كتاب اللألي العبقرية في شرح العينيّة الحميريّة لبهاء الدين الاصبهاني من ص 156 ـ 177 ص

( 156 )

[3 و 4]

بِرَسم ِ دارِ ما بهـا مُونِـس * إلاّصِلالٌ في الثَّـرى وُقَّعُ

رقش يخاف الموت نفثاتِها * والسمّ في أنيابها منقعُ

اللغة:

« الباء»، إمّا للمصاحبة، أو الظّرفية.

«الرّسم»: الأثر. ورسم الدار: ما كان من آثارها لاصقاً بالأرض. ومنه الرسيم: لنوع من السير سريع يؤثر في الأرض. وناقةٌ رَسُومٌ: للّتي تؤثّر في الأرض لشدّة وطئها. ورَسَم الغيثُ الدّار: عفاها وأبقى أثرها لاصقاً بالأرض.

وفي القاموس: إنّه الأثر أو بقيّته، أو ما لا شخص له من الآثار.

«الدّار»: المنزل، اعتباراً بدورانها الّذي لها بالحايط وقيل: دارة .و قد تسمّى البلدة داراً، والصقع داراً، والدنيا كما هي داراً.

وفي الصحاح أنّ الدارة أخصّ من الدار.

والدار أيضاً القبيلة، ومنه قولهصلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم على ما روي عنه: «ألا أُخبركم بخير دُور الأنصار؟ دور بني النجّار»، ومن ذلك أيضاً ما روي عنه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ : «لم تبق دار إلاّ


( 157 )
بني فيها مسجد»(1).

«ما » على نوعين: اسم، وحرف.

والحرف: نافية، وموصولة وغيرهما.

والنافية إمّا أن تدخل الجملة الفعلية، أو الاسمية، فإن دخلت الفعلية لم تعمل شيئاً.

وإن دخلت على الاسمية، ففيها لغتان:

إحداهما: رفع الاسم ونصب الخبر، وهو لغة الحجاز، قال الكسائي: وأهل تهامة وقال الفرّاء: لا يكاد أهل الحجاز ينطقون إلاّبالباء. انتهى.

ولعلّه أراد إذا لم يكن الخبر ظرفاً أو جملة، وجاء النصب في قوله تعالى: (ما هذا بشراً)(2) وقوله تعالى: (ما هُنَّ أُمّهاتِهِمْ )(3).

واللغة الأُخرى: رفع الاسمين، حكاها سيبويه عن تميم، والفرّاء والكسائي عن نجد.

والّذين أعملوها ذكروا لذلك شروطاً:

منها: أن لا يتقدّم الخبر على الاسم، وعن الفرّاء تجويز النصب مع التقدّم. وعن الجرمي أنّه لغة، وعليه ظاهر قول الفرزدق:

فَأصبَحوا قَدْ أعادَ اللّهُ نِعْمَتَهُمْ * إذْ هُمْ قُرَيشٌ وإذْ ما مِثْلَهُم بَشَرُ (4)

ــــــــــــــــــــــــــــ
1- انظر لسان العرب: «دور» . وذكر فيه الحديثين و ذكره ابن كثير في السيرة النبويّة: 4/22، و مثله في كتاب «عون المعبود في شرح سنن أبي داود لمحمد شمس الحق العظيم آبادي».
2- يوسف:31.
3- المجادلة:2.
4- ديوان الفرزدق:139، في قصيدة يمدح بها عمربن عبدالعزيز، مطلعها:

زارَت سُكينةُ أطلاحاً أناخَ بِهمْ * شفاعةُ النوم ِ لِلعَينَين ِ و السَهَرُ


( 158 )
على رواية نصب «مثلهم»، فقد حكى ذلك سيبويه عن بعض الناس ثمّ قال: هذا لا يكاد يُعرف.

وقيل فيه: إنّ خبر «ما» محذوف، أي ما في الدنيا. و«مثلهم» حال عن «بشر» تقدّمت عليه لنكارته، وجوّز الكوفيون أن يكون «مثلهم» خبراً على أن يكون نصبه على الظرفية أي: في مثل حالهم ومكانهم من الرفعة. وفرّق ابن عصفور بين أن يكون الخبر ظرفاً أو غيره فلا يبطل العمل في الظرف لكثرة التوسّع فيه.

ومنها: أن لا تنتقض نفسها، فإنّها إنّما تعمل لمشابهتها ليس في النفي فإذا انتقض لم يكن لعملها وجه، وعن يونس إعمالها تمسّكاً بقوله:

ومَا الدهرُ إلاّ مَنْجَنُوناً بِأهلهِ * وما طالب الحاجاتِ إلاّمُعذَّبا(1)

وخرج على أنّ كلاً من «منجنوناً» و «معذّبا» مفعول مطلق لمقدّر; أمّا الأوّل: فبتقدير مضاف أي دوران منجنون. وأمّا الثاني: فبأن يكون مصدراً ميميّاً كـ«ممزق»، فالتقدير: وما الدهر إلاّيدور دوران منجنون بأهله وما طالب الحاجات إلاّيُعذّب مُعذبا.

