صدر هذا الكتاب آليا بواسطة الموسوعة الشاملة
(اضغط هنا للانتقال إلى صفحة الموسوعة الشاملة على الإنترنت)
الكتاب : يتيمة الدهر |
لا أشتكي زمني هذا فاظلمه ... وإنما أشتكي من أهل ذا الزمنِ (1/466)
قد كان لي كنزُ صبرٍ فافتقرتُ إلى ... إنفاقه في مزاراتي لهم وقني
وقد سمعت أفانينَ الحديث فهل ... سمعت قط بحر غير ممتحن
شمسويه البصري قال في غلام يبيع الفراني:
قلت للقلب ما دهاك: أجبني ... قال لي: بائع الفراني فراني
ناظراه فيما جنى ناظراه ... أو دعاني أمت بما أو دعاني
أبو الفضل النهر عاسي قال:
لولا تعاليل النفوس وأنها ... مخدوعةٌ ما سرها محبوبُ
خاب امرؤ محض النصيحة نفسه ... كل يشوبُ لنفسه ويروب
أحمد بن بندار قال:
وقالوا يعود الماء في النهر بعد ما ... عفت منه آثار وجفت مشارعُهْ
فقلتُ إلى أن يرجع الماء عائداً ... ويعشب شطاه تموت ضفادعه
أبو عبد الله الروزباري قال في وصف الثلج:
ما لابن هم سوى شرب ابنة العنبِ ... فهاتها قهوةً فراجة الكرب
أدهق كؤوسك منها واسقني طرباً ... على الغيوم فقد جاءتك بالطرب
أما ترى الأرض قد شابت مفارقها ... بما نثرن عليها وهي لم تشبِ
نثار غيثٍ حكى لون الجمان لنا ... فاشرب على منظرٍ مستحسنٍ عجبِ
جاد الغمام بدمعٍ كاللجين جرى ... فجد لنا بالتي في اللون كالذهبِ
الباب الثامن
في ذكر من هم
شرط الكتاب من أهل فارس والأهواز
سوى من تقدم ذكرهم في ساكني العراق كعبد العزيز بن يوسف وأبي أحمد الشيرازي، وسوى من يتأخر ذكرهم في الطارئين على خراسان كأبي إسحاق المتصفح كان ببخارى وأبي الحسن محمد بن الحسين النحوي المقيم الآن بإسفرائين من نيسابور وأبي الحسين الأهوازي صاحب كتاب القائد والفرائد المقيم كان بالصغانيات.
أبو بكر هبة الله بن الحسين الشيرازي
المعروف بابن العلاف كان بفارس للأدب مجمعاً، وللشعر مفزعاً، مع التصرف في مدارج الأحكام، والمعرفة بشعب الحلال والحرام، والقبول التام، عند الخاص والعام، خنق التسعين ولم تبيض له شعرة، وهو القائل في التبرم بشبابه من قصيدة:
إلام وفيم يظلمني شبابي ... ويلبس لمتي حلل الغراب
وآملُ شعرةً بيضاء تبدو ... بدو البدر من خلل السحاب
وأدعى الشيخ ممتلئاً شباباً ... كذي ظمأٍ يعلل بالسراب
فيا هلكي هنا لك من مشيبي ... ويا خجلي هنا لك واكتئابي
ألا يا خاضب الشيب المعنى ... أعني في الشباب على الخضاب
فكافور المشيب أجل عندي ... وفي فودي من مسك الشباب
وأين من الصباح ظلامُ ليلٍ ... وأين من الرباب دجى ضباب
ألا من يشتري مني شباباً ... بشيبٍ واسوداداً باشهباب
ومما يستحسن من شعره في عضد الدولة قوله:
يا علم العالم في الجود ... مثل جوداً غير موجود
بيضت من وجه الندى بالندى ... ما اسود في أيامه السود
كم لك في كسبك للحمد من ... سعي على الأيام محمود
بين مطيعٍ لك أصفدتهُ ... وبين عاصٍ لك مصفود
بك استوى الجود على خدمةٍ ... كما استوى الفلك على الجودي
كم موردٍ منك ندى أو ردى ... بين الرضا والسخط مورود
وسؤددٍ منك بعز العلا ... يا عضد الدولة معضود
والدهر طوعٌ لك في كل ما ... تحده من كل محدود
وكل جارٍ لك من جوره ... في ظل أمنٍ بك ممدود
فعش وعيد سالماً آمناً ... ما عاد لطف الماء في العود
واسعد يد الدهر بما شئت من ... ملكٍ لأبنائك موطود
ومما يستجاد من شعره قوله في الغزل:
خداك للخنس السبع العلا فلك ... ومقلتاك لشراد الهوى شرك
وفيك نفعٌ وضر يجريان كما ... يجري بما يحتوي في وسعه الفلك (1/467)
فالضر أجمع مخصوصٌ به بدني ... والنفع بيني وبين الناس مشترك
وقوله:
أبعد دنو الدار من داركم أجفى ... فلا غلةٌ تشفي ولا لوعةٌ تُطفى
وكنت إذا سلسلت في كأس ذي هوىً ... من الريقِ السلسال في كأسه أصفى
ففيم يخون العهد من صنت عهده ... ويمزجني من كان يشربني صرفا
وقوله في الزهد:
ما عذر من جر غاوياً رسنةً ... ما عذره بعد أربعين سنه
أكلما طالت الحياة به ... أطال عن أخذ حذره رسنه
قل لي إذا مت كيف تنقص من ... سيئةٍ أو تزيد في حسنه
أبو بكر بن شوذبة الفارسي
وجدت في سفينة بخط الشيخ الرئيس أبي محمد عبد الله بن إسماعيل الميكالي لأبي بكر بن شوذبة الفارسي:
إذا لم يكن ممن يؤوب هديةٌ ... فلا لقيته بالسعادة دارهُ
وإن يهد أقلاماً ونقساً وكاغداً ... فلا قر يوماً بالمقام قراره
وإن يهدِ برداً أو رداءً محبراً ... فلا زال عنا ظله وجواره
وله:
يا ضماني على البربيع وشرطي ... طال شوقي فما ترى في التلاقي
استزرني بحرمتي، أو فزرني ... إن هذا الربيع ليس بباق
آفة البدر ما علمت كسوفٌ ... وكسوفُ المحب يوم الفراق
وله:
أنعم بيوم المهرجان فإنه ... يومٌ أتاك به الزمان جديدُ
ومضى المصيف وحره وعجاجه ... وأتى الخريف ووقته المحمودُ
وإن كان هذا اليوم عيداً للورى ... فبقاءُ عمرك كل يوم عيدُ
والراحُ طيبةٌ إذا ما عللت ... بسماعِ أهيف في يديه عودُ
وله:
أكل من كان له نعمةٌ ... أوسع من نعمةِ إخوانهِ
أم كل من كانت له كسرةٌ ... يبذلها في بعض أحيانه
أم كل من كان له جوسقٌ ... مشرفٌ شيد بأركانه
يرى بها مستكبراً تائهاً ... على أدانيه وخلانه
أحمد بن الفضل الشيرازي
كان يهوى فتى من أولاد الأغنياء المترفين بشيراز، فقال فيه:
ومن البلية والعظائم أنني ... علقتُ واحد أمه وأبيه
فهما ذوا حذرٍ عليه تراهما ... يتلقطان كلامه من فيه
قد دللاه وأورثاه رعونةً ... من نخوةٍ مشتقةٍ من تيه
المعروف المنبسط الشيرازي
سمعت أبا نصر سهل بن المرزبان يقول: أضاف المنبسط بعض إخوانه ثم خرج وخلاه في منزله، فكتب إليه:
يا خالي الجيب من عقلٍ ومن أدبِ ... وإن تحليت من خالٍ ومن نسب
تركتني ومعي في البيت واحدةٌ ... وأنت تعلم ما يجري به لقبي
أبو رجاء أحمد بن عفو الله الكاتب الشيرازي
قال:
غضبت من قبلةٍ بالكره جدت بها ... فها فمي لك فاقتصيه أضعافا
لم يأمر الله إلا بالقصاص فلا ... تستجوري ما يراه الله إنصافاً
أبو عبد الله الخوزي
قال:
ويل لمن عدله القاضي ... والله عنه ليس بالراضي
تمضي القضايا بشهاداته ... وهو إلى النار غداً ماض
أبو الحسن بن أبي سهل الأرجاني
قال:
مدحت ابن كلثوم صهر الوصي ... فأنزلني بالمحل القصي
فأطعمه الله سلح الخصي ... وكلل يافوخه بالعصي
أبو علي بن غيلان السيرافي
قال:
قد كنت ألتمس الشرا ... ب فقد بدا لي في الشراب.
وأهمني خبزُ الشعي ... ر ولم يكن ذا في حسابي
ابن خلاد القاضي الرامهرمزي
هو أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن بن خلاد.
من أنياب الكلام، وفرسان الأدب، وأعيان الفضل، وأفراد الدهر، وجملة القضاة الموسومين بمداخلة الوزراء والرؤساء، وكان مختصاً بابن العميد تجمعهما كلمة الأدب ولحمة العلم، وتجري بينمها مكاتبات بالنثر والنظم، كما تقدم ذكر صدر منهما، وهكذا كانت حاله مع المهلبي الوزير، وهو الكاتب إليه لما استوزر: (1/468)
الآن حين تعاطى القوس باريها ... وأبصر السمت في الظلماء ساريها
الآن عاد إلى الدنيا مهلبها ... سيف الوزارة بل مصباحُ داجيها
تضحي الوزارة تزهى في مواكبها ... زهو الرياض إذا جادت غواديها
تاهت علينا بميمونٍ نقيبته ... قلَّتْ لمقداره الدنيا وما فيها
معزُّ دولتها هنَّئتها فلقدْ ... أيَّدتها بوثيقٍ من رواسيها
فأجابه المهلبي بهذه الأبيات:
مواهب الله عندي ما يدانيها ... سعيٌ ومجهودٌ وسعي لا يوازيها
والله أسأل توفيقاً لطاعتهِ ... حتّى يوافق فعلي أمره فيها
وقد أتتني أبياتٌ مهذّبةٌ ... ظريفةٌ جزلةٌ رقَّتْ حواشيها
ضمّنتها حسن إبداع وتهنئةٍ ... أنت المهنّا بباديها وتاليها
فثِقْ بنيل المنى في كلّ منزلةٍ ... أصبحت تعمرها مني وتبنيها
فأنت أوّل موثوقٍ بنيَّته ... وأقرب الناس من حالٍ ترجّيها
ومن ملح ابن خلاد قوله في نفسه:
قل لابن خلاّدَ إذا جئته ... مستنداً في المسجد الجامعِ
هذا زمانٌ ليس يحظى به ... حدّثنا الأعمش عن نافعِ
وقوله وقد طولب بالخراج:
يا أيها المكثر فينا الزمجره ... ناموسه دفتره والمحبره
قد أبطل الديوان كتب السحره ... والجامعين وكتاب الجمهره
هيهات لن يعبر تلك القنطره ... نحوُ الكسائي وشعر عنتره
ودغفلٍ وابن لسان المره ... ليس سوى المنقوشة المدوره
وقوله:
غناءٌ قليلٌ ومحمدٌ ... إذا اختلفت سمر القنا في المعارك
تجمّلْ بمالٍ واغدُ غير مذمّمٍ ... بمشراط حجّام ومنوال حائكِ
وما يتغنى به من شعره قوله في غلام من أبناء الديلم:
يا منْ لصبٍّ قلقٍ ... بات يراعي الفلكا
جار به مسلّطٌ ... يجوز فيمن ملكا
يهزأ من عاشقه ... يضحك منه إن بكى
مرّ بنا يخطر في ... سريحةٍ دللّكا
كشادنٍ ريع من ال ... صياد أبدى شركا
فقلت يا أحسن من ... تبصر عيني من لكا
فقال لي بغنّةٍ ... إليك لا أجرحكا
تبّاً لقاضٍ يبتغي ... من المعاصي دركا
فقلت والله الذي ... صيّرني عبداً لكا
ما إن أردتُ ريبةً ... ولم أرِدْ سوءاً بكا
وأنت في قولك ذا ... آثمُ ممن أشركا
وقوله من قصيدة في عضد الدولة أبي شجاع رحمه الله تعالى:
جادتْ عِراصَكِ مزنةُ يا دارُ ... وكساك بعد قطينك النوّار
فلكمْ أرقتُ بعقوتيك صبابةً ... ماء المدامع والجوانح نار
ولقد أُديل من الجهالة والصبا ... زمنٌ على زنةِ العقول عيار
ومنها في المدح:
كرّ الفرار بيمنه وسعوده ... فعلت به لذوي الحجى أقدارُ
عمُرتْ من الأدب الفقيد دياره ... ودنا من الكرم البعيد مزارُ
والفقه والنظر المعظّم شأنه ... ظهرا وناضل عنهما أنصار
عادت إلى الدنيا بنوها واغتدتْ ... تبني القوافي يعربٌ ونزار
وسمت إلى فصل الخطاب وأهله ... والقائلين بفضله أبصار
آب الحصين وعنترٌ ومهلهلٌ ... والأعشيان وأقبل المرّار
والنابغان وجرولٌ ومرقّشٌ ... وكثيِّرٌ ومزرَّدٌ وضِرار
وسما جريرٌ والفرزدق والذي ... يعزى الصليب إليه والزّنار
وغدا حبيبٌ والوليد ومسلمٌ ... والآخرون يقودهم بشّار (1/469)
وأتى الخليل وسيبويه ومعمرٌ ... والأصمعي ولم يغبْ عمّار
نشرت بفنا خسرو أربابها ... كالأرض ناشرةً لها الأمطار
أحيا الأمير أبو شجاعٍ ذكرهم ... فنما القريض وعاشت الأشعار
ولما توفي ابن خلاد رثاه صديق له بقصيدة في نهاية الحسن، أولها:
همم النفوس قصارهنّ همومُ ... وسرور أبناء الزمان غمومُ
ومصير ذي الأمل الطويل وإن حوى ... أقصى المنى حتفٌ عليه يحوم
وسعادة الإنسان على استحلائها ... مرٌّ وعقد وفائها مذموم
وسنيحها برحٌ، وخصب ربيعها ... جدبٌ، وناصع عيشها مسموم
لا سعدها يبقى، ولا لأواؤها ... يفنى، ولا فيها النعيم مقيم
محسودها مرحومها، ورئيسها ... مرؤوسها، ووجودها معدوم
وبقاؤها سبب الفناء، ووعدها ... إيعادها، وودادها مصروم
أمّا الصحيح فإنه من خوف ما ... يعتاده من سقمه لسقيمُ
وسليمها طيّ السلامة دائباً ... يرنو إلى الآفات وهو سليم
وغنيُّها حذر الحوادث والردى ... في ظلّ أكناف اليسار عديمُ
سيَّان في حكم الحمام وربيه ... عند التناهي جاهلٌ وعليم
أودي ابن خلاّدٍ قريعُ زمانه ... بحرُ العلوم وروضها المرهوم
لو كان يعرف فضله صرف الردى ... لانحاز عنه ونابه مثلوم
عظمت فوائد علمه في دهره ... فمصابه في العالمين عظيم
إقليم بابل لم يكن إلاّ به ... فاليوم ليس لبابلٍ إقليم
أنّى اهتدى ريب المنون لسائرٍ ... فوق النجوم محلّه المرسوم
ظلم الزمان فبزَّ عنه كماله ... ومن العجائب ظالمٌ مظلوم
لا تعجبنَّ من الزمان وغدره ... فحديث غدرات الزمان قديم
لو كان ينجو ماجدٌ لتقيَّةٍ ... نجّى ابن خلاّد التُّقى والخيمُ
لكنّه أمرُ الإله وحكمه ... وقضاؤه في خلقه المحتوم
روضٌ من الآداب عضُّ زهره ... ركّد الهجير عليه فهو هشيم
وحديقةُ لما تزل ثمراتها ... تحفُ الملوك أصابهنَّ سموم
شمّامة الوزراء حلو حديثه ... تحفٌ لهم دون النديم نديم
ريحانة الكتّاب من ألفاظه ... يتعلّم المنثور والمنظوم
أما العزاء فما يحلُّ بساحتي ... والصبر عنك كما علمت ذميمُ
وإذا أردت تسلّياً فكأنني ... فيما أدرت من السلوِّ مليم
فعليك ما غنّى الحمامُ تحيّةٌ ... ومع التحيةِ نضرة ونعيم
محمد بن عبد العزيز السوسي
أحد شياطين الإنس، يقول قصيدة تربى على أربعمائة بيت في وصف حاله وتنقله في الأديان والمذاهب والصناعات، أولها:
الحمد لله ليس لي بختٌ ... ولا ثيابٌ يضمّها تختُ
سيان بيتي لمن تأمّله ... والمهمه الصحصان والمرت
أمِنتُ في بيتي اللصوص فما ... للص فيه فوقٌ ولا تحت
فمنزلي مطبقٌ بلا حرسٍ ... صفرٌ من الصفر حيثما درت
إبريقي الكوز إن غسلت يدي ... والطين سعدي وداري الطست
وعاجل الشيب حين صيَّرني ... فرزدقي المشيب إذ شبت
سلكت في مسلك التصوف تن ... ميساً فكم للذبول قصّرت
سوّيت سجادةً بيومٍ وأح ... فيت سبالاً قد كنت طوّلتُ
وفي مقام الخليل قمت كما ... قام لأني به تبرّكت
وقلت إني أحرمت من بلدي ... وفي حرامي إن كنت أحرمت
ثم كتبت العطوف حتى بتد ... بيري بين الرؤوس ألّفت
حتى إذا رمت عطف بعلٍ على ... عرس عكست المنى وطلّقتُ (1/470)
حرفي منقّى من التراب فكم ... ذرّيته مرّةً وغربلت
يا ليت شعري مالي حرمت ولا ... أعطي من إن رأيته اغتظت
بل ليت شعري لما بدا يقسم ال ... أرزاق في أيِّ مطبقٍ كنتُ
والحمد لله قاسم الرزق في ال ... خلق كما اختار لا كما اخترت
أبو محمد السوسي
قال:
باكرْ عليَّ ببكرٍ ... حمراءَ من كفِّ بِكْرِ
وأحي بالقفص قصفي ... وأفنِ في العمر عمري
روِّحْ براحك روحي ... وحِزْ بسكري شكري
أبو الحسن بن غسان
سمعت أبا الحسن محمد بن الحسين الفارسي النحوي يقول: ورد أبو الحسن بن غسان البصري الطبيب على أبي مضر عامل الأهواز في جملة شعراء امتدحوه، ومرض في أثناء ذلك، فعالجه أبو الحسن حتى برئ من مرضه، وكتب للشعراء ولأبي الحسن خطوطاً ترويجها فكتب إليه:
هبِ الشعراء تعطيهم رقاعاً ... مزوَّرةً كلاماً من كلامِ
فلم صلة الطبيب تكون زوراً ... وقد أهدى الشّفاء من السقام؟
//الباب التاسع
ذكر من هم
شرط الكتاب من أهل جرجان وطبرستان
القاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز
حسنة جرجان، وفرد الزمان، ونادرة الفلك، وإنسان حدقة العلم، ودرة تاج الأدب، وفارس عسكر الشعر، يجمع خط ابن مقلة إلى نثر الجاحظ ونظم البحتري، وينظم عقد الإتقان والإحسان في كل ما يتعاطاه، وله يقول الصاحب:
إذا نحن سلَّمنا لك العلم كلَّه ... فدع هذه الألفاظ ننظم شذورها
وكان في صباه خلف الخضر في قطع عرض الأرض، وتدويخ بلاد العراق والشام وغيرها، واقتبس من أنواع العلوم والآداب ما صار به في العلوم علما وفي الكلام عالما، ثم عرج على حضرة الصاحب وألقى بها عصا المسافر، فاشتد اختصاصه به، وحل منه محلاً بعيداً في رفعته، قريباً في أسرته، وسيَّر في قصائد أخلصت على قصد، وفرائد أتت من فرد، وما منها إلا صوب العقل، وذوب الفضل، وتقلّد قضاء جرجان من يده، ثم تصرفت به أحوال في حياة الصاحب وبعد وفاته، بين الولاية والعطلة، وأفضى محله إلى قضاء القضاة، فلم يعزله عنه إلا موته رحمه الله.
وعرض عليّ أبو نصر المصعبي كتاباً للصاحب بخطه إلى حسام الدولة أبي العباس تاش الحاجب في معنى القاضي أبي الحسن، وهذه نسخته بعد الصدر والتشبيب: قد تقدم وصفي للقاضي أبي الحسن علي بن عبد العزيز أدام الله تعالى عزه فيما سبق إلى حضرة الأمير الجليل صاحب الجيش أدام الله تعالى علوه من كتبي ما أعلم أني لم أؤد فيه بعض الحق، وإن كنت دللته على جملة تنطق بلسان الفضل وتكشف عن أنه من أفراد الدهر في كل قسم من أقسام الأدب والعلم، فأما موقعه مني فالموقع تخطبه هذه المحاسن وتوجبه هذه المناقب، وعادته معي أن لا يفارقني مقيما وظاعنا ومسافراً وقاطناً، واحتاج الآن إلى مطالعة جرجان بعد أن شرطت عليه تصيير المقام كالإلمام، فطالبني مكاتبتي بتعريف الأمير مصدره ومورده، فإن عنَّ له ما يحتاج إلى عرضه وجد من شرف إسعافه ما هو المعتاد ليستعجل انكفاءه إليّ بما يرسم أدام الله أيامه من مظاهرته على ما يقدم الرحيل ويفسح السبيل من بدرقة إن أحتاج إليها وإلى الإستظهار بها، ومخاطبة لبعض من في الطريق بتصرف النجح فيها، فإن رأى الأمير أن يجعل من حظوظي الجسيمة عند تعهد القاضي أبي الحسن بما يعجل رده، فإني ما غاب كالمضل الناشد، وإذا عاد كالغانم الواجد، فعل أن شاء الله تعالى.
ولما عمل الصاحب رسالته المعروفة في إظهار مساوىء المتنبي عمل القاضي أبو الحسن كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه في شعره فأحسن وأبدع وأطال وأطاب، وأصاب شاكلة الصواب، واستولى على الأمد في فصل الخطاب وأعرب عن تبحره في الأدب، وعلم العرب، وتمكنه من جودة الحفظ وقوة النقد، فسار الكتاب مسير الرياح، وطار في البلاد بغير جناح، وقال فيه بعض المصريين من أهل نيسابور:
أيا قاضياً قد دنت كتبه ... وإن أصبحت داره شاحطه
كتاب الوساطة في حسنه ... لعقد معاليك كالواسطه
فصل من كتاب الوساطة
؟؟فصل من هذا الكتاب المذكور (1/471)
ومتى سمعتني أختار للمحدث هذا الإختيار، وأبعثه على الطبع، وأحسن له في التسهل، فلا تظنن أني أريد بالسهل السمح الضعيف الركيك، ولا باللطيف الرشيق الخنث المؤنث، بل أريد النمط الأوسط، وما ارتفع عن الساقط السوقي وانحط على البدوي الوحشي، وما جاوز سفسفة نصر ونظرائه، ولم يبلغ تعجرف هميان بن قحافة وأضرابه، نعم ولا آمرك بإجراء أنواع الشعر كله مجرى واحداً، ولا أن تذهب بجميعه مذهب بعضه، بل أرى لك أن تقسم الألفاظ على رتب المعاني، فلا يكون غزلك كافتخارك، ولا مديحك كوعيدك، ولا هجاؤك كاستبطائك، ولا هزلك بمنزلة جدك، ولا تعريضك مثل تصريحك، بل ترتب كلاًّ مرتبته وتوفيه حقه، فتلطف إذا تغزلت، وتفخم إذا افتخرت، وتتصرف للمديح تصرف مواقعه، فإن المدح بالشجاعة والبأس، يتميز عن المديح باللباقة والظرف، ووصف الحرب والسلاح ليس كوصف المجلس والمدام، ولكل واحد من الأمرين نهج هو أملك به، وطريق لا يشاركه الآخر فيه، وليس ما رسمته لك في هذا الباب بمقصور على الشعر دون الكتابة، ولا بمختص بالنظم دون النثر، بل يجب أن يكون كتابك في الفتح أو الوعد أو الوعيد أو الإعذار، خلاف كتابك في الشوق أو التهنئة أو اقتضاء المواصلة، وخطابك إذا حذَّرت وزجرت أفخم منه إذا وعدت ومنيَّت، فأما الهجو فأبلغه ما جرى مجرى التهكم والتهافت وما اعترض بين التعريض والتصريح، وما قربت معانيه، وسهل حفظه، وسرع علوقه بالقلب ولصوقه بالنفس، فأما القذف والإفحاش فسباب محض وليس للشاعر فيه إلا إقامة الوزن وتصحيح النظم.
فصل آخر منه وكانت العرب ومن تبعها من سلف هذه الأمة تجري على عادة في تفخيم اللفظ وجزالة المنطق لم تألف غيره ولا عرفت تشبيهاً سواه، وكان الشعر أحد أقسام منطقها، ومن حقه أن يخص بتهذيب ويفرد بزيادة عناية، فإذا اجتمعت تلك العادة والطبيعة وانضاف إليها العمل والصنعة خرج كما تراه فخما جزلا وقوياً متيناً، وقد كان القوم أيضاً يختلفون في ذلك وتتباين فيه أحوالهم فيرق شعر الرجل ويصلب شعر الآخر، ويدمث منطق هذا و يتوعر منطق غيره.
وإنما ذلك بحسب اختلاف الطباع وتركيب الخلق. فإن سلاسة اللفظ تتبع سلاسة الطبع، ودماثة الكلام بقدر دماثة الخلقة، وأنت تجد ذلك ظاهراً في أهل عصرك وأبناء زمانك وترى الجافي الجلف منهم كرّ الألفاظ جهم الكلام وعر الخطاب، حتى إنك ربما وجدت الغضاضة في صوته ونغمته وفي حديثه ولهجته، ومن شأن البداوة أن تظهر بعض ذلك، ومن أجله قال النبي صلى الله عليه وسلم من بدا جفا ولذلك تجد شهر عدي بن زيد وهو جاهلي أسلس من شعر الفرزدق وجرير وهما إسلاميان، لملازمة عدي الحاضرة، وإيطانه الريف وبعده عن جلافة البدو وجفاء الأعراب، وترى رقة الشعر أكثر ما تأتيك من قبل العاشق المتيم، والغزل المتهالك. وإذا اتفقت الدماثة والصبابة وانضاف الطبع إلى الغزل، فقد جمعت لك الرقة من أطرافها.
ولما ضرب الإسلام بجرانة واتسعت ممالك العرب وكثرت الحواضر ونزعت البوادي إلى القرى، وفشا التأدب والتظرف، اختار الناس من الكلام ألينه وأسهله، وعمدوا إلى كل شيء ذي أسماء فاستعملوا أحسنها مسمعاً، وألطفها من القلب موقعاً، وإلى ما للعرب فيه لغات فاقتصروا على أسلسها وأرشقها كما رأيتهم فعلوا في صفات الطويل، فإنهم وجدوا للعرب نحواً من ستين لفظاً أكثرها بشع شنع، فنبذوا جميع ذلك وأهملوه، واكتفوا بالطويل لخفته على اللسان وقلة نبوّ السمع عنه في البيان.
قال مؤلف الكتاب: وأنا أكتب من خطبة كتاب القاضي في تهذيب التاريخ فصلين، بعد أن أقول: إنه تاريخ في بلاغة الألفاظ وصحة الرواية وحسن التصرف في الانتقادات، وأجريتهما وما تقدمهما من كتاب الوساطة مجرى الأنموذج من نثر كلامه، ثم أقفّي على أثره بلمع من غرر أشعاره، إن شاء الله تعالى.
فصل - ولولا التاريخ، لما تميز ناسخ من منسوخ، ومتقدم من متأخر وما استقر من الشرائع وثبت مما أزيل ورفع، ولا عرف ما كان أسبابها وكيف مست الحاجة إليها، وحلصت وجوه المصلحة فيها، ولا عرفت مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وحروبه وسراياه وبعوثه، ومتى قارب ولا ين وسارر وخافت، وفي أي وقت جاهر وكاشف ونبذا أعداءه وحارب، وكيف دبّر أمر الله الذي ابتعثه له، وقام بأعباء الحق الذي طوقّه ثقله، وأي ذلك قدم وأيها أخر، و بأيها بدأ وبأيها ثّنى وثلّث، وإن الولد البر ليتفقد من آثار والده، والصاحب الشفيق ليعني بمثله من شأن صاحبه، حتى يعد إن أغلفه مستهيناً به مستوجباً لعبته، فكيف لمن هو رحمة الله المهداة إلينا ونعمته المفاضة علينا، ومن به أقام الله دينانا وديننا وجعله السفير بينه وبيننا؟ وأيّ أمر أشنع وحاله أقبح من أن يحل الرجل محل المشار إليه المأخوذ عنه ثم يسأل عن الغزوتين المشهورتين من مشهور غزواته والأثرين من مستفيض آثاره، فلا يعرف الأول من الثاني، ولا يفرق بين البادي والتالي. (1/472)
فصل آخر وهذا كتاب قصدت به غرضيّ دين ودنيا: أما الدين فان اقتديه من آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخباره ومعارف أحواله وأيامه، وذكر ما طمس الله من معالم الشرك و أوضح معارف الحق، وما خفض بعلو كلمته وعلى أيدي أنصاره وشيعته، من رايات كانت عالية على الأبد، مكنوفة بحصافة العدد، وكثافة العدد، ما يعلم به العاقل المتوسم أن تلك الفئة القليلة والعدة اليسيرة - على قلة الأهبة، وقصور العدة وخمول الذكر وضعف الأيدي وعلو أيدي الأعداء وشدة شوكة الأقران - لا تستمر لها ولا تتفق بها مغالبة الأمم جمعا. ومقاومة الشعوب طرّاً، وقهر الجنود الجمة، والجموع الضخمة، وإزالة الممالك الممهدة والولايات الموطدة. في الدهر الطويل والزمن المديد - مع وفور العدة وانبساط القدرة. واستقرار الهبية - إلا بالنصرة الإلهية. والمعونة السماوية و إلا بتأييد لا يخص الله به إلاّ الأنبياء، ولا ينتخب له إلا الأولياء. وإن اختص فيه من معاناة أنصاره وأتباعه، والقائمين بإظهار دينه في حياته، وعمارة سبيله بعد وفاته، من مصابرة اللأواء، ومعالجة البأساء. وبذل النفوس والأموال وأخطار المهج والأرواح، ما يزيد القلوب للإسلام تفخيما. وبحقه تعريفاً. ولما عساها تستكبر من أفعالها تصغيراً. وفي الإزدياد منه ترغيباً، ما أجريه في خلال ذلك من تذكير بآلاء الله، وتنبيه على نعم الله، بما اقتص من أنباء الأولين، وأبث من أخبار الأخرين، و أبين من الآيات التي أمر الله بالمسير في الأرض لأجلها، وبعث على الاعتبار وبأهلها. فقال أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين قبلهم فيحرص العاقل على استبقاء نعمة الله عنده بالشكر الذي ضيعّه من سلبه الله تلك النعم، ويتحرّز من غوائل الكفر الذي أحل بهم تلك النقم.
وأما غرض الدينا فأن أقيم بفناء الصاحب الجليل أدام الله بهاء العلم بدوام أيامه من يخلفني في تجديد ذكرى بحضرته، وتكرير اسمي في مجلسه، وينوب عني في مزاحمة خدمته، على الإعتراف بحق نعمته، وعملت أني لا أستخلف من هو أمس به رحماً، وأقرب منه نسباً، وهو أرفع عنده موضعاً، وألطف منه موقعاً، وأخص به مدخلاً و مخرجاً، وأشرف بحضرته مقاماً وموقفا، من العلم الذي يزكو عنده غراساً، فيضعف ريعاً ويحلو طعماً. ويطيب عرفاً ويحسن اسماً. فاخترت لذلك هذا الكتاب ثقة بوجاهته، وعلماً بقرب منزلته، وكيف لا يكون عنده وجيهاً مكيناً، ومقبولاً قريناً. وإنما هو نتاج تهذيبه، وثمرة تقويمه، وجناء تمثيله، وريع تحريكه؟ فلولا عنايته لما صدقت النيّة، ولولا إرشاده لما نفذت الفطنة. ولولا معونته لما استجمعت الآلة، وما يبعد به عن إيثار العلوم وتعظيمها، وعن تقديمها وتقريبها، وهو الذي نصبه الله لها مثالا، وأقامه عليها مناراً، وجعله لها سنداً، ولإحيائها سبباً.
ملح من شعره في الغزل والتشبيب وسائر الفنون قال:
أفدي الذي قال وفي كّفه ... مثل الذي أشرب من فيه
الورد قد أينع في وجنتي قلت ... فمي باللّثم يجنيه
وقال:
بالله فضّ العقيق عن برد ... يروي أقاحيه من مدام فمه
وامسح غوالي العذار عن قمر ... نقّط بالورد خدّ ملتثمه
وقال من المسرح: (1/473)
قل للسقام الذي بناظره ... دعه وأشرك حشاي في سقمه
كلّ غرام تخاف فتنته ... فبين ألحاظه ومبتسمه
وقال:
أنثر على خديّ من وردك ... أودع فمي يقطف من خدّك
ارحم قضيب البان وارفق به ... قد خفت أن ينقدّ من قدّك
وقل لعينيك بنفسي هما ... يخفّفان القسم عن عبدك
وقال:
قد برّح الشوق بمشتاقك ... فأوله أحسن أخلاقك
لا تجفه وارع له حقّه ... فإنه خاتم عشّاقك
وقال في الفصد:
يا ليت عيني تحملت ألمك ... بل ليت نفسي تقسّمت سقمك
وليت كفّ الطبيب إذ فصدت ... عرقك أجرت من ناظري دمك
أعرته صبغ وجنتيك كما ... تعيره إن لثمت من لثمك
طرفك أمضى من حدّ مبضعه ... فالحظ به العرق وارتجر ألمك
وله:
وفارقت حتى ما أسرُّ بمن دنا ... مخافة نأيٍ أو حذار صدود
وقد جعلت نفسي تقول لمقلتي ... وقد قربوا خوف التباعد جودي
فليس قريباً من يخاف بعاده ... ولا من يرجَّى قربه ببعيد
وله:
من ذا الغزال الفاتن الطرف ... الكامل البهجة والظرف
ما بال عينيه وألحاظه ... دائبة تعمل في حتفي
واهاً لذاك الورد في خدّه ... لو لم يكن ممتنع في القطف
أشكو إلى قلبك يا سيدي ... ما يشتكي قلبي من طرفي
وله:
هذا الهلال شبيهة في حسنه ... وبهائه كلاّ وفترة جفنه
هبك ادعيت بهاءه وضياءه ... كيف احيتالك في تأود عصنه
لو لاحظتك جفونه بفتورها ... أقمست أنّك ما رأيت كحسنه
وقال:
يا قبلة نلتها على دهش ... من ذي دلال مهفهف غنج
قد حير الخشف غنج مقتله ... والورد توريد خدّه الضرج
إذا تثنى أو قام معتدلاً ... قال له الغصن أنت في حرج
قد قسم الحسن مقلتيك أبا القاسم بين الفتور والدّعج
قل لهما يرفقا بقلب فتّى ... طويت أحشاءه على وهج
فمنهما لا عدمت ظلمهما ... سقم فؤادي ومنهما فرجي
وله سامحه الله:
وغنج عينيك وما أودعت ... أجفانها قلب شج وامق
ما خلق الرحمن تفاحتي ... خدّيك إلاّ لفم العاشق
لكنني أمنع منها فما ... حظّي إلاّ خلسة السارق
وله أيضاً:
من عاذري من زمن ظالم ... ليس بمستحي ولا راحم
تفعل بالأحرار أحداثه ... فعل الهوى بالدّنف الهائم
كأنمّا أصبح يرميهم ... عن جفن مولاي أبي القاسم
وله أيضاً من المسرح:
ولو تراني وقد ظفرت به ... ليلاً وستر الظلام منسدل
وللسكرى في الجفون داعية ... وقد حداها حاد له عجل
وحوصّت أعين الوشاة كما ... جّمش معشوقه الفتى الغزل
فذاك مغف وذاك مختلط ... يهذي وهذا كأنّه ثمل
وقلت يا سيدي بدا علم ال ... صبح وكاد الظلام يرتحل
ثم انثى يبتغي وسادي إذ ... أيقن أنّ الوشاة قد غفلوا
فبات يشكو وبتّ أعذره ... وليس إلاّ العتاب والعلل
لخلتنا ثمّة شعبتي غصن ... يوم صباً نلتوي ونعتدل
يا طيبها ليلة نعمت بها ... غرّاء أدنى نعيمها القبل
وله سامحه الله تعالى:
يا نسيم الجنوب بالله بلّغ ... ما يقول المتيّم المستهام
قل لأحبابه فداكم فؤاد ... ليس يسلو ومقلة لا تنام
بنتم فالسهاد عندي مقيم ... مذ نأيتم والعيش عندي حمام
فعلى الكرخ فالقطيعة فالشطّ ... فبات الشعير منّي السلام
يا ديار السرور لازال يبكي ... بك في مضحك الرياض غمام
رب عيش صحبته فيك عضّ ... وجفون الخطوب عنّا نيام
في ليال كأنهنّ أمان ... من زمان كأنّه أحلام (1/474)
وكأنّ الأوقات فيها كؤوسّ ... دائرات وأنسهنّ مدام
زمن مسعد وإلف وصول ... ومنىّ تستلذها الأوهام
كلّ أنس ولذة وسرور ... قبل لقياكم عليّ حرام
وله:
سقى جانبي بغداد إخلاف مزنة ... تحاكي دموعي صوبها وانحدارها
فلي فيهما قلب شجاني اشتياقه ... ومهجة نفس ما أمل ادكارها
سأغفر للأيام كلّ عظيمة ... لئن قرّبت بعد البعاد مزارها
وله من قصيدة يتشوق فيها بغداد، ويصف موضعه بناحية رامهرمز، ويمدح صديقاً له من أهلها:
أراجعة تلك الليالي كعهدها ... إلى الوصل أم لا يرتجى لي رجوعها؟
وصحبة أقوام لبست لفقدهم ... ثاب حداد مستجدّ خليعها
إذا لاح لي من نحو بغداد بارق ... تجافت جفوني واستطير هجوعها
وإنّ أخلفتها الغاديات رعودها ... تكلّف تصديق الغمام دموعها
سقى جانبي بغداد كلّ غمامة ... يحاكي دموع المستهام هموعها
معاهد من غزلان أنس تحالفت ... لواحظها أن لا يداوي صريعها
بها تسكن النفس النفور ويغتدي ... بآنس من قلب المقيم نزيعها
يحن إليها كل قلب كأنمّا ... يشاد بحّبات القلوب ربوعها
فكلّ ليالي عيشها زمن الصبا ... وكلّ فصول الدهر فيها ربيعها
وما زلت طوع الحادثات تقودني ... على حكمها مستكرهاً فأطيعها
ومنها:
فلما حللت القصر قصر مسرتي ... تفرقّن عني آيسات جموعها
بدار لها يسلى المشوق اشتياقه ... ويأمن ريب الحادثات مروعها
بها مسرح للعين فيها يروقها ... ومستروح للنفس ممّا يروعها
يرى كلّ قلب بينها ما يسرّه ... إذا زهّرت أشجارها وزروعها
كأنّ خرير الماء في جنباتها ... رعود تلقت مزنة تستريعها
إذا ضربتها الريح وانبسطت لها ... ملاءة بدر فصّلتها وشيعها
رأيت سيوفاً بين أثناء أدرع ... مذهبة يغشى العيون لميعها
فمن صنعة البدر المنير نصولها ... ومن نسج أنفاس الرياح دروعها
صفا عيشنا فيها وكادت لطيبها ... تمازجها الأرواح لو تستطيعها
وله من قصيدة:
من أين للعارض السارق تلهّبه ... وكيف طّبق وجه الأرض صيّبه؟
هل استعان جفوني فهي تنجده ... أم استعار فؤادي فهو يلهبه؟
بجانب الكرخ من بغداد لي سكن ... لولا التجمّل ما أنفك أندبه
وصاحب ما صحبت الصبر مذ بعدت ... دياره، وأراني لست أصحبه
في كل يوم لعيني ما يؤرقها ... من ذكره، ولقلبي ما يعذّبه
ما زال يبعدني عنه وأتبعه ... ويستمرّ على ظلمي وأعتبه
حتى لوت لي النّوى من طول جفوته ... وسّهلت لي سبيلا كنت أرهبه
وما البعاد دهاني بل خلائقه ... ولا الفراق شجاني بل تجبنّبه
لمع من شعره في حسن التخلّص قال من قصيدة في الصاحب أبي القاسم إسماعيل بن عباد من المتكامل:
أو ما انثيت عن الوداع بلوعة ... ملأت حشاك صبابةً وغليلاً
ومدامع تجري فيحسب أنّ في ... آماقهن بنان إسماعيلاً
ومن قصيدة في أبي مضر محمد بن منصور:
إذا استشرفت عنياك جانب تلعة ... جلت لك أخرى من رباها جوانبا
يضاحكنا نوّارها فكأنما ... نغازل بين الروض منها حبائبا
تبسّم فيها الأقحوان فخلته ... تلقاك مرتاحاً إليك مداعباً
وحلّ نقاب الورد فاهتزّ يدّعي ... بواديه في ورد الخدود مناسباً
أقول وما في الأرض غير قرارة ... تصافح روضاً حولها متقارباً
أباتت يد الأستاذ بين رياضها ... تدفّق أم أهدت إليها سحائباً (1/475)
ألبسها أخلاقه الغرّ فاغتدت ... كواكبها تجلو علينا كواكباً
أوشّت حواشيها خواطر فكره ... فأبدت من الزهر الأنيق غرائباً
أهزّ الصّبا قضبانها كاهتزازه ... إذا لمست كّفيه كّفك طالباً
أخالته يصبو نحوها فتزينّت ... تؤمّل أن يختار منها ملاعباً
ومن قصيدة في دلير من بشكروز:
وما أقيم بدار لا أعز بها ... ولا يقرّ قراري حيث أبتذل
وقد كفاني انتجاع الغيث معرفتي ... بأن دلير لي من سيبه بدل
تجنّب نشوات الخمر همتّه ... وأعلمتنا العطايا أنه ثمل
ومن قصيدة في شيرزاد بن سرخاب:
ألم تر أنواء الربيع كأنّما ... نشرن على الآفاق وشياً مذهّباً
فمن شجر أظهرن فيه طلاقة ... وكان عبوساً قبلهنّ مقطّباً
ومن روضة قضّى الشتاء حدادها ... فوشحن عطفيها ملاًء مطيباً
سقاها سلاف الغيث ريّا فأصبحت ... تمايل سكراً كلّما هّبت الصّبا
كأن سجايا شيرزاد تمدّها ... فقد أمنت من أن تحول وتشحباً
ومن قصيدة في الأمير شمس المعالي قابوس بن وشمكير:
ولما تداعت للغروب شموسهم ... وقمنا لتوديع الفريق المغربّ
تلقين أطراف السجوف بمشرق ... لهنّ وأعطاف الخدور بمغرب
فما سرن إلاّ بين دمع مضيعّ ... ولا قمن إلا فوق قلب معذّب
كأن فؤادي قرن قابوس راعه ... تلاعبه بالفيلق المتأشّب
ومن قصيدة له فيه أيضاً:
ليلة للعيون فيها وللأسماع ما للقلوب والآمال
نظمت للندام فيها الأماني ... مثل نظم الأمير شمس المعالي
ومن قصيدة في الصاحب:
وما بال هذا الدهر يطوي جوانجي ... على نفس محزون وقلب كثيب
تقسّمني الأيام قسمة جائر ... على نضرة من حالها وشحوب
كأنّي في كفّ الوزير رغيبةً ... تقسّم في جدوى أغرّ وهوب
ومن أخرى فيه وصف الإبل:
يقربن طلاّب العلا من سمائها ... ويهدين روّاد الندى لجوادها
فلاقين مولانا وقد صنع السّرى ... بهنّ صنيع كّفه بتلادها
غرر من شعره في المدح، وما يتصل به قال من قصيدة في الصاحب:
يا أيها القرم الذي بعلّوه ... نال العلاء من زمان السولا
قسمت يداك على الورى أرزاقها ... فكنّوك قاسم رزقها المسئولا
ومن أخرى فيه:
فتى كيف ما ملنا رأينا له يداً ... بعيدة رمى الشكر مطلبها سهل
خفيف على الأعيان محمل منِّها ... ولكن على الأفكار من عدِّها ثقل
ووالله ما أفضى من المال مانشا ... إلى كفِّه إلاّ العنان أو النصل
ومن أخرى في:
يا من إذا نظر الزما ... ن إليه أكثر عجبه
رحل المصيف فلا تزل ... أبداً تودّ ركبه
وبدا الخريف فحيِّ خا ... لصة الزمان ولبه
زمن كخلقك ناصر ... إن كان خلقك يشبه
رقَّ الهواء فما ترى ... نفساً يعالج كربه
وصفا وإن لاحظت ... أبعده ظننتك قربه
فلو استحال مدامةً ... ما كنت أحظر شربه
فتهنَّه يا فرده ... وتملَّه يا قطبه
ومن أخرى فيه:
ولا ذنب للأفكار أنت تركتها ... إذا احتشدت لن تنتفع باحتشادها
سبقت بأفراد المعاني وألَّفت ... خواطرك الألفاظ بعد شرادها
فإن نحن حاولنا اختراع بديعةٍ ... حصلنا على مسروقها ومعادها
ومن أخرى فيه:
أغرُّ أورع تلهينا وقائعه ... في المال والقرن عن صفَّين والجمل
مستوضع بثدي المجد مفترسٌ ... حجر المكارم مفطومُ عن البخل
أمضى من السيف لفظاً غير لجلجةٍ ... تغشَّاه إن مال مضطرٌ إلى العلل (1/476)
ومنها:
وسائلٍ لي عن نعماك قلت له ... تفصيلها مستحيلٌ فارض بالجمل
هذي صبابة ما أبقت يداي وقد ... عرفت حرفهما فانظر ولا تسل
ومن أخرى فيه من المسرح:
لا وجفونٌ يغضُّها العذل ... عن وجناتٍ تذيبها القبل
ومهجة للهوى معرَّضةٍ ... تعيث فيها القدود والمقل
ما عاش من غاب عن ذراك وإن ... أخرَّ ميقات يومه الأجل
ومن قصيدة عيادة له:
بعيني ما يخفي الوزير وما يبدي ... فنورهما من فضل نعمائه عندي
سأجهد أن أفدي مواطيء نعله ... فإن أنا لم أقبل فما لي سوى جهدي
لأعدي تشكيك البلاد وأهلها ... وما خلت أن الشكو بعدي على البعد
ولم أدر بالشكوى التي عرضت له ... ونعماه حتّى أقبل المجد يستعدي
وما أحسب الحمَّى وإن جلَّ قدرها ... لتجسر أن تدنو إلى منبع المجد
وما هي إلاّ من تلهُّب ذهنه ... توقَّد حتى فاض من شدة الوقد
ليفدك من نعماك مالك رقّةً ... فكلُّ الورى بل كل ذي مهجة يفدي
وما زالت الأحرار تفدي عبيدها ... لتكفيها ما تتَّقي مهجة العبد
ومن أخرى التهنئة بالبرء:
بك الدهر يندي ظلُّه ويطيب ... ويقلع عمّا ساءنا ويتوب
ونحمد آثار الزمان وربَّما ... ظللنا وأوقات الزمان ذنوب
أفي كلِّ يومٍ للمكارم روعة ... لها في قلوب المكرمات وجيب
تقسَّمت العلياء جسمك كلَّه ... فمن أين فيه للسقام نصيب
إذا ألمت نفس الأمير تألَّمت ... لها أنفس تحيا بها وقلوب
ومنها:
وواللَّه لا لاحظت وجهاً أحبُّه ... حياتي وفي وجه الوزير شحوب
وليس شحوباً ما أراه بوجهه ... ولكنَّه في المكرمات ندوب
فلا تجزعن تلك السماء تغيَّمت ... فعمَّا قليلٍ تبتدي فتصوب
تهلَّل وجه المجد وايتسم الندى ... وأصبح غصن الفضل وهو رطيب
فلا زالت الدنيا بملكك طلقةً ... لا زال فيها من ظلالك طيب
ومن قصيدة في أبي مضر محمد بن منصور:
هذا أبو مضرٍ كفتنا كفُّه ... شكوى اللئام فما نذُّم لئيما
هذا الجسيم مواهباً هذا الشريف ... مناصباً هذا المهذَّب خيما
سمكت كهمته السماء ومثَّلت ... فيها خلائقه الشراف نجوما
نشوان قد جعل المحامد والعلا ... دون المدامة ساقياً ونديما
أعدى الأنام طباعه فتكرَّموا ... لو جاز أن يدعى سواه كريما
ومن قصيدة في دلير بن بشكروز:
كريمٌ يرى أن الرجاء مواعد ... وان انتظار السائلين من المطل
وخير الموالي من إذا ما مدحته ... مدحت به نفسي وأخبرت عن فضلي
ومن أخرى:
قل للأمير الذي فخر الزمان به ... ما الدهر لولاك إلا منطقٌ خطل
كفتك آثار كفيَّك التي ابتدعت ... في المجد ما شاده آباؤك الأول
ما زال في الناس أشباه وأمثلة ... حتى ظهرت فغاب الشّكل والمثل
درر من شعره في وصف الشعر قال من قصيدة:
ومن الشعر إلاّ ما استفزَّ ممدَّحاً ... وأطرب مشتاقاً وأرضى مغاضبا
أطاع فلم توجد قوافيه نفَّراً ... ولم تأته الألفاظ حسرى لواغبا
وفي الناس أتابع القوافي تراهم ... يبثّون في آثارهن المقانبا
إذ لحظوا حرف الروي تبادروا ... وقد تركوا المعنى مع اللفظ جانبا
وإن منعوا حرَّ الكلام تطرَّقوا ... حواشيه فاجتاحوا الضعيف المقاربا
ولكننَّي أرمي بكلِّ بديعةٍ ... يبتن بألباب الرجال لواعبا
تسير ولم ترحل وتدنو وقد نأت ... وتكسب حفاظ الرجال المراتبا
ترى الناس إمّا مستهاماً بذكرها ... ولوعاً وإمّا مستعيراً وغاضباً (1/477)
أذود لئام الناس عنها وأتقي ... على حسبي إن لم أصنها المعايبا
وأعضلها حتى إذا جاء كفؤها ... سمحت بها متشرفات كواعبا
وأيّ غيور لا يجيب وقد رأى ... مكارمك اللاتي أتين خواطبا
ومن أخرى:
ووفاك وفد الشكر من كلّ جهة ... ثناًء يسدّى أو مديحاً ينظّم
يزف إلى الأسماع كل خريدة ... تكاد إذا ما أنشدت تتبسّم
أطافت بها الأفكار حتى تركنها ... يقال أأبيات تراها أو أنجم
ومن أخرى:
أهدن لمجدك حلّة موشيةً ... تكسو الحسود كآبةً وذبولاً
أحيت حبيباً والوليد ففصلاً ... منها وشائع نسجها تفصيلاً
فأفادها الطائي دقة فكرة ... والبحتري دمائةً وقبولاً
ومن أخرى:
لو لم أشرّف بامتداحك منطقي ... ما انقاد نحوك خاطري مزموماً
لكن رأى شرف المصاهر فاغتدى ... يهدي إليك لبابه المكتوما
فحباك من نسج العقول بغادة ... قطعت إليك مقاصداً وعزوما
لما تبينّت الكفاءة أقسمت ... أن لا تغربّ بعدها وتقيما
لا تبغها مهراً فقد أمهرتها ... نعماك عندي حادثاً وقديماً
ألزمت شكرك منطقي وأناملي ... وأقمت فكري بالوفاء زعيماً
من أخرى:
أتتنا العذارى الغيد في حلل النّهى ... تنشّر عن علم وتطوي على سحر
تلاعب بالأذهان روعة نشرها ... وتشغل بالمرأى اللطيف عن السبر
ألذّ من البشري أتت بعد غيبة ... وأحسن من نعمى تقابل بالشكر
فلم أر عقداً كان أبهى تألّقاً ... وأشبه نظماً متقناً منه بالنثر
ترى كلّ بيت مستقلاّ بنفسه ... تباهى معانيه بألفاظه الغرّ
تحلّت بوصف الجسم ثم تنكّرت ... ومالت مع الأعراض في حيزّ تجري
أرنتّ سحاب الفكر فيها فأبرزت ... لآلي نور في حدائقها الزّهر
فجاءت ومعناها ممازج لفظها ... كما امتزجت بنت الغمامة بالخمر
أشدّ إليه نسبةً من حروفه ... وأحوج من فعل جميل إلى نشر
نظمتها عقداً كما نظم الحجى ... وفاءك في عقد السماحة والفخر
كأنك إذ مّرت على فيك أفرغت ... ثناياك في ألفاظها بهجة البشر
كفتنا حمياّ الخمر رقة لفظها ... وأمّننا تهذيبها هفوة السكّر
وكتب إليه بعض أهل رامهرمز أبياتاً يمتدحه فيها، وقد كان بلغه عنه أبيات يشكو فيها أهل ناحيته، فقال: هلا انتقل، واتصل ذلك بقائلها فضمن أبياته اعتذاراً من المقام لتعذر النقلة. فكتب إليه مجيباً له قصيدة منها:
بدأت فأسلفت التفضّل والبرا ... وأوليت إنعاماً ملكت به الشكرا
وللسابق البادي من الفضل رتبة ... تقصّر بالتالي وإن بلغ العذرا
أتتنا عذراك اللواتي بعثتها ... لتوسعنا علماً وتلبسنا فخرا
فأنصحن عن عذر وطوقّن منّةً ... وقلن كذا من قال فليقل الشعرا
فأوليتها حسن القبول معظّماً ... لحق فتى أهدى بهنّ لنا ذكرا
تناهي النهى فيها وأبدع نظمها ... خواطر ينقاد البديع لها قسراً
إذا لحظت زادت نواظرنا ضياً ... وإن نشرت فاحت مجالسنا عطرا
تنازعها قلبي مليّا وناظري ... فأعطيت كلاّ من محاسنها شطرا
فنزّهت طرفي في وشيّ رياضها ... وألقطت فكري بين ألفاظها الدرّا
تضاحكنا فيها المعاني فكلّما ... تأملت منها لفظةً خلتها شعرا
فمن ثيب لم تفترع غير خلسة ... وبكر من الألفاظ قد زوّجت بكرا
يظل اجتهادي بينهن مقصّراً ... وتمسي ظنوني دون غايتها حسرى
إذا رمت أن أدنو إليها تمنّعت ... وحقّ لها في العدل أن تظهر الكبرا (1/478)
وقد صدرت عن معدن الفضل والعلا ... وقد صحبت تلك الشمائل والنّجرا
فتمّت لك النعمى وساعدك المنى ... وملّيت في خفض أبا عمر العمرا
كفتنا وإياك المعاذير نيّةً ... إذا خلصت لم تذكر الوصل والهجرا
مدحت فعدّدت الذي فيك من علاً ... وألبستني أوصافك الزهر الغرّا
وما أنا شعبة مستمدة ... لمغرز فيض منك قد غمر البحرا
وقد كان ما بلّغته من مقالة ... أنفت بها للفضل أن يألف الصغرا
إذا البلد المعمور ضاق برحبه ... على ماجد فليسكن البلد القفرا
وكم ماجد لم يرض بالخسف فانبرى ... يقارع عن هماته البيض والسمرا
ومن علقت نيل الأماني همومه ... تجشّم في آثارها المطلب الوعرا
فلا تشك أحدث الزمان فإنّني ... أراه بمن يشكو حوادثه مغرى
وهل نصرت من قبل شكواك فاضلاً ... لتأمل منهنّ المعونة والنصرا
وما غلب الأيام مثل مجرّب ... إذا غلبته غاية غلب الصبرا
فقر له من كل فن قال من قصيدة:
يقولون لي فيك انقباض وإنّما ... رأوا رجلاً عن موقف الذلّ أحجما
وما زلت منحازاً بعرضي جانباً ... من الذّم أعتدّ الصيانة مغنما
إذا قيل هذا مشرب قلت قد رأى ... ولكن نفس الحرّ لا تحمل الظمأ
ولم أقض حقّ العلم إن كان كلّما ... بدا طمع صيّرته لي سلّما
ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي ... لأخدم من لاقيت لكن لأخدما
أأشقى به غرساً وأجنيه ذلّةً ... إذاً فاتباع الجهل قد كان أحزما
وقال من أخرى:
وقالوا اضطراب في الأرض فالرزق واسع ... فقلت: ولكن مطلب الرزق ضيقّ
إذا لم يكن في الأرض حرّ يعينني ... ولم يك لي كسب فمن أين أرزق
ومن أخرى:
على مهجتي تجني الحوادث والدهر ... فأما اصطباري فهو ممتنع وعر
كأني ألاقي كلّ يوم ينوبني ... بذنب، وما ذنبي سوى أنّني حرّ
فإن لم يكن عند الزمان سوى الذي ... أضيق به ذرعاً فعندي له الصبر
وقالوا توصل بالخضوع إلى الغنى ... وما علموا أنّ الخضوع هو الفقر
وبيني وبين المال بابان حرّماً ... على الغنى: نفسي الأبية، والدهر
ومنها:
إذا قال هذا اليسر أبصرت دونه ... مواقف خير من وقوفي بها العسر
إذا قدّموا بالوفر أقدمت قبلهم ... بنفس فقير كلّ أخلاقه وفر
وماذا على مثلي إذا خضعت له ... مطامعه في كفّ من حصل التبر
وكتب على لسان غيره:
أبا حسن طال انتظار عصابة ... رجتك لما يرجى له الماجد الحرّ
وقد حان بل قد هان لولا المطال أن ... يحلّ لهم عن وعدك الموثق الأسر
وقد فاتهم من قربك الأنس والمنى ... وحاربهم فيك اختيارك والدهر
فإن كنت عوضّت عنهم بغيرهم ... فعوضهم راحاً يزول بها الفكر
فأنس الفتى في الدهر خلّ مساعد ... وإن فاته الخلّ المساعد فالخمر
فإمّا رسول بالنبيذ مبادر ... وإلا فلا تغضب إذا غضب الشعر
وقال من قصيدة كتبها إلى أخوين له من انقباضه عنهما وإغبابه زيارتهما:
أيها معهد الأحباب ذكّرهم عهدي ... ودم لي، وإن دام البعاد، على الودّ
ولي خلق لا أستطيع فراقه ... يفوتّني حظي ويمنعني رشدي
نفور عن الإخوان من غير ربية ... تعدّ جفاءً والوفاء لهم وكدي
غذيت به طفلاً فإن رمت هجره ... تأبّى وأغرتني به ألفة المهد
كما ألفت كفّا البذل والندى ... فأعيا كما أن تمنعا كفّ مستجدي
على أنني أقضي الحقوق بنيتي ... وأبلغ أقصى غاية القرب في بعدي (1/479)
ويخدمهم قلبي وودّي ومنطقي ... وأبلغ في رعي الذّمام لهم جهدي
فإن أنتما لم تقبلا لي عذرةً ... وألزمتماني فيه أكثر من وجدي
فقولا لطبعي أن يزول فإنّه ... يرى لكما حق الموالي على العبد
وقال:
جفاؤك كلّ يوم في مزيد ... وما تنفكّ تّشمت بي حسودي
فإن يكن الصدود رضاك فاذهب ... فإنّي قد وهبتك للصدود
فحسبي منك أن يهواك قلبي ... وحسبك أن أزورك كل عيد
وأهدى إلي صديق له بعض إخوانه تحفة وفيها أفراخ وباقلاء وباذبجان فقال على لسانه يذكر ذلك:
أبي سيد السادات إلاّ تظرّفاً ... وإلاّ وصالاً دائماً وتعطّفا
وساعدني فيه الزمان فخلته ... تحرّج من ظلمي فتاب وأسعفا
وأهيف لو للغصن بعض قوامه ... تقصّف عاراً أن أسميه أهيفا
تحّين غفلات الوشاة فزارنا ... يعرّج عن قصد الطريق تخوفّا
فما باشرت نعلاه موضع خطوة ... من الأرض إلاّ أورثاه تصلّفا
وتلحظ خدّيه العيون فتنثي ... تساقط فوق الأرض ورداً مقطّفا
فقلت أحلم أم خواطر صبوة ... تصوره أم أنشر الله يوسفا
وفيم تجلّى البدر والشمس لم تغب ... أحاول منها أن تحول وتكسفا
أما خشيت عنياك عنياً تصيبها ... وغصنك ذا إذ مال أن يتقصّفا
ولم يحذر الواشين من لحظاته ... تقلّب سيفاً بين جفنيه مرهفا
فقال اشيتاقاً جئتكم وصبابةً ... إليكم وإكراماً لكم وتشوقّا
وليس الفتى من كان ينصف حاضراً ... أخاه، ولكن من إذا غاب أنصفا
ومرّ فلم أعلم لفرط تحّيري ... أطير سروراً أم أموت تأسّفا
فيازورةً لم تشف قلباً متّيماً ... ولكنّها زادت غرامي فأضعفا
فلما تمثلّنا الهدية خلته ... تمّثل فيها بهجة وتظّرفا
ولما مددنا نحوهنّ أناملاً ... براها الضنى في حبه فتحّيفا
إلى باقلاء خيف أن لا تقلّه ... يداي لما بي من هواه فنصّفا
حملنا بأطراف البنات ولم نكد ... بناناً زهاها الحسن أن تتطّرفا
وسوداً تروّت بالدهان وبدّلت ... بتوريدها لوناً من النار أكلفا
كأفواه زنج تبصر الجلد أسوداً ... وتبصر إن فرّت لجينا مؤلفا
كخلق حبيب خاف إكثار حاسد ... فأظهر صرماً وهو يعتقد الوفا
ومنتزع من وكر أم شيفة ... يعزّ عليها أن يصاد فيعسفا
يغذّى غذاء الطفل طال سقامه ... فحنّ عليه والداه ورفرفا
فلما بدت أطراف ريش كأنه ... مبادي نبات غبّ قطر تشرّفا
تكلّفه من يرتجي عظم نفعه ... فكان به أحفى وأحنى وأرأفا
يزقّ بما يهوي ويعلف ما اشتهى ... ويمنع بعد الشبع أن يتصرّفا
فلما تراءته العيون تعجّباً ... وقيل تناهى بل تعدّي وأسرفا
أراق دماً قد كان قبل يصونه ... كدمعة مضنى القلب روّعه الجفا
تضّرب حتى خلت أن جناحه ... فؤادي حيناً ثم عوجل وانطفا
فجيء به مثل الأسير تمكّنت ... أعاديه منه بعد حرب فكتّفا
له أخوات مثله ألفت ثنىً ... على مثل ما كانا زماناّ تألّفا
وقال لي الفأل المصيب مبشّراً ... كذا أبداً ما عشتما فتألّفا
فيا لك من أكل على ذكر من به ... تطيب لنا الدينا تعطّف أم جفا
ولم أر قبل اليوم تحفة بعده ... ومن عاشر الحرّ الظريف تظّرفا
أبو الحسن علي بن أحمد الجوهري
نجم جرجان في صنائع الصاحب وندمائه وشعرائه، فسكن دورة صناعة الشعر في ريعان عمره، وعنفوان أمره، وتناول المرمى البعيد بقريب سعيه، وكان في إعطاء المحاسن إياه زمامها كما قيل جذع يبن على المذاكي القرح. (1/480)
وكان الصاحب يعجب أشد الإعجاب بتناسب وجهه وشعره حسناً، وتشابه روحه وشمائله خفة وظرفاً، ويصطنعه لنفسه، ويصرفه في الأعمال والسفارات، وعهدي به وقد ورد نيسابور رسولاً إلى الأمير أبي الحسن في سنة سبع وسبعين وثلثمائة يملأ العيون جمالاً، والقلوب كمالاً، وحين انكفأ إلى حضرة الصاحب وجهه إلى أبي العباس الضبي بأصبهان، وزوده كتاباً بخطه ينطق بحقائق أوصافه وأخباره، وهذه نسخته بعد الصدر.
أوصافي لمولاي - أدام الله تعالى عزه! - تودع الشوق إليه حبات القلوب كما تملأ له بالمحبة أوساط الصدور. فلا تغادر ذا قدح فائز في الفضل وخصل سابق من خصال العلم، إلا ونار الحنين حشو ثيابه أو يرحل إليه، وينيخ ركائب السير لديه، لا جرم أن جلّ من يحضرني يطالبني بالإذن له في قصده، ويهتبل غرة الزمان في الخطوة بقربه، نعم وذوو التحصيل إذا حظوا لدي بزلقة، وأحفصوا عروة خدمة، واعتقدوا أنهم إن لم يعتمدوا ظله، ولم يعتلقوا حبله، كانوا كمن حج ولم يعتمر، ودخل ظفار ولم يحمر، إلا أن جميعهم إذا دفعته اندفع، وإذا خدعته انخدع، غير واحد ملط ملحف مشطّ يغريه الرد بالمراجعة، ويغويه المنع للمعاودة، ويقول بملء لسانه إلى أن يسأم، ويقتضي طول زمانه حتى يسأم، وكم جررته على شوك المطل، ونقلته من حزن إلى سهل. وصرفته على إنجاز وعد بوعد، ودفعته من استقبال شهر إلى انسلاخ شهر، ثم خوفته كلب الشتاء أجعل الربيع موعداً، وحذرته وهج المصيف أعطيه للخريف موثقا. وكم شغلته بعمالة بعد عمالة، ووفادة بعد وفادة، أريد في كل أن أصدفه عن وجهته، وأصده عن عزمته، ليس لغرض أكثر من أن السؤال منه والدفاع مني تساجلا، والالتماس منه والامتناع من جهتي تقابلا، فلما خشيت صبابته بأصبهان أن يردها، بل بخدمة مولاي أن يعتقدها، تجنّى على قلبه، أو يتحيف بمس من الجنون ثابت عقله، ألقيت حبله على غاربه، وبردت بالإذن جمرات جوانحه، فإن يقل مولاي من ذا الذي هذا خطبه وهذه خطته؟ أقل من فضله برهان حق، وشعره لسان صدق. ومن أطبق أهل جلدته، على أنه معجزة بلدته. فلا يعد لجرجان بعيداً ولا قريباً أو لأختها طبرستان قديماً ولا حديثاً مثله، ومن أخذ برقاب النظم أخذه. وملك رق القوافي ملكه، ذاك على اقتبال شبابه وريعان عمره، وقبل أن تحدثه الآداب، وقيل جري المذكيات غلاب، أبو الحسن الجوهري أيده الله وبناؤه عند مولاي منذ حين، وخصوصه بي كالصبح المبين، إلا أن لمشاهدة الحاضر، ومعاينة الناظر، مزية لا يستقصيها الخبر، وإن امتد نفسه، وطال رعانه ومرسه، وقد ألف إلى هذه الفضيلة التي فرع بنيها، وأوفى على ذوي التجربة والتقدمة فيها، نفاذاً في أدب الخدمة، ومعرفة بحق الندام والعشرة، وقبولاً يملأ به مجلس الحفلة، إنصاتاً للمتبوع إلا إذا وجب القول، وإعظاماً للمخدوم إلا إذا خرج الأمر، وظرفا يشحن مجلس الخلوة، وحديثاً يسكت به العنادب ويطاول البلابل، فإن اتفق أن يفسح له في الفارسية نظماً ونثراً طفح آذيه. وسال أتيه، فألسنة أهل مصره إلا الأفراد بروق إذا وطئوا أعقاب العجم، وقيود إذا تعاطوا لغات العرب، حتى إن الأديب منهم المقدم، والعليم المسوّم، يتلعثم إذا حاضر بمنطقه كأنه لم يدر من عدنان، ولم يسمع من قحطان، ومن فضول أخينا أو فضله أنه يدعى الكتابة ويدارس البلاغة، ويمارس الإنشاء، ويهذي فيه ما شاء، وكنت أخرجته إلى ناصر الدولة أبي الحسن محمد بن إبراهيم فوفق التوفيق كله صيانة لنفسه، وأمانة في ودائع لسانه ويده، وإظهاراً لنسك لم أعهده في مسكه. حتّى خرج وسلم على نقده، وإن نقده لشديد لمثله. ومولاي يجريه بحضرته مجراة بحضرتي، فطعامه ومنامه وقعوده وقيامه. إما بين يدي، أو بأقرب المجالس لدي. ولا يقولن هذا أديب وشاعر، أو وافد وزائر. بل يحسبه قد تخفف بين يديه أعواماً وأحقاباً، وقضى في التصريف لديه صباً وشباباً. وهذا إنما يحتاج إلى وسيط وشفيعى ما لم ينشر بزه، ولم يظهر طرزه. وإلا فسيكون بعد شفيع من سواه. ووسيط من عداه. فهناك بحمد الله درقه وحدقه ووجنة مطرفه، وما أكثر ما يفاخرنا بمناظر جرجان وصحاريها. ورفارفها وحواشيها، فليملأ مولاي عينه من منتزهات أصبهان، فعسى طماحه أن يخفف، وجماحه أن يقل. (1/481)
وشريطة أخرى في بابه: وهي أنه ليس موضعاً لماله، فسبيل ما يرزأه أن يكون ما أقام في حجره، وإن أذن له مولاي في العود داخلاً في حظر. فما أكثر ما يباري البرامكة تبرمُّاً بجانب الجمع، وتخرقُّاً في مذاهب البذل. ونسبة للرياح إلى الإمساك والبخل. فبينا تراه والثروة أقرب وصفيه، حتى تلقاه والحاجة أحد خصميه، وكم وكم تداركت أمره فما ازداد الخرق إلا واسعاً لا يقبل رتقاً، وتهاوناً لا يسع تلافياً، وما كنت مع إبرامه لأفسح له في الخروج وأمد له طول النهوض مع أنسي الشديد بحضوره، واستمتاع النفس بعقله وجنونه، غير أني أزرته من ينظر بعيني. ويسمع بأذني، ومن إذا ارتاح للأمر فقد ارتحت، وإذا انشرح صدراً فقد انشرحت. (1/482)
ونكتة أخرى: وهي واسطة التاج، وفاتحة الرتاج. مولاي سمح بماله، مقرب لمناله، بخيل بجاهه، ضنين بكلامه. وأبو الحسن لا يقبل العذر، أو يصدق النذر، فيجعل جوده بلسانه، أبلغ من جوده ببنانه. وحقاً اخبر أن قصده الأكثر الارتفاع، لا الانتفاع، غير أني أنبأت عن سره. وعن سن بكره، وانقضت الخطبة، والسلام.
ولما انقلب من أصبهان إلى جرجان، مسروراً لم تطل به الأيام حتى أصبح مقبوراً.
ملح من مقطوعاته في كل فن قال:
ومغلَّفٍ بالمسك في خدّيه ... سطراً يشوق العاشقين إليه
ما جاءه أحدٌ ليخطف نظرةً ... إلاَّ تصدَّق بالفؤاد عليه
وقال:
من عاصمي يا ابن أبي عاصم ... من لحظك المقتدر الظالم
يا خاتم الحسن أغث مدنفاً ... صارت عليه الأرض كالخاتم
وقال:
يا ليل أفدي أختك البارحة ... ما كان أذكى ريحها الفائحة
كانت لها خاتمةٌ لو درت ... وجدي بها كانت هي الفاتحة
وقوله:
عشقت وكم من كريمٍ عشق ... وخفت وكم من حسودٍ فرق
لقد سرق اللحظ منك الفؤاد ... خلاساً، وكم مثل قلبي سرق؟
وقال:
يا حبذا الكأس من يديّ قمرٍ ... يخطر في معرض من الشفّق
بدا وعين الدجى محمرَّةٌ ... أجفانها من سلافة الفلق
وقال يصف حب الرمان:
وحبَّات رمانٍ لطافٍ كأنّها ... شوارد ياقوت لطفن عن الثقب
أشبهها في لونها وصفائها ... بقطرات دمعٍ وردّت من دم القلب
وقال يصف الباذنجان:
وباذنجانةٍ حشيت حشاها ... صغار الدرّ باللبن الحليب
تقمصّت البنفسج واستقلت ... من الآس الرطيب على قضيب
ولابن الرومي:
إذا أجاد الذي يشبهه ... وأحكم الوصف فيه بالنعت
قال كرات الأديم قد حشيت ... بسمسم قمعت بكيمخت
وقال في ليلة راكدة الهواء هب فيها نسيم طيب:
بادر الصهباء فالدهر فرص ... ولقد طاب نسيماً وخلص
أهدت الريح إلينا نسماً ... جمَّش الأرواح منَّا وقرص
قكأنَّ الكأس لما جليت ... طرب الجوُّ عليها فرقص
وإذا خصَّ زمانٌ بمنىً ... فزمان الورد باللَّهو أخص
وقال:
وعارض كالبنفسج الغض ... يزهي على صحن سوسنٍ فضّي
سألت عنه فقيل ذا قمرٌ ... درّع ثوب الظلام للعرض
نظرت فيه فصدَّ معتدياً ... وكاد بعضي يصدُّ عن بعضي
وقال يستدعي صديقاً له:
عفا الدهر عنَّا واستقلَّت بنا المنى ... وحثَّ بنا ربعٌ من الأنس عامر
وضَّمت أكفُّ الراح شمل عصابةٍ ... وجوههم للزهرات ضرائر
فإن زرتني شوقاً وإلاّ فإننّي ... إذا جدَّ جدُّ السكر والشوق زائر
وقال في معنى لم يسبق إليه:
ألا يا أيها الملك المعلَّى ... أنلني من عطاياك الجزيله
لعبدك حرمةٌ والذكر فحشٌ ... فلا تحوج إلى ذكر الوسيله
وقال يهجو من الزجر:
انظر إلى أمر عجيب قد حدث ... أبو تميمٍ وهو شيخٌ لا حدث
قد يحبس الأصلع في بيت الحدث وقال في أبي نصر الكاتب النيسابوري:
إني قصدت أبا نصرٍ بمسألةٍ ... يقلُّ وصفي إيَّاها عن الكلم
فظلَّ يرعد خوفاً من مكالمتي ... وكاد يسقط قرناه على القدم (1/483)
فقلت نفسك إنّي وفد مكرمةٍ ... واذهب فإنك في حلًّ من الكرم
وقال فيه:
حكوا لي عن أبي نصر ... وقد أورد من حقَّق
بأنَّ الشيخ يستدخل أيرين إذا استحلق
فما صدقت حتى قلت للشيخ وقد أطرق
أيحوي الغمد سيفين فقال الشيخ يا أحمق
وما تنكر أن يعمل ملاَّحان في زورق
وقال فيه:
أبو النصر قد أبد ... ع في إبنته بدعنه
حكوا لي أنه يبلع عرض الأير في دفعه
وذا من كاتبٍ شيخٍ ... عميد مثله شنعه
ولولا أنه شيخ ... تركنا عذله فظعه
وخليناه يستدخل خمساً شاء جو سبعه
ومن يحسد طست الشمع يا قوم على الشمعة
غرر من قصائده قال من قصيدة:
يا سقيط الندى على الأقحوان ... شأنك الآن في الصبوح وشاني
أنت أذكرتني دموعي وقد صوَّ ... بن بين العتاب والهجران
إن يكن للخليج فيك أوان ... بتقضّي المنى فهذا أوابي
شجرٌ مدنف وجوٌّ عليلٌ ... وصباحٌ يميل كالنشوان
صاح إنّ الزمان أقصرعمراً ... أن يراع المنى بصرف الزمان
رق عنّي الليل فانهض ... برقيقٍِ من صوب تلك الدنان
قهوةٌ عقَّها النواظر لما ... حسبتها عصارة العقيان
كعصير الخدود في يقق الأو ... جه أو كالدموع في الأجفان
ومن قصيدة في الصاحب يمدحه ويعتذر من خروجه حاجاً من غير إذنه ويعرض بقوم أساءوا المحضر له بجرجان:
قليل لمثلي أن يقال تغيَّرا ... وفارق مخضلاًّ من العيش أخضرا
زمانٌ كعتبي من حبيبٍ نودُّه ... إذا مرّ منه أدهرٌ كنَّ أشهرا
يقولون بغداد الذي اشتقت برهةً ... دساكرها والعبقريَّ المقيَّرا
إذا فضَّ عنه الختم فاح بنفسجاً ... وأشرق مصباحاً ونوَّر عصفرا
ودجلتها الغناء والزوّ نافضاً ... جناحيه يحكي الطائر المتحدّرا
إذا رفع الملاّح جنبيه خلته ... تشقَّق من غيظٍ على الماء معجرا
وقمرة روضٍ حسنها وحديثها ... إذا الليل من بدر الزجاجة أقمرا
إذا رقَّصت حول المثاني بنانها ... ترى كلَّ جزء من فؤادك مزهرا
وليلٍ على النجميّ شطت نجومه ... عن العين حتى قيل لن يتصورا
تغور ويبديها الظلام كأنَّها ... عيون سكارى منتشين من الكرا
عكفنا على صهباء لو مرّت الصبا ... بها لاكتست ثوباً من الحسن أحمرا
ندامى كأنَّ الدهر يعشق شملهم ... فإن عزموا يوماً على البين أنكرا
أذلك خيرٌ أم بساط تنوفةٍ ... نداماك فيها الغول والقهوة السّرى
فقلت أما والله لولا تقاته ... لطال على العذَّال أن أتستَّرا
دعوني ومرو الثعلبية إننّي ... أرض بمرو الثعلبية عنبرا
رعى الله مولانا الوزير ورأيه ... جواداً إلى العلياء لن يتغيَّرا
يمثّل ديناً بين قلبي وناظري ... فلست أرى شيئاً سواه ولا أرى
لقد طويت عن خطبتي صحف الندى ... وقد كنت عنواناً عليها مسطَّرا
تحيَّر عيشي بالعراق وهمتّي ... بجرجان أبدت دهشةً وتحيُّرا
حججت لعمر الله مكَّة معذراً ... وكنت بحجّي ذلك الباب أعذرا
رأى الدهر أنّي ناهضٌ بقوادمي ... فطَّيرني من قبل أن أتخيرا
وأبصر أيامي تفتّح ناظري ... فأعمينني من قثبل أن أتبصرا
رويدك لم أهجر علاك وإنما ... بخلت بنفسي أن تملَّ وتهجرا
وقدت فكنت النار تأكل نفسها ... وسلت فكنت الماء ينصبُّ في الثرا (1/484)
قدرت على قتلي فاقتصد ... وكنت على قتلي بسيفك وأثمرا
وأقسم لو روَّيت سيفك من دمي ... لأورق بالودّ الصريح وأثمرا
فكم مدبرٍ بالودّ تلقاه مقبلاً ... وكم مقبلٍ تلقاه بالودّ مدبرا
ومن قصيدة كتبها من دهشتان إلى الصاحب وهو على بعض ضياعها يصف تبرمه بها وخراب مستغله بجرجان:
يا ليلةً قصرت فطابت وانقضت ... وأفدت منها ظلمة وضياء
حميت بأنفاسي نجومك فانثنت ... يجذبن من برد الصباح رداء
أيديّ ضعفت عن الأعنة فاقنعي ... بالكأس طرفاً والهوى بيداء
لو لم تخن قدمي مقاصد همتي ... لم أرض إلاّ الفرقدين حذاء
نكبتني الأيام في مستحضرٍ ... قد كان سبق عدوه النكباء
أبقى الحفا منه ثلاث قوائمٍ ... مثل الأثافي ما يرمن فناء
ولطالما ترك الرياح هبوبه ... حسرى تخال أمامهنَّ وراء
هذا وقد أخذت بآفاق المدى ... كفُّ الوزير توزِّع النعماء
وقد استقل سريره بعلائه ... يستعرض الشعراء والندماء
عيدٌ أنو شروان قال لعظمه ... ضحّوا بأكوابٍ وعفّوا الشاء
يتقرَّب الدهقان فيه ببنته ... فيزقُّها في كأسها حمراء
نسج الزمان من الندى لثنائه ... بيد السحاب غلالةً دكناء
واغبرَّ وجه الجوِّ ممَّا رفرفت ... فيه الغيوم فأشبه الغبراء
وسجا أديم الأرض من برد الضحى ... حتى تراه في الإناء إناء
ونعى الشتاء إليَّ بيتي إذ رأى ... أعلاه ليس يكفكف الأنداء
وسوارياً لو دبَّ فوق متونها ... نملٌ هوت من أصلهنَّ هباء
وعليلةٍ بليت بلاي وأصبحت ... غرفاتها عن أهلهنَّ خلاء
أخشى الرياح إذا جرت من حلولها ... أبداً وأحذر فوقها الأنواء
قولا لمن ذمَّ القوافي وادَّعى ... أنَّ القريض يهجِّن الرؤساء
ويقول بغياً عل تصرَّف شاعرٌ ... أو نافس العمّال والضمناء
سائل دهشتان العتود بمن يلي ... أعمالها عن حملي الأعباء
هيهات لا تحقر عيون قصائدي ... إنّي خدمت ببعضها الوزراء
ويها وصلت إلى ابن عبَّاد العلا ... وخدمت تلك الحضرة الغراء
ومتى لثمت يديه أو أنشدته ... لم أقتنع بالمشرقين حباء
فراقت بطحاء المكارم عنده ... ونزلت أرضاً بعده شنعاء
مغنى اللصوص ومنبع الشرِّ الذي ... أفنى الرجال وجشَّم الأمراء
قوم إذا شبقوا أتوا أنعامهم ... أو أعدموا باعوا البنات إماء
مثل الثعالب ينبعثن فإن عوى ... ذئب دخلن الأيكة العوصاء
كانوا ذوي ثقتي فصرت كأنَّني ... عين تقلَّب منهم الأقذاء
وولايتي عزل إذا لم أعتنق ... باب الوزير وتلكم الآلاء
ومن أخرى يصف ضيق ذات يده، وخراب حجرته، وكثرة عياله، ويهنىء الصاحب ببنائه الجديد بجرجان:
أهش لأنواء الربيع إذا انبرت ... وأكره أبواء الربيع وأنكر
تظلُّ جفوني كلّما مرَّ بارق ... تطول إلى خيط السماء وتقصر
حذاراً على خاوي الجوانب مائلٍ ... يكاد بأنفاسي عليه يقطّر
لدى عرصاتٍ أصبحت غرفاتها ... مناخل أمطارٍ تروح وتبكر
أساطين حكتها السنون كأنّها ... قيام تثنَّت للركوع تكبِّر
رثى لي أعدائي بها وتطيَّرت ... برؤيتها العين التي لا تطير
يقولون هلاَّ تستجدَّ مرمةً ... وحالي منها بالمرمة أجدر
إذا كشفت الأيام وجه تجمُّلي ... وأظهرت الحال التي أنا مضمر (1/485)
فكلُّ مكانٍ للتبذُّل موقفٌ ... وكلُّ لباسٍ للتَّهتُّك مئزر
ثمانيةٌ يرجون صوب قصائدي ... على أنه من صوب طبعي أنزر
يمدُّون أعناق النعام إلى يدي ... وتفتح أفواه السباع وتفغر
إذا رحت عن دار الوزير تبسَّطت ... أناملهم نحو الندى تتشمَّر
يرون خطيباً ملء بردي ومطرفي ... يحدِّث عن آلائه ويخبِّر
بنيت إلى دنياك دنياً جديدةً ... هي الجنَّة العليا وأنت المعمِّر
معارج مجدٍ واحدٍ فوق واحدٍ ... تعثَّر فيها فكرتي وتحيَّر
طرائح عزٍّ لبنةٌ فوق لبنةٍ ... تربّع في صحن العلا وتدور
بنيت لعمري سؤدداً لا بنيّةً ... وهل سؤددٌ إلا بربعك يعمر
ومن أخرى:
تثنَّى إلى برد النسيم المرفرف ... يبثُّ جوىً من قلبه المتشوِّف
تنسَّم أنفاس الضحى بحشاشةٍ ... توقّد من حرِّ الغرام وتنطفي
تجافيت إلا عن محاسن قهوةٍ ... أجرُّ إليها شملة المتظرِّف
دعوا رمقي يستنصر الراح إنها ... سلالة مجدٍ في غلالة مدنف
ومن أخرى:
زرًّ الصباح علينا شملة السحب ... ومدّت الريح منها واهي الطنب
صكَّ النسيم فراخ فانزعجت ... ينفضن أجنحةً من عنبر الزغب
لو لم يقل هذا البيت لكان أشعر الناس!
تسعى الجنوب بطرفٍ حولها ثملٍ ... من الندى وفؤادٍ نحوها طرب
ومنها:
كفى العواذل أنِّي لا أرى قدحاً ... إلاَّ شققت عليه جلدة الطرب
إن قيل تاب يقول الغيُّ لم يتب ... أو قيل شاب يقول اللهو لم شب
ومن أخرى:
لو ثار ما اقتدحته النفس من هممي ... لصكَّ ناصية الجوزاء ملتهبا
لو أن ساعدي اليمنى تساعدني ... على سوى الجود صغت الأرض لي ذهبا
يا مسرجاً صهوات الريح منتجعاً ... قرِّب خطاك فإن الجود قد قربا
لا تركب البحر إلا بحر مكرمةٍ ... يسقي الفرات ولا يودي بمن ركبا
سكنَّت روعة حالي بعدما أدرّعت ... من اعتراض عوادي فقرها رعبا
فصرت منك أقوِّي بالغنى سبباً ... وأدّعى لمحلّي في العلا سببا
ومن أخرى في فخر الدولة:
سرير بأحداق النجوم مسمَّر ... وملك بأعراف السحاب معمَّم
تقود صروف الدهر في عرصاته ... جياداً بسلطان السياسة تلجم
يزمُّ بفخر الدولة الدهر مذعناً ... ويملك أعناق الخطوب ويخزم
مكارمه في جبهة الدهر غرَّةٌ ... وسؤدده في غرَّة الدهر ميسم
ومن أخرى:
الصبح يرمق عن جفون مخمّرٍ ... والليل يرفع من ذيول مشمِّر
والجوُّ في حجب النسيم كأنّما ... تسعى إليه يد الشمال بمجمر
ريحٌ تمايل بين أنفاس الضحى ... بممسَّك من ثوبها ومعنبر
ملك تهيّبه النجوم إذا بدا ... وتحار بين مهللٍ ومكبِّر
يكفي القوافي أنها بعنايتي ... تختال بين سريره والمنبر
لو أنها شعرت بعظم مقامها ... لم تقتنع بعمومة في بحتر
ما زال يأمل أن يعود إلى المنى ... شعري بتشريفٍ عليه مزرَّر
فبعثت منه جوهرياتٍ أبت ... أن لا تكون ضرائراً للجوهر
ومن أخرى في أبي العباس الضبي بأصبهان:
إني ملكت عنان الرأي من زمنٍ ... إذا سعيت لمجدٍ كان لي قدما
إنّي أهين جمان الدمع منتثراً ... إذا رأيت جمان العزِّ منتظما
أفدي بوجه هرند زندروز وإن ... شربت ماء حياتي عندها شبما
تركت فيه على الجسرين دسكرةً ... يشدو بذكرى فيشجي طيرها نغما
محلّة ما طرقت الدهر جانبها ... إلا عزمت على دهري كما عزما
أنّي أحجُّ بطاح اللهو آونة ... إذا رأيت محلّي عندها حرما (1/486)
لم تثنني لمع للشيب في لممي ... عن أن ألمَّ بأطراف المنى لمما
وإنما قدم التوفيق تحملني ... إلى فتى ملء حيزوم العلا همما
ومن أخرى:
إذا ما أدلَّ السابقون فإننَّي ... أدلُّ الخدمة المتقادم
وربَّ مصلِّ سابقٍ بوفائه ... وكم قاعدٍ في نصحه ألف قائم
سأخدمه عمري ويخدم بابه ... إذا متُّ عني خادمٌ بعد خادم
ومن أخرى:
قد كان أمسك وحي الشعر مذ قطعت ... يد الحوادث عن نعمائه علقي
فما نظمت لمعنى عقد قافيةٍ ... إلا نثرت له عقداً من العرق
وهذه لليال قد سهرت لها ... أروى معالي مولانا على نسق
وقلت حين رأيت الطبع ينسجها ... نسج الربيع حواشي روضه العبق
عسى خطرت ببالٍ فاتسقت ... له فرائد نظمي كلَّ متسق
ومن أخرى في يوم ميلاده وتحويل سنه:
يوم تبرجت العلا ... فيه ومزِّقت الحجب
يوم أتاه المشتري ... بشهاب سعدٍ ملتهب
بسلالة المجد الفصيح ... وصفوة المجد الزرب
ملكٌ إذا ادّرع العلا ... فالدهر مسلوب السلب
وإذا تنمر في الخطو ... ب فيا لنارٍ في حطب
وإذا تبسّم للندى ... مطرت سحائبه الذهب
يا غرة الحسب الكريم ... وأين مثلك في الحسب
هذا صباحٌ حلِّيت ... بسعوده عطل الحقب
ميلادك الميمون فيه ... وهو ميلاد الأدب
عرِّج عليه بمجلسٍ ... ريَّان من ماء العنب
واضرب عليه سرادقاً ... للأنس ممتدِّ الطنب
فرِّخ وعشِّش في المسرّ ... ة منه وأستأنس وطب
ومن أخرى:
بشعلة الرأي تذكي الباس ... ولذة المجد تنسي لذّة الكاس
ما كلُّ ما احمرَّ للعينين منظره ... وردٌ، ولا كلّ ما يخضرُّ بالآس
ليت الجهول بطرق المجد يتركه ... ما كلُّ غصنٍ له ماءٌ بمياس
لا تنفع المرء في الهيجاء شكتّه ... حتى يشدَّ إليها شكَّة الباس
كل يشنَّج عند السيف جبهته ... ولا هوادة عند السيف للراس
الحق أبلج بادٍ لا خفاء به ... والملك أشوس لا يعنو لأنكاس
وليس كلُّ ابتسامٍ من أخي كرم ... بشراً، ولا كلُّ تقريبٍ بإيناس
ومن أخرى في الأستاذ أبي الحسن بن علي بن القاسم العارض يستدعي منه الشراب:
الدهر مخبره مسكٌ ومنظره ... والروض مطرفه وردٌ ومعجزه
والجوُّ يفتح جفناً في محاسنه ... من الندى وأديم الغيث محجره
يسعى الشمال بندٍّ في جوانبه ... من النسيم وحرُّ الشمس مجمره
طاب الصبوح وكأسي جدُّ فارغة ... كأنّها خاتم قد غاب خنصره
أشتاقه ونسيم الورد يعذلني ... أن لست اسكر مهتزاً فأسكره
ومن أخرى في الحسن الحسنى:
لا عتب إن بذلت عيني بما أجد ... فقد بكى لي عوَّادي لما عهدوا
لو أن لي جسداً يقوى لطفت به ... على العزاء ولكن ليس لي جسد
تبعتهم بذماءٍ كان يمسكه ... تعلُّلي بخيالٍ كلَّما بعدوا
يا ليلةً غمضت عنّي كواكبها ... ترفَّقي بجفونٍ غمضها رمد
أهوى الصباح وما لي فيه منتصفٌ ... من الظلام ولكن طالما أجد
لو أن لي أمداً في الشوق أبلغه ... صبرت عنك، ولكن ليس لي أمد
بكيت بعد دموعي في الهوى جلدي ... وهل سمعت بباكٍ دمعه جلد
تذوب نار فؤادي في الهوى جلدي ... وهل سمعت بنار ذوبها برد
قالوا: ألفت رباجي، فقلت لهم: ... الحب أهل، وإدراك المنى ولد
أندى محاسن جي أنه بلد ... طلق النهار، ولكن ليله نكد
إذا استحب بلاد للمعاش بهافحيثما نعمت حالي به بلد (1/487)
وللمكارم قومٌ لا خفاء بهم ... هم يعرفون بسيماهم إذا شهدوا
للَّه معشر صدق كلّما تليت ... على الورى سورة من مجدهم سجدوا
ذرية أبهرت طه بجدهم ... وهل أتى بأبيهم حين ينتقد
وإن تصنّع شعرٌ في ذوي كرمٍ ... يا ابن النبي فشعري فيك مقتصد
أصبت فيك رشادي غير مجتهدٍ ... وليس كل مصيبٍ فيك مجتهد
بسطت عرض فناء الدهر مكرمة ... طرائق الحمد في خافاتها قدد
ومن أخرى يصف فيها سقامه وكربه ويشكو تأخر إخوانه عن عيادته ويخاطب بها أبا الفتح محمد بن صالح ليعرضها في مجلس الصاحب:
قلت لمّا تأخّر العوّاد ... أيُّ سقمٍ عليله لا يعاد
ما لكم إخوة الرجاء وما لي ... كلّ أيامكم نوىً وبعاد
قد صددتم عنّي صدود التعالي ... لسقامي كأنّ سقمي وداد
إن تجنبتم العدوى فلم لم ... أعدكم بالهوى وسقمي سهاد
ملّني مضجعي وعاف نديمي ... مجلسي واجتوى جفوني الرقاد
طرَّز السقم ما كسانيه بالعزِّ فهذا حتفٌ وهذا حداد
لي وشاحٌ من الضَّنا ونجادٌ ... ووسادٌ من الأسى ومهاد
قلمي يتقي بناني، وسيفي ... وعناني، ويتقيني الجواد
وتناست يدي مناولة الكأ ... س وسمعي ما ينفر العوّاد
لو سوى العزِّ نالني مرَّضتني ... خدمةٌ دونها الشباب المفاد
قد لواني عن جنة العزِّ سقمي ... ويح نفسي كأن سقمي ارتداد
روضةٌ نورها العلا وغديرٌ ... كلُّ أكنافه ندىً معتاد
باعد العرُّ بين عيشي وبيني ... فبياض الزمان عندي سواد
يا أبا الفتح قد تفرّدت عني ... بمنىً لا تخصها الأعداد
بلِّغ المجلس الرفيع سلامي ... واشتياقي وقل سقاك العهاد
واجتهد أن تقبّل الأرض عني ... حيث لا يستطيعه القوّاد
حيث يبدو الوزير في معرض ... الفضل ويهتزُّ غصنه المياد
وتغنّم خير التبسُّم فيه ... إنّ بشر السلطان غنمٌ مفاد
ثم قل إنّ حال خادم مولا ... نا لحالٌ يملُّها العوَّاد
سقمٌ مجحفٌ وعرٌّ كريه ... واختصاصٌ بكربةٍ وانفراد
كلُّ عضوً منّي له حسرات ... واشتياق كأنَّ كلَّي فؤاد
ومن أخرى:
قولا لعاذلتي جمحت فلم أزد ... إلا لجاجاً في الهوى وجماجا
جنح الظلام فبادري بمدامةٍ ... بسطت إليك من العقيق جناحا
صهباء لو طافت بها قمريةٌ ... أذكت عليها ريشها مصباحا
رعت الزمان ربيعه وخريفه ... فأتت تبثُّ الورد والتفاحا
أبو معمر الإسماعيلي
أبو معمر بن أبي سعيد بن أبي بكر الإسماعيلي
جمع الشرف النفس إلى شرف الطبع، وكرم الأدب إلى كرم النسب واستولى على أمد الفقه في اقتبال العمر، وحسن تصرفه في الشعر، حتى كتب الصاحب في وصف قصيدة نفذت منه فصلاً من كتاب طويل إلى أبيه أبي سعيد، وهذه نسخة الفصل.
وبعد فهل أتاك حديث الإعجاب منا، وقد طلعت من أرضك فقرة الفقر، وغرة الغرر، وحديقة الزهر، وخليفة المطر، تلك حسنة انتشرت عن ضوئك، وغمامة نشأت بنوئك. ونار قدحت بزندك. وصفيحة فضل طبعت على نقدك، وإنها لقصيدة ولدنا أبي معمر، عمره الله تعالى ما اختار، وعمر به الرباع والديار. خطت بأقدام الإجادة، وقطعت مسافة الإصابة، وسعت إلى كعبة القبول، وحلت حرم الأمن خير الحلول. تلبي وقد تعرت من لباس التعمل، وتجردت عن عطاف التبذل. فلم تدع منسكاً من البر إلا قضته، ولا مشعراً من الفضل إلا عمرته. ولا معرفا من العلم إلى شهدته، ولا محصباً من الفهم إلا حضرته، واجتمعنا حولها وإنا لأعداد جمة، وفينا واحد يقال إنه أمه، كأنا عديد الموسم يعظمون الشعائر. ويعلقون الستائر. ويحتضنون الملتزم، ويلثمون المستلم. وهذا الكتاب يرد عليكم بالخبر أسرع من اللمح البارق، نعم ومن اللمع الخاطف، وأخف من سابق الحجيج وإن كان المثل الأعلى لبيت الله العتيق. فأحمد الله إذ قرن فضل فتاك بفضلك، وجعل فرعك كأصلك، وأنبت غصنك على شجرك، واشتق هلالك من قمرك، وأراك من ظهرك، ومن يحذو على نجرك، ويصل فخره بفخرك، ويشيد من بناء الدراية ما أسست، ويسقي من شجر الرواية ما غرست. (1/488)
قال مؤلف الكتاب: فمن غرر شعر أبي معمر قوله من قصيدة الصاحب:
ما عهدت القضيب بالحقف ولا البدر للتَّمام استسرا
حبذا الطارق الذي زار وهناً ... فأعاد الظلام إذ زار فجرا
ثمل العطف وهو ما نال خمراً ... عطر الحبيب وهو ما مسَّ عطرا
والحياء الملمَّ بالخدِّ منه ... صيرفيٌّ يبدّل العين أخرى
ضمنَّي ضمَّة الوداع فعاد الشفع منا عند التعانق وترا
وسقاني بفيه خمراً بروداً ... عاد بعد الفراق في القلب جمرا
ملكٌ طوعه الملوك علاءٌ ... وهو طوع العفاة جاهاً وقدرا
ملك أنهب العروض فأضحى العرض منه على البرية حظرا
ملكٌ لا يرى سوى الحمد مالاً ... لا ولا الكنز غير ما جرَّ شكرا
فإذا المحل حلَّ حلَّ غماماً ... وإذا النقع ثار ثار هزبرا
وإذا ما أفاد نحَّل كعباً ... وإذا ما أفات نهنه عمرا
وإذا ما سطا تطاول جهراً ... وإذا ما حبا تطوَّل سرّاً
وقوله من قصيدة في وصف الثلج:
لك الخير من سارٍ معانٍ على السُّرى ... نصبنا قرى الأرض الفضاء له قرى
أجاز الدجى حتى أناخ إلى الضُّحى ... قلائصه غرُّ الشواكل والذرى
فرحنا وقد بات السماء مع الثرى ... وغاب أديم الأرض عنَّا فما يرى
كأنَّ غيوم الجوِّ صوَّاغ فضَّةٍ ... تواصوا برد الحلي عمداً إلى الورى
وللقطر نفحات تصوب خلالها ... كصوب دلاء البئر أسلمها العرى
لقد عم إحسان الشتاء وبرده ... بلى خصَّ أرباب الدساكر والقرى
وقوله من الرجز:
وليلةٍ من الليالي القاسية ... مدَّت ظلاماً كالجبال الراسيه
فغادرت كلّ الورى سواسيه ... البيض دهماً والعراة كاسيه
لبستها والصبر من لباسيه ... بهمّةٍ على الأسى مواسيه
ونبعة صليبة لا جاسيه ... حتى شممت الصبح في أنفاسيه
فالصبر صبر النفس لا عن ناسيه
وكتب إليه بعض العصريين من أهل نيسابور:
يا فريداً في المجد غير مشارك ... عزَّ باريك في الورى وتبارك
يا أبا معمر عمرت ولا زا ... لت سعود الأفلاك تعمر دارك
يا هلال الأنام قد كتب الأيام في دفتر العلا آثارك
ولسان الزمان يدرس في كلِّ مكانٍ على الورى أخبارك
سيدي أنت من يشقُّ غبارك ... بأبي أنت من يروم فخارك
أنت من فيه خالق الخلق بارك ... وحباك العلا وزكَّى نجارك
ما ترى في مناسبٍ في الآ ... داب قد صار دأبه تذكارك
شوَّقته إليك أوصافك الغرُّ فجاب البلاد حتى زارك
هل تراه لديك أهلاً لأن تمنحه يا أخا العلا إيثارك
فهو ضيفٌ قراه أنفس علقٍ ... فاقره الودَّ واسقه أشعارك (1/489)
وتملّ الزمان في ظلِّ عيشٍ ... مثمرٍ لا يملُّ قطُّ جوارك
فأجابه بهذه الأبيات:
زارك الغيث وانتحى القطر دارك ... كلَّما التفَّ صوبه وتدارك
فلها من نداك ديمة فضلٍ ... طبقتها فأظهرت آثارك
ولها من علاك شمسٌ حوتها ... فهي تجلو على الورى أنوارك
وبها منك للعلوم بحارٌ ... جاورتها فمن يخوض بحارك
يا قريباً في البرّ ما يتجافى ... وبعيداً إلى مدى لا يشارك
وبديعاً ملء الصفات فلو رمت فخاراً لما حصرت فخارك
جاءنا نظمك البديع فقلنا الروض إمَّا أعرته أو أعارك
هو روض أطاعك الحسن فيه ... فأطاع الإحسان فيه اختيارك
وسطا بالبياض خطُّك حتى مدَّ ليلاً وما خلعت نهارك
وتناهيت في الخطابة حتى ... عجز القرن أن يشقَّ غبارك
راعه شأوك البعيد ومن يجري ويجري إذا رأى مضمارك
فانثنى جامد القريحة يستشعر أنّ الأشعار باتت شعارك
يا كريماً ضمَّت عليه المعالي ... فادَّرعها واشدد بها آزارك
قد أتاك الثناء وهو أبيٌّ ... ذاك ممّا منحته إيثارك
فاصحب الفخر وامض في الخير قدماً ... واقض في طاعة الندى أوطارك
القاضي الجرجاني
القاضي أبو بشر الفضل بن محمد الجرجاني
صدر كثير الفضل. جم المناقب، جزل الأدب، فصيح القلم، حريص على اقتناء الكتب. وله يقول الصاحب وقد اعتل:
تشكّي الفضل من سقمٍ عراه ... فإن الفضل أجمع من أنينه
وعاد بعقوتي يشكو جواه ... كما يحنو القرين على قرينه
فقلت له وقاك الله فيه ... فإن السعد يطلع من جبينه
هوالعين التي أبصرت منها ... وصار سواد عيني في جفونه
ستفديه يميني لا شمالي ... فعين المرء خيرٌ من يمينه
وكان ولاه جرجان: فلما انقضت أيام الصاحب وعاد الأمير شمس المعالي من خراسان إلى مملكته ولاه قضاء قضاته مضافاً إلى رياسة جرجان، وله شعر ينطق به لسان فضله، كقوله من قصيدة في الأمير شمس المعالي من الخيفيف:
سنة أقبلت مع الإقبال ... وزمانٌ من الميامن حالي
رفرفت فوقنا سحائب نعمى ... مطرتنا السرور في كلِّ حال
حسبي الله في الأمور نصيراً ... ثم حسبي الأمير شمس المعالي
قد رآه خليفة الله في الأر ... ض فريداً فقال للاقبال
ما رأينا له مثالاً وهذا ... لقبٌ مثله فقيد المثال
عانق اللفظ وفق معناه فانظر ... كيف أنس الأشكال بالأشكال
ولدا توأمين كالجسم والرو ... ح بعيدين من سماء المنال
ومعالٍ مشتقَّة من معانٍ ... ومعانٍ مشتقَّةٍ من معالي
لم ينل من جداه مثل الذي نلت ولا قيل في علاه مقالي
ويشيع الذي يشيد من المج ... د وقولي يسير كالأمثال
لي من شبيه ضياعي وأفرا ... سي ودوري وأعبدي وبغالي
حرس الله ملكه ووقاه ... في بقاءٍ يطيب بالإمهال
سايس الملك سالم النفس طلق العيش مستوفياً شروط الكمال
ابوالقاسم العلوي الأطروش
من نازلي إستراباذ، وأفاضل العلوية، وأعيان أهل الأدب، كتب إلى القاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز رقعة تشمل على النظم والنثر، نسختها:
الشيخ أدام الله عزه من مودته ما لا أزال أحرص عليه، وأفادني حظاً كثرت المنافسة مني فيه، إذ هو الأوحد الذي لا يجاري إلى غاية طول وكرم طبع. وإن من اعتلق منه سببا واستفاد منه وداً، فقد أحرز الغنيمة الباردة، وفاز بالخير والسعادة، ورجوت أن تكون الحال بيننا زائدة، إذ محله عندي المحل الذي لا يتقدمه فيه أحد، وشغل قلبي بانقباضه عنّي مع الثقة الوكيدة بأني مغمور المحل عنده، موفور الحظ من رأيه وعنايته، لا أعدمني الله النعمة ببقائه ودوام سلامته، وأنهضني بالحق في شكره، وما هو إلا قصر النفس على تطلب محمدته والسعي بها إلى مرضاته. وقد كتبت في هذه الرقعة أبياتاً، مع قلة بضاعتي في الشعر، وكثرة معرفتي بأن من أهجي إليه الشعر الجيد المطمع الممتنع، المصبوب في قالبه، فكمن حمل التمر إلى هجر، والقضب إلى اليمن، وهي هذه: (1/490)
يا وافر العلم والإنعام والمنن ... ووافر العرض غير الشحم والسمن
لقد تذكرت شعر الموصليَّ لما ... سمعت من لفظك العاري عن الدرن
يا سرحة الماء قد سدَّت موارده ... أما إليك طريقٌ يا أبا الحسن
إني رأيتك أعلى الناس منزلةً ... في العلم والشعر والآراء والفطن
فاسمع شكاة ودودٍ ذي محافظةٍ ... يعفي المودة عن السرِّ والعلن
لقد نمتك ثقيفٌ يا عليُّ إلى ... مجد سيبقى على الأيام والزمن
مجدٌ لو أنَّ رسول الله شاهده ... لقال إيهٍ أبا إسحاق للفتن
صلى الإله على المختار من رجلٍ ... ما ناحت الورق فوق الأيك والفنن
فإن وقع فيها خطل أو زلل فعلى الشيخ اعتماد في إقالة العثرة وصرف الأمر إلى الجميل الذي يوازي فضله ويشاكل نبله. لأني كنت من قبل أهدي البيت والبيتين إلى الإخوان، وبعد العهد به الآن. فإن رأى - اراه الله محابه! - أن يتأمل ما خاطبته به فعل إن شاء الله.
وأنشدت له في بعض رؤساء جرجان:
خليليَّ فرَّا من الدهخذا ... خذا خذراً من وداده خذا
يكنّى بسعدٍ، ونحساً حذا ... وكلُّ الخلائق منه كذا
ابو نصر عبد الله بن البجلي الإستراباذي
أنشدني أبو نصر محمد بن عبد الجبار العتبي قال: وجد بخط البجلي هذه الأبيات من قصيدة في الأمير شمس المعالي:
لله شمسان تذكيرٌ لخيرهما ... وللمؤنَّثة النقصان ملتزم
أزرى بتلك سناً من غير معرفةٍ ... فيها، وزين هذا المجد والكرم
يا أيُّها الملك الميمون طائره ... وخير من في الورى يمشي به قدم
لو كنت من قبل ترعانا وتحرسنا ... لما تهدّى إلينا الشيب والهرم
وأنشدني له غيره:
دمعي يفيض ولا يغيض كأنّما ... من ماء ذاك الوجه جاد بمدِّه
وأرى فؤادي فوق جمرٍ محرقٍ ... فكأنّه من فوق حمرة خدِّه
وجهٌ أعار الصبح من مبيضِّه ... شعرٌ أعار الليل من مسودِّه
وكأنّ وجنته اكتست من وصله ... وكأنما الصَّدغ اكتسى من صدِّه
فصل في ذكر شعراء طبرستان
أبو العلاء السبروي
واحد طبرستان أدباً وفضلاً، ونظماً ونثراً، وقد تقدم ذكره فيما جمعه وابن العميد من مشاكلة الأدب، وما كان يجري بينهما من المساجلة في المكاتبة، وله كتب وشعر سائر مشهور كثير الظرف والملح، فمنها قوله:
مررنا على الروض الذي قد تبسَّمت ... ذراه وأوداج الأبارق تسفك
فلم نر شيئاً كان أحسن منظرا ... من الروض يجري دمعه وهو يضحك
وقوله من قصيدة:
أما ترى قضب الأشجار قد لبست ... أنوارها تتثنَّى بين جلاَّس
منظومةٌ كسموط الدرِّ لابسةٌ ... حسناً يبيح دم العنقود للحاسي
وغرّدت خطباء الطير ساجعةً ... على منابر من وردٍ ومن آس
وقوله في النرجس:
حيّ الربيع فقد حيّاً بباكور ... من نرجسٍ ببهاء الحسن مذكور
كأنّما جفنه بالغنج منفتحاً ... كأسٌ من التبر في منديل كافور
وقوله في التفاح:
وتفاحةٍ قد همت وجداً بظرفها ... فما شعر ذي حذقٍ يحيط بوصفها (1/491)
أشبِّه بالمعشوق حمرة نصفها ... وبالعاشق المهجور صفرة نصفها
وقوله في الغزل:
ومعشَّق الحركات تحسب نصفه ... لولا التمنطق بائناً من نصفه
يسعى إليك بكأسه فكأنّما ... يسعى إليك بخدّه في كفه
يا من يسلَّم خصره من ردفه ... سلَّم فؤاد محبِّه من طرفه
ومن قصيدة من الرجز:
ذو طرَّة كأنّما ركّب في ... صفيحة الفضة شباك سبج
وعارضٍ كالماء في رقته ... تزهر فيه وجنةٌ ذات وهج
كأنّما نساج ديباجته ... من ورق النسرين والورد نسج
وقال:
نبا قلبه من شغل قلبي بغيره ... فقلت: رويداً إنّما أنت أوَّل
فقال: دع العذر الضعيف فليس من ... يولَّى على أمرٍ كمن عنه يعزل
وقوله من قصيدة:
حيِّ شيبا أتى لغير رحيل ... وشباباً مضى لغير إياب
أيَّ شيء يكون أحسن من عا ... ج مشيبٍ في آبنوس شباب
وكتب إليه شاعر غريب يشكو إليه حجابه أبياتاً أولها:
جئت إلى الباب مراراً فما ... إن زرت إلاّ قيل لي قد ركب
وكان في الواجب يا سيدي ... أن لا ترى عن مثلنا تحتجب
فأجابه على ظهر رقعته:
ليس احتجابي عنك من جفوةٍ ... وغفلةٍ عن حرمة المغترب
لكن لدهرٍ نكدٍ خائنٍ ... مقصّرٍ بالحرِّ عمَّا يجب
وكنت لا أحجب عن زائرٍ ... فالآن من ظلِّي قد أحتجب
ومن سائر شعره قوله في غلام سكران:
بالورد في وجنتيك من لطمك؟ ... ومن سقاك المدام لم ظلمك؟
خلاَّك ما تستفيق من سكرٍ ... توسع شتماً وجفوةً خدمك
مشوّش الصدغ قد ثملت فماً ... تمنع من لثم عاشقيك فمك
تجرُّ فضل الرداء منخلع النع ... لين قد لوَّث الثرى قدمك
أظلُّ من حيرةٍ ومن دهشٍ ... أقول لما رأيت مبتسمك
بالله يا أقحوان مبسمه ... على قضيب العقيق من نظمك
أبو الفياض سعد بن أحمد الطبري
شاعر مفلّق، محسن مبدع، ممتد الأوضاح والغرر في شعر الصاحب، وهو القاتل من قصيدته فيه، أولها:
الدمع يعرب ما لا يعرب الكلم ... والدمع عدلٌ وبعض القوم متَّهم
أمَّا يد الصاحب اليمنى فأكرم ما ... يدٌ تصاحب فيها السيف والقلم
وللأعنة يسري في أناملها ... أعنّة الرزق والآجال تنتظم
تخالف الناس إلاّ في محبته ... كأنّما بينهم في حبَّه رحم
ومنها في وصف أفراس قيدت إليه من فارس:
زارتك من فارس الغنَّاء ناشرةً ... أعرافها قائداها العتق والكرم
كأنَّ أعينها ولَّين أرجلها ... فالعين آمرةٌ والرجل ترتسم
من كلِّ أشهب لم تكحل بشهبته ... عينا فتىً فدرى ما الظُّلم والظُّلم
ومن أغرَّ يراع العاشقون له ... كأنَّ غرَّته ثغرٌ ومبتسم
وكلِّ أدهم عمَّت جسمه شيةٌ ... كجدِّ قوم بغوك الشرّ فاصطلموا
ومنها في وصف الخلعة والسيف:
وخلعةٍ تأسر الأحداق مخملةٍ ... بالنور للشمس من لألائها سقم
وصارمٍ لم يودِّع قطُّ مضجعه ... إلاّ وقد ودّعت أعناقها القمم
كالكوكب الفرد لكن إن رجمت به ... شيطان حربٍ طوت أوصاله الرّجم
يلقى السيوف بوجهٍ مثل وجهك لم ... يطلع من الغمد إلاّ قيل يبتسم
ومنها قوله في وصف السكين والدواة والأقلام:
ومطفلٍ من بنات الزنج مرضعةٍ ... من لم تلده ولم يخلق لها رحم
حتى إذا وضعت عادت أجنتها ... إلى حشاها فلا طلقٌ ولا وحم
أعجب لأطفالها تبكي عيونهم ... إن أرضعتهم ولا يبكون إن فطموا
ألاّف مذروبة إن تابعت لهم ... في الذبح صحوا وإن أعفتهم سقموا (1/492)
ومنها في وصف الدست
وروضة لم تولّ السحب صنعتها ... ولم تحطّ بها أثقالها الدّيم
ترنو العيون إليها والشفاه فيجنين ... العلا وهي إلاّ منهما حرم
تفترّ عن شبل عّباد ولا عجبّ ... فالأسد تفترّ عنها الروض والأجم
ومن أخرى:
بدوية ضربت على حجراتها ... أيدي العريب من القنا أسداداً
ممّن يعد الوحش أهلاً والفلا ... وطناً وأكباد الأعادي زادا
قالت وقد صّبت عليّ ذراعها ... فتمكّنت فوق النجاد نجادا
أوهي قناتك بعدنا حمل القنا ... فطفقت تحمل منآدا
يا هذه منن الوزير جفونه ... وإذا شكوت إليه عاد فزادا
صابت عليّ يمينه فكأنّما ... صابت عليّ يمينه حسّادا
فالعزّ ضيف لا يراه بربعه ... من لا يرى بذل التلاد تلادا
والجود أعلى كعب وكعب قبلنا ... فمضى جواداً يوم مات جوادا
أغرت يمين ابن الأمين وفيضها ... بفنائه الورّاد والروادا
ودعت بني الآمال من أوطانهم ... فاستوطنوا الأكوار والأقتادا
ومن قصيدة في أبي علي الحسن بن أحمد:
لأخت بني نمير في فؤادي ... صدىً أعيا على الماء النمير
ليالي كان عصيان المشير ... ألذّ لديّ من رأي مشور
وينظمنا العناق ولا رقيب ... يروّعنا سوى القمر المنير
وغشّتني بمثل الكرم وحف ... وبت أعلّ من أشهى الخمور
ولا كرم سوى شعر أثيث ... ولا خمر سوى خمر الثغور
أروضتنا سقاك الله هل لي ... إلى أفياء دوحك من مصير
غنينا في ذراك على غناء ... يوافق رجعه سج الطيور
وكم في فرع أثلك من صفير ... وكم في أصل أثلك من زفير
وأحشاء تؤلّفها الحشايا ... كتأليف العقود على النحور
وشدو ترقص الأعضاء منه ... ويمّ لا يملّ عراك زير
فيا لك روضة راحت فراحت ... رضى الأبصار من نور و نور
أطاعتها عيون الغيث حتى ... جزتها الشكر ألسنة الشكور
كسون ظهورها ما تكتسيه ... بطون الصحف من فكر الوزير
إذا الحسن بن أحمد زفّ خيلاً ... يلفّ بها السهول على الوعور
عرائس تحمل الفرسان شوساً ... كعقبان تمطّى بالصقور
فقل في حومة تعطى بنيها ... ببيض الهند بيضات الخدور
أولئك معشر لهم نفوس ... تكلّفهم جسيمات الأمور
شعاب المجد سابلة عليهم ... ومن ينهى الشعاب عن البحور
ومن أخرى:
لله ما جمعت على عشّاقها ... تلك العيون ولحظها السّحار
فصفاحها أحداقها ورماحها ... ألحاظها وطعانها الآثار
وحرابها في حربها لمحبّها ... أهدابها وشفارها الأشفار
سارت أمامة فيك سيرة أهلها ... في كلّ من نمّت عليه نار
قوم إذا ابتسم الصباح أغاروا ... في كلّ حّي أنجدوا أم غاروا
يا هذه هلاّ علقت فعالهم ... فيمن عنوا بجواره فأجاروا
لن يستجيب خمارها لمحّبها ... حتى يخاض إلى الخمار غمار
بكرت يشيعها القنا الخطّار ... وتعيث في طلابها الأخطار
قالوا سيوجدك الربيع صفاتها ... فلحسنه من حسنها تذكار
فوجدت حّبي مكرهاً في فعله ... وكلاهما في فعله مكّار
يبكي ويضحك والدموع غزيرة ... ويبين في استغرابه استعبار
فكأنّه هي إذ تفيض دموعها ... بين البكاء والضحك حين تغار
عبقت بما علقته من أنفاسها ... ساعاته فكأنّها أسحار (1/493)
وتبلّجت آصاله وتبرجت ... فكأنّما أبكاره الأبكار
أنظر إلى النيروز كيف تسوقه ... سحب كأجفان المحبّ غزار
سحب متى سحبت على هام الرّبى ... أذيالها فغبارها الأمطار
فالأرض أرض والسماء كأنّها ... روض ولكن زهرها الأزهار
ومصرعّين من الخمار وما بهم ... غير السرور على السرور خمار
جمحوا على الفلك المدار فكأسهم ... فلك بما تهوي النفوس مدار
ولأهم الأستاذ مولانا المنى ... فترشفوا من عيشهم ما اختاروا
يا دولة الحسن بن أحمد خّيمي ... ما طارد الليل البهيم نهار
ومنها في وصف القلم:
لما زممت الدهر عن أفعاله ... فله بأثناء الزّمام عثار
حمّلت عب الدهر أظمى مخطفاً ... تعنو له الأسماع والأبصار
وسيرت غور الدين والدينا به ... فكأنه من ضمر مسبار
أعجب به يجري على يافوخه ... رهواً وتجري تحته الأقدار
فكأنّه الفلك المدار بعينه ... وسعوده ونحوسه أطوار
جمعته والرمح الأصمّ ولادة ... وله من السيف الصقيل غرار
وله من أخرى في أبي العباس الضبي:
وإنّي وأفواف القريض أحوكها ... لأشعر من حاك القريض وأقدرا
كما تضرب الأمثال وهي كثيرة ... بمستبضع تمراً إلى أهل خيبرا
ولكّنني أملت عندك مطلباً ... أنكًبه عمّن ورائي من الورى
ألم تر أنّ ابن الأمير أجارني ... ولم يرض من أذرائه لي سوى الذري
وأوطأني الشعري بشعري منعّما ... ليفطمني عن خلق السير والسّرى
ولي أمل شدّت قواي عداته ... ثلاثة أعوام تباعاً وأشهرا
عدا الدهر عنه كي يفوز بشكره ... فكن عند ظنّي شافعاً ومذكرا
ومن أخرى:
أصبيحة النيروز خير صبيحة ... حييت بها الأنواء و الأنوار
فبكلّ شعب روضة معطار ... تفترّ عنها ديمة مدرار
ماست بها الأفنان في أسحارها ... نشوى فماست تحتها الأشجار
وتبرّجت أزهارها وتبلّجت ... فكأنّما أزهارها أبصار
وتحدّثت عنها الرياض كأنّما ... بين الرياض، ولا سرار وسرار
وعصابة للروض من قسماتهم ... روض ومن أنوارهم نوّار
يتذاكرون على علاك فتلتقي الكاسات ... والأوتار والأشعار
؟؟؟؟؟؟أبو هاشم العلوي الطبري هو الذي يقول فيه الصاحب:
إنّ أبا هاشم يد الشرف ... مادحه آمن من السرف
حلّ من المجد في أواسطه ... وخلّف العالمين في طرف
وأبو هاشم هو القائل:
وإذا الكريم نبت به أيامه ... لم ينتعش إلاّ بعون كريم
فأعن على الخطب العظيم فإنّما ... يرجى الكريم لدفع كلّ عظيم
وكتب إليه الصاحب، وقد اعتل:
أبا هاشم
ما لي أراك عليلاً ... ترفّق بنفس المكرمات قليلاً
لترفع عن قلب النبي حزازةً ... وتدفع عن صدر الوصي غليلاً
فلو كان من بعد النبيين معجزّ ... لكنت على صدق النبيّ دليلاً
وكتب أبو هاشم إلى الصاحب:
دعوت إله الناس شهراً مجرّماً ... ليدفع سقم الصاحب المتفضل
إلى بدني أو مهجتي فاستجاب لي ... فها أنا مولانا من القسم ممتلي
فشكراً لربّي حين حوّل سقمه ... إليّ وعافاه ببرء معجّل
وأسأل ربّي أن يديم علاءه ... فليس سواه مفزع لبني علي
فأجابه الصاحب:
أبا هاشم لم أرض هايتك دعوة ... وإن صدرت عن مخلص متطوّل
فلا عيش لي حتّى تدوم مسلّماً ... وصرف الليالي عن ذراك بمعزل (1/494)
فإن نزلت يوماً بجسمك علّة ... وحاشاك فيها يا علاء بني علي
فناد بها في الحال غير مؤخر ... إلى جسم إسماعيل دوني تحولّي
وأطال الله بقاء مولاي الشريف ما علمت، ولو علمت لعدت. أغناه الله بحسن العادة عن العيادة، وهو حسبي.
