذهب.
ومنا النائح المبكي ... ومنا المنشد المطري
والنائح المبكي: قوم ينوحون على الحسين بن علي، ويروون الأشعار في فضائله ومراثيه، رضي الله عنه!.
ومن ضرّب في حبِّ ... عليٍّ وأبي بكر
ومن ضرب في حب: قوم يحضرون الأسواق فيقف واحد جانباً ويروي فضائل أبي بكر رضي الله عنه، ويقف الآخر جانباً ويروي علي رضي الله عنه، فلا يفوتهما درهم الناصبي والشيعي، ثم يتقاسمان الدراهم.
ومن يروي الأسانيد ... وحشو كلِّ قمطرّ
ومن يروي الأسانيد: هؤلاء يروون الأحاديث على قوارع الطرق.
ومنّا كلّ ممرورٍ ... غدا غيظ بني البظر
كل ممرور: قوم يلبسون الثياب المخرقة ويحلقون لحاهم ويوهمون أنهم موسوسون وأن المرار غلب عليهم فيروون ما يريدون من فضائل أهل البيت وينسبهم العامة إلى الجنون فلا يؤاخذونهم يما يقولون ويأخذون من الشيعة ما يريدون.
ومن يكحل من مستعر ... ضٍ دمعته تجري
ومن يكحل: هو الذي معه قطنة مغموسة في الزيت يمرها على عينيه لتدمع ويأخذ في شكاية حاله واستعراض الناس في مسألته وذكر قصته، وأنه قطع عليه الطريق أو غصب على ماله، والمستعرضون أمهر القوم.
وفي الموقف منا ك ... لُّ جبارٍ أخي الصبر
كل جبار: هو الذي يقف في المقام قائماً أو قاعداً ولا يبرح أو يأخذ ما يريد.
متى يحفُ يقل بشبا ... شة الخشنى في خصر
البشباشة: اللحية، والخشنى: الذي لا يكدي، وهو عندهم عيب كبير.
وقرّاع أبي موسى ... لديه دبّة البزر
وقراع رأس أبي موسى: هو الخشنى، يقول: إن رأس هذه السفلة عنده أهون من دبة البزر استخفافاً به وبجفائه.
ولا ينطسُ أو يلح ... ن ما يطلب بالقسر
وجرّار عيالاتٍ ... عليهم أثر الضرُّ
ولا ينطش: لا يذهب، أو يلحن: يعطي. وجرار عيالات: هو الذي يكتري الصبيان والنساء ويكدي عليهم.
ومن ينفذ سبحاتٍ ... وحلوى وأبا شكر
ومن ينفذ سبحات: هو الذي يطرح على أبواب الحوانيت السبحات وأقراص الحلوى، فمنهم من يعطي ويرد عليه، ومنهم من يلقي الملح، ويقال للملح: أبو شكر.
ومنّا حافر الطرس ... بلا خرطٍ ولا جهر
حافر الطوس: هو الذي يحفر القوالب للتعاويذ فيشتريها منه قوم أميون لا يكتبون وقد يحفظ البائع النقش الذي عليه فينفذ التعاويذ إلى الناس ويوهم أنه كتبها، ويقال للقالب: الطرس.
وبركوشٌ وبركك ... ومعطى هالك الجزر
بركوش: هو الذي يتصامم ويقول للإنسان تكلم على هذا الخاتم باسمك واسم أبيك فيسمع وينبئه به، وبركك: هو الذي يقلع الأضراس ويداوي منها، والهالك: الدواء، والجزر: البصر، ويقال للعين: الجزارة.
ومن قرْمَطَ أو سرْمَ ... ط أو خطَّط في سفر
قرمط: هو الذي يكتب التعاويذ بالدقيق والجليل من الخط، وسرمط: كتب، والسرماط: الكتاب.
وحرّاقٍ وبزّاقٍ ... بني الشّخِّير والنشر

(1/446)


ومن ذكّر والقوم ال ... زكوريون في الصدر
الحراق: الذي تكون معه مرآة تشعل منها النار وتسمى حراقة. والبزاق: الذي يرقي المجانين وأصحاب العاهات ويتفل عليهم، ذكر: كدى على الأبواب، وهو من أجلائهم.
ومن دهشم بالكرش ... ويستبرد في النهر
ومن دهشم: مخرق وموه بأنه صائم. والكرش الصوم والجوع أيضاً ويكون قد أكل في منزله فإذا عطش في النهر بعلة الاستبراد وشرب ما أراد.
ومن يعطي الضماناتِ ... من الزنكلة العفر
الزنكلة والعفر: واحد، وهم المعافرون يأخذون الحجيج ويضمنون الجنة.
ويشرى عشّ ؤرضوانِ ... بنذر الثمن النزر
ويشري عش رضوان: يعني أنه قول: إن لم أحج عنك فحظي من الجنة وقف عليك اللهم اشهد بشراء البيع، والعش: البيت، يريد به الجنة.
ومن حنّن كفّيه ... وحفَّ الطّست كالحرّ
حنن: هو الذي يخضب كفيه بالحناء، وحف شاربه فيتركه كالطست المجلوة وكالحر المنتوف، فيدعى أنه من الصوفية العلماء الزهاد فيتشبث به لذلك.
ومنّا الشيخ هفصويه ... ويحيى وأبو زكر
هفصويه: هؤلاء الذين سماهم قوم نبط وعجم، يكدون ولا يتكلمون العربي.
ومن كان على رأي اب ... ن سيرين من العبر
ومن كان على رأي ابن سيرين: هؤلاء من البصراء يعبرون الرؤيا ويدكون من هذه الجهة.
وشكّاكٍ وحكّاكٍ ... ومعطى بلح الأجر
الشكاك: الذي يبيع دواء الفار واسمه الشك، والحكاك: الذي يكون معه حجارة محمولة من دربند يظهر فيها الحديد من الدراهم والدنانير، يقال للواحد منها المحك، بلح الأجر: هو السبح التي تحمل من الجبل يقال لها دموع داود عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم السلام.
وسمقون عليه السر ... مل الكحل وذو الغزر
سمقون: الصبي الذي يأخذ بيد الضرير يوهم أنه ابنه، والسرمل: القميص المخرق.
ومن ربّى ومن فتّى ... وأجرى عقد الزرّ
ومن ربى: هؤلاء قوم شطار يقولون بالصاحب والغلام فيربون الصبيان.
ومنّا قافة الرزق ... وأهل الفال والزجر
وقافة الرزق: قوم يتعاطون التنجيم.
ومن يعمل بالزيج ... وبالتنور والجفر
الجفر: الذي يكون بين أيديهم على هيئة الفلك يدور.
ومنا البشتداريو ... ن تحت الرحل كالحمر
والبشتداريون: قوم يستأجرهم المكدون الذين يخرجون إلى القرى فيحملون رحالاتهم وما يجمعون بها من الحب والصوف وغيره.
ومن مرّق في مصطب ... ة الفتيان في قدر
ومن مرق: يطبخون المرق في دار القوم فيبيعونها من المرضى والضعفاء منهم.
ومنا كلّ مراسٍ ... جسورٍ جاهلٍ هزر
المراس: الحواء معه سلال فيها حيات.
يرى الخشّ فيأتيه ... بلا خوفٍ ولا ذعر
الخش: الأفعى.
فيستل الذي يخشا ... ه من شصوصةً الخزر
الشوص: الأنياب بقلعها ويترك واحدة.
ويبقى منه مما يص ... لح للمحنة والسّبر
فقد أنزل فيه ... ملك الموت على قبر
فهذا هالكٌ لسعاً ... وهذا كفُّه يبري
وقد يلتمس الخبز ... بمكروهٍ من الأمر
ومنّا كلُّ نطّاسٍ ... على البزرك مستجري
النطاس: القوي القلب من الدستكاريين تراهم على الدواب ومعهم الكلاليب والمباضع يداوون الرمدى وغيرهم من الأعلال، والبزرك: المواضع.
ومنا كلُّ من شرش ... ر بالهلاّب والكسر
الشرشرة: القمار، والهلاب: الثياب، والكسر: الدرهم والمرجان والدينار.
إذا حاف علبه بخت ... ه سقَّف بالنحر
وحاف عليه: يعني أنه إذا قمر فانقلب الفص عليه رفع طرفه إلى السقف ونحر نحو السماء وتكلم بالكفر.
ومنا كلُّ إسطيلٍ ... نقيِّ الذهن والفكرْ
الإسطيل: الأعمى.
ومنا كلُّ سبّاعٍ ... عظيم الليث والببر
ومن قرّد أو دبّ ... ب من كلّ فتىً غمر
ومن قرد أو دبب: هم الذين يكدون على الدببة والسباع والقردة:
وسمّانٍ ووسنانٍ ... ومن قتّت كالكبر

(1/447)


والسمان: الذي يعطي النساء دواء السمن، والسنان: الذي يعطي دواء الأسنان، وقتت: أكل القت بين أيدي الناس كالجمل.
ودكّاكٍ السفوفات ... لريح الجوف والخصر
الدكاك: الذي يرقى من القولنج، ويكون معه حب مصنوع يحتال حتى يبلعه العليل فيزعم أنه انحل بالرقية.
ومنا ذو الوفا الحرّ ال ... مدلِّج ذو الكرّ
والمدلج: الذي يأخذ حاجته من البقال والجبان ويحصل عليه أجرة الشهر لبيته فيهرب ليلاً ويفوز بما يلزمه أداؤه.
ومنا شعراء الأر ... ض أهل البدو والحضر
ومنا سائر الأنصا ... ر والأشراف من فهر
ومنا قيِّم الدين ال ... مطيع الشائع الذكر
يكدى من معزّ الدو ... لة الخبز على قدر
ومن يطحن ما يطح ... ن بالشدة والكسر
ومن يطحن: هم الذين يطحنون النوى والحديد والزجاج بأيديهم وأضراسهم.
ومطليُّ دن الأخّ ... مع المصموع كالبثر
ومطلي دم الأخ: هم الذين يضربون دم الأخوين والكثيراء والضموغ وينفخونها على أجسادهم فتخرج بهم بثور يمرضون منها فيكدرون.
ومنا كلُّ مشقاعٍ ... من الفتيان كاللغر
المشقاع: الأرعن الذي يكتري الثياب البيض ويلبسها. واللغر: هم السفل من الناس.
يلذ الشورز الوجدا ... ن بالخبّ وبالمكر
الشورز: الأمرد. ويلذ: يدور به العرب من المكدين فؤدبه، ويقول: هذه الفتوة، ولا يجوز أن تكون وحدك، فإما أن تصير غلاماً لأحدنا وإما أن تخرج من دار الفتيان، فإذا صار مع أحدهم طبخ له قدر الدسكرة، ويقال للقدر بما فيها: الخشبوب.
إلى أن يأكل الخشبو ... ب كرساً أكلّ مضطر
وما في البيت غير الب ... تّ أو بارية القفر
وما للشوزر السوء ... سوى الغيلة والغدر
وأن يصميه حتى ... تراه طافح السكر
يصميه: يسقيه الصمى، وهو الخمر.
فتجري فيه كيذات ال ... بهاليل ولا يدري
الكيذات: الأيور: البهاليل: رؤساء المكدين.
ومنا سعفة الريح ... لضرب الكلب والهرّ
وسعفة الريح: قوم يرعدون رعدة شديدة تهتز لها مفاصلهم وتصطك أسنانهم، ويقول أحدهم: إنه قتل سنوراً أو كلباً فلطمته الجن.
وذو القصعة والمسرا ... د والمكناس والعشر
وذو القصعة والمساد: هؤلاء قوم ينخلون التراب في الطرق ويعلقون على أنفسهم القصلع ويغسلون الأسواق بالماء ويخرجون إلى البيادر فليقطون القصرى وهو ما بقي في السنبل من الحب بعد أن يداس.
وفي الأسواق والأنها ... ر والبيدر والقصر
ومن يقراء بالسبع ... وإدغام أبي عمر و
وأصحاب المقالات ... من الفاجر والبرِّ
ومن علاّفةٍ ركّبت ال ... باز مع الصقر
ومن علافة: هذه امرأة تتزوج بمن يحسن أن يكدي فيشد يدها مجموعة الأصابع ويدعى أنها مقطوعة ويسمى الباز، وربما عوجها كأنها مفلوجة، والصقر: هو أن يشد عينيها ويقول: إنها رمدى أو عوراء ويقال لها أيضاً النعلة.
ومنّا الكابليون ... ومن يلعب بالجرّ
ومن يمشي على الحبل ... ومن يصعد بالبكر
ومنّا الزنج والزُّط ... سوى الكبّاجة السُّمر
والكباجة: اللصوص، كبج إذا سرق.
ومنا من صما يوماً ... فقد هرّب في المصر
ومنا من صما: يقول إن من شرب منا الخمر وعرف به فقد أفسد على نفسه البلد، والشيء الفاسد يقال له الهريب، والشيء الجيد يقال له الكسيح.
ومنّا كل ذي سمتٍ ... خشوع القنِّ كالحبر
يرقّي وتراه با ... كياً دمعته تجري
فإن كبّن في السرّ ... فبالمذقان يستذري
كبن: خري، والكبن الاسم منه، يقول: إنه يظهر الورع والزهد فإذا خلا المسجد وأخذه البطن يخرى تحت السارية أو خلف المنارة ويمسح استه بالمذقان وهو المحراب.
وإن كرّس لا والل ... ه لا تمَّ إلى الظهر
ومن صاح بآمين ... من المزلق والذعر
من المزلق: يريد هؤلاء العراة، الواحد مزلق، يصيحون بآمين من الأسواق.

(1/448)


سخام القصّ قد نقّ ... عهم مثل بني النّمر
سخام القصي: سواد الأتون.
فذا بقّالنا سطلٌ ... وذا استأذنا خرّي
فذا بقالنا سطل: يقول إذا صاحوا بآمين دعوا على أصحاب الحوانيت ذا بقالنا أعمه يا رب.
وذت فصابنا عسمٌ ... وذا البزاز لا تبري
وعسم: من العسوم وهو المفلوج.
ومن ردّهم غُلِّ ... ف من غالبة الحجر
ومنّا كل من يم ... رح في الإسظيل كالمهر
ومن كدّة بهلولٍ ... تخطّى ثمّ كالحجر
الإسظيل: الجامع، والكدة: المرأة التي تسأل الناس ومعها زوجها في الجامع.
ومن يخرج بالياب ... س يوم الفطر والنحر
من يخرج باليابس: قوم يخرجون في أيام الأعياد إلى المصلى عراة خفاة يكدون.
ومنا من تمشّى يم ... ح البلدان كالنسر
ومن يأوي المصاطيب ... مع المذلقة الضُّمر
ومن يأوي الشغتثات ... مع العقّة في الستر
وأصحاب التجافيف ... من الثامول الصبر
أصحاب التجافيف: قوم يأوون المساجد عليهم مرقعات كالتجافيف بعضها مركبة فوق بعض، يقال لهم الثامولة الصبر لصبرهم على شدة فقرهم.
وأصحاب الشقاعات ... من المشّاطح العكر
الشقاعات: جمع شقاع، وهو الوطاء إذا كان من ألوان أو لون واحد يكون مع جنس منهم، فيدورون في المواضع ويبسطون الشقاع ويصلون عليها ولا يأوون إلى موضع فلهذا يقال لهم: المشاطح، لأن المشطح هو الذي يطوف دائباً لا يفتر.
بنو التّضريب والتدري ... بِ والتّفتيق والأطر
بنو التضريب والتدريب: قوم ليس لهم عمل إلا جمع الخرق معهم فهم أبداً في رتق أو فتق.
ترى للقمل في كلِّ ... شقاعٍ مائتي وكرِ
ومن دمَّج في الثلج ... وفي الوحل بلا طمر
دمج: إذا قام في البرد.
ولا ينظر إلاّ كا ... لحاً ذا نظرٍ شزر
فلا يبرح أو يأخ ... ذ ما يأخذ بالصقر
ومن الغمّير منا فت ... يةٌ من رغلٍ قذر
همُ بيتُ المشاميل ... مع النّابير الحفر
المشاميل: الرغفان، واحدها مشمول، والقنابر: جمع قنبرة، وهو الكسرة من الخبر.
غدوا مثل الشياطين ... عليهم أثرُ الفقر
فيأتون ببربازا ... ر كالقفيا من المجري
بربازار: لأنه ذو ألوان، والقفيا: هو خبز السبيل الذي يجريه الأعلاء على الفقراء والضعفاء فيكون لهم رجل مجرى.
وعبّوه أنابيرٌ ... من الزغبل والبرِّ
وعبوه أنابير: يعني أنهم إذا جمعوا الخبز جعلوه كالأنبارات بين أيديهم من ألوان وكل ما خالف الحنطة فهو الزغبل، ثم يتقاسمون ما يجتمع لهم منها.
كما يقتسم البيد ... ر بالقفزان والكسر
وظلّوا يفتنون ... على مالك بالعسر
وخصوه بجوازات ... ونصف فجله نمري
وخصوه بجوازات: يعني أن ما يبقى من المأكول يجعلونه لصاحب الموضع، وإن كانوا في أتون جعلوه للوقاد.
سقى الله بني ساسا ... ن غيثاً دائم القطر
ترى العريان منهم ظا ... هر السُّمرة والخطر
كنمروذ بن كنعان ... قويّ الصدر والأزر
رجالٌ فطنوا للثق ... ل والأغلال والإصر
خلنجيون ما حاضوا ... ولا باتوا على طهر
الخلنجي: الذي يخرى ولا يغسل استه، ما حاضوا: أي ما تطهروا.
رأوا من حكمةٍ خرط ال ... قلاداتِ مع العذر
؟يقولون لمن رقّى تحوَّل فينا تزري
وراحوا خارج الدار ... بواريةٍ مع الحصر
فحيثما اكتروا قالوا ... من الخشني لا نكري
إذا ما سمّروا القشقا ... ش ذا العثنون والزجر
سمروا القشقاش: أي رأوه وهو الشيخ الطويل اللحية، ذو الزجر: العالم المتقشف الورع.
لقوه بنثاراتٍ ... من البندق والبسر
وحيّوه بآلافٍ ... من القنّادر الفطر

(1/449)


يعني أنهم إذا رأوا شيخاً يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ضؤطوا عليه، والقنادر: الضرط، والفطر: الذي لم ينضج بعد، من الفطير، ويصيح الواحد إلى الآخر بندقة بسرة ويضرط.
وكم بين الغرابيب ... وبين الببغ والقمر
ألا إني حلبت الده ... ر من شطرٍ إلى شطر
وجبت الأرض حتى صر ... ت في التّطواف كالخضر
وللغربة في الحرِّ ... فعالُ النار في التّبر
وما عيش الفتى إلا ... كحال المدِّ والجزر
فبعضٌ منه للخير ... وبعضٌ منه للشرّ
فإن لمت على الغرب ... ة مثلي فاسمعنْ عذري
أمالي أسوةٌ في غر ... بتي بالسادة الطُّهر
همُ آل الحواميم ... هم الموفون بالنذر
هم آل رسول الل ... ه أهل الفضل والفخر
بكوفان وطيِّ كر ... بلاكمْ ثمّ من قبر
وبغداد وسامرا ... وباخمرى على السكر
وفي طوس مناخ الرك ... ب في شعبان في العشر
سولمانٌ وعمّارٌ ... غريبٌ وأبو ذرّ
قبورٌ في الأقاليم ... كمثل الأنجم الزهر
فإن أظفر بآمالي ... شفيتُ غُلّة الصدر
وألممت بأوطانٍ ... قويّ النهي والأمر
وقد تخفق فوقي ع ... زّةً ألوية النصر
وإما تكن الأخرى ... وعزُّ جائز الكسر
فلا أُبْتُ مع السفر ... غداة أوبة السَّفر
ولا عدْتُ متى عدت ... بلا عزٍّ ولا وفر
وحسبي القصب المطحو ... ن فيه ورقُ السدر
وأثوابٌ تواريني ... من الإيذاء والأزر
؟أبو القاسم عبد الصمد بن بابك شاعر شعاره إحسان السبك، وإحكام الرصف، وإبداع الوصف، يشبه كلامه مرة في الجزالة والفصاحة كلام المفلقين، من الشعراء المتقدمين، ويناسب تارة في الرشاقة والملاحة قول المجيدين، من المحدثين والمولدين، وهو القائل في وصف شعره:
أزرتْك يا ابن عبادٍ ثناءً ... كأنّ نسيمه شرقٌ براح
ولفظاً ناهَبَ الحلْيَ الغواني ... وأهدى السحر للحدق الملاح
وله في استعطاف الصاحب:
أي جرمٍ لواثقٍ بك راجي ... خبطته غوارب الأمواج
وطني أنتِ والمكارم زادي ... فلمن أزجر القلاص النواجي
فارعَ يا كافي الكفاة ثناءً ... نفث السحر في العيوم السواجي
لو أزرتَ الحراب ملعب طوقي ... لارتشفن الثناء من أوداجي
أنا مذْ حرَّقت سمومك ظلّي ... جمرةٌ في شواظك الوهّاج
لا تقابل زيارتي بازورارٍ ... ومجاجاً عسّلته بأجاج
ليس في الشرط جنس حظّي فوقَّع ... في عيون الحساد بالإخراج
وكان أيام الصاحب يشتي بحضرته ويصيف بوطنه، كما قال من قصيدة جرجانية يتسحب فيها على كرم الصاحب ويقرع باب استبطائه ويستأذنه للعود إلى بلده:
ألا يا أيها الملك الرؤوف ... إلى كم يعصي بالنفس اللهيفُ
أأسحب في ذراك فضول ذيلي ... ويسحب ذيل نعمتك الضيوف
فإنْ يملك سواي عنانَ حظّي ... ولي من دونه اللّفظ الشريف
فكلّ مطرَّقٍ مالٌ، ولكنْ ... تعود بها إلى القيم الصروف
لواني عن طريق اليأس أني ... على ثقةٍ بأنك لا تحيفُ
فحِزْ إرث الزمان وعشْ حميداً ... يُناخ ببابك الهمُّ العكوف
وحادثْ بالسراح أخا اشتياقٍ ... يلاعب ظلّه جسدٌ نحيف
له بالريف من جرجان مشتى ... وبالنخلات من غمّي مصيف
وقرأت للصاحب فصلاً في ذكره واستملحته، وهو: وأما ابن بابك، وكثرة غشيانه بابك. فإنما تغشى منازل الكرام، والمنهل العذب كثير الزحام.

(1/450)


قال مؤلف الكتاب: وقد كانت تبلغني لمع يسيرة من شعره فتروقني وتشوقني إلى أخواتها، حتى استدعى أبو نصر سهل لن المزربان من بغداد مجموع شعره كعادته في استنساخ الظرف واستجلاب الغرر، وبذل النفائس في استحداث الملح، فأهدى إليه ابن بابك مجلدة من شعره بخطه يسحب ذيلها على الروض الممطور. والوشي المنشور. فلم أدر الدفتر أملح أو الخط أحسن أم الشكل أصبح أو اللفظ أبرع أم المعنى أبدع، وجمعت يدي منها على الضالة المنشودة، والغريبة الموجودة، فأخرجت منها غرراً ما هي إلا أنس المقيم وزاد المسافر ومنية الكاتب وتحفة الشاعر، كقوله في وصف الشراب من قصيدة:
عقارٌ عليها من دم الصبّ نفضةٌ ... ومن عبرات المستهام فواقعُ
معوّدةٌ غصب العقول كأنّما ... لها عند أرباب الرجال ودائعُ
تحيَّر دمع المزن في كأسها كما ... تحيَّر في ورد الخدود المدامع
وقوله من أخرى في وصف إضرام النار في بعض غياض طريقه إلى الصاحب:
ومقلةٍ في مجرِّ الشمس مسحبها ... أرعيتها في شباب السذقة الشهبا
حتى أرتني وعين النجم فاترةٌ ... وجه الصباح بذيل الليل منتقبا
وليلةٍ بت أشكو الهمّ أولها ... وعدت آخرها أستنجد الطربا
في غيضةٍ من غياض الحزن دانيةٍ ... مدّ الظلام على أرواقها طنبا
يهدى إليها مجاج الخمر ساكنها ... فكلما دبَّ فيها أثمرت لهبا
حتى إذا النار طاشت في ذوائبها ... عاد الزمرُّد من عيدانها ذهبا
ومنها:
مرقْتُ منها وثغر الصبح مبتسمٌ ... إلى أغرَّ يرى المذخور ما وهبا
ذو غرّةٍ كجبين الشمس لو برقتْ ... في صفحة الليل للحرباء لانتصبا
يا أغزر الناس أنواءً ومحتلباً ... وأشرف الناس أعراقاً ومنتسبا
أصبحت ذائقةً بالوفر منك وإنْ ... قال العواذل ظنٌّ ربّما كذبا
إن المنى ضمنت عنك الغنى فأجبْ ... فالبحر يمنح فضل الريِّ من شربا
فحسن ظنّي قد استوفى مدى أملي ... وحسن رأيك لي لم يبق لي أربا
ومن أخرى:
حجبت وما حجبت عن الصباح ... وليلُ الصّبِّ ممطول البراح
وبات السقم يكمن في عظامي ... كمون الموت في حدِّ الصفاح
ومنها:
كسوت الحمد ذا عرضٍ مصونٍ ... يمتَّعُ في حمى مالٍ مباح
مزوحُ اللفظ مجذوعَ العطايا ... جموحُ العزم مجنونَ السماح
إذا اشتجرت على الملك العوالي ... هززت أصمَّ موشَّى الجناح
يُريق على الظُّبا ريق المنايا ... ويكحل بالردى مقل الرماح
وقوله من أخرى يمدح ويعاتب ويستبطئ:
أرى الأيام تسرف غي عقابي ... ودون رياضتي شيب الغراب
ألا يا عامر الآمال مالي ... أسير الطرف في أملٍ خراب
أفون مطارح الأمل انتظاراً ... وأسرح بين سقمٍ واغتراب
أراعُ ولا أراعي والأماني ... لقىً بين اكتئابٍ وارتياب
وكم كسرٍ جبرْتَ فكان طوقاً ... على نحرِ الدعاء المستجاب
وقوله من أخرى:
لقد نشر النيروز وشياً على الرّبا ... من النور لم تظفر به كفُّ راقم
كأن ابن عبادٍ سقى المزن نشره ... فجاد برشّاشٍ من الوبل ساجم
ومن أخرى يهنئه بالأضحى:
ليهنك عيدٌ لو تناجت سعوده ... لما اقترحت إلا سماءك مطلعا
فضحِّ بمنْ ماطلتُه عدَّة الردى ... فما اكتنّ صدر السيف إلا ليقطعا
وله من قصيدة يذكر خلعة أمر له الصاحب بها:
وخلعةٍ فاجأت بلا عِدّةٍ ... من منعمٍ في عطائه سرفُ
غلَّت لساني عن الثناء فما ... يجري ولكنْ لشأنها يصفُ
ومن أخرى:
أقبلت في شرف اللباس فأبلسوا ... نظر البغاث إلى انقضاض الجارحِ
إشتقّ من خلع الفخار عمامةً ... ورفاء تهزأ بالكئيب البارح
ومزنر الأردان ناقلني الضنا ... وافترَّ عن سمطيّ شتيتٍ واضح

(1/451)


كالزبرقان تهافتت أنواره ... ليلاً بمضطرب الخليج السابح
ومهلهلِ النهدين نازع عِطفهُ ... علمٌ كمنعطف العذار الجامح
لأنلتني شرف المقام، ورعي بي ... قلب الزمان، وصنت وجه مدائحي
لله منزلنا التي من شأنها ... جرّ الرماح على السّماك الرامح
ومن قصيدة في فخر الدولة:
خلقت يقظان مروح العنان ... موقّر الجأش جموح الجنان
أظلم الدهر فقد سرّني ... وعشت من أحداثه في أمانِ
فإن تكن أيام دهري خلتْ ... فشأن أيامي البواقي وشاني
لقد تفيَّأتُ ظلال الصبا ... وصمّ عن طاعتي العاذلان
واستوقفت طرفي في خصور الدمى ... وانتهبت عقلي حضور الدنان
أفتِّق جلد الليل عن ضوئها ... والصبح كالنار خلال الدخان
يسعى بها في سقطات الندى ... أغنُّ معقودُ حواشي اللسانِ
مروّعُ المقلة طاوي الحشى ... مؤنّث الدلِّ مريض البنان
مقرطقٌ تنفر أذياله ... عن موجةٍ يجذبها غصن بان
مزنَّرٌ يقلق سرباله ... كأنّما زرّ على خيزران
في يده شمطاء مقتولةً ... ترفل في ملحفتي أرجوان
إذا استدارت فرقاً صرّحت ... عن شررٍ وابتسمت عن جمان
إذا ظغا لؤلؤه خلته ... طلاًّ على أرضٍ من الزعفران
تذكّرني أنفاسها سحرةً ... والليل والصبح طليقا رهان
نشوةَ أنفاس الأمير الذي ... أدرك ما شاء برغم الزمان
لم يحسن في تشبيه طيب رائحة الشراب بنفس الممدوح وهو ملك معظم لأنه إنما يشبه بنفس المعشوق، وقد مر مثل هذا النقد في شعر المتنبي، وكان ينبغي أن يقول:
نسيمُ أفعال الأمير الذي ... أدرك ما شاء برغم الزمان
رجع:
يا فلم الأمة درْ بالذي ... تهوى فقد دان لك المشرفان
مقبل الراحة ما صُوِّرت ... كفّ؟اه إلا للندى والطعان
فالحزم والعزم له عدّةٌ ... والمال والسيف له جنّتان
قد رقم النيروز وشْي الرُّبا ... فارقم حواشي جامك الخسرواني
واقتبل اللّذات واستدعها ... باللهو والقصف وعزف القيان
واجتلِ وجه الراح في روضةٍ ... تبسّم عن مثل وجوه الغواني
وارع رياض العز في غبطةٍ ... واسكن مدى الأيام ظلَّ التهاني
ومن أخرى في مهرجانية:
أيا شاهانشاه صلِ الأماني ... بتجديد البشائر والتهاني
فقد جرت السعود وجاء يحدو ... سبوت الدهر سبت المهرجان
وإنْ طغتِ المثالب والمثاني ... فعاتبها بقهقهة القناني
فقد برد النسيم وجاء يسعى ... بها خِصِر المراشف والبنان
فلا عدمت يداك سقيط مزنٍ ... يصفق بالرحيق الخسرواني
ومن أخرى يصف مجلس إملاك نثرت في الدنانير:
وهزّ العقدُ متن الأرض حتى ... كأنْ قد أشربت حلب العصير
وأرسلت السماء رشاش نبرٍ ... شتيت الورق كالورق النّثير
لقد أمطرتها ذهباً ولكنْ ... جلوت الشمس في يومٍ مطير
كواكب زرن وجه الأرض حتى ... لقد أذكرتنا عام الهرير
ومن أخرى:
يا ساقي قضيبُ الرند ريانُ ... والبدر ملتحفٌ والصبح عريانُ
وللصبا عثراتٌ لا تقال، وفي ... سجع الحمائم ترجيعٌ وإرنان
فغالباً نفثتي بالراح واختلسا ... عقلي فقد نفح النسرين والبان
واسترجعا لمتي واستنفدا طربي ... قبل الشروق فللأطراب أوطان
وعرضا بهوى لبني فلي ولها ... وللزجاجة إن عرضتما شان
اليأس وردي إذا سحبُ المنى هطلت ... والصبر زادي إذا أهل الحمى بانوا

(1/452)


ها إن حلبة أرض الله شوط فتى ... في بسطتي يده بطشٌ وإحسانُ
لله ثم لشاهنشاه خلفتها ... ما طل في رملات القاع حوذان
إن كان للفلك العلوي مرتكضٌ ... فيها فللفلك الأرضي سلطانُ
ومن أخرى في أبي علي الحسن بن أحمد لما تقلد الوزارة هو وأبو العباس الضبي على سبيل المشاركة والمشاطرة:
برق الثناء وشق ذاك القسطل ... وجرى عنانك والسماك الأعزلُ
ورآك للتشريف أهلاً فاجتبى ... بوفائه ملكٌ يقول ويفعلُ
فأعرت شطر الملك ثوب كماله ... البدرُ في شطر المسافة يكملُ
أنظر إلى حسن وصفه لوزارته المشتركة، وتدبيره نصف المملكة لفخر الدولة.
ومن أخرى:
ذنبي إلى الدهر أني ما خضعت له ... ولا طويت له ثوبي على درنٍ
قد كنت أوقفُ من عنسٍ على طللٍ ... فصرت أسرع من عذلٍك على أذن
هذي بقية نفس فارقت وطناً ... وفرقة النفس تتلو فرقة الوطن
نقلت عن عقر دارٍ كنت آلفها ... إلف القرارة صوب العارض الهتن
حتى ترنحتُ في إفياء دولتها ... ترنح الظل بين الماء والغصن
فالآن قصر باعي وانتهى طربي ... وشمرت في عقابي سطوة الزمن
وقوله من أخرى:
رب ليلٍ مرقتُ من فحمتيه ... أنا والعيس والقنا والبروقُ
وقادٍ كخفقة النبض يغشى ... مقلة راعها الخيال الطروق
واستهلت لمصرع الليل ورقٌ ... ثاكلاتٌ حدادها التطويق
فتضاحكتُ شامتاً وكأن ال ... صبح جيبُ على الدجا مشقوق
سبك الشرق منه تبراً مذاباً ... لفرند الشعاع فيه بريق
وتمشت على الرياض النعامى ... وثنى قده القضيب الرشيقُ
فكأن التراب مسكُ فريكُ ... وكأن الأصيل صبحٌ فتيق
ليس إلا تطرف العيش حتى ... يتوشى لك المراد الأنيق
إنما العيش رنةٌ من حمامٍ ... وسلافٌ يشجه معشوق
ومهب من الشمال عليلٌ ... ووشاحٌ من الرياض أنيق
وملاءٌ من الشباب جديدٌ ... ورداءٌ من النسيم رقيق
وجمالٌ من الرذاذ نثيرٌ ... في مروجٍ ترابهن خلوق
لا ترد مشرع الصبابة فاليأ ... س رفيق إذا استقل الفريقُ
شافه الهم إن طغى بحريقٍ ... سلهُ من زناده الراووق
صفقته يدٌ كأن عليها ... صدفاً فيه لؤلؤٌ وعقيق
وله أيضاً:
لم أرض باليأس ولكنني ... أسوف الخسران بالربح
تألفتني خطراتُ المنى ... تألف المسبار في الجرح
ومن أبيات في غلام يشتكي من قروح به:
يا أيها الرشأ الموفي على شرفٍ ... ماذا دعاك ولم أذنب إلى تلفي
لا تشكون قروحاً آلمتك فقد ... سرقتها من فؤادي الهائم الدنفِ
أحب منك وإن لج العوازل في ... لومي دلال الرضا في نخوة الصلف
ومن أبيات في الاعتذار من ترك التوديع:
إن لم أودعك فعن عذرةٍ ... فاثنِ إليها أذناً واعيه
قرت بك العين فنزهتها ... عن نظرةٍ ليس لها ثانية
؟أبو إبراهيم إسماعيل بن أحمد الشاشي العامري قد كان يقع التعجب من إخراج الشاش مثل أبي محمد المطراني في حسن شعره وبراعة كلامه، فلما أخرجت من إسماعيل من ألقى إليه القول الفصل زمامه، وملكه المعنى البديع عنانه، كان كما قيل: " جرى الوادي فطم على القرى " وهو أحد الأفراد بحضرة الصاحب، وممن رفعتهم سدته، وشرفتهم خدمته.
ولولا أن الفالج أبطله الآن، لكان قد بلغ من التبريز أعلى مكان. ولكنه بالري لقى، وفي طريق المنية لقى. وعنده بقية مما استفادة في أيام الصاحب تتماسك معها حال معيشته. وتنزاح بها علل نفسه. وهذا أنموذج من شعره قال في الصاحب من قصيدة شبب فيها بشكاية الإخوان وذكر مرضاً عرض للصاحب:
سرينا إلى العليا فقيل كواكبُ ... وثرنا إلى الجلى فقيل قواضب

(1/453)


وفاضت لنا فوق السنين نوافلٌ ... فما شك محل أنهن سحائب
خلقنا أشداء القلوب على الهوى ... فما تزدهينا الآنساتُ الربائب
فمن دأبه منا نحولٌ ودقةٌ ... فمما جنى أحبابنا لا الحبائب
أبيت أنادي الدهر جدلي بصاحبٍ ... وجل طلاب الدهر ما أنا طالبِ
فما جاد لي منه بغير مجانبٍ ... وآخرُ خيرٌ منه ذاك المجانب
خليلٌ تحامته الأباعد والتوت ... على مهج الأدنين منه العقارب
عقارب لا يجرحن غير مودةٍ ... فهن لحبات القلوب لواسب
وما كان ظني أن تبين شبيبتي ... وإن بان جيرانٌ وشطت أقارب
فمذ راعني شرخ الشباب بفرقةٍ ... تيقنتُ أن لا يستدام مصاحب
أخلاي أمثال الكواكب كثرةً ... وما كل ما يرمي به الأفق ثاقبُ
بلى كلهم مثلُ الزمان تلوناً ... إذا سر منهم جانبٌ ساء جانب
مضى الودّ والإنصاف والعهد منهمُ ... فما بقيت إلا الظنون الكواذب
وكنت أرى أن التجارب عدةً ... فحانت ثقات الناس حتى التجارب
تدرع لإخوان الزمان مفاضةً ... ولا تلقهم إلا وأنت محارب
إن لم تكن مندوحةٌ من مصاحبٍ ... فسيفٌ ورمحٌ والفلا والركائب
فهن إلى وفد الخطوب كتائبٌ ... وهن إلى كافي الكفاة صواحب
إلى ملك مذ أشرقت شمس جوده ... تبسم في وجه الرجاء المطالبُ
إلى من حمى عود العلا فهو ناضرٌ ... ورد إليه ماءه وهو ناضب
إلى من رعى بالجود سرب نعميه ... فلا تتمطى في ذراه النوائب
وكل نعيمٍ لم يعوذ بشاكرٍ ... تفنن فيه للذهاب مذاهب
لعمري بني عبادٍ المجدُ راسياً ... ولكن لإسماعيل منه المناكب
زرارة لم يحلل بواديه مفخرٌ ... ولكن حوى غر المفاخر جانب
وحلت قريشٌ في اليفاع بهاشم ... وإن كان سباقاً إلى المجد غالب
فديناك يا كهف البرية ما الذي ... أعار المعالي سقمك المتناوب
عليها من الإشفاق ثوبُ كآبةٍ ... وخطبٌ يدانيه الضنى
وفي كل دارٍ للأرامل ضجةٌ ... بأدعيةٍ ضوضاؤها متجاوب
ولو شئت تأديب الليالي فعلتهُ ... فلم يرَ منها في جنابك خارب
ولم تقرب الحمى حماك ولم يكن ... لسورتها في سورة المجد سارب
وحوشيت أن تضري بجسمك علةٌ ... ألا إنها تلك الغروم الثواقب
ولا عج تدبيرٍ وجائش همةٍ ... سرى منهما بني الجوانح لاهبُ
فلا تعذروها أن رأت اشرف الورى ... وحلت به فالحر في الشمس ناشبُ
لقد كانت الأيام حجبَ شمسها ... دياجي همومٍ دجنها متراكب
فلما انتضاك البرء عادت كأنها ... غياهب بأس قشعتها مواهب
نظرت إلى دنياك نضره قادر ... فلم يبق فيها سائل ومغالب
سواي فإني سائل انتغب لي ... سحائب نعمى كلهن ربائب
فما في لساتي شكر ما أنت منعم ... ولا في بناتي حصر ما أنت واهب
أنلني بقدري لا بقدرك إنما ... تجود على قدر الآتي المذانب
وقال من أخرى نمن البسيط
مستوقفي بين ذل الصد والملل ... لاحظ لي منك إلا لذة الأمل
أرضي بطيفك بل أرضى بذكرك أن ... يتدلى وذاكري مقرونين في الغزل
لا ترحلن فما أبقيت من جلدي ... ما أستطيع به توديع مرتحل
ولا من الغمض ما أقري الخيال به ... ولا من الدمع ما أبكي على طلل
نعم لي العزمة الغراء إن وجدت ... لم تحتفل بوجيف الخيل والإبل
تحوي مرادي على رغم العواذل من ... رب الأكاليل لا من ربه الكلل

(1/454)


قد زدت يا ليلة التوديع في حزني ... ولم تزل يا صباح الوصل في جذل
وأنت يا جسداً لج القضاء به ... حتى برته يدُ الأوجاع والعلل
كيف احتملت الضنا في الظاعنين ضحى ... وكنت للشوق فيهم غير محتمل
عجبت أن يحل السقم في بدن ... لو شاء جاز الردى سراً من الأجل
لم يبق منه سوى قلب يقلبه ... في ملطب العز بين البيض والأسل
مقسم قلبه في كل مرحلةٍ ... شوقاً إلى العز لا شوقاً إلى الغزل
نفسي الفداء إذا ما الروع صبحني ... للأعين الخزر لا للأعين النجل
لله جسمي فما أبقى حشاشته ... على الحوادث والأسقام والوجل
يعدو سقامي على مثل الخيل ضنى ... ويقرع الخطب مني صفحة الجبل
ولا يرى في فراشي عائدي شبحاً ... ويحمل الدرع مسلوباً عن البطل
أنا المقيم وأشعاري على سفرٍ ... كادت تؤلف أعلاماً على السبل
سارت شوارد أوصاف الوزير بها ... سير الجنوب بصوب العارض الهطل
يروي القريض ولما يسم قائله ... فيشهد المجد أن المدح فيه ولي
إذا سهرت لتحبير المديح له ... راسلت طبعي ومن إحسانه رسلي
ما بعده لشذور القول مدخرٌ ... في مقلة الريم أعلى بغية الكحل
وما به حاجةٌ في المدح تنظمه ... الشمس تكبر عن حلي وعن حللِ
لكنه ملكُ هامت عزائمه ... بالجود فهو يروم البذل بالحيل
ما قال لا قط مذ حلت تمائمه ... بخلاً به فوجدنا الجود في البخل
أولى الملوك بتدبير الممالك من ... يغني ويقني ولم يورث ولم يسلِ
ومن يبيت من الأيام في خجلٍ ... إن لم يبت والليالي منه في وجل
ومن يطبقُ وجه الأرض عسكره ... يوم القراع ويلقى القرن في الفضل
ومن يقود الأسود السود بالوعل ... ومن يصيد البزاة الشهب بالحجل
ومن يهم فلا يغزو سوى ملكٍ ... ولا يفرق غير الملك في النقل
يا راحلاً عنه إن البحر معترضٌ ... فما ورودك ظمآناً على وشل
لا تترك السيف مشحوذاً مضاربه ... وتطلب النصر عند الجفن والخلل
قد وقر الدهر بالتدبير هيبته ... وأرجف الأرض بالغارات والغيل
تجري الجياد من القتلى على جبلٍ ... ومن دمائهم يرحضن في وحل
ومن جماجمهم يصعدن في نشزٍ ... ومن ذوائبهم يقمصن في شكل
تحملت صهوةٌ أخرى شواكلها ... من طول ما حملت سبياً على الكفل
قومٌ إذا ابتدروا يوم الوغى فرقاً ... تكاد تعثر أخرهم على الأول
قومٌ أعفاء عن غير العدو فلو ... غزون بالبحر لم يعلقن بالبلل
إن التحكم في الدنيا بأجمعها ... لمفرد الرأي أمرٌ ليس بالجلل
يا من دعته ملوك الأرض راعيها ... حاشا لما أنت راعيه من الخلل
إن الملوك على أيامنا مقلٌ ... فاخلق برأيك أجفاناً على المقل
ومن أخرى:
رأيت على أكورانا كل ماجدٍ ... يرى كل ما يبقى من المال مغرما
ندوم أسيافاً، ونعلو عوالياً ... وننقض عقباناً، ونطلع أنجما
إلى من يسير الدهر تحت لوائه ... وتركز أعلام العلا حيث خيما
ومن أخرى في فخر الدولة:
أما شبا السيف مسلولاً على القمم ... فقد حمدنا ولم نذمم شبا القلم
لا أشتكي الدهر والأيام من حولي ... أسوسها والخطوب الربد من خدمي
فلو رماني بعد النوم ناظُرها ... بريبةٍ أطبقت أجفانها قدمي
فالآن أورد ذودي غير محتشمٍ ... وأنزع الغرب ريانا إلى الوذم

(1/455)


ولا أؤاخذ أيامي بما صنعت ... في نعمة البرء ما يعفو عن السقم
فإن برتني غواديها فلا عجبٌ ... على النفوس جنايات من الهمم
ما زلت منغمس الآمال في عدمٍ ... أو في وجودٍ يداني رتبة العدم
حتى طلعت وعين السعد ترمقني ... كالصبح منبلجاً عن حالك الظلم
آوي إلى ظل شاهنشاه من زمني ... كما أوى الصيد مذعوراً إلى الحرم
زرت الملوك لتدنيني إليه كما ... يبغي إلى الله زلفى عابدُ الصنم
خلفتهُم وهمُ خطاب خدمتهِ ... ومثل ما بي من وجدٍ بها بهم
يرون بي حسراتٍ في قلوبهم ... لكنما ثمراتُ السعي بالقسم
وكم نصحتُ لمن بغداد موطنهُ ... والنصح من أجلب الأشياء للتهم
فكان ذا رمدٌ لج الأساة به ... وما اهتدوا أن يداووا عينه فعمي
هي القرابة من لم يرع حرمتها ... فالسيف أولى به وصلاً من الرحم
له تطاع ملوك الأرض قاطبةً ... وللشباب تراعي حرمة الكتم
حاشا له أن أسمي غيره ملكاً ... وأن أقر بفضل الباز للرخم
كل يدل بأشباحٍ يسوسهم ... وما سواه رعاة البهم لا البهم
ما قام من سوق أهل الفضل لم يقمِ ... لو أن ما دام من نعماه لم يدم
أعطى فأحيا موات الجود نائلهُ ... فالخصب من فعله والاسم للديم
ومنها في ذكر تطهير ابنيه:
أمسست شبليك في حق الهدى ألماً ... لولا الهدى لسفكنا فيه ألف دمٍ
جلوت سيفاً ليرتاح الشجاع له ... شذبت غصناً لتنمي قامة النسم
وله من أخرى:
بلوت الليالي فلم يتزن ... بأدنى الإساءة إحسانها
فلا تحمدنها على وصلها ... ففي نفس الوصل هجرانها
وأنشدت له:
تنكب حدة الأحد ... ولا تركن إلى أحد
فما بالري من أحدٍ ... يؤهل لاسم لا أحد
أبو حفص الشهرزوري
من ظرفاء الأدباء والشعراء، ولشعره وحلاوة، وعليه طلاوته، ولا عيب فيه إلا قلة ما وقع لي منه، وكان في بصره سوء فلما ورد حضرة الصاحب قدمه إليه كتابه فجاراه الصاحب في مسائل لم يحمد أثره فيه. فقال له مداعباً:
وكاتبٍ جاءنا بأعمى ... لم يحوِ علماً ولا نفاذا
فقلت للحاضرين كفوا ... فقلب هذا كعين هذا
ثم استنشده من ملحه، فأنشده أبياتاً أعجب بها، فلما أنشده:
دعوت على ثغره بالقلح ... وفي شعر طرته بالجلح
لعل غرامي به أن يقل ... فقد برحت بي تلك الملح
قال: نسجت على منوال جميل في قوله:
رمى الله في عيني بثينة بالقذى ... وفي الغر نم أنيابها بالقوادح
وما أحسنت بعض إحسان ابن المعتز في قوله:
يا رب إن لم يكن في وصله طمعٌ ... وليس لي فرجٌ من طول هجرته
فاشفِ السقام الذي في جفن مقلته ... واستر ملاحة خديه بحليته
ثم أنشده قوله:
يستوجب العفو الفتى إذا اعترف ... بما جناه وانتهى عما اقترف
لقوله قل للذين كفروا ... إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف
فأمر أن يكتبا في سفينة الملح مع ما أنشده أياه.
ومن قوله في غلام مختط:
الآن أحسن مما كان بستانهُ ... طابت فواكه فيه وريحانهُ
فيه من الورد محمر جوانبه ... ونرجسٌ كحلت بالغنج أجفانهُ
غطت عناقيد أصداغٍ مهدلةٍ ... تفاح حسنٍ به قد زين بستانهُ
خاف القطاف على بستان وجنته ... فشوكت حذر السراق حيطانهُ
وقوله:
حكت السماء ندي يدي ... ك فلم أطلق سعياً إليك
وحكيتُها يا سيدي ... بالدمع من أسفي عليك
بنو المنجم

(1/456)


قد تقدم ذكر بعضهم في أهل العراق، وهذا مكان من يحضرني شعره منهم، وما منهم إلا أغر نجيب، ولهم وراثة قديمة في منادمة الملوك والرؤساء، واختصاص شديد بالصاحب، وفيهم يقول:
لبني المنجم قطنةٌ لهيبه ... ومحاسنٌ عجيمةُ عربيه
ما زلت أمدحهم وأنشر فضلهم ... حتى اتهمت بشدة العصبيه
وضرب السلام المثل في السماع بأحدهم في قوله لعضد الدولة:
عبد رمى يفعاً إليك مقشعاً ... فالآن قد وخط المشيب عذاره
ولطالما أثني عليك فظن أن ... بني المنجم منطقٌ أوتاره
أنشدت لهبة الله بن المنجم:
شكى إليك ما وجد ... من خانه فيك الجلد
حيران لو شئت اهتدى ... ظمآن لو شئت ورد
يا أيها الظبيُ الذي ... ألحاظه تُردي الأسد
أما لأسراك فدى ... أما لقتلاك قود
الراح في إبريقها ... أحسن روحٍ في جسد
فهاتها نصلح بها ... من الزمان ما فسد
ولأبي عيسى بن المنجم:
آخ من شئت ثم رم شيئاً ... تلف من دون ما تروم الثريا
وسمعت أبا الفتح علي بن محمد البستي، يقول: أنشدت لأبي عيسى:
رغيف أبي علي حل خوفاً ... من الأسنان ميدان السماك
إذا كسروا رغيف أبي علي ... بكى يبكي فهو باكي
فبنيت عليه قولي لبعض من أطايبه:
لنا شيخٌ بفقحته يواسي ... ويحلق شاربيه بالمواسي
إذا بايتهُ من جوف بيتٍ ... فسا يفسو فساءً فهو فاسي
ولأبي عيسى:
لوم النديم منغص ... طيب المجالس والندامِ
وسماحة الحر الكري ... م تزيد في طيب المدامِ
فإذا شربت الراح فاش ... ربها من النفر الكرامِ
وتنكبن ما استطعت أخ ... لاق اللئام بني اللئام
ولأبي الفتح بن المنجم:
كنت أدعو عليه بالشعر حتى ... زاده الشعر في الأنام جمالا
وإذا كان هكذا كان خذلا ... ني دقيقاًك وكان شؤمي جلالاً
وأضر الأشياء أن عذولي ... في هواه أشد مني خبالا
ولأبي محمد بن المنجم:
إذا لم تنل همم الأكرمين ... وسعيهم وادعاً فاغترب
فكم دعةٍ أتعب أهلها ... وكم راحةٍ نتجت من تعب
ولأبي الحسن بن المنجم:
هو الدهر لم تبدع علي صروفه ... ولم يأت شيئاً لم أكن أتخيله
وما راعني المكروه إذ هو عادتي ... لديه، ولكن راع قلبي تعجله
تعجل حتى كاد آخر فعله ... يجيء ولما ينقطع بعد أوله
وعمى ابن بابك على أبي الحسن بن المنجم بيتاً، هو:
بكرُ العواذل في الصبا ... ح يلمن من فرط اصطباحي
فأخرجه أبو الحسن وكتب إليه:
بأبي وأمي أنت من ... خل أعز أخي سماحِ
عميت لي بيتاً وجد ... تُك فيه عفتَ بكور لاحي
فنقرته نقراً فط ... ن ولاح من كل النواحي
ووجدته من قول مغ ... رى بالخلاعة والمزاح
بكرُ العواذل في الصبا ... ح يلمن من فرط اصطباحي
فانشط وأبهم غيره ... ليجوب ظلمته صباحي
ويصح عندك في الحجى ... أن المعلى من قداحي
فأجابه ابن بابك:
بأبي محاسن زرتني ... وبديعةٍ سلت مزاحي
وخلائق كالنور با ... ح بسره نفس الصباح
وخلائقٍ لو صورت ... سكنت أنابيبُ الرماح
كشفت ضباب حديقتي ... وأجابها مزن اقتراحي
فأتت تخايل في نظا ... م هز أعطاف ارتياحي
أبو طاهر بن أبي الربيع

(1/457)


هو عمرو بن ثابت بن سعد بن علي الذي ذكره الصاحب في كتاب له وقال وأما قصيدة أبي طاهر بن أبي الربيع، فأحسن من الربيع، ومن قطيعة الربيع، وإنها لوثيقة الجزالة، أنيقة الأصالة. تنطق عن أدب مهيد الأسر. شديد الأزر. وله عندنا أسلاف بر أرجو أن لا تبقى في ذمتنا حتى نقضيها، فوعد الكريم ألزم من دين الغريم. وأول قصيدته التي وصفها الصاحب:
أما لصاحبي بالعذيب معرجُ ... على دمنٍ أكنافها تتأرجُ
وصهباء بكرٍ يرسب الدر قعرها ... ومطفاه أعلى كأسها حين تمزجُ
سلامٌ على عهد التصابي فإنني ... إلى الرتبة العليا بظلك أحوجُ
إليك ابن عبادٍ شددنا غروضها ... وضوء النهار في دجال الليل يولج
وعبر عن مكنون ما في ضمائري ... خلوص ولائي والثناء المدبج
وقوله من قصيدة:
سحبت دلادلها على الغبراء ... سحب تثج ودائع الأنواء
والشمس تلحظ من خروق حجابها ... مرضى الجفون سقيمة الأضواء
وكأنما هتك الحجاب متيمٌ ... عن غر وجه الغادة الحسناء
وكأن مولي الرياض ضرائرٌ ... تزهى بخضرتها على الخضراء
قد أبرزت زهراتها وازينت ... وتعطرت وتبرجت للرائي
والنور منحسر القناع كما بدت ... للناظرين محاسنُ العذراء
والنبت ريان المهزة مائلٌ ... شرقٌ محاجرُ زهره بالماء
مسحت بأجنحة الصبا أعرافه ... وجلت مداوسها متون إضاء
فترى الظباء إذا وردن حيالها ... ككواعبٍ قابلتهن مرائي
أخذ من قول ابن المعتز:
وترى الرياح إذا مسحن غديره ... صفينه ونقين كل قذاةِ
ما إن يزال عليه ظبيٌ كارعٌ ... كتطلع الحسناء في المرآة
أبو الفرج الساوي
أشهر كتاب الصاحب بحسن الخط، مع أخذ من البلاغة بأوفر الحظ، وكان الصاحب يقول: خط أبي الفرج يبهر الطرف. ويفوت الوصف، ويجمع صحة الأقسام، ويزيد في نخوة الأقلام. وأما شعره فمن أمثل شعر الكاتب كقوله، في مرثية فخر الدولة:
هي الدنيا تقول بملء فيها ... حذار حذار من بطشي وفتكي
فلا يغرركم حسن ابتسامي ... فقولي مضحكٌ والفعل مبكي
بفخر الدولة اعتبروا فإن ... أخذت الملك منه بسيف هلكِ
وقد كان استطال على البرايا ... ونظم جمعهم في سلك ملكِ
فلو شمس الضحى جاءته يوماً ... لقال لها عتواً أف منك
ولو زهر النجوم أبت رضاه ... تأبى أن يقول رضيت عنك
فأمسى بعد ما قرع البرايا ... أسير القبر في ضيق وضنك
أقدر أنه لو عاد يوماً ... إلى الدنيا تسربل ثوب نسكِ
دعي يا نفس فكرك في ملوكٍ ... مضوا بل لانقراضك ويك فابكي
فلا يغني هلاكُ الليث شيئاً ... عن الظبي السليب قميص مسك
هي الدنيا أشبهها بشهد ... يسم وجيفة طليت بمسك
هي الدنيا كمثل الطفل، بينا ... يقهقه إذ بكى من بعد ضحك
ألا يا قومنا انتبهوا فإنا ... نحاسب في القيامة غير شك
وأنشدت له في وصف البرغوث:
وأصهب في قد شونيزةٍ ... أقفز من فهدٍ على خشف
يسهرني تخمشه دائباً ... وعبثه يعمل في حتفي
أبو الفرج بن هندو
وهو الحسين بن محمد بن هندو، من أصحاب الصاحب، وممن تخرجوا بمجاورته وصحبته، فظهر عليهم حسن أثر الدخول في خدمته، أنشدني أبو حفص عمرو بن علي المطوعي، قال: أنشدني أبو الفرج لنفسه بالري:
لا يوحشنك من مجدٍ تباعده ... فإن للمجد تدريجاً وتدريباً
إن القناة التي شاهدت رفعتها ... تنمي فتصعد أنبوباً فأنبوبا
وأنشدني أيضاً له:
يسر زماني أن أناط بأهله ... وآنف أن أعزى إليه لجهلهِ