ومنها: أن تُزاد بعدها «ان» لوقوع الفصل بغير الظّرف بينها و بين معمولها، ولأنّها تشبه «أن» النافية والنفي إذا دخل على النفي أفاد الإثبات فأشبهت «ما» حينئذ المنقوضة.

و أجاز المبرّد الإعمال معها. وأنشد أبو علي:

ــــــــــــــــــــــــــــ
1- قال ابن جني في «ذا القد» ـ و هو كتاب جمعه من كلام شيخه أبي علي: قائله بعض بني سعد والمنجنون ـ بفتح الميم ـ الدولاب الذي يستقى عليه، و جمعه مناجين، و هو مؤنّث. (شرح شواهدالمغني:1/220 ـ 221. الشاهد:107).


( 159 )
بني غدانة ما ان أنتم ذهبا * ولا صريفاً ولكن أنتم الخزف(1)

و منها: أن لا تؤكّد بـ «ما» فيجب الرفع عند الجمهور نحو: ما ما زيد ذاهب، وأجاز له الكوفيّون النصب.

ومنها: أن لا يتقدّم على اسمه غير الظرف نحو: ما زيد أو عمرو ضاربان، فإن تقدّمه ظرف لم يبطل عملها، نحو: (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَد عَنْهُ حاجِزِينَ)(2) فهذا حال «ما» النافية إذا دخلت جملة فعلية أو اسمية.

وأمّا إذا دخلت اسماً رافعاً لظاهر، نحو: قائم الزيدان، فهي أيضاً لا عمل لها، ونحو: ما قائم زيد; يحتمل الأمرين:

أن يكون «قائم زيد»جملة اسميّة تقدّم خبرها على اسمها ولذا لم تعمل «ما» عملها إلاّ على رأي من لم يجوّز تقديم الخبر على المبتدأ.

وأن يكون «قائم» مدخول «ما» ،و «زيد» فاعلاً له، ونحو: ما قائمان الزيدان، لا يحتمل إلاّ الأوّل إلاّ إذا جعل «الزيدان » بدلاً من الضمير، كما أنّ : ما قائم الزّيدان، لا يحتمل إلاّالثاني.

وأمّا إذا دخلت على ظرف بعده مرفوع كما في البيت فهناك الاحتمالان أيضاً.

«الباء» في «بها» بمعنى: في الأُنس، بالضمّ وبفتحتين، والأنَسَة بفتحين :ضدّ «الوحشة» وقد أنس به مثلثة النّون، و«آنسه»: ضدّ «أوحشه».

وآنسه: أبصرَهُ وَعَلِمَهُ ، وأحسّ به، وآنس الصّوت: سمعه.

ــــــــــــــــــــــــــــ
1- «غدانة» ـ بضمّ الغين المعجّمة: حي من يربوع من تميم. والمراد بالصريف: الفضة، قال البغدادي: ولم أجد من نسبه لأحد مع كثرة وروده في كتب النحو. (أنظر شرح الرضي: 2/186 رقم 262).
2- الحاقة:47.


( 160 )
والمونس في البيت يجوز أن يكون على صيغة اسم الفاعل، وأن يكون على صيغة اسم المفعول.

«إلاّ» حرف وضع للاستثناء، أي لإخراج حصّة من جملة حكم عليها بحكم عن ذلك الحكم.

وربّما كانت بمعنى «لكن» وهو في الاستثناء الّذي يسمّى بالمنقطع، نحو: جاءني القوم إلاّحماراً.

و ربّما كانت بمعنى «غير» فيكون صفة لما قبلها وذلك في كلّ ما لا يمكن حملها فيه على الاستثناء.

قد تكون بمعنى «الواو» قاله الأخفش والفرّاء وجعل الأخفش من ذلك قوله تعالى: (إِلاّ الّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ)(1) . وأجازه الفرّاء في قوله تعالى: (خالِدِينَ فِيها...إلاّ ما شاءَ رَبُّكَ)(2).

قيل: و تكون بمعنى «بل» نحو: (ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ القُرآنَ لِتَشْقى * إِلاّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى) .(3)

و تكون زائدة نحو:

حَراجيجُ ما تنفََكُّ إلاّ مُناخَةً * على الخَسْْفِ أَو نَرمِي بها بَلَداً قَفْرا (4)

«الصلال» :جمع صِل ـ بالكسر ـ و هو الحيّة أو الدقيقة الصفراء أو التي لا ينفع

ــــــــــــــــــــــــــــ
1- البقرة:150.
2- هود:107والآية كاملة: (خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلاّما شاء ربُّك).
3- طه:2و3.
4- القائل «ذو الرمَّةَ»، و الحراجيج، من الحرج و الحرجوج، أي الناقة الطويلة (لسان العرب: «حرج)». والمعنى هو: لا تفارق هذه الإبل السير إلاّ في حال إناختها.


( 161 )
فيها الرُّقي، وهي شديدة الفساد تُحرق كلّ ما مرّت عليه، ولا ينبت حول جحرها شيء من الزرع، وإذا حاذى مسكنَها طائرٌ سقط، ولا يمرّ حيوان بقربها إلاّهلك، وتقتل بصفيرها على غلوة سهم، ومن وقع عليه بصرها ولو من بعدُ مات ويُحكي أنّ فارساً ضربها برمحه فمات هو وفرسه، ويقال إنّها كثيرة ببلاد الترك.

وفي «حياة الحيوان» للشيخ كمال الدين الدميري: انّها الملائكة.

وفي «عجائب المخلوقات» للقزويني: انّ الملائكة حيّة طولها شبر وأكثر، على رأسها خطوط بيض تشبه التاج، فإذا انسابت على الأرض أحرقت كلّ شيء مرّت عليه، وإن طار طائر فوقها سقط عليها، وإذا بدت تنساب هربت من بين يديها جميع الدواب، وإذا صفرت يموت من صفيرها كلّ حيوان يسمع ذلك بعدما ينتفخ ويسيل منه الصديد، وإن أكل من تلك الحيّة شيء من السُّباع يموت. قال: قال جالينوس: إنّها حية شقراء على رأسها ثلاث قنازع مثل التاج وهي قليلة الظهور للناس.

«في»: يكون اسماً وفعلاً وحرفاً.

أمّا الأوّل: فهو «فم» إذا أُضيف وكان مجروراً.

وأمّا الثاني: فهو أمر للواحدة المخاطبة من «وفا» «يفي».

وأمّا الثالث: فهو حرف جرّ للظرفية حقيقة، نحو: الدراهم في الكيس ، والصوم في يوم الجمعة، أو مجازاً، نحو: نظرت في العلم، وقال الكوفيّون: إنّها تجيئ لمعان أُخر، منها: معنى «على» كقوله تعالى حكاية: (ولأُصَلِّبَنَّكُمْ في جُذُوعِالنَّخْلِ) .(1)

ــــــــــــــــــــــــــــ
1- طه: 71.


( 162 )
«الألف واللام» في «الثرى» للعهد الخارجي أي ثرى تلك الدار، أو للجنس أي الأرض.

«الثَّرَى» :التراب النَّدِيُّ، أو الذي إذا بُلَّ لم يَصِرْ طيناً، أو الندى نفسه، وأرض ثرْياء: ذات ندى، ويقال: التقى الثَّريان: إذا رَسخَ المطرُ في الأرض حتى يلتقي هو وندَى الأرض.

وتقول العرب: شَهْرٌ ثَرى، وشهرٌ تَرى، وشهرٌ مَرعى، أي تُمطِر أوّلاً ثمّ يطلُعُ النبات فيُرى ثمّ يطول فيُرعى.

ويقال:أَثرَت الأرض إذا كَثُرَ ثَراها وَأَثْرَى المطرُ الأرض: بَلَّ الثَّرى. وثريتُ الموضع تثرية، أي رششته. وثريت السويق، أي بللته.

وقد جاء بمعنى الأرض إمّا حقيقة أو تجريداً.

«وُقَّع»: جمع «واقع» كركع وسجد وشهد وعيب وجهل ونزل وصوم وقوم; وهو اسم فاعل من وقع يقع وقوعاً أي سقط.

«الرَّقْش»: جمع «أرقَش» وهو أفعل من «الرَّقش» كالنقش لفظاً ومعنى. حيّة رَقْشاء: منقّطة، ورقش كلامه: زوّره وزخرفه.

«الألف واللام » في «الموت» للجنس.

«النفثات»: جمع نفثة أو نفث. والنفث: قذف الرِّيق القليل، و هو أقلّ من التفل، ومنه: نفث الراقي والساحر في عقده. ويقال: لو سألته نفاثة سواك ما أعطاك، أي ما بقي في أسنانه من شظاياه. والحيّة تنفث السمّ إذا نكزت أي لسعت بفمها(1).

«الألف واللام» في «السمّ» للعهد الذهني، أو للاستغراق، بادّعاء أنّ

ــــــــــــــــــــــــــــ
1- «بأنفها»: الأصل و هو تصحيف.


( 163 )
كلّ سمّ فهو في أنيابها.

و«السم» ـ مثلّث السّين ـ : هذا القَتّال المعروف. ويقال: سَمَّهُ، أي سَقاهُ السمَّ. وسَمَّ الطعام، أي جعل فيه السمّ.

«الأنياب»: جمع «ناب» وهو السنّ الّذي خلف الرباعية. والأنياب في كلّ حيوان أربعة. وربّما أُطلق الناب في بعض الحيوانات على غير ذلك من كلّ ما يشبه هذا السن شكلاً، كما يقال: إنّ للتمساح ستّين ناباً في فكّه الأعلى وأربعين في الأسفل.

يقال: «سمٌّ مُنْقَع» أي مُرَبَّى. وأصله من إنقاع الشيء في الماء أي جعله فيه حتى ينفذ الماء فيه بكلّيته ويأخذ جميع منافذه ويتربّى فيه، كالنقوعات التي يُتداوى بها.

الإعراب:

«برسم دار»: ظرف مستقر معمول لمصحوب أو كائن، فإنّ «الباء» للمصاحبة، كان الأوّل وإلاّ كان الثاني، وعلى كلّ فله احتمالات:

الأوّل: أن يكون خبراً لمبتدأ محذوف. والجملة مستأنفة أي هو، أي المربع مع رسم دار أو في رسم دار.

والثاني: أن يكون صفة أُخرى لمربع.

والثالث: أن يكون حالاً عنه فإنّه موصوف يصلح للحالية.

«ما» :إمّا حجازيّة أو تميميّة أو غيرهما، فإنّ قوله: «بها مونس»:

يحتمل أن يكون جملة اسمية تقدّم خبرها على المبتدأ، وقد عرفت أنّ «ما» إذا دخلت جملة اسمية فعند الحجازيين تعمل الرّفع في الاسم، والنصب في الخبر ولا عمل لها عند تميم . وأنّه إذا تقدّم خبرها الظرف على اسمها كان فيها قولان:


( 164 )
أحدهما : البقاء على العمل، والآخر: انتفاؤه، فإمّا أن يكون الظّرف أعني بها منصوب المحل على اسمية«ما»، أو مرفوع المحل على خبرية المبتدأ.

ويحتمل أن لا يكون جملة اسمية بل يكون المرفوع فاعل الظرف وحينئذ لا تكون «ما» حجازية ولا تميمية بل حرف نفي لا عمل لها، فإنّ الحجازيّة والتميمية إنّما تجريان في الدّاخلة على الاسميّة. ثمّ الجملة على كلّ صفة لدار والضمير في «بها» راجع إلى الدّار، فإن لم يكن المراد بها القبيلة فظاهر، وإلاّ قدّر قبله مضاف أي «بدارها» أو «منزلها» أو نحو ذلك.

ويحتمل الإرجاع إلى المدار عليه أيضاً على طريقة الاستخدام.

ويحتمل إرجاع الضمير على كلِّ تقدير إلى الرسم على قول من لا يرى في اكتساب المضاف التأنيث من المضاف إليه اشتراط صحّة أن يستغنى عنالمضاف بالمضاف إليه.

«إلاّ» حرف استثناء، و «صلال» مستثنى، والاستثناء يحتمل الاتّصال والانقطاع جميعاً على تقدير أن يكون المونس بمعنى ضدّ الموحش. وعلى المعاني الأُخرى فهو متّصل لا غير.

أمّا الثاني فظاهر و كذا الانقطاع على الأوّل.

وأمّا الاتّصال عليه فمن باب تأكيد الشيء بما تضادّه، كقوله:

ولا عَيْبَ فِيهِمْ غيَرْ َأنْ سُيُوفَهُم * بِهنّ فُلولٌ من قِراعِ الكتائِبِ(1)

فكأنّه قال: لا يتخيل بها مونس إلاّ صلال فإن كانت مونسة وإلاّ فلا

ــــــــــــــــــــــــــــ
1- البيت للنابغة الذبياني، يمدح آل جفنة، ملوك الشام من غسان، و فيه يمدح عمرو بن الحارث الأصغر حين هرب إلى الشام و نُزل به في قصيدة مشهورة، مطلعها:
كِليني لِهَمّ يا أُمَيْمَةَ ناصِبِ * و ليل أُقاصيهِ بَطِيِ الكواكِبِ

; جاءت «أُمَيمة» بالفتح و الأحسن بالضمّ، قال الخليل: من عادة العرب أن تنادى المؤنّث بالترخيم، فلما لم يرخم هنا، بسبب الوزن، أجراها على لفظها مرخمة، و أتى بها بالفتح.(انظر ديوان النابغة الذبياني: ص 9. المكتبة الثقافية ـ بيروت).


( 165 )
مونس بها. وهو في أبلغ التأكيد وأمتنه.

ثمّ إنّ رفع «صلال» إن كان الاستثناء متّصلاً على البدليّة من المستثنى عنه، أعني «مونس» عند البصريين، وعطف النسق عند الكوفيّين فإنّ «إلاّ» في الاستثناء عندهم حرف عطف، كـ لا بل، و ردّثعلب على الأوّل بأنّه كيف يكون بدلاً وهو موجب ومتبوعه منفي والبدل لابدّ من أن يوافق المبدل منه في الحكم.

وعلى الثاني: بأنّ «إلاّ» لو كانت حرف عطف لم تباشر العامل في نحو: ما قائم إلاّزيد، إذ لا شيء من حروف العطف يصحّ أن يباشر العامل.

والجواب: أمّا عن الثاني: فظاهر فإنّها لم تباشر العامل حقيقة إذ التقدير: ما قام أحد إلاّزيد.

وأمّا عن الأوّل: فقد أُجيب بأنّه بدل بعض، وبدل البعض يخالف متبوعه في الحكم فإنّك إذا قلت رأيت القوم بعضهم، فالمرئي إنّما هو البعض، ومتبوعه الّذي هو القوم غير مرئي، وإنّما حكم عليه بالرؤية مجازاً قال: وإذا جازت المخالفة في الصفة نحو: مررتُ برجل لا كريم، ففي البدل بالطريق الأولى.

وعن الفرّاء أنّه يوجب البدل ولا يجيز النصب على الاستثناء إذا كان المستثنى منه منكراً كما في البيت، فلا يجيز في : ما جاءني أحدٌ إلاّزيد، إلاّ الرفع.

وقال نجم الأئمّة رضي اللّه عنه: و لعلّه قاس ذلك على الموجب، فإنّه لا ينتصب فيه المستثنى إلاّوالمستثنى منه معرّف باللام، فلا يجوز: جاءني القوم إلاّ زيداً، لأنّ دخول «زيد» في قوم المنكر غير قطعي حتى يخرج بالاستثناء، ـقالـ: وليس بشيء لأنّ امتناع ذلك في الموجب لعدم القطع بالدخول، وفي غير الموجب


( 166 )
المستثنى داخل في المستثنى منه المنكر، ولهذا إذا علم في الموجب دخول المستثنى في المستثنى منه المنكر جاز الاستثناء اتّفاقاً نحو: له عليّ عشرة إلاّ واحد(1).

«في الثرى» يحتمل أن يكون ظرفاً لغواً، لقوله:«وقع» تقدّم عليه ، وأن يكون مستقراً صفة لـ «صلال» وعلى التقديرين فـ«وقع» صفة وعليها فهي تحتمل الظرفية والاستعلاء .

«رقش» إمّا صفة أُخرى، أو خبر لـ«هي» محذوفاً، والجملة مستأنفة.

وعلى الأوّل: جملة «يخاف الموت نفثاتها» صفة أُخرى لـ«صلال» أو مستأنفة.

وعلى الثاني: صفة لـ«رقش».

وجملة :«والسمّ في أنيابها منقع» عطف على تلك الجملة إمّا عطف صفة على أُخرى أو عطف جملة على أُخرى كما عرفت في نظيرتها سابقاً.

ويحتمل أن يكون حالاً إمّا عن الموت أو النفثات أو ما أُضيفت إليه أعني ضمير الـ«صلال» فإنّه فاعل النفثات معنى.

والظرف أعني «في أنيابها» إمّا لغو متعلّق بـ«منقع» وهو الظاهر أو مستقر حال عن السمّ، أوخبر عنه و«منقع» خبر آخر وعلى هذا لا يحتمل الجملة الحالية كما لا يخفى.

المعنى:

أنّ لأُمّ عمرو مربعاً كذا و كذا مع أثر أو في أثر دار أي منزل أو بلدة أو صقع أو قبيلة ليس بتلك الدار أو الرسم أو بمنزل تلك القبيلة للوحشة أو مبصِر ـ بالكسر ـ أو مبصَر ـ بالفتح ـ أو ذو عَلَم أو معلوم أوحسّاس أو محسوس أو

ــــــــــــــــــــــــــــ
1- شرح الرضي:2/97.


( 167 )
سامع صوت أو مسموع ـ أي مسموع صوته ـ إلاّ حيات أو حيات من تلك الحيات التي عرفتها ساقطته في تلك الأرض أو في تلك الأرض النديّة أو عليها، أو إلاّ حيات أوحيات من تلك الحيات كائنة في الثرى موصوفة بالسقوط، وكان وصفها بالسقوط للدلالة إمّا على أنّ تلك الأرض لغاية إقفارها عن أهلها قد استوطنتها الحيّات و أمِنَّ من أن يكون لهنّ ما يعاديهنّ فلا يتحركن عنها إلى حجرة ولا يهربن عن شيء، أو على أنّها من التجر عمّا جرى على المربع والدار من الإقفار وامحاء الآثار لا يتحرّكن بل تولّين وسقطن متدلّيات حائرات، أو على أنّها لغاية إقفارها ليس فيها ما تتغذّى به الحيات فهنّ لغاية الضعف وطول الجوع ساقطات لا يقدرن على التحرّك.

أو أراد أنّها وقفن على الأرض متهيّئات للوثوب على كلّ من يمرّ أو ما يمرّ عليهنّ ليلسعنه فإنّ من الحيّات نوعاً تثب على الناس فتقتلهم، وكلّ شيء إذا أراد الوثوب لصق نفسه بالأرض ساعة ثمّ يثب.

ثمّ وصف الحيّات بأنّها «رقش» فإنّ الحيّات الرقش أخبث من غيرها، فإن كانت الصلال أعمّ من الرقش فالوصف بها تقييد وإلاّفتوضيح.

ثمّ بالغ بالخبث فقال: إنّ الموت الذي يخاف منه كلُّ شيء يخاف من نفثات تلك الحيّات فضلاً عن عضّها بأنيابها ، و إنّ السمّ مربى في أنيابها أي رُبِّي حتى بلغ الكمال فلا سمّ أقوى منه.

أو أراد أنّ كلّ السمّ في أنيابها وهو منقع أي كان كل سمّ قد ربّي حتى بلغ الكمال والكل أُودع في أنيابها.

أو أنّ السمّ حال كونه في أنيابها مربّى.

أو أراد أنّ الموت يخاف نفثاتها حال كون السمّ منقعاً في أنيابها، أو حال


( 168 )
كون السمّ حال كونه في أنيابها منقعاً.

ويحتمل أن يكون المراد بالدار دار الرسول ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ إمّا منزله أو بلده أو رتبته الظاهرية التي هي السّلطنة والرئاسة الظاهرة.

والمراد بـ «الصلال» الضلاّل المضلّين من الغاصبين للخلافة وأشياعهم لعنهم اللّه، فإنّ أعدى عدو للإنسان من الحيوانات هو الحيّة وهؤلاء أعدى الناس للنّاس، فإنّهم يضرّون بدينهم الذي به الحياة الأبدية أو بدينهم ودنياهم; وأعدى الناس للمؤمنين حقيقة وظاهراً.

والمراد بـ «الثرى» إمّا ثرى تلك الدّار حقيقة إن كانت الدار حقيقة، أو مجازاً إن كانت مجازاً أو جملة الأرض.

والمراد بوقوعهم في الأرض، إمّا اطمئنانهم، أو وقوعهم ليثبوا على النّاس فيسلبوهم حياتهم الأبدية أو حياتهم الدنيوية. أو ليثبوا على المؤمنين أو الأئمّة ـ صلوات اللّه عليهمـ أو عليهم وعلى المؤمنين، أو أنّهم وقعوا في الأرض يفعلون ما يشاءُون. أو أنّهم أخلدوا إلى الأرض. أو أنّهم متحيّرون في الدين لكونهم مذبذبين. أو في أحكام الواقعات الّتي ترد عليهم، لجهلهم بالكتاب والسنّة وم آخذ الأحكام.

ثمّ إنّ وصف الصلال بالرقش إمّا لمجرّد أنّ الحيّات الرقش أخبث الحيّات من غير ملاحظة مثله في المستعار لهم، أو للدلالة على أنّهم يحسنون ظواهرهم ويزيّنونها بظواهر الشّرع حتى ينخدع بهم النّاس كالحيّات الرّقش التي منظرها حسن وفجرها من القبح في أقصى الغاية.وفي استعارة أصل الصلال لهم إشارة إلى أنّ فيهم مثل ما في الحيّات من لين الملمس مع الخبث المتبالغ، ففيهم أيضاً لين وحُسن ظواهر مع ما في بواطنهم من العداوة التي لا يكتنه كنهها، والخبث الّذي


( 169 )
لا يمكن أن يصفه واصف مطري أو الوصف الرقش، إشارة إلى أنّهم ذوو ألوان في الدّين كما هو صفة المنافقين.

أو إلى اختلاف أقوالهم في الأحكام الدينية على حسب اختلاف أهوائهم أو لتحيّرهم وجهلهم بم آخذها.

وعلى هذا الاحتمال يحتمل أن يكون استعارة الموت للأئمة ـ صلوات اللّه عليهم ـ لكونهم حياة الإيمان والمؤمنين وموت الضلال والضالين والمضلّين، أو لشجعان المؤمنين أو للكل; وقد سمّى أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه وآله نفسه بالموت في كتابه إلى أبي بكر حيث قال: أما واللّه لو قلت ما سبق من اللّه فيكم لتداخلت أضلاعكم في أجوافكم كتداخل الأسنان دوارة الرحى، (فإن نطقت يقولون حسداً)(1) وإن سكتُّ فيقال ابن أبي طالب جزع من الموت، هيهات هيهات السّاعة يقال لي هذا وأنا الموت المميت و خواضالمنايا في جوف ليل حالك.(2)

وأن يكون استعار السمّ للكفر والضلال الذي هو نافي للحياة الأبديّة الحقيقية كما أنّ السم ناف للحياة الدنيويّة.

وأن يكون استعار الأنياب لأنصارهم فإنّ الأنياب سلاح ذواتها.

ويحتمل أن لا يكون تجوّز إلاّ في المركب بأن يكون مثل خلو مرتبة الخلافة والرئاسة عن أهلها وقيام غيرهم مقامهم ممّن يقتلون الناس قتلاً دينيّاً ويقتلون المؤمنين قتلاً دنيوياً، أو يعادون الناس أو المؤمنين بدار لم يبق لها رسم وليس بها إلاّصلال كذا و كذا.

ــــــــــــــــــــــــــــ
1- ما بين القوسين من المصدر.
2- الطبرسي، الاحتجاج:1/245.


( 170 )

المعاني:

فيه مسائل:

الأُولى: في العدول عن «في» أو «مع» إلى «الباء»، وله وجوه:

منها: رعاية الوزن.

ومنها: الإيجاز.

ومنها: التوجيه.

الثانية: في حذف المسند إليه إن كان قوله «برسم دار» خبر المبتدأ محذوف وله وجوه:

منها: الوزن.

ومنها: التوجيه.

ومنها: الاحتراز عن العبث في الظاهر من جهتين: إحداهما وجود القرينة، والأُخرى تخييل أنّ ذلك المربع إمّا من جهة كونه مربع أُمّ عمرو، أو لاتّصافه بتلك الحالة العجيبة الشأن ممّا لا يغيب عن الأذهان فحضوره في الذّهن مغني عن ذكره في الكلام.

ومنها: إظهار التضجّر عن ذلك المربع حتى أنّ نفسه لا تساعده على ذكره مرّة ثانية ولو بالضمير.

ومنها: الإشارة إلى أنّه من النكارة بلغ إلى حيث لا يمكن أن يشار إليه بالضمير فإنّه لو ذكر المسند إليه كان الوجه أن يذكره بالضمير.

الثالثة: في ظرفية المسند أو الوصف أو الحال والوجه فيه ما تقدّم في البيت


( 171 )
الأوّل، و يزيد هنا إرادة استيفاء أقسام النعت في الظاهر فإنّ من أقسامه الظرف و إن كان في الحقيقة إمّا مفرداً أو جملة.

الرابعة: في حذف متعلّق الظرف ووجهه مع الوزن اتّباع الاستعمال. والتوجيه من وجهين:أحدهما: احتمال الوصفية والحالية والاستيناف. والثاني: احتمال المصاحبة والظرفية.

الخامسة والسادسة: في تنكير دار ووصفها. والوجه فيهما ما تقدّم في تنكير «مربع» ووصفه.

السّابعة: في الإتيان بهذا النعت أو الحال. ووجهه ما مرّ في الوصف بالأوصاف السابقة.

الثامنــة: في تأخير هذا النعت عن النعوت السابقة إن كان نعتاً، وله وجوه:

الأوّل: إنّ تلك نعوتُ له من جهته في نفسه وهذا نعت له بالمقايسة إلى غيره.

والثاني: إنّه أطول منها، فيطول الفصل بها بين النعت ومنعوته حتى لا يشعر السّامع بوصفية البيت الثاني أصلاً ولا يشعر بوصفيّة الأوّلين أوّل مرّة إن قلنا إنّه يشعر بها بعد التأمّل.

والثالث: إنّه لو قدّمه على سائر الأوصاف لم يحتمل إلاّالوصفية فزال التوجيه.

والرّابع: إنّه وصف محتمل للافراد والجملة الاسميّة والفعلية، وسائر الأوصاف كلّها أوصاف متعبة فهي أولى بالتقديم، وأيضاً الصّورة الظرفية متأخّرة الرتبة عن الصورة الافرادية والجملية فإنّها مؤوّلة بإحداهما.


( 172 )
التاسعة: في وصف الدار ووجهه ما تقدم.

العاشرة: في جملية وصفها إن كان جملة وإلاّفليقل وصفها بهذا النوع من الوصف، ولها وجوه:

منها: التصريح بكون النفي في الحال، فإنّه يستفاد من لفظة «ما».

ومنها: إنّها الأصل هنا فإنّ المقصود انتفاء المونس فإن أتى بالمفرد كان مفرداً مصاغاً منها.

ومنها: صراحة العموم في المونس لوقوعه في حيّز النفي صريحاً.

ومنها: ظهور صحّة الاستثناء من المونس لصراحة عمومه; لعدم جواز الاستثناء من المنكر إلاّ إذا عمّ، و في الوصف بمثل هذه العبارة وجه آخر هو التوجيه من جهتين: احتمال الإفراد والجملية، واحتمال الاسمية والفعلية.

الحادية عشرة: في الإتيان بما دون ليس، ووجهه مع الاختصار والوزن التوجيه، فإنّه لو أتى بليس لم يحتمل إلاّ أن يكون جملة فعلية فاعلها مونس، وليكون بصورة الجملة الاسمية إن لم يكن اسمية حقيقة ليكون ذا وجهين: التجدد والثبات.

الثانية عشرة: في تقديم الظّرف أعني «بها» والوجه فيه: أوّلاً: ما تقدّم في تقديم الظرف في «تروح عنه الطير»، وزيادة تخصيص «مونس»، والتوجيه، وإذا جعل مونس فاعلاً للظرف، فالوجه أصالة تقديم العامل مع الوجهين الأوّلين.

الثالثة عشرة: في تقديم الظرف أعني «في الثرى» على «وقع» إن كان متعلّقاً به. ووجه التوجيه ورعاية الوزن والقافية.

الرابعة عشرة: في فائدة الوصف بهذا الظرف إن كان وصفاً، أمّا إن كان «في»


( 173 )
بمعنى «على»ففائدته الدلالة على أنّهنّ لا يأوين إلى حجر لأمنهنّ إذ ما بها غيرهن. وأمّا إن كانت للظرفيّة فللدلالة على أنّه ليس بها إلاّالأرض.

الخامسة عشرة: في الوصف بـ«وقع» وقد تبيّن لك وجهه فيما قدّمنا وكذا الوصف بـ «رقش».

السادسة عشرة: في تأخير الوصف بـ «الرقش» عمّا تقدّمه. ووجهه أنّ ما تقدّمه سواء كان نعتاً واحداً أو نعتين، نعت بما يتعلّق بالدار، ويعلم منه نعتها بالإقفار وامحاء الرسوم واتّصافها بحالة عجيبة يتحيّر منها، فناسب التقديم على ما لا يتعلّق بها من الأوصاف وهذا هو الوجه في تأخير «وقع» عن الظرف إن كان صفة، مع ما تقدّم من التوجيه ورعاية الوزن والقافية.

السابعة عشرة: في تأخير الوصف بالجملتين عن الوصف بـ«الرقش»، والوجه فيه مع كونهما جملتين : رعاية الترقّي في وصفهما بالخبث، التصريح بالخبث المبالغ عمّا هو علامة الخبث.

الثامنة عشرة: في تأخير الجملة الثانية عن الأُولى. ووجهه ما تقدّم في البيت الثاني مع التوجيه باحتمال الحالية.

التاسعة عشرة: في جعلها مقرونة بحرف العطف ووجهه جميع ما تقدّم في البيت الثاني.

العشرون: في اسميتها، ولها وجوه:

منها: التوجيه.

ومنها: رعاية القافية.

ومنها: الدلالة على الثبات بتخييل أنّ كمال السمّ في أنيابها ليس أمراً محدثاً


( 174 )
بل هو أبداً ثابت ليس له زمان انتفاء.

الحادية والعشرون: في تعريف المسند إليه، أمّا إن كان للعهد الذهني فيصحّ الابتداء به، وأمّا إن كان للاستغراق فله وللمبالغة المطلوبة التي عرفتها.

الثانية والعشرون: في تقديم الظرف أعني في إتيانها على «منقع» ووجهه التوجيه ورعاية القافية والوزن وتقريب الضمير من مرجعه والاهتمام، لكون الكلام في بيان صفات الصلال وإفادة الاختصاص بادّعاء أن لا سمّ في غيرها; إمّا لحقارة سموم غيرها بالنسبة إلى سمومها في الغاية أو بادّعاء أنّ جميع السموم قد اجتمعت في أنيابها.

الثالثة والعشرون: في أنّ هذه الأبيات الأربعة أهي أخبار أم إنشاءات؟

فنقول: إنّها أخبار من وجه إنشاء من آخر، وذلك أنّ كلّ مركّب تام أو غيره فله وضعان: أحدهما شخصي وهو وضع مفرداته، والآخر : نوعي وهو وضع الجملة وله بحسب كلّوضع معنى فنحو: زيد قائم، مثلاً، معناه بحسب الوضع الشخصي: أنّ القيام ثابت لزيد، ومعناه بحسب الوضع النوعي إخبار المخاطب بذلك .

إذا عرفت هذا فاعلم أنّه ربّما يؤتى بالجملة الخبرية ويراد بها الإنشاء بالنسبة إلى وضعه الشخصي كما يراد بذلك المثال أمر زيد بالقيام.

وكما أنّه يراد بنحو: رحم اللّه فلاناً، طلب الرّحمة له من اللّه تعالى.

وقد يؤتى بها و يراد بها الإنشا بالنسبة إلى وصفه الثاني كقوله تعالى حكاية:(رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً)(1) فإنّه لم يرد إخبار اللّه

ــــــــــــــــــــــــــــ
1- مريم:4.


( 175 )
تعالى بذلك و إنّما أراد الاستعطاف والاسترحام منه، وهذه الأبيات الأربعة من هذا القبيل فإنّ المراد بها إظهار التحسّر والتأسف.

ويحتمل أن لا يكون المراد بها إلاّ الاخبار وإن تضمّنت إظهار التحسّر.

البيان:

يحتمل أن يكون البيتان الأوّلان على حقيقتهما بلا تجوز في جزء من أجزائهما ولا في الجملة.

ويحتمل أن يكون الدار استعارة تصريحية مرشّحة من وجوه:

الأوّل: ذكر الرسم.

والثاني: ذكر الباء التي بمعنى «في» فإنّ الظرفية الحقيقية إنّما هي للمكان أو الزّمان.

والثالث: ذكر المونس.

والرابع: ذكر الصلال بالنسبة إلى معناها الحقيقي .

و أن يكون «الصلال» استعارة تصريحية مرشّحة باعتبار ذكر النفثات والسمّ.

وأن يكون «الثرى» ترشّحاً لاستعارة الدّار أو بتخييله على تفسير السكّاكي لها.

وأن يكون المراد بـ«الوقوع» التهيّؤ للإيذاء أو الاطمئنان أو الإفساد أو التحيير مجازاً على ما عرفت.

وأن يكون «الرّقش» مجازاً عن حسن الظن أو النفاق أو اختلاف الأقوال في


( 176 )
الأحكام.

وأن يكون «الموت» استعارة مصرّحاً بها مجرّدة، لمقارنتها بالخوف الملائم للمشبه.

وأن يكون «النفثات» ترشيحاً للصلال، أو تخييلية على ذلك بالتفسير، أو استعارة برأسها للقليل من إيذائهم.

وأن يكون المصراع الثاني أيضاً ترشيحاً أو تخييلية للصلال.

وأن يكون «السمّ» استعارة للصلال والأنياب للأنصار.

ويحتمل أن يكون البيتان جميعاً تمثيلاً لحال دار الرسول صلوات عليه وآله، أو رتبة الرئاسة والخلافة في خلوها عن أهلها واشتغالها بأئمّة الجور بحال دار ليس بها إلاّ صلال كذا وكذا.