ولأبي هاشم في فخر الدولة:
يا فلك الأرض وبحر الورى ... وشمس ملك ما لها من مغيب
دعوت مولاك بنيل المنى ... وقد أجاب الله وهو المجيب
فقال خذ ما شئت مستولياً ... ودبّر الدينا برأي مصيب
يا من كتبنا فوق أعلامه ... نصر من الله وفتح قريب
الباب العاشر
في ذكر الأمير السيد
شمس المعالي قابوس بن وشمكير
وإيراد نبذ مما أسفر عنه طبع مجده، وألقاه بحر علمه، على لسان فضله.
أختم بها الجزء الثالث من كتابي هذا، بذكر خاتم الملوك، وغرة الزمان، وينبوع العدل والإحسان، ومن جمع الله له إلى عزة الملك بسطة العلم، وإلى فصل الحكمة نفاذ الحكم. فأوصافه لا تدرك بالعبارات، ولا تدخل تحت العرف والعادات. وإلى أن أعمل كتاباً في أخباره وسيره، وذكر خصائصه ومآثره، التي تفرد بها عن ملوك عصره. فإني أتوج هذا الكتاب بلمع من ثمار بلاغته التي هي أقل محاسنه ومآثره. وأكتب فصولاً من عالي نثره، مختومة ببعض ما ينسب إليه من شريف نظمه.
ما يجري مجرى الأمثال من كلامه
الكريم إذا وعد لم يخلف، وإذا نهض لفضيلة لم يقف الرجاء كنوز في كمام، والوفاء كنوز في ظلام، ولابد للنور أن يتفتح، وللنور أن يتوضح العفو عن المجرم من مواجب الكرم، وقبول المعذرة من محاسن الشيم بزند الشفيع تورى القداح، ومن كف المفيض ينتظر فوز القداح الوسائل أقدام ذوي الحاجات، والشفاعات مفايتح الطلبات من أقعدته نكاية الأيام، أقامته إغاثة الكراممن ألبسه الليل ثوب ظلمائه، نزعه عنه النهار بضيائه قوة الجناح بالقوادم والخوافي، وعمل الرماح بالأسنة والعوالي اقتناء المناقب، باحتمال المتاعب، وإحراز الذكر الجميل، بالسعي في الخطب الجليل الدينا دار تغرير وخداع، وملتقى ساعة لوداع، وأهلها متصرفون بين ورد وصدر، وصائرون خبراً بعد أثر غاية كلّ متحرك سكون. ونهاية كل متكوّن أن لا يكون، وآخر الأحياء فناء، والجزع على الأموات عناء، وإذا كان ذلك كذلك، فلم التهالك على هالكحشو هذا الدهر أحزان وهموم، وصفوه من غير كدر معدوم إذا سمح الدهر بالحياء، فأبشر يوشك الانقضاء، وإذا أعار، فاحسبه قد أغار للدهر طعمان حلو ومر، وللأيام صرفان عسر ويسر، والخلق معروض على طوريه، مقسوم الأحوال بين دوريه لكل شيء غاية ومنتهى، وانقطاع وإن بعد المدى ترك الجواب، داعية الارتباب، والحاجة في الاقتضاء، كسوف في وجه الرجاء هم المنتظر للجواب ثقيل، والمدى فيه وإن كان قصيراً طويل النجيب إذا جرى لم يشق غباره، والشهاب إذا سرى لم تلحق آثاره، من أين للضباب، صوت السحاب، وللغراب هوى العقاب هيهات أن تكتسب الأرض لطافة الهواء، ويصير البدر كالشمس في الضياء كل غم إلى انحسار، وكل عال إلى انحدار.
فصل - يستحسن الشيخ أن يخرس عنه ألسنة الحمد، وتلتوي عليه حواجب المجد، فقد احتجب صبح ذلك الأمر. وصار مطلوباً في ليلة القدر فإن كان أنزله من قلبه ناحية النسيان. وباع جليل الربح به في سوق الخسران فيستحي له فضله من فعله، وكفى به نائباً عني في عذله، وإن كان لعذر دعاه إلى التواني، فقد أربي ذلك على سير السواني وكلا فإن كرمه يراوده عن أشرف الخصال، ويأبى له إلا محاسن الأفعال.
فصل - عاد فلان وقد علته بشاشة النجاح، ودبت فيه نشوة الاريتاح، تلوح مسرة اليسر على جبينه، وتصيح بانقضاء العسر أسرة يمينه.
فصل - وأما إعجاب ذلك الفاضل بالفضول التي عرضتها عليه، فلم يكن على ما أحسبه إلا لخلة واحدة وهي أنه وجد فناً في غير أهله فاستغربه، وفرعاً في غير أصله فاستبدعه. وقد يستعذب الشريب من منبع الزعاق، ويستطاب الصهيل من مخرج النهاق. ولكنك فيما أقدمت عليه من بسط اللسان بحضرته، وإرخاء العنان فيه بمشهده كنت كمن صالت بوقاحته الحجر، وحاسن بقباحته القمر. ولا كلام فيما مضى، ولا عتب فيما اتفق.
فصل - وجرى توقيع له قبيح بمن تسمو همته، إلى قصد من تغلو عنده قيمته، أن تكون على غيره عرجته، أو إلى سوى بيته زيارته وحجته. (1/495)
ومن مشهور ما ينسب إليه من الشعر، قال:
قل للذي بصروف الدهر عَّيرنا ... هل حارب الدهر إلاّ من له خطر
أما ترى البحر تعلو فوقه جيف ... ويستقرّ بأقصى قعره الدرر
فإن تكن نشبت أيدي الزمان بنا ... ونالنا من تمادي بؤسه الضرر
ففي السماء نجوم ما لها عدد ... وليس يكسف إلا الشمس والقمر
كأنه ألمّ فيها بقول ابن الرومي:
دهر علا قدر الوضيع به ... وترى الشريف يحطّه شرفه
كالبحر يرسب فيه لؤلؤة ... سفلاً، وتعلو فوقه جيفه
ومثله:
بالله لا تنهضي يادولة السفل ... وقصري فضل ما أرخيت من طول
أسرفت فاقتدي جاوزت فانصرفي ... عن التهور ثم أمشي على مهل
مخدّومون ولم تخدم أوائلهم ... مخوّلون وكانوا أرذل الخول
وينسب له هذان البيتان، وقد يغنّى بها:
خطرات ذكرك تستثير مودّتي ... فأحسن منها في الفؤاد دبيبا
لا عضو لي إلا وفيه صبابة ... فكأنّ أعضائي خلقن قلوباً
هذا آخر القسم الثالث من كتاب يتيمة الدهر، في محاسن أهل العصر حسب تقسيم المؤلف رحمه الله تعالى، ويليه القسم الرابع في محاسن أهل خراسان وما رواء النهر نسأل الله تعالى أن يعين على إكماله بمنه وفضله
القسم الرابع
في محاسن أشعار أهل خراسان وما وراء النهر
من إنشاء الدولة السامانية والغزينة والطارئين على الحضرة ببخاري من الآفاق والمتصرفين على أعمالها وما يستظرف من أخبارهم وخاصة أهل نيسابور والغرباء الطارئين عليها والمقيمين بها
قال مؤلف الكتاب: لما كان أول كتاب مرتهناً بآخره، وصدره موقوفاً على عجزه، ولم تكد تحصل تمام الفائدة في فاتحته وواسطته، إلا عند الفراغ من خاتمته، واستعنت الله تعالى على عمل هذا الرابع الرابع منه، وأخرجته في عشرة أبواب، والله سبحانه الموفق للصواب.
الباب الأول
اخبار واشعار السابقين قريبي العهد
في إيراد محاسن وظرف من أخبار وأشعار قوم سبقوا أهل عصرنا هذا قليلاً وتقدموهم يسيرا، ومن أبناء الدولة السامانية، وإنشاء الحضرة البخارية، وسائر شعراء خراسان الذين هم - مع قرب العهد في حكم أهل العصر.
أبو أحمد بن أبي بكر الكاتب
أبوه أبو بكر بن حامد كان كاتب الأمير إسماعيل بن أحمد، ووزير الأمير أحمد بن إسماعيل قبل أبي عبد الله الجبهاني الكبير، وكان أبو أحمد ربيب النعمة، وغذي الدولة، وسليل الرياسة، ومن أول من تأدب وتظرف وبرع وشعر بما وراء النهر وحذا في قرض الشعر حذو أهل العراق، وسار كلامه في الآفاق، وهو القائل:
لا تعجبن من عراقي رأيت له ... بحراً من العلم أو كنزاً من الأدب
وأعجب لمن ببلاد الجهل منشؤه ... إن كان يفرق بين الرأس والذنب
وكان يجري في طريق ابن بسام، ويقفو أثره في عبث اللسان، وشكوى الزمان، واستزادة السلطان، وهجاء السادة والإخوان، ويتشبه به في أكثر الأحوال، وكان ابن بسام هجا أباه وأخاه حتى قيل فيه:
من كان يهجو علياً ... فشعره قد هجاه
لو أنّه لأبيه ... ما كان يهجو أباه
فضرب أبو أحمد على قالبه، ونسج على منواله، حتى قال في أبيه:
لي والد متحامل ... من غير ما جرم عملته
إن لم يكن أشنى إليّ ... من المنون فلا عدمته
وقال في أخيه منصور:
أبوك أبي وأنت أخي ولكن ... أبي قد كان يبذر في السّباخ
تجاريني فلا تجري كجريي ... وهل تجري البيادق كالرخاخ
وكان يرى نفسه أحق بالوزارة من الجبهاني والبلغمي لما له فيها من الوراثة مع التبريز في الأدب والكتابة، ولا يزال يطعن عليهما ويصرح بهجائهما، ولا يوفيهما حق الخدمة والحشمة، حتى أوحشاه وأخافاه فذهب مغاضباً ولجّ وحجّ. ثم أقام ببغداد برهة وحنّ إلى وطنه فعاود بخاري، وحين حصل بقربة يقال لها آمل قال فأحسن:
قطعت من آمل المفازه ... قطعاً به آمل المفازه
ولم ير ببخاري غير ما يكره من إعراض الأمير، واستخفاف الوزير. فلزم منزله، واشتغل باتخاذ الندماء، وعقد مجالس الأنس، والجري في ميدان العزف والقصف، وجعل يتخرق في تبذير ماله، حتى رقت حاشية حاله. وكان مولعاً بشعر العطوي حافظاً لديوانه، مقدماً على نظرائه، كثير المحاضرة بأمثاله وغرره في مخاطبته ومكاتباته، فلقب بالعطوني، وفيه يقول أبو منصور العبدوني وكان من ندمائه مع أبي الطيب الطاهري والمصعبي: (1/496)
أبا أحمد ضيعّت بالخرق نعمةً ... أفادكها السلطان والأبوان
فقد صرت مهتوك الجوانب كلّها ... ولقبت للإدبار بالعطواني
وأفكرت في عود إلى ما أضعته ... وقد حيل بين العير والنزوان
فرأيك في الإدبار رأي أخذته ... وعلّمته من مشية السرطان
ثم إنه تقلد أعمال هراة وبوشنج و باذغيث، فشخص إلى رأس عمله واستخلف عليه أباطلحة قسورة بن محمد واصطنعه ونوه به حتى صار بعده من رؤساء العمال بخراسان، وكان قسورة من أولع الناس بالتصحيفات فقال له أبو أحمد يوماً: إن أخرجت مصحفاً أسألك عنه وصلتك بمائة دينار، قال: أرجور أن لا أقصر عن إخراجه، فقال أبو أحمد: في قشور هيثم حمد، فوقف حمار قسورة وتبلد طبعه وتقشر فلسه، فقال: إن رأى الشيخ أن يمهلني يوماً فعل، فقال: أمهلتك سنة، فحال الحول ولم يقطع شعرة، فقال له أبو أحمد: هو اسمك قسورة بن محمد، فازداد خجله وأسفه، وعلى ذكر أبي طلحة فإنه كان كوسجا وفيه يقول اللحام:
ويك أبا طلحة ما تستحي ... بلغت سبعين ولم تلتحي
ولما استعفى أبو أحمد من عمله وخطب بنيسابور أجيب إلى مراده فمن قوله بنيسابور وقد طالب العمال أرباب الضياع ببقايا الخراج:
سلام الله منّي كلّ يوم ... على كتّاب ديوان الخراج
يرومون البغايا في زمان ... عجرنا فيه عن مال الزواج
وبلغه أن الساجي هجاه بالحضرة فقال:
إنّا أناسّ إذا أفعالنا مدحت ... أنسابنا فهجينا لم نخف عارا
وإن هجونا بسوء الفعل أنفسنا ... فليس يرفعنا مدح وإن سارا
وقال للجبهاني:
أيها السيد الرئيس ومن ليس ... عليه فضلاً ونبلاً قياس
أنت سهل الطباع مرتفع القدر ... ولكن منادموك خساس
ومن هجائه قوله فيه:
يا ابن جبهان لا وحقّك لا تصلح ... فاغضب أو فارضين بالحراسة
عجباً للجميع إذ نصّبوا مثلك ... في صدر ملكهم للرياسه
ولو أنّ التدبير والحكم في الخلق ... على العدل ما وليت كناسه
ومن أمثاله السائرة قوله:
إذا لم يكن للمرء في دولة امرىء ... نصيب ولا حظّ تمنّى زوالها
وما ذاك من بغض لها غير أنّه ... يرجي سواها فهو يهوى انتقالها
ومن قوله:
إني وجعفر بعد ما جرّبته ... وبلوت في أحواله أخلاقه
كمعيد شكّ في خرا قد شمّه ... فأراد معرفة اليقين فذاقه
وقوله:
أحسن إذا أحسن الزمان ... وصحّ منه لك الضمان
بادر بإحسانك الليالي ... فليس من غدرها أمان
وكتب إلى أبي نصر بن أبي حبة يستزيره فلم يجبه واعتذر بعلة فكتب إليه أبو أحمد:
تعاللت حين أتاك الرسول ... وليس كذاك يكون الوصول
وأقسم ما نابك من علة ... ولكن رأيك فينا عليل
ومما يستحسن لأبي أحمد قوله:
اختر لكأسك ندماناً تسّربهم ... أولا فنادم عليها جلّة الكتب
فالأنس بين ندامى سادة نجب ... منزّهين عن الفحشاء والرّيب
هذا يفيدك علماً بالنجوم وذا ... يأتيك بالخير المستظرف العجب
وبين كتب إذا غابوا فأنت بها ... في أنزه الروض بين العلم والأدب
إذا أنست ببيت مرّ مقتضب ... أفضى إلى خبر يلهيك منتخب
ويكمل الأنس ساق مرهف غنج ... يسعى بياقوتة سلّت من العنب
فأنت من جدّ ذا في منظر أنق ... وأنت من هزل ذا في مرتع خصب
وخير عمر الفتى عمر يعيش به ... مقسّم الحال بين الجدّ واللعب (1/497)
فحظّ ذلك من علم ومن أدب ... وحظّ هذا من اللّذات والطرب
وحكي أن أبا حفص الفقيه عاتب يوماً أبا أحمد على لبسه الخاتم في يمينه.
فقال أبو أحمد: إن فيه أربع فوائد: إحداها: السنة المأثورة من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يتختم في اليمين، وكذلك الخلفاء الراشدون بعده إلى أن كان من أمر صفين والحكمين ما كان حين خطب عمرو بن العاص فقال: ألا إني خلعت الخلافة من علي كخلع خاتمي هذا من يميني وجعلتها في معاوية كما جعلت هذا يساري، فبقيت سنة عمرو بين العامة إلى يومنا هذا.
والثانية من كتاب الله تعالى، وهي قوله لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ومعلوم أن اليمين أقوى من اليسار، فالواجب أن يكلف حمل الأشياء الأقوى دون الأضعف.
والثالثة من القياس، وهو أن النهي عن الاستنجاء باليمين صحيح، والأدب في الاستنجاء باليسار، ولا يخلو نقش خاتم من اسم الله تعالى، فوجب تنزيهه عن مواضع النجاسة.
والرابعة: أن الخاتم زينة الرجال واسمه بالفارسية انكشت أراى فاليمين أولى به من اليسار.
ولما عاود أبو أحمد بخاري من نيسابور، وورد على ماله كدر وأسباب مختلفة وقاسي من فقد رياسته وضيق معاشه قذاة عينه، وغصة صدره استكثر من إنشاد بيتي منصور الفقيه، فقال::
قد قلت إذ مدحوا الحياة سرفوا ... في الموت ألف فضيلة لا تعرف
منها أمان لقائه بلقائه ... وفراق كلّ معاشر لا ينصف
وقال في معناهما:
من كان يرجو أن يعيش فإنّني ... أصبحت أرجو أن أموت فأعتقا
في الموت ألف فضيلة لو أنّها ... عرفت لكان سبيله أن يعشقا
وواظب على قراءة هذه الآية في آناء ليله ونهاره وإذ قال موسى لقومه ياقوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم فقال بعض أصدقائه: إن لله، قتل أبو أحمد نفسه، فكان الأمر على ما قال، فشرب السم فمات.
أبو الطيب الطاهري
هو طاهر بن محمد بن عبد الله بن طاهر، من أشعر أهل خراسان وأظرفهم وأجمعهم بين كرم النسب، ومزية الأدب، إلا لسانه كان مقراض الأعراض، فلا تزال تخرج من فيه الكلمة يقطر منها دمه، وتتبرأ منه نفسه. وكان وقع في صباه في شرذمة من أهل بيته إلى بخاري فارتبط بها وردت عليه ضياع نفسية للطاهرية فتعّيش بها، وكان يخدم آل سامان جهراً، ويهجوهم سراً. ويطوي على بعض شديد لهم. ويضع لسانه حيث شاء من ثلبهم، وذم وزرائهم وأركان دولتهم، وهجاء بخاري مقر حضرتهم ومركز عزهم.
فحدثني أبو زكريا يحيى بن إسماعيل الحربي قال: سمعت أبا عبد الله محمد بن يقعوب الفارسي يقول في يوم من أيام وروده نيسابور على ديوانها: إن أصحاب أخبار السر كانوا ينهون إلى كل من الأميرين الشهيد والسعيد في أيامهما ما يقدم عليه هذا الطاهري من هجائهما، فيغضبان عليه ويهبان جرمه لأصله وفضله، ويتذممان من قتل مثله، فدخل يوماً على السعيد نصر بن أحمد فهش له وبسطه وحادثه ثم قال له في عرض الحديث: يا أبا الطيب حتى متى تأكل خبزك بلحوم الناس؟ فنكس رأسه حياء، ثم قام يجر ذيل خجل ووجل. ولم يعد لعادته في التولع به قال أبو زكرياء: ومما يحكى من كلمات السعيد الوجيزة الدالة على فضله وكرمه قوله لأبي غسان التميمي وقد حمل إلى حضرته في يوم المهرجان كتاباً من تأليفه: ما هذا يا أبا غسان؟ قال: كتاب أدب النفس، قال: فلم لا تعمل به؟ وكان أبو غسان من الأدباء الذين يسيئون آدابهم في المجالس.
ومن ملح هجاء أبي الطيب للشهيد قوله:
طال غزو الأمير للبطّ حتى ... ما له عن عداته إقفال
فهنيئاً له هنيئاً مريئاً ... كلّ قرن لقرنه قتّال
وقوله:
بخارى من خرى لا شك فيه ... يعزّ بربعها الشيء النظيف
فإن قلت الأمير بها مقيم ... فذا من فخر مفتخر ضعيف
إذا كان الأمير خرا فقل لي ... أليس الخر ء موضعه الكنيف
وهو أول من هجا بخاري وذمها ووصف ضيقها ونتنها، حتى اقتدى به غيره في ذكرها، فقال أبو أحمد بن أبي بكر:
لو الفرس العتيق أتى بخاري ... لصار بطبعه فيها حماراً
فلم تر مثلها عيني كنيفاً ... تبوّاه أمير الشرق داراً (1/498)
وقال، ويروى لأبي الطيب:
بخاري كلّ شيء ... منك يا شوهاء مقلوب
قضاة الناس ركّاب ... فلم قاضيك مركوب
وقال أبو منصور العبدوي:
إذا ما بلاد الله طاب نسيمها ... وفاحت لدى الأسحار ريح البنفسج
رأيت بخارى جيفة الأرض كلّها ... كأنّك منها قاعد وسط مخرج
فيا رب أصلح أهلها وانف نتنها ... وإلاّ فعنها ربّ حوّل وفرّج
وقال أبو منصور الخزرجي، ويروى لأبي أحمد:
فقحة الدينا بخاري ... ولنا فيها اقتحام
ليتها تفسو بنا الآ ... ن فقد طال المقام
وقال الغربيامي:
ما بلدة منتنة من خرا ... وأهلها في جوفها دود
تلك بخارى من بخار الخرى ... يضيع فيها الندّ والعود
وقال أبو علي الساجي:
باء بخارى فاعلمن زائده ... والألف الأولى بلا فائده
فهي خرا محض وسكانها ... كالطير في أقفاصها آبده
وقال الحسن بن علي المروروذي:
أقمنا في بخارى كارهنيا ... ونخرج إن خرجنا طائعينا
فأخرجنا إله الناس منها ... فإن عدنا فإنا ظالمونا
وقوله من قصيدة:
أودى ملوك بني ساسان وانقرضوا ... وأصبح الملك ما ينفكّ ينتقص
أضحت إمارتهم فيهم وجوهرهم ... عبيدهم وهم في عرضها عرض
فليبك من كان منهم باكياً أبداً ... فما لما فاتهم من ملكهم عوض
من لأن مرقده فالدهر مبدله ... عنه فراشاً له من تحته قضض
هاتيك عادته فيمن تقدّمهم ... وكلّ مرتفع يوماً سينخفض
دعهم إلى سقر واشرب على طرب ... فالفجر في الأفق الغربي معترض
غدا الربيع علينا والنهار به ... يمتدّ منبسطاً والليل منقبض
والنور يضحك في خضر البنان ضحى ... والبرق مبتسمّ والرعد مؤتمض
وقوّضت دولة قد كنت أكرهها ... وزال ما كان منه الهمّ والمرض
إن أنت لم تصطبح أو تغتبق فمتى ... الآن بادر فإنّ اللهو مفترض
ومن عجبيب ما يحكى عن أبي الطيب أنه كتب إلى أخيه أبي طاهر الطيب بن محمد بن طاهر بكرة يوم الرام بهذين البيتين:
وإنّي والمؤذن يوم رام ... لمختلفان في هذه الغداة
أنادي بالصبوح كه كياداً ... إذا نادى بحيّ على الصلاة
وإذا برسول أبي طاهر جاءه قبل وصول رقعته برقعة فيها:
وإنّي والمؤذن يوم رام ... لمختلفان في هذا الصباح
أنادي بالصبوح كه كياداً ... إذا نادى بحيّ على الفلاح
وكان التقاء رسوليهما بالرقعتين في منتصف الطريق.
ومن سائر شعر أبي الطيب قوله في السعيد نصر بن أحمد:
قديماً جرت للناس في الكتب عادة ... إذا كتبوها أن يعادلها الصدر
وأول هذا الأمر كان افتتاحه ... بنصر وإن ولّى فآخره نصر
ومما يستحسن من شعره ويغني به ويقع في كل اختيار قوله:
خليليّ لو أنّ همّ النفوس ... دام عليها ثلاثاً قتل
ولكن شيئاً يسمّى السرور ... قديماً سمعنا به ما فعل
وناوله غلام له باقة نرجس فقال فيه:
لمّا أطلنا عنه تغميضاً ... أهدى لنا النرجس تعريضاً
فدلّنا ذاك على أنّه ... قد اقتضانا الصفر والبيضا
ومن ملحه قوله في الجبهاني من ضادية:
تقلّدت بالوسواس صرفاً وزرتناً ... فزدت بها تيهاً عليّ عريضا
ولست بزاو عنك وداً عهدته ... ولا قائل ما عنه مريضاً
فما كان بهلول مع الشتم والخناق ... وقذف النساء المحصنات بغيضا
وقوله في معناه:
ولست بشيء من جفائك حافلاً ... ولا من أذىً جرعتنيه مغيظا
فأطيب أحوال المجانين ما رموا ... وزنّوا وعاطوك الكلام غليظا
وكان أبو ذر الحاكم البخاري عرضة لهجائه فقال فيه من قصيدة:
أفّ للدهر أفّ له ... قد أتانا بمعضلة (1/499)
بأبي ذّر الذي ... كان ملقى بمزبله
كلما بات ليلةً ... وإسته فيه مهمله
بات يقرا إلى الصبا ... ح وبئر معطّله
وقوله في ابنه:
لأبي ذّر بنّي ... طفس لا كان ذا ابنا
فهو لا يقرأ من القر ... آن إلاّ والناس
وقوله في غيرهما:
طلحة يا كبرائي ... سلحة في الأمراء
إن شاهاً أنت فرز ... ان له بادي العراء
أبو منصور الطاهري
لم يرث الفضل والشعر عن كلالة، وهو القائل:
بكيت لفقد الوالدين ومن يعش ... لفقدهما تصغر لديه المصائب
فعزّيت نفسي موقناً بذهابها ... وكيف بقاء الفرع والأصل ذاهب
ومن أحسن ما سمعت في المعنى نثراً قول بعض الحكماء لرجل مات أبوه وابنه: لقد مات أبوك وهو أصلك. ومات ابنك وهو فرعك، فما بقاء شجرة ذهب أصلها وفرعها؟! ومما يستجاد لأبي منصور قوله:
شيئان لو أن ليثاً يبُتلى بهما ... في غيله مات من همِّ ومن كمد
فقد الشباب الذي ما إن له عوضٌ ... والبعد بالرغم عن أهلٍ وعن ولد
وهو مأخوذ من قول الآخر:
شيئان لو بكت الدماء عليهما ... عيناي حتى يؤذنا بذهاب
لم يقضيا المعشار من حقيهما ... شرخ الشباب وفرقة الأحباب
وقد ملح أبو منصور في قوله:
أقول وقد رأيت له خواناً ... له من لحظ عينيه خفير
أرى خبزاً وبي جوعٌ شديدٌ ... ولكن دونه أسدٌ مزير
ومثله للرشيد وقد رأى جارية سكرى فراودها، فقالت: إن أباك ألم بي، فكف عنها، وقال:
أرى ماءً وبي عطشٌ شديدٌ ... ولكن لا سبيل إلى الورود
أبو الحسين محمد بن محمد المرادي
كان شاعر بخارى وله شعر كثير مدون، ومن مشهور أخباره أن السعيد نصر بن أحمد ركب يوماً للضرب بالصوالجة، فجاءت مطرة رشت السهلة، ولما قضى وطره وأقبل إلى الدار تصدى له المرادي فأنشد:
أشهد أنّ الأمير نصرا ... يخدمه الغيث والسحاب
رشّ تراب الطريق كي لا ... يؤذيه في الموكب التراب
لا زال يبقى له ثلاث ... العزّ والملك والشباب
فأمر له بثلاثة آلاف درهم، وقال: لو زدت لزدناك، وكان المرادي ينشد لنفسه:
إنما همّي كسيره ... وإدام من قديره
وخميره في زكيره ... بلغتي منها سكيره
وصبيح أو قبيح ... قد كفى جلد عميره
ودنينيرّ لدينا ... بات في ضمن صريره
من رأى عيشي هذا ... عاش لا يطلب غيره
ثم يقرأ على أثرها تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين.
وورد نيسابور لحاجة في نفسه فرأى من أهلها جفاء فقال:
لا تنزلنّ بنيسابور مغترباً ... إلاّ وحبك موصول بسلطان
أو لا فلا أدب يغني، ولا حسب ... يجدي، ولا حرمة ترعى لإنسان
وقال:
قال المراديّ قولاً غير متّهم ... والنصح ما كان من ذي اللبّ مقبول
لا تنزلنّ بنيسابور مغترباً ... إن الغريب بنيسابور مخذول
وقال من المصعبي:
أرى صحبة الأشراف صعباً مرامها ... وصحبة هذا المصعبيّ فأصعب
يذلّلني فيما يروم اكتسابه ... فأستام عزّاً بالمذلة يكسب
وقال في موت أبي جعفر الصعلوكي:
وقد تلفت نفسه الدنّيه ... ما كان أولاه بالمنيّه
ما أخطأ الموت حين أفنى ... من كان ميلاده خطّيه
وقال لأبي علي الصاغاني من قصيدة:
لم ألق غيرك إلا ازددت معرفةً ... بأنّ مثلك في الآفاق معدوم
أرى سيوفك في الأعداء ماضيةً ... ركنّ الضلال بها ما عشت مهدوم
يهمي الندى والردى من راحيتك فلا ... عاصيك ناج ولا راجيك محروم
وقال في بكر بن مالك:
قلّد الجيش سّيد ... وهو جيش على حده
يد بكر وسيفه ... ويده الله واحدة (1/500)
ومن ملحه وظرفه قوله:
هل لكم في مطفل ... شربه شرب قبره
لو رأى في جواره ... خيط زقّ لأسكره
ولما احتضر أنقذ إليه الجبهاني يثاباً للكفن. فأفاق، وأنشأ يقول:
كساني بنو جبهان حياً وميتاً ... فأحييت آثاراً لهم آخر الزمن
فأول برّ منهم كان خلعةً ... وآخر برّ منهم صار لي كفن
ثم أغمي عليه ساعة فأفاق وقال:
عاش المراديّ لأضيافه ... فصار ضيفاً لإله السما
والله أولى بقرى ضيفه ... فليدع الباكي عليه البكا
ثم كان كأنه سراج انطفأ.
أبو منصور العبدوني، أحمد بن عبدون
من أظهر كتاب بخارى تحصيلاً، وأظرفهم جملة وتفصيلاً، وكان ريحانة الندماء، وشمامة الفضلاء، ونارنج الظرفاء، وله شعر عذب المذاق حلو المساغ في نهاية خفة الروح، وقد تقدمت له أبيات، وبلغني أن صديقاً له كتب إليه يستعيو منه دابة ويقول:
أردت الركوب إلى حاجة ... فمن لي بفاعلة من دببت
فوقع تحت البيت:
برذوننا يا أخي عامرّ ... فكن بأبي فاعلاً من غدوت
وقال في صاحب ديوان يطيل المكث فيه:
أقسم بالله وآياته ... أنّك في الثقل رحى بزر
وذا كما قلت وإلاّ فلم ... تقعد في الدار إلى العصر
والناس قد أخلوا دواوينهم ... وانصرف الطير إلى الوكر
وقال:
أكتاب ديوان الرسائل ما لكم ... تجمّلتم بل متّم بالتجمّل
وأرزاقكم لا تستبين رسومها ... لما نسجتها من جنوب وشمال
إذا ما شكا الإفلاس والضرّ بعدكم ... يقولون لا تهلك أسىً وتجمّل
خلقتم على باب الأمير كأنّكم ... قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
وقال في أبي نصر بن أبي حبة، وكان من تلامذته:
يا قوم إنّ ابن أبي حبّه ... قد سبق الكتّاب في الحلبة
وأدخل الكتّاب من حذقه ... في الكوز والجرّة والدّبة
وقال في كتاب أدب الكتاب لابن قتيبة:
أدب الكتاب عندي ... ما له في الكتب ندّ
ليس للكاتب منه ... إن أراد العلم بد
وقال:
عنقي يا قوم كانت ... عند شربي الراح عبله
فتركت الشرب أياً ... أماً على عمد لعلّه
فانحنى الظهر وذاب الجسم ... في أيسر مهله
وحدثني أبو سعيد عن بعض مشايخ الحضرة، وقد ذهب على اسمه، أن مجلساً للأنس جمع يوماً جماعة من أفاضل بخاري كأبي أحمد بن أبي بكر والطاهر والمصعبي والخزرجي والعبدوني وفيهم فتى من أهل أشروسنه يسمى يشكر أحسن من نعم الله المقبلة، ومن العافية في البدن، فأفضى به الحديث إلى رواية الأهاجي، وطفق كل واحد منهم يروى أجود شعره في الهجاء، فقال بعض الحاضرين إن هجاء من هجوتموه ممكن معرض، فهل فيكم من يهجو هذا الفتى، يعني يشكر، فقالوا: لا والله ما نقدر على هجائه، وليت شعري أيهجي خلقه أم اسمه، فارتجل العبدوني أبياتاً منها:
ويشكر و يشكر من ناكه ... ويشكر لله لا يشكر
فتعجبوا من سرعة خاطره في ذم مثله، واشتقاقه الهجاء من اسمه وأقروا له بالبراعة، وحين رأى خجل الفتى لما بدر من هجائه إياه من غير قصد أخرج من يديه زوجي خاتم ياقوت وفيروزج وأعطاهما إياه، وقال: هذا بذلك.
أبو الطيب المصعبي محمد بن حاتم
كان في جميع أدوات المعاشرة والمنادمة وآلات الرياسة والوزارة على ما هو معروف مشهور، وكانت يده في الكتاب ضرّة البرق، وقلمه فلكي الجري، وخطه حديقة الحدق، وبلاغته مستملاة من عطارد، وشعره باللسانين نتاج الفضل، وثمار العقل، ولما غلب على الأمير السعيد نصر بن أحمد بكثرة محاسنه ووفور مناقبه ووزر له مع اختصاصه بمنادمته لم تطل به الأيام حتى أصابته عين الكمال، وأدركته آفة الوزارة، فسقى الأرض من دمه.
ومن مشهور شعره وسائر قوله:
إختلس حظّك في ديناك من أيدي الدهور
واغتنم يوماً ترجّيه بلهو وسرور
واصنع العرف إلى كلّ كفور وشكور
لك ما تصنع والكفران يزري بالكفور
وقوله في ذم الشباب: (2/1)
لم أقل للشباب في كنف الله وفي ستره غداة استقلاً
زائر زارنا مقيم إلى أن ... سوّد الصّحف بالذنوب وولّى
وقوله في غلام أعجمي:
بأبي من لسانه أعجميّ ... وأرى حسنه فصيح الكلام
ويروى له ما كتب به إلى بعض إخوانه:
غبت فلم يأتني رسول ... ولم يقل علّه عليل
هيهات لو كنت لي خليلاً ... فعلت ما يفعل الخليل
وله:
اليوم يوم بكور ... على نظام سرور
ويوم عزف قيان ... مثل التمايثل حور
ولا تكاد جياد ... تروى بغير صفير
ووقع في كتاب:
قد قلت لما أن قرأت كتابكم ... عض الملل ببظر أم الكاتب
أبو علي الساجي
من فضلاء المقيمين ببخارى، ووجوه المتصرفين بها، وفيها يقول في غلام تركي:
لا سمرة، لا بياض فيه، لا سمن ... ولا هزال، ولا طول ولا قصر
ذو قامة قام فيها عذر عاشقها ... وصورة قبحت مع حسنها الصور
ويقول:
أنا بالحضرة واقف ... للتعازي والتهاني
ولتشييع فلان ... والتلقّي لفلان
وله في مرو:
بلد طّيب وماء معين ... وثرى طيبه يفوق العبيرا
وإذا المرء قدّر السير عنه ... فهويناه باسمه أن يسيرا
وله:
لا تأس من دينا على فائت ... وعندك الإسلام والعافية
إن فات شيء كنت تسعى له ... ففيهما من فائت كافيه
وله:
لست أدري ماذا أقول ولكن ... أبتغي من عريض جاهك نفعاً
والفتى إن أراد نفع أخيه ... فهو يدري في أمره كيف يسعى
أبو منصور الخزرجي
أديب شاعر في المرتبطين الذين كانوا ببخارى مع أبي غسان التميمي والبوشنجي والكسروي وأضرابهم من الأفاضل، كتب إلى أبي أحمد بن أبي بكر في أوائل شهر رمضان قصيدة منها:
الصوم ضيف ثوى فداره ... قد يؤجر العبد وهو كاره
وأحمل على النفس في قراه ... في ليله منك أو نهاره
فإن تجافى على كريم ... برّ حريص على مزاره
فالضيف ماض غداً ومثن ... عليك أن حطت من ذماره
ومن ملحه، ويروي لغيره:
أتدخل من تشاء بلا حجاب ... وكلّهم كسير أو عوير
وأبقى من وراء الباب حتى ... كأنّي خصية وسواي أير
وقال للمصعبي:
يا من تخلّق حتى صار مرتفعاً ... من السماء إلى أعلى مراقيها
لا تأمننّ انحطاطاً وارع حرمتنا ... وانظر إلى الأرض واذكر كوننا فيها
وقال، وأنشديها له أبو زكريا الحربي، وتروى لغيره:
ياذا الكواكب والدوائر ... والعجائب والمجره
أجحفت بالفطن الأريب ... فخاض في الغمرات دهره
يا عرّة في فعله ... أعطيت خيرك كلّ عرّة
أخرفت من طول السّرى ... أم زدت للحركات سرّه
أبو أحمد محمد بن عبد العزيز النسفي
قال في رئيس كان ينام بالنهار ويسهر بالليل:
ينام إذا ما استيقظ الناس بالضّحى ... فإن جنّ ليل فهو يقظان حارس
وذاك كمثل الكلب يسهر ليله ... فإن لاح صبح فهو وسنان ناعس
وقال في أبي علي الصاغاني:
الدار داران للباقي وللفاني ... والخلق كلّهم يكفيهم اثنان
فأحمد لمعاش الناس قاطبةً ... وأحمد لمعاد الناس سيّان
وقال:
إن الرؤوس بإجما ... ع آكليها ثقليه
وحقها شرب صرف ... قصيرة من طويله
أبو القاسم الكسروي
هو أردستاني من أهل أصفهان من الأدباء الطارئين على بخاري والمرتبطين بها، وكان جامعا بين الكتابة والشعر، ضارباً بأوفر السهم في الظرف، وكان يقول: قولي لعدوي أعزه الله إنما أريد اعزه الله حتى لا يوجد في الدينا، وقولي أطال الله بقاك وأدام عزك وتأييدك وجعلني فداك أي من هذا الدعاء كله فصار الدعاء لي دونه.