(1/458)


ويعجبني أن أخرتني صروفه ... فتأخيرها الإنسان برهان فضلهِ
فإنا رأينا قائم السيف كلما ... تقلده الأبطال قدام نصله
وله أيضاً في الغزل:
تقول لو كان عاشقاً دنفاً ... إذا بدت صفرةٌ بخديه
لا تنكريه فإن صفرته ... غطت عليها دماء عينيه
وله:
عابوه لما التحى فقلنا ... عبتم وغبتم عن الجمالِ
هذا غزالٌ وما عجيبٌ ... تولد المسك في الغزال
وقال:
كم من ملح على أذاه ... يسل في فكه حساما
صب قذى القول في صماخي ... فصار حلمي له فداما
قال مؤلف الكتاب: قد كان اتفق لي في أيام صباي معنى بديع لم أقدر أني سبقت إليه، ولا ظننت أني شوركت فيه، وهو قولي في آخر هذه الأبيات الأربعة:
قلبي وجداً مشتعل ... على الهموم مشتمل
وقد كستني في الهوى ... ملابس الصب الغزل
إنسانةٌ فتانةٌ ... بدر الدجى منها حجل
إذا زنت عيني بها ... فبالدموع تغتسل
وأنشدني أبو حفص من قصيدة لأبي الفرج:
يقولون لي ما بال عينك مذ رأت ... محاسن هذا الظبي أدمعها مطل
فقلت زنت عيني بطلعة وجهه ... فكان لها من صوب أدمعها غسل
فصح عندي تشارك الخواطر وتواردها في المعاني، إذ لم يكن مجال للظن في سرقة أحدنا من الآخر، والله أعلم بحقيقة الحال.
ومن غرر صاحبياته قصيدته التي أولها:
لها من ضلوعي أن يشب وقودها ... ومن عبراتي أن تفض عقودها
بذلك لها الدمع المصون وإن غدت ... تمانعني في نظرةٍ أستفيدها
سلام عليها حيث حلت فإنني ... عدمت فؤادي منذ عز وجودها
وكن ليلةٍ زارت وقد لان أهلها ... وسامح واشيها، وغاب حسودها
فحلت بتضييق العناق عقودها ... وحلي من در المدامع جيدها
وركبٍ أطار والنوم عنهم وأججوا ... من العزم ناراً مستنيراً وقودها
على كل هوجاء النجاة كأنها ... تطير فما يؤذي الصخور وخودها
تؤم بها بحر الفضائل والعلا ... ولا سفنُ إلا رحلها وقتودها
يجوزون أجواز السباسب باسمه ... فيصفر داجيها ويدرج بيدها
فقد ملكوا العلياء إذ عبدوا السرى ... ولن يملك العلياء إلى عبيدها
إليك تحملنا أماني أجدبت ... على ثقةٍ أن النجاح يجودها
ومنها من وصف الجيش والحرب:
وشهباء يثني كمتاً نجيعها ... إذا قارعت والكمت شهباً كديدها
تبدت لنا في روضةٍ القنا ... بماء الطلى أغوارها ونجودها
أدارت سقاة البيض والسمر بيننا ... كؤوس المنايا حين غنى حديدها
شفيت غليل الطير منها موسعاً ... قراها وهامات الكماة سهودها
غمائم إيماض السيوف بروقها ... لديها وإرزام الخيول رعودها
ولا غيث إلا أني يصب على العدا ... بنوء الظبا حمر المنايا وسودها
يبشرك النيروز باليمن مطلعاً ... وتبدأ أفعال الندى وتعيدها
كسونا بك الأشعار فخراً وزينةً ... فخيم بين الشعريين قصيدها
وسار بها الركبان في كل بلدة ... ولولاك ما جاز اللهاة نشيدها
وملح أبي الفرج كثيرة، ولا يسع هذا الباب إلى هذا الأنموذج منها:
الباب السابع
شعراء الجبل والطارئون عليه من العراق
في ذكر سائر شعراء الجبل والطارئين عليه من العراق وغيرها
وملح أخبارهم وأشعارهم
أبو الحسين أحمد بن فارس
بن زكريا المقيم

(1/459)


كان بهمذان من أعيان العلم وأفراد الدهر، يجمع إتقان العلماء، وظرف الكتاب والشعراء، وهو بالجبل كابن لنكك بالعراق وابن خالويه بالشام وابن العلاف بفارس وأبي بكر الخوارزمي بخراسان، وله كتب بديعة، ورسائل مفيدة، وأشعار مليحة، وتلامذة كثيرة، منهم بديع الزمان، وأنا أكتب من رسالة لأبي الحسين كتبها لأبي عمرو محمد بن سعيد الكاتب فصلاً في نهاية الملاحة يناسب كتابي هذا في محاسن أهل العصر، ويتضمن أنموذجاً من ملح شعراء الجبل وغيرها من العصريين وظرف أخبارهم، كأبي محمد القزويني وابن الرياشي والهمذاني المقيم بشيراز وابن المناوي، وأبي عبد الله المغلسي المراغي وغيرهم، ثم أورد ما وقع إلي من ملح أبي الحسين، إن شاء الله تعالى.
الفصل من الرسالة المذكورة
ألهمك الله الرشاد، وأصحبك السداد، وجنبك الخلاف، وحبب إليك الإنصاف. وسبب دعائي بهذا لك إنكارك على أبي الحسن محمد بن علي العجلي تأليفه كتاباً في الحماسة وإعظامك ذلك، ولعله لو فعل حتى يصيب الغرض الذي يريده، ويرد المنهل الذي يؤمه، لاستدرك من جيد الشعر ونقيه ومختاره ورضيه كثيراً مما فات المؤلف الأول، فماذا الإنكار؟ ولمه هذا الاعتراض؟ ومن ذا حظر على المتأخر مضادة المتقدم؟ ولمه بقول من قال: ما ترك الأول للآخر شيئاً، وتدع قول الآخر: كم ترك الأول للآخر؟ وهل الدنيا إلا أزمان ولكل زمان منها رجال؟ وهل العلوم بعد الأصول المحفوظة إلا خطرات الأوهام ونتائج العقول؟ ومن قصر الآداب على زمان معلوم، ووقفها على وقت محدود؟ ولمه لا ينظر الآخر مثل ما نظر الأول حتى يؤلف مثل تأليفه ويجمع مثل جمعه، ويرى في كل ذلك مثل رأيه؟ ما تقول لفقهاء زماننا إذا نزلت بهم من نوادر الأحكام نازلة لم تخطر على بال من كان قبلهم؟ أو ما علمت أن لكل قلب خاطراً ولكل خاطر نتيجة؟ ولمه جاز أن يقال بعد أبي تمام مثل شعره ولم يجز أن يؤلف مثل تأليفه؟ ولمه حجرت واسعاً، وحظرت مباحاً، وحرمت حلالاً، وسددت طريقاً مسلوكاً؟ وهل حبيب إلا واحد من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم؟ ولم جاز أن يعارض الفقهاء في مؤلفاتهم، وأهل النحو في مصنفاتهم، والنظار في موضوعاتهم، وأرباب الصناعات في جميع صناعاتهم، ولم يجز معارضة أبي تمام في كتاب شذ عنه في الأبواب التي شرعها فيه أمر لا يدرك ولا يدري قدره؟ ولو اقتصر الناس على كتب القدماء لضاع علم كثير، ولذهب أدب غزير، ولضلت أفهام ثاقبة، ولكلت ألسن لسنة، ولما توشى أحد الخطابة، ولا سلك شعباً من شعاب البلاغة، ولمجت الأسماع كل مردد مكرر، وللفظت مقلوب كل مرجع ممضغ، وحتام لا يسأم.
ولو كنت من زمان لم تستبح إبلي
وإلى متى
صفحنا عن بني ذهل
ولمه أنكرت على العجلي معروفاً، واعترفت لحمزة بن الحسين ما أنكره على أبي تمام في زعمه أن في كتابه تكريراً وتصحيفاً وإيطاء وإقواء ونقلاً لأبيات عن أبوابها إلى أبواب لا تليق بها ولا تصلح لها إلى ما سوى ذلك من روايات مدخولة، وأمور عليلة، ولمه رضيت لنا بغير الرضى؟ وهلا حسبت على إثارة ما غيبته الدهور، وتجديد ما أخلقته الأيام، وتدوين ما نتجته خواطر هذا الدهر، وأفكار هذا العصر، على أن ذلك لو رامه رائم لأتعبه، ولو فعله لقرأت ما لم ينحط عن درجة من قبله، من جد يروعك، وهزل يروقك، واستنباط يعجبك، ومزاح يلهيك! وكان بقزوين رجل معروف بأبي محمد الضرير القزويني حضر طعاماً وإلى جنبه رجل أكول فأحس أبو حامد بجودة أكله، فقال:
وصاحب لي بطنه كالهاويه ... كأن في أمعائه معاويه
فانظر إلى وجازة هذا اللفظ، وجودة وقوع الأمعاء إلى جنب معاوية، وهل ضر ذلك أن لم يقله حماد عجرد أبو الشمقمق؟ وهل في إثبات ذلك عار على مثبته؟ أو في تدوينه وصمة على مدونيه؟ وبقزوين رجل يعرف بابن الرياشي القزويني، نظر إلى حاكم من حكامها من أهل طبرستان مقبلاً عليه عمامة سوداء وطيلسان أزرق وقميص شديد البياض وخفه أحمر، وهو مع ذلك كله قصير، على برذون أبلق هزيل الخلق طويل الحلق، فقال حين نظر إليه:
وحاكمٍ جاء على أبلقٍ ... كعقعقٍ جاء على لقلق
فلو شاهدت هذا الحاكم على فرسه لشهدت للشاعر بصحة التشبيه وجودة التمثيل، ولعلمت أنه لم يقصر عن قول بشار:
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا ... وأسيافنا ليلٌ تهاوى كواكبه

(1/460)


فما تقول لهذا؟ وهل يحسن ظلمه في إنكار إحسانه وجحود تجويده؟ وأنشدني الأستاذ أبو علي محمد بن أحمد بن الفضل لرجل بشيراز يعرف بالهمذاني، وهو اليوم حي يرزق، وقد عاب بعض كتابها على حضوره طعاماً مرض منه:
وفيت الردى وصروف العلل ... ولا عرفت قدماك الزلل
شكا المرض المجد لما مرض ... ت فلما نهضت سليماً أبل
لك الذنب لا عتب إلا عليك ... لماذا أكلت طعام السفل
طعامٌ يسوي ببتع النبيذ ... ويصلح من حذر ذاك العمل
وأنشدني له في شاعر هو اليوم هناك يعرف بابن عمرو الأسدي، وقد رأيته فرأيت صفة وافقت الموصوف:
وأصفر الليون أزرق الحدقه ... في كل ما يدعيه غير ثقة
كأنه مالك الحزين إذا ... هم برزق وقد لوى عنقه
إن قمت في هجوه بقافيةٍ ... فكل شعرٍ أقوله صدقه
وأنشدني عبد الله بن شاذان القاري ليوسف بن حمويه من أهل قزوين ويعرف بابن المنادى:
إذا ما جئت أحمد مستميحاً ... فلا يغررك منظره الأنيقُ
له لطفُ وليس لديه عرفٌ ... كبارقةٍ تروق ولا تريقُ
فما يخشى العدو له وعيداً ... كما بالوعد لا يثق الصديقُ
وليوسف محاسن كثيرة، وهو القائل، ولعلك سمعت به:
حج مثلي زيارة الخمار ... واقتنائي العقار شرب العقار
ووقاري إذا توقر ذو الشي ... بة وسط الندى ترك الوقار
ما أبالي إذا المدامة دامت ... عذل ناهٍ ولا شناعة جاري
رب ليل كأنه فرع ليلي ... ما به كوكبٌ يلوح لساري
قد طويناه فوق خشف كحيلٍ ... أحور الطرف فاترٍ سحار
وعكفنا على المدامة فيه ... فرأينا النهار في الظهر جاري
وهي مليحة كما ترى، وفي ذكرها كلها تطويل، والإيجاز أمثل، وما أحسبك ترى بتدوين هذا وما أشبهه بأساً.
ومدح رجل بعض أمراء البصرة ثم قال بعد ذلك وقد رأى توانيا في أمره قصيدة يقول فيها كأنه يجيب سائلاً:
جودت شعرك في الأم ... ير فكيف أمرك قلت فاتر
فكيف تقول لهذا؟ ومن أي وجه تأتي فتظلمه؟ وبأي شيء تعانده فتدفعه عن الإيجاز والدلالة على المراد بأقصر لفظ وأوجز كلام؟ وأنت الذي أنشدتني:
سد الطريق على الزما ... ن وقام في وجه القطوب
كما أنشدتني لبعض شعراء الموصل:
فديتك ما شبت عن كبرةٍ ... وهذي سني وهذا الحساب
ولكن هُجرتُ فحل المشيب ... ولو قد وصلت لعاد الشباب
فلم لم تخاصم هذين الرجلين في مزاحمتهما فحولة الشعراء وشياطين الإنس ومردة العالم في الشعر؟ وأنشدني عبد الله المغلسي المراغي لنفسه:
غداة تلوت عيسهم فترحلوا ... بكيت على ترحالهم فعميتُ
فلا مقلتي أدت حقوق ودادهم ... ولا أنا عن عيني بذاك رضيت
وأنشدني أحمد بن بندار لهذا الذي قدمت ذكره، وهو اليوم حتى يرزق:
زارني في الدجى فنم عليه ... طيب أردانه لدى الرقباءِ
والثريا كأنها كف خودٍ ... أبرزت من غلالةٍ زرقاء
وسمعت أبا الحسين السروجي يقول: كان عندنا طبيب يسمى النعمان ويكنى أبا المنذر، فقال فيه صديق لي:
أقول لنعمان وقد ساق طبهُ ... نفوساً إلى باطن الأرضِ
أبا منذرٍ أفنيت فاستبقِ بعضنا ... حنانيك بعض الشر أهون من بعضِ
وهذه ملح من شعر أبي الحسين بن فارس، منها قوله في الشكوى:
سقى همذان الغيث لست بقائلٍ ... سوى ذا، وفي الأحشاء نارٌ تضرمُ
وما لي لا أصفي الدعاء لبلدةٍ ... أفدت بها نسيان ما كنت أعلمُ
نسيت الذي أحسنته غير أنني ... مدينٌ، وما في جوف بيتي درهم
وله:
وقالوا كيف حالك قلت خيرٌ ... تقضى حاجةٌ وتفوت حاجُ
إذا ازدحمت هموم الصدر قلنا ... عسى يوماً يكون لها انفراج
نديمي هرتي وأنيس نفسي ... دفاتر لي ومعشوقي الشراب
وقوله:

(1/461)


كل يوم لي من سل ... مى عتابٌ وسبابٌ
وبأدنى ما ألاقي ... منهما يودي الشبابُ
وقوله:
يا ليت لي ألف دينارٍ موجهةٍ ... وأن حظي منها فلس إفلاسِ
قالوا: فما لك منها؟ قلت: يخدمني ... لها ومن أجلها الحمقى من الناس
وقوله:
مرت بنا هيفاءُ مقدودةً ... تركيةٌ تُنمي إلى التركِ
ترنو بطرفٍ فاترٍ فاتنٍ ... أضعف من حجة نحوي
وقوله:
قالوا لي اختر فقلت ذا هيف ... بي عن وصالٍ وصده برحُ
بدرٌ مليح القوام معتدلٌ ... قفاه وجهٌ ووجه ربحُ
وقوله:
اسمع مقالة ناصحٍ ... جمع النصيحة والمقه
إياك واحذر أن تبي ... ت من الثقات على ثقه
وقوله:
إذا كان يؤذيك حر المصنف ... وكرب الخريف وبرد الشتا
ويلهيك حسن زمان الربيع ... فأخذك للعلم قل لي: متى؟
وقوله:
وصاحب لي أتاني يستشير وقد ... أدار في جنبات الأرض مضطربا
قلت أطلب أي شيء شئت واسع ورد ... عند الموارد إلا العلم والأدبا
وقوله:
إذا كنت في حاجةٍ مرسلاً ... وأنت بها كلفٌ مغرمُ
فأرسل حكيماً ولا توصه ... وذاك الحكيم هو الدرهم!
وقوله:
عتبتُ عليه حين ساء صنيعه ... وآليت لا أمسيت طوع يديه
فلما خبرت الناس خبر مجربٍ ... ولم أر خيراً منه عدت إليه
أخذه من قول القائل:
عتبتُ على سلمٍ فلما هجرته ... وجربت أقواماً رجعت إلى سلم
وقوله:
تلبس لباس الرضا بالقضا ... وخل الأمور لمن يملكُ
تقدر أنت وجاري القضا ... ء مما تقدره يضحك
براكويه الزنجاني المعروف بالثلول
كل ما سمعت من شعره ملح و ظرف ونكت لا يسقط منها بيت، أنشدني بديع الزمان له:
مضى العمر الذي لا يستعادُ ... ولما يقض من ليلى مرادُ
بليت وذكرها عندي جديدٌ ... وشاب الرأس واسود الفؤاد
تواصى للرحيل بنو أبيها ... فقلت لغير رأيكم السداد
وأنشدني أبو نصر المغلسي قال: أنشدني براكويه لنفسه في غلامه يوسف:
مضى يوسف عنا بتسعين درهماً ... وعاد وثلث المال في كف يوسف
وكيف يرجى بعد هذا صلاحه ... وقد ضاع ثلثا ماله في التصرف؟
وأنشدني غيره له:
وأهيف نالت الأيام منهُ ... غداة أظل عارضه السواد
تعرض لي ومرض مقلتيه ... فما وريت له عندي زناد
وقلت ارجع وراءك وابغ نوراً ... أجئت الآن إذ ظهر الفساد
فغيرك من يصيد بمقلتيه ... وغنجهما وغيري من يصاد
وقوله:
أقسم زمانك بين الورد والآس ... واطلب سرورك بين الكيس والكاس
واجعل طبيبك ذا، واجعل أنيسك ذا ... واخطب إلى الناس ود الناس باليأس
وقد مضى الناس فانظر ما الذي صنعوا ... ولا تكن لرسوم الناس بالناسي
وقوله:
خرجت مباركاً من باب دراي ... أحاول حاجةً فإذا زهيرٌ
فلم أثن العنان وقلت أمضي ... فوجهك يا زهير خراً وخيرُ
وقوله:
هلم إلينا يا أخا الفضل والحجى ... فإن لدينا من صنوف الأطايب
أطايب لهوٍ من سرورٍ ولذةٍ ... ومن طيبات الرزق قدرٌ لطالبِ
مطيبةٌ بكرٌ بخاتم نارها ... وخطابها يأتون من كل جانب
وأنت لها أولاهم بافتضاضها ... فحي عليها الآن يا خير صاحب
أبو الحسن علي بن محمد بن مأمون الأبهري
أنشدني عون بن الحسين الهمذاني، قال: أنشدني ابن مأمون الأبهري لنفسه:
ألا يعجب الناس مما دعو ... ت، يا للأنام لفقد الكرم
تيممت أحمد في حاجةٍ ... فقابلني بحجابٍ أصم
وإن الفتى لحقيقٌ بأن ... يهان إذا خف منه القدم

(1/462)


ومستخبرٍ كنه ما بيننا ... ومن الحال قلت أخٌ وابن عم
كلانا إلى منسب نعتزي ... وتجمعنا آصرات الرحم
ولكن له الفضل في أنه ... يصول بقرنٍ وأني أجم
وأنشدني أيضاً له:
خليلي ماذا أرتجي من غدٍ امرئ ... طوى الكشح عني اليوم وهو مكين
وإن امرءاً قد ضن عنك بمنطقٍ ... يسدّ به فقرُ امرئ لضنينُ
وله:
ما كل من جدد الزمان له ... إلفاً تناسى حبيبه الأولُ
أكنت يا سيدي ويا أملي ... شغلت عني فعنك لم أشغلُ
حسبك أني من طول هجرك لا ... أدري نهاري أم ليلتي أطولُ
وله:
متى ترغب إلى الناس ... تكن للناس مملوكاً
وإن أنت تخففت ... على الناس أحبوكا
وإن ثقلت عافوك ... وملوك وسبوكا
إذا ما شئت أن تعصي ... فمر من ليس يرجوكا
وسل من ليس يخشاك ... فيدمي عندها فوكا
أبو علي الحسن بن محمد الضبيعي
من بعض كور الجبل، يقول في وصف مجمرة ومدخنة:
ومنحوتةٍ من جنس قلبك قسوةً ... برزت بها في مثل قدك لينا
حوت جمرةً في لون خدك حمرةً ... وفي حر أحشائي هوى وحنينا
يذكرني ما فاح من عرف ندها ... شهوراً مضت في وصلنا وسنينا
وله في وصف المجمرة:
ومبرقةٍ والبر تنوي وما نوت ... جفاي ولا إبراقها بعقوقِ
لها قسطلٌ في كل نادٍ تثيره ... على كل خل مخلصٍ وصديق
أتت حاملاً شمساً توقد في دجاً ... وأبناء حامٍ في برود عقيقِ
كأن دخان الند من فوق جمرها ... بقايا ضبابٍ في رياض شقيق
وله:
ولما عدتني عنه بادرة النوى ... أبى القلب مني أن يسير مع الركب
فسرت وقد خلفت قلبي عنده ... فيا من رأى شخصاً يسير بلا قلب
وله في غلام تركي:
أضيغمٌ أم غزالُ ذاك أم بشرُ ... شمس تزيت بزي الترك أم قمرُ
لقد تحير وصفي في حقيقته ... كما تحير في أجفانه الحور
وله:
أنا مملوكٌ لمملو ... ك وللدهر صروفُ
أيها السائل عن مو ... لاي مولاي وصيفُ
يا غزالاً لحظ عيني ... ه مناياً وحتوفُ
ما الذي ورد خدي ... ك ربيعٌ أم خريفُ
أبو الحسين علي بن الحسين الحسني الهمذاني
من علية العلوية، ومحاسن الحسنية، وكان الصاحب صاهره بكريمته التي هي واحدته، فرزق منها عباد بن علي الذي تقدم ذكره، ولما قال الصاحب قصيدته المعراة من الألف التي هي أكثر الحروف دخولاً في المنظوم والمنثور وأولها:
قد ظل يجرح صدري ... من ليس يعدوه فكري
وهي في مدح أهل البيت، تبلغ سبعين بيتاً - تعجب الناس منها، وتداولتها الرواة:
فسارت مسير الشمس في كل بلدةٍ ... وهبت هبوب الريح في البر والبحر
فاستمر الصاحب على تلك المطية، وعمل قصائد كل واحدة خالية من حروف من حروف الهجاء، وبقيت عليه واحدة تكون معراة من الواو، فانبرى أبو الحسين لعملها، وقال قصدية فريدة ليس فيها واو، ومدح الصاحب في عرضها، أولها:
برقٌ ذكرت به الحبائب ... لما بدا فالدمع ساكب
أمدامعي منهلةُ ... هاتيك أم غزر السحائبْ
نثرت لآلي أدمعٍ ... لم يفترعها كف ثاقب
يا ليلة سرت ليلى تخ ... ب لنآيها عنا الركائب
جعلت قسي سهامها ... إن ناضلته عقد حاجب
لم يخط سهمٌ أرسلت ... ه، إن سهم اللحظ صائب
تسقيك ريقاً سكره ... إن قسته للخمر غالب
كم قد تشكى خصرها ... من ضعفه ثقل الحقائب
كم أخجلت بضفائرٍ ... أبدت لنا ظلم الغياهب
إخجال كف الصاحب ال ... قرم المرجى للسحائب
ملك تلألأ من معا ... قد عزه شرف المناصب

(1/463)


نشأ سحائب رفده ... في الخلق تمطر بالرغائب
خذها إليك فإنني ... نقحتها من كل عائب
ألفيت ما لاقيت من ... إلقائه إحدى المصاعب
حرفاً يعلل كل حر ... فٍ حل من لفظ المخاطب
ها ذاك ترب الهاء إن ... لم أبده فالنهج لاحب
لكن له تمثال قا ... فٍ خطه في السطر كاتب
أني اغترفت خليجها ... من بحرك العذب المشارب
فانعم بملكٍ دائباً ... ما حج بيت الله راكب
وله في دار بعض الملوك:
دار علت دار الملوك بهمةٍ ... كعلو صاحبها على الأملاك
فكأنها من حسنها بهائها ... بنيت قواعدها على الأفلاك
أبو سعد علي بن محمد بن خلف الهمذاني
أحد أفراد الزمان الذين ملكوا القلوب بفضلهم، وعمروا الصدور بودهم يرجع إلى أدب غزير، وفضل كثير، ويقول شعراً بارعاً كأنما أوحى بالتوفيق إلى صدره، وحبس الصواب بين طبعه وفكره، وكان الأمير أبو الفضل عبيد الله بن أحمد الميكالي جاز به عند منصرفه من الحج، فخدمه أبو سعد بنفسه ونظمه ونثره. وانعقدت بينهما معاقدة المشالكة، وصدافة المناسبة. ولما أنشده الأمير أبياتاً لأبي الفتح علي بن محمد البستي مشابهة القوافي، قال أبو سعد أبياتاً فيه، على سبيل أبي الفتح فيها نهج، وعلى منواله نسج، فمنها قوله:
ما سر مولاي نبي الهدى ... بوحي جبريل وميكال
إلا قريباً من سروري بما ... رزقت من ود ابن ميكال
لكن نواه قد أطاشت دمي ... فالله فيه لدمي كالي
وقوله:
أبى الفضل أن يحظى به غيره أهله ... من الناس فاختص الأمير أبا الفضل
وإني وإن أصبحت حراً فإنني ... عبيد عبيد الله ذي المن والفضل
هل الفضل إلا ما حوته خلاله ... وما بعده فضلٌ يعد من الفضل
ومما وقع إلي بعد ذلك من غرر شعره التي رضي فيها عن طبعه قوله:
أصرح بالشكوى ولا أتأول ... إذا أنت لم تجمل فلم أتجمل؟
أفي كل يومٍ من هواك تحاملٌ ... علي ومني كل يومٍ تحمل؟
وإني على ما كان منك لصابرٌ ... وإن كان من أدناه يذبل يذبل
وما أدعي أني جليدٌ، وإنما ... هي النفس ما حملتها تتحمل
وأنشدني أبو حفص عمر بن علي له:
زاد غرامي لهباً ... فطر غمامٍ سكبا
فعاقني عن قصدكم ... كما تعوق الرقبا
وكان عهدي قبل ذا ... بالماء يطفي اللهبا
فكيف قد فارق لي ... طباعه وانقلبا
هكذا الدهر يُرى ... في كل يوم عجبا
أبو علي الحسين بن أبي القاسم القاشاني
شاعر حسن الشعر، كثير الملح والنكت، أنشدني غير واحد له:
عيني مذ شطتِ الديار بكم ... تحكي سماءً والدمع أنجمها
كأن في وجنتي أبالسةً ... تسترق السمع وهي ترجمها
وأنشدني أبو منصور اللجيمي الدينوري، قال: أنشدني أبو علي لنفسه في العنب:
نهاني عذولي بل لحاني إذ رأى ... ولوعي بالأعناب أكثر قضمها
فقلت له الصهباء كانت عشيقتي ... فقد ألزمتني رقةُ الحال صرمها
فعللت بالأعناب نفسي كمنعظٍ ... نأت عرسه عنه فواقع أمها
وأنشدني أيضاً، قال: أنشدني أيضاً لنفسه:
يا ليلة جمعي والمدام ومن ... أهواه في روضةٍ تحكي الجنان لنا
لأشكرنك ما ناحت مطوقةٌ ... على الغصون كما طوقتني مننا
وأنشدني غيره لأبي علي:
أليس عجيباً أن جسمي ناحلٌ ... نحول خلالٍ بل نحول هلال
وأحمل ثقلاً في الهوى لا تقله ... متون جمالٍ بل متون جبال
وأنشدني أبو حفص عمر بن علي، قال: أنشدت بالري لأبي علي:
قل للذي يظهر التبرم بي ... وبالرقاع التي أسطرها
حاجة مثلي إليك عارفةٌ ... عندك بالله لست تشكرها
أبو القاسم عمر بن عبد الله الهرندي

(1/464)


أنشدني الأمير أبو الفضل عبيد الله بن أحمد الميكالي له:
الريحُ تحسدني علي ... ك ولم أخلها في العدا
لما هممت بقبلةٍ ... ردت على الوجه الردا
وأنشدني له:
وقالوا أي شيءٍ منه أحلى ... فقلت المقلتان المقلتان
نعم والطرتان هما اللتان ... على عمر الهرندي فتنتان
وأنشدني هرون بن جعفر الصيمري، قال: أنشدني عمر الهرندي لنفسه:
لا أحب المدام إلا العتيقا ... ويكون المزاج من فيك ريقا
إن بين الضلوع مني ناراً ... تتلظى فكيف لي أن أطيقا
بحياتي عليك يا من سقاني ... أرحيقاً سقيتني أم حريقا
وعلى ذكر الحريق والرحيق فقد قال بعض أهل نيسابور:
وعقارٍ عيشُ من عا ... قرها عيشٌ رشيق
فهي للأنس نظامٌ ... وإلى اللهو طريق
وهي للأرواح في أب ... داننا نعم الصديق
قلتُ لما لاح لي من ... ها شعاعٌ وبريق
أشقيقٌ أم عقيقٌ ... أم رحيقٌ أم حريق؟
وأنشدت له في ذم المتصوفة:
تباً لقومٍ جعلوا ... ديناً لدنيا مأكله
تستروا بأنهم ... صوفيةٌ محنبله
وما يساوي نسكهم ... قمامةٌ من مزبله
إتخذوا شباكهم ... إحفاءهم للأسبله
وله من قصيدة في أبي الفتح بشر بن علي:
رؤياك في أمري روية حازمٍ ... ذي حنكةٍ فأقول قولاً برما
إن تقصني أمسيت مضغة ضيغمٍ ... أو تدنني أصبحت ذاك الضيغما
وله فيه من قصيدة وقد كتب به دابته في نهر عميق فهلكت وسلم أبو الفتح:
بنحس أعاديك دار الفلك ... وما دار يوماً بسعدٍ فلك
وإن هم دهراً بما لا أقول ... فنفسي الفدا وعلي الدرك
بقيت جواداً فلا تحزنن ... لفقد الجواد الذي قد هلك
فإن أذنب الدهر في أخذه ... فخير من الطرف ما قد ترك
أبو عبد ا لله المغلسي المراغي
قد تقدم له ذكر في الفصل من رسالة أبي الحسين بن فارس، وهو القائل في محك الذهب:
ومشتملٍ من صبغة الليل بردةً ... يفوف طوراً بالنضار ويطلسُ
إذا سألوه عن عويصٍ ومشكلٍ ... أجاب بما أعيا الورى وهو أخرسُ
وله في اللواء:
ومرتفعٍ للناظرين محاربٍ ... ترى رأسه في بسطه الباع مائلا
حكى ثملاً أصغى إلى البين فاغتدى ... يشق عن الأذيال منه الغلائلا
وأخبرني أبو الحسين النحوي أن له في الأوصاف وما يجري مجرى العويص شيئاً كثيراً، وإذا وقع إلي منه ما يصلح للإلحاق بهذا الفصل ألحقته، إن شاء الله تعالى.
القاضي أبو بكر الأسي
من أهل الري، بلغتني له أبيات يسيرة في نهاية خفة الروح، كقوله:
يا غزالاً هو للحس ... ن مقر ومحط
لم تكن أنت بهذا الح ... سن والبهجة قط
مذ بدا في عاج خدي ... ك من العنبر خط
وقوله:
وزائرٍ زار خائفاً رصداً ... لم أرجُ منه زيارةً أبدا
لو جاز أن يعبد امرؤ أحداً ... من دون رب الورى إذا عبدا
قمت لإكرامه فباس يدي ... أكرم بها في الهوى علي يدا
يا قبلةً أصبحت لها شفتي ... تموت من غيظ راحتي كمدا
فصل في ذكر نفر من الطارئين على بلاد الجبل
الطارئون على بلاد الجبل
أبو عبد الله البطحاوي قال:
يا حمامي وحميمي ... وغرامي وغريمي
وسقيم الود والعه ... د لذي جسم سقيم
لم يزل ذكرك مذ فا ... رقت ندماني نديمي
وجهك الزاهر لي رو ... ضٌ ورياك نسيمي
غير أني اشتكي من ... ك إلى غير رحيم
معرض عن وجه إقبا ... لي خلي عن همومي
ابن حماد البصري قال:
إن كان لا بد من أهل ومن وطنٍ ... فحيث آمنُ من ألقى ويأمنني
يا ليتني منكرٌ من كنت أعرفه ... فلست أخشى إذاً من ليس يعرفني

(1/465)