المولد الميمون |
في معقل الرسالة وعاصمة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) في رحاب المدينة المنورة.. ولد الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) وذلك في يوم الاثنين 10 / ربيع الثاني / 232 للهجرة الشريفة، الموافق لعام 846 ميلادية. وهو ثاني أولاد الإمام علي الهادي (عليه السلام) حيث كان أخوه السيد محمد أكبر ولد الإمام الهادي (عليه السلام) وكان عالماً فاضلاً تقياً عظيم الشأن جليل المنزلة وكانت أنظار أبناء الطائفة ترمقه وتتطلع إليه على أنه صاحب الولاية بعد والده الإمام الهادي (عليه السلام) لأنه الأكبر سناً. إلا أن الإمام الهادي (عليه السلام) لم يكن يخفي أمر الولاية عن الخواص من أصحابه وأنه في ولده الثاني أبو محمد الحسن (عليه السلام) حيث أنها منصوصة ومخصوصة من قبل الله عزّ وجلّ والإمام معروف بالاسم والصفة ومثبت في اللوح المحفوظ والذي أعطى عنه جبرائيل (عليه السلام) نسخة إلى جدتهم الزهراء (عليها السلام)، كما صرح بأسمائهم واحداً تلو الآخر الرسول (صلى الله عليه وآله). وربما لكي لا يصبح مثار جدل فقد توفاه الله سبحانه (السيد محمد) في حياة أبيه الإمام الهادي (عليه السلام). ومسألة الإمامة ليست بالسن أو العمر كما هو واضح، بل أمر إلهي بحت ومسالة ضرورية ومن متعلقات الرسالة وتمامها.. والده: والده: هو الإمام علي الهادي ابن الأئمة الهداة الميامين من آل طه ويس وهو امتداد للسلسة الذهبية المعروفة بين المؤرخين والمحدثين المسلمين.. فالإمام الهادي فالجواد فالرضا فالكاظم فالصادق فالباقر فزين العابدين فالحسين الشهيد فأمير المؤمنين علي بن أبي طالب وسيدة النساء العالمين فاطمة الزهراء فرسول الله (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين). والدته: والدته: السيدة الجليلة (سوسن) وكانت تسمى بـ (سليل)(1) و(حديث) أيضا، فقد تشرفت بحمله وولادته وإرضاعه والمشاركة في تربيته.. إخوته: إخوته: ولد للإمام الهادي (عليه السلام) أربعة ذكور وبنت واحدة، أما الذكور فهم السيد محمد، والسيد حسين، والسيد جعفر، وأما ما قيل بأن جعفر هذا كان كذاباً فالظاهر انه مخترعات بني العباس. النشأة الطيبة: نشأ الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) في حجر والده العظيم الإمام علي الهادي (عليه السلام) ودرج بين يديه وتعلم منه العلوم والمعارف الدينية والدنيوية التي ورثها أبا عن جد من رسول الله (صلى الله عليه وآله).. وفيما بعد ورث منه مواريث الرسالة المعهودة.. فقد صحب أباه العظيم وعاش في كنفه المبارك ما يزيد عن 23 سنة، فكان كآبائه الكرام في العلم والعمل والجهاد والدعوة إلى الإصلاح في أمة جدهم الهادي إلى الحق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فتخلق بأخلاقهم القرآنية وألهم العلوم الرحمانية وتلقى روح الإيمان والإحسان وكان مضربا للأمثال بالعلم والعمل والاستقامة. والإمام الحسن العسكري (عليه السلام) كان معروفاً من قبل المجتمع بـ (ابن الرضا) وهذا لقب يشمل كل من الأئمة الجواد والهادي والعسكري (عليهم السلام) وذلك لشهرة وعظمة الإمام علي الرضا (عليه السلام) في الدولة الإسلامية ديناً ودنيا.. ففي الدين هو الإمام الحق وحجة الله على الأرض، وهو أعلم أهل الإسلام يومذاك، وعلمه وفضله انتشر في العالم أجمع.. وهو بالنسبة للدولة والدنيا ولي عهد الحاكم العباسي عبد الله المأمون، وكانت المنابر والمآذن والاحتفالات تصرخ باسمه الشريف وتدعوله وتتقرب إلى الله وإلى الحاكم بذلك.. فكانت هذه النسبة كنسبة الأئمة الأوائل من أهل البيت (عليهم السلام) حيث كانوا ينادون بـ (يابن رسول الله) كما هو مشهور ومعروف في التاريخ أما بعد الإمام الرضا فأصبح اسمهم بـ (ابن الرضا)، بالاضافة الى (ابن رسول الله).. والأمر واحد بلا شك والأصل واحد والشجرة مباركة جاء وصفها في سورة إبراهيم (عليه السلام). وفي زمن الإمام العسكري (عليه السلام) حيث الظروف الصعبة أخذ الإمام بأداء رسالات الله وتبليغ دين جده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأحسن ما يمكن، فالأمة اتسعت وكبرت.. والدولة العباسية ضعفت وأصبحت كالكرة يلعب بها أصحاب الجند والقادة العسكريين: كبنا وباغر وغيرهما.. وتقاذفها العرب والترك والفرس وغيرهم وكل يريد الذي يرى فيه تحقيق مصالحه الشخصية والقومية والقبلية.. ولم يكن الخليفة إلا بيدق من بيادق الشطرنج يلعب بها أصحاب الأهواء.. حتى قال أحد الظرفاء أن عمر الخلافة تقدر بإرادة الأتراك. وفي تلك الظروف استلم الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) قيادة الأمة الإسلامية بتعيين من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبأمر من الله عزوجل وبوصية من والده الشهيد (عليه السلام) المعروفة والمشهورة بين العامة والخاصة. الإمام.. والعصر.. والحكام: في الحقيقة والواقع كان عصر الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) عصراً معقداً وعصيباً على الإمام والأمة الإسلامية جمعاء.. فقد ضعفت الدولة العباسية فضعف الحكام.. وكان ضعف الحكام لاشتغالهم بحياة الترف وقلة الخبرة والحنكة السياسية وقوة المعارضة لاسيما الشخصيات الهامة مثل القادة العسكريين والوزراء المتنفذين. فكانت أوضاع الحكومة والحكام أقرب إلى السخرية والفوضى، من الحكم والدولة والنظام.. حتى انه يروى في التاريخ.. والعهدة على الراوي.. إن الإماء والعبيد صار لهم صولة وجولة ذات تأثير على الحكام العباسيين. فقد عاصر الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) عدداً من الحكام العباسيين هم: المعتز والمهتدي والمعتمد، وكل واحد كان أخبث من صاحبه بالنسبة لموقفهم من زعيم المعارضة العلوية القوية يومئذ الإمام الحسن العسكري (عليه السلام). فاستقدموه من مدينة جده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو شاب، وأودعوه تحت الإقامة الجبرية في مدينة العسكر من أجل المراقبة الدقيقة لتحركاته السياسية والدينية.. ورغم ذلك فقد سجنوه لعدة مرات، وفي كل مرة بان لهم فضله وانتشر نوره حتى عم الآفاق والكل يتحدث عن (ابن الرضا) الحسن العسكري (عليه السلام). وسبب ذلك واضح وبيّن حيث أن أئمتنا الكرام هم أئمة القلوب رغم أنوف الحكام والظلام الذين يملكون الأجسام بالإرهاب والسيف، فتنتظر الأمة لحظة لكي تطيح بهم، أما سلطان الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) فهو ثابت ثبات الفطرة السليمة، وباق بقاء النطف الطاهرة والولادات النظيفة من الخبث والنفاق. لأنهم (عليهم السلام) حجج الله على الخلق وواسطة فيضه تعالى على البشر.. ولذلك فلا يمكن لأهل الأرض أن تزيل محبتهم وسلطانهم على القلوب مهما حاولوا أو فعلوا فسلطانهم راسخ أبداً. ومن هنا فان محاولات العباسيين كالتضييق على الإمام العسكري (عليه السلام) زاده شهرة، لأن المقربين من الحكام العباسيين تأثروا به ورووا حديثه ودماثة أخلاقه والكثير من فضائله للناس. فهذا (أحمد بن عبيد الله بن خاقان) وهو من النواصب للإمام العسكري (عليه السلام) كما رواه الحسين بن محمد الأشعري، ومحمد بن علي انه جرى ذكر العلوية عند أحمد بن عبد الله بن خاقان بقم، وكان ناصبياً شديد العداء لآل محمد (صلى الله عليه وآله) فقال: ما رأيت منهم مثل الحسن بن على بن محمد بن الرضا (عليه السلام): جاء ودخل حجابه على أبي: عبد الله بن خاقان وزير المعتمد فقال: أبو محمد بن الرضا بالباب فزجرهم الإذن واستقبله ثم أجلسه في مصلاه تكريماً وجعل يكلمه، ويفديه نفسه (أي يقول: نفسي لك الفداء) فلما قام شيعه. فسألت أبي عنه.. فقال: يا بني ذاك إمام الرافضة (أي شيعة أهل البيت عليهم السلام) ولو زالت الخلافة عن بني العباس ما استحقها أحد من بني هاشم غيره.. لفضله وعفافه، وصومه وصلاته، وصيانته وزهده، وجميع أخلاقه. ولقد كنت أسال عنه دائماً.. فكانوا يعظمونه، ويذكرون له كرامات. وقال: ما رأيت أنقع ظرفا (أغزر علماً وأدب) ولا أغض طرفاً ولا اعف لساناً وكفاً من الحسن العسكري (عليه السلام)(2). نعم هذا هو الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) بنظر أعدائه.. وهكذا كانت أخلاقه وكراماته وفضائله يتناقلها الأعداء قبل الموالين والأصدقاء.. وقالوا قديما: (والفضل ما شهد به الأعداء). فالظروف السياسية كانت متدهورة تماماً ومتناقضة بين الأمة وعامة الشعب والحكام وخواصهم وقصورهم.. فهناك الفقر والحرمان والضياع.. وهنا البذخ والترف والمجون بكل أنواعه وأصنافه.. ففي سنة 258 هـ وقع وباء بالعراق فمات خلق كثير، وكان الرجل يخرج من منزله، فيموت قبل أن ينصرف.. فيقال إنه مات ببغداد في يوم واحد اثنا عشر ألف إنسان(3). وفي سنة 260 هجرية اشتد الغلاء في عامة بلاد الإسلام فانجلى فيما ذكر عن مكة المكرمة من شدة الغلاء من كان بها مجاوراً إلى المدينة المنورة وغيرها من البلدان.. ورحل عنها العامل (الوالي) الذي كان بها مقيماً.. وارتفع السعر ببغداد فبلغ سعر كر الشعير عشرين ومائة دينار.. والحنطة خمسين ومائة دينار ودام ذلك شهوراً(4). وكذلك غلت الأسعار في بغداد وبسر من رأى حتى كان القفيز بمائة درهم، ودامت الحرب وانقطعت المسيرة وقلت الأموال..(5). تلك إذا هي حالة الدولة الإسلامية من الفقر والجهل والمرض والإهمال من الحكام والمتصرفين في البلاد حتى أن مكة المكرمة بفضل دعاء خليل الرحمن إبراهيم (عليه السلام) والتي هي من أغني بلاد العالم على الإطلاق.. نجد أن أهلها يهاجرون منها إلى البلدان المجاورة من الجوع وتفشي الأمراض والأوبئة حتى أن الوالي قد تركها.. فكم كانت الكارثة فادحةً حقاً.. وأما بغداد فهي العاصمة العريقة للدولة العباسية وهي قبلة العلماء والحكماء قبل أيام وسنوات من ذلك التاريخ، فقد كان يؤمها كل من يريد العلم والتعلم في أي مجال من مجالات العلم.. نرى أنه وفي يوم واحد فقدت 12000 إنسان، ترى كيف كانت تدفن الضحايا.. أم كانت تترك لتنتشر الأوبئة بشكل أكبر..؟! هذا على صعيد الأمة الإسلامية.. والحديث يطول والأمثلة متوفرة بكثرة في كتب التاريخ. أما البيت العباسي وقصور الحكام فقد كانت الصورة منعكسة تماماً.. ففيها كل أنواع المجون والخلاعة وكأنها تخريج (هوليود) حالياً.. بلد المنكرات والفضائح والرذائل دون استثناء.. فقد بلغ مصروف قصر الرصافة في العام الواحد عشرة ملايين دينار فقط.. هذا ما كانت تصرفه أم محمد بن الواثق وبشهادة المهتدي العباسي قال يوما لجماعة من الموالي: أما أنا فليس لي أم احتاج لها إلى غلة (عشرة آلاف ألف) في كل سنة لجواريها وخدمها المتصلين بها(6). أما قبيحة (وسميت بذلك لفرط جمالها) وهي من جواري المتوكل وأم ولده المعتز بغير الله! فقد كانت لها أموال ببغداد فكتبت في حملها، فاستخرجت وحمل منها فذكر أنه وافى سامراء يوم الثلاثاء لإحدى عشرة ليلة خلت من شهر رمضان من سنة 255 هـ قدر خمسمائة ألف دينار.... ووقعوا لها على خزائن ببغداد فوجه في حملها.. وحمل منها فحمل إلى السلطان من ذلك متاع كثير، وأحيل من بغداد إلى الجند والشاكرية (العمال والخدم) المرتزقة بمال عظيم.. ولم تزل تباع تلك الخزائن متصلا ببغداد وسامراء عدة شهور حتى نفدت ولم تزل قبيحة مقيمة، أي تبيع..(7). ويذكر أن صالح بن وصيف قد استولى على خزانة من الذهب والمجوهرات والأحجار الكريمة.. لـ (قبيحة) لا تقدر بثمن ولا تباع بمال.. فقد قال الشخص الجوهري الذي أرسله صالح لحمل المال وتقديره: صرنا إلى دار تحت الدار التي دخلناها على بنائها وقسمتها فوجدنا من المال على رفوف وفي أسفاط زهاء ألف ألف دينار.. فأخذ أحمد منها ومن كان معه قدر ثلاثمائة ألف دينار.. ووجدنا ثلاثة أسفاط.. سفطاً فيه مقدار مكوك (طاس للشرب أعلاه ضيق ووسطه واسع) زمرد إلا أنه من الزمرد الذي لم أر للمتوكل مثله ولا لغيره. وسفطاً دونه فيه نصف مكوك جب لم أر والله للمتوكل ولا لغيره مثله. وسفطاً دونه فيه مقدار كليجة ياقوت أحمر، لم أر مثله ولا ظننت أن مثله يكون في الدنيا فقومت الجميع على البيع فكانت قيمته ألفي ألف دينار..)(8). اثنين مليون دينار ما تملك (قبيحة) من الجواهر واليواقيت الحسان، فما بال البقية الباقية من القبيحات عند الحكام العباسيين.. ومن هنا فلعلك عرفت سبب الفقر المدقع والجوع المطيق والمرض والوباء المنتشر في الدولة العباسية.. هي قبيحة ونظيراتها ممن يعيش في كنف الحكام العباسيين.. ممن ينعمن بالحرير والجواهر وريش النعام ويتقلب على الأسرة الفارهة وفي أحضان الحكام وليس لهن في التاريخ قيمة ولا عند الله وزن يذكر بل لجهنم حطبا.. أما بقية الأمهات والنساء الفقيرات فإنهن يعانين من الفقر والمرض والحرمان ويتقلبن على رمال الصحراء اللاهبة ويحفظن أنفسهن وأزواجهن ويربين أولادهن ليكونوا بناة في المجتمع الإنساني ولا ينتظرن إلا رحمة الله وهي قريبة من المحسنين.. فكم كان البون شاسعاً وكم كانت المعاناة كبيرة على الأمة الإسلامية بظل مثل أولئك الحكام الذين لاهم لهم بالأمة إلا حليبها ويجب أن تجلب لهم الأموال والأرزاق ليتنعموا بها لا اكثر ولا أقل، والتي لا تجلب فالجزار ينتظرها ليأكلوا لحومها.. والإمام الحسن العسكري (عليه السلام) كان يعيش بينهم - الشعب الفقير- ويساعدهم ويتحنن عليهم.. كما كانت له زيارات دورية مفروضة عليه كل اثنين وخميس إلى دار الخلافة أو الإمارة من أجل استمرارية المراقبة لتحركاته ومعرفة أصحابه وشيعته من أجل التنكيل بهم وهذا ما نستشعره من الحديث المروي: روى علي بن جعفر عن الحلبي قال: اجتمعنا بالعسكر وترصدنا لأبي محمد (عليه السلام) يوم ركوبه فخرج توقيعه: (ألا لا يسلمن علي أحد، ولا يشير إلي بيده ولا يومئ، فإنكم لا تأمنون على أنفسكم). قال: وإلى جانبي شاب.. فقلت من أين أنت؟ قال: من المدينة.. قلت ما تصنع هاهنا؟ قال: اختلفوا عندنا في أبي محمد (عليه السلام) فجئت لأراه وأسمع منه أو أرى منه دلالة ليستكن قلبي وإني لولد أبي ذر الغفاري.. فبينما نحن كذلك إذ خرج أبو محمد (عليه السلام) مع خادم له، فلما حاذانا نظر إلى الشاب الذي بجنبي فقال (عليه السلام): أغفاري أنت؟ قال: نعم. قال (عليه السلام): ما فعلت أمك حمدوية؟ فقال: صالحة.. ومر.. فقلت للشاب: أكنت رأيته قط أو عرفته بوجهه قبل اليوم..؟ قال: لا.. قلت: فينفعك هذا..؟ قال: ودون هذا..(9). فقد كانت السلطة العباسية شديدة الحساسية للمعارضة العلوية التي كان يمثلها الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) وشيعته، فراحوا حتى يأخذون مواليه على السلام أو الابتسام أو مجرد الإيماء للإمام (عليه السلام). في تلك الظروف الصعبة كان لزاماً على الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) قيادة الأمة وإرشادها الى الإسلام الصحيح ونشر الأحكام والمسائل الشرعية، بالاضافة الى رعاية أحوال المعارضة السياسية للحكم العباسي وتوجيه وترشيد الثورات والانتفاضات الشعبية.. إلا أن العباسيين كانوا يقمعون أي تحرك تحرري بغاية العنف والقسوة وهذا شأنهم فيما بينهم فكيف يكون تعاملهم مع غيرهم؟ فالمتوكل (على الشيطان) سلط الله عليه ولده المنتصر (بالأتراك) على أبيه حيث هجموا عليه ليلاً فذبحوه ووزيره (الفتح بن خاقان) وهما غارقان في اللهو والفجور والخمور وعجلوا بهما إلى جهنم وبئس المصير.. والمنتصر بالأتراك خاف منه الأتراك فدسوا إليه السم عن طريق الطبيب (ابن طيفور) الذي قبض ثمن عمله ثلاثين ألف دينار ففصده بريشة مسمومة فمات من ساعته.. وحكم بعده المستعين الذي خلعه الأتراك وبايعوا المعتز بغير الله.. الذي كان يتميز ببغضه لآل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ومناصبته لهم العداء فأخذوه كذلك وأقاموه في الشمس المحرقة وجردوه من كل شيء وشهدوا على خلعه أمام قاضي بغداد ليقتلوه فيما بعد صبرا.. ليستلم فيما بعد (غير المهتدي) الذي سار على نهج أجداده بالقسوة والعنف والحقد والكراهية لآل الرسول (عليهم السلام) وقال كلمته المشهورة: والله لأجلبنهم عن جديد الأرض.. إلا أن الله سبحانه أراح منه حيث هجم عليه قائد تركي ضربه على عنقه وراح يمتص دمه حتى روي منه ومات غير مأسوف عليه. وتسلم زمام الأمور (المعتمد على الشيطان) وراح يفعل الأفاعيل التي يندى لها جبين التاريخ ولم يهدأ له بال حتى نال مراده بقتل الإمام الحسن العسكري(عليه السلام).. ألا لعنة الله على الظالمين. والقسوة الشديدة من الحكام والتجبر والطغيان يفرض على الأمة نوعاً من الرهبة والخوف ويفرض على القادة والمعارضين نوعاً من التقية والعمل السري.. وهذا ما فرضته الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية على الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) الذي ابتع طريقة أحياناً كانت غاية في السرية والتقية.. وهذا ما نعرفه من خلال هذا الحديث: روى أبو هاشم الجعفري عن داود بن الأسود.. قال: دعاني سيدي أبو محمد (عليه السلام) فدفع إلي خشبة كأنه رجل باب مدورة وطويلة ملئ الكف.. فقال (عليه السلام) اجر بهذه الخشبة إلى العمري. فمضيت فلما صرت إلى بعض الطريق عرض لي سقاء معه بغل، فزاحمني البغل على الطريق، فناداني السقاء صح على البغل.. فرفعت الخشبة التي كانت معي وضربت البغل فانشقت.. فنظرت إلى كسرها فإذا فيها كتب (رسائل).. فبادرت سريعاً ورددت الخشبة إلى كمي.. فلما دنوت من الدار راجعاً استقبلني عيسى الخادم عند الباب فقال: يقول لك مولاي: لم ضربت البغل، وكسرت رجل الباب. فقلت له: يا سيدي لم أعلم ما في رجل الباب. فقال (عليه السلام): ولم احتجت أن تعمل عملاً تحتاج أن تعتذر منه.. إياك بعدها أن تعود إلى مثلها.. وإذا سمعت لنا شاتماً فامض في سبيلك التي أمرت بها.. وإياك أن تجاذب من يشتمنا، أو تعرفه من أنت؟ فإننا في بلد سوء، ومصر سوء، امض من طريقك فإنك أخبارك وأحوالك ترد إلينا فاعلم ذلك(10). وفي حديث آخر ينقله الأربلي (رحمه الله) فيقول: عن محمد بن عبدالعزيز البلخي قال: أصبحت يوماً فجلست في شارع الغنم فإذا بأبي محمد (عليه السلام) قد أقبل من منزله يريد دار العامة فقلت في نفسي: ترى إن صحت أيها الناس هذا حجة الله عليكم فاعرفوه يقتلوني؟ فلما دنا مني، أومأ بإصبعه السبابة على فيه أن اسكت. ورايته تلك الليلة يقول: إنما هو الكتمان أو القتل.. فاتق الله على نفسك(11). فالإمام الحسن العسكري (عليه السلام) كان في غاية الضنك والضيق من الحكومة العباسية التي تترقب فيه الدوائر وتنصب له الكمائن من أجل التنكيل به وبالتالي قتله.. ومن هنا قام الحاكم العباسي المعتز (بغير الله) قد سجن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) سنة 258 هجرية. وكذلك المهتدي سجن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، وقد دعا عليه الإمام (عليه السلام) فقص الله عمره(12). اما المعتمد فشدد على الإمام (عليه السلام) حيث سجنه وما زال يكيد به حتى دس إليه السم وقتله شهيدا مسموما، فذهب الإمام إلى ربه شهيداً وشاهداً على ظلم العباسيين وتجبرهم على الأمة والإمام (عليه السلام). قصة زواج الإمام (عليه السلام) بالسيدة نرجس (عليها السلام): قصة زواج الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) بالسيدة نرجس (عليها السلام) قصة معجزة بكل تفاصيلها وأمورها وكل أشخاصها وأحداثها.. فيد الغيب المقدسة واضحة في التأثير على حوادث القصة ومجرياتها من بدايتها وإلى نهايتها.. وهي ذات دلالات ولا يمكن لأمثالنا استيعابها.. فتاة في مقتبل العمر.. والفتاة كالزهرة تنشر طيبها وأريجها مبكرا من أجل أن تقطف وتزين بها البيوت والقصور والموائد.. وعمرها لا يزيد عن الثالثة عشر.. تربت في بيت عز وملك.. حيث أن جدها كان قيصر ملك الروم.. وتتمتع بحسب ونسب لا يضاهي حيث كانت ترجع إلى وصي عيسى المسيح (عليه السلام) شمعون الصفار (عليه السلام) وكان جدها مولعاً جداً بها ومعجباً بأدبها وذكائها وجمالها. فأرسل إليها من أدبها بالآداب.. وعلمها اللغات والأخلاق الفاضلة.. فتأدبت وتعلمت وتخلقت بأخلاق رفيعة. حاول جدها أن يزوجها لابن عمها ففشل في ذلك.. حيث سقط الشاب من كرسيه مغشياً عليه وتساقطت الصلبان.. فأعاد المحاولة لأخيه ففشل.. واغتم لما حصل، واغتم أكثر لما قاله المنجمون والقساوسة والكهان حول النحوس التي أحاطت بالمكان والزمان ذاك.. فدخل القصر وأرخى الستائر معلناً الحزن الشديد. كان اسمها (مليكة) وبالفعل هي (ملكة) وأميرة لأنها حفيدة القيصر، و (ملكة) لو أن للإنسان أن يكون ملاكاً وذلك لطهارتها ونقائها وروحانيتها ونورانيتها.. وفي تلك الليلة رأت في منامها جدها شمعون الصفا ومعه سيده عيسى المسيح، والحواريين.. بينما هم كذلك إذ أقبل سيد الكونين أبو القاسم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبنائه الكرام (عليهم السلام)، فاعتنقا.. عيسى المسيح ( عليه السلام) والحبيب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتعارفا مع من كان معهما وذلك في بهو القصر الملكي لقيصر الروم وفي نفس المكان ذاك.. في ذلك الموقف النوراني.. الروحاني الذي ما كان ليحدث لولا عظمة الموقف وأهمية الأمر.. التفت الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى نبي الله عيسى المسيح (عليه السلام) قائلا: جئت إليك خاطبا من وصيك (شمعون) فتاته (مليكة) لابني هذا، وأومأبيده إلى أبي محمد، أي الإمام الحسن العسكري (عليه السلام).. فنظر المسيح إلى شمعون وقال: قد أتاك الشرف.. فصل رحمك برحم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). فقال شمعون: قد فعلت. فصعد على المنبر وخطب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) زوجني من ابنه.. وشهد المسيح (عليه السلام) وشهد أبناء محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) الحواريون..(13). لقد جسدت هذه الرؤيا لقطة من عالم آخر يسمو فوق عالمنا المادي والحسي، وقد ترجمت القرار الإلهي منذ مجاهيل القدم بصيغة مشهد نموذجي فريد، لتعكس آفاقاً مستقبلية مشرقة، فكانت هذه الرؤيا هي الرابط، وهي حلقة الوصل الرائعة بين الماضي والحاضر والمستقل، وقد شاءت العناية الإلهية أن تعقد صلة حقيقية ومميزة واستثنائية بين السيد المسيح (عليه السلام) وبين قائم الأوصياء المهدي المنتظر (عجل الله فرجه الشريف).. فها هو السيد المسيح (عليه السلام) في الماضي السحيق يساهم مساهمة أساسية ويقوم بدور رئيسي في أحداث ذلك الرباط المقدس وذلك الزواج الملائكي التي تمخض بعد اجتياز عقبات وعقبات عن ولادة آخر حجج الله تعالى على وجه البسيطة بل في منظومة عالم الإمكان كلها.. وها هو السيد المسيح (عليه السلام) في الغد المشرق ينزل بأمر الله سبحانه وتعالى من السماء الرابعة إلى الدنيا ليصلي خلف إمامنا المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف) وليدعو الناس إلى الدين الإسلامي الحنيف. وكان لابد أن يحيط خالق الكون ومن منطلق الحكمة الربانية ذلك الحدث السعيد بكافة مظاهر الإكرام والإكبار وبأجلى مظاهر القدس والروحانية والإجلال.. وهكذا تجلى السيد المسيح (عليه السلام) مع شمعون وعدد من الحواريين أيضا في قصر إمبراطور الروم، ثم نصبوا في القصر منبراً يباري السماء علواً وارتفاعاً.. كرمز للمجد السامي العظيم والمستقبل المشرق الرفيع.. ثم هاهو خاتم الرسل (صلى الله عليه وآله وسلم) يدخل مع مجموعة من الفتيان وعدة من بنيه أيضاً.. ونشاهد هنا واحد من أروع المشاهد على مر التاريخ البشري فها هو نبي الإسلام يعتنق السيد المسيح (عليه السلام) بأخوة ومحبة لا تضارع، أو ليسا رسولين لرب العالمين..؟ أولم يقل السيد المسيح (عليه السلام): (مبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد)(14). أو ليس خاتم الرسل هو آخر مرحلة في قوس الصعود وسلسلة (التكامل التكويني والتشريعي) التي بدأها آدم (عليه السلام) أبو البشر ليواصل مشوارها أنبياء الله العظام.. نوح وإبراهيم وموسى ثم عيسى المسيح (عليه السلام) لتتوج تلك المسيرة الربانية الكبرى بمحمد المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم). وهكذا أحاطت العناية الربانية بالسيدة (مليكة نرجس) من كل جانب فكانت هي تلك العذراء الوحيدة بين كل نساء الأرض.. التي يشارك في عملية خطبتها ومحفل عقدها نبيا أعظم ديانتين سماويتين.. لتقترن بإمام معصوم تخضع له الأكوان كلها ولتنجب (خاتم الأوصياء) والسبب المتصل بين الأرض والسماء، ومن بيمينه رزق الورى وبوجوده النوراني بقيت الأرض والسماء.. هكذا كان.. وما أروع ما كان!! لقد كان (الإخراج) إلهياً و (الصياغة) ربانية و (الرغبة) من قبل خاتم الأنبياء وسيد المرسلين (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو الحب الأعلى لزوجها المرتقب، وكانت الخطبة من قبل واحد من أكبر الأنبياء من أولي العزم السيد المسيح (عليه السلام).. وحق لها كل ذلك.. أفلم تكن حفيدة وصي السيد المسيح (عليه السلام) شمعون الصفا (عليه السلام)؟ أفلم تكن هي ذلك الملاك الطاهر والجوهرة القدسية؟ أوليس هي التي قدر لها رب الأفلاك أن تكون والدة خاتم الأوصياء، ووارث الأنبياء وحجة الله على أهل الأرض والسماء..؟ وبعد ذلك.. فهي جديرة بكل ذلك بلا شك.. وحق لنساء الأرض أن يرفعن رؤوسهن شموخاً وكبرياء إذ كانت قد برزت من بينهن امرأة كنرجس.. وحق لنساء العالم أن يرسمن ذلك الوجه الملائكي الطاهر على لوحة القلب بأشعة من نور.. ووجب لبنات حواء أن يتخذن منها أسوة وقدوة ومناراً وضياءً وهادياً.. تلك الفتاة الطاهرة.. تلك الشابة الحرة المهاجرة.. تلك الأمير الأسيرة.. تلك الزوجة الوفية (الراضية والمرضية، التقية النقية، والصديقة الزكية). تلك الأم الحنون.. ينبوع المحبة والإشفاق والإيثار لخاتم الأنوار.. تلك المرأة.. العطاء والولاء.. والغداء والمثل السامي في المعرفة والإيمان والعزم والمضاء إنها القدسية (مليكة) وبالعربية (نرجس). إنها هي (مليكة)، (سوسن)، (حكيمة)، و(مريم) أيضا. لقد كانت القديسة مريم العذراء أم السيد المسيح (عليه السلام) المعجزة. وكانت السيدة نرجس أم الإمام الحجة المهدي المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف).. وهي حفيدة وصي السيد المسيح (عليه السلام) وكانت المخطوية منه والمبشر بها في إنجيله وكانت تحمل فيما تحمل من أسماء اسم مريم(15). هكذا خطب الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) لابنه الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) من السيد المسيح (عليه السلام).. ووصيه شمعون الصفا (عليه السلام) مليكة لتكون معجزة في زواجها وحملها وولادتها ومولودها المبارك (عليهما السلام). فأنعم وأكرم بهم.. فهم سادة السادات وإليهم ينتهي الفخر والمجد والسؤدد.. وتكتمل قصة السيدة (مليكة) جمالاً وجلالاً عندما تسلم على يد سيدة نساء العالمين زهراء الرسول ومريم البتول وآسية الطاهرة.. وتتلقن من سيدة نساء العالمين (عليها السلام) أمور دينها، فتبشرها بزيارة الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) لها وهكذا كان.. وهاجرت متخفية بخطة من الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) وحافظت عليها يد القدرة الإلهية وأحاطتها يد الغيب القدسية إلى أن وصلت إلى بغداد فأرسل الإمام الهادي (عليه السلام) واشتراها، وعند وصولها استقبلها استقبال العظام وأعطاها إلى أخته العظيمة (حكيمة) فأصلحت شأنها ورعتها إلى أن تزوجها الإمام الحسن العسكري (عليه السلام). وفي بهجة الفرح وغمرة السرور والهدوء والعشق الرباني والبدر يتلألأ في سماء سر من رأى في ليلة النصف من شعبان سنة 255 هجرية، وضعت السيدة نرجس وليدها البكر الطاهر المطهر من كل عيب ورجس الإمام الثاني عشر المهدي المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف). هذا وقد أخفى الله سبحانه خبر الحمل والولادة حتى عن أقرب الناس للإمام (عليه السلام) وذلك بسبب الأسلوب الفرعوني الذي اتبعه حكام بني العباس مع حريم وإماء الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) من تفتيش ومراقبة ومحاسبة دقيقة جداً.. هكذا حملت.. وولدت وربت وغذت وحفظت الإمام الحجة (عجل الله تعالى فرجه الشريف) بشكل إعجازي حقاً. فكان وليدها هو وحيدها ووحيد الإمام الحسن العسكري (عليه السلام). وهو حجة الله الخاتمة والوصي الأخير لآخر الرسل والأنبياء (عليهم السلام) جميعا الذي تولى أمر الأمة العامة وعمره الشريف خمس سنوات.. وغاب بعدها غيبته الصغرى.. وامتدت بعدها الغيبة الكبرى التي نسج في غمراتها وندعو الباري تعالى أن يعجل فرجه ويسهل مخرجه ويجعلنا ممن ينتصر بنا لدينه ولا يستبدل بنا غيرنا إنه سميع مجيب. أولاده (عليه السلام): لم يترك الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) أبناء إلا هذا الإمام العظيم محمد المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف). وكان نقش خاتمه: (إن الله شهيد). وصلاته: أربع ركعات في الأوليين الحمد مرة والزلزلة 15 مرة، وفي الأخيرتين في كل ركعة الحمد مرة والإخلاص 12 مرة.. وحرزه الشريف هو: (بسم الله الرحمن الرحيم يا عدتي عند شدتي، ويا غوثي عند كربتي، ويا مؤنسي عند وحدتي، احرسني بعينك التي لا تنام، واكنفني بركنك الذي لا يرام). الشهادة المفجعة: شاب عظيم المنزلة عند الله وعند العباد.. ولي من أولياء الله.. يصل نسبه الشريف إلى رسول الإنسانية محمد المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) من ابنته الزهراء وبعلها الأمير علي(عليهما السلام). شاب في مقتبل العمر: ورث شمائل الرسالة وأخلاق النبوة عن آبائه الطاهرين (عليهم السلام). ورغم كل هذا مازال طغاة بني العباس يرون به الخطر الداهم على دنياهم، ويحسبونه العدو اللدود لسلطتهم الخبيثة.. فراحوا يدبرون له المكائد ويفعلون الأفاعيل حتى يتخلصوا من هذا الفتى العلوي: ابن الرضا وإمام الرافضة كما كانوا يسمونه حينذاك.. قام طغاة بني العباس بمحاولات عديدة للقضاء على الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) وقد خططوا لذلك، وتم إعداد السيناريو المطلوب مراراً عديدة إلا أن يد الغيب تدخلت لتنقذ حياته (عليه السلام) إعجازياً.. فها هو (المستعين بالشيطان) يأمر حاجبه بإخراج الإمام (عليه السلام) من سامراء ليقتله في الطريق المتجه إلى الكوفة(16).. فيفشل، ويعيد الكرة مرة أخرى مستعيناً (ببغلة شموس شرسة)(17). وها هو (المهتدي بهواه) كان قد عقد العزم على قتل الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)(18). وهاهو (المعتمد على غير الله) يلقي بالإمام (عليه السلام) في بركة السباع ويتركه وسط الأسود المفترسة الجائعة ثلاثة أيام كاملة(19). فكل هذه المحاولات التصفوية الفاشلة من قبل الحكام العباسيين، والتضييق والسجن المتتالي من قبلهم لم تهدأ للمعتمد العباسي عين ولم ينعم للشيطان الذي كان يعتمد عليه بال حتى بوأه بإثم قتل الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) وذلك بعد مضي خمس سنوات من حكمه البغيض للدولة الإسلامية وفي يوم الجمعة 8 ربيع الأول سنة 260 هجرية الموافق لـ 873 ميلادية. وكان لخبر الاستشهاد المفجع للإمام العسكري (عليه السلام) في مدينة سرمن رأى وهو لم يزل في ريعان الشباب حيث بلغ عمره الشريف يومذاك 26 أو 28 سنة فقط قضاها بالجهاد الأكبر والأصغر، وقع عظيم.. حيث عطلت الأسواق وركب بنوهاشم وقادة الجيش والكتاب وسائر الناس إلى جنازته، فكانت سرمن رأى – وهي يومذاك عاصمة الجند للحكام العباسيين – يومئذ شبيهاً بيوم القيامة، فلما فرغوا من تهيئته (عليه السلام) بعث السلطان إلى أبي عيسى بن المتوكل العباسي فأمره بالصلاة عليه..(20)، وأراد أخ الإمام العسكري جعفر للصلاة عليه كذلك.. إلا أن يد القدرة الإلهية حالت دون ذلك.. وتقدم للصلاة عليه ولده الحجة بن الحسن المهدي المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف) وكان عمره الشريف يومذاك خمس سنوات، وبعد الصلاة والدفن، دخل (عجل الله تعالى فرجه الشريف) منزله.. وحاولوا إلقاء القبض عليه ولكن أنى لهم ذلك ويد الله تحفظه وبذلك دخل العهد الأول للإمام الثاني عشر والذي يسمى في التاريخ والدين (بالغيبة الصغرى)، ومن بعده كانت (الغيبة الكبرى). فسلام الله على الإمام الحسن الآخر العسكري يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حياً.. وعلى أجداده الأطهار.. وعلى زوجته المباركة نرجس.. وعلى ولده ولي الله الأعظم والنور الأبهر الذي ببركته ما زالت السماوات والأرض (عجل الله تعالى فرجه الشريف).. وجعلنا من جنده والمستشهدين بين يديه إنه سميع مجيب..
|
1 - بحار الأنوار: ج 50 ص 236. 2 - المناقب لابن شهرآشوب: ج 4 ص 423. 3 - تاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 510. 4 - تاريخ الطبري: ج 8 ص 17. 5 - تاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 499. 6 - تاريخ الطبري: ج 7 ص 531. 7 - تاريخ الطبري: ج 7 ص 530. 8 - تاريخ الطبري: ج 7 ص 531. 9- بحار الأنوار: ج 50 ص 269. 10 ـ ابن شهر آشوب المناقب: ج 4 ص 427. 11 ـ كشف الغمة: ج 2 ص 212 ط بيروت. 12 ـ بحار الأنوار: ج 50 ص 313. 13 - كمال الدين: ص 421، وبحار الأنوار: ج 51 ص 8، الإمام المهدي (عج) من المهد إلى الظهور، تاريخ الغيبة للطوسي. 14 - سورة الصف: 6. 15 - راجع كتاب السيدة نرجس (عليها السلام) للسيد مرتضى الشيرازي. 16 - الإرشاد للمفيد: ص 345. 17 - ألقاب الرسول وعترته (عليهما السلام): ص 237. 18 - بحار الأنوار: ج 50 ص 345. 19 - بحار الأنوار: ج 50 ص 309. 20 - إكمال الدين للصدوق: ص 43. |