لمّا جعلت إبلي البيض التي يخالط بياضها شقرة واقعة في رسم تلك الدار أو في جنب رسمها، والحال أنّ عيني، أو عين العيس، أو عيني و عينها جميعاً، تدمع لعرفان ذلك الرسم، أخطرت ببالي،الذي ـأو شخصاًـ كنت ألعب أو أشتغل به عن غيره ،أو ألعب بسببه أو استعانته، أي كان لي بسببه، سرور و فرح ونشاط حتى كنت ألعب معه و بعد أن تذكّرته وبسببه، أو بسببه، أو بعد أن تذكّرته بتُّ أو و بتُّ والحال أنّ قلبي حزين مؤلم، أو أنّ قلبي من الحزن مؤلم، أو حال كونه حزيناً مؤلم، أو صرت حزين القلب مؤلم، أو مؤلم القلب من الحزن، أو مؤلم القلب حال كونه حزيناً في الليل بتمامه كأنّ كبدي يحرق في النار، أو كأنَّ كبدي في النار ويحرق، أو حال كونها تحرق، أو صرت والحال أنّ قلبي كذا كان كبدي كذا، أو صرت قلبي كذا كأنّ كبدي كذا.
أوبتّ والحال أنّ قلبي كذا والحال أنّ كبدي كذا و إنّما صار كبدي كأنّه كذا للّذي أو لشيء أذابني أو أحرقني كائناً أو كائن ذلك حب أروى، أي الحبيبة التي اسمها «أروى».
أو جماعة من إناث الوعول أي النساء اللاتي يشبهن الوعول في العيون أو في التوحّش أو في عسر الوصول إليها، لأنّ الوعول في الغالب في قلل الجبال الوعرة المسالك أو يشبهنها في الجميع، أو كائناً أو كائن ذلك بعض حب أروى.
أو لأنّه شفّني حبّ أروى أو بعض منه، للذي أو لشيء أحزنني وأذابني من أجل حبّ أروى، وذلك الشيء هو الفراق أو الحزن.
هذا وإن كان أراد بالدار الرئاسة والخلافة، فمراده توقّف العيس في رسمها، وعرفانه الاهتداء إليها والاطّلاع على علاماتها والاستدلال بها عليها، أو
الإيمان بها لمن هو أهله والإقامة على ذلك، ومعرفة أربابها على أن يكون وقف العيس مجازاً على الإقامة ،كحط الرحل وإلقاء العصا والإقامة مجازاً عن الإيمان الثّابت بأهلها.
ويحتمل أن يريد بالعيس مطايا العزم وإثبات المطايا للعزم كإثبات اليد للشمال في قوله: «إذْ أصْبَحَتْ بِيَدِ الشِّمالِ زِمامُها»
ويحتمل أن يريد بها نفسه وقواه وجوارحه وكنّى به عن أنّ الإيمان قد انثبت في جميع ذلك وشبّهها بالمطايا لأنّها محامل الأفعال والأخلاق، وخصّ العيس تنبيهاً على تبرّئها عن شوب مواد الكفر و النفاق والشكّ والارتياب، ولما تضمّن لفظ العيس مخالطة الشقرة تضمّن التنبيه على أنّها لارتكابها المعاصي ليست خالصة البياض بل فيها كدرة، ثمّ في التعبير عن إيمانه بالجملة الفعلية المقرونة بـ «لما» إيماء إلى أنّه تجدّد إيمانه بعد أن لم يكن .
والأمر كذلك لما عرفت من أنّه كان كيسانياً وحيئنذ فيحتمل أن يكون بكاؤه على زلّته السابقة ومضى ما مضى من عمره في عدم الإيمان، أي والعين لما عرفت الحق تدمع تأسّفاً وتحسّراً على ما فاته من معرفته فيما مضى.
ومراده بمن كان يلهو به: إمّا أئمّة الحقّ إن كان المراد أنّه كان يشتغل به عن غيره أو يسرّ ويبتهج بسببه أو استعانته أو في صحبته.
و إمّا أئمّة الكيسانية و رؤساؤهم، أو محمد ابن الحنفيّة رضي اللّه عنه إن كان المراد أحد تلك المعاني، أو أنّه كان يلعب به فإنّ اعتقاد الإمامة بغير أئمّة الهدى
1- عجزُ بيت، للبيد بن أبي ربيعة، أحد أصحاب المعلقات، والبيت بكامله:
و غداة ريح قد وزعت وقرة * إذ أصبحت بيد الشمال زمامها
كتاب العين للخليل بن أحمد الفراهيدي:8/101، عن ديوانه: 315.
( 205 )
صلوات عليهم ـوإن كان محمد ابن الحنفيّة وأضرابهـ فهو مثل اللّعب.

وحينئذ فحزنه على الأوّل لفقد من كان يلهو به.

وعلى الثاني لارتكابه ذلك الأمر ومضى شطر من عمره على ذلك الدِّين.

ومراده بـ«أروى»: من كان يحبّه من أئمّة الدِّين و رؤسائه لأنّهم عنده بمنزلة أروى عند عشاقها.

ولا بُعد في التعبير بها عن الأئمّة المعصومين صلوات اللّه عليهم أيضاً كما عرفت في «أُمّ عمرو» إذ لم يلاحظ المعنى العلمي ولا الوضعي وإنّما الوصف الذي اشتهر به المسمّى من المعشوقية كما يقال: حاتم، ولا يلاحظ إلاّمعنى الجود.

ويحتمل أن يكون مراده بها الرئاسة; و التعبير بها لكونها معشوقة لأهل الدُّنيا، ولكونها حسنة المنظر كالأروى، ولتوحّشها عن الأكثر وعسر الوصول إليها، ولرفعتها في الرتبة.

ومراده بحبّها حبّها لأهلها الذين هم الأئمة صلوات اللّه عليهم، أو ما كان عليه أوّلاً من حبّها لغير أهلها.

فعلى الأوّل كان كبده يحرق بالنار لما يراها عند غير أهلها من أئمّة الجور.

وعلى الثاني كان كبده يحرق بالنار تأسّفاً على ما مضى شطر من عمره على حبّها لغير أهلها.
المعاني:

فيه مسائل:

الأُولى: في الإتيان بـ«لمّا» دلالة على عدم انفصال ذكر من كان يلهو به عن الوقف.

فإنّها إمّا حرف وجود لوجود فيدلّ على أنّ الأوّل علّته الثّاني والمعلول
( 206 )
لا ينفكّ عن علّته.

وإمّا ظرف فيدلّ على أنّ الثاني موجود في زمان الأوّل فهو أصرح في عدم التراخي من الأوّل.

الثانية: الإتيان بالجملة فعلية للدلالة على التجدد والمضي ولمقارنة «لمّا» فإنّها لا تدخل إلاّ على الماضي.

الثالثة: إيقاع الوقوف على العيس والعدول عن نسبته إلى نفسه إن كان المراد به الإيمان أدلّ على ثبوت إيمانه، فإنّه كإلقاء الرحل أدلّ على الإقامة كما لا يخفى، وأمّا على باقي المعاني فلابدّ من ذلك لتوقّف إفادة المراد عليه.

الرابعة: تعريف العيس لترتبه الفائدة، و لأنّ الكناية به عن الإقامة والثبات إنّما هي معه، لأنّ المتعارف في إفادة ذلك المعنى حطّ رحله فكذا مثله وقف عيس لا وقف عيسا.

الخامسة: في العدول عن تعريف العين بالإضافة إلى تعريفها باللاّم التوجيه والإبهام، لإيهام أنّ مطلق العين أي ماهيتها أو كلّ عين تدمع، و التحقير لنفسه بعدم ذكره.

السادسة: في إفراد العين التوجيه، لأنّه لو لم يفرد فإمّا أن كان يثنّيها فيخص نفسه، أو يجمعها فيعمّ البتة. والدلالة على كثرة البكاء واتّصال الدموع واتّحادها حتى كأنّها من عين واحدة والإبهام لإيهام أنّ ماهية العين تدمع.

السابعة: تقديم الظرف أعني«من عرفانه» على الفعل لرعاية الوزن والقافية وإفادة الحصر وتقريب الضمير من مرجعه.

الثامنة: الإتيان بهذه الحالة جملة، لكونها الأصل فيها، وللتّوجيه وللدلالة
( 207 )
على الاستمرار التجددي و للإبهام في العين إذ لو أفرد لقال: دامع العين أو دامعة عيني أو عيننا أو عينها، وعلى كلّ لا يكون العين مبهم.

التاسعة: في التعبير عمّن كان يلهو به بلفظ «من» للإبهام ـللتعظيم أو للتحقيرـ إن أراد به رؤساء الكيسانية، أو الدلالة على أنّه لمعلوميته لا يحتاج إلى البيان، أو الاستعفاف عن ذكره إن كان امرأة، وللاختصار وللتوجيه لتردّد «من» بين الموصولة و الموصوفة.

العاشرة: التعبير عن لهوه به بالمضارع مع توسيط كنت الدالّة على الماضي للدلالة على الاستمرار في الزمن الماضي.

الحادية عشرة: في الإتيان بـ«قد» من الفوائد ما عرفت.

الثانية عشرة: إبهام القلب للتحقير، والإبهام المذكور في إبهام العين.

الثالثة عشرة: جملية هذه الحال لكونها الأصل هنا، ولرعاية القافية، وليكون صريحاً في الحالية إن لم يجوّز زيادة الواو، فإنّه لو أفردها كان محتملاً للخبرية، وإن جوّزنا زيادة الواو فلتكون الحالية أظهر، وللإبهام في القلب إذ لو قال شجى القلب أو شجياً قلبي، لم يبق إبهام.

الرابعة عشرة: اسميتها للدلالة على الثبات.

الخامسة عشرة: تأخير هذه الصّفة للدار إن كان جملة لـ«ما» و جمليتها صفة لطولها بالنسبة إلى الأوّل لا سيّما إذا كان البيت الأخير خبراً لـ «بيت» أو حالاً أُخرى لفاعله، ولأنّ الأولى وصف لها باعتبار نفسها، والثانية وصف لها باعتبار ملابسته بينها و بين وردها.

السّادسة عشرة: تقديم «بالنّار» على متعلّقه للقافية والوزن والتوجيه والحصر
( 208 )
والتعجيب، و تقديمه على اسم كان ـإن كان خبراً لهـ للحصر و التعجيب، وإلاّفللتعجيب، وتقديمه على الظرف الثاني أعني: لما شفّني للتعجيب، وأمّا «لما شفَّني» فمحلّه إمّا قبل ذكر شيء ممّا في حيز «كأنّ» أو بعد تمام الكلّ، فإنّه كما عرفت متعلّق إمّا بـ«كأنّ» أو بما يفهم منه من الفعل.

السابعة عشرة: جعل المجرور في «لمّا شفّني» موصولاً للإبهام إمّا مقروناً بالإيضاح بعده إن كان «من» في «من حبّ أروى» بيانيّة، أو تبعيضيّة، أو لا إن كانت تعليلية للتعظيم والدلالة، على أنّه من العظم بحيث لا يكتنه كقوله تعالى:
(فَغَشِيَهُمْ مِنَ اليَمِّ ما غَشِيَهُمْ)(1) إن لم يكن ما بعده إيضاحاً، وإلاّفالتعظيم من جهة أنّه للاهتمام بشأنه أورده مرّتين: مبهماً مرّة، وموضّحاً أُخرى ليتمكّن في ذهن السامع فضل تمكّن من جهتين: إحداهما ذكره مرّتين، والأُخرى وقوع إيضاحه بعد التشوّق إليه. ولذكره مرّتين وجه آخر وهو الالتذاذ بذكره.

الثامنة عشرة: في الإتيان بـ«من» التبعيضيّة في «من حبّ أروى» إن كانت تبعيضيّة، إشارة إلى أنّ ما أصاب، حصة من حبّها فإنّ المحبّ لها ليس منحصراً فيه. وأمّا إن كانت زائدة ففائدتها التأكيد.
البيان:

إن لم يحمل وقف العيس على حقيقته كان إمّا تمثيلاً، أو كان العيس استعارة مصرّحة والوقف ترشيحاً لها.

وإن أراد بمن كان يلهو به رؤساء الكيسانية كان «ألهو» استعارة تبعته، فإنّه شبّه أتباعهم باللّعب بهم. والاستعارة في الفعل تسمّى تبعيّة لأنّها تابعة للاستعارة
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- طه:78.
( 209 )
في الحدث، وأروى إن لم يكن علماً كان استعارة.

وإسناد «شف» إلى ضمير الموصول مجازي سواء أُريد بالشف الإذابة أو الاحزان فإنّ الحبّ إنّما هو سبب للحزن الذي هو سبب التحول، وهو من الأحكام المجازية التي ذهب الشيخ الإمام عبد القاهر إلى أنّه لا حقيقة لها، نحو: اقدمني بلدك حق لي على فلان، لأنّ الموجود إنّما هو القدوم، وأمّا الإقدام فهو أمر توهّم المتكلّم فلا فاعل حقيقيّاً له، لأنّه بنفسه لا حقيقة له ليكون له فاعل حقيقة. ويمكن أن لا يكون من ذلك القبيل و يكون الحقيقة فيه شفّني اللّه لحبّ أروى.

البيت الأخير تشبيه إمّا للنحول والذوبان الذي حصل له بالحزن للحب بالذوبان بالنار، أو للوجع و الألم الحاصل بالحزن للحبّ بالوجع للاحتراق بالنار، فالأوّل إن كان المراد بالشف الإذابة، والثاني إن كان المراد به الأحزان. ووجه الشبه هو الشدّة. ويحتمل على الأوّل أن يكون السرعة وأن يكون الإيجاع والإيلام.

لمّا فرغ من ذكر الحبيب والدار والمنزل، و التأسّف على إقفار المنزل، وبيان ما طراه، للتذكّر من الحزن والتوجّع شرع في المقصود واقتضبه اقتضاباً كما هو دأب القدماء. فقال: