4- مفردات غريب القرآن: 72.
( 418 )

«كان» إمّا ناقصة، أو زائدة.

«الباء» للتعدية أو السببيّة، أو الاستعلاء، أو زائدة.
الإعراب:

«إذا» إن كانت ظرفيّة تعلّقت بـ«ضيعوا» وإن كانت شرطية فقد مضى الخلاف فيها.

«ما» في «ما قال» إن كانت موصولة كان عائدها محذوفاً، أي «ما قاله» وأوصى عطف على «قال» .

«به»، متعلّق فإن كانت «ما» موصولة عاد الضمير فيه عليها وكانت «الباء» للتعدية، وإن كانت مصدرية عاد الضمير على الأمس وكانت «الباء» للظرفية، أي وإيصاءه فيه.

«أرحامه»: مفعول لـ«قطعوا» إمّا على مجاز الحذف إن كان التقدير أُولي أرحامه فحذف المضاف وأُقيم مقامه المضاف إليه، أو لا عليه على التقديرين الأُخريين، أعني إرادة أُولي الأرحام بلفظ أرحامه، أو إرادة معناه الحقيقي من غير حذف.

«بعده»: ظرف للتقطيع، والجملة إمّا عطف على مجموع الجملة الشرطية، أي: وحتى قطعوا، أو على الجزاء حسب، فيكون «بعده» تأكيداً، أو على ما وقع حتى بما خيّرها غاية له. وستأتي الاحتمالات فيه.

«ما» في «بما قطعوا» إن كانت مصدريّة فلا تقدير ولا إشكال، وإن كانت موصولة كانت عبارة عن التقطيع وكان عائدها محذوفاً، أي بالتقطيع الّذي قطعوه، أي فعلوه وأوقعوه.

«غدراً» مفعول «أزمعوا».
( 419 )

«بمولاهم» مفعول «غدراً».

«تبّاً» مفعول مطلق لفعل مقدّر أي تبّ تباً فحذف الفعل وأُقيم المصدر مقامه، وهذا الحذف واجب لأنّه لم يسمع منهم اثباته في نثر ولا نظم مع افتقارهم كثيراً إلى تغيير الأُسلوب وتبديله.

ثمّ إنّ «اللام» التي بعده وبعد أمثاله من نحو: بهراً له ووثباً له ومن نحو سقياً له ورعياً له، ممّا كان الضمير عائداً على المفعول للتبيين على ما نصّ عليه سيبويه، إمّا لتبيين الفاعل أو المفعول، وبحسب الإعراب هي مع مجرورها ظرف مستقرّ خبر لمبتدأ محذوف، أي دعائي هذا له أو إرادتي له. وهذه الجملة مستأنفة ومبتدأها واجب الحذف ليلي الفاعل أو المفعول ما قام مقام الفعل.

ومن هذا ظهر لك أنّها في الحقيقة «لام» الاختصاص أو الاستحقاق.

وقال بعض من جعلها للتبيين: إنّ التقدير له أعني.

واعترض عليه ابن هشام في المغني; بأنّ أعني متعدّي بنفسه، وهو مردود بأنّه لا يأتي أن تكون اللام لتقوية العامل، وإنّما دخلت لكونه مؤخراً. وقال الكوفيون: إنّ أصل سقيا لك مثلاً: يسقيك، فهذه اللاّم هي لام الاختصاص المضمرة في الإضافة.

أقول: ويحتمل أن تكون للاختصاص أو الاستحقاق، ويكون الظرف مستقرّاً صفة للمصدر، فكأنّه قال: تب تبّاً مختصاً به أو مستحقّاً له، وكذا سقياً له ونحوه.

وردّ ابن هشام في المغني ذلك، بأنّ الفعل لا يوصف، فكذا ما قام مقامه دعوى لا برهان عليها.

واللاّم الّتي في البيت محتمل مع ذلك أن تكون للتعليل، بأن يكون التقدير تبّاً لهم لما كان، ثمّ إن كان «كان » ناقصة، كان اسمها الضمير العائد على القوم،
( 420 )
وجاز إفراده بناءً على لفظ «القوم» ، أو العائد إلى «ما» إن كانت موصولة.

أو يقرأ «كانُ» بضمّ النون على أنّ الأصل «كانوا» فحذف الواو للضرورة، كقوله: «فلو أنَّ الأطباء كانُ حولي».

أو يكون الاسم «أزمعوا» على تأويله بالمفرد، أي ازماعهم.

وإن كانت زائدة فلا إشكال.

«به» فيه احتمالات: أحدها أن يكون «باؤه» بمعنى «على» و يكون متعلّقاً بـ«أزمعوا» أي: لما كان أزمعوا عليه، فإن كانت «ما» موصولة اسمية عاد الضمير إليها، وإن كانت موصولة حرفيّة عاد على الغدر المتقدم ذكره.

والثاني: أن يكون «الباء» للتعدية ويكون متعلّقاً بالغدر مقدّراً مفعولاً لأزمعوا، وحينئذ فالضمير فيه لا يعود إلاّإلى مولاهم ولا يكون «ما» إلاّمصدرية إلاّ أن يقدّر عائد عليها نحو: «به» أو «له»، أو يكون متعلّقاً بفعله مقدراً، أي ما كان أزمعوا فعله به، وحينئذ يكون عائد «ما» في فعله، أو فعلاً مقدّراً، أي ما كان أزمعوا فعلاً به، وحينئذ فلابدّ من تقدير العائد كما سبق.

والثالث: أن يكون «الباء» للسببيّة وحينئذ لا يرجع الضمير إلاّ إلى «ما» ولا تكون «ما» إلاّ موصولة اسمية ويكون مفعول أزمعوا مقدّراً، أي لما بسببه أزمعوا غدراً بمولاهم، وحينئذ فإن كانت «كان» ناقصة، جاز تعلّق «به» بها على قول، وجاز تعلّقه بأزمعوا أيضاً، وإن كانت زائدة لم يتعلّق إلاّ بأزمعوا.

والرابع: أن تكون «الباء» زائدة ويكون الضمير مفعولاً لأزمعوا، أي أزمعوه، فإن كانت «ما» موصولة عاد إليها وإلاّفإلى الغدر.

والخامس: أن تكون الباء للتعدية ويكون به متعلقاً بأزمعوا، وإنّما عدي
( 421 )
بالباء لأنّه إزماع على الغدر والغدر يتعدّى بالباء فأعطى الإزماع عليه حكمه. أو أراد بالإزماع على الغدر نفس الغدر.

فعلى الأوّل يكون الضمير عائداً على «ما» أو الغدر .

و على الثاني يكون عائداً على مولاهم، فإن كانت موصولة قدّر لها ضمير، أي «به» أو «له» ثمّ إنّ «حتّى» بما في حيزها إما غاية لـ«ظلّ» بما في حيزها، أو لما في حيزها حتى يكون أيضاً ممّا في حيزه، أو لذلك ولما قبله من قوله: فاتّهموه إلى تمام البيت.

أو غاية لـ«ظلّ» وحده إن كان فعلاً تامّاً ويكون مجموع ما بعد قوم صفة لهم، أي: أقاموا حتّى إذا واروه. الخ.

أو قائم مقام خبر «ظلّ» إن كان ناقصاً، أي: وظلّ قوم من صفتهم كذا عازمين على الخلاف مخفين له مقيمين عليه حتّى إذا واروه أبدوا ذلك وفعلوا ما فعلوا.
المعنى:

ظلّوا كذا حتّى، أو ظلّوا غائظين لفعله حتّى، أو ظلّوا مشبهين بهم إذا جدعت آنافهم حتّى ، أو فاتّهموه وكذا وكذا حتى، أو أقاموا حتى، أو ظلّوا غارمين على الخلاف مخفين له مقيمين على النفاق حتّى لما ستروه.

أو حتّى أنّهم لمّا ستروه في قبره ورجعوا عن دفنه أهملوا أو أهلكوا ما قاله يوم الغدير أو قوله يوم الغدير وما أوصى به من التمسّك بأمير المؤمنين صلوات اللّه عليه والاقتداء والإئتمام به، أو إيصاءه بذلك في ذلك اليوم أو ضيّعوا ذلك في زمان ستروه في قبره ورجعوا عن دفنه واستبدلوا حالة السوء، أو ما يضرّهم أو
( 422 )
الإضرار بهم بما ينفعهم أو ينفعهم وبالغوا أو أكثروا في قطع أُولي قراباته، أو قطع قراباته بالنسبة إليهم، أو إلى أُولي القرابات، فسوف يقابلون بما يكفيهم يوم القيامة بتقطيعهم أو بالتقطيع الذي أوقعوه وأثبتوا عزمهم على الغدر بمولاهم خسراناً وهلاكاً; لإزماعهم ذلك أو على ذلك أو لما أزمعوه وأزمعوا عليه من الغدر، أو لما بسببه أزمعوا على الغدر وهو الكفر والنفاق.

أو غلبة الهوى و إيثار الدنيا على العقبى، أو الغيظ لأمير المؤمنين صلوات اللّه عليه وعداوته، أو لما أزمعوا أو إزماعهم غدراً بمولاهم، أو هلاكاً وخسراناً لهم لأجل ما كان به أزمعوا.

ثمّ إنّ من الظاهر عند المتتبّع أنّ المذكور في كتب الأصحاب وغيرهم أنّهم بادروا إلى الخلاف واجتذاب الخلافة بعضهم من بعض قبل دفن النبيّ
ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ ، والّذي ينصّ عليه النظم أنّ ذلك وقع بعد الفراغ عن الدفن.

وأيضاً فلم يذكر في شيء من الكتب أنّ أُولئك الغاصبين ومن تبعهم كانوا حاضرين في دفنه حتى يتحقّق منهم انصراف عنه، فلعلّه أراد أنّ تمام ذلك وكماله إنّما حصل بعد الدّفن وانصراف قوم منهم عن الدفن فإنّ كثيراً من النّاس لم يبايعوا أبا بكر إلاّ بعد الانصراف عن الدفن، و أيضاً إنّما حصلت البيعة الفاسدة بعد طول مشاجرة ومقاولة لم تنته إلاّ بعد حصول الفراغ عن دفنه
ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ .
المعاني:

فيه مسائل:

الأُولى: التعبير عن الزمان الماضي بـ«إذا» الموضوعة للمستقبل، لإظهار كراهة ما وقع فيه من التضييع أو الدفن أو كليهما والدّلالة على شدّة فظاعته
( 423 )
وغرابته حتّى أنّه لا يجوز أن يكون قد وقع، وللدلالة على أنّ التضييع وإن كان أثراً قد مضى وانقرض لكن أثره باقي لا يزول إلى يوم القيامة وثبوت الشيء وظهوره بثبوت أثره وظهوره، فكأنّه نفسه باقي لا يزول.

الثانية: تقديم الظرف أعني «إذا» بما في حيّزها على عامله، أعني «ضيعوا» إن كانت «إذا» ظرفية محضة، للتوجيه والدلالة على الحصر، أي أنّهم إنّما ضيعوا في ذلك الزمان لا في زمان بعده، أي لم يؤخّروا أو التضييع عن ذلك.

الثالثة: حذف عائد الموصول إن كانت «ما» موصولة اسمية، للاختصار والوزن والتّوجيه.

الرابعة: في التعبيرعن يوم الغدير بالأمس ما لا يخفى من الدلالة على قرب زمان النقض من زمان العهد.

الخامسة: التعبير عن على بالباء إن كانت الباء في «تبّاً لما كان به أزمعوا» بمعنى «على» للدلالة على لزومهم لذلك والتصاقهم به وعدم انفكاكهم عنه، أو على أنّه لم يكن مجرّد إزماع بل إزماعاً ترتّب عليه أثره الّذي هو الغدر،حتى كأنّه نفس الغدر، وللوزن والتوجيه، وهي الوجوه في زيادتها إن كانت زائدة.

السّادسة: تقديم «به» على متعلّقه إن تعلّق بـ «أزمعوا» للوزن والقافية وتقريب الضمير من مرجعه والتوجيه.
البيان:

استعمال «إذا» في الزمان الماضي إمّا مجاز مرسل، بأن استعمل في الزمان المطلق، فيكون استعمالاً لاسم الكلّ في الجزء ثمّ يكون تحقّق المطلق في ضمن ذلك الفرد، أو استعارة تبعية بناءً على تشبيه الواقع بما لم يقع وزمانه الماضي بالذي لم
( 424 )
يمض في بعد الوقوع، واستعمال الاشتراء في الاستبدال إمّا مجاز مرسل من إطلاق اسم الملزوم على اللاّزم، أو استعارة تبعية على تشبيه الاستبدال بالاستبدال المشترى.

و في قوله:«قطعوا أرحامه» إمّا استعارة تبعيّة تشبيهاً للهجر وترك البر، بالتقطيع أو الأرحام، استعارة بالكناية تشبيهاً لها بالحبل ونحوه ممّا يقبل القطع.

والتقطيع استعارة تخييلية، بمعنى أنّه ثبت لها شيء شبيه بالقطع للحبل ونحوه.

وفي الأرحام استعارة أُخرى إن أُريد بها ما بينهم و بين النبيّ
ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ من القرب دون القرابة نسبة التب إلى ما كان به أزمعوا ، مجازية فإنّ الحقيقة نسبته إليهم.

«الباء» في «به» إن كانت بمعنى «على» كانت استعارة تبعية، وإن كان المراد بأزمعوا «غدروا » كان مجازاً من إطلاق اسم مبدأ الشيء وملزومه عليه.
( 425 )
[27]
لا هُمْ عَلَيْهِ يَرِدُوا حَوضَهُ * غداً ولا هُوفِيهِـم يشفــعُ
اللغة:

«لا » هي الموضوعة لنفي الجنس، ويلزمها إذا وليتها معرفة أن ترفع و أن تتكرّر.

أمّا الرفع، فلأنّ «لا» هذه إنّما كانت تعمل لمشابهتها بـ «أن» لما أنّ «ان» متوغلة في الإثبات فإنّها للمبالغة فيه، و«لا» متوغلة في النفي لأنّها نفي الجنس فلمّا دخلت المعرفة زال عنها التوغل في النفي فزالت المشابهة.

وأمّا التكرار، فلتقرب من نفي الجنس الذي هو الأصل في «لا» فإنّ نفي الجنس في الحقيقة نفي متكرّر.

وجوّز الكوفيون بناء الاسم العلم مفرداً نحو: لا زيد ولا عمرو، أو مضافاً كنيته نحو: لا أبا محمد ولا أبازيد، فإن كان علماً مضافاً إلى اللّه أو الرحمن أو العزيز أو الرحيم أو نحوها أجازوا أن تعمل فيه«لا»، فتقول: لا عبد اللّه ولا عبد الرحمن ولا عبد العزيز، وبعضهم حتموا إسقاط الألف واللاّم من الرحمن والعزيز فيقولون: لا أبا عبد رحمن، ولا أبا عبد عزيز.
( 426 )

قال الفرّاء: إنّما أُجيز «لا عبد اللّه » لك لأنّه حرف مستعمل يقال لكلّ أحد، يعني أنّه كثر استعماله فأُجيز فيه مالا يجوز في الرحمن والعزيز ونحوهما.

وخالف المبرّد وابن كيسان في وجوب التكرير فأجازا عدمه،وعند الجمهور لا يجوز إلاّفي الضرورة ولكن إذا كان الاسم الواقع بعدها بمعنى الفعل لم يلزم التكرار نحو: لا سلام على زيد، فإنّه بمعنى : لا سلام اللّه عليه. ونحو : لا نولك أن تفعل كذا، فإنّه بمعنى : لا ينبغي لك أن تفعل.

«على» على أوجه: فعل واسم وحرف.

فالفعل: ماضي«يعلوه» أو «يعليه» ، فهو «علا» أي صعده.

والاسم: بمعنى «فوق»وذلك إذا جرّ بـ«من» كقوله:
غدت من عليه بعد ما تمّ ظمؤها * تصل وعن قيض بزيزاء مجهل(1)

وخالف الفرّاء و من وافقه من الكوفيّين، فزعموا أنّ «على»حرف وإن دخلت عليها «من»، وإنّ «من» تدخل على حروف الجرّ كلّها سوى «من» و«الباء» و «اللام» و «في»، و زاد الأخفش موضعاً آخر لاسميّتها و هو ما إذا كان مجرورها و فاعل متعلّقها ضميرين لشيء واحد، نحو: سويت على قوتي، و قوله تعالى:
(أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) (2).

وقول الشاعر:
هوِّنْ عليكَ فإنّ الأُمورَ * بِكَفِّ الإلـــهِ مَقادِيرُها(3)
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- ذكرهالحموي في معجمالبلدان:3/339 و نسبه إلى مزاحمالعقيلي والصحاح: مادة «علا».
2- الأحزاب:37.
3- و الشاعر هو الأعورالشَّنِّيّ في الحماسة . (شرح شواهدالمغني : 146، 295). و في مغني اللبيب:2/487 بعدها:
فليس بآتيك منهيها * و لا قاصر عنك مأمورها
( 427 )

لأنّه لا يجوز أن يكون فاعل فعل من غير أفعال القلوب ومفعوله ضميرين لشيء واحد، ولا يقال ضربتني ولا فرحت لي بل ضربت نفسي وفرحت بنفسي.

وردّ عليه بأمرين:

أحدهما أنّها لو كانت اسماً في هذه المواضع لصحّ إقامة «فوق» مقامها، وأنت خبير بأنّه يصحّ ولكن بتكلّف في الأخيرين.

وثانيهما: أنّه لو تمّ الدّليل على اسميّتها لكانت «إلى» في قوله تعالى:
(فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ)(1) وقوله: (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ)(2) و قوله: (هُزِّي إِلَيْكِ)(3) اسماً،ولم يقل به أحد، بل إنّما أوّلوها بأحد أمرين:أحدهما أن يقدّر مضاف، أي إلى نفسك، أو يقدّر تعلّقها بمقدّر، كما في نحو: سقيا لك.

وكلّ من هذين الوجهين من التأويل جاري في أمثلة «على» فلا حاجة إلى القول باسميتها.وله أن يقول: إنّهم إنّما ارتكبوا التأويلين في «إلى» لمّا لم يثبت اسميتها، و«على» بخلاف ذلك فقد ثبت اسميّتها في الجملة فلا حاجة فيها إلى شيء من التأويلين.

ثمّ اختلف في «على» الاسمية أنّها معربة أو مبنية.والحقّ أنّها مبنيّة ; لمشابهتها الحرفية صورة ومعنى،ويخالف عن الاسمية في أنّه لا يلزمها الإضافة كما يلزم «عن» ، قال:
باتَتْ تَنُوشُ الحوضَ نوشاً من علا * نوشـــاً به تقطــع أجواز الفلا(4)

وأمّا الحرف فقد اختلف في وجوده فالجمهور عليه، و قيل: بل لا يكون إلاّ
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- البقرة:260.
2- طه:22.
3- مريم:25.
4- ذكر البيت في تاجالعروس: 10/251، و نسبه إلى أبي النجم أو إلى غيلان بن حريثالربعي، انظر لسان العرب:5/164.
( 428 )
اسماً.

ولـ«على» الحرفية معان، منها: الاستعلاء إمّا حقيقة وهو الّذي على المجرور حسّاً أوعقلاً، أو مجازاً، و هو الّذي على ما يجاوره كقوله تعالى:
(أَوْ أَجِدُ عَلى النّارِ هُدىً)(1) وهذا المعنى هو أصل معانيها.

ومنها المصاحبة، كقوله تعالى:
(وَآتَى المالَ عَلى حُبِّهِ)(2) وهما المحتملان هنا، والأوّل هو الأظهر، إلاّ أنّ المراد المجازي منه أي الورود على ما تقرب منه.وإن أراد الثّاني، فلا يريد المصاحبة في ابتداء الورود، بل مجرد المصاحبة بقرب الحوض وإن كانت بعد ورده بأُلوف الأعوام.

أصل الورود : قصد الماء أو حضوره أو الإشراف عليه للشرب سواء تحقّق الشرب أم لا، وكثيراً يقصد به الحضور المقرون بالشرب بل الشرب.

ثمّ عمّم الدخول في كلّ شيء وعلى كلّ شيء، أو الوصول إليه أو الإشراف عليه، فيقال: ورد بلد كذا، وورد علي من الأمر كذا.

«الحوض» واحد الأحواض و الحياض،من حاض الماء أي جمعه.

«الغد» أصله «غدو» حذفوا اللاّم من غير تعويض، والنسبة إليه غديّ وغدويّ، وجاء على الأصل قول السيد:
وما الناسُ إلاّ كالديارِ وأهلُها * بها يَومَ حَلُّوها و غَدْواً بَلاقِعُ(3)

ومعناه اليوم الذي يلي يومك من الأيّام الآتية، والمراد به هنا يوم القيامة
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- طه:10.
2- البقرة:177.
3- ذكره في الصحاح: 6/2442 «غدا» و نسبه إلى لبيد، و في النهاية لابنالأثير:3/346 نسبه إلى ذي الرمة و قال: هكذا نسب في الأصل و لم نجده في ديوانهالمطبوع، و قد نسبه في اللسان للبيد و هو في شرح ديوانه: 169 تحقيق إحسان عباس.
( 429 )
استقصاراً الأيّام الدنيا وتنزيلها منزلة يوم واحد، وتنزيلاً لها منزلة يوم واحد في تشابه أجزائها في كثير من الأحوال.

«في» إمّا للظرفيّة أو التعليل ، كما في قوله تعالى:
(فَذلِكُنَّ الّذي لُمْتُنّني فيهِ)(1) وقوله تعالى: (فَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ)(2)، أو زائدة كما قيل في قوله تعالى: (وَقالَ ارْكَبُوا فيها) .(3)

وفي قوله :
أنا أبو سَعد إذَا الليلُ دَجَا * يَخالُ في سوادِهِ يَرَنْدَجا(4)

«الشفاعة»: أن تسأل العفو عن أحد، شفع له، كمنع، شفاعة وشفعة في فلان تشفيعاً: إذا قبل شفاعته، وكأنّها مأخوذة من الشفع خلاف الوتر، لما أنّ الشفيع كأنّه يضمّ نفسه إلى من يشفع له لينصره أو يدفع عنه المكروه.
الإعراب:

«هم » مبتدأ وخبره «عليه يردوا حوضه غداً».

«عليه» متعلّق بـ«يردوا» كلّ من حوضه.

و «غداً» ظرف ليردوا، ولو لم يتعلّق بالورود عليه لحكمنا بأنّ حوضه مفعول به له، لأنّ «ورد» بمعنى «وصل» أو «حضر» أو «دخل»، أو ورده بمعنى أشرف عليه.

ويحتمل أن يكون حوضه مفعولاً به و«عليه» متعلّقاً بـ«يردوا»، لتضمّنه
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- يوسف:32.
2- النور:14.
3- هود:41.
4- تقدم ذكره و التفصيل عنه في ص 285.
( 430 )
معنى الثقل، نظير «على» في قوله:
كَمْ خالةٌ لكَ يا جَريرُ و عمّةٌ * فَدْعاء قَدْ حَبَلَتْ عليَّ عِشارِي(1)

أو يكون «عليه» متعلّقاً بمقبلين مقدّراً حالاً عنهم، أي لا هم مقبلين عليه يردوا حوضه، أو متعلّقاً بكرام حالاً أيضاً، أو خبراً لهم أي لا هم كرام عليه، وحذف نون يردوا على ما عدا الأخير للضرورة، كما في قوله:«واد يغصبوا الناس أموالهم».

وعليه للجزم لوقوعه جواباً للنفي أي: لا هم كرام لو كانوا كذلك يردوا حوضه.

ثمّ إنّ «يردوا حوضه» إمّا أن يكون من قبيل مجاز الحذف حتّى يكون المراد يردوا قرب حوضه، أو المراد بالحوض ما قرب منه أو بوروده ورود ما قرب منه .

«هو»: مبتدأ و مابعده خبره.

«فيهم»: إمّا ظرف لتشفع بتقدير «في شأنهم» أو «في حقّهم»، أو بمعنى يوجِد الشفاعة فيهم حتى يصيروا موصوفين بأنّهم مشفوع لهم أو فيهم، بمعنى لهم متعلّق يشفع، أي يشفع لأجلهم، و «هم»مفعول به ليشفع و «في»زائدة.
المعنى:

لا أُولئك القوم يردون على النّبي
ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ حوضه أو قرب حوضه أو في حوضه أو في قرب حوضه، أو لا هم مقبلين أو كراماً عليه يردون حوضه، أو لا هم كرام عليه حتّى يردوا حوضه يوم القيامة ولا النبيّ ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ في حقّهم أو شأنهم يشفع أو فيهم يوقع الشفاعة أو يشفع لهم أو شفّعهم.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- البيت للفرزدق يهجو جريراً، ديوانه: 264، و في الأصل «عمة» مكان «خالة» و بالعكس.
( 431 )

ثمّ إن كان «عليه» حالاً فالمراد بالنفي : نفي القيد والمقيّد جميعاً لا القيد وحده.

ويحتمل على الأخير أعني تقدير كراماً، أن يريد نفي القيد وحده إذا كان المراد بورود الحوض مجرّد الإشراف عليه أو قصده أو حضوره أو الوصول إليه غير أن يتحقّق شرب كما هو الأصل في معناه، فإنّ غايتهم أن يحضروا الحوض ويصلوا لكن لا يكونون كراماً على النبيّ
ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ حتى يسقيهم منه، بل يطردهم أو تطردهم الملائكة عنه.

ويؤيده أنّه روى البخاري فيما أخرجه من حديث الزهري عن سعيد بن المسيب أنّه كان يحدّث عن بعض أصحاب النبيّ
ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ قال: يرد علي الحوض رجال من أُمّتي فيحلؤون عنه فأقول: يا ربّ أصحابي، فيقول: إنّك لا علم لك بما أحدثوا بعدك; إنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى.(1)

وأخرج أيضاً من حديث الزهري عن سعيد بن المسيّب،عن أبي هريرة أنّه كان يحدّث أنّ رسول اللّه
ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ قال: يرد علي الحوض يوم القيامة رهط من أصحابي فيجلون عن الحوض فأقول: يا ربّ أصحابي، فيقول إنّه لا علم لك بما أحدثوا بعدك; إنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى.(2)

ثمّ إنّ ما قال به الناظم رحمه اللّه من حرمانهم الحوض والشفاعة من الظهور وتواتر الاخبار به من الخاصّة والعامة ودلالة البراهين القاطعة عليه، ممّا لا حاجة إلى الإطناب فيه، مع أنّه لا يسعه ولا شطراً منه مثل هذا الكتاب، ثمّ إنّ الظاهر من البيت أنّه اخبار.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- صحيحالبخاري: 7/208، دارالفكر، بيروت 1401هـ ق.
2- صحيحالبخاري: 7/208، دارالفكر، بيروت 1401هـ ق.
( 432 )

ويحتمل أن تكون جملتين دعائيتين أي ولا وردوا عليه الحوض، أو لا كانوا عليه كراماً حتى يردوا الحوض ولا نالهم شفاعته.
المعاني:

فيه مسائل:

الأُولى: تقديم «عليه»على «يردوا» إن تعلّق به، للتوجيه وتقريب الضمير من مرجعه،وتعظيم الضمير باعتبار مرجعه والتشرّف والتبرّك به لرجوعه إلى النبيّ
ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ .

الثانية: التعبير بالغد عن يوم القيامة، للدلالة على قصر زمان الدنيا. وفيه دلالة على انهماك القوم في الغفلة والضلال حيث آثروا العاجل على الآجل; والدّلالة على مخالفة شأن يوم القيامة لأيّام الدنيا وأنّهم لا يهملون ولا يتركون فيها كما تركوا في الدنيا.

الثالثة: التعبير عن اللام بفي فيمن يشفع له حتّى يتمكّن أثرها فيه ويقوم به، وكذا إن كانت زائدة.

الرابعة: تقديم «فيهم» على «يشفع» ; للوزن والقافية والتوجيه،وتقريب الضمير من مرجعه، و إفادة الحصر، وزيادة التطبيق بين الجملتين المتعاطفتين.
البيان:

«لا» الموضوعة لنفي الجنس إذا استعملت في نفي المعارف الّتي لا يراد بها النكرة، كانت استعارة تشبيهاً للنفي المتكرّر فيها بالنفي المتعلّق بالجنس المتكرر حقيقة.

إن كان المراد بالحوض: ما قرب منه، كان الحوض مجازاً من إطلاق اسم
( 433 )
أحد المتجاورين على الآخر.

وإن كان المراد بوروده الورود بقرب منه، كان إمّا تمثيلاً للورود بقرب منه بوروده، أوإطلاقاً لاسم أحد المتجاورين، أعني: وروده على الآخر، أعني: المورود قربه، أو تجوزاً في إيقاع الورود عليه.

«غدا» استعارة ليوم القيامة.

«في» إن كانت بمعنى اللاّم كانت استعارة.

جملة البيت إن أُريد بها الدعاء كانت مجازاً باعتبار وضعها النوعي، فإنّ للمركّبات وضعاً نوعيّاً كما للمفردات وضع شخصي ولبعضها أيضاً نوعي.

ثمّ شرع في وصف الحوض بما وردت عليه النّصوص فقال: