كتاب اللألي العبقرية في شرح العينيّة الحميريّة لبهاء الدين الاصبهاني من ص 32 ـ 58 ص

( 32 )

وفاته

أثار نبأ وفاة السيد ضجة كبيرة في المجتمع الكوفي، فقد توفّي السيد عام 173هـ، وقيل 178هـ(1).

روى المرزباني باسناده عن ابن أبي حودان، قال: حضرت السيد ببغداد عند موته، فقال لغلام له: إذا متُّ فأت مجمع البصريين وأعلمهم بموتي وما أظنه يجيء منهم إلاّرجل أو رجلان، ثمّ اذهب إلى مجمع الكوفيين فأعلمهم بموتي أنشدهم:

يا أهل كوفان إنّي وامق لكم * مذ كنت طفلاً إلى السبعين والكبر

أهواكم وأواليكم وأمدحكم * حتماً عليَّ كمحتوم من القدر

بحبّكم لوصي المصطفى وكفى * بالمصطفى وبه من سائر البشر

فاإلى أن قال:

وكفّنوني بياضاً لا يخالطه * شيء من الوشي أو من فاخر الحبر

ولا يشيعني النصّاب إنّهم * شرُّ البريّة من انثى و من ذكر

ــــــــــــــــــــــــــــ
1- لسان الميزان:1/438.


( 33 )
عسى الإله ينجِّيني برحمته * ومدحي الغرر الزاكين من سقر

نّهم ليسارعون إليَّ ويكبرون ، فلما مات فعل الغلام ذلك، فما أتى من البصريين إلاّثلاثة معهم ثلاثة أكفان وعطر، وأتى من الكوفيين خلق عظيم ومعهم سبعون كفناً ووجّه الرشيد بأخيه علي وبأكفان وطيب، فردت أكفان العامة عليهم وكفن في أكفان الرشيد، وصلّى عليه علي بن المهدي وكبّر خمساً، و وقف على قبره إلى أن سطح ومضى كلّ ذلك بأمر الرشيد.(1)

ونقل أبو الفرج الاصبهاني، عن بشير بن عمّار، قال: حضرت وفاة السيد في الرُّميلة ببغداد، فوجه رسولاً إلى صفّّ الجزّارين الكوفيين يُعلمهم بحاله ووفاته، فغلط الرسول فذهب إلى صف السموسين فشتموه ولعنوه، فعلم أنّه قد غلط، فعاد إلى الكوفيين يُعلمهم بحاله ووفاته، فوافاه سبعون كفناً، قال: وحضرناه جميعاً، وانّه ليتحسّر تحسراً شديداً وإن وجهه لأسود كالقار وما يتكلم، إلى أن أفاق إفاقة، وفتح عينيه، فنظر إلى ناحية القبلة، ثمّ قال: يا أمير المؤمنين، أتفعل هذا بوليك! قالها ثلاث مرات ، مرة بعد أُخرى.

قال: فتجلّى واللّه في جبهته عرق بياض، فما زال يتسع ويلبس وجهه حتى صار كلّه كالبدر، وتوفي فأخذناه في جهازه و دفناه في الجنينة ببغداد، وذلك في خلافة الرشيد.(2)

نعم ثمة أوهام حيكت حول وفاة السيد نشير إلى بعضها:

ــــــــــــــــــــــــــــ
1- أخبار شعراء الشيعة: 170.
2- الأغاني: 7/278.


( 34 )
قال أبو الفرج الاصبهاني : كنت عند جعفر بن محمد، فأتاه نعي السيد، فدعا له و ترحّم عليه، فقال رجل: يابن رسول اللّه، تدعو له وهو يشرب الخمر ويؤمن بالرَّجعة، فقال: حدثني أبي عن جدّي، انّ محبِّي آل محمّد لا يموتون إلاّ تائبين وقد تاب، ورفع مُصلّى كانت تحته، فأخرج كتاباً من السيد يعرِّفه فيه انّه قد تاب ويسأله الدعاء له.(1)

أقول: إنّ ما ذكره صاحب الأغاني لا يوافق التاريخ القطعي، فانّ الإمام توفي عام 148هـ، و توفّي السيد عام 173هـ وعلى قول178هـ، فكيف يصحّ ما ذكره ؟!

ويقرب من ذلك ما ذكره الكشي بسنده عن محمد بن النعمان، قال: دخلت على السيد بن محمد، وهو لما به قد اسود وجهه وازرقت عيناه وعطش كبده وسلب الكلام، وهو يومئذ يقول بمحمد بن الحنفية، وهو من حشمه، وكان ممّن يشرب المسكر فجئت، وكان قد قدم أبو عبد اللّه ـ عليه السَّلام ـ الكوفة، لأنّه كان انصرف من عند أبي جعفر المنصور، فدخلت على أبي عبد اللّه، فقلت: جعلت فداك انّي فارقت السيد بن محمد الحميري، وهو لما به قد اسودّ وجهه وازرقت عيناه وعطش كبده وسلب الكلام فانّه كان يشرب المسكر.

فقال أبو عبد اللّه ـ عليه السَّلام ـ : اسرجوا حماري، فاسرج له فركب ومضى، ومضيت معه، حتى دخلنا على السيد وانّ جماعة محدقون به، فجلس أبو عبد اللّه ـ عليه السَّلام ـ عند رأسه، وقال: يا سيد، ففتح عينه ينظر إلى أبي عبد اللّه ـ عليه السَّلام ـ ولا يمكنه الكلام وقد اسودّ وجهه، فجعل يبكي وعينه إلى أبي عبد اللّه، ولا يمكنه الكلام، وانا لنتبين فيه انّه يريد الكلام ولا يمكنه ، فرأينا أبا عبد اللّه ـ عليه السَّلام ـ حرك شفتيه فنطق السيد،

ــــــــــــــــــــــــــــ
1- الأغاني: 7/277.


( 35 )
فقال: جعلني اللّه فداك، أبأوليائك يفعل هذا؟

فقال أبو عبد اللّه ـ عليه السَّلام ـ : يا سيد قل بالحقّ يكشف اللّه ما بك ويرحمك ويدخلك جنته التي وعد أولياءه، فقال في ذلك:

تجعفرت باسم اللّه و اللّه أكبر * وأيقـنت انّ اللّه يعفـو ويغفـر

فلم يبرح أبو عبد اللّه ـ عليه السَّلام ـ حتى قعد السيد على أسته.(1)

إنّ المتبادر من الخبر انّ السيد كان في حالة الاحتضار، وانّه اعتنق المذهب الإمامي في ذلك الوقت، مع أنّك عرفت انّ السيد قد توفّي بعد وفاة الإمام الصادق بسنوات طويلة.

وليس من البعيد أن يُتّهم السيد بشرب النبيذ للحط من مكانته، و من كان محبّاً للوصي ـ عليه السَّلام ـ ومتفانياً في حبه، كيف يخالفه، وانّه ليعلم أنّ شرب النبيذ أبشع منكر عنده.

ويظهر من الحجاج الذي دار بينه و بين شاعر أهل البيت الكميت الأسدي، انّ السيد كان عارفاً بالكتاب والسنّة وإقامة الحجج الدامغة وإفحام الخصم، فمن تنوّر قلبه بالكتاب والسنّة، كيف يشرب النبيذ أواخر عمره، ونكتفي هنا بسرد هذه الواقعة التاريخية التي تكشف بوضوح عن تضلّعه في العلم والفقه والتاريخ.

قال المرزباني: قيل إنّ السيد حجّ في أيّام هشام، فلقي الكميت فسلّم عليه، وقال: أنت القائل:

ــــــــــــــــــــــــــــ
1- رجال الكشي:244ـ 245،ط النجف الأشرف.


( 36 )
ولا أقول إذا لم يعطيــا فدكــا * بنت الرسول ولا ميـراثه كفــــرا

اللّه يعلـم ماذا تـأتيـــان بـــه * يوم القيامة من عذر إذاح ضرا

قال: نعم، قلته تقية من بني أُميّة، وفي مضمون قولي شهادة عليهما إنّهما أخذا ما كان في يدها.

فقال السيد: لولا إقامة الحجّة لوسعني السكوت لقد ضعفت يا هذا عن الحق، يقول رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ : فاطمة بضعة منّي يريبني مارابها، وانّ اللّه يغضب لغضبها ويرضى لرضاها، فخالفت رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ وهب لها فدكاً بأمر اللّه له، وشهد لها أمير المؤمنين والحسن والحسين وأُمّ أيمن بأنّ رسول اللّه أقطع فاطمة فدكاً فلم يحكما لها بذلك، واللّه تعالى يقول: (يَرِثُني وَيَرثُ مِنْ آل يَعْقُوب) (1) ويقول: (وَوَرِثَ سُليمان داود)(2). وهم يجعلون سبب مصير الخلافة إليهم، الصلاة وشهادة المرأة لأبيها انّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ قال: مروا فلاناً بالصلاة بالناس، فصدقت المرأة لأبيها، ولم تصدق فاطمة والحسن والحسين وأُم أيمن في مثل فدك، وتطالب مثل فاطمة بالبيّنة على ما ادّعت لأبيها.

وتقول أنت مثل هذا القول و بعد فما تقول في رجل حلف بالطلاق انّ الذي طلبت فاطمة ـ عليها السَّلام ـ هو حق وإنّ عليّاً والحسن والحسين وأُمّ أيمن ما شهدوا إلاّ بحق ما تقول في طلاقه؟ قال: ما عليه طلاق.

قال: فإن حلف بالطلاق إنّهم قالوا غير الحقّ؟

قال: يقع الطلاق، لأنّهم لا يقولون إلاّالحقّ، قال: فانظر في أمرك، فقال

ــــــــــــــــــــــــــــ
1- النساء: 19.
2- النمل: 27.


( 37 )
الكميت: أنا تائب إلى اللّه مما قلت، وأنت أبا هاشم أعلم وأفقه منّا.

ومن ت(1)تبع شعره الطافح بالكتاب والسنّة ، وثباته على المبدأ وتحمل المصائب والمشاق في سبيل عقيدته، لوقف على سخافة ما اتّهم به من شرب الخمر والنبيذ.

وأين الصامد في سبيل الحق من المخمور الذي لا يبالي بما يدور حوله؟!

هذه نبذة مختصرة من سيرة السيد الحميري و أخباره وشعره، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى المصادر التي تعرضت لبيان اخبار السيد وأخص بالذكر منها :

أ: الأغاني(2) لأبي الفرج الاصبهاني المتوفّى عام 356هـ.

ب: أخبار السيد الحميري، تأليف أبي عبد اللّه محمد بن عمران المرزباني الخراساني المتوفّى عام 384هـ، تحقيق الدكتور الشيخ محمد هادي الأميني.

مضافاً إلى ما في المعاجم والتراجم حول السيد، كأعيان الشيعة للسيد الأمين، والغدير للشيخ الأميني، وقد بلغوا الغاية، شكر اللّه مساعيهم.

ثمّ إنّ هناك من جمع أخبار السيد في كتب خاصة من أصحابنا وغيرهم.

فقد ذكر النجاشي من جمع أخبار السيد، وقال:

أحمد بن عبد الواحد بن أحمد البزاز أبو عبد اللّه شيخنا المعروف بابن عبدون، له كتب منها اخبار السيد بن محمد.(3)

وقال: إسحاق بن محمد بن أحمد بن أبان له كتاب أخبار السيد، وكتاب

ــــــــــــــــــــــــــــ
1- الأغاني: 7/229ـ 278 و 4/2 و 6/206و 8/276 و18/254.
2- أخبار شعراء الشيعة: 178ـ 179.
3- رجال النجاشي برقم 209.


( 38 )
مجالس هشام.(1)

وقال: عبد العزيز بن يحيى بن أحمد بن عيسى الجلودي، شيخ البصرة واخباريّها، ثمّ ذكر تآليفه الكثيرة، منها: اخبار السيد بن محمد.(2)

وقد عقد الدكتور الشيخ هادي الأميني محقق كتاب اخبار السيد للمرزباني عنواناً لمن ألف في أخباره وذكر منهم:

1. أحمد بن محمد بن عبيد اللّه بن الحسن بن عباس بن إبراهيم بن أيّوب الجوهري (المتوفّى عام 401هـ).

2. أحمد بن إبراهيم بن المعلّى بن العمي ينسب إلى العم، وهو مرة بن مالك ابن حنظلة بن زيد مناة بني تميم.(3)

3. صالح بن محمد الصرابي شيخ أبي الحسن الجندي.(4)

4. كاظم بن الشيخ باقر بن حسين مظفر له أخبار وشعر السيد.(5)

قصيدته العينيّة

لقد نالت قصيدتان من قصائد السيد أقبالاً واسعاً من قبل الأُدباء والشعراء، و أكبّ غير واحد من المحقّقين على شرحهما وهما:

1. القصيدة المذهَّبة التي مستهلها:

ــــــــــــــــــــــــــــ
1- رجال النجاشي برقم 175.
2- رجال النجاشي برقم 638.
3- رجال الطوسي برقم 30; رجال النجاشي برقم 70.
4- رجال النجاشي برقم 141.
5- معجم رجال الفكر و الأدب:419.


( 39 )
هلا وقعت على المكان المُعْشب * بين الطويلع فاللوى من كُبكُب

وتناهز القصيدة 112بيتاً، شرحها السيد الشريف المرتضى (المتوفّى عام 436) وطبع في مصر عام 313هـ، كما شرحها الحافظ النسابة المعروف بتاج العلى الحسيني (المتوفّى عام 610هـ).

2. القصيدة العينية التي مستهلّها:

لأُمّ عمر باللوى مربع * طامسة أعلامه بلقع

التي تناهز 54 بيتاً شرحها غير واحد من المحقّقين والأُدباء، كما اعتنى بها أئمّة أهل البيت ـ عليهم السَّلام ـ بالسماع، و دعوة الآخرين الى سماعها وحفظها كما سيوافيك، وقد شرحها أعلام الطائفة، وقد ناهزت شروح القصيدة 15 شرحاً. وقد وقفنا على بعضها وذكر قسماً منها شيخنا المجيز الطهراني، وبعضاً منها شيخنا المحقّق الأميني وإليك أسماؤهم:

1. الشيخ حسين بن جمال الدين الخوانساري(المتوفّى عام 1099هـ).

2. ميرزا علي خان الكلبايكاني تلميذ العلاّمة المجلسي.

3. المولى محمد قاسم الهزار جريبي(المتوفّى عام 1112هـ) وقد صنّف فيها التحفة الأحمدية.

4. بهاء الدين محمد بن تاج الدين الحسن الاصبهاني الشهير بالفاضل الهندي(1062 ـ 1135هـ) و هذا هو الذي يزفّه الطبع إلى القرّاء الكرام، وسنقوم بترجمة الشارح عن قريب.

5. الحاج المولى محمّد حسين القزويني المتوفّى في القرن الثاني عشر.

6. الحاج المولى صالح بن محمّد البرغاني.


( 40 )
7. الحاج ميرزا محمد رضا القراجة داغي التبريزي، فرغ منه سنة 1289هـ وطبع في تبريز سنة 1301هـ.

8. السيّد محمّد عبّاس بن السيِّد علي أكبر الموسوي (المتوفّى 1306هـ)، أحد شعراء الغدير في القرن الرابع عشر.

9. الحاج المولى حسن بن الحاج محمّد إبراهيم بن الحاج محتشم الأردكاني (المتوفّى عام1315هـ).

10. الشيخ بخشعلي اليزدي الحائري (المتوفّى 1320هـ).

11. ميرزا فضل علي بن المولى عبد الكريم الإرواني التبريزي (المتوفّى سنة 1337هـ) مؤلِّف «حدائق العارفين».

12. الشيخ علي بن علي رضا الخوئي (المتوفّى 1350هـ).

13. السيد أنور حسين الهندي (المتوفّى 1350هـ).

14. السيّد علي أكبر بن السيِّد رضي الرضوي القمي .

15. الحاج المولى علي التبريزي مؤلِّف (وقائع الأيّام) المطبوع.(1)

قد كان لقصيدته العينية التي نحن بصدد التقديم لها دويّ واسع في المجتمع الإسلامي، وهذا هو الإمام الصادق ـ عليه السَّلام ـ يُشيد بهذه القصيدة ويضرب ستراً لتسمعها النساء.

روى في الأغاني عن فُضيل الرسان، قال: دخلت على جعفر بن محمد أُعزيه عن عمّه زيد، ثمّ قلت له: ألا أنشدك شعر السيد؟ فقال: أنشد، فأنشدته قصيدة يقول فيها:

ــــــــــــــــــــــــــــ
1- الغدير:2/224.


( 41 )
فالناس يوم البعث رايتهم * خمس فمنها هالك أربع

قائدها العجل وفرعونهم * وسامري الامّة المفظع

ومارق من دينه مخرج * أسود عبدٌ لكعٌ أوكع

و راية قائدها وجهه * كأنّه الشمس إذا تطلع

فسمعت مجيباً من وراء الستور، فقال: من قائل هذا الشعر؟ فقلت: السيّد! فقال: رحمه اللّه.(1)

روى المرزباني، قال: حدثني فضيل بن عمر الحبال، قال: دخلت على أبي عبد اللّه ـ عليه السَّلام ـ بعد قتل زيد ـ عليه السَّلام ـ فجعل يبكي، ويقول: رحم اللّه زيداً انّه العالم الصدوق، ولو ملك أمراً لعرف أين يضعه.

فقلت: أنشدك شعر السيد؟ فقال: امهل قليلاً، وأمر بستور، فسدلت، وفتحت أبواب غير الأُولى، ثمّ قال: هات ما عندك فأنشدته:

لأُمّ عمرو باللوى مربع * دارسة أعلامه بلقـع(2)

ــــــــــــــــــــــــــــ
1- الأغاني:7/252، وما في ذيله من العبارة المشعرة بوفاة السيد حين إنشاء الشعر فموضوعة ،لأنّ السيد توفي بعد وفاة الإمام الصادق ـ عليه السَّلام ـ .
2- أخبار شعراء الشيعة:159.


( 42 )
وظاهر هذين النصين انّ المجلس انعقد بعد وفاة زيد الشهيد بقليل. لأنّ فُضيل الرسان دخل على جعفر بن محمد الصادق ليعزِّيه عن عمه، وقد استشهد زيد في صفر عام 122هـ أو 123هـ وعلى ذلك، فقد انشأ السيد القصيدة في هذه السنة أو قريبة منها و بما انّه ولد عام 105هـ فقد كان في ريعان شبابه حين قتل زيد وانشأ القصيدة في تلك الأيّام .

ولا غرو في ذلك، وقد نقل المرزباني عن العباسة بنت السيد، انّها قالت: قال لي أبي: كنت وأنا صبي أسمع أبويَّ يثلبان أمير المؤمنينعليه السَّلام فأخرج عنهما وأبقى جائعاً، واوثر ذلك على الرجوع إليهما، فأبيت في المساجد جائعاً لحبّي فراقهما وبغضي إيّاهما حتى إذا أجهدني الجوع رجعت فأكلت ثمّ خرجت، فلمّا كبرت قليلاً وعقلت وبدأت أقول الشعر....(1)

ونقل المرزباني عن أبي إسماعيل إبراهيم بن أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن حسن بن طباطبا، قال: سمعت زيد بن موسى بن جعفر، يقول: رأيت رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ في النوم و قدّامه رجل جالس عليه ثياب بيض، فنظرت إليه فلم أعرفه، إذ التفت رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ ، فقال له: يا سيد، أنشدني قولك:«لأُمِّ عمرو في اللِّوى مَرْبَعُ».

فأنشده إيّاها كلّها ما غادر منها بيتاً واحداً، فحفظتها عنه كلّها في النوم. قال أبو إسماعيل: وكان زيد بن موسى لحّاناً رديّ الانشاد، فكان إذا أنشد هذه القصيدة لم يتعتع فيها ولم يلحن.(2)

وقد نقل العلاّمة المجلسي مناماً عن علي بن موسى الرضا، نقله عنه سهل

ــــــــــــــــــــــــــــ
1- أخبار شعراء الشيعة:154.
2- المصدر نفسه:161ـ162، وقريب منه ما نقله الشريف الرضي في حقائق الأئمّة.


( 43 )
ابن ظبيان يتعلق بهذه القصيدة وقائلها.(1)

إلى هنا تم ما كنّا نرمي إليه من ترجمة سيد الشعراء السيد إسماعيل الحميري، و ما يرجع إلى قصيدته العينيّة.

ولا يفوتنا أن نعرج على سيرة شارح هذه القصيدة، أعني: الشيخ بهاءالدين محمد بن الحسن الاصفهاني المعروف بـ«الفاضل الهندي»(1062ـ 1137هـ) .

بما انّه طال بنا الكلام في المقام نذكر شيئاً مختصراً عن حياته ونحيل التفصيل إلى كتب السير والمعاجم لا سيما الترجمة الوافية التي قدمت له في مستهل كتابه «كشف اللثام عن قواعد الأحكام».

ترجمة الشارح

قد قام بشرح القصيدة العينية نابغة عصره وفريد دهره أبو الفضل بهاء الدين محمد بن الحسن الاصفهاني المشهور بالفاضل الهندي(1062ـ 1137هـ) مؤلف الموسوعة الفقهية الضخمة المسماة بـ«كشف اللثام عن قواعد الأحكام» إلى غير ذلك من الآثار العلمية.

يحدّثنا التاريخ انّ لفيفاً من نوابغ المجتهدين، قد نالوا درجة الاجتهاد وهم بعدُ في سن مبكر لم يبلغوا الحلم.

منهم على سبيل المثال: العلاّمة الحلّي.

قال سيدنا الأمين في أعيان الشيعة: برع في المعقول والمنقول وتقدم وهو في عصر الصبا على العلماء الفحول.(2)

ــــــــــــــــــــــــــــ
1- بحار الأنوار:47/328ـ 332.
2- أعيان الشيعة:24/279.


( 44 )
ومنهم نجله محمد بن الحسن المعروف بفخر المحقّقين(683ـ 772) وذلك لأنّ والده ألّف كتاب القواعد باستدعاء ولده فخر المحقّقين.

وقال العلاّمة في خطبة القواعد: فهذا كتاب «قواعد الأحكام في معرفة الحلال والحرام» لخصت فيه لبّ الفتاوى خاصة، وبينت فيه قواعد أحكام الخاصة، إجابة لالتماس أحبّ الناس إليّ وأعزّهم عليّ، وهو الولد العزيز محمد الذي أرجو من اللّه طول عمره بعدي.(1)

وذكر ذلك أيضاً نفس فخر المحقّقين في شرحه لهذا الكتاب، قال في شرح خطبة القواعد:

إنّي لما اشتغلت على والدي قدّس اللّه سرّه في المعقول والمنقول وقرأت عليه كثيراً من كتب أصحابنا، فالتمست منه أن يعمل لي كتاباً في الفقه جامعاً لقواعده حاوياً لفرائده، مشتملاً على غوامضه ودقائقه، جامعاً لأسراره وحقائقه، يبني مسائله على علم الأُصولين وعلى علم البرهان.(2)

هذا من جانب،ومن جانب آخر فانّ العلاّمة يصرّح في خاتمة كتاب القواعد انّه فرغ منه بعد ان بلغ من العمر الخمسين ودخل في عشرة الستين.

وبما انّ العلاّمة من مواليد عام 648 هـ فقد فرغ عنه عام 698هـ فيكون عمر ولده فخر المحقّقين عند إتمام الكتاب 15 سنة أو 16 سنة ، فلو استغرق تأليف هذا الكتاب سنتين فقد ألفه لولده وهو ابن 14 سنة.

ويؤيد ذلك انّ العلاّمة فهرس أسماء كتبه في «خلاصة الأقوال في معرفة

ــــــــــــــــــــــــــــ
1- قواعد الأحكام:2، الطبعة الحجرية.
2- إيضاح الفوائد: 1/9.


( 45 )
الرجال»، وذكر منها «قواعد الاحكام في معرفة الحلال والحرام»، وقد ألّف الخلاصة عام 693(1)، فلولده فخر المحقّقين من العمر يومذاك 11 سنة.

ومنهم شيخنا المترجم شارح القصيدة فانّه بعد ما ذكر قصة تأليف العلاّمة كتابه القواعد لولده، قال: وقد يستبعد ذلك، ثمّ شرع في رفع الاستبعاد، وقال: وقد فرغت من تحصيل العلوم معقولها ومنقولها ولم أكمل ثلاث عشرة سنة، وشرعت في التصنيف ولم أكمل احدى عشرة، وصنفت « منية الحريص على فهم شرح التلخيص» ولم أكمل تسع عشرة سنة. وقد كنت عملت قبله من كتبي ما ينيف على عشرة من متون وشروح وحواشي، كـ«التلخيص في البلاغة» وتوابعها،و«الزبدة في أُصول الدين»، و«الخود البريعة في أُصول الشريعة» وشروحها و«الكاشف»، وحواشي شرح عقائد النسفية، وكنت ألقي من الدروس وأنا ابن عشر سنين شرحي التلخيص للتفتازاني مختصره ومطوله.(2)

هذا ولكن الذي يدل على نبوغ مؤلفنا الشارح هي الآثار العلمية التي تركها للأجيال الآتية، فانّ كتابه «كشف اللثام» آية نبوغه في الفقه وبراعته في الاستنباط.

ويكفي في قيمة هذا الكتاب ما نقله المحدّث القمي، عن أُستاذه المحدث النوري، عن شيخه الشيخ عبد الحسين انّ صاحب الجواهر كان يعتمد على كتاب «كشف اللثام» على نحو لا يكتب شيئاًمن موسوعته إلاّ بعد الرجوع إلى ذلك الكتاب.

ومن لاحظ كتاب الجواهر أيقن انّه اعتمد على كشف اللثام في موارد

ــــــــــــــــــــــــــــ
1- خلاصة الأقوال: برقم 274.
2- كشف اللثام: المقدمة:1/112.


( 46 )
كثيرة، كما اعتمد هو على موسوعات أُخرى أبرزها كتاب «الرياض» للسيد علي الطباطبائي، و «مجمع الفائدة» للأردبيلي و «المسالك» للشهيد الثاني، وفي الحقيقة كتاب الجواهر يشكل عصارة هذه الموسوعات مضافاً إلى تحقيقاته الرشيقة.

وقد برز نبوغ الفاضل الهندي وراح يشق طريقه وسط أجواء سادتها الحركة الاخبارية وهيمنت على معظم الأفكار، وكان هو أحد القلائل الذين ظلّوا أو فياء للحركة الفقهية الموروثة من المحقّقين الكبار نظير: المحقّق الكركي(المتوفّى عام 940هـ)، و زين الدين الشهيد الثاني(المتوفّى عام 965هـ)، والمحقّق الأردبيلي(المتوفّى عام 993هـ)، وصاحب المدارك السيد محمد بن علي الموسوي (المتوفى عام 1009هـ)، ونجل الشهيد الثاني الشيخ حسن بن زين الدين (المتوفى عام 1111هـ)، والمحقّق السبزواري صاحب كفاية الأحكام (المتوفى عام 1090هـ)، الآقا حسين الخوانساري (المتوفى عام 1098هـ)، و المحقّق الشيرواني (المتوفى عام 1099هـ) إلى أن وصلت النوبة إلى الشارح تاج المحقّقين والفقهاء فخر المدققين والعلماء الفاضل الهندي، وبكتابه هذا حفظ التراث الفقهي الاجتهادي.

المرء بأفكاره وآرائه

إنّ الآثار الجلائل التي تركها شيخنا المؤلف تعرب عن تضلعه في أكثر العلوم الإسلامية، لا سيما في الفقه والأُصول والأدب العربي، وقد امتاز بالتنوع في الموضوع، وقد برز من قلمه ما يناهز 80 كتاباً.(1)

ولو أضيف إليه ما ألّفه من رسائل وكتيبات ربما ناهز المائة والخمسين بين

ــــــــــــــــــــــــــــ
1- الفوائد الرضوية:487.


( 47 )
كتاب ورسالة، وقد استقصى صديقنا الجليل الشيخ عبد الرسول جعفريان أسماء تآليفه في تقديمه لكتاب كشف اللثام فوقف منها على42 كتاباً.(1)

وقد لعب الزمان بآثاره كما لعب بآثار الآخرين. فاللازم تركيز البحث على كتابه الذي نحن بصدد التقديم له وهو: «اللآلئ العبقرية في شرح العينية الحميرية» وقبل أن ننوه بهذا الشرح ومميزاته أود أن أُشير إلى بعض الكلمات التي قيلت في حقّه من قبل العلماء:

1. يقول المحقق الشيخ أسد اللّه التستري (المتوفّى عام 1237هـ):

ومنهم الاصفهاني المحقّق المدقق، النحرير الفقيه، الحكيم المتكلم، المولى بهاء الدين محمد بن الحسن الاصفهاني الشهير بالفاضل الهندي... وكان مولده سنة 62 بعد الألف ونشؤه في بدو حاله وصغره في بلاد الهند ولذا نسب إليها وجرت له فيها مع المخالفين مناظرة في الإمامة معروفة على الألسنة.

وصنف من أوائل دخوله في العشر الثاني كتباً ورسائل وتعليقات في العلوم الأدبية والأُصول الدينيةوالفقهية أيضاً.

منها ملخص التلخيص وشرحه، كلاهما في مجلد صغير جداً، وهو موجود عندي، ولعلّه أوّل مصنّفاته، وفرغ من المعقول و المنقول ولم يكمل ثلاث عشرة سنة كما صرح نفسه به، وهو صاحب المناهج السوية في شرح الروضة البهية، رأيت جملة من مجلداتها في العبادات وهي مبسوطة ومشحونة بالفوائد والتحقيقات وتاريخ ختام كتاب الصلاة منها سنة الثماني وثمانين بعد الألف، فيكون عمره خمساً وعشرين سنة.

ــــــــــــــــــــــــــــ
1- كشف اللثام، قسم التقديم:46ـ 65.


( 48 )
وله أيضاً كشف اللثام عن قواعد الأحكام شرع فيه أوّلاً من النكاح وأنهاه إلى الختام وسلك فيه النمط الأوسط الذي هو أقرب إلى الاختصار، ثمّ بدأ من الأوّل مع استيفاء للمهم من الأدلّة والأقوال ولا سيما أقوال القدماء الأبرار، ولم يبرز منه قيماً وجدنا ونقل إلاّ الطهارة والحج وكذا الصلاة إلاّ انّها ناقصة.

وله ملخص الشفاء لابن سينا.(1)

2. يقول الخوانساري: إنّ المستفاد من بعض خطوطه التي ألقيناها بالعيان كونه في سنة سبع وسبعين بعد الألف في عداد فضلائنا الأعيان، والمشار إليهم بين الطائفة وغيرها بالبنان.(2)

3. يقول السيد جلال الدين الاشتياني: إنّي عثرت على عبارة في الماضي منقولة عن شخص كان يعيش في أواخر الدولة الصفوية كتب: فيها: إنّي رأيت في المدرسة صبياً مراهقاً، ماهراً في الأبحاث العلمية، وحائزاً لمرتبة عالية في العلوم العصرية، وآثار النبوغ تلوح من ناصيته بوضوح، فسألت عن نسبه، فقالوا: هو ابن الملا تاج الدين، اسمه محمد بهاء الدين.(3)

وقبل أن أذكر انطباعي عن هذا الكتاب، أود أن أشير إلى ما كتبه صاحب الروضات تعليقاً على ذلك الكتاب، قال: إنّ هذا الكتاب أقوى دليل على كون الرجل قد وجد من كلّ فن من فنون العربية كنزه.(4)

فرغ منها سنة 1089هـ.

ــــــــــــــــــــــــــــ
1- مقابس الأنوار:18، الطبعة الحجرية.
2- روضات الجنات:7/116.
3- منتخبات آثار الحكماء:3/544 في الهامش.
4- روضات الجنات:7/112 ، برقم 608.


( 49 )

ملامح الكتاب و مميّزاته

من ألقى نظرة على ذلك الكتاب، ولو نظرة عابرة يذعن بأنّ الشارح كاتب قدير له إحاطة تامة بمفردات اللغة العربية، وقواعدها، ومعانيها، ويكفيك في ذلك قراءة خطبة الكتاب، فانّ النص الموجود فيه وإن كان على نظام السجع الرائج في القرن الثاني عشر، لكنّه يستخدم غريب الألفاظ بشكل يعرب عن إلمامه باللغة العربية بشكل واسع.

هذا هو أوّل ما يظهر للإنسان من قراءة صفحات من الكتاب، وأمّا إذا قرأه بدقة و إمعان حينها تنكشف له مميزات الكتاب وملامحه التي تتلخص في النقاط التالية:

1. بيان معاني المفردات

لما كانت القصيدة الحميرية لشاعر عربي صميم وقد أخذ بناصية اللغة العربية، فأودع فيها الاصطلاحات الرائجة في البادية، راح الشارح إلى بيان مفردات البيت ومعانيها اللغوية، وما يشتق منها من الأسماء والأفعال وفي كلّ ذلك يشبع الموضوع على وجه لا يترك شاردة ولا واردة إلاّ ويخوض فيها.

ثمّ يشرع ببيان إعرابالكلمات الواردة في البيت، فيذكر جميع الوجوه المحتملة مشيراً إلى آراء أكابر العلماء، ثمّ يذكر رأيه بعد ذلك مع ذكر الدليل الذي دعاه إلى تبنّي هذا الرأي أو ذاك.

والنكتة الجديرة بالذكر انّه ربما يوافق رأي القائل الذي لا يتفق معه في العقيدة، ويرفض قول الآخر وإن كانت ينسجم معه في المبدأ.


( 50 )
ثمّ بعد أن ينهي اعراب البيت يأخذ ببيان النكات الأدبية والبلاغية في القصيدة تحت عنوان (مسائل) أو البيان ويتمتع كلّ ذلك بدقة الملاحظة وجودة التفكير.

2. استعراض التفاسير المطروحة وتقييمها

ومن المميزات البارزة أيضاً في هذا الشرح أنّ القارئ يلتقي فيه مع ذهن وقاد وعقلية كبيرة، قادرة على التحليق في سماء المعاني وذكر الفروض المحتملة التي يمكن أن تكون مرادة للشاعر، مما يضفي على الشرح جمالية أكبر وقعة للقارئ، فعلى سبيل المثال: نرى انّه يتطرق إلى سبب تسمية القصيدة بالعينية يذكر لها احتمالات ستة، ويذكر لكلّ وجهه العلمي والأدبي، وبالتالي يعلم انّ المؤلف ليس ناقلاً للآراء ومدوِّناً لها، بل نراه ناقلاً ومحقّقاً للآراء المطروحة فلا يختار إلاّ عن حجة ولا يرفض إلاّ كذلك.

3. الأمانة في النقل

ومن المميزات البارزة هي الأمانة في النقل، وهذه ميزة شاخصة عند المؤلف حيث حاول الإشارة إلى جميع المصادر التي اعتمدها، ويستنبط منها خاصية أُخرى وهي رجوعه إلى مصادر كثيرة و ما يرافقه من جهود كبيرة ومضنية.

4. محاولة ربط القصيدة بالواقع الموضوعي

ومن ميزات هذا الشرح هو محاولة الشارح الربط بين القصيدة و الواقع الموضوعي السياسي والاجتماعي الذي عاشه أمير المؤمنين ـ عليه السَّلام ـ مما يُضفي على


( 51 )
القصيدة صفة كونها وثيقة تاريخية واجتماعية تحكي عن تلك الفترة التي عاشها الإمام ـ عليه السَّلام ـ وعن طبيعة المجتمع الذي كان يحيط به عليه السلام.

5. دعم موقفه بآيات الذكر الحكيم

ومن المميزات الأُخرى هي قدرة المؤلف على دعم آرائه بآيات الذكر الحكيم، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدل على تبحر الشارح في فهم القرآن الكريم، ولذلك تراه في أكثر البحوث التي يوردها يستنجد بالقرآن الكريم لدعم حجته وتأييد رأيه .

إلى غير ذلك من المميزات التي يقف عليها القارئ حين مطالعته.

نسخ الكتاب

توجد نسخ خطية من هذا الكتاب في المكتبات:

1. نسخة مكتبة الجامعة برقم 1870(1)، وكتب صاحب الروضات عليها تعليقته التي نقلناه من كتابه.

2.نسخة مؤلفة من 224(2) ورقة في مكتبة السيد المرعشي تحت رقم 479، وعلى ظهر النسخة تملكات لأشخاص مختلفين سقط من آخرها سبع ورقات.

3.نسخة في مكتبة السيد المرعشي تحت رقم 1814 في 232 ورقة كتبها ابن علي محمد علي وفرغ من استنساخها عام 1233.

وقد اتخذ محقّق الكتاب هاتين النسختين الأخيرتين أصلاً، وراجع في

ــــــــــــــــــــــــــــ
1- الذريعة:18/259 رقم 17.
2- وقد كتب في فهرس النسخة انّها ذات 211 ورقة ولكنّه خطأوقد سقط من آخرها سبع ورقات.


( 52 )
استخراج ما نقل فيه إلى المصادر ، وتحمل في ذلك جهداً كبيراً وذلك لأنّ الشارح عكف على جمع النسخ من هنا و هناك، وبذلك صار ذا مكتبة عظيمة نوّه بها صاحب رياض العلماء في مواضع كثيرة من كتابه.

نحمده سبحانه على إنجاز هذا المشروع ونشره في الأوساط الإسلامية.

 

وآخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين

 

جعفر السبحاني

قم ـ مؤسسة الإمام الصادق ـ عليه السَّلام ـ

شوال المكرم من شهور عام 1420

 

 


( 53 )

بسم الله الرحمن الرحيم

 

أمّا على قافية قفو (1) الأقاويل، وقفية (2) مقالة قالة الأراجيل (3)، مفتتح ناسخ الأناجيل، و مختتم (4) الدعوة في الظلّ الظليل.

أعني: حمد جليل ليس كمثله جليل، باعث الرسل الهداة من الأضاليل، ناصب الخلفاء مُحاة الأباطيل، متمّم حججه على كلّ عزيز وذليل، موضح سواطع براهينه لجملة أُولي الأبصار من حديد وكليل.

وإهداء أشرف التحايا وأتحف الهدايا وهي ما لا يناله بدهمة(5) ولا تأميل، من أفاضل الصلوات الكُمّل الباقية ببقاء الأهاليل(6)، إلى أشرف أرباب

ــــــــــــــــــــــــــــ
1- قفا أثره: يقفو قَفْواً وقُفُوّاً: تبعه. لسان العرب: «قفا».
2- القفيّة: المختار، واقتفاه، إذا اختاره. لسان العرب: «قفا».
3- الرجيل من الكلام، والجمع أرجلة وأراجل وأراجيل: المرتجل، يقال ارتجل الكلام: تكلم به من غير أن يهيئه.
4- المفتتح والمختتم: هو القرآن الكريم.
5- دَهَمَ ، دَهِمَ الأمرُ: غشيه.
6- أهاليل(نادرة)، وأهلّة، جمع هلال: غُرَّة الشهر.


( 54 )
الدِّلِّيلي(1) من كلّ نبيّ، شافي للعليل، نافي لكلّ داء عتيل(2)، منجي من كلّ درجيل، وأفضل ثُبات الرسل أصحاب الأكاليل من كلّ ربِّ تنويل وتفضيل، وصاحب تحريم وتحليل، ودافع تلبيس وتضليل: محمد شافع الأُمم بلا تعلُّل ولا تهليل، صاحب رايات الحمد والتكبير والتسبيح والتهليل.

وإلى آله المخدومين لجبرائيل وميكائيل، العالمين بكافّة الموازين والمكائيل، المحتوم طاعتهم على الأُمم قاطبة بلا ترخيص ولا تسهيل، المفروض ولايتهم على كلّ الخلائق من الثقلين والملائكة ومَن عداهم بلا قيل، لهاميم(3) هداة السبيل، يآفيخ(4) نُفاة كلّ خُزَعبِيل(5)، عرانين سادة كلّ جيل، صناديد قادة كلّ قبيل من دبير وقبيل.

ولا سيّما يعلول(6) اليعاليل، وبهلول(7) البهاليل، قائد الغرّ أُولي التحجيل، ساقي الكوثر والسلسبيل والزنجيل، صاحب راية الحمد بالتحقيق لا التجبيل، المجاهد في سبيل اللّه على التنزيل والتأويل، نفس رسول اللّه بنصّ آية البهلة من التنزيل، المنصوص على خلافته في مواطن لا تحصى على غاية من التفصيل، صلّى اللّه عليه وعلى البتول والعثاكيل(8)، وإتحاف ظلمتهم

ــــــــــــــــــــــــــــ
1- الذي يدلّك.
2- شديد
3- اللُّهموم والجمع لهاميم: الجواد من الناس أو الخيل.
4- يآفيخ و يوافيخ، جمع يافوخ: ملتقى عظم مقدّم الرأس ومؤخره
5- الأباطيل.
6- الغدير الأبيض المطّرد، والقطعة البيضاء من السحاب.
7- السيّد الجامع لكلّ خير.
8- العُثكُول والعِثكال، والجمع عَثاكيل: الشِّمراخ، وهو في النخل بمنزلة العنقود في الكرم.


( 55 )
الملاعين الأحقاء بألوان التلعين، دقّ اللّه منهم اللّغانين(1)، وأخذ منهم باليمين، ثمّ قطع منهم الوتين، من ضروب اللعن بما يملأ الموازين، ويسوّد صفحات المناجين، ويدوم بدوام الأحايين، ويفوق على عنانيات الأظانين، ويُعفّر خدود شيعتهم ويُرغم منهم العرانين، خصوصاً اللعنة العجين(2) والفظّ البظّ (3) الّلظّّ (4) اللغمظّ الثخين، والثقال العتلّ الطّمليل(5) الأفين(6)، نوّله اللّه من اللعن ما يملأ السماوات والأرضين.

فيقول(7) قنّ الأئمّة الأخيار الأبرار الأطهار، اللائذ بهم من سطوات الملك الجبار (محمد بن الحسن بهاء الدين الأصفهاني) أذاقه اللّه حلاوة المعاني، وعرّفه حقائق المثاني، ورزقه القطوف الدّواني، وزوّجه في الجنّة الحور الغواني:

قد انثالت عليَّ لُمّة من إخواني، وثبة من كمَّل أخداني، ممّن أرى إسعافهم من فروض العين، ولا أرى لبنات شفاههم مأنّة(8) سوى العين، ملحّين بقثاثتهم(9) عليّ، واضعين جعالتهم لنفاثتهم بين يديَّ، مقترحين أن أشرح لهم

ــــــــــــــــــــــــــــ
1- اللُّغْنُون: لغة في اللغدود، والجمع لغانين: لحم بين النكْفَتين واللسان من باطن.
2- عَجَن الرجل، إذا نهض معتمداً بيديه على الأرض من الكِبَر.
3- الفظّ: الغليظ، والبظّ: اتباع للفَظّ.
4- العسر المتشدّد.
5- الطِّمْل من الرجال: الفاحش البذيء، والطِّمل والطّمليل: اللصّ، وقيل: اللصّ الفاسق.
6- ناقص العقل.
7- جوا ب(أمّا) التي صدّر بها كلامه.
8- كذا في النسخة، و لعلها ممأنة: المخلقة والمجدرة، يقال (هو ممأنة لكذا) اي انه جدير و خليق بكذا.
9- القثُّ: جمعك الشيء بكثرة، والقُثاث: المتاع ونحوه; وجاءُوا بقُثاثِهم وقثاثتهم، أي لم يَدَعُوا وراءهم شيئاً.(لسان العرب «قثّ)».


( 56 )
القصيدة العينيّة الّتي لأمضغ العرب; للشيخ والقيصوم سيّد الشِّعر والأُدباء في التخوم، القرم الهمام الخُرشوم مدهدم أُطوم الخصوم، معفّر الخدود منهم ومُرغم الخرطوم(1): «السيّد «إسماعيل بن محمد الحميريّ» شفّع اللّه فيه نبيّه النبيه الأزهريّ، ووليّه صاحب الغري، وآلهما الأيتام من الدراري، وعترتهما الأنجاد الأمجاد من الحواري عليهم من السّلام ما هو أطيب من المسك الداري ما الدهر بالناس دواري، أعني الّتي مطلعها:

لأُمِّ عَمرو باللِّوى مَربَعُ * طامسةٌ أعلامُهُ بَلْقَعُ

شرحاً يقرع الظنابيب(2)، ويوسع العراقيب(3)، ويبرز التعاجيب، ويرقص رؤوس اليعاسيب(4)، ببثّ ما حوته ألفاظها من المعاني، ويهتك الخدور عمّا قَصُرَت فيها من الغَواني.

وينثّ ما فيها من اللّغات العربية، وما أُودِعها من النكات الأدبيّة، وما يتوقف عليه الإحاطة بها من القواعد النحوية، وما يُعلَم به وجوه بلاغتها من

ــــــــــــــــــــــــــــ
1- القَرْمُ من الرجال: السيد المعظم.(لسان العرب:«قرم)».
الخُرشُوم ـ بالضم ـ : الجَبلُ العظيم. (القاموس المحيط «الخُرشوم)».
هَدَمَهُ وَدَهْدَمَهُ; بمعنى واحد.(لسان العرب:«دهمه)».
الأُطُم: حصن مبني بحجارة، والجمع القليل: آطام ، والجمع الكثير: أُطُوم (لسان العرب:«أطم)».
2- «الظنانيب» جمع «ظُنْبُوب»: حَرْفُ عظم الساق اليابس من قُدُم. وقرع ظنابيب الأمر: ذلّله. و«العراقيب» جمع «عُرْقُوب»: الطريق الضيّق في متون الجبال أو في الوادي. «لسان العرب: ظنب و عرقب».
3- «الظنانيب» جمع «ظُنْبُوب»: حَرْفُ عظم الساق اليابس من قُدُم. وقرع ظنابيب الأمر: ذلّله. و«العراقيب» جمع «عُرْقُوب»: الطريق الضيّق في متون الجبال أو في الوادي. «لسان العرب: ظنب و عرقب».
4- «يعاسيب»، جمع «يعسوب»: أمير النحل وذَكَرُها، ثم كثر ذلك حتى سَمّوا كلّ رئيس يَعسوباً «لسان العرب: عسب)».


( 57 )
القوانين البيانيّة.

ويفثّ ما أمكن فيها من المحتملات وإن كانت بعيدة، وما يصحّ على رأي وإن كان من الآراء الشريدة. ويلثُّ على ما لابدّمنه في فهمها ولا يتعدّاه، ولا يملّ الناظر بما منه بدّمن الفضول ولا يتحدّاه، وقد ألَثُّوا في ذلك غاية الإلثاث، وأبثُّوا إليه ما لا يطاق من اللهاث لما ورد في شأنها، فمازت به عن أقرانها من الرواية عن قطب الأرض وثامن أركانها، إمام كافّة إنسها وجانّها ـ صلوات اللّه عليه وعلى أئمّة الأُمّة ، وتيجانها ما دامت الأفلاك في دورانها، وما كانت الأُمّهات تتقلّب في أكوانها.

وستطّلع عن قريب على تبيانها، وكنت ما نشبت أتلعثم فيه وأُلَثْلِثُ(1)، وعلى الإحجام عن الإقدام عليه أُغثغث، وكنت ربّما أحثحثُ شفتي بمضّ وأُمثمث(2)، وربّما أُعثعث رأسي للإجابة، وعلى الامتناع أُعثعث السلام لما رأيته «أثْقَل من مُجْذَى ابن رُكانة»(3)، وأُولي النفائس والعرائس الضَّنانة، مع اشتغالي بما أُحصيه من الأشغال، وانحصاري فيها بحيث لم يبق لي مجال للتجوال، وأعظمها وأهمّها وأشغلها للأوقات وأعمّها، ما أُعلِّقه على «الروضة البهيّة في شرح اللمعة

ــــــــــــــــــــــــــــ
1- اللَّثْلَثَةُ: الضَّعْفُ والجيش والتردُّد في الأمر كالتَّلَثلث وعدم إبانة الكلام (مجد الدين الفيروز آبادي: القاموس المحيط«اللَّثُّ)».

2- الحثحثة: الحركة المُتداركة.
و مثّ يده وأصابعه بالمنديل أو بالحشيش ونحو مَثّاً: مسحها. لغة في مَشَّ. وقيل: كلّ ما مسحته فقد مَثَثْتَهُ مَثّاً.(لسان العرب: «حثث»، «مثث)».
3- من الأمثال، جاء في «الفائق في غريب الحديث: للعلامة جار اللّه محمود بن عمر الزمخشري : ج2/23(باب ـ ربع) و قال بعده: والتجاذي تفاعُل من الإجذاء، أي يُجذي المهراس بعضهم مع بعض، هذا ثمّ هذا. ومنه حديث ابن عباس (رض): انّه مرّ بقوم يتجاذون حجراً ـ و روى يُجْذُون ـ ، فقال: عمّال اللّه أقوى من هؤلاء.


( 58 )
الدمشقية في فقه الإمامية» (1) الذي سمّيته بـ«المناهج السويّة، في شرح الروضة البهيّة»، وفّقني اللّه لإتمامه وإحكامه وعصمني عن السهو والغفلة في أحكامه.

ثمّ لما طال منهم الإلحاح واجتهدوا في إبانة الشحاح حتي سدّوا عليّ سبل الاعتذار، وحتموا عليّ الإجابة بختم الأقضية والأقدار، لم ألف عنها سبيلاً للفرار، وفرضت على نفسي أن أصرف فيه شطراً من الليل والنهار، فشرعت فيه مُبَسْمِلاً مُحَمْدِلاً مُحَوْقِلاً، على اللّه متوكّلاً إليه موسّلاً، بالنبيّوآله متوسّلاً، مسمّياً له بـ«اللآلئ العبقرية في شرح القصيدة الحميرية».

ــــــــــــــــــــــــــــ
1- للشيخ السعيد زين الدين علي بن أحمد بن تقي بن صالح بن مشرف العاملي الشهيد سنة 966هـ. و «اللمعة» في الفقه، للشيخ أبي عبد اللّه محمد بن مكي الشهيد سنة 786هـ (انظر الذريعة:6/90رقم 470و11/290 رقم 1757).