صدر هذا الكتاب آليا بواسطة الموسوعة الشاملة
(اضغط هنا للانتقال إلى صفحة الموسوعة الشاملة على الإنترنت)


الكتاب : يتيمة الدهر
المؤلف : الثعالبي
مصدر الكتاب : الوراق

[ الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع ]

قناديلا تضيء لها رءوس ... مثقّبة وليس لها جروم
وله في رمانة:
رمانة ما زلت مستخرجاً ... في الجام من حقَّتها جوهرا
فالجام أرض وبناني حياً ... تمطر منها ذهباً أحمرا
وله:
ليس الإناء بحافظ مستودعاً ... إلاّ إذا وقيته بغطاء
فإذا جعلت له الغطاء فإنّه ... بجميع ما استودعت خير إناء
فاحفظ إناءك بالغطاء فإنّه ... لا خير في أرض بغير سماء
وله في الملح المطيب:
لا تدن مني الملح إن شبته ... من الأبازير بألوان
وجهه أبرص ذو غشّة ... بين ثآليلٍ وخيلان
فإنّني أحسب أني متى ... أدنيته مني أعداني
وأته أبيض ما إن له ... في عرصة الصحفة من ثاني
فهو متى أفرد من صاحب ... إدام زهّاد ورهبان
وله في خبز الأبازير:
الملح ما أكثر أبزاره ... لا ملح أهل الزهد والنسك
كأنّ شهدانجه بينه ... حّبات رومي من الفلك
كأنّما الشيونيز من فوقه ... ما نفت الفضة في السبك
كأنّما العنّاب في وجهه ... تنقيط قرآن على الصكّ
بانجدان فضّ من مهرق ... وسمسم قد فضّ من سلك
يشبه من ثني أبا زيره ... إذا تأملناه أو يحكي
سحيق كافور مشوب به ... قراضة العنبر والمسك
وله في الرقاق:
خبز الأبازير مني كلّ من ... بتّرهات الأكل يشتهر
وعندنا منه أتراس من الفضّة ... قد رصّعها الجوهر؟
كأصحن كافور قد حشدت ... وذرّ في أوجهها العنبر
وله في الرقاق:
وخّبازةٍ لا تغذّي الرقاق ... أرتنا من الخبز أمراً عجابا
تناول بيض كتاب العجين ... فتنسخ في الوقت منها ثياباً
وتأتي بها كصفاح الغدير ... قد كّون القطر فيها قباباً
في الجبن و الزيتون:
غرامي بابن المباركة التي ... بها كلّم الله الكليم من الرسل؟
فإن نيط بابن الضرع بعد احتياكه ... وبعد اعتصاره الدهر ما فيه من ملل
رأيت أكفاّ فضّةً وأناملاً ... بهن خضاب حالك اللون ما نصل
وألفيت منها أوجه الروم فوقها ... جعود و شعور الزنج أو حدق المقل
إذا اجتمعا لي لم أمل معهما إلى ... أطايب أنواع الطبيخ ولم أبل
خيلان ضّدان الدجى والضحى معاً ... يضمّهما فتر من الأرض أو أقل
فكلني إلى خدنين ذا وضح الدجى ... نقاءً على أرض الخوان وذا طفل
فهذا خد بالعضاض مؤثر ... وذاك كصدغ حالك فوقه انسدل
وله في البوراني والبطيخ:
لدينا نديم لم يزل طول يومه ... له في المقالي فجّة وفشيش
وضرب من البطيخ في راحتيّ من ... خشونته كلم بها خدوش
تخال ربا النواريج أحدقت ... بها خفيفةً من أن تحفّ جيوش؟
ومن لم يكن في الصيف هاتان عنده ... فكيف يرجّي عمره ويعيش
وله في العجة:
عندي للضيف عجّة شرقت ... بدهنها فهي أعجب العجب
قد عضّت النار وجهها فغدت ... لياسمين بالورد منتقب
وله في الجوذابة:
جوذابة فوارة ... في دهنها المنسكب
كأنّها قد ركبت ... في جامها بلولب
لائحة في أهبها ... آثار عضّ اللهب
كنقرة من فضّة ... في حّقة من ذهب
وله في الشواء السوقي:
طرا طارىء عند العشاء فجئته ... بقرص عضيض من شواء ابن زنبور
تخال قطاع المسك رصّع رصفها ... بفيروزج النعناع في صحن كافور
وله في سمكة مشوية:
ماوية فضّية لحمها ... ألذّ ما يأكله الأكل

(2/37)


يضمُّها من جلدها جوشنٌ ... مذيَّل فهو لها شامل
كوَّنت من فضَّتها عسجداً ... بالقلي لما ضافني نازل
وله فيها:
ماويةٌ في النار مصليةٌ ... يصبغ من فضَّتها عسجد
كأنّما جلدتها جيوش ... من رفن الصنعة أو مبرد
وله في الفاصولياء:
وأسمر قد لفّ السعير إهابه ... ينوء بحجر من ثنياته سمر
إذا ضمّ أنواع السميط وحطّ في ... بعيدة قعر ماؤها لهب الجمر
أتاك بما في ضمنها فكأنّه ... محب كوى أحشاءه ألم الهجر
وله في الهريسة:
هريسة خلتها وقد ملأ الطّباخ منها الإناء ما وسعا
درّاً نثيراً أسلاكه قطع ... في ماء ورد وصندل نقعا
وقال في ماء الخردل:
أتحفوني على الخوان بمقطو ... ب يحاكي في الطعم فقد الأليف
يضحك الكأس منه عن شائب المفرق يبكي من غير ضرب ضيوف
فإذا ذيق أسبلت قطرة منه ... سيولاً من أعين وأنوف
وإذا ما أصغى وعنّي ذوي الأكل تداو منه بشمّ الرغيف
وله في البيض المغلق من الرجز:
وضاحك في البيض من تفصيل ... حبوبه كالجوهر المحلول
زيتونه كالسبح المصقول ... جزره فواصل التنزيل
حمّصه كالدر في التشكيل ... عدسه منتخب الجليل
كخرز محقّق التعديل ... أو ذهب بفضّة قد غولي
ولوبياء كخدود حيل ... أو أعين حذر الحذاق حول
فيها بقايا رمد قليل ... منقّط مزيّن التعسيل
وقال في البيض المغلق من الرجز:
ياقوت ما ضمّهامخنقة ... في درّة في حقه حققه
كأنّها وقد غدت مغلقة ... مذ نشرت أثوابها المرققه
تبر حوته من لجين بوتقه وقال في أقراص السحور من الرجز:
عندي للأكل إذا ... ما قمت للتسحر
ملتوية بسمنها ... بسمسم مقشّر
مثل البدر الطالعا ... ت في صدر الأشهر
أو أوجه الترك إذا ... أثّر فيها الجدري
وله في اللوزينج اليابس:
ولوزينج يشفي السقيم كأنّه ... بنان كفّ بضّة لم تغضن
بعثناه بالقطر الزكي محنطاً ... ليدفن إلاّ أنّه لم يكفّن
وله في اللوزينج الفارسي:
وزنجبيل يعزى إلى الفرس خلته ... بنان عروس في رقاق الغلائل
فإن حملت إحداه خمس حسبتها ... زيادة كفّ بين خمس أنامل
وله في الخبيص:
خبيصة في الجام قد قدّمت ... مدفونة في اللوز والسكر
يأكل من يأكلها خمسةً ... بكفّه فيها ولم يشعر
وله في الفالوزج المعقود:
فالوزج يمنع من نيله ... ما فيه من عقد وإنضاج
يسبح في لجّة ياقوتة ... للّوز حيتان من العاج
كأنّما أبرز من جامه ... ثوب من اللاذ بديباج
وله في مشاش الخليفة:
جمعت حباب الكأس حتى لحقته ... فكونّت منه في الإناء بدورا
فإن لمسته الكأس لمساً لكفّه ... رأيت الذي نظّمت منه نثيرا
في أصابع زبيب:
أحبّ من الحلواء ما كان مشبهاً ... نبات عروس في حبيرٍ معصّب
فما جملت كفُّ الفتى متطعّماً ... ألذُّ وأشهى من أصابع زبيب
وفيها:
وضربٌ من الحلو الذي عزَّ إسمه ... لوجدي بمن يعزى إليه وينسب
يصدّق معناه آسمه فكأنّه ... بنانٌ بأطراف البنان مخضَّب
وله في عدة من المطعومات قال في المزورة:
كم تكون المزورات غذائي ... إن أكل المزورات لزور
وإلي ما يكون أدمي خلّ ... وقليل من البقول يسير
فاحجبوا عنّي الطبيب وقولوا ... أنا بالطب الطبيب كفور
هات أين الكباب أين القلايا ... أين رخص الشواء أين القدير
أنا لا أترك التدّيح ولا البطّيخ والتين أو يكون النشور
وقال في المدية:

(2/38)


وذات شبّ في يديّ قائم ... أمرد ينفي السوء عن قاعد
شّبهتها حين تأمّلتها ... بلحية شدّت إلى ساعد
وله في مجمع الأسنان بما فيه من المحلب والخلال:
أرض من العقيان ... في صورة الطيلسان
الشكل شكل رداء ... والنقش نقش الصواني
بها ثلاث ركايا ... حفت بها بيران
ففي الركايا ثلاث ... رحب ومخنوقتان
من الزجاج القديم المستعمل ... المرواني
وكلّهن ... ملأى بالسعد والأشنان
والمحلب المتروي ... من طّيب الأدهان
وفي القليبين أيضاً ... زها خلال الرهان
حورين لا لشنانٍ ... أسرعن لا لطعان
نوع عراض تحاكي ... مضارب العيدان
وآخر ذو انخذال ... في دقّة السامان
ففي ولاية هذه ال ... ألوان عزّ الخوان
وله في طين الأكل:
علام نقلكم بالذي ... منه خلقنا وإليه نصير؟
ذاك الذي يحسب في شكله ... قطاع كافور عليها عبير
وله في الجمر والمدخنة:
وقول من أديم الصخور ... تخّيم في حلل الخيرزان
تقري قطاعاً كعرف الحبيب ... وترقى وليس بها مسّ جان
وتمنع عن مثل حرِّ القلوب ... من الجمر ما إن لها من دخان
في جمر خبا بعد اشتعاله:
أما ترى النار كيف أشعلها القر فأضحت تخبو وحيناً تسعّر
وغدا الجمر والرماد عليه ... في قميصين مذهّبٍ ومعنبر
وله في البرد:
وبيضاء كالبلور جاد بها الحيا ... فأهوت تهادي بين أجنحة القطر
تذوب كقلب الصبّ لكنّه جو ... بنار هواه وهي مثلوجة الصدر
وله في التدرج:
قد بعثنا بذات لون بديع ... كنبات الربيع أو هي أحسن
في قناع من جلّنار واسٍ ... وقميص من ياسمين وسوسن
ذبحت وهي بنت درّة برّ ... كلّ عن بعض وصفها كلّ محسن
وله في المحبرة من الرجز:
ركية من الزّجاج الصافي ... قطرة من عارض وكاف
تبرز للعين في تجفاف ... ذي حمرة مثل دم الرعاف
فهي فؤاد وهو كالشغاف ... ينبوعها أسود كالغداف
فهي وما تضمّ من نطاف ... كغسق بالصبح ذي التحاف
وما تضمّنته من غلاف ... كحقّة فيها ابنة الأصداف
وله في المقلمة والأقلام:
ومجدولة حمر يخّيل منها ... من النقس روض ما يغذَّى بوابل
ترى كلّ يوم حاملاً بأجنة ... ولوداً لهم من غير مسّ قوابل
فأولادها ما بين أسمر ذابل ... بأحشائها أو بين أبيض ناصل
تسدّد منها السّمر لا لمحارب ... وترهف منها البيض لا لمقاتل
فلا السّمر منها اعتدن حمل عوامل ... ولا البيض منها اعتدن حمل حمائل
وله في السكين المذنب:
ومرهفة أرقّ شباً وأمضى ... وأقطع من شبا السيف الحسام
تعانق في الدوي قناع يراع ... ويبقى ما استكن من السّقام
لها ذنب كصيصيةٍ أتمّت ... وصدر مثل خافية الحمام
وله في المقط:
وأسود أحشاء الدويِّ مقرّه ... يلوح لنا في حلةٍ من غياهب
يعانق أشباه الرماح وتعتلي ... قواه شبيهات السيوف القواضب
وله في المحراك وهو الملتاق من الرجز:
أهيف قد أبدت ذراه غربا ... متخذاً من الظلام أهبا
يخال في يد الغلام شطبا ... يخطو إذا استنهضته مكبّاً
يقلَّب أصواف الدويّ قلبا ... ويكرب النفس عليها كربا
وله في الاصطرلاب:
وشبيه للشمس يسترق الأخبار من بين لحظها في خفاء

(2/39)


فتراه أدرى وأعرف منها ... وهو في الأرض بالذي في السماء
وفيه:
وعالم بالغيب من غير ما ... سمعٍ ولا قلبٍ ولا ناظرٍ
يقابل الشمس فيأتي بما ... في ضمنها من خبرٍ حاضر
كأنّما حاجبه مذ بدا ... لعينها بالفكر والخاطر
قد ألهمته علم ما يحتوي ... عليه صدر الفلك الدائر
وله في المقراض:
وصاحبين اتفقا على الهوى واعتنقا
وأقسما بالودّ وال ... إخلاص أن لا افترقا
ضمّهما أزهر كالنّجم به قد وثقا
لم يشك في خصريهما مذ ضمّناه قلقا
من تحته عينان منذ انفتحا ما انطبقا
وفوقه نابان ما حلاّ فما مذ خلقا
يفرّقان بين كلِّ ما عليه اتُّفقا
فأي شيءٍ لاقيا ... ه ألفياه فرقا
وله في مشطي عاج وآبنوس:
لديَّ مشطان ذا كباز ... لوناً وهذاك كالغراب
فذا شباب لذي مشيبٍ ... وذا مشيب لذي شباب
وله في المنقاش:
لديَّ منقاش بديع له ... مآثر في النتف مأثوره
تعمل ناباه إذا أعملا ... في الشعر ما لا تعمل النوره
وله في الزربطانة:
مثقّفة جوفاً وتحسب زانة ... ولكنها لا زجَّ فيها ولا نصل
تسدَّد نحو الطير وهو محلِّق ... وينفذ عنها للردى نحوه رسل
يطير إلى الطير الردى في ضميرها ... فتجري كما يجري وتعلو كما يعلو
تقيّد ما تنجو به فكأنّه ... يمدُّ إليه من بنادقها حبل
وله في القفص:
وبيت لبنات الجوِّ لا يستر من فيه
حفيظٍ للذي استحفظ لكن لا يواريه
حكت أعمدة الفضَّة ... والتبر سواريه
فمن مثل قنا الخطّ ... ثراه وأعاليه
وله في قارورة الماء من الرجز:
ركيّة تشفُّ ذات طول ... من الزّجاج الفائق المغسول
تظهر ما في الجسم من فضول ... مفصحة بالطبِّ لا بقيل
من كلِّ داءٍ غامضٍ دخيل ... فهي على التحقيق والتحصيل
مرآة في كبد العليل وله في اللبد:
وواضعةٍ خدّها في الصعيد ... لأربابها عندها حرمه
نسيجة بنت جلود النعاج ... بغير سدىً ولا لحمه
تمدّ على الرقِّ رقِّ الرمال ... وتوفي على الحر في النعمه
ويعمر ذا البيت منها غمام ... به شهبةٌ خالطت أدمه
متاع لمن كان ذا خلّةٍ ... فقيراً ومن كان ذا نعمه
في قضيب الفول:
أهيف قد زاحم الحسان على ... أخصّ أسمائه إذا اقتضيا
من الملاهي وليس ينكره ... ذو ورعٍ حين ينكر اللعبا
يلهو به من ولها وما اقترف الذنوب في فعله ولا احتقبا
يضرب وجه الثرى به فترى ... كلَّ فؤاد وجداً قد اضطربا
إذا تثنَّى القلوب وقد ... أهدى إليها السرور والطربا
ومما قال على ألسنة أشياء مختلفة ما أمر بكتابة على خوان:
فضلت جميع الأواني وفقت ... فما فيَّ منقصة واحده
مقري منازل صيد الملوك ... وفيَّ أتت سورة المائدة
وله وأمر بكتابة على فناء دار:
حكم الضيوف بهذا الربع أنفذ من ... حكم الخلائف آبائي على الأمم
فكلُّ ما فيه مبذول لطارقه ... فلا ذمام له إلا على الحرم
وفي معناه من الرجز:
أبنية فياحة منيره ... في كلِّ قطرٍ من بناه كوره
لملك راياته منصوره ... قد مدّ حول الخافقين سوره
وحطَّ فوق زحلٍ سريره ... لو أدرك المختار أو عصوره
لأنزل الرحمن فيه سوره ... أو نطقت أبنية معموره
لأنطق الله له قصوره ... وقلن أقولاً له مأثوره
لا أفقد الله العلي دوره ... بهاءه وضوءه ونوره
وله في الترس:
إنّي أنا الترس بنفسي أقي ... من العوالي والظُّبى حاملي

(2/40)


أردُّ حدَّ السّيف في متنه ... وأقعص اللهذم في العامل
أبو محمد عبد الله بن عثمان الواثقي
من أولاد الواثق بالله أمير المؤمنين، ينظم بين شرف الأصل ووفور الفضل، ويجمع أدب اللسان إلى أدب البيان، ويتفقه على مذهب مالك، ويشعره.
ومن خبره أنه كان نزع بأهله إلى الحضرة ببخارى راجياً أن يحل بها محل أقرانه من أولاد الخلفاء وأمثاله، أو يقلد من أحد عمل البريد والمظالم ببعض الكور ما يصلح من حاله، فلم يحصل من طول الإقامة بها وكثرة الخدمة لأركانها على شيء، وضاق الأمر، فذهب مغاضباً يتوغل بلاد الترك، إلى أن ألقى عصاه بحضرة عظيمها نهر أقاخان، وما زال يعمل لطائف حيله ودقائق خدعه حتى استمكن منه واختص به وزين له ما كان في نفسه من إزالة الدولة السامانية والاستيلاء على المملكة:
إنّما تنجح المقالة في المر ... ء إذا وافقت هوىً في الفؤاد
فألقى إليه التركي مقاليد أمره، وجعل يصدر عن رأيه، وينظر بعينه، حتى كان ما كان من إلمامه ببخارى في جيوشه وانحياز الرضى نوح بن منصور عنها إلى أهل الشط على تلك الحال المغنية بشهرتها عن ذكرها، وكان الواثقي سبباً لخرق الهيبة، وكشف لثام الحشمة، وإزالة الدولة. فعلا في بخارى وعظم شأنه، وبنى التدبير على أ، يبايع بالخلافة ويتقلد التركي أعمال خراسان وما وراء النهر من يده، وهو غافل عما في ضمير الغيب، وكان يركب في ثلثمائة غلام ويقيم أحسن مروة ويبسط من جناحه في الأمر والنهي والحل والعقد، فلم يمض إلا أشهر حتى هجمت على التركي علة الذرب، وكان سببها - على ما حكاه كاتبه أبو الفتح أحمد بن يوسف - إكبابه على فواكه بخارى وكثرة تضلعه منها مع اجتواثه بهوائها ومائها، فاضطر إلأى الرجوع لما وراءه.
وما زالت العلة تشتد به في طريقه حتى أتت على نفسه، وعاد الرضى إلى بخارى، واتخذ الواثقي الليل جملا، بعد أن أتت الغارة عليه وعلى ما معه من ممالكيه وذخائره، ونجا برأسه متنكراً إلى نيسابور ومنها إلى العراق، وتقلبت به الأحوال في معاودة ما وراء النهر ومفارقته. فهذه جمل من خبره.
وهذه لمع من شعره قرأت بخطه في وصف البرد والنار والفحم:
وليلةٍ شاب بها المفرق ... قد جمد الناظر والمنطق
كأنّما فحم الغضا بيننا ... والنار فيه ذهب محرق
أو سبج في ذهبٍ أحمر ... بينهما نيلوفر أزرق
وقوله في الغزل:
قمر ضياء وصاله من وجهه ... يبدو وظلمة هجره من شعره
فالمسك خالطه الرحيق رضابه ... سحراً، ودرُّ شنوفه من ثغره
وسدَّته عضدي وبين محاجري ... لونان مثل عقوده في نحره
وبدا الصباح فمدّ نحو قراطقٍ ... يده وشدّ مزرَّها في خصره
ومن قصيدة قالها بكل شغر وصف فيها الثلج والجليد:
كأنّ الأرض رقٌّ صقَّلته ... أكفٌ صوانعٍ متدافقات
وإن غلط الزمان بشمس دحنٍ ... بدت نقط عليه مذهبات
تدوس الخيل إن مرتّ عليها ... متون سجنجلٍ متراصفات
كأن مياهها ينساب فيها ... أساود من لجينٍ ساريات
ومن نتفه في الغزل:
نفخات الصبا وصوب الغوادي ... ورياض الهوى وماء الكروم
وحديثٌ غضٌّ وخلٌّ كريمٌ ... ومزاج الصّبا وماء النعيم
الباب الرابع
في غرر فضلاء خوارزم
أبو بكر محمد بن العباس الخوازمي
باقعة الدهر، وبحر الأدب، وعلم النثر والنظم، وعالم الفضل والظرف، وكان يجمع بين الفصاحة العجيبة والبلاغة المفيدة، ويحاضر بأخبار العرب وأيامها وداووينها، ويدرس كتب اللغة والنحو والشعر، ويتكلم بكل نادرة ويأتي بكل فقرة ودرة، ويبلغ في محاسن الأدب كل مبلغ، ويغلب على كل محسن بحسن مشاهدته، وملاحة عبارته. ونعمة نعمته، وبراعة جده، وحلاوة هزله، وديوان رسائله مخلد سائر، وكذلك ديوان شعره.
من كلمات له تجري مجرى المثل وهذه كلمات له تجري مجرى الأمثال أخرجتها من رسائله

(2/41)


الشكر على قدر الإحسان، والسلع بإزاء الأثمان. الإذكار حيث التناسي، والتقاضي حيث التغاضي. النفس مائلة إلى أشكالها، والطير واقعة عل أمثالها. الأيام مرآة للرجال، والأطوار معيار النقص فيهم والكمال. العشرة مجاملة لا معاملة، والمجاملة لا تسع الاستقصاء والكشف، ولا تحتمل الحساب والصرف. الكريم يعز من حيث يهون، والرمح يشتد بأسه حين يلين، الاعتذار في غير موضعه ذنب، والتكلف مع وقع الثقة عتب. الدواء لغير حاجة إليه داء، كما أنه عند الحاجة إليه شفاء، الاستقالة تأتي على العثرات، كما أن الحسنات يذهبن السيئات. الذنب للعين العشواء، في محبة الظلماء وكراهية الضياء. فم المريض يستثقل وقع الغذاء، ويستمرئ طعم الماء، الكريم إذا أساء فعن خطيئة، وإذا أحسن فعن عمد ونية. الحر إذا جرح أساء وإذا خرق رفا. وإذا ضر من جانب نفع من جوانب، الحر كريم الظفر إذا نال أنال، واللئيم سيء الظفر إذا نال استنال. الآباء أبوان أبو ولادة وأبو إفادة، فالأول سبب الحياة الجسمانية، والثاني سبب الحياة الروحانية. الغيرة على الكتب من المكارم، بل هي أخت الغيرة على المحارم، والبخل بالعلم على غير أهله قضاء لحقه. ومعرفة بفضله، الرجل إذا قيّده عقال الوجل لن ينطلق نحو مطية الأمل. المحجوج بكل شيء ينطق، والغريق بكل حبل يعلق، العاقل يختار خير الشرين، ويميل مع أعدل الثقتين، الجود محتكر بر، لا محتكر بر. والكريم تاجر جمال، لا تاجر مال. والحرّ وقاية الحر من فقره، وسلاحه على دهره. العفو إلى المقر، أسرع منه إلى المصير. الفرس الجواد يجري على عتقه، و الفرع ينزع إلى عرقه. وكيف يخالف الإنسان مقتضى نسبته، ويطيب الثمر مع خبث تربته. المسافة صغيرة البقعة، صغيرة الرقعة، إذ ذرعت بذرع الهوى، ومسحت بيد الذكرى، فهي بعيدة إذا ذرعت ذرع التسلي، ونظر إليها بعين التغافل والتناسي. الغضب ينسي الحرمات، و يدفن الحسنات، ويخلق للبريء جنايات، المدح الكاذب ذم، والبناء على غير أساس هدم، الدهر غريم ربما يفي بما يعد، والزمان حبلى ربما يتم فيما يلد، الدهر أصم عن الكلام، صبور على وقع سهام الملام، يختصر العيدان ويعتصر الأغصان ويخترم الشبان، ويبلي الآمال و الأبدان، ويلحق من يكون بمن كان، الإنسان بالإحسان، والإحسان بالسلطان، والسلطان بالزمان، والزمان بالإمكان، والإمكان على قدر المكان، الدينا عروس كثيرة الخطاب، والملك سلعة كثيرة الطلاب، الحق حق وإن جهله الورى، والنهار نهار وإن لم يره الأعمى، العدل طلاق الرجال، والمحنة صقيل الأحوال. الشجاع محبب حتى إلى من يحاربه، كما أن الجبان مبغض إلى من يناسبه، وكذلك الجواد خفيف حتى على قلب غريمه، والبخيل ثقيل حتى على قلب وارثه و حميمه. الدهر يمطل وربما عجل، وما شاء الإقبال فعل. الكريم من أكرم الأحرار. والعظيم من صغر الدينار. المصيبة في الولد العاق موهبة، والتعزية عنه تهنئة. المحبة ثمن كل شيء وإن غلا. وسلم لكل شيء وإن علا، الدهر يفي بعد غدر، ويجبر عقب كسر، ويتوب بعد ذنب، ويعقب بعد عتب. التقدم للغاية تأخر عنها، والزيادة على الكفاية نقصان منها. النسيب أخو النسيب، والأديب صنع الأديب، الشرف بين الأشراف نسب ولحمة، وذمام وحرمة، فالكريم شقيق الكريم، والعظيم أخو العظيم، وإن افترق بلداهما واختلف مولداهما، إن السيوف على مقادير الأعضاء تفري، وإن الخيل على حسب فرسانها تجري إنما السؤود بكثرة الأتباع وكثرة الأتباع بكثرة الاصطناع، وإنما تحوم الآمال حيث الرغبة، ويسقط الطير حيث تنثر الحبة إنما النساء لحم على وضم، وصيد في غير حرم إلا أن يلاحظن بعين غيور، ونفس يقظ جذور، إن الولاية عزل إن لم يعمر جوانبها عدل إنما يتعلل بالمعازف شوقاً إلى الأخوان، ويؤكل لحم الثيران شهوة للحوم الضأن، ويتجوز في الزبيبي على اسم العنبي ويستخدم الصقلبي عند غيبة التركي، شراء الكاسد حسبه، وحل المنعقد صدقه، وهدية المتحّير عباده، معاتبة البريء السليم، كمعالجة الصحيح غير السقيم، الفرس الجواد إذا ضرب كبا، والسيف الحسام إذا استكره نبا، واللسان الصدوق إذا كذب هفا، عين الاستحسان آفة من آفات الإحسان، قبول شكر الشاكر التزام لزيادته، واستماع قول المادح ضمان لحاجته، لسان العين أنطق من لسان البيان، وشاهد الأحوال أعدل من شاهد الأقوال لسان الضجر ناطق بالهذر

(2/42)


صغير البر ألطف وأطيب كما أن قليل الماء أشهى وأعذب، ثمرة الأدب العقل الراجح، وثمرة العلم العمل الصالح طول الخدمة تؤكد الحرمة، وتأكد الحرمة أعقد قرابة ولحمة، ادعاء الفضل من غير معدنه نقيصة كما أن الإقرار بالنقص من حيث الاعتذار فضيلة القتال عن العسكر المنهزم ضرب من المحال وتعرض لسهام الآجال، باب الإحسان مفتوح لمن شاء دخله، وحمى الجميل مباح لمن اشتهى فعله وليس على المكارم حجاب، ولا يغلق دونها باب قراءة كتاب الحبيب تر سمّ الهم، شكر الرخاء أهون من مصابرة البلاء، وحفظ الصحة أيسر من علاج العلة قليل السلطان كثير، ومداراته حزم وتدبير كما أن مكاشفته غرور وتعزيز شر من الساعي من أنصت له، وشر من متاع السوء من قبله لا خير في حبّ لا تحمل أقذاؤه، ولا يشرب على الكدر ماؤه خبر الكلام ما استريح من ضده إلى ضده، تقع بين هزله وجده لا ستر أكثف من إقبال ولا شفيع أنجح من آمال، أوجع الضرب ما لا يمكن منه البكاء، وأشد البلوى ما لا يخففه الاشتكاء، أبي الله أن يقع في البئر إلا من حفر، وأن يحيق المكر السيء إلا بمن مكر ما تعب من أجدى، ولا استراح من أكدى حبذا كداً أورث نجحا، وشوكة أجنت ثمراً لإثبات على سمّ الأسود، ولا قرار على زأر من أسد وفي الزوايا خبايا وفي الرجال بقايا إذا عتقت المنادمة صارت نسباً دانيا. وكانت رضاعاً ثانياً، أين يقع فارس من عسكر، ومتى يقوم بناء واحد بهدم بشر نعم الشفيع الحب، ونعم العون على صاحبه القلب هل يبرأ المريض، بين طبيبين، وهل يسع الغمد سيفين، لم أر معلماً أحسن تعليماً من الزمان، ولا متعلماً أحسن تعلماً من إنسان، من الناس من إذا ولى عزلته نفسه ومنهم إذا عزل ولاه فضله، ربما أكل الحر وهو شبعان، وشرب وهو ريّان، ليس إلاّ لأن يسّر مضيفاً ويكون ظريفاً، يشكر القمر على أن يلوح والمسك على أن يفوح، نعم العدة المدة، ونعم الواقية العافية، وبئس الخصم الزمان، وبئس الشفيع الحرمان، وبئس الرفيق الخذلان، إن ولاية المرء ثوبه، فإن قصر عنه عرى منه، وإن طال عليه عثر فيه، ما المحنة إلا سيل والسيل إذا وقف فقد انصرف وما الأيام إلا جيش والجيش إذا لم يكر فقد فر وإذا لم يقبل عليك فقد أدبر عنك وراء الغيب أقفال، وللمنح والمحن أعمار وآجال ما أكثر من يخطىء بالصنعة طريق المصنع، ويخالف بزرعه غير موضع المزدرع أكبر من الأسير من أسره ثم أعتقه، وأشجع من الأسد من قيده ثم أطلقه، أكرم من النبت الزكي من زرعه وأكرم من الكريم من اصطنعه، لا صيد أعظم من إنسان ولا شبكة أصيد من لسان، وشتان بين من اقتنص وحشياً بحبالته وبين من اقتنص انسياً بمقالته من أرد أن يصطاد قلوب الرجال، نثر لها حب الإحسان والإجمال، ونصب لها أشراك الفضل و الإفضال، في كتمان الداء عدم الدواء، وفي عدم الدواء عدم الشفاء، من لم يذكر أخاه إذا رآه فوجدانه كفقدانه، ووصله هجرانه، من أجاد الجلب أخذ به ما طلب، من ذا الذي يطمس نجوم الليل ويدفع منسكب السيل، وينضب ماء البحر، ويفنى أمد الدهر؟ من تكامل نحسه لم تنصحه نفسه، ومن لم ينه أخاه فقد أغراه، ومن لم يداو عليله فقد أدواه، نعم جنة المرء من سهام دهره نزوله عند قدره، ونعم السلم إلى الأرزاق طلبها من طريق الإستحقاق. البر ألطف وأطيب كما أن قليل الماء أشهى وأعذب، ثمرة الأدب العقل الراجح، وثمرة العلم العمل الصالح طول الخدمة تؤكد الحرمة، وتأكد الحرمة أعقد قرابة ولحمة، ادعاء الفضل من غير معدنه نقيصة كما أن الإقرار بالنقص من حيث الاعتذار فضيلة القتال عن العسكر المنهزم ضرب من المحال وتعرض لسهام الآجال، باب الإحسان مفتوح لمن شاء دخله، وحمى الجميل مباح لمن اشتهى فعله وليس على المكارم حجاب، ولا يغلق دونها باب قراءة كتاب الحبيب تر سمّ الهم، شكر الرخاء أهون من مصابرة البلاء، وحفظ الصحة أيسر من علاج العلة قليل السلطان كثير، ومداراته حزم وتدبير كما أن مكاشفته غرور وتعزيز شر من الساعي من أنصت له، وشر من متاع السوء من قبله لا خير في حبّ لا تحمل أقذاؤه، ولا يشرب على الكدر ماؤه خبر الكلام ما استريح من ضده إلى ضده، تقع بين هزله وجده لا ستر أكثف من إقبال ولا شفيع أنجح من آمال، أوجع الضرب ما لا يمكن منه البكاء، وأشد البلوى ما لا يخففه الاشتكاء، أبي الله أن يقع في البئر إلا من حفر، وأن يحيق المكر السيء إلا بمن مكر ما تعب من أجدى، ولا استراح من أكدى حبذا كداً أورث نجحا، وشوكة أجنت ثمراً لإثبات على سمّ الأسود، ولا قرار على زأر من أسد وفي الزوايا خبايا وفي الرجال بقايا إذا عتقت المنادمة صارت نسباً دانيا. وكانت رضاعاً ثانياً، أين يقع فارس من عسكر، ومتى يقوم بناء واحد بهدم بشر نعم الشفيع الحب، ونعم العون على صاحبه القلب هل يبرأ المريض، بين طبيبين، وهل يسع الغمد سيفين، لم أر معلماً أحسن تعليماً من الزمان، ولا متعلماً أحسن تعلماً من إنسان، من الناس من إذا ولى عزلته نفسه ومنهم إذا عزل ولاه فضله، ربما أكل الحر وهو شبعان، وشرب وهو ريّان، ليس إلاّ لأن يسّر مضيفاً ويكون ظريفاً، يشكر القمر على أن يلوح والمسك على أن يفوح، نعم العدة المدة، ونعم الواقية العافية، وبئس الخصم الزمان، وبئس الشفيع الحرمان، وبئس الرفيق الخذلان، إن ولاية المرء ثوبه، فإن قصر عنه عرى منه، وإن طال عليه عثر فيه، ما المحنة إلا سيل والسيل إذا وقف فقد انصرف وما الأيام إلا جيش والجيش إذا لم يكر فقد فر وإذا لم يقبل عليك فقد أدبر عنك وراء الغيب أقفال، وللمنح والمحن أعمار وآجال ما أكثر من يخطىء بالصنعة طريق المصنع، ويخالف بزرعه غير موضع المزدرع أكبر من الأسير من أسره ثم أعتقه، وأشجع من الأسد من قيده ثم أطلقه، أكرم من النبت الزكي من زرعه وأكرم من الكريم من اصطنعه، لا صيد أعظم من إنسان ولا شبكة أصيد من لسان، وشتان بين من اقتنص وحشياً بحبالته وبين من اقتنص انسياً بمقالته من أرد أن يصطاد قلوب الرجال، نثر لها حب الإحسان والإجمال، ونصب لها أشراك الفضل و الإفضال، في كتمان الداء عدم الدواء، وفي عدم الدواء عدم الشفاء، من لم يذكر أخاه إذا رآه فوجدانه كفقدانه، ووصله هجرانه، من أجاد الجلب أخذ به ما طلب، من ذا الذي يطمس نجوم الليل ويدفع منسكب السيل، وينضب ماء البحر، ويفنى أمد الدهر؟ من تكامل نحسه لم تنصحه نفسه، ومن لم ينه أخاه فقد أغراه، ومن لم يداو عليله فقد أدواه، نعم جنة المرء من سهام دهره نزوله عند قدره، ونعم السلم إلى الأرزاق طلبها من طريق الإستحقاق.

(2/43)


فصول من غرره وهذه فصول كالانموذج جاءت من غرره وفقره على الكريم واقية من فعله، وله حصن حصين من فضله، فإذا زلّت به النعل زلة، أوصال عليه الدهر صولة، إقامته يد إحسانه، وانتزعته من مخالب زمانه.
فصل - الرجال حصون يبنيها الإحسان، ويهدمها الحرمان، وتبلغ بثمرها البر واليسر، ويحصدها الجفاء والكبر، وإنه لا مال إلا بالرجال ولا صلح إلا بعد قتال ولا حياة إلا في ناصية خوف، ولا درهم إلا في غمد سيف، والجبان مقتول بالخوف قبل أن يقتل بالسيف، والشجاع حي وإن خانه العمر، وحاضر وإن غّيبه القبر، ومن حاكم خصمه إلى السيف فقد رفع إلى حاكم لا يرتشي ولا يفتري فيما يقتضي، ومن طلب المنية هربت منه كل الهرب، ومن هرب منها طلبته أشد الطلب.
فصل لا صغير مع الولاية والعمالة، كما لا كبير مع العطلة والبطالة، وإنما الولاية أنثى تصغر وتكبر إليها، ومطية تحسن وتقبح بممتطيها، وإنما الصدر بمن يليه، والدست بمن يجلس فيه، وإنما النساء بالرجال، كما أن الأعمال بالعمال.
فصل إفراط الزيادة يؤدّي إلى النقصان، والمثل في ذلك جار على كل لسان، ولذلك قالوا: صبوة العفيف، وسطوة الحليم، وضربة الجبان، ودعوة البخيل، وجواب السكيت، ونادرة المجنون، وشجاعة الخصي، وظرف الأعرابي.
فصل قد يكبر الصغير، ويستغني الفقير، ويتلاحق الرجال، ويعقب النقصان الكمال، وكل واد عظيم فأوله شعبة صغيرة، وكل نخلة سحوق فأولها فسيلة حقيرة وقد يبتدىء العنب حصرماً حامضاً جاسيا، ثم يخرج الراح التي هي مفتاح اللذات، وأخت الروح والحياة، ويكون حشو الصدفة ماء ملح، ثم يصير جوهرة كريمة، ودرة يتيمة، ويكون أول ابن آدم نطفة، وعلقة ومضغة، ثم يخرج منها العالم الأصغر، والحيوان الأرضي الأكبر، الذي حيت له الأرض، وسخرت له الأنهار، ومن أجله خلقت الجنة والنار.
فصل قد أراحني فلان بين، لا بل أتعبني بشكره، وخفف ظهري من ثقيل المحن، لا بل ثقله بأعباء من، وأحياني بتحقيق الرجاء، لا بل أماتني بفرط الحياء، وأنا له رقيق بل عتيق، وأسير بل طليق.
فصل في فضل الحمية من رسالة ملاك الأمر الحمية، فإنه لا يكون قوي الحمية إلا من يكون قوي الحمية، ومن غلبته شهوته على رأيه شهد على نفسه بالبهيمة، وانخلع من ربقه الإنسانية، وحق العاقل أن يأكل ليعيش، لا أن يعيش ليأكل، وكفى بالمرء عاراً أن يكون صريع مأكله وقتيل أنامله، وأن يجني ببعضه على كله، ويعين فرعه على أصله، وكم من نعمة أتلفت نفس حر،وكم من أكله منعت أكلات دهر، وكم من حلاوة تحتها مرارة الموت، وكم من عذوبة: تحتها بشاعة الفوت وكم شهوة ذهبت بنفس لا يقوى بها العساكر، وقطعت جسداً كانت تنبو عنه السيوف البواتر، وهدمت عمراً انهدمت به أعمار، وخربت بخرابه بيوت بل ديار وأمصار فصل في اقتضاء حاجة وعد الشيخ يكتب على الجمد، إذا كتب وعد غيره على الجمد، ولكن صاحب الحاجة شيء الظن بالأيام، مريض الثقة بالأيام، لكثرة ما يلقاه من اللئام، وقلّة من يسمع به من الكرام.
فصل في ذكر آفات الكتب هذا والكتاب ملقى لا موقى، تسرع إليه اليد الخاطئة، وتعرض له الآفات السانحة، فالماء يغرقه، كما أن النار تحرقه والريح تطيره، كما أن الأيام تغّيره، والدخان يسود بياضه، كما أن الخل يبيض سواده، والرطوبة تضره، كما أن اليبوسة لا تنفعه، فآفاته أسرع من آفات الزجاج الذي يسرع إليه الكسر، ومن عليه الجبر، وحوادثه أكثر من حوادث الغنم التي هي لكل يد غنيمة ولكل سبع فريسة، قل آفاته خيانة الحامل، وقوع الشاغل، وعوائق الفتوح والقوافل.
فصل في ذكر إلا ولا الحمد الله الذي جعل الشيخ يضرب في المحاسن بالقدح المعلى، ويسمو منها إلى الشرف الأعلى ولم يجعل فيه موضع لولا، ولا مجال لا لإ فإن شيء إذا اعترض في المدح أنصب ماءه وكدر صفاءه وأنطق فيه حساده وأعداءه، وكذلك قالوا: ما أملح الظبي لولا خنث أنفه، وما أحسن البدر لولا كلف وجهه، وما أطيب الخمر لولا الخمار، وما أشرف الجود لولا الاقتار، وما أحمد مغبة الصبر لولا فناء العمر، وما أطيب الدينا لو دامت:
ما أعلم الناس أن الجود مكسبة ... للحمد لكنّه يأتي على النشب
فصل في الاعتداد

(2/44)


ذكر السيد أن اعتداده بي اعتداد العلوي بالشيعي، والمعتزلي بالأشعري، واعتدال الحجازيين بالشافعي، واعتداد اليزيدية بزيد بن علي، واعتداد الإمامية بالمهدي.
فصل في ذم عامل تقلد الخراج في هذه الناحية رجل قصده الدرهم لا الكرم وغرضه الثراء لا الثناء، وقبلته البيضاء والصفراء، لا المجد والثناء.
فصل في الاعتذار ذكر سيدي من شوقه إلى ما يتكلم فيه إلا عن لساني، ولم يترجم إلا عن شأني، وقد طويت بساط المدام، وصحيفة المؤانسة والندام، وطلقت الراح ثلاثاً، وفارقت الغناء أبداً، حتى شكتني الأقداح، واستخفني الراح، ونسي بناني الأترج والتفاح.
فصل في ذكر هدة بلغني ذكر الهدة، فالحمد لله الذي هدم الدار، ولم يهدم المقدار، وثلم المال ولم يثلم الجمال وسلط الحوادث على الخشب والنشب، ولم يسلطها على العرض والحسب، ولا على الدين والأدب، ولا بد للنعمة من عودة، ولا بد لعين الكمال من رقيه، ولأن يكون في دار تبنى، ومال يجبر وينمي ، خير من أن يكون في النفس التي لا جابر لكسرها، ولا نهاية لقدرها فصل في ذكر الرمد صادف ورود الكتاب رمدا في عيني حتى حصرني في الظلمة، وحبسني بين الغم والفمة، وتركني أدرك بيدي ما كنت أدرك بعيني، كل سلاح البصر قصير خطر النظر، قد ثكلت مصباح وجهي، وعدمت بعضي الذي هو آثر عندي من كلي، فالأبيض عندي أسود، والقريب مني مبعد قد خاط الوجع أجفاني، وقبض عن التصرف بناني فظراني شغل، ونهاري ليل، وطول ألحاظي قصار، وأنا ضرير وإن عددت في البصراء وأمّيّ وإن كنت من جملة الكتاب والقراء قصرت العلة خطوتي قلمي وبناني، وقامت بين يدي ولساني وقد كانت العرب تزاوج بين كلمات تتجانس مباينها، وتتكافأ مقاطعها ومعانيها، فيقولون: القلة ذلة، والوحدة وحشة، واللحظة لفظة، والهوى هوان، والأقارب عقارب، والمرض حرص، والمرمد، والعلة قلة، والقاعد مقعد.
فصل في مدح الفقر وإنما يكره الفقر لما فيه من الهوان، ويستحب الغنى لما فيه من الصوان، فإذا نبغ الغم من تربة الغنى فالغنى هو الفقر، واليسر هو العسر، لا بل الفقير على هذه القضية أحسن من الغني، وأقل منه أشغالاً، لأن الفقير خفيف الظهر من كل حق، منفك الرقبة من كل رق، فلا يحب إخوانه، ولا يطمع فيه جيرانه، ولا تنتظر في الفطر صدقته، ولا في النحر أضحيته، ولا في شهر رمضان مائدته، ولا في الربيع باكورته ولا في الخريف فاكهته، ولا في وقت الغلة شعيره وبره، ولا في وقت الجباية خراجه وعشره، وإنما هو مسجد يحمل إليه، ولا يحمل عنه، وعلوي يؤخذ بيده ولا يؤخذ عنه،اتجها الشرط نهاراً، ويتوقاه العسس ليلاً، فهو إما غانم وإما سالم، وأما الغني فإنما هو كالغنم غنيمة لكل يد سالبة، وصيد لكل نفس طالبة، وطبق على شوارع النوائب، وعلم منصوب في مدرجة المطالب، تطمع فيه الأخوان ويأخذ منه السلطان، وينتظر فيه الحدثان، ويحيف ملكه النقصان.
فصل في ذم عامل والله ما الذنب في الغنم بالقياس إليه إلا من المصلحين، ولا السوس في الحز وأن الصيف عنده إلا بعض المحسنين، ولا الحجاج في أهل العراق معه إلا أول العادلين، ولا يزجرد الأثيم في أهل فارس بالإضافة إليه من الصديقين والشهداء والصالحين.
فصل في ذكر الآفات

(2/45)


من آفات العلم خيانة الوراقين وتخلّف المتعلمين، كما أن آفات الدين فسق المتكلمين وجهل المتعبدين، وكما أن من آفات الدنيا كثرة العامة، وقلة الخاصة، وكما أن من آفة الكرم أن الجود آفة للمنع، وأن البخل سبب للجمع، وأن المال في أيدي البخلاء دون أيدي السمحاء، وكما أن آفات الحلم أن الحليم مأمون الجنبة، وأن السفيه منيع الحوزة، وكما أن من آفة المال أنك إذا صنته عرضته للفساد، وإذا أبرزته عرضته للنفاذ، وكما أن من آفات الشكر أنك إذا قصرت عن غايته غششت مناصطفك، وإذا أبلغتها أو أبلغت فيه أوهمت من سمعك، وكما أن من آفات الشراب أنك إذا قللت منه حاربت مهمتك ولم تقض شهوتك، وإذا أكثرت منه تعرضت للإثم والعار، وأبرزت صفحتك للألم والنار، وكما أن من آفات المماليك أنك إذا بسطتهم أفسدت أدبهم وأذهانهم، وإذا قبضتهم أفسدت وجوههم وألوانهم، وكما أن من آفات الأصدقاء أنك إذا استقللت منهم لم تصب حاجتك فيهم، وإذا استكثرت منهم لزمتك حوائجهم، وثقلت عليك نوائبهم، وكسبت الأعداء من الأصدقاء كما تكسب الداء من الغذاء، وكما أن من آفات المغنين أن الوسط منهم يميت الطرب، وأن الحاذق منهم ينسي الأدب.
جملة من اخباره وهذه جملة من أخباره تطرق لأشعاره أصله من طبرستان، ومولده ومنشؤه خوارزم، وكان يتسم بالطبري ويعرف بالخوارزمي، ويلقب بالطبر خزمي ، فارق وطنه في ريعان عمره وحداثة سنه، وهو قوي المعرفة قويم الأدب، نافذ القريحة حسن الشعر، ولم يزل يتقلب في البلاد ويدخل كور العراق والشام، ويأخذ عن العلماء، ويقتبس من الشعراء ويستفيد من الفضلاء، حتى تخرج وخرج فرد الدهر في الأدب والشعر، ولقي سيف الدولة وخدمه واستفاد من يمن حضرته، ومضى على غلوائه في الاضطراب والاغتراب، وشرّق بعد أن غّرب، وورد بخاري وصحب أبا علي البلعمي، فلم يحمد صحبته وفارقه وهجره بقوله:
إن ذا البلعمي والعين عين ... وهو عار على الزمان وشين
إن يكن جاهلاً يخفي حنين ... فهو الخفّ والزمان حنين
وفي نيسابور فاتصل بالأمير أبي نصر أحمد بن علي المكالي واستكثر من مدحه، ودخل أبا الحسن القزويني، وأبا منصور البغوي، وأبا الحسن الحكم فارتفق بهم وارتفق من الأمير أحمد ومدحه، ونادم كثير بن أحمد ثم قصد سجستان وتمكن من وإليها أبي الحسين طاهر بن محمد ومدحه، وأخذ صلته، ثم هجر وأوحشه حتى أطال سجنه، فمما قاله في تلك النكبة قصيدة كتب بها إلى الأمير أبي نصر أحمد بن على الميكالي:
كتابي أبا نصر إليك وحالتي ... كحال فريس في مخالب ضيغيم
أرقّ من الشكوى وأدجن من النوى ... وأضعف من قلب المحبّ المتيمّ
غدوت أخاً جوع ولست بصائم ... ورحت أخاً عري ولست بمحرم
وقعت بفخّ الخوف في يد طاهر ... وقوع سليك في حبائل خثعم
يعني سليك بن سلكة السعدي حين أسره أنس بن مالك الخثعمي
وما كنت في تركيك إلاّ كتارك ... يقيناً وراض بعده بالتوهّم
وقاطن أرض الشرك يطلب توبةً ... ويخرج من أرض الحطيم ومزمزم
وذي علة يأتي عليلا ليشتفي ... بها وهو جار للمسيح ابن مريم
وراوي كلام قعتف إثر بأقل ... ويترك قسماً خائباً وابن إهتم
جناب تجنبان ليس بمحدب ... وبحر تخطيناه ليس بمرزم
رزم الماء: إذا انقطع، أرزمه غيره: أي قطعة.
وماء زلال قد تركنا وروده ... زلالاًوبعناه بشربة علقم
لبست ثياب الصبر حتى تمزّقت ... جوانبها بين الجوى والتندم
أظل إذا عاتبت نفسي منشدا ... فهلا تلا حاميم الحوامل قبل التقدم
المصراع الثاني قاله قاتل محمد بن طلحة يوم الجمل
وأنشد في ذكرى لدارك باكياً ... ألا أنعم صباحاً أيها الربع وأسلم
ولم أر قبلي من يحارب نحته ... ويشكو إلى البؤسي أفتقاد والتنعم
ولا أحد يحوي مفاتيح جنّة ... ويقرع بالتطفيل باب جهنّم
وقد كان رأساً للتدبير ملعم ... وقد صرت في الدنيا خليفة بلعم

(2/46)


يعني بلعم بن باعوراء الذي أنزل فيه واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها لأنه كفر بالله بعد تعلمه الإسم الأعظم، حجد نعم الله سبحانه وتعالى:
وقد عاش بعد الخلد في الأرض آدم ... فإن شئت فاعذرني فإنّي ابن آدم
فيا ليتني أمسيت دهر راقداً ... فإنّي متى أرقد بذكرك أحلم
مكانك من قلبي عليك موفر ... متى ما يرمه ذكر غيرك يحتمي
لغيرك رديّ الوصال وثيب المقال ... وممزوج المودة فاعلم
وأنت الذي صوّرت لي صورة المنى ... وأركبتني ظهر الزمان المذحم
وصّيرت عند أبحسن الدهر أسعداً ... وكذّبت عندي قول كلّ منجّم
وصغّرت قدر الناس عندي وطالما ... لحظت صغيراً عن حماليق معظم
فجعل الله له من مضيق الحبس مخرجاً، فنهض إلى طبرستان ، وكانت حاله مع صاحبها كهي مع طاهر بن بشار، فمن قوله فيه من قصيدة:
ألا أبلغ بني بشار كلامي ... ومن لم يلقهم فهو السعيد
علام اتبعتم فرساً عتيقاً ... وليس لديكم علف عتيد
وفي حبستم في البيت بازاً ... يحيص الطير عنه أو يحسيد
فلا فرتمبوه فعلتموه ... ولا خلّيتم عنه يصيد
وقوله من أخرى:
وقال أنا المليك فقلت حقاً ... بقلب اللام توناً في الهجاء
ولم أر من أداة الملك شيئاً ... لديك سوى احتمالك للواء
ومنها:
أحين قلعت نابي كلّ أفعى ... وحادت أسد بيشة عن فنائي
وقال الناس إذ سمعوا كلامي ... ألم تكن الكواكب في السماء
يخوفني الكساد على متاعي ... وهل يخشى فساد الكيمياء
وله من أخرى:
لله في كل ما قضاه ... لطائف تحتها بدائع
سبحان من يطعم ابن شار ... ويترك الكلب وهو جائع
ثم إنه عاد نيسابور، وأقام بها إلى أن وفق التوفيق كله بقصد حضرة الصاحب بأصبهان صاحبه ولقائه بمدحه، فأنجحت سفرته، وربحت تجارته، وسعد جده بخدمته ومداخلته والحصول في جملة ندمائه المختصين به، فلم يخل من ظل إحسانه ووابله وغامر انعامه وقابله، وتزود من كتاب إلى حضرة عضد الدولة بشيراز ما كان سبباً لارتياشه ويساره، فإنه وجد قبولاً حسناً واستفاد منها مالاً كثيراً ولما انقلب عنها بالغنيمة البادرة إلى نيسابور استوطنها وقتل بها ضياعاً وعقاراً ودرت عليه أخلاف الدينا من الجهات، وحين عاود شيراز ورد منها عللا بعد نهل، فأجري له عند انصرافه رسم يصل إليه في كل سنة بنيسابور مع المال الذي كان يحمل من فارس إلى خراسان، ولم يزل يحسن حال من رواء وثروة واستظهار، يقيم للأدب سوقا، ويعيده غضا وريقا، ويدرس ويملي ويشعر ويروي، ويقسم أيامه بين مجالس الأنس، ويجري على قضية قول كشاجم:
عجباً ممّن تعالت حاله ... فكفاه الله زلاّت الطلب
كيف لا يقسم شطري عمره ... بين حالين نعيم وأدب
وكان يتعصب لآل بويه تعصباً شديداً، ويغض من سلطان خراسان ويطلق لسانه بما لا يقدر عليه، إلى أن كانت أيام تاش الحاجب ورجع من خراسان إلى نيسابور منهزماً، فشمت به وجعل يقول: قبحا له وللوزير أبي الحسن العتبي، فأبلغ العتبي أبياتاً منسوبة إلى الخوارزمي في هجائه ولم يكن قالها، منها:
قل للوزير أزال الله دولته ... جزيت صرفاً على قول ابن منصور

(2/47)


فكتب إلى علي في أخذه ومصادرته وقطع لسانه، وإلى أبي المظفر الرعيني في معناه، وكان يلي البندرة بنيسابور إذ ذاك، فتولى حبسه وتقييده وأخذ خطه بمائتي ألف درهم واستخرج بعض المال وأذن له في الرجوع إلى منزله مع الموكلين به ليحمل الباقي، فاحتال عليهم يوماً، وشغلهم بالطعام والشراب وهرب متنكراً إلى حضرة الصاحب بجرجان، فتجلت عنه غمة الخطب، وانتعش في ذلك الفناء الرحب، وعاود العادة المألوفة من المبار والأحبية واتفق قتل أبي الحسن العتبي وقيام أبي الحسن المزني مقامه، وكان من أشد الناس حباً للخوارزمي، فاستدعاه وأكرم مورده ومصدره، وكتب إلى نيسابور في ردِّ ما أخذ منه عليه، ففعل وزادت حاله وثبت قدمه، ونظر إليه ولاة الأمر بنيسابور بعين الحشمة والاحتشام والإكرام والإعظام، فارتفع مقداره وطاب عيشه، إلى أن رمي في آخر أيامه بحجر من الهمذاني الحافظ البديع، وبلي بمساجلته ومناظرته ومناضلته، وأعان الهمذاني الحافظ البديع عليه قوم من الوجوه كانوا مستوحشين منه جداً، فلاقي ما لم يكن في حسابه من مباراة المزني وقوته به وأنف من تلك الحال، وانخزل انخزالاً شديداً، وكسف باله، وانخفض طرفه ولم يحل عليه الحلول حتى خانه عمره، ونفذ قضاء الله تعالىفيه، وذلك في شوال سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة، وكان مولده في سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة، ورثاه الهمذاني بأبيات دس فيها سعاية ثانية، وهي هذه:
حنانيك من نفس خافت ... ولبيك عن كمد ثابت
أبا بكر اسمع وقل كيف ذا ... ولست بمسمعة الصامت
تحمّلت فيك من الحزن ما ... تحمّله ابنك من صامت
حلفت لقد متّ من معشر ... غنيين عن خطر المائت
يقولون أنت به شامت ... فقلت الثرى بفم الشامت
وعزّت عليّ معاداته ... ولا متدارك للفائت
وقال فيه من أحسن على إساءته، وهو أبو الحسن عمر بن أبي عمر الرقاني:
مات أبو بكر وكان أمرأً ... أدهم في آدابه الغّر
ولم يكن حراً، ولكنّه ... كان أمير المنطق الحرّ
من شعره في النسيب والغزل وهذه ملح ونكت من شعره في النسيب والغزل قال من قصيدة وأبدع في وصف ما يتزايد من حسن الحبيب على الأيام التي من شأنها تغيير الصور وتقبيح المحاسن:
وشمس ما بدت إلا أرتنا ... بأن الشمس مطلع فضول
تزيد على السنين ضياً وحسناً ... كما رقّت على العتق الشمول
ومن أخرى:
مضت الشبيبة والحبيبة فالتقى ... دمعان في الأجفان يزدحمان
ما أنصفتني الحادثات رمينني ... بمودعّين وليس لي قلبان
ومن أخرى:
قلت للعين حين شامت جمالاً ... في وجوه كواذب الإيماض
لا تغرنّك هذه الأوجه الغر فيا ربّ حيّة من رياض
ومن أخرى:
عذيريّ من ضحك غدا سبب البكا ... ومن جّنة قد أوقعت في جنهم
لأنّك لا تروين بيتاً لشاعر ... سوى بيت من لم يظلم الناس يظلم
ومن أخرى:
عذيريّ من تلك الوجوه التي غدت ... مناظرها للناظرين معاركا
عذيريّ من تلك الجسوم التي غدت ... سبائك تفنى الناس فيها السبائكا
ومن أخرى:
خليليّ عهدي بالليالي صوافيا ... فما بالها أبدلن جيما بصادها
خليليّ هل أبصرتما مثل أدمعي ... نفدن وحقّ الله قبل نفادها
ومن أخرى:
يفلُّ غداً جيش النوى عسكر اللقا ... فرأيك في سحّ الدموع موفقا
وخذ حجتي في ترك جنبي سالماً ... وقلبي ومن حقيهما أن يشققّا
يدي ضعفت عن أن تمزق جببها ... وما كان قلبي ناظراً فيمزّقا
ومن أخرى:
بسمت فأبدت جيدها فتكشّفت ... عن نظم درّ تحت نظم لآلي
وأرتك خديها ولاح عليهما ... صدغان ذو خال وآخر خالي
فكأن ذا ذال خلت من نقطة ... وكأن ذا دال ونقطة ذال
ومن أخرى:
قد عصاني دمعي وخلي فخلت الخلّ دمعاّ وخلت دمعي خلاّ

(2/48)


وأحاطت بي الخصوم فجفناً ... مستهلاً وصاحباً مستقلاً
وفؤاداً لو ظنّ إبليس أنّ ... النار في حرَّه لصام وصلى
ومن أخرى:
هّلم الخطا بدر الدجنّة وارفقا ... بعينكما فالضوء قد يورث العمى
ولا تعجباً أن يملك العبد ربه ... فإن الدمّى استعبدن من نحت الدمى
ومن أخرى:
وكم ليلة لا أعلم الدهر طيبها ... مخافة أن يتقصّ منّي لها الدهر
سهاد ولكن دونه كلّ رقدة ... وليل ولكن دون إشراقه الفجر
وسكر الهوى لو كان يحكيه لذّة ... من الخمر سكر لم يكن حرّم السكر
ولما أدارت مقلة جاهلية ... هلاك امرىء في ضمن ثوبي لها نذر
ومالت كأن قد سقيت خمر خدّها ... وكيف يميل الخمر من ريقه الخمر
حسدت عليها ناظري إذ تحلّه ... كما تحسد الأفلاك نعل فنا خسرو
ومن أخرى:
ولقد ذكرتك والنجوم كأنّها ... درّ على أرض من الفيروزج
يلمعن من خلل السحاب كأنّها ... شررٌ تطاير في دخان العرفج
والأفق أحل من خواطر كاسب ... بالشعر يستجدي اللئام ويرتجي
فمزجت دمعي بالدماء ولم أكن ... صرف الهوى والعهد إن لم أمزج
ومن أخرى:
ليس على القلب للعذول يد ... ولا ليومي من الفراق غد
كلّ فؤاد مع الهوى عرض ... وكلّ يوم مع النوى أمد
يا أيها الطالبون بي رشداً ... متى التقى الحبّ قطّ والرشد
ولي فؤاد مذ صرت أفقده ... لم أنتفع بعده بما أجد
ولي حبيب لو كنت أنصفه ... وجدت فيه أضعاف ما أجد
شهدت للقلب حين علّقه ... بأنه للوجوه منتقد
ومن أخرى:
عليك رقيب ثقيل اللّحاظ ... متى لم يحط علمه يحدس
أنمّ من المسك بالعاشقين ... وألحظ عيناً من النرجس
ومن أخرى:
قلت لما رمدت عيناك ... والدمع سجام
إنّما عوقبت عن عيني ... فاعلم يا غلام
لا أصيبت هذه العين ... بعيني والسلام
وهذه لمع من تضميناته التي كانت رشيقة، وطريقة أنيقة، يضعها في مواضعها، ويوقعها أحسن مواقعها، ويفصح بها عن اتساع روايته وكثرة محفوظاته، فمنها قوله من قصيدة في عضد الدولة:
ولمّا أكثر الحسّاد فيه ... وقالوا قد تغضّنت الخدود
أجاب الفضل عنه حاسديه ... لأمر ما يسود من يسود
لأمر ما البيت لبلعام بن قيس الكناني
بودّي لو رأى كنفيه يوماً ... ومن قد عاش تحتهما لبيد
لأن لبيدا يقول: ذهب الذين يعاش في أكنافهم
ولو أنّ الوليد رآه يوماً ... غدا ورجاؤه غضّ وليد
وحلّ عرى الزمان ولم يردّد ... أشرّق أم أغرّب يا سعيد
وله من أخرى:
حسد السّماك سميّه لما بدا ... في سرجه شخص الهمام الأبلج
السماك: فرس منسوب لعض الدولة.
وغدا فأضحى لا حقاً ضدّ اسمه ... وأراك أعوج وهو عين الأعوج
فلو أن شاعر بحتر في عصره ... ما قال في فرس ولا في أعوج
خفت مواقع وطئه فلو إنّه ... يجري برملة عالج لم يرهج
البيت كما هو للبحتري.
وقوله من أرجوزة من الرجز:
وقينةٍ أحسن من لقياها ... تملي كتاب الحسن مقلتاها
ونقطة وشكله خداها ... إذا اجتلاها اللحظ أنشدناها
واها لريَّا ثمّ واهاً واها المصراع لأبي النجم ومنها في وصف الناقة:
بجسرة قائدها براها ... في السير بل سائقها رجلاها
قد كتب العتق على ذفراها ... أيّ قلوص راكب تراها
البيت جاهلي قديم ومن قصيدة:
لعمرك لولا آل بوية في الورى ... لكان نهاري مثل ليل الميتَّم
وصمت عن الدنيا وأفطرت بالمنى ... ولم لك إلاّ بالحديث تأدمي
وأنشدت في داري وفيما أرى بها ... أمن أوفى من لم تكلم
المصراع لزهير:

(2/49)


ومن قصيدة في الصاحب:
ومن نصر التوحيد والعدل فعله ... وأيقظ نواّم المعالي شمائله
ومن ترك الأخيار ينشد أهله ... أجل أيها الربع خف آهله
المصراع لأبي تمام أيضاً: ومن أخرى:
أخو كلمات ما جلاها لسانه ... على أحد إلا غدا وهو خاطب
متى يروها أهل الصناعة ينشدوا ... عجائب حتى ليس فيها عجائب
المصراع لأبي تمام أيضاً ومن أخرى:
مقابل بين أقوام وألوية ... مردّد بين إيوان وديوان
إذا أتى داره الأضياف أنشدهم ... وأخوتي أسوة عندي وإخواني
المصراع لأبي تمام
يا ترجمان الليالي عن معاذرها ... وحجة الزمن الباقي على الفاني
يا أبحث الناس عن شعر وعن كرم ... يا مورث الطبع إحساناً بإحسان
يا تاركي منشداً من ظلّ يحسدني ... ليس الوقوف على الأطلال من شأني
المصراع لعبد الله بن عمار الرقيّ
طلقت بعدك مدح الناس كلّهم ... فإن راجع فإنّي محصن زاني
وكيف أمدحهم والمدح يفضحهم ... إن المسّيب للجاني هو الجاني
قوم تراهم غضابي حين تنشدهم ... لكنه يشتهي مدحاً بمجّان
البيت من قول القائل:
عثمان يعلم أن المدح ذو ثمن ... لكنه يشتهي مدحاً بمجّان
رجع:
ورابني غيظهم في هجو غيرهم ... وإنّما الشعر معصوب بعثمان
ما كلّ غانية هند كما زعموا ... وربّما سبّ كشحان بكشحان
فسوف يأتيك منّي كلّ شاردة ... لها من الحسن والإحسان نسجان
يقول من قرعت يوماً مسامعه ... قد عنّ حسان في تفريط غسان
الوشي من أصبهان كان مجتلباً ... فاليوم يهدى إليها من خراسان
قد قلت إذ قيل إسماعيل ممتدح ... له من الناس بخت غير وسنان
الناس أليس من أن يمدحوا رجلاً ... حتى يروا عنده آثار إحسان
البيت تضمين ومن أخرى:
كتبت ابن عباد إليك وحالتي ... حال صدّ طمع عليه مناهله
وما تركت كفاك في خصاصةً ... ولكنّ شوقاً قد غلت بي مراجله
أبيت إذا أجريت ذكرك منشداً ... كأنّك تعطيه الذي أنت سائله
المصراع تضمين.
ومن أخرى في عضد الدولة:
أضحت ثياب فنا خسرو مزرّرة ... على هزير وإنسان وصمصام
القائل القول عيّ السامعون به ... فميّلوا بين أوهام وأفهام
والفاعل الفعلة الغراء لامعةً ... أوضاحها بين أقلام وأعلام
والتارك التّرك والخذلان ينشدهم ... يا بؤس للجهل ضرّاراً لأقوم
المصراع للنابغة الذيباني ومنها:
أغنيتني عن أناس كان بعضهم ... عذري ومكثي فيه بعض إجرامي
المبغضين ليوم الفطر جهدهم ... لأنّهم قطّعوه غير صواّم
قوم إذا مرّ ضيف دحرجوا حجراً ... وأسموا اليوم يوم العيد أو رام
قد قدّقوا نفراً قبلي فأنشدهم ... فضلي ونقص الآلي لاقوم بإكرام
قدمت قبلي رجالاً لم يكن لهم ... في الحقّ أن يلحقوا الأبواب قدامي
تضمين كله.
ومن أخرى:
لو أنّك قد أبصرت تاشاً وفائقاً ... على ظهر يخت أدبر الظهر رزام
وقد كتب الاديار في جبهتيهما ... بإنشاء مقمورٍ وتحرير نادم
فلا تأمنن الدهر حرّاً ظلمته ... فإن نمت فاعلم أنّه غير نائم
تضمين كله.
ومن أخرى:
وقائع لو مرّت بسمع ابن غالب ... لما قال ما بين المصلّى راقم
أتتني ورحلي بالمدنية وقعة ... لآل تميم أقعدت كلّ قائم
البيت للفرزدق، قاله حين سمع وهو بالمدينة قتل وكيع بن أبي الأسود لقتيبة بن مسلم.
سل الله واسأل آل بوية إنَّهم ... بحارالمعالي لا بحار الدراهم
تحبّهم البلدان فهي نواشز ... على كلّ زوج بعدهم أو محارم

(2/50)


ممالك قد نادت عليه حروبهم ... بطول القنا يحفظن لا بالتمائم
ومن أخرى كتب بها من أرجان إلى الصاحب وصف فيها الحمى:
ولو أبصرت في أرجان نفسي ... عليها من أبي يحيى ذمام
ولي من أمّ ملدم كلّ يوم ... ضجيج لا يلذّ له منام
مقّبلة وليس لها ثنايا ... معانقة وليس لها التزام
كأنّ لها ضرائر من غذائي ... فيغضبها شرابي والطعام
إذا ما صافحت صفحات وجهي ... غدا ألفاً وأمسى وهو لام
إذاً لرأيت عبدك والمنايا ... تصيح به تنبّه كم تنام
وما أستباك من بعدي أسير ... يرضّ عظامه الحقّ العظام
ولا ترجيع ثكلى خلف نعش ... أمحمول على النعش الهمام
التضمين للنابغة الذبياني
ولا ترديد صبّ وهو باك ... سقيت الغيث أيّها الخيام
ولولا فقد وجهك لم أعبّس ... على ضيف يقال له الحمام
فما في العيش لولا أنت طيب ... ولا في الموت لولا أنت ذام
وكنت ذخرت أفكاري لوقت ... فكان الوقت وقتك والسلام
وكنت أطالب الدنيا بحرّ ... فأنت الحرّ، انقطع الكلام
ولمل سرت عنك رأيت نفسي ... بين القلب والرّجل اختصام
فذاك يقول منك السير عنه ... وتلك تقول منك الاغترام
وسائلني بعلمك من أراه ... وقالوا ما وراءك يا عصام
فقلت زكاة ما يحويه علم ... لمن لغلامه مثلي غلام
آخره تضمين ومن أخرى:
ويشرب لكن في إناء من الثرى ... رحيقاً خوابيها الطلاء والمناكب
ويسمع لكنّ الغناء مدائح ... ويكنز لكنّ الكنوز مناقب
لو أن حبيباً كان لاقاه لم يقل ... وأكثر آمال النفوس الكواذب
آخره تضمين ومن أخرى:
وفي الدّست شخص ودّت الأنجم ... التي تقابله لو أنهنّ مجالس
فلا تعجبوا أن يحمل الدست عسكراً ... فما كلّ أمر تقتضيه المقايس
وأن يسع الدست اللطيف لعالم ... فقد وسعت إسم الاله قراطس
أمين إذا ما الناس مالوا لغيره ... ومحترس من مثله وهو حارس
المصراع الأخير تضمين لعبد الله بن همام سار مثلاً ومنها:
وكنت آمراً لا أنشد الدهر خالياً ... سوى بيت ضرّ نجمه الدهر ناحس
أقلّي عليّ اللوم يا أمّ مالك ... وذمّي زماناً ساد فيه القلاقس
البيت كما هو لعبد الله بن همام.
فأصبح إنشادي لبيت إذا جرى ... ففيه نديم ممتع ومؤانس
ودار ندامى عطّلوها وأدلجوا ... بها أثر جديد ودارس
البيت لأبي نواس ومن أخرى:
يا من يدرّس خالياً حجابه ... سهل الحجاب مؤدب الخدام
كم تطرد الدنيا وترجع بعد ما ... قد طلّقت تطليقة الإسلام
المصراع الأخير لابن هرمة
فكأنّها شيعيّة قميّة ... وكأنّ سيدنا الوزير إمامي
ويقول للخطاب غيرك ليس ذا ... وقت الزيادة فارجعي بسلام
من بيت جرير:
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا ... وقت الزيارة فارجعي بسلام
ومن أخرى:
وجدنا ابن عباد يؤديّ فرائضاً ... من المجد ظّنتها اللئام النوافلا
جدير بأن يغشى الكريهة منشداً ... أقاتل حتى لا أرى لي مقاتلاً
المصراع لزيد الخيل ومن أخرى:
تعاصيهم أسيافنا فكأنّما ... يرين بريئاً من سفكن له دما
كأنّ ظباها ساعة الروع علّمت ... ولن تستطيع الحلم حتى تحلّما
المصراع الأخير لحاتم الطائي ومن عضدية:
وكم عصبة قرحي عصوك فأصحبوا ... بهم يومهم خمر وفي غدهم أمر
وصارخة للزوج كان غناؤها ... لها كنية عمرو وليس لها عمرو
من بيت أبي صخر الهذلي:
أبى القلب إلاّ حّبها عامرية ... لها كنية عمرو وليس لها عمرو
رجع:

(2/51)


فصيّرتها ثكلى وأصبح قولها ... كذا فليجلّ الخطب وليفدح الأمر
المصراع الأخير تضمين ومن قصيدة في أبي نصر بن العميد:
لئن كنت أضحي من عطاياك شاعراً ... لقد صرت أمسي من جانبك مفحما
أبيت إذاأجريت ذكرك منشداً ... وأن أعتب الأيام فيه فربّما
ومالي من الأصوات مقترح سوى ... أعالج وجداً في الضمير مكتّماً
المصراع الأخير للبحتري ومن قصيدة في الأمير أبي نصر الميكالي:
نجر ذيول الفخر حتى كأنّنا ... لعزتنا في آل ميكال ننتمي
هم شحمة الدنيا فإن نتعدّهم ... إلى غيرهم نحصل على الفرث والدم
سقى الله ذاك الروض جوداً كجودهم ... وصيّر آجال العداة إليهم
وأبقى أبا نصر ليربي عليهم ... سنين كما أربى بنين عليهم
وعاش إلى أن يترك الناس مدحه ... ومن ذا الذي يرجو إياب المثلم
وفي الأمثال لا أفعل ذاك حتى يؤوب المثلم
هو الحر لا يحبو بثوب مطّرز ... غسيل ولا يدعو بكيس مختّم
ولا يعدم الراؤون منه ثلاثة ... عطاءً وعذراً وانبساطاً لديهم
ويعذب إن ينصف كما عذبت نعم ... ويثقل إن يظلم كما ثقلت لم
صفوح عن الجهال ينشد فعله ... ويشتم بالأفعال لا بالتكلم
المصراع تضمين، وهو جاهلي معروف ومن قصيدة في الهجاء:
زمن المروءة عهده بفتوّة ... عهدي بترك الشّرب في شوال
غضبان ينشد حين يبصر سائلاً ... كفّي دعاءك إنني لك قالي
وله مواعد قد حكت في طولها ... آلت أمور الشرك شر مآل
البيت ابتداء قصيدة لأبي تمام في المزنيين ومن أخرى:
متى ما زرتهم أوصيت أهلي ... وصية عائد بالجرم بادي
بتجديد الصنادق للهدايا ... وتوسيع المرابط للجياد
وإن ودّعتهم أنشدت فيهم ... سقى عهد الحمى سيل العهاد
المعراع لأبي تمام ومن أخرى شمس المعالي:
شموس لهنّ الخدر والبدر مغرب ... فطالعها بالبين والهجر غارب
ولكنّما شمس المعالي خلافها ... مشارقه ليست لهنّ مغارب
فما لقبوه الشمس إلا وقد رووا ... بأنّك شمس والملوك وكواكب
المصراع الخير من بيت النابغة
أقول لزوّار الأمير ترجّلوا ... فمن زاره من راجل فهو راكب
وإن زاره الفرسان كنت كفيلهم ... بأن يرجعوا والخيل فيهم جنائب
إذا رجعوا عن بابه فنشيدهم ... وإن سكتوا أثنت عليه الحقائب
ألا أبلغوا عنّي الأمير رسالةً ... تدّل على أني على الدهر عاتب
إلى كم يحل المرء مثلك بلدة ... بها منبر فيها لغيرك خاطب
لقد هان من امسى ببلدة غيره ... وقد ذلّ من بالت عليه الثعالب
هذه من سقطاته وعرره، الواقعة في غره فإن فيه سوء أدب، وهو بالتقريع أشبه منه بالتقريظ، وليس مما يخاطب به الملوك ومما زل فيه أقبح زلة، قوله من قصيدة في الصاحب وقد اعتل:
نعوا لي نفس المجد ساعة أخبروا ... بما يشتكي من سقمه ويمارس
فإن في لفظه النعي ما فيها من الطيرة، إذ هي مما يقع في المريثة لا في العيادة، ثم قال:
فهلاّ فداه منه من ليس مثله ... ومن ربعه في ساحة الجود دارس
جزى الله عنّي الدهر شراً فإنّه ... يضايقني في واحد وينافس
ومن سقطاته المنكرة قوله للصاحب من قصيدة:
ومهيب كأنّما أذنب النا ... س إليه فهم مغشون ذلاً
وظريف كأنّ في كلّ فعل ... من أفاعيله عرائس تجلى
فإن الكبراء والمحتشمين لا يوصفون بالظرف، إذ هو من أوصاف الأحداث والقيان والشبان، ولم يرض بالفرطة في هذه اللفظة حتى شبه أفاعيله بعرائس تجلى، فلو مدح مخنثاً لما زاد، والكامل من عدت سقطاته، ولكل جواد كبوة، ولكل عالم هفوة.
غرر من مدحه وهذه غرر من مدحه وما يتصل بها فمن ذلك قوله من عضدية:

(2/52)


غريب على الأيام وجدان مثله ... وأغرب منه بعد رؤيته الفقر
فلا حرّ إلاّ وهو عبد لجوده ... ولا عبد إلاّ وهو في عدله حرّ
عجبت له لم يلبس الكبر حلّة ... وفينا لأن جزنا على بابه كبر
وله من أخرى:
متى أشقّ رواق الملك تلحظني ... عين امرىء بغيوب المجد علاّم
متى أرى قمر الديوان مطّلعاً ... في سطو بهرام بل في ملك بهرام
متى أقبّل فرشاً لا يقبّله ... عاف فيفرق بين الترب والسام
مالي أبيت بشيزار وأصبح في ... داري فدت يقظتي نومي وأحلامي
ما يطلب الحلم من قلبي يقلّبه ... عندي من السّقم ما يكفيه أسقامي
أصبحت أشكر ليلاً أشتكي غده ... الليل عوني والأيام غرّامي
والأرض تعلم أنّي سوف أمسحها ... حتى أرى من يرى بالليل أوهامي
ومن أرجوزة من الرجز:
يا عضد الدولة من يمناها ... يا مهجة قالت لها أعلاها
من أسخط الدرهم أرضى الله ... ومن أزال المال صان الجاها
وقال من قصيدة:
بحمدك لا بحمد الناس أضحي ... وكيلي ليس يكفيه وكيل
وكانوا كلّما كالوا وزنّاً ... فصرناً كلما وزنوا نكيل
وزدت من العيال وذاك أنّي ... كتبت على لقائك من أعول
وعشت وناقص رزقي فأضحى ... مفاعلتن مفاعلتن فعول
وكنت أبيع من سقط القوافي ... وأحجر ما تضمنت الحمول
وأكتم من أبيع دقّ بزّي ... ففاض عليه نائلك الجزيل
ومن أخرى:
ألا حرّكا لي أبروزير بن هرمز ... وقولا له قم تلق أعجوبةً قم
نطلّع إلى الدنيا لتعلم أنّ ما ... ملكت من الدنيا بمقدار درهم
لعمرك لولا آل بوية لم يكن ... نهاري إلاّ مثل ليل المتيّم
ومنها:
وهم جعلوني بين عبد وقينة ... ودار ودينار وثوب ودرهم
وهم تركوا الأيام تعجب أن رأت ... سلوّي ولا أرقى السماء بسلم
وهم حالفوني أوطأوا في صلاتهم ... وصلت عن الأبطال شعري فيهم
ومن أخرى:
ختمت بك العجم الملوك وراجعت ... بك تاج ملكهم القديم المنهج
لم يفقدوا بك أزدشير وإنّما ... فقدوا نقيصة دينه المستسمج
ومن أخرى:
وغاظ مدحك أقواماً وفي يدهم ... لو طاوعوا الجود تقديمي وإحجمامي
وما ظعنت على نهر فأغضبه ... لكن ذكرت عباب الزاخر الطامي
أكلّ فاضل أقوام شهدت له ... يغتاظ من ذكره مفضول أقوام
ومن صاحبية:
وأبيض وضّاح الجبين كأنّما ... محّياه قد درّت عليه شمائله
يقّبل رجليه رجال أقلّهم ... تقّبل في الدّست الرفيع أنامله
ومنها:
أقبل أشعاري إذ اسمك حشوها ... وأشتم ملبوسي لأنّك باذله
وأخطر في حافات دار ملأتها ... طرائف باقي العيش منها وحاصله
وله من أخرى:
وأنت امرؤ أعطيت ما لو سألته ... إلهك قال الناس أسرفت سائلاً
وإني وإلزاميك بالشعر بعدما ... تعلّمته منك الذّرى والفواضلا
كملزم ربّ الدار أجرة داره ... ومثلك أعطى من طريقين سائلا
ومن أخرى:
ولقد عهدت العلم أكسد من ... بهتان فرعون لدى موسى
فأقام قاعد سوقه رجل ... ميت الرجاء ببابه يحيا
فالعلم أصبح في الورى علماً ... والشعر أمسى يسكن الشّعرى
ومن أخرى:
بنيت الدار عاليةً ... كمثل بنائك الشّرفا
فلا زالت رؤوس عدا ... ك في حيطانها شرفا
ومن قصيدة في مؤيد الدولة ذكر فيها افتتاحه قلعة من أبكار القلاع واستنزاله صاحبها المسمى كورشيار منها:
وكنت سماء والعجاج سحائباً ... وخيلك أبراجاً وجيشك أنجما

(2/53)


وأنزلت منها كوشيار وإنما ... تقنّصت من فوق المجرّة ضيغما
عرفتك صياد الأسود ولم أكن ... عرفتك صياد الأسود من السما
خدمتكم يا آل بوية مدّةً ... غدا بينها فرخ الوسائل قشعما
ومن أخرى في أبي الحسين المزني:
كلم هي المثال إلاّ أنها ... في الناس قد أضحت بلا أمثال
فإذا لقين فإنّهنّ عوالي ... وإذا شممن فإنّهم غوالي
ومن صاحبية:
تأخّر عن كتبي الجواب، وإنّما ... تاخر برد الماء عن كبد حرىّ
فلا تفسد عشرين ألفاً وهبتها ... بعشرين حرفاً كلامك تستمرى
ومن ميكالية:
فديتك ما بدا لي قصد حرّ ... سواك من الورى إلا بدا لي
وإنك منهم وكذاك أيضاً ... من الماء الفرائد واللآلي
وتسكن دارهم وكذلك سكنى الحجارة والزمرّد في الجبال
وهذه فقرة من مراثيه قال من قصيدة رثى بها ركن الدولة أبا علي:
ألست ترى السيف كيف انثلم ... وركن الخلافة كيف انهدم
طوى الحسن بن بويه الرّدى ... أيدري الرّدى أيّ جيش هزم
ومنها أيضاً:
طويل القناة قصير العدات ... ذميم العداه حميد الشيم
فصيح اللسان بديع البنان ... رفيع السنان سريع القلم
يكيل الرجال بأقدارها ... ويرعى البيوتات رعي الحرم
جواد عليهم بخيل بهم ... إذا ساء خصّ وإن سّر عم
فيا دهر سحقاً ولا تحتشم ... فقد ذهب الرجل المحتشم
وخطّ الفناء على قبره ... بخطّ البلا وبنان السقم
إذا تمّ أمر دنا نقصه ... توقع زوالاً إذا قيل تم
ومنها:
إذا كان يبكي الورى بالدموع ... وتبكي بهنّ فأين القيم
وقد ساءني عطل الدهر منك ... وقد كنت حلياً عليه انتظم
فما يستحق الزمان اللئيم ... مقامك فيه وأنت الكرم
وله من أخرى في مرثية أبي الفتح بن العميد:
يا دهر إنّك بالرجال بصير ... فلطالما تجتاحهم وتبير
يا دهر غيري من خدعت بباطل ... وابن العميد مغّيب مقبور
الآن نادتنا التجارب طلّقوا ... دنياكم إنّ السرور غرور
يا دهر ظلّ لمخلبيك فريسة ... رجل لعمري لو علمت كبير
رجل لو أن الكفر يحسن بعده ... هجي القضاء وأنّب المقدور
أشكو إليك النفس وهي كئيبة ... وأذمّ فيك الدمع وهو غزير
وأقول للعين الغزير بكاؤها ... خطب لعمري لو عميت يسير
قد متّ بعدك ميتةً مستورةً ... قد ساقها لي موتك المشهور
ودفنت في قبر الهموم وضمّني ... كفنان ضيق الصدر والتفكير
ضحكت إليك الحور ضحكك كلّما ... وافاك ضيف أو أتاك فقير
وضفت عليك ذيول رحمة ربنا ... والله برّ بالجواد غفور
وسقى ضريحك مستهلّ عمره ... شهر وعمر النبت منه شهور
جود ككفّك أو كعيني أو دم ... أجراه سيفك في العدى مشهور
أهوى القيامة لا لشي أن ... ألقاك فيها والأيام حضور
وأحب فيك الموت علماً أنني ... بعد الممات إلى اللقاء نصير
ومن أخرى:
أسّرك أنّ الدهر يجني لما جنى ... ولم يك في الأحبار والنصب يدعي
فيا عجبي من ناصبيّ وفرحة ... وأعجب منه الحزن في المتشيّع
وأعجب من هذين إظهار الأسى ... لمن غاب عن دار الأسى والتوجّع
ألم ترى أن الله قال تمتّعوا ... قليلاً ولم يبق قليل التمتطُّع
ومن أخرى يرثي بها مؤيد الدولة ويعزي ويهني فخر الدولة:
رزئت أخاً لو خيّر المجد في أخ ... من الناس طهراً ما عداه ولا استثنى
وقد جاءت الدنيا إليك كما ترى ... طفيليةً قد جاوبت قبل أن تدعى

(2/54)


صبت بك عشقاً وهي معشوقة الورى ... فقد أصبحت قيساً وعهدي بها ليلى
ولما رأت خطّابها تركتهم ... ولم ترض إلاّ زوجها الأوّل الأولى
ولم تتساهل في الكفّ ولم تقل ... رضيت إذا ما لم تكن إبل معزى
على أنها كانت جفتك تذلّلاً ... فخليتها حتى أتت تطلب الرجعى
وله من قصيدة رثى بها أبا سعيد الشيب وكان واداً له عاتباً عليه:
أيدري السيف أيّ فتى يبيد ... وأيّة غاية أضحى يريد
لقد صادت يد الأيام طيراً ... تضيق به حبانة من يصيد
وأصبح في الصعيد أبو سعيد ... ألا إن الصعيد به سعيد
وقد كانت تضيق الأرض عنه ... فلم وسعت لجثّته اللحود
بلى مسّ الثرى قلباً رحيباً ... فأعدى الترب فاتّسع الصعيد
فلا أدري أأضحك أم أبكي ... وتهدم المنيّة أو تشيد
صديق فقد فقدناه قديم ... وثكل قد وجدناه جديد
مصاب وهو عند الناس نعمى ... ونحس وهو عند الناس عيد
تهنّيني الأنام به ولكن ... تعزّيني المواثق والعهود
وسيف قد ضربت به مرارً ... فمن ضرباته بي لي شهود
فلّما أن تفلّل ظلت أبكي ... وعندي منه فعد دم جسيد
ومن عجب الليالي أنّ حمضي ... يبيد وأنّ حزني لا يبيد
وأن النصف من عيني جمود ... وإن النصف من قلبي جليد
إذا سفحت عليه دموع عيني ... نهاها الهجر منه والصدود
وآثار له عندي قباح ... يجمّش بينها الرأس الحديد
فنصف من مدامعها سخين ... ونصف من مدامعها برد
فمن هذا رأي في الناس مثلي ... أريد من المنى مالا أريد
ومن نكد المنّية فقد حرّ ... تخالف فيه إخواني الشهود
فذا هنّى وقال مضى عدوّ ... وذا عزىّ وقال مضى وديد
رأيت العقل ينفع وهو قصد ... ويلقي في المهالك إذ يزيد
كمثل الدرع إن خفّت أجنّت ... وإنّ ثقلت فحاملها جهيد
ومثل الماء يروي منه قصد ... ويقتل منه بالغرق المزيد
شهدت بأن دهراً عشت فيه ... ومتّ مقيداً فرداً مبيد
وقالوا البحر جزرّ ثم مدّ ... فما لك قد جزرت ولا تعود
بكيت عليك بالعين التي لم ... تزل من سوء فعلك بي تجود
فقد أبكيتني حيّاً وميتاً ... فقل لي أيّ فعليك الرّشيد
فها أنا ذا المهنّ والمعزّى ... وها أنا ذا المباغض والودود
وهاأنا ذا المصاب بك المعافى ... وهاأنا ذا الشقيّ بك السعيد
لقد غادرتني في كلّ حال ... أذمّ الدهر فيك وأستزيد
فلا يوم تموت به مجيد ... ولا يوم تعيش به حميد
وما أصبحت إلاّ مثل ضرس ... تأكلّ فهو موجود فقيد
ففي تركي له داء دويّ ... و في قلعي له ألم شديد
فلا تبعد إقامة رسم حق ... وإنّك أنت للشيء البعيد
وإنك أنت للسيف الحديد ... و إنك أنت للعلم السديد
وإنك أنت الدنيا جميعاً ... و لكن ليس للدنيا خلود
وله من قصيدة يرثي بها أبا الحسن المحتسبي:
وصاحب لي لو حلّت رزيته ... بالطير ما هتفت يوماً على فنن
عاشرته عشرةً لو أنّها وقعت ... بين الضّحى والدّجى سارا على سنن
حتى إذا نلت سؤلي من مواهبه ... و صاد بشباك الوصل والمنن
ثكلته بعد ما سارت محاسنه ... في العظم واللحم سير الماء في الغصن
يا دهر أثكلتني حتى أبا الحسن ... لقد أمنت عليه غير مؤتمن

(2/55)


وصلت سهمك منّي يوم قتلكه ... في مقتل القلب لا في مقتل البدن
جمعت ضّدين من خرق ومن أدب ... بطش الجهول ومكر العاقل الفطن
قد كنت أعجب لم أخرت من أجلي ... الآن أدري لماذا كنت تذخرني
ولم يكن في الورى ذا منظر حسن ... في مخبر حسن إلاّ أبو حسن
وله في عائد بن علي لما ضربته السموم فهلك:
عائد قد دعا به المعبود ... وجميع الورى إليه يعود
أهلكته السموم في أرض مكرا ... ن ولله في الرّياح جنود
وله في أبي سهل البستي الكاتب:
مات أبو سهل فواحسرتا ... أن لم يكن قد مات مذ جمعه
ما حزني إلاّ لأن لم يمت ... بموته من أهله تسعهْ
مصيبة لا غفر الله لي ... إن أنا أذريت له دمعهْ
وهذه نتف من أهاجيه في خلفاء العصر قال:
ما لي رأيت بني العباس قد فتحوا ... من الكنى ومن الألقاب أبوابا
ولقّبوا رجلاً لو عاش أولّهم ... ما كان يرضى به للحش بواب
قلّ الدراهم في كفيّ خليفتنا ... هذا فأنفق في الأقوام ألقاباً
وله في علوي ناصبي:
شريف فعله فعل وضيع ... دنيء النفس عند ذوي الجدود
عوار في شريعتنا وفتح ... علينا للنصارى واليهود
كأن الله لم يخلقه إلاّ ... لتنعطف القلوب على يزيد
وله في فقيه:
مجبر صيّر ابنه ناصبياً ... مجبراً مثله وتلك عجيبه
ليس يرضى أن يدخل النار فرداً ... ساعة الحشر أو يقود حبيبه
وله في أبي سعيد بن مله:
أبو سعيد زحل للكرام ... ومنسف ينسف عمر الأنام
لم أره إلاّ خشيت الرّدى ... و قلت يا روح عليك السلام
يبقى ويفنى الناس في شؤمه ... قوموا انظروا كيف بخوت اللئام
ثم تراه سالماً آمناً ... يا ملك الموت إلى كم تنام
وله فيه:
أرى لك أفعالاً تناقض أمرها ... على أنها في القبح والعار واحد
نبيذك ذا حلو، وجهك حامض، ... وماؤه ذا سخن، وفعلك بارد
وله في أبي الطيب البيهقي:
يبكي من الموت أبو طيب ... دمع لعمري غير مرحوم
ويشتكي ما يشتهي غيره ... شكاية الخير من الشوم
ساكتنا الشيخ أبو طيب ... والصمّت أحياناً من اللوم
وله فيه:
فسار الشيخ سهواً وفي كفّه ... شراب فلمناه لوماً قبيحاً
فقال لي الدخل والخرج لي ... فأدخلت راحاً وأخرجت ريحا
وله في نديم حمامي:
قل لمن ينكح بالعيون ... جواري الأصدقاء
والذي يعتقد الملك ... له قبل الشراء
أنت والله نشيط الأ ... ير كسلان الوفاء
ليت قلبي قدّ من أيرك ... في باب الذكاء
أمهل الساقي ولا تخجله ... بين الندماء
أنا بالساقي كفيل ... لك من بعد العشاء
فإذا ما انصرف النا ... س فجد لي بالأداء
لك أير جاهليّ ... من أيور السفهاء
يا كثير الماء أقرضنا ... ولو حمةّ ماء
أنت من أيرك هذا في ... عناء وبلاء
أعظم الله لك الأجر ... على هذا العناء
وله في طاهر السجزي:
ألا يا سائلي بأبي حسين ... وفي التجريب علم مستفاد
هو ابن سميه والطلاء عين ... وشبه كنيه والسين صاد
وله من قصيدة:
فإن أسكن ببلدة إبن شهرٍ ... فإن البدر ينزل في الظلام
أصغِّرها وإن عظمت ولكن ... لها أهلون ليسوا بالعظام
وفرسانٌ ولكن في الحشايا ... وأجواد ولكن بالكلام
صغارٌ. بالمطالب والسجايا ... وإن كانوا كباراً بالعظام
وله أيضاً:

(2/56)


أبو زيد فتى حرّ، ولكن ... لنا في أمر ذاك الحرّ ظنّه
أراه يشتري الغلام سوداً ... عفاريت فيوهمني بأنّه
وله في فائق وقد قصد الأمير أبا علي لمحاربته من الرجز:
قد خطب الصفع قفا الخصي ... فمرحباً بالخاطب الكفي
ورحل البار إلى الكركي ... فأبشروا بلحمه الطري
وله في أبي سعيد رجاء وأبي القاسم العباس ابني الوليد:
ولما أن رأيت ابني وليد ... وبينهما اختلاف في الفعال
وهبت قبيح ذا الجميل هذا ... وأسلفت العواقب والليالي
إذا اليد أحسنت منها يمين ... فسّوغنا لها ذنب الشمال
وله في رجل جليت ابنته على الختن وهي منه حبلى لأشهر:
يا جالي البنت بعد ما ثقبت ... تبزر القدر بعد ما قلبت
هذا كما قد يقال في مثل ... جصصت الدار بعد ما خربت
وهذه فقر وظرف له في فنون مختلفة قال من قصيدة:
لا يصغر الرجل الكبير ... بعشرة الرّجل الصغير
بل يكبر الرجل الصغير ... بخدمة الرجل الكبير
ويركب التّبر النفيس على الدني من السيور
ماذا يضرّ البدر قر ... ب النجم منه المستنير
بل ما يضرّ السيل مجراه على الأرض الحدور
بل ما عسى صغر السفين يغضّ من عظم البحور
قد زادني شرفاً ولم ... ينقصه من شرف حضوري
كالنار ليس بناقص ... منها اقتباس المستعير
تلقي الفتى سهل الشريعة للجليس وللعشر
أو ما رأيت البحر يغرق ... منه بالخطب اليسير
والناس مثل الجسم يعتمد ... القبيل على الدبير
يتحامل العضو الخطير ... بقوّة العضو الحقير
كتحامل الرمح الطويل ... بزجّه ذاك القصير
ومن أخرى:
يا أيّها الخاطب مدحي وهل ... يورد من غيري رشاء قليب
شيئان لم يجتمعا لأمرىء ... حبّ الدنانير وحبّ الحبيب
ومن أخرى:
ولي والله إخوان كثير ... نصيبي من فعالهم سواء
ولكنيّ رأيتك من أناس ... إذا لم يحسنوا فلقد أساءوا
ومن أخرى:
ومتى شتمت الدهر تشتم صابراً ... تبكي ويضحك ذلك المشتوم
لا ومن صاحبية لما ورد حضرته مكتوب من جهة تاش:
فإن ردّني دهري عليك طريدةً ... فلا غرو أن يسترجع القوس حاجب
هو الوكر طرنا والرّيش وافد ... وعدنا إليه الآن والرّيش ذاهب
ومنها:
جزى الله عني أهل سامان ما أتوا ... وفي الله للثأر المضيعّ طالب
هم زوّجوني لهمّ بعد طلاقه ... وذلك عرس للمآتم جالب
هم اعطشوا زرعي فشمت سحابئاً ... غرائب لما أخلفتني القرائب
فأنحوا لزرعي بالحصاد وأنضبوا ... مياهاً لها أيدي سواهم مذانب
أتحصد أيديكم ويزرع غيركم ... فأنتم جراد والملوك سحائب
أخذه من قول ابن عيينة:
أبوك لنا غيث نعيش بظلّه ... وأنت جراد لست تبقي ولا تذر
رجع:
إذا طمع السلطان فيما كسبته ... بشعري فالسلطان بالشعر كاسب
فأنتم مدحتم آل بواب لا أنا ... وأمدح من لفظ اللسان حقائب
ومن أخرى:
لاحت لوجهي أنجم ... للشيب عدن به طوالع
أودعت منهنّ الصّبا ... من لا يرى ردّ الودائع
فقصصتهنَّ وإنّما ... دهري بمقراضي أخادع
وإذا عدوّك كان بعض ... في الخطوب من تقارع
ومن أخرى:
خضّبتني الأيام لون بياض ... وخضاب الأيام ليس نباضي
وتخطتني المنون إلى شعري ... فأضحى مكفّناً ببياض
ولعمري إنّي لغير لبيب ... في قتال الأيام بالمقراض
ومن أخرى:
وارك تشكو الشيب تظلمه ... والشيب زرع بزره العمر
كالخمر يجلبها الخمار وقد ... يهجى الخمار ويمدح الخمر
وله في تلميذ عاق:

(2/57)


هذا أبو بكر صقلت حسامه ... فغدا به صلتاً عليّ وأقدما
أمسى يجهّلني بما علّمته ... ويريش من ريش لرمي أسهما
يا من قوساً بكفّي أحمكت ... ومسدداً رمحاً بكفي قوّماً
أرقيت بي في سلّم حتى إذا ... نلت الذي تهوى كسرت السّلّما
وله يهجو:
أبا نصر رويدك من حجاب ... فلست بذلك الرجل الجليل
ولا تبخل بهذا الوجه عنّا ... فليس بذلك الوجه الجميل
والأشعار قوم لست منهم ... ولكنّي هجرتك في السبيل
ومن قصيدة في الشكوى:
ولقد بلوت الأصدقاء فلم ... أر فيهم أوفى من الوفر
وكذاك لم أر في العدا أحداً ... أنكى لمن عادى من الفقر
ذهب الغنى ورثت عادته ... فأنا الغنيّ وغيري المثري
وتجمّعت في اثنتان ولم ... يتجمّعا في سالف الدهر
لا يبرح المقصوص موضعه ... ولقد قصصت فطرت عن وكري
ومن أخرى في نكبة المزني:
ولقد بكيت عليك حتى قد بدا ... دمعي يحاكي لفظك المنظوما
ولقد حزنت عليك حتى قد حكى ... قلبي فؤاد حسودك المحموما
ومن أخرى فيه:
قتل الموجر والعجائب جمّة ... شيخ المشايخ بل فتى الفتيان
لا تعجبوا من صيد صعوٍ بازياً ... إن الأسود تصاد بالخرفان
قد غرّقت أملاك حمير فأرة ... وبعوضة قتلت بني كنعان
ومن أخرى في أبي القاسم المزنيّ لما قبض عليه:
وثب الصغير على الكبير وقد ... يطفي التراب حرارة الجمر
لا تعجبنّ فربّ ساقية ... قد كدرت طرفاً من البحر
هذا الحسام يفلّه حجر ... وبه قوام النهي والأمر
غضبت جذيمة نفسه امرأة ... فاصطيد ذاك الحرّ بالحرّ
هيهات هذا الدهر ألأم من ... أن لا يسر العبد بالحرّ
وله، وقد طلبت جارية له بعشرة آلاف درهم:
يا طالباً روحي ليبتاعها ... أنت رسول الغمّ والحسرة
غدوت بالبدرة فارجع بها ... لست أبيع البدر بالبدرة
وله من أخرى:
أيا من قربه خبره ... ويا من بعده عبره
ويا من وصله يوم ... ويا من الشمال هجره فتره
ويا من وصله أعلى ... من الشمأل بالبصرة
ويا من نظرة منه ... تساوي مائتي بدره
ويا من قد حكى خدا ... ه قلبي فيهما جمره
ويا من طرف من أبصر بدراً بعده يكره
ويا من عينه جيش ... كثيف لأبي مرّه
ويا من نخر الشيطا ... ن في مولده نخره
وقال اليوم ألقيت ... بني آدم ي الحفره
ويا من أنذرت عينا ... ه عيني مائتي مرّه
أيا عين ارجعي ما كلّ وقت تسلم الجرّه
ويا أحسن من يسر ... يلقى صاحب العسره
وما أعذب في الأنفس ... من صفح على قدره
ويا من لست أرضي قط ... بالبحر له قطره
ولا أرضى له البدر ... على إشراقه غره
ولا أرضى له الأرض ... على فسحتها حجره
ولا أرضى له بلقيس ... بجلوها على العذره
ولا أرضى برزق الأنس ... والجن له سفره
ولا أرضى من القلب ... له عشق بني عذره
ولا أرضى له السعد ... غلاماً والمنى سخره
ولا أرضى له الرمل ... نضاراً والحصى نقره
ولا أرضى له إلاّ ... بنفسي أمةً حرّه
قد استخرجت من عيني ... عيناً في الهوى ثره
فلو فجّرتها فجّر ... ت منها أثنتي عشره
وقد أضجعني فوق ... فراش الهم والحسره
وقد علّمتني كيف ... يموت المرء من نظره
وله في وصف الخمر من قصيدة:
وصفراء كالدينار نبت ثلاثة ... شمال وأنهار ودهر محّرم

(2/58)


مسّرة محزون وعذر معربد ... وكبر مجوسي وفتنة مسلم
ممات لأحياء حياة لميّت ... وعدم لمن أثرى ثراء لمعدم
يدور بها ظبي تدور عيونناً ... على عينه من شرط يحيى بن أكثم
ينزّها من ثغره ومدامه ... وخدّيه في شمس وبدر وأنجم
نهض إليها والظلام كأنّه ... معاش فقير أو فؤاد معلم
وله، وقد دخل إلى صديق له فبخره وسقاه:
بخّرت ثم سقيت في دار امرى ... تضحي القلوب طوالبا لوفاقه
فكأنّما سقّيت من ألفاظه ... وكأنّما بخّرت من أخلاقه
وله:
يا من يحاول صرف الراح يشربها ... فلا يلفّ لما يهواه قرطاسا
الكأس والكيس لم يقض امتلأوهما ... فرّغ الكيس حتى تملأ الكاسا
وله:
عزل الورد عن أنوف الندامى ... وأتتنا ولاية الريحان
فاقض حق الريحان بالراح فالريحان والراح في الورى أخوان
وأن الورد وابكه بدموع ... من دموع الأقداح لا الأجفان
وله:
رأيتك أن الشرب خيّمت عندنا ... مقيماً وإن أعسرت زرت لماما
فما أنت إلا البدر إن قلّ ضوؤه ... أغبّ وإن الضياء أقاما
وله:
سقاني الوجه الحسن ... كأساً فخلّيت الرسن
وصار عندي حسناً ... قتل الحسين والحسن
وله في الند:
وطيب لا يخلّ بكلّ طيب ... يحيّينا بأنفاس الحبيب
يظل الذّيل يستره ولكن ... تنمّ عليه أزرار الجيوب
متى يشممه أنف حنّ قلب ... كأنّ الأنفس جاسوس القلوب
وله من قصيدة:
عذر من عين الزمان فإنّها ... إذا استحسنت مستحسناً قلّ طائله
وما أنت إلا البيت غنم دخوله ... كثير عواديه بعيد مراحله
وله في باقة ريحان من الرجز:
وضغث ريحان إذا ما وصفه ... واصفه قيل له زد في الصفة
دقّق صانعه ولطّفهكأنّهوشم يد مطّرفه
أو حظّ وراق أدقّ أحرفه ... أو زغبات طائر مصففّه
أو حلّة بخضرة مفوَّفة ومن أرجوزه:
لا تشكر الدهر لخير سببه ... فإنّه لم يتعمد بالهبه
وإنّما أخطأ فيك مذهبه ... كالسيل إذا يسقي مكاناً خربه
والسمّ يستشفي به من شربه ... ما أثقل الدهر على من ركبه
حدّثني عنه لسان التجربة ... ما أهون الشوكة قبل الرّطبة
وأسهل الكد على من أكسبه وله:
لا تيأسن من حبيب ... إذا توعرّ خلقه
فكلّما صلب الخبز ... كان سهلاّ مدقهّ
وله:
لا تصحب الكسلان في حاجاته ... كم صالح بفساد آخر يفسد
عدوى البليد إلى الجليد سريعة ... والجمر يوضع في الرماد فيخمد
وله:
عليك بإظهار التجلّد للعدى ... ولا تظهر منك الذبول فتحقرا
ألست ترى الريحان يشتم ناضراً ... ويطرح في الميضا إذا ما تغيرّا
وله:
تمنيت خلاّت على الدهر أربعاً ... ولم أر مسئولاً أشحّ من الدهر
جماعاً بلا ضعف، وشرباً بلا سكر ... وعمراً بلا شيب، وبذلاً بلا فقر
وله:
وأني لأرجو الشيب ثمّ أخافه ... كما يرتجى شرب الدواء ويحذر
هو الضيف إن يسبق فعيش مكدر ... عليّ وإن يسبق فموت مقدّر
وله:
لا تفرطن في حدّة أعملتها ... فيكلّ ذاك الحدّ منك وتفشلا
أو ما ترى الصمصام والسّكّين إن ... زادا على حدّ الصقال تفللاّ
وله من الرجز:
الملك عندي متعة الشباب ... والعزل عندي فرقة الأحباب
والفقر عندي عدم الشراب ... والشيب عندي كذب الخضاب
والقبح عندي عدم الآداب ... والعرس عندي ليلة الكتاب
والروض عندي ملح الأعراب ... والبغض عندي كثرة الإعراب
والسيف عندي قلم الكتاب ... والنجح عندي سرعة الإياب

(2/59)


والطرد عندي كلحة البواب ... والذل عندي وقفة الحجاب
والقحط عندي قلة الأصحاب ... والشؤم عندي كثرة العتاب
والعيّ عندي هذر الخطاب ... والعزّ عندي طاعة الصواب
وإلالّ عندي خلّة القحاب ... والغول عندي طلعة الكذاب
والصفح عندي أبلغ العقاب ... واللوم عندي سفه الشراب
والأمس عندي أسرع الهّرب ... والمال عندي أسرع الهرب
والغدّ عندي الحقّ للطلاب ... والفخر عندي أفخر الثياب
والسجن عندي منزل التراب ... والهول عندي موقف الحساب
وله من أخرى:
ولا تغترر بالحليم تغضبه ... فربما أحرق الثرى البرد
أبو سعيد أحمد بن شبيب الشبيبي
فرد خوارزم ومفخرتها، وكان جامعاً بين أدب القلم والسيف. وفروسية اللسان والسنان، صاحب كتب وكتائب وفضائل ومناقب ولما اختص بالدولة السامانية. والدولة البويهية، سمى صاحب الجيش، وشيخ الدولتين، وقال:
ربّ إنّ ابن شبيب أحمدا ... صاحب الجيشين شيخ الدولتين
واثق بالله يرجو المصطفى ... وأخاه المرتضى والحسنين
وسمعت أبا بكر الخوارزمي يقول: كان الشيب في أيام شبابه بخوارزم يقول شعراً غليظاً جاسياً كأشعار المؤدبين، فلما عاشر الناس ولقي الأفاضل لطف طبعه، ورق شعره، كقوله وكتب به إلى:
للشبيبي صنيعتك ... حسرات لفرقتك
واشتياق إلى لقا ... ء تباشر طلع
ربّ سهلّ لقاءه ... يا إلهي برحمتك
وأنشدني أبو عبد الله محمد بن حامد قال: أنشدني أبو سعيد صاحب الجيشين لنفسه في أبي بكر الخوازرمي:
أبو بكر له أدب وفضل ... ولكن لا يدوم على الإخاء
مودّته إذا دامت لخلّ ... فمن وقت الصباح إلى المساء
وأنشدني غيره له في الأمير أبي نصر الميكالي:
يا آل ميكال أنتم غرّة العجم ... لكنّ أحمد فيكم درّة الكرم
لا تحسدوه فإنّ الله فضّله ... منكم عليكم جميعاً، بل على الأمم
لا تحسد رجلاً ما إن له شبه ... فيمن برى الله من عرب ومن عجم
فمن يحاكيه في الأفضال والكرم ... أم من يناوئه في الآداب والقلم
أم من يساجله في كلّ مكرمة ... أم من يعادله في الجود والهمم
يا آل ميكال إنّي قد نصحتكم ... نصح امرىء في هواكم غير متّهم
فاستسلموا لقضاء الله واعترفوا ... بفضل أحمد طوعاً أو على الرغم
وعندي له مقطوعات تصلح لهذا المكان، ولكنها غائبة عني الآن
أبو الحسن مأمون بن محمد بن مأمون
له من قصيدة في مدح الأمير أبي العباس مأمون بن محمد أولها:
أغاظني الدهر من إنصافه جنفا ... هل كان غيري من الأيام منتصفا
أشكو إلى غير مشكو ليشكيني ... هل ينفع الدن شفاؤه البدن
ومن أخرى في الأمير أبي عبد الله محمد بن أحمد خوارزم شباه كان:
كم له من يد عليّ إذا ما ... عدّدت لم يكن لعدّتها كمّ
ما لجهلي قصور شكري فمن ... علوم الضرورات شكر من كان منعم
لست والله ناسي البرّ ما أنسا ... ب بطبع الحياة في جسدي الدم
ومن أخرى:
لئن طال عهدي بوجه الأمير ... فقد طال عهدي بأن أسعدا
إذا شئت رؤية ما في الزمان ... فزر شخصه الفاضل الأوحدا
ترى الليث والغيث والنيرين ... والناس والبحر والمسندا
ومنها:
وبلّغه الله أقصى مناه ... وأسنى له ملك ما مهّدا
ولا زال فيروزه عائداً ... بأفضل حال كما عوّدا
أبو عبد الله محمد بن إبراهيم التاجر الوزير كان بخوارزم قال من قصيدة في أبي سعيد الشبيبي أولها:
حكم عينيك نافذ فيّ ماضي ... كيفما شئت فاقض ما أنت قاضي
وكأنّ الصباح لمّا تجلّى ... لي سيف له الشبيبي ناضي
الهزبر الذي له الدرع كاللبدة ... لليث والقنا كالغياض

(2/60)


ومنها في وصف القلم:
ناطق ساكب أصمّ سميع ... قلق ساكن وقوف ماضي
ناحل الجسم نابه الاسم منقّى الوسم ... في كلّ عاند ذاي اعتراض
هاكها يا أبا سعيد عروساً ... بكر فكر فكن لها ذا افتضاض
وابسط العذر في قصوري عن با ... بك في هذه الليالي المواضي
لم يكن عاق عن لقائك مولا ... ي سوى فرط حشمة وانقباض
وله:
في كلّ يوم لك ارتحال ... تصلح للملك فيه حال
ما سّرنا فيك من إياب ... إلاّ وقد ساءنا انتقال
فلا نهنيكّ بانقلاب ... إلاّ وفي عقبه زيال
حتى كأنّا نراك حلماً ... ومنك يعتادنا خيال
بذلت للملك نفس صون ... ما اعتاقها الأين والكلال
فقف قليلاً فقد تشكّى ... إسارك الخيل والبغال
ودم لخوارزم شاه يمنى ... يد لها غيرك الشمال
وقال فيه يستعطفه أيام محنته حين أساء رأيه فيه إذ كان أوحشه في أيام دولته:
يا من له في المعاني نّية حسنة ... حتى جفن جفنه من حسنها وسنه
ومن حكى خطّه زهر الربى حسداً ... وودّ سحبان من إعرابه لسنه
أحسنت رأيك في إسحاق فانفرجت ... عنه الهموم وعادت حاله حسنه
كذاك فاحسبه فينا ننج من كرب ... يمرّ فيها علينا اليوم ألف سنه
وأغض عمّا مضى فالمهر ممتنع ... صعب إلى أن يرى في رأسه رسنه
وأنت بدر دجى، بل أنت شمس ضحى ... بل أنت بحر حجى، بل أنت خصب سنه
وكتب إلى صديق له:
وعدتني بالرجوع ... من قبل وقت الهجوع
وقد تغافلت حتّى ... أضرمتني بالجوع
فبالرجوع تفضّل ... أولاً في فبالمرجوع
أبو محمد عبد الله بن إبراهيم الرقاشي
من أبناء الوزراء بمدنية خوارزم، وكان ككشاجم كاتباً شاعراً منجماً، فمن غرره قوله من قصيدة في الشبيبي:
إن الهوى سبب لكلّ هوان ... وفراق من تهواه موت ثاني
سقياً لدهر كنت حلف أغاني ... فيه وخدن الراح والريحان
لم تبق لي هممي وحسن شمائلي ... منها سوى ذكرى على الأزمان
ولقد رضيت بأن أرى متفّرداً ... دون القرين مقارعاً أقراني
أرمي إذا حملوا وأظعن إن رموا ... وأقدّ منهم من أراد طعاني
تنفي الخناجر في الحناجر غصّتي ... والبيض في بيض العدا أحزاني
وأعدّ عند مواردي ومصادري ... حكم الكهول وصولة الشبان
مستبدلاً ضرب الطلا بمصارع الشكوى وضرب الدفّ والعيدان
مستغنياً بالرمح أخضب صدره ... عن كلّ مخضوب البنان حصان
مستبدلاً زرد الدموع كأنّها ... شعر تفلفل في الحي الحبشان
مستشعراً باسم الشبيبي الذي ... عمّ الورى بالبرّ والإحسان
يفدي الكماة أبا سعيد إنّه ... حامي الحماة وفارس الفرسان
يا أحمد بن شبيب المفدى على ... جور الزمان وسطوة الحدثان
أنت القرين لكلّ جد مقبل ... أنت البشير بكل فتح داني
لك عزمة بهرام من أتباعها ... لك همّة تسمو إلى كيوان
فإذا ركبت ضمنت كلّ أمان ... للخائفين ونيل كلّ أماني
وإذا أقمت فإن ذكرك ظاعن ... تسري به الركبان في البلدان
فقت الأنام حجى وفقت شجاعة ... ورجحت عند الجود في الميزان
إن الفتوح على يديك تتابعت ... كتتابع الأنوار في نيسان
حفروا الخنادق حولهم فكأنّما ... حفروا مقابرهم لدى الخذلان
تعزّزوا بالماء ثم سقوا به ... سقاوة المطر بالطوفان
غدروا فعود منهم أرواحهم ... في النار والأشباح في الغدر

(2/61)


خفقت بنود حولهم فكأنّما ... طارت قلوبهم من الخفقان
وسرت طوارق لطف كيدك فهم ... لطافة الأرواح في الأبدان
ولئن حسد فلست أوّل سابق ... يرميه بالبغض آلام وإن
إنّ الكريم حسّد في قومه ... وترى الحسود مطّية الأشجان
وله فيه من أخرى:
أمن الملاك أم الحفر ... هذا التاج والضرر؟
أم غرّك الصبح الذي ... أطلعت من ليل الشعر
أم عرّضت أيدي الخطوب ... صفاء ودّك للكدر
وأرى المقام بلدة ... لا تشتهي إحدى الكبر
واعد نفسي في الحضر ... لكن همّي في السفر
ومن أخرى:
كف بنحولي عن هواي مترجماً ... وبالدمع منّاماً عليّ إذ هميّ
تألمت من ثقل الهوى متشبهاً ... بخصر من أردافه إذ تألّما
وكلّ طرفي بالنجوم كأنذني ... لرعي نجوم الليل صرت منجّماً
ومنها في مدح الشيب:
خرجنا نهاراً نطلب العد ... فألبسنا ليلاً من النقع مظلماً
أثرنا سحاب النقع لما تجاوبت ... عود صهيل الخيل تستمطر الدّم
فكم من جواد قد حبسناه بعدما ... أثرناهم من كثرة النبل شهماً
وأشهب قد خضنا به الحرب فاكتسى ... دماً وقتال عاد أشقر أدهم
ومن أخرى:
وقين تنطق يمناها ... وتلقط العنّب يسرها
إذا سرت نمّ عليها الحليّ ... وضوء خدّيها وريّا
لو أن إبليس رأى وجهها ... صلى لها طوعاً ومنام
تظلمني في هجرها مثلما ... أسفلها يظلم أعلاها
ما تفعل الخمر بشرّابها ... ما فعلته فيّ عيناها
ومن أخرى:
لا الراح راحي ولا الريحان ريحاني ... ما لم تزرني ولا الندمان ندم
وما التعلّل والأيام حائلة ... ببني وينك بالآمال من شأني
وما جزعت على شيء سوى جزعي ... إن لم أمت كمداً من فقد خلاّني
وقد ذكرتك والأبطال عابسة ... والموت يبسم عن أنياب شيطان
والنبل كالشهب في ليل العجاج وباب ... الأمن ناء صبري والرّدى داني
والسمر تبكي دماً والبيض ضاحكة ... والجودّ ولون الملتقى قاني
أبو عبد الله محمد بن حامد
حسنة من حسنات خوارزم، وغرة شاد في جبينها، يرجع إلى كل فضل، ويجمع بين قول فصل وأدب جزل، ويؤلف بين أشتات المناقب، وينظم عقود محمد وله خط يستوفي أقسام الحسن، ونثر كنثر الورد، ونظم كنظم الدر.
وكان في عنوان شبابه يكتب لأبي سعيد الشيب، وهو منه بمنزلة الولد، والعضو من الجسد، فلما انقضت أيامه واختص بالصاحب أبي القاسم وغلب عليه ببراعته، وحذفه في صناعته، وتقلد بريد قم من يده وبقي بها مدة بين حسن حال وتظاهر جمال، وحين حن إلى وطنه وآثر الرجوع إلى بلده قدم من سلطان خوارزم شاه على ملك مكرم لمورده، عارف بفضله، موجب لحقه، ولم يزل ومن قام مقامه من أبنائه رحم الله السلف وأبقى عز الخلف يعدو له وإلى الآن من أركان دولتهم، وأعيان حضرتهم، ويعتمدونه للمهمات السلطانية والسفارات الكبيرة، وكان أنفذ مرة رسولاً إلى حضرة السلطان المعظم يمين الدولة أطال الله بقاءه يبلغ فاستولى على الأمد في القيام بشروط السفارة، وملك القلوب، وسحر العقول بحسن العبارة، وجمعته وأبا الفتح علي بن محمد البس الكاتب مناسبة الأدب، ومشاكل الفضل، فتجاورا وتزاورا وتصادقا وتعاشر، وتجارياً في حلبة المذاكرة، وتجاذبا أهداب المحاضرة، وجعل أبو عبد الله يرسل لسانه في ميدانه، ويرخى من عنانه، فيرمي هدف الإحسان، ويصيب شكل الصواب، فقال فيه أبو الفتح من الرجز:
محمّد بن حامد إذا ارتجل ... ومرّ في كلامه على عجل
نقب خدّ كلّ ندب سابق ... بنثره ونظمه ثوب الخجل
أقلامه يسقين كلّ ناصح ... وكاشح كأسيّ حياة وأجل
فناصحوه مشرقون بالأمل ... وكاشحوه مشرون بالوجل

(2/62)


أبقاه للدين والدنيا معاً ... وللمعالي ربّنا عزّ وجل
وقال فيه أيضاً:
بنفسي أخ نفسه أمّة ... وتدبيره في الورى فيلق
أخ باب إحسانه مطلق ... وباب إساءته مغلق
كريم السجايا فلا رأيه ... بهيم ولا خلقه أبلق
محمد أنت قرى ناظري ... فكيف إذا غبت لا أقلق
رهنت قلبي وحكم القلوب ... إذا رهنت أنّها تغلق
وقال فيه أيضاً من الرجز:
يا من أراه للزمان حسنة ... ومن حوى من كلّ شيء أحسنه
إن غبت عني سنةً فهي سنة ... وسنة تحضر فيها وسنة
وعلى ذكر أبي الفتح بعض العصريين من أهل نيسابور فيه:
إذا قيل من فرد العلى ومحمد ... أجاب لسان الدهر ذاك ابن حامد
همام له في مرتقى المجد مصعد ... يلوح له العّيون في ثوب حاسد
كريم حباه المشترى بسعوده ... وأصبح في الآداب بكر عطارد
به سحبت خوارزم ذيل مفاخر ... على خطّة الشعر وربع الفراق
فلا زال في ظلّ السعادة ناعماً ... يحوز جميع الفضل في شخص واحد
وحدثني أبو سعيد محمد بن منصور قال: لما ورد أبو عبد الله رسولاً على شمس المعالي وصل إلى مجلسه فأبلغ الرسالة وأدى الألفاظ واستغرق الأغراض أعجب به شمس المعالي إعجاباً شديداً، وأفضل عليه فضل كثيراً، ورغب في جذبه إلى حضرته واستخلاصه لنفسه، فأمرني بمجاراته في ذلك، ورسم لي أن أبلغ كل مبلغ في حسن الضمان له، وأركب الصعب والذلول في تحري وتحريضه على الانتقال إلى جنبته، فامثل الأمر، وجهدت جهدي، وأظهرت جدي في إرادته عليه، وإدارته بكل حيلة، وتمني جميلة، فلم يجب ولم يوجب، وقال: معاذ الله من لبس ثوب الغدر والانحراف عن طريق حسن العهد، وانصرف راشداً إلى أوطانه وحضرة سلطانه.
وقد كتبت لمعاً من شعره وليس يحضرني الآن سواها لغية عن منزلي فتأخر كيثر مما أحتاج إليه عني، قال من قصيدة ي الصاحب:
غدا دفتري أنساً وخطّي روضةً ... وحبري مد وارتجالي ساقياً
ولا شدو لي إلا التحفّظ قارئاً ... ولا سكر حين أنشد واعياً
تجشّم أوصافاً حساناً لعبده ... فطوّقه عقداً من العزّ حالياً
فلولا امتثال الأمر لا زال عالياً ... لطار مكان النظم رجلان حافياً
على أنّني إن سرت أو كنت قاطناً ... فغاية جهدي أن أطوّل داعياً
رسائله لي كالطعام وشعره ... كما زلال حين أصبح صادياً
فإن ظلّت الآمال تشكر ظلّه ... فإنّ لسان المال قد ظلّ شاكياً
كأنّ له الخلق قال لجوده ... أفضل كلّ ما تحويه ورق عبادياً
ومن أخرى:
ما أنس لا أنس أياماً نعمت بها ... وهذّبتني طوف وتردادي
أيام أركب متن الريح تحملني ... والطر والنفس والأقلام دون
كافي الكف أدام الله نصرته ... نجل الأمين الكريم الشيخ عّباد
غمر الرداء لرواد ورّاد ... سهل الحجاب لزوّار وفّاد
لا زالت الدولة العلياء تلزمه ... ما قالت العرب حّيوا الحيّ بالوادي
ومن أخرى:
ليهنك هي الملك والعمر ... ما ساير سيران الشّعر والسّمر
وطال عمر سناك المستضاء به ... ماعمّر بقين الكتب والسّير
يفدي الورى كلّهم كافي الكف فقد ... صفا به أفضل العدل والنظر
له مكارم لا تحصى محاسنها ... أو يحسب أكثر الرمل والشجر
لكيده النصر من دون الحسام وإن ... تمرّد شجع الترك والخز
ما سار موكبه إلاّ ويخدمه ... في ظلّه شيء الفتح والظفر
وإن أمرّ على طر أنامله ... أغضب له بهجة شيء والزهر
دامت تقّبلها صيد الملوك كما ... يقبل الأكرم الركن والحجر
وهي تربي على ثلاثين بيتاً

(2/63)


ومن أخرى كتب بها من الري إلى الزهر يهنئه بدخولها:
بريق الرأي يعبده الحسام ... وبرق السّعد يخدمه الأيام
وما اتفّقا كما اتفّقا لقوم ... هو صم والملك الهمام
همام لا يؤمّ الخطب إلاّ ... ونصر الله عزّ له إمام
وما بلدة في الأرض إلاّ ... إليه بها نزاع أو هيام
فلو أنّ البلاد أطقن سعياً ... لسارع نحوه البلد الحرام
أدام الله أيام المعالي ... وذلك أن يدوم له الدوام
وما لي غير ما هو جهد مثلي ... دعاء أو ثناء لا يرام
وله من أخرى كتب بها إليه:
سلام على نفس هي الأمة الكبر ... وشخص هو المجد المنيف على الشعر
هو الدّين والدنيا فزره تر المنى ... وتحصل لك الأولى وتحصل لك الأخرى
وله من قصيدة في أبي سعيد الشيب بزر من جرح بالمضارب ليعسكر بظاهر متوجهاً إلى الأمير أبي علي وفائق، فاتفق تعرض أرض في تلك الصحراء، فتبادر الغلمان إليهما فصادوهما فتفاءل أنه يغلب العدوين. كما اصطاد الغلمان الأرنبين، فقال:
أتاك بما تهوى وترضى المحرّم ... وجاءك بالنصر العزيز يترجم
ولا غرو أن تلقى الذي تبتع وما ... تحاول والأفلاك بالسّعد تخدم
وبختك مرفوع وجدّك مقبل ... وأمرك متبوع وقدرك معظم
ورأيك في قمع المناوب راية ... و هي الشّماء جيش عر
وحسبك صيد الأرنبين مبشراً ... بصيدك أعداءً على الغدر أقدموا
وله فيه من مهرجانية على وزن المصراع الذي أنشده في المنام، وذلك أنه رأى شخصاً مثل بين يديه وقال له: قد نلت ما لم تنله قبلك الأمم قال:
بين خمر ولكن سكرها سقم ... والحب نعمى ولكن في غد نقم
إنّ المحبين أحرار وأنفسهم ... لمن يحبون في حكم الهوى خدم
يا أيّها الظاعنون، القلب عندكم ... إن لم يكن عندكم فالقلب عبدكم
لي ينكم قمر في ثغره برد ... في قدّه غصن في وجهه صم
كأنّما ابن شيب سلّ في يده ... من مقلي حساماً حدّه خدم
القائل القول لم تنطق به عرب ... والفاعل الفعل لم تفطن به العجم
على الكنوز أمين غير متّهم ... وسيفه في رقاب الناس متّهم
وقد غدا وهو شيخ الدولي كما ... للحضرتين به عزّ ومنتظم
لذاك في النوم شخص الصدق قال له ... قد نلت ما لم تنله قبلك الأمم
ومن أخرى في أبي العباس الضّب:
زمن جديد وعيد سعيد ... وقت حميد فماذا تريد
وأحسن من ذاك وجه الرئيس ... وقد طلعت من سنة السعود
وكم حلة خطّها قد غدت ... على برد آل يزيد تزيد
وكتب إليه الشيخ أبو سعد الإسماعيلي قصيدة منها:
سلام على شيخ محمد والذي ... له الذروة العلياء والشرف العدّ
ومن صحّ منه ودّه وفاؤه ... على حين لم يحمد لذي خلّة عهد
فأجابه بقصيدة منها:
أفخر وذخر أم خطاب له مجد ... أسحر أتى أم نظم من لا له ندّ
شممت من العنوان عند طلوعه ... روائح فضل دونها المسك والندّ
وساعة فكّي الختم أبصرت جنذةً ... سقتها غوادي الفكر فهي لها خلد
فأشجارها علم وأغصانها تقى ... وأثمارها فهم وغدر رشد
تجشّمها الشيخ الإمام الذي به ... ومنه وفيه يعرف الكرم العدّ
ومن بحل أخلاقه تشرف العلى ... ويلمع في الدنيا بكنيته السّعد
ومنها:
وكيف يؤدي حقّ شعر شعاره العلاء ... وراويه ومنشده المجد
وبي حرفة منذ غبت عن حرّ وجهه ... حرارة نار العشق في جنبها برد
وله إلى أبي العلاء السري بن الشيخ أبي سعد الإسماعيلي من قصيدة:
قرأت لمن له يصفو ودادي ... نظيماً كالشّباب المستعاد

(2/64)


سرياً كاسم صاحبه ولكن ... به عاد الحنين إلى ازدياد
فكان اللفظ في معنى بديع ... ألذّ لديّ من نيل المراد
وكتب إلى الشيخ الوزير أبي الحسين أحمد بن محمد السهل لما رزق أبو عبد الله ابناً في المحرم سنة اثنتين وأربعمائة:
عوائد صنع الله تكنفني تترى ... فتورثني ذكراً وتلزمني شكراً
فمنها نجيب جاء كالبدر طالعاً ... سويّا سنيّاً شدّ لي نوره أزرا
وما هو إلا خادم وابن خادم ... لسّيدنا مدّ الإله له العمر
فما رأيه في الاسم لا زال مسمياً ... مواليه كي يقتنوا الفخر والذخر
فأجابه بهذه الأبيات:
سكنت إلى ما قلته أوّلاً نثراً ... نعم وإلى ما صنعته آخر شعر
فهنّأك الله النّجيب فإنّه ... من الله فضل يوجب الحمد والشكر
وما جاء إلا أن يكون لصنوه ... ظهيراً فقوّى الآن بينهما ظهر
وأثر أن يكنى بكنية جدّه ... أبي أحمد والاسم اختاره نصر
ليحمد منه الله تقواه والهدى ... وينصره في علمه والنّهى نصر
أبو القاسم أحمد بن أبي ضرغام
أحد شعراء خوارزم القلق المذكورين، وكان يهاجي أبا بكر الخوارزمي ويسابه في عنفوان شبابه، من محاسنه قوله من قصيدة في الشيب:
ابن شيب أبو حروب ... أخو ندى للحفاظ خلّ
ليث قتال وأيّ ليث ... بالسيف والرمح يستقلّ
ومنها:
خذها عروساً أتتك بكر ... لغيرك الدهر لا تحلّ
خذها وسق مهرها إليها ... إن لم يكن وابل فطلّ
ومن أخرى:
يا ملكاً آثر الصواب ... فباكر اللهو والشراب
لا يشرب الراح غير حرّ ... يرفع عن ماله الحساب
طابت لك الراح فاشربها ... صرفاً فصرف الزمان طاب
ستبصر الأرض عن قريب ... تلبس من وشيها ثياب
ما شئت من طائر تراه ... مغرّداً ما خلا الغراب
ولست ليلاً ترى بعوضاً ... ولا نهاراً ترى ذباب
ومن أخرى أولها:
ديار بيض من نثار الدرهم ... وبيضك حمر من نثار الجماجم
الباب الخامس
في ذكر
أبي الفضل الهمذاني
وحاله
وصفه ومحاسن نثره ونظمه
هو أحمد بن الحسين بديع الزمان، ومعجزة همذان، ونادرة الفلك، وبكر عطارد، وفرد الدهر، وغرة العصر، ومن لم يلق نظيره في ذكاء القريحة وسرعة الخاطر وشرف الطبع وصفاء الذهن وقوة النفس، ومن لم يدرك قرينه في ظرف النثر وملحه وغرر النظم ونكته، ولم ير ولم يرو أن أحداً بلغ مبلغه من لب الأدب وسره، وجاء بمثل إعجازه وسحره، فإنه كان صاحب عجائب وبدائع وغرائب، فمنها أنه كان ينشد القصيدة التي لم يسمعها قط وهي أكثر من خمسين بيتاً فيحفظها كلها ويؤديها من أولها إلى آخرها، لا يخرم حرفاً ولا يخل بمعنى، وينظر في الأربعة والخمسة أوراق من كتاب لم يعرفه ولم يره نظرة واحدة خفيفة ثم يهدها عن ظهر قلبه هذا ويسردها سرداً. وهذه حاله في الكتب الواردة عليه وغيرها.
وكان يقترح عليه عمل قصيدة أو إنشاء رسالة في معنى بديع وباب غريب، فيفرغ منها في الوقت والساعة والجواب عنها فيها.
وكان ربما يكتب الكتاب المقترح عليه في بآخر سطر منه ثم هلم جر إلى الأول ويخرجه كأحسن شيء وأملحه، ويوشح القصيدة الفريدة من قوله بالرسالة الشريفة من إنشائه، فيقرأ من النثر والنظم ويعطي القوافي الكثيرة فيصل بها الأبيات الرشيقة، ويقترح عليه كل عويص وعسير من النظم والنثر فيرتجل في أسرع من الطرف، على ريق لا يبلعه ونفس لا يقطعه.

(2/65)


وكلامه كله عفو ساعة، وفيض البديهة، ومسار القلم، ومسابقة اليد، وجمرات الحدة، وثمرات المدة، ومجاراة الخاطر للناظر، ومباراة الطبع للسمع، وكان يترجم ما يقترح عليه من الأبيات الفارسية المشتملة على المعاني الغربية، بالأبيات العربية، فيجمع فيها بين الإبداع والإسراع، إلى عجائب كثيرة لا تحصى، ولطائف يطول أن تستقص وكان مع هذا كله مقبول الصورة خفيف الروح، حسن العشرة، ناصع الظرف، عظيم الخلق، شريف النفس كريم العهد، خالص الود، حلو الصداقة، مر العداوة وفارق هدم سنة ثمانين وثلث وهو مقتبل الشيب غض الحداثة، وقد درس على أبي الحسين بن فارس وأخذ عنه جميع ما عنده واستفد علمه واستنزف بحره، ورد حضرة الصاحب أبي القاسم فتزود من ثمارها وحسن آثارها، ثم قدم جرح وأقام بها مدة على مداخلة الإسماعيلية والتعيش في أكن والاقتباس من أنوار واختص بأبي سعد محمد بن منصور أيده الله تعالى، ونفقت بضائعه لديه، وتوفر حظه من عادته المعروفة في إسداء المعروف وأفضل على الأفاضل، ولما استقرت عزيمته على قصد نيسابور أعانه على حركته، وأزاح علله في سفرته فوافاها في سنة اثنين وثمانين وثلاثة، ونشر ما بزّه، وأظهر طرزه وأملى أربعمائة مقامة نحلها أبا الفتح الإسكندر في الكدية وغيرها وضمنها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، من لفظ أنيق قربي المأخذ بعيد المرام، وشجع رشيق المطلع والمقطع كشج الحمام، وجد يروق فيم القلوب، وهزل يشوق فيسحر العقول، ثم شجر بينه وبين أبي بكر الخوارزمي ما كان سبباً لهب ريح هدم وعلو أمره وقرب نجح وبعد صيته، إذ لم يكن في الحسبان والحساب أن أحداً من الأدباء والكتاب والشعراء ينر لمباراته، ويجتر على مجاراته، فلما تصدى هدم لمساجلته، وتعرض لتحك به، وجرت بينهما ما يجري مكاتبات ومباه ومناظرات ومناضلات، وأفضل السنان إلى العنان، وفرع النبع بالنبع، وغلب هذا قوم وذاك آخرون، وجرى من الترجيح بينهما ما يجري بين الخصمين حاكم والقرنين الوصل، طار ذكر الهدم في الآفاق، وارتفع مقدار عند الملوك والرؤساء، وظهرت أمارة الإقبال على أموره، وأدّر له خلاف الزرق وأركبه كناف العز، وأجاب الخوارزمي داعي ربه فخلا للهدم، وتصرفت به أحوال جميلة وأسفار كثيرة، ولم يبق من بلاد خراسان وسجن وغزت بلدة إلا دخلها وجنى وحب ثمرتها، واستفاد خيرها وأميرها، ولا ملك ولا أمير ولا وزير ولا رئيس إلا مطر منه بنوء، وسرى معه في ضوء، ففاز بر النعم، وحصل على غرائب القسم وألقى عصا بهر واتخذها دار قراره، ومجمع أسبابه، وما زال يرتاد للوصلة بيتا يجمع الأصل والفضل، والطهارة والستر والقديم والحديث، حتى وفق التوفيق كله، وخار الله له في مصاهرة أبي علي الحسين بن محمد الخشن وهو الفاضل الكريم الأصيل، الذي لا يزاد اختباراً، إلا زيد اختيار، فانتظمت أحوال أبي الفضل بصهر، وتعرفت الق في عينه والقوة في ظهر، واقتنى بم ومشورته ضياعاً فاخرة وأثر معيشة صالحة وثروة ظاهرة وعاش عيشة راضية، وحين بلغ أشده وأرب على أربعين سنة ناداه الله فلباه وقدم على آخر وفارق دنياه في سنة ثمان وتسعين وثلاثة، فقالت عليه نواب الأدب، ومثل حد القلم، وفقدت عين الفضل قرتها، وجبهة الدهر غرتها وبكاه الأفاضل مع الفضائل، ورثاه الأكارم مع المكارم، على أنه ما مات من لم يمت ذكره، ولقد خلد من بقي على الأيام نظمه ونثره، والله يتولاه بعفوه وغفرانه، ويحييه بروحه وريحانه، وأنا كاتب من ظرف ملحه ولفظ غرره، ما هو غذاء القلب ونسيم العيش وقوت النفس، ومادة الأنس.
فصول من كتاباته
فصل من رقعة له إلى الخوارزمي
وهو أول ما كاتبه به
أنا لقرب دار الأستاذ أطال الله بقاءه ... كما طرب النشوان مالت به الخمر
ومن الارتياح للقائه ... كما انتفض العصفور بلله القطر
من الامتزاج بولائه ... كما التقت الصهباء والبارد العذب
ومن الابتهاج بمزاره ... كما اهتز تحت البارح الغصن الرطب
ومن رقعة له إلى غيره
يعز علي أيد الله الشيخ! أن ينوب في خدمته قلمي، عن قدمي، ويسعد برؤيته رسولي، ويرد مشرع الأنس به كتابي، قبل ركابي ولكن ما الحيلة والعوائق جم:

(2/66)


وعليّ أن أسعى وليس ... عليّ إدراك النجاح
وقد حضرت داره، وقبلت جداره وما بي حب للحيطان، ولكن شغف بالقطّان، ولا عشق للجدران، ولكن شوق إلى السكان.
ومن أخرى لا أزال لسوء الانتقاد، وحسن الاعتقاد، أبسط يمين العجل وأمسح جبين الخجل، ولضعف الحاسة، في الفراسة، أحسب الورم شحماً، والسراب شراباً، حتى إذا تجشّمت موارده، لأشرب باردة، لم أجده شيئاً.
فصل حضرته التي هي كعبة المحتاج، لا كعبة الحجاج، ومشعر الكرم لا مشعر الحرم، ومنى الضيف، لا منى الخوف، وقبلة الصلات، لا قبلة الصلاة.
فصل ورد للخوارزمي يتلق فيه عن جنب الحر وتقلى على جمر الضجر، ويتأوه من خمار الحجل ويتعثر في أذيال الكلل ويذكر أن الخاصة قد علمت الفل لأي كان فقلت: ست الباب علم والخوارزمي أعرف والأخبار المتظاهرة أعدل والآثار الظاهرة أصدق وحلبة السباق أحكم وما مضى بيننا أشهد والعود إن نشط أحمد ومتى استزاد زدناً، وإن عادت العقرب عدناً وله عندي إذا شاء كل ما ساء وناء، ولن يعدم إذا زاد نقداً يطير فراخه، ونفقاً يصم صمم، وما كنت أظنه يرتقي بنفسه إلى طلب مساماً بعد ما سقيته نقي الحنظل، وأطعمته أخر بالخردل فإن كان الشقاء قد أستطيع، فالنفس منتظرة، والعين ناظرة، والنعل حاضرة، وهو منّي على ميعاد، وأنا له بمر.
فصل منه قد شملتني على رغم أطراف النعم، ومطر سحب المنن، ورغم التراب، وللحاسد الحائط والباب، وللكارة اليد والناب.
فصل من كتاب إلى أبيه
للشيخ لذة في العب والسبّ، وطبيعة في العنف والمنع، فإذا أعوزه من يغضب عليه فأنا بين يديه، وإذا لم يجد من يصونه، فأنا زبون، والولد عبد ليست له قيمة، والظفر به هزيمة، والوالد مولى أحسن أم أساء، فليفعل ما شاء.
فصل من كتاب تعزية إلى أبي عامر عدنان بن عامر بن محمد الضب
الموت خطب قد عظم حتى هان، وأمر قد خشن حتى لان، والدنيا قد تنكّرت حتى صار الحمام أصغر ذنوبها، فلتنظر يمنة، هل ترى إلا محنة، ثم لتعطف يسرة، هل إلا حسرة.
ومن كتاب له إليه أيضاً
وإن يشأ الله يفض بنا الأمر إلى حال تسعه مولى وتسعني عبداً وشد ما بخلت بهذه الكلمة، ونفرت عن هذه السمة، هذا الشيخ الشهيد أبو نصر رحمه الله مد لها الحظ، فلم يحظ، وهذا ابن عباد شد لها الرحل، فلم يحل.
ومن رقعة
مثلك في السفارة، الفأرة، طففت تقرض الحديد فقيل لها: ويحك! ما تصنعين؟ الناب ودقة رأسه، والحديد وشدة بأسه، فقالت: أشهد، ولكني أجهد، وإن تنج من تلك الأسباب، فهي الذباب، مقادير لا معاذير.
فصل من رقعة إلى خلف
سمعت منشداً ينشد:
لحى الله صعلوكاً مناه وهمّه ... من العيش أن يلقى لبوساً ومطعماً
فقلت: أنا معنى هذا البيت، لأني قاعد في البيت، آكل طيب الطعام، وألبس لين الثياب، ويف عليّ بذل، ولا يفوّض إليّ شغل ويملأ لي وطب، ولا يدفع بي خطب، هذا والله عش العجائز، والزمن العاجز.
ومنها: الرأس أيد الله الأمير! كثير الخبط والضيف كثير التخليط، وصب هذا الماء خير من شربه وبعد هذا الضيف أولى من قربه، وكأني بالأمير يقول، إذا قرئت عليه هذه الفصول: الهدم رأى بهذه الحضرة من الإنعام، ما لم يره في المنام، فكيف من الأيام، ولعله أنشأ هذا الكتاب سكران، فعدل به عادل السكر، عن طريق الشكر، وكأنه نسي مورده، الذي أشبه مولده، وإنما رفع لحنه، حين أشبع بطنه، واللئيم إذا جاع ابتغى وإذا شبع طغى، والهدم لو ترك بجلدته، يرقص تحت رعدته ما راتق في قعدته ولا تجشّ من معدته ولكنه حين لبس الحلة وركب البغل وملك الخيل والخيول، تمنى الدول، ورأس اليتم يحتمل الوهن، ولا يحتمل الدهن، وظهر الشقي يحتمل عدلي من الفحم، ولا يحمل رطلين من الشحم، ولولا الشعير، ما نهقت الحمير، ولو لم يتسع حاله، لم يتسع مجاله وكذا الكب يزمن، حين يسمن، ولا يتبع، حين يشبع وعند الجوع، يهم بالرجوع.
فصل من كتاب إلى أبي نصر بن أبي زيد

(2/67)


كتابي أطال الله بقاء الشيخ وفرحي في كريم يحضر ذلك الجناب فيحسن المناب ولا أعدم إن شاء الله بتلك الساحة الكريمة، من يتحل بهذه الشيمة، على أن الطباع إلى الذم أميل، والعقرب إلى الشر أقرب، واللسان بالقدح أجرى منه بالمدح، والحاسد يعمى عن محاسن الصبح، بعين تدرك دقائق القبح، والهر جسد كله حسد، وعقد كله حقد فلا يجذب التخلق بضبعه عن طبعه، ولا يأخذ التكلف بخلقه، عن طرقه.
رقعة له إلى مستح عاوده مراراً
وقال له: لم لا تديم الجود بالذهب كما تديمه بالأدب؟! عافاك الله، مثل الإنسان في الإحسان كمثل الأشجار في الثمار سبيله إذا أتى بالحسنة، أن يرفه إلى السنة، وأنا ذكرت لا أملك عضوين من جسدي وهما فؤادي ويدي، أما الفؤاد فيعلق بالوفود، وأما اليد فتول بالجود، لكن هذا الخلق النفيس، ليس يساعده الكيس، وهذا الطبع الكريم، ليس يحتمله الغريم، ولا قرابة بين الذهب والأدب فلم جمعت بينهما؟ والأدب لا يمكن ثر في قصعة، ولا صرفه في ثمن سلعة، ولي من الأدب نادرة جهدت في هذه الأيام بالطباخ أن يطبخ لي جمع الشم لوناً فلم يفعل، وبالقصاب أن يسمع أدب الكتاب لم يقبل، وأنشدت في الحمام ديوان أبي تمام فلم ينفذ، ودفعت إلى الحج مقطعات اللجام فلم يأخذ، واحتج في البيت إلى شيء من الزيت، فأنشدت من شعر ألفاً ومائتي بيت، فلم تغن، ولو وقعت أرجو العجاج في توابل السكب ما عدمتها عندي ولكن ليست تقع فما أصنع، فإن كنت تحسب اختلاف إليّ فضل عليّ فراحت في أن لا تطرق ساحتي، وفرجي في أن لا تجيء، والسلام.
وكتب إلى صديق له رقعة نسختها
قد طبخت لسيدي حاجة إن قضاها وبلغ رضاها ذاق حرارة الإعطاء، أباها وفلّ شباب لقي مرارة الاستبطاء، فأي الجود أخف عليه: جوده بالعلق النفيس، أم جوده بالعرض الخسيس ونزوله عن الطريف، أم الخلق الشريف؟؟
فأجابه عنها بهذه الرقعة
جعلت فداك هذا طبخ، كله توبيخ، وثريد، كله وعيد، ولقم إلا أنها نقم ولم أر قدراً أكثر منها عظماً، ولا أكل أكثر مني ظمأ، ما هذه الحاجة؟ ولتكن حاجاتك من بعد ألين جوانب، وألطف مطالب!
فصل من كتاب إلى الأمير أبي نصر الميكالي
كتابي أطال الله بقاء الأمير، وبودي أكونه، فأسعد به دونه، ولكن الحريص محروم، لو بلغ الزرق فاه، لولا قفاه، وبعد فإني في مفاتحته بين ثقة تعد، ويد ترتعد، ولم لا يكون ذلك والبحر وإن لم أره فقد سمعت خبره، ومن رأى من السيف أثره، فقد رأى أكثره، وإذا لم ألقه، فلم أجهل إلا خلقه، وما وراء ذلك من تال أصل ونشب، وطاف فضل وأدب، فمعلوم تشيد به الدفاتر، والخبر المتواتر، وتنطق به الأشعار، كما تختلف عليه الآثار، والعين أقل الحواس إدراكاً، والآذان أكثرها استماع فصل، من رقعة إلى الشيخ الإمام أبي الطيب سهل بن محمد: أنا أخاطب الشيخ الإمام والكلام مجون، والحديث شجون، وقد يوحش اللفظ وكله ود، ويكره الشيء من فعله بد، هذه العرب تقول لا أبال في الأمر إذ هم، وقاتلة الله ولا يريدون الذم، ويل أمة للمرء إذا هم الأولى الألباب في هذا الباب أن ينظروا من القول إلى قائله، فإن كان ولياً فهو الولاء وإن خشن، وإن كان عدواً فهو البلاء وإن حسن.
وله إليه رقعة
يا لعباد الله القرض، ولا هذا الرخص، والزاد ولا هذا الكساد، أمرض ولا عاد، إذ شبع الزنجي بال على التمر، وهذا بول على الجمر، ويوشك أن يكون له دخان.
فصل مثله كمن صام حولاً، ثم لما أنظر شرب بولاً.
ومن أخرى
الماء إذا طال مكثه، ظهر خبثه، وإذا سكن متنه، تحرك نتنه، كذلك الضيف يسم لقاؤه، إذا طال ثورة، ويثقل ظله، إذا انتهى محله.
فصل من كتاب
نهت الحكماء عن صحبة الملوك، وقالوا: إن إذا خدمتهم ملوك، وإن لم تخدمهم أذلّوك، وإنهم يعظم في الثواب، رد الجواب، ويستقلون في العقاب، ضرب الرقاب، وإنهم ليعثرون على العثرة من خدمهم فيبنون لها مناراً، ثم يوقدونها ناراً ويعتقدونها ثاراً، وقالوا: كن من الملوك مكانك من الشمس، إنها لتؤذيك والسماء لها مدار، والأرض لك دار، فكيف لو أسفّت قليلاً، وتدانت يسيراً، وإن العاقل ليطلب منها مزيد بعد فيتخذ سرباً لو إذا منها وهرباً، ويبتغي في الأرض نفقاً، فراراً منها وفرقاً.
رقعة في التماس الحطب

(2/68)


كم الله من حبر إذا جاع حبّر شجع، وإذا اشتهى الفقا كتب الرق، هذا تسب بعده تشب، قد عرف الشيخ برد هذا البرد وخروجه في سوء العشرة عن الحد، فإن رأى أن يلبسني من الحطب اليابس فرو، ويكفيني من أمر الوقود شئت، فعل إن شاء الله تعالى.
فصل أما الكتاب فلفظه فسيح، ومعناه فصيح، وأوله بآخره رهيب وآحره لأوله قرين، وبينهما ماء معين وحور عين.
فصل أنا على بينة من أمري، وبصيرة في ديني، ولا أقول بعلوم أصحاب النجوم، وكما أعلم أن أكثرها زقّ وريح، أرى أن بعضها حق صحيح، وكان لنا صديق لا يؤمن بالصبح إيمانه بالنجوم، قرى عليه إن الله يأمر بالعدل والإحسان، فقال: إن رضي النحس.
فصل والله لولا يد تحت الحجر، وكبد تحت الخنجر، وطفل كفرح يومين قد حببت إلى العيش، وسلب من رأسي الطيش، لشمخت بأنفي عن هذا المقام، ولمن صبراً جميلاً والله المستعان.
فصل إنما يحبس البار ولو ترك القط لطار كل مطار.
فصل لم ار مثلي علق مضن يرمي به من حالق، ولكن رب حسناء طالق.
فصل من رسالة في ذم الشدق إلى الرئيس أبي عامر
هذا هو العيد، وذلك هو الضلال البعيد، إنهم يشبون ناراً هي موعدهم، والنار في الدنيا عيدهم، والله إلى النار يعيدهم، ومن لم يلبس مع اليهود غيرهم، لم يعقد مع النصارى زناهم، ولم يشب مع المجوس نارهم، إن عيد الوقود لعيد فيك، وإن شعار النار لشعار شرك، وما أنزل الله بالشدق سلطاناً، ولا شرّف نير ولا مهرجاناً، وإنما صب الله سيوف العرب على رءوس العجم لماكر من أديانها، وسخط من نيرانها، وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم حين مقت أفعالهم.
فصل منه إن هذا الدين لذ تبعات، الصوم والفطام شديد والحج والمرام بعيد والصلاة والمنام لذيذ، والزكاة والمال عزيز، وصدق الجهاد والرأس لا ينبت بعد الحصاد، والصبر الحامض والعفاف اليابس، والحد الخشن، والصدق المر، والحق الثقيل والكظم، وفي اللقمة العظم.
فصل الوحشة تقتد في الصدر، اقتد النار في الزند، فإن أطفئ بارت وتلاشت، وإن عاشت طارت وطاشت، والقطر إذا تدرك على الإناء امتلأ وفاض، والعب إذا ترك فرخ وباض.
فصل من لقينا بأنف طويل، لقيناه بخرطوم فيل، ومن لحظنا بنظر سرر، بعناه بثمن نزر.
رقعة إلى خطيب
المجالس أيد الله الخطيب لا تطيب إلا بالمسامرة، والخطيب فضيحة الدنيا ونكل الآخرة، وقد حضر الخطيب كان، فليحضر الخطيب الآن، تصديقاً لقول الله تعالى ومن البقر اثنين.
أخرى سلمت على لان فرد جواب يرد على الوكلاء بشرط الإيمان، واقتصر من البشاشة، على تحريك الشاشة، ومن الاستقبال، على تحريك السب.
فصل جارنا رجل يصحب السرير، ويسحب الحرير، ويفترش الحبر، ويخوض العبير، ويظلم الصغير، ويجالس الفقير، ويؤكل جير، بعيد بون بينهما بعيد.
فل لو كان حمار لنفشت عليه التبن ونقلت على ظهر اللبن، أفاد عنه الغرامة، لا ولا كرامة، من ذاك الثور، حتى يحتمل عنه الجور؟ الموت والله ولا هذا الصوت، والمنية ولا هذه أمنية الدينّ.
فصل أما الآن والحال من الضيف يحتال، والأيام كأنها ليال، تولف والوجه بال، والكيس والرأس خال، واللحم في السوق غال، والقدر حليف خيال.
فصل له من رقعة
يا شبر، ما هذا الكبر ويا فتر، ما هذا الستر ويا قرد، ما هذا البرد ويا أرجو، متى الخروج ويا فقاع ويا فقاع، ويا فراني، متى تراني ويا لقمة الخجل نحن ببابك، ويا بيضة الغد من أتى بك ويا دبة، ويا حبة، ويا من فوق الكتب، ويا من قربه المذبة ويا من خلقه المسبة ويا دمل ما أوجعك، ويا قمل لنا حديث معك فإن رأيت آذنت والسلام.
فصل أعجوبة، ولكنها محجوبة، حتى تصلي على النبي بنشاط، وتنزل عن قيراط، ما هي رحمك الله؟ صبراً يا خبيث، إليك يساق الحديث إن عشنا وعشت رأيت الأتان تركب الطحّان، روح ولا جسد، وصوت ولا أحد والعود أحمق ومتى فز يا بيد ويا أسخف من ناقد على راقد وشر دهر آخره، ويا عجبا أيلد الأغر البهيم، ولد آزر إبراهيم:
يا أيّها العام الذي قد رابني ... أنت الفداء لذكر عام أوّلا
وما أفدى العام، لكن النعام ... ولا أشكو الأيام لكن اللئام عام أول
عدنان، والعام هذا القرنانلنا في كل أوان أمير يملأ بطنه، والجار جائع، ويحفظ ماله والعرض ضائع:

(2/69)


تبدّلت الأشياء حتى لخلتها ... ستبدي غروب الشمس من حيث تطلع
كانت السيادة ي المطابخ فصارت في المطبخ، أشهد لئن كثرت مزارعكم لقد قلت مشار ولئن سمنت أقف، لقد أمحل في:
رأيتكم لا يصون العرض جاركم ... ولا يدرّ على مرعاكم اللّبن
فصل من رقعة إلى من اسم شراباً في يوم مطر
عافاك الله! العاقل إن وافى أبوه على جمل البريد، من المضرب البعيد في الخطب الشديد يومنا هذا لم يستقبل حمار وإن مات لم يشيع جنازته وحل إلى الراكب، ومطر كأفواه القرب ورجل ظاهر النفاق يلتمس الشراب ممن لا يرى قربه، فكيف شربه، على أنك إلى الشرب أحوج منك إلى السكر ألا ترى كيف من الله على البيوت بالثبوت، وعلى السقوف بالوقوف، ألا تنظر إلى هذا المطر، أمطر عمارة هو أم مطر خراب، وسقيا رحمة هو أم سقيا عذاب.
فصل كتابي والتي نقضت غزلها بعد قوة أنك، طالق ثلاثاً، مردودة على أهلها من ورائها البقرة، لا ترجع لخرقاء، أو ترجع العنقاء، والله ما نقض الغزل بعد قوة، أسخف من نقض عهد وأخوة، ليس أرش الغزل إذا نقض أرش الفضل إذا رفض ولم يجعل الله إضاعة الصوف، ضاع المعروف، والحق ثقيل، وهو خير ما قيل.
فصل حديث الكتاب ما حديث الكتاب، وصل جحيم هائل، ليس وراءه طائل، لا يدري ألف أم نون وسطور كدي السرطان على الحيطان، وألفاظ أخلاط، لا يدركها استنباط، ولا يفهمها بقر، هذيان المحول، ودواء المهموم.
فصل ومثلك من ذب، عمن أحب، ولكن لذب أبواباً، ولكل مر جواب، تعلم أنه ليس في أبواب الذنب، أضعف من باب السب، وإذا تلوت قول الله عز وجل ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً علمت أن سلاح خصم أقوى، والناس رجلان كريم ولئيم، وكل بأن لا يسب خليق، إن الكريم لا ينكر الفضل، وإن النذل لا يألم العدل:
يحبك منه عرضاً لم يصنه ... ويرتع منك في عرض مصون
وهل أفرض لك مسألة الذنب في الذباب لتعلم أن اتقاءه بال خير من اتقائه بالمذبة، وأن ذبه بالمظلة أبلغ من ذنبه بالمذلة، فإن كان لا بد من انتقام واستيفاء فأعيذك بالله أن تجهل أن آذان الأنذل في القتال وهي آذان لا تسمع إلا تسمع إلا من ألسنة نعال الأم، وترجمة أكف الخدم، وعلامة فهمها جحوظ العينين، وخدر اليدين.
فصل وجدتك تعجب أن يجد لئيم فضل صنيعك، فخفض عليك يرحمك الله، إن الذي تعجب منه يسير، في جنب ما يجده من الناس كثير إن الله تعالى خلق أقواماً وشق لهم أبصار وآتاهم بصائر فغاصوا بها على عرق الذهب ففصد ولم يزالوا بالنجم حتى رصد، واحتالوا للطائر فأنزلوه من جو السماء، وللحوت فأخرجوه من الماء، ثم جحدوا مع هذه الأفكار الغائصة والأذهان النافذة صانعهم فقالوا: أين وكيف؟ حتى رأوا السيف، فلم تعجب أن جحدوا فضلاً ليست الأرض بساطه، ولا الجبال سماء، ولا السماء فعل، ولا الليل رباطه، ولا النهار صر، ولا النجوم أشرط، ولا النار سياط.
فصل ما أشبه وعد الشيخ في الخلاف، إلا بشجر الخلاف خضرة في العين، ولا ثمر في البين فما ينفع الوعد، ولا إنجاز من بعد، ومثل الوعد مثل الرعد، ليس له خطر، إن لم ته مطر.
فصل كان عندنا رجل فار الأفراس، فاخر اللباس، لا يعد من الناس ولا تظّن أن الإنسانية بساط قوني، ولا ثوب سق طول، ولا تقدر أن المكارم ثوبان من عدن، أو وقع من لبن.
فصل معاذ الله لا أشفع لضارب القلب، ولا أرضى له غير الصلب، واعتقد في دار الضرب، أنها دار الحرب، ولكن يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا فصل لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم للمهاجرين، ما في وقتنا للمهاجرين، وما جاز لعلة الأصحاب، ما يجوز لأزواج القح.
فصل كثر ترداد أصحابي إلى فلان، فما يعيرهم إلا أذناً صماء وبابا أصم وكان يما بلغني يأذن في باب الخاصة للعامة فصار يأذن في باب العامة للخاصة وإنما تولى جارها من تولى فار، ومن لم يول منافعها لم يول مضارها.
فصل من كتاب إلى ابن فارس
نعم أيد الله الشيخ، إنه لح المسنون وإن ظنت الظنون، والناس لآدم، وإن كان العهد قد تقادم، وارتكبت الأضداد، واختلط الميلاد، والشيخ يقول: قد فسد الزمان، أفلا يقول: متى كان صالحاً؟ في الدولة العباس فقد رأينا آخرها وسمعنا بأولها، أم المدة المر وفي أخبارها: لا تكس الشوق غبار أم السنين الحربية:

(2/70)