مكتبة الإمام العسكري (ع)

فهرس الكتاب

 

 

نبويات

آدم في الجنّة(1):

قوله عزوجل: (وقلنا يا آدم أسكن أنت وزوجك الجنّة وكلا منها رغداً حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين، فأزلّهما الشيطان عنها فأخرجهما ممّا كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدوّ ولكم في الأرض مستقرّ ومتاع إلى حين، فتلقّى آدم من ربّه كلمات فتاب عليه إنّه هو التواب الرحيم، قلنا اهبطوا منها جميعاً فامّا يأتينّكم منّي هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والذين كفروا وكذّبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)(2) قال الإمام (عليه السلام):

إنّ الله عزّ وجلّ لمّا لعن إبليس بإبائه وأكرم الملائكة بسجودها لآدم وطاعتهم لله عز وجلّ، أمر بآدم وحوّاء إلى الجنّة وقال: (يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنّة وكلا منها) من الجنّة (رغداً) واسعاً (حيث شئتما) بلا تعب (ولا تقربا هذه الشجرة) [شجرة العلم] شجرة علم محمّد وآل محمّد، الذين آثرهم الله تعالى بها دون سائر خلقه، فقال الله تعالى: (ولا تقربا هذه الشجرة) شجرة العلم فإنّها لمحمّد وآله خاصّة دون غيرهم، لا يتناول منها بأمر الله إلاّ هم ومنها ما كان يتناوله النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعليّ وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم أجمعين بعد إطعامهم المسكين واليتيم والأسير حتّى لم يحسّوا بعد بجوع ولا عطش ولا تعب ولا نصب، وهي شجرة تميّزت من بين أشجار الجنّة، إنّ سائر أشجار الجنّة [كان] كلّ نوع منها يحمل نوعاً من الثمار والمأكول، وكانت هذه الشجرة وجنسها تحمل البرّ والعنب والتين والعنّاب وسائر أنواع الثمار والفواكه والأطعمة، فلذلك اختلف الحاكون لتلك الشجرة فقال بعضهم: هي برّة، وقال آخرون: هي عنبة، وقال آخرون: هي تينة، وقال آخرون: هي عنّابة.

قال الله تعالى: (ولا تقربا هذه الشجرة) تلتمسان بذلك درجة محمّد وآل محمّد في فضلهم، فإنّ الله عزّ وجلّ خصّهم بهذه الدرجة دون غيرهم، وهي الشجرة التي من تناول منها بإذن الله عزّ وجلّ الهم علم الأوّلين والآخرين من غير تعلّم، ومن تناول [منها] بغير إذن الله خاب من مراده وعصى ربّه (فتكونا من الظالمين) بمعصيتكما والتماسكما درجة قد أوثر بها غير كما إذا أردتماها بغير حكم الله.

قال الله تعالى: (فأزلّهما الشيطان عنها) عن الجنّة بوسوسته وخديعته وإيهامه [وعداوته] وغروره بأن بدأ بآدم فقال: (ما نها كما ربّكما عن هذه الشجرة إلاّ أن تكونا ملكين) إن تناولتما منها تعلمان الغيب وتقدران على ما يقدر عليه من خصّه الله تعالى بالقدرة (أو تكونا من الخالدين) لا تموتان أبدا (وقاسمهما) حلف لهما (أنّي لكما لمن الناصحين)(3) وكان إبليس بين لحيى الحيّة أدخلته الجنّة، وكان آدم يظنّ أنّ الحيّة هي التي تخاطبه، ولم يعلم أنّ إبليس قد اختبأ بين لحييها.

فردّ آدم على الحيّة: أيّتها الحيّة هذا من غرور إبليس لعنه الله كيف يخوننا ربّنا؟ أم كيف تعظّمين الله بالقسم به وأنت تنسبينه إلى الخيانة وسوء النظر وهو أكرم الأكرمين؟ أم كيف أروم التوصّل إلى ما منعني منه ربّي عزّ وجلّ وأتعطّاه بغير حكمة؟

فلمّا أيس إبليس من قبول آدم منه عاد ثانية بين لحيى الحيّة فخاطب حوّاء من حيث يوهمها أنّ الحيّة هي التي تخاطبها وقال: يا حوّاء أرأيتي هذه الشجرة التي كان الله عزوجلّ حرّمها عليكما قد أحلّها لكما بعد تحريمها لما عرف من حسن طاعتكما له وتوقيركما إيّاه؟ وذلك أنّ الملائكة الموكّلين بالشجرة الذين معهم حراب يدفعون عنها سائر حيوانات الجنّة لا تدفعك عنها إن رمتها فاعلمي بذلك أنّه قد أحلّ لك، وأبشري بأنّك إن تناولتها قبل آدم كنت أنت المسلّطة عليه، الآمرة الناهية فوقه.

فقالت حوّاء: سوف أجرّب هذا، فرامت الشجرة فأرادت الملائكة أن تدفعها عنها بحرابها فأوحى الله تعالى إليهما: إنّما تدفعون بحرابكم من لا عقل له يزجره، فأمّا من جعلته ممكّناً مميّزاً مختاراً فكلوه إلى عقله الذي جعلته حجّة عليه فإن أطاع استحقّ ثوابي، وإن عصى وخالف [أمري] استحقّ عقابي وجزائي.

فتركوها ولم يتعرّضوا لها بعد ما همّوا بمنعها بحرابهم، فظنّت أنّ الله نهاهم عن منعها لأنّه قد أحلّها بعد ما حرّمها، فقالت: صدقت الحيّة، وظنّت أنّ المخاطب لها هي الحيّة، فتناولت منها ولم تنكّر من نفسها شيئاً، فقالت لآدم: ألم تعلم أنّ الشجرة المحرّمة علينا قد أبيحت لنا؟ تناولت منها ولم تمنعني أملاكها، ولم أنكر شيئاً من حالي [فلذلك حين] اغترّ آدم وغلط فتناول فأصابهما [ما] قال الله تعالى في كتابه: (فأزلّهما الشيطان عنها فأخرجهما) بوسوسته وغروره (ممّا كانا فيه) من النعيم.

(وقلنا) يا آدم ويا حوّاء ويا أيّتها الحيّة ويا إبليس (اهبطوا بعضكم لبعض عدوّ) آدم وحوّاء وولدهما عدوّ للحيّة، وإبليس والحيّة وأولادهما أعداؤكم (ولكم في الأرض مستقرّ) منزل ومقرّ للمعاش (ومتاع) منفعة (إلى حين) الموت.

قال الله تعالى: (فتلقّى آدم من ربّه كلمات) يقولها فقالها (فتاب) الله (عليه) بها (إنّه هو التواب الرحيم).

[التوّاب] القابل للتوبات، الرحيم بالتائبين (قلنا اهبطوا منها جميعاً) كان أمر في الأول أن يهبطا، وفي الثاني أمرهم أن يهبطوا جميعاً لا يتقدّم أحدهم الآخر، والهبوط إنّما كان هبوط آدم وحوّاء من الجنّة، وهبوط الحيّة أيضاً منها فإنّها كانت من أحسن دوابّها، وهبوط إبليس من حواليها فإنّه كان محرّماً عليه دخول الجنّة (فإمّا يأتينّكم منّي هدىً) يأتيكم - وأولادكم من بعدكم - منّي هدى يا آدم ويا إبليس (فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) لا خوف عليهم حين يخاف المخالفون ولا هم يحزنون إذا يحزنون.

قال (عليه السلام): فلمّا زلّت من آدم الخطيئة واعتذر إلى ربّه عزّ وجلّ قال: يا ربّ تب عليّ، واقبل معذرتي، وأعدني إلى مرتبتي، وارفع لديك درجتي فلقد تبيّن نقص الخطيئة وذلّها في أعضائي وسائر بدني.

قال الله تعالى: يا آدم أما تذكر أمري إيّاك بأن تدعوني بمحمّد وآله الطيبين عند شدائدك ودواهيك وفي النوازل [التي] تبهظك؟

قال آدم: يا ربّ بلى.

قال الله عزّ وجلّ له: فتوسّل بمحمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم خصوصاً، فادعني أجبك إلى ملتمسك، وأزدك فوق مرادك.

فقال آدم: يا ربّ يا إلهي وقد بلغ عندك من محلّهم أنّك بالتوسّل [إليك] بهم تقبل توبتي وتغفر خطيئتي وأنا الذي أسجدت له ملائكتك، وأبحته جنّتك، وزوّجته حوّاء أمتك، وأخدمته كرام ملائكتك.

قال الله تعالى: يا آدم إنّما أمرت الملائكة بتعظيمك [و] بالسجود [لك] إذ كنت وعاءاً لهذه الأنوار، ولو كنت سألتني بهم قبل خطيئتك أن أعصمك منها وأن أفطّنك لدواعي عدوّك إبليس حتّى تحترز منه لكنت قد جعلت ذلك، ولكنّ المعلوم في سابق علمي يجري موافقاً لعلمي، فالآن فبهم فادعني لأجبك.

فعند ذلك قال آدم: (اللّهمّ بجاه محمّد وآله الطيّبين)، بجاه محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين والطيّبين من آلهم لمّا تفضّلت [عليّ] بقبول توبتي وغفران زلّتي وإعادتي من كرامتك إلى مرتبتي).

فقال الله عزوجلّ: قد قبلت توبتك، وأقبلت برضواني عليك، وصرّفت آلائي ونعمائي إليك، وأعدتك إلى مرتبتك من كراماتي، ووفّرت نصيبك من رحماتي، فذلك قوله عزوجلّ: (فتلقّى آدم من ربّه كلمات فتاب عليه إنّه هو التواب الرحيم) ثمّ قال الله تعالي للذين أهبطهم - من آدم وحوّاء وإبليس والحيّة -: (ولكم في الأرض مستقرّ) مقام فيها تعيشون، وتحثّكم لياليها وأيّامها إلى السعي للآخرة، فطوبى لمن تزوّد فيها لدار البقاء (ومتاع إلى حين) لكم في الأرض منفعة إلى حين موتكم، لأنّ الله تعالى منها يخرج زروعكم وبها ينزّهكم وينعّمكم، وفيها أيضاً بالبلايا يمتحنكم، يلذّذكم بنعيم الدنيا تارة ليذكّركم نعيم الآخرة الخالص ممّا ينغّص نعيم الدنيا ويبطله ويزهّد فيه ويصغّره ويحقّره، ويمتحنكم تارة ببلايا الدنيا التي [قد] تكون في خلالها الرحمات، وفي تضاعيفها النعم التي تدفع عن المبتلى بها مكارهها ليحذّركم بذلك عذاب الأبد الذي لا يشوبه عافية، ولا يقع في تضاعيفه راحة ولا رحمة.

(فتلقّى آدم) قد فسّر (وقلنا اهبطوا) قد فسّر، ثمّ قال الله عزوجلّ: (والذين كفروا وكذّبوا بآياتنا) الدالاّت على صدق محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) على ما جاء به من أخبار القرون السالفة وعلى ما أدّاه إلى عباد الله من ذكر تفضيله لعليّ (عليه السلام) وآله الطيّبين خير الفاضلين والفاضلات بعد محمّد سيّد البريّات، (أولئك) الدافعون لصدق محمّد في أنبائه والمكذّبون له في نصبه لأوليائه عليّ سيد الأوصياء والمنتجبين من ذرّيته الطيبين الطاهرين (أصحاب النارهم فيها خالدون).

الأنبياء منزّهون(4):

روى سعد بن عبدالله، عن محمّد بن الحسن بن شمّون، عن داود بن القاسم الجعفري قال: سأل أبا محمّد (عليه السلام) عن قوله تعالى: (إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل)(5) والسائل رجل من أهل قم وأنا عنده حاضر. فقال أبو محمّد العسكري (عليه السلام):

ما سرق يوسف، إنّما كان ليعقوب (عليه السلام) منطقة ورثها من إبراهيم (عليه السلام) وكانت تلك المنطقة لا يسرقها أحد إلاّ استعبد، وكانت إذا سرقها إنسان نزل جبرئيل (عليه السلام) فأخبره بذلك فأخذت منه وأخذ عبداً، وإنّ المنطقة كانت عند سارة بنت إسحاق بن إبراهيم، وكانت سمّيت أمّ إسحاق، وإنّ سارة هذه أحبّت يوسف وأرادت أن تتّخذه ولداً لنفسها، وإنّها أخذت المنطقة فربطتها على وسطه، ثمّ سدلت عليه سرباله، ثمّ قالت ليعقوب: إنّ المنطقة قد سرقت، فأتاه جبرئيل (عليه السلام) فقال: يا يعقوب إنّ المنطقة مع يوسف، ولم يخبره بخبر ما صنعت سارة لما أراد الله، فقام يعقوب إلى يوسف ففتّشه - وهو يومئذٍ غلام يافع واستخرج المنطقة.

فقالت سارة ابنة إسحاق: منّي سرقها يوسف فأنا أحقّ به.

فقال لها يعقوب: فإنّه عبدك على أن لا تبيعيه ولا تهبيه.

قالت: فأنا أقبله على أن لا تأخذه منّي وأعتقه الساعة، فأعطاها إيّاه فأعتقته، فلذلك قال إخوة يوسف: (إن سرق فقد سرق آخ له من قبل).

قال أبو هاشم: فجعلت أجيل هذا في نفسي وافكّر فيه وأتعجّب من هذا الأمر مع قرب يعقوب من يوسف وحزن يعقوب عليه حتّى ابيضّت عيناه من الحزن والمسافة قريبة، فأقبل عليّ أبو محمّد (عليه السلام) فقال: يا أبا هاشم تعوّذ بالله ممّا جرى في نفسك من ذلك، فإنّ الله تعالى لو شاء أن يرفع الستائر بين يعقوب ويوسف حتّى كانا يتراءيان فعل، ولكن له أجل هو بالغه، ومعلوم ينتهي إليه كلّ ماكان من ذلك، فالخيار من الله لأوليائه.

النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وسورة الفاتحة(6):

إنّ الله خصّ بسورة الفاتحة محمّداً (صلى الله عليه وآله وسلم) وشرّفه [بها] ولم يشرك معه فيها أحداً من أنبيائه ما خلا سليمان (عليه السلام) فإنّه أعطاه منها (بسم الله الرحمن الرحيم) ألا ترى أنّه يحكى عن بلقيس حين قالت: (إنّي القي إليّ كتاب كريم إنّه من سليمان وإنّه بسم الله الرحمن الرحيم)(7).

النبيّ والمعجزة(8):

قلت لأبي عليّ بن محمّد (عليه السلام): كيف كانت هذه الأخبار في هذه الآيات التي ظهرت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بمكّة والمدينة؟

فقال: يا بنيّ استأنف لها النار.

فلمّا كان من غد قال: يا بنيّ أمّا الغمامة فإنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يسافر إلى الشام مضارباً لخديجة بنت خويلد، وكان من مكّة إلى بيت المقدس مسيرة شهر، فكانوا في حمّارة القيظ يصيبهم حرّ تلك البوادي، وربّما عصفت عليهم فيها الرياح، وسفت عليهم الرمال والتراب، وكان الله تعالى في تلك الأحوال يبعث لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) غمامة تظلّه فوق رأسه، تقف بوقوفه، وتزول بزواله، إن تقدّم تقدمت، وإن تأخّر تأخّرت، وإن تيامن تيامنت، وإن تياسر تياسرت، فكانت تكفّه عنه حرّ الشمس من فوقه وكانت تلك الرياح المثيرة لتلك الرمال والتراب تسفيها في وجوه قريش ووجوه رواحلهم حتّى إذا دنت من محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) هدأت وسكنت، ولم تحمل شيئاً من رمل ولا تراب، وهبّت عليه ريح باردة ليّنة، حتّى كانت قوافل قريش يقول قائلها: جوار محمّد أفضل من خيمة، فكانوا يلوذون به، ويتقرّبون إليه، فكان الروح يصيبهم بقربه، وإن كانت الغمامة مقصورة عليه وكان إذا اختلط بتلك القوافل غرباء فإذا الغمامة تسير في موضع بعيد منهم قالوا: إلى من قرنت هذه الغمامة فقد شرّف وكرّم، فيخاطبهم أهل القافلة: إنظروا إلى الغمامة تجدوا عليها اسم صاحبها، اسم صاحبه وصفيّه وشقيقه، فينظرون فيجدون مكتوباً عليها: لا إله إلاّ الله، محمّد رسول الله، أيّدته بعليّ سيّد الوصيين، وشرّفته بآله الموالين له ولعليّ وأوليائهما والمعادين لأعدائهما، فيقرأ ذلك ويفهمه من يحسن أن يكتب، ويقرء من لا يحسن ذلك.

قال عليّ بن محمّد (عليه السلام): وأمّا تسليم الجبال والصخور والأحجار عليه فإنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لمّا ترك التجارة إلى الشام، وتصدّق بكلّ ما رزقه الله تعالى من تلك التجارات كان يغدو كلّ يوم إلى حراء يصعده وينظر من قلله إلى آثار رحمة الله، وأنواع عجائب رحمته، وبدائع حكمته، وينظر إلى أكناف السماء وأقطار الأرض والبحار والمفاوز والفيافي، فيعتبر بتلك الآثار، ويتذكّر بتلك الآيات، ويعبد الله حقّ عبادته، فلمّا استكمل أربعين سنة [و] نظر الله عزّ وجلّ إلى قلبه فوجده أفضل القلوب وأجلّها وأطوعها وأخشعها وأخضعها أذن لأبواب السماء ففتحت، ومحمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) ينظر إليها، وأذن للملائكة فنزلوا ومحمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) ينظر إليهم، وأمر بالرحمة فأنزلت عليه من لدن ساق العرش إلى رأس محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) وغمرته، ونظر إلى جبرئيل الروح الأمين، المطوّق بالنور، طاووس الملائكة، هبط إليه وأخذ بضبعه وهزّه وقال يا محمّد: إقرأ.

قال: وما أقرأ؟

قال: يا محمّد (إقرأ باسم ربّك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * إقرأ وربّك الأكرم * الذي علّم بالقلم * علم الإنسان مالم يعلم).

ثمّ أوحى [إليه] ما أوحى إليه ربّه عزوجلّ، ثمّ صعد إلى علو ونزل محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) من الجبل وقد غشيه من تعظيم جلال الله، وورد عليه من كبير شأنه ما ركبه به الحمّى والنافض، يقول وقد اشتدّ عليه ما يخافه من تكذيب قريش في خبره ونسبتهم إيّاه إلى الجنون [وأنّه] يعتريه شيطان، وكان من أوّل أمره أعقل خلق الله وأكرم براياه وأبغض الأشياء إليه الشيطان وأفعال المجانين وأقوالهم، فأراد الله عزوجلّ أن يشرح صدره، ويشجع قلبه فأنطلق الجبال والصخور والمدر.

وكلّما وصل إلي شيء منها ناداه: [السلام عليك يا محمّد] السلام عليك يا وليّ الله، السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا حبيب الله، ابشر فإنّ الله عزوجلّ قد فضّلك وجمّلك وزينك وأكرمك فوق الخلائق أجمعين من الأوّلين والآخرين.

لا يحزنك قول قريش: إنّك لمجنون، وعن الدين مفتون، فإنّ الفاضل من فضّله [الله] ربّ العالمين، والكريم من كرّمه خالق الخلق أجمعين، فلا يضيقنّ صدرك من تكذيب قريش وعتاة العرب لك، فسوف يبلّغك ربّك أقصى منتهى الكرامات، ويرفعك إلى أرفع الدرجات وسوف ينعّم ويفرّح أولياءك بوصيّك عليّ بن أبي طالب (عليه السلام).

وسوف يبثّ علومك في العباد والبلاد، بمفتاحك وباب مدينة علمك عليّ بن أبي طالب (عليه السلام).

وسوف يقرّ عينك ببنتك فاطمة (عليها السلام)، وسوف يخرج منها ومن عليّ: الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنّة.

وسوف ينشر في البلاد دينك، وسوف يعظّم أجور المحبّين لك ولأخيك.

وسوف يضع في يدك لواء الحمد، فتضعه في يد أخيك عليّ، فيكون تحته كلّ نبيّ وصدّيق وشهيد، يكون قائدهم أجمعين إلى جنّات النعيم.

فقلت في سرّي: ياربّ من عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) الذي وعدتني به؟ - وذلك بعد ما ولد عليّ وهو طفل - أهو ولد عمي؟ وقال بعد ذلك لمّا تحرّك عليّ قليلاً وهو معه: أهو هذا؟

ففي كلّ مرّة من ذلك أنزل عليه ميزان الجلال، فجعل محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) في كفّة منه ومثّل له عليّ (عليه السلام) وسائر الخلق من أمّته إلى يوم القيامة [في كفّة] فوزن بهم فرجح، ثمّ أخرج محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) من الكفّة وترك عليّ (عليه السلام) في كفّة محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) التي كان فيها، فوزن بسائر أمّته فرجح بهم، فعرفه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعينه وصفته، ونودي في سرّه: يا محمّد هذا عليّ بن أبي طالب صفيّي الذي أؤيّد به هذا الدين، يرجح على جميع أمّتك بعدك..

قال علي بن محمّد (عليه السلام): وأمّا دعاؤه (صلى الله عليه وآله وسلم) الشجرة فإنّ رجلاً من ثقيف كان أطبّ الناس يقال له: الحارث بن كلدة الثقفي، جاء إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا محمّد جئت لأداويك من جنونك، فقد داويت مجانين كثيرة فشفوا على يدي.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا حارث أنت تفعل أفعال المجانين، وتنسبني إلى الجنون؟

قال الحارث: وماذا فعلته من أفعال المجانين؟

قال (صلى الله عليه وآله وسلم): نسبتك إيّاي إلى الجنون من غير محنة منك ولا تجربة ولا نظر في صدقي أو كذبي.

فقال الحارث: أوليس قد عرفت كذبك وجنونك بدعواك النبوّة التي لا تقدر لها.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): وقولك لا تقدر لها فعل المجانين، لأنّك لم تقل: لم قلت كذا؟ ولا طالبتني بحجّة فعجزت عنها.

فقال الحارث: صدقت أنا أمتحن أمرك بآية أطالبك بها، إن كنت نبيّاً فادع تلك الشجرة – وأشار لشجرة عظيمة بعيد عمقها – فإن أتتك علمت أنّك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وشهدت لك بذلك، وإلاّ فأنت ذلك المجنون الذي قيل لي.

فرفع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يده إلى تلك الشجرة، وأشار إليها أن تعالي.

فانفلعت تلك الشجرة بأصولها وعروقها، وجعلت تخدّ في الأرض اخدوداً عظيماً كالنهر حتّى دنت من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فوقفت بين يديه، ونادت بصوت فصيح: ها أنا ذا يا رسول الله ما تأمرني؟

فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): دعوتك لتشهدي لي بالنبوّة بعد شهادتك لله بالتوحيد، ثمّ تشهدي [بعد شهادتك لي] لعليّ (عليه السلام) هذا بالإمامة، وأنّه سندي وظهري وعضدي وفخري [وعزّي] ولولاه ما خلق الله عزّ وجلّ شيئاً ممّا خلق.

فنادت: أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّك يا محمّد عبده ورسوله، أرسلك بالحقّ بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، وأشهد أنّ عليّاً ابن عمّك هو أخوك في دينك، وأوفر خلق الله من الدين حظّاً، وأجزلهم من الإسلام نصيباً، وأنّه سندك وظهرك وقامع أعدائك وناصر أوليائك وباب علومك في أمّتك، وأشهد أنّ أولياءك الذين يوالونه ويعادون أعداءه حشو الجنّة وأنّ أعداءك الذين يوالون أعداءه ويعادون أولياءه حشو النار.

فنظر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الحارث بن كلدة فقال: يا حارث أو مجنوناً يعدّ من هذه آياته؟

فقال الحارث بن كلدة: لا والله يا رسول الله، ولكنّي أشهد أنّك رسول ربّ العالمين، وسيّد الخلق أجمعين، وحسن إسلامه.

وأمّا كلام الذراع المسمومة فإنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما رجع من خيبر إلى المدينة وقد فتح الله له جائته امرأة من اليهود قد أظهرت الإيمان ومعها ذراع مسمومة مشويّة فوضعتها بين يديه، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما هذه؟

قالت له: بأبي أنت وأمّي يا رسول الله همّني أمرك في خروجك إلى خيبر، فإنّي علمتهم رجالاً جلداً وهذا حمل كان لي ربيبة أعدّه كالولد لي، وعلمت أنّ أحبّ الطعام إليك الشواء، وأحبّ الشواء إليك الذراع، ونذرت لله لئن [سلّمك الله منهم لأذبحنّه ولأطعمنّك من شوائة ذراعيه، والآن فقد] سلّمك الله منهم وأظفرك بهم، فجئت بهذا لأفي نذري.

وكان مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) البراء بن معرور وعليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إيتوني بالخبز، فأتي به فمدّ البراء بن المعرور يده وأخذ منه لقمة فوضعها في فيه، فقال له عليّ بن أبي طالب (عليه السلام): يا براء لا تتقدّم على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

فقال البراء - وكان أعرابيّاً -: يا عليّ كأنّك تبخّل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟!

فقال عليّ عليه السلام: ما أبخّل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكنّي أبجّله وأوقّره ليس لي ولا لك ولا لأحد من خلق الله أن يتقدّم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بقول ولا فعل ولا أكل ولا شرب.

فقال البراء: ما أبخّل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):

قال عليّ (عليه السلام): ما لذلك قلت، ولكن هذا جاءت به هذه وكانت يهوديّة، ولسنا نعرف حالها، فإذا أكلته بأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو الضمان لسلامتك منه، وإذا أكلته بغير إذنه وكّلت إلى نفسك، يقول عليّ هذا والبراء يلوك اللقمة، إذ أنطق الله الذراع فقالت: يا رسول الله لا تأكلني فإنّي مسمومة، وسقط البراء في سكرات الموت ولم يرفع إلاّ ميّتاً.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إيتوني بالمرأة فأتي بها، فقال لها: ما حملك على ما صنعت؟

فقالت: وترتني وتراً عظيماً، قتلت أبي وعمّي وزوجي وأخي وابني، ففعلت هذا وقلت: إن كان ملكاً فسأنتقم منه، وإن كان نبيّاً كما يقول وقد وعد فتح مكّة والنصر والظفر فسيمنعه الله منه ويحفظه ولن يضرّه.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أيّتها المرأة لقد صدقت، ثمّ قال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا يغرّك موت البراء فإنّما امتحنه الله لتقدّمه بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولو كان بأمر رسول الله أكل منه لكفي شرّه وسمّه.

ثمّ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ادع لي فلاناً وفلاناً، وذكر قوماً من خيار أصحابه منهم سلمان والمقداد وأبوذر وعمّار وصهيب وبلال وقوم من سائر الصحابة تمام عشرة وعليّ (عليه السلام) حاضر معهم، فقال: أقعدوا وتحلّقوا عليه.

فوضع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يده على الذراع المسمومة ونفث عليه، وقال: (بسم الله الرحمن الرحيم بسم الله الشافي، بسم الله الكافي، بسم الله المعافي، بسم الله الذي لا يضرّ مع اسمه شيء ولا داء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم).

ثمّ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): كلوا على اسم الله، فأكل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأكلوا حتّى شبعوا، ثمّ شربوا عليه الماء، ثمّ أمر بها فحبست، فلمّا كان اليوم الثاني جيء بها فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): أليس هؤلاء أكلوا ذلك السمّ بحضرتك؟ فكيف رأيت دفع الله عن نبيّه وصحابته؟

فقالت: يا رسول الله كنت إلى الآن في نبوّتك شاكّة، والآن فقد أيقنت أنّك رسول الله حقّاً، فأنا أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأنّك عبده ورسوله حقّاً، وحسن إسلامها.

قال عليّ بن الحسين (عليه السلام): ولقد حدّثني أبي، عن جدّي أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لمّا حملت إليه جنازة البراء بن معرور ليصلّي عليه قال: أين عليّ بن أبي طالب؟

قالوا: يا رسول الله إنّه ذهب في حاجة رجل من المسلمين إلى قبا. فجلس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يصلّ عليه، فقالوا: يا رسول الله مالك لا تصلّي عليه؟

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إنّ الله عزوجلّ أمرني أن أؤخّر الصلاة عليه إلى أن يحضر[ه] عليّ فيجعله في حلّ ممّا كلّمه به بحضرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ليجعل الله موته بهذا السمّ كفّارة له.

فقال بعض من كان حضر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وشاهد الكلام الذي تكلّم به البراء: يا رسول الله إنّما كان مزحاً مازح به عليّاً، لم يكن منه جدّاً فيؤاخذه الله عزوجلّ بذلك.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لوكان ذلك منه جدّاً لأحبط الله تعالى أعماله كلّها، ولوكان تصدّق بملأ ما بين الثرى إلى العرش ذهباً وفضّة، ولكنّه كان مزحاً وهو في حلّ من ذلك إلاّ أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يريد أن لا يعتقد أحد منكم أنّ عليّاً (عليه السلام) واجد عليه فيجدّد بحضرتكم إحلاله، ويستغفر له ليزيده الله عزوجلّ بذلك قربة ورفعة في جنانه.

فلم يلبث أن حضر عليّ [بن أبي طالب] (عليه السلام)، فوقف قبالة الجنازة وقال: رحمك الله يا براء، فلقد كنت صوّاماً [قوّاماً] ولقد متّ في سبيل الله.

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ولوكان أحد من الموتى يستغني عن صلاة رسول الله لاستغنى صاحبكم هذا بدعاء عليّ (عليه السلام) له، ثمّ قام فصلّى عليه ودفن.

فلمّا انصرف وقعد في العزاء قال: أنتم يا أولياء البراء بالتهنئة أولى منكم بالتعزية، لأنّ صاحبكم عقد له في الحجب قباب من السماء الدنيا إلى السماء السابعة، وبالحجب كلّها إلى الكرسيّ إلى ساق العرش لروحه التي عرج بها فيها، ثمّ ذهب بها إلى روض الجنان، تلقّاها كلّ من كان فيها من خزّانها، واطّلع عليه كلّ من كان فيها من حور حسانها وقالوا بأجمعهم له: طوباك [طوباك] يا روح البراء، انتظر عليك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عليّاً (عليه السلام) حتّى ترحّم عليك عليّ واستغفر لك، أما إنّ حملة عرش ربّنا حدّثونا عن ربّنا أنّه قال: يا عبدي الميّت في سبيلي ولو كان عليك من الذنوب بعدد الحصى والثرى وقطر المطر وورق الشجر وعدد شعور الحيوانات ولحظاتهم وأنفاسهم وحركاتهم وسكناتهم لكانت مغفورة بدعاء عليّ (عليه السلام) لك.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): فتعرّضوا يا عباد الله لدعاء عليّ لكم، ولا تتعرّضوا لدعاء عليّ عليكم، فإنّ من دعا عليه أهلكه الله، ولو كانت حسناته عدد ما خلق الله، كما أنّ من دعا له أسعده الله، ولو كانت سيّئاته بعدد ما خلق الله.

وأمّا كلام الذئب له: فإنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان جالساً ذات يوم إذ جاءه راع ترتعد فرائصه قد استفزعه العجب، فلمّا رآه [رسول الله (صلىالله عليه وآله وسلم)] من بعيد قال لأصحابه: إنّ لصاحبكم هذا شأناً عجيباً.

فلمّا وقف قال له رسول الله)صلى الله عليه وآله وسلم(: حدّثنا بما أزعجك.

قال الراعي: يا رسول الله أمر عجيب، كنت في غنمي إذ جاء ذئب فحمل حملاً فرميته بمقلاعي فانتزعته منه، ثمّ جاء إلى الجانب الأيمن فتناول منه حملاً فرميته بمقلاعي فانتزعته منه [ثمّ جاء إلى الجانب الأيسر فتناول حملاً فرميته بمقلاعي فانتزعته ثمّ جاء الى الجانب الآخر فتناول حملاً فرميته بمقلاعي فانتزعته منه] ثمّ جاء الخامسة هو وأنثاه يريد أن يتناول حملاً فأردت أن أرميه فأقعى على ذنبه وقال: أما تستحيي أن تحول بيني وبين رزق قد قسّمه الله تعالى لي، أفما أحتاج أنا إلى غذاء أتغذّى به؟

فقلت: ما أعجب هذا ذئب أعجم يكلّمني بكلام الآدميين.

فقال لي الذئب: ألا أنبّئك بما هو أعجب من كلامي لك؟ محمّد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رسول ربّ العالمين بين الحرّتين، يحدّث الناس بأنباء ما قد سبق من الأوّلين وما لم يأت من الآخرين، ثمّ اليهود مع علمهم بصدقه ووجودهم له في كتب ربّ العالمين بأنّه أصدق الصادقين وأفضل الفاضلين يكذّبونه ويجحدونه وهو بين الحرّتين، وهو الشفاء النافع، ويحك يا راعي آمن به تأمن من عذاب الله، وأسلم له تسلم من سوء العذاب الأليم.

فقلت له: والله لقد عجبت من كلامك، واستحييت من منعي لك ما تعاطيت أكله فدونك غنمي، فكل منها ما شئت لا أدافعك [ولا أمنعك].

فقال لي الذئب: يا عبدالله احمد الله إذ كنت ممّن يعتبر بآيات الله، وينقاد لأمره، لكنّ الشقّي كلّ الشقيّ من يشاهد آيات محمّد في أخيه عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وما يؤدّيه عن الله عزوجلّ من فضائله وما يراه من وفور حظّه من العلم الذي لا نظير له فيه، والزهد الذي لا يحاذيه أحد فيه، والشجاعة التي لا عدل له فيها ونصرته للإسلام التي لا حظّ لأحد فيها مثل حظّه، ثمّ يرى مع ذلك كلّه رسول الله يأمره بموالاته وموالات أوليائه والتبرّي من أعدائه ويخبر أنّ الله تعالى لا يتقبّل من أحد عملاً وإن جلّ وعظم ممّن يخالفه، ثمّ هو مع ذلك يخالفه، ويدفعه عن حقّه ويظلمه، ويوالي أعداءه، ويعادي أولياءه إنّ هذا لأعجب من منعك إيّاي.

قال الراعي: فقلت له: أيّها الذئب وكائن هذا؟

قال: بلى وما هو أعظم منه، سوف يقتلونه باطلاً، ويقتلون أولاده ويسبون حرمه، وهم مع ذلك يزعمون أنّهم مسلمون فدعواهم أنّهم على دين الإسلام مع صنيعهم هذا بسادة أهل الإسلام أعجب من منعك لي لا جرم أنّ الله تعالى قد جعلنا معاشر الذئاب – أنا ونظرائي من المؤمنين – نمزّقهم في النيران يوم فصل القضاء، وجعل في تعذيبهم شهواتنا، وفي شدائد آلامهم لذّاتنا.

قال الراعي فقلت: والله لولا هذه الغنم بعضها لي وبعضها أمانة في رقبتي لقصدت محمّداً حتّى أراه.

فقال لي الذئب: يا عبدالله إمض إلى محمّد، واترك عليّ غنمك لأرعاها لك.

فقلت: كيف أثق بأمانتك؟

فقال لي: يا عبدالله إنّ الذي أنطقني بما سمعت هو الذي يجعلني قويّاً أميناً عليها، أولست مؤمناً بمحمّد، مسلّماً له ما أخبر به عن الله تعالى في أخيه عليّ (عليه السلام)؟ فامض لشأنك فإنّي راعيك، والله عز وجلّ ثمّ ملائكته المقرّبون رعاة لي، إذ كنت خادماً لوليّ عليّ، فتركت غنمي على الذئب والذئبة وجئتك يا رسول الله.

فنظر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في وجوه القوم، وفيها ما يتهلّل سروراً به وتصديقاً، وفيها ما تعبّس شكّاً فيه وتكذيباً ويسرّ المنافقون إلى أمثالهم: هذا قد واطأه محمّد على هذا الحديث ليختدع به الضعفاء الجهّال.

فتبسّم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: لئن شككتم أنتم فيه فقد تيقّنته أنا وصاحبي الكائن معي في أشرف المحال من عرش الملك الجبّار، المطوّف به معي في أنهار الحيوان من دار القرار، والذي هو تلوي في قيادة الأخيار، والمتردّد معي في الأصلاب الزاكيات المتقلّب معي في الأرحام الطاهرات والراكض معي في مسالك الفضل، والذي كسي ما كسيته من العلم والحلم والعقل، وشقيقي الذي انفصل منّي عن الخروج إلى صلب عبد الله وصلب أبي طالب، وعديلي في اقتناء المحامد والمناقب عليّ بن أبي طالب (عليه السلام).

آمنت به أنا والصدّيق الأكبر، وساقي أوليائي من نهر الكوثر.

آمنت به أنا والفاروق الأعظم، وناصر أوليائي السيّد الأكرم، آمنت به أنا ومن جعله الله محنة لأولاد الغيّ و[رحمة لأولاد] الرشد، وجعله للموالين له أفضل العدة.

آمنت به أنا ومن جعله الله لديني قواماً، ولعلومي علاّماً، وفي الحروب مقداماً، وعلى أعدائي ضرغاماً، أسداً قمقاماً.

آمنت به أنا ومن سبق الناس إلىالإيمان فتقدّمهم إلى رضا الرحمن، وتفرّد دونهم بقمع أهل الطغيان، وقطع بحججه وواضح بيانه معاذير أهل البهتان.

آمنت به أنا وعليّ بن أبي طالب الذي جعله الله لي سمعاً وبصراً، ويداً ومؤيّداً، وسنداً وعضداً، لا أبالي بمن خالفني إذا وافقني، ولا أحفل بمن خذلني إذا وازرني، ولا أكثرت بمن ازورّ عنّي إذا ساعدني.

آمنت به أنا ومن زيّن الله به الجنان وبمحبّيه، وملأ طبقات النيران بمبغضيه وشانئيه، ولم يجعل أحداً من أمّتي يكافيه ولا يدانيه، لم يضرّني عبوس المتعبسين منكم إذا تهلّل وجهه، ولا إعراض المعرضين منكم إذا خلص لي ودّه، ذاك عليّ بن أبي طالب، الّذي لو كفر الخلق كلّهم من أهل السماوات والأرضين لنصر الله عزّوجلّ به وحده هذا الدين، والذي لو عاداه الخلق كلّهم لبرز إليهم أجمعين، باذلاً روحه في نصرة كلمة الله ربّ العالمين، وتسفيل كلمات إبليس اللعين.

ثم قال (صلى الله عليه وآله وسلم): هذا الراعي لم يبعد شاهده فهلمّوا بنا إلى قطيعه ننظر إلى الذئبين، فإن كلّمانا ووجدناهما يرعيان غنمه، وإلاّ كنّا على رأس أمرنا.

فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومعه جماعة كثيرة من المهاجرين والأنصار، فلمّا رأوا القطيع من بعيد قال الراعي: ذاك قطيعي.

فقال المنافقون: فأين الذئبان؟

فلمّا قربوا رأوا الذئبين يطوفان حول الغنم يردّان عنها كلّ شيء يفسدها.

فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أتحبّون أن تعلموا أنّ الذئب ما عنى غيري بكلامه؟

قالوا: بلى يا رسول الله.

قال: أحيطوا بي حتّى لا يراني الذئبان، فأحاطوا به (صلى الله عليه وآله وسلم).

فقال للراعي: ياراعي قل للذئب: من محمد الّذي ذكرته من بين هؤلاء؟

[فقال الراعي للذئب ما قاله رسول لله (صلى الله عليه وآله وسلم)] قال: فجاء الذئب إلى واحد منهم وتنحّى عنه.

ثم جاء إلى آخر وتنحّى عنه، فما زال حتّى دخل وسطهم فوصل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هو وأنثاه، وقالا: السلام عليك يا رسول ربّ العالمين، وسيّد الخلق أجمعين، ووضعا خدودهما على التراب ومرّغاها بين يديه، وقالا: نحن كنّا دعاة إليك بعثنا إليك هذا الراعي وأخبرناه بخبرك.

فنظر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المنافقين معه فقال: ما للكافرين عن هذا محيص، ولا للمنافقين عن هذا موئل ولا معدل.

ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): هذه واحدة، قد علمتم صدق الراعي فيها، أفتحبّون أن تعلموا صدقه في الثانية؟

قالوا: بلى يا رسول الله.

قال: أحيطوا بعليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، ففعلوا ثمّ نادى رسول الله: أيّها الذئبان انّ هذا محمد، قد أشرتما للقوم إليه و عيّنتما عليه، فأشيرا وعيّنا عليّ بن أبي طالب الّذي ذكرتماه بما ذكرتماه.

قال: فجاء الذئبان وتخلّلا القوم وجعلا يتأمّلان الوجوه والأقدام، وكلّ من تأملاه أعرضا عنه حتّى بلغا عليّاً (عليه السلام) فلمّا تأمّلاه مرّغا في التراب أبدانهما، ووضعا [على الأرض] بين يديه خدودهما، وقالا:

السلام عليك يا حليف الندى، ومعدن النهى، ومحلّ الحجى، وعالماً بما في الصحف الأولى، ووصيّ المصطفى.

السلام عليك يا من أسعد الله به محبّيه، وأشقى بعداوته شانئيه، وجعله سيّد آل محمد وذويه.

السلام عليك يا من لو أحبّه أهل الأرض كما يحبّه أهل السماء، لصاروا خيار الأصفياء، ويا من لو أحسّ بأقلّ قليل [من بغضه] من أنفق في سبيل الله ما بين العرش إلى الثرى، لا نقلب بأعظم الخزي والمقت من العليّ الأعلى.

قال: فعجب أصحاب رسول الله الذين كانوا معه، وقالوا: يا رسول الله ما ظنّنا أنّ لعليّ هذا المحلّ من السباع مع محلّه منك.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): فكيف لو رأيتم محلّه من سائر الحيوانات المبثوثات في البرّ والبحر وفي السماوات والأرض، والحجب والعرش والكرسيّ، والله لقد رايت من تواضع أملاك سدرة المنتهى لمثال عليّ المنصوب بحضرتهم – ليشيعوا بالنظر إليه بدلاً من النظر إلى عليّ كلّما اشتاقوا إليه – ما يصغر في جنبه تواضع هذين الذئبين، وكيف لا يتواضع الأملاك وغيرهم من العقلاء لعليّ (عليه السلام) وهذا ربّ العزّة قد آلى على نفسه قسماً حقّاً لا يتواضع أحد لعليّ (عليه السلام) قدرة شعرة إلاّ رفعه الله في علوّ الجنان مسيرة مأة ألف سنة، وإنّ التواضع الذي تشاهدونه يسير قليل في جنب هذه الجلالة والرفعة اللتين عنهما تخبرون.

وأمّا حنين العود إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يخطب بالمدينة إلى جذع نخلة في صحن مسجدها، فقال له بعض أصحابه: يا رسول الله إنّ الناس قد كثروا، وإنّهم يحبّون النظر إليك إذا خطبت، فلو أذنت في أن نعمل لك منبراً له مراق ترقاها فيراك الناس إذا خطبت، فأذن في ذلك.

فلمّا كان يوم الجمعة مرّ بالجذع فتجاوزه إلى المنبر فصعده، فلمّا استوى عليه حنّ إليه ذلك الجذع حنين الثكلى، وأنّ أثنين الحبلى، فارتفع بكاء الناس وحنينهم وأنينهم، وارتفع حنين الجذع وأنينه في حنين الناس وأنينهم ارتفاعاً بيّناً.

فلمّا رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك نزل عن المنبر وأتى الجذع فاحتضنه ومسح عليه يده وقال: اسكن فما تجاوزك رسول الله تهاوناً بك، ولا استخفافاً بحرمتك، ولكن ليتمّ لعباد الله مصلحتهم، ولك جلالك وفضلك إذ كنت مستند محمّد رسول الله، فهدأ حنينه وأنينه، وعاد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى منبره، ثمّ قال: معاشر المسلمين هذا الجذع يحنّ إلى رسول ربّ العالمين، ويحزن لبعده عنه، وفي عباد الله - الظالمين أنفسهم - من لا يبالي قرب من رسول الله أو بعد، ولولا أنّي ما احتضنت هذا الجذع، ومسحت يدي عليه ما هدأ حنينه [وأنينه] إلى يوم القيامة، وإنّ من عباد الله وإمائه لمن يحنّ إلى محمّد رسول الله وإلى عليّ وليّ الله كحنين هذا الجذع، وحسب المؤمن أن يكون قلبه على موالاة محمّد وعليّ وآلهما الطيبين [الطاهرين] منطوياً، أرايتم شدّة حنين هذا الجذع إلى محمّد رسول الله؟ وكيف هدأ لمّا احتضنه محمّد رسول الله ومسح يده عليه؟

قالوا: بلى يا رسول الله.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): والذي بعثني بالحقّ نبيّاً، إنّ حنين خزّان الجنان وحور عينها وسائر قصورها ومنازلها إلى من يتولّى محمّداً وعليّاً وآلهما الطيبين ويبرأ من أعدائهما لأشدّ من حنين هذا الجذع الذي رأيتموه إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وإنّ الذي يسكّن حنينهم وأنينهم ما يرد عليهم من صلاة أحدكم - معاشر شيعتنا - على محمّد وآله الطيبين، أو صلاته لله نافلة، أو صوم أو صدقة، وإنّ من عظيم ما يسكّن حنينهم إلى شيعة محمّد وعليّ ما يتّصل بهم من إحسانهم إلى إخوانهم المؤمنين، ومعونتهم لهم على دهرهم، يقول أهل الجنان بعضهم لبعض: لا تستعجلوا صاحبكم، فما يبطىء عنكم إلاّ للزيادة في الدرجات العاليات في هذه الجنان بإسداء المعروف إلى إخوانه المؤمنين، وأعظم من ذلك – ممّا يسكّن حنين سكّان الجنان وحورها إلى شيعتنا – ما يعرّفهم الله من صبر شيعتنا على التقيّة واستعمالهم التورية ليسلموا بها من كفرة عباد الله وفسقتهم، فحينئذ تقول خزّان الجنان وحورها: لنصبرنّ على شوقنا إليهم وحنيننا، كما يصبرون على سماع المكروه في ساداتهم وأئمّتهم، وكما يتجرّعون الغيظ، ويسكتون عن إظهار الحقّ لما يشاهدون من ظلم من لا يقدرون على دفع مضرّته، فعند ذلك يناديهم ربّنا عزوجلّ: يا سكّان جناني ويا خزّان رحمتي ما لبخل أخّرت عنكم أزواجكم وساداتكم، ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتي بمواساتهم إخوانهم المؤمنين والأخذ بأيدي الملهوفين، والتنفيس عن المكروبين، وبالصبر على التقيّة من الفاسقين والكافرين، حتّى إذا استكملوا أجزل كراماتي نقلتهم إليكم على أسرّ الأحوال وأغبطها فأبشروا، فعند ذلك يسكن حنينهم وأنينهم.

النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ونفاق اليهود(9):

لمّا نزلت هذه الآية: (ثمّ قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشدّ قسوة)(10) في حقّ اليهود والنواصب فقالوا: يا محمّد زعمت أنّه ما في قلوبنا شيء من مواساة الفقراء، ومعاونة الضعفاء والنفقة في إبطال الباطل، وإحقاق الحقّ، وأنّ الأحجار ألين من قلوبنا، وأطوع لله منّا، وهذه الجبال بحضرتنا فهلّم بنا إلى بعضها فاستشهده على تصديقك وتكذيبنا، فإن نطق بتصديقك فأنت المحق، يلزمنا أتباعك، وإن نطق بتكذيبك أو صمت فلم يردّ جوابك فاعلم بأنك المبطل في دعواك، المعاند لهواك.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): نعم هلمّوا بنا إلى أيّها شئتم فاستشهده ليشهد لي عليكم.

فخرجوا إلى أوعر جبل رأوه، فقالوا: يا محمّد هذا الجبل فاستشهده.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للجبل: إنّي أسألك بجاه محمّد وآله الطيبين الذين بذكر أسمائهم خفّف الله العرش على كواهل ثمانية من الملائكة بعد أن لم يقدروا على تحريكه وهم خلق كثير لا يعرف عددهم غير الله عزّ وجلّ، بحقّ محمّد وآله الطيبين الذين بذكر أسمائهم تاب الله على آدم (عليه السلام) وغفر خطيئته وأعاده إلى مرتبته، وبحقّ محمّد وآله الطيبين الذين بذكر أسمائهم وسؤال الله بهم رفع إدريس (عليه السلام) في الجنّة مكاناً عليّاً، لمّا شهدت لمحمّد بما أودعك الله بتصديقه على هؤلاء اليهود في ذكر قساوة قلوبهم وتكذيبهم وجحدهم لقول محمّد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

فتحرّك الجبل وتزلزل وفاض منه الماء ونادى: يا محمّد أشهد أنّك رسول ربّ العالمين، وسيّد الخلائق أجمعين، وأشهد أنّ قلوب هؤلاء اليهود كما وصفت أقسى من الحجارة، لا يخرج منها خير، كما قد يخرج من الحجارة الماء سيلاً أو تفجيراً، وأشهد أن هؤلاء كاذبون عليك فيما به يقرفونك من الفرية على ربّ العالمين.

ثمّ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): وأسألك أيّها الجبل، أمرك الله تعالى بطاعتي فيما ألتمسه منك بجاه محمّد وآله الطيبين الذين بهم نجى الله تعالى نوحاً (عليه السلام) من الكرب العظيم، وبردّ الله النار على إبراهيم (عليه السلام) وجعلها عليه سلاماً، ومكّنه في جوف النار على سرير وفراش وثير، لم ير ذلك الطاغية مثله لأحد من ملوك الأرض أجمعين، وأنبت حواليه من الأشجار الخضرة النضرة النزهة، وغمر ما حوله من أنواع المنثور بما لا يوجد إلاّ في فصول أربعة من جميع السنة؟

قال الجبل: بلى، أشهد لك يا محمّد بذلك وأشهد أنّك لو اقترحت على ربّك أن يجعل رجال الدنيا قردة وخنازير لفعل، أو يجعلهم ملائكة فعل، وأن يقلّب النيران جليداً والجليد نيراناً لفعل أو يهبط السماء إلى الأرض أو يرفع الأرض إلى السماء لفعل، أو يصيّر أطراف المشارق والمغارب والوهاد كلّها صرّة كصرّة الكيس لفعل، وأنّه قد جعل الأرض والسماء طوعك، والجبال والبحار تنصرف بأمرك وسائر ما خلق الله من الرياح والصواعق وجوارح الإنسان وأعضاء الحيوان لك مطيعة، وما أمرتها به من شيء ائتمرت.

فقال اليهود: يا محمّد أعلينا تلبّس وتشبّه؟ قد أجلست مردة من أصحابك خلف صخور هذا الجبل، فهم ينطقون بهذا الكلام، ونحن لا ندري أنسمع من الرجال أم من الجبل، لا يغترّ بمثل هذا إلاّ ضعفاؤك الذين تبحبح في عقولهم، فإن كنت صادقاً فتنحّ عن موضعك هذا إلى ذلك القرار، وأمر هذا الجبل أن ينقلع من أصله فيسير إليك إلى هناك، فإذا حضرك ونحن نشاهده فأمره أن ينقطع نصفين من ارتفاع سمكه، ثمّ ترتفع السفلى من قطعته فوق العليا، وتنخفض العليا تحت السفلى، فإذا أصل الجبل قلّته وقلّته أصله لنعلم أنّه من الله، لا يتّفق بمواطأة ولا بمعاونة مموّهين متمرّدين.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأشار إلى حجر فيه قدر خمسة أرطال - يا أيّها الحجر تدحرج، فتدحرج، ثمّ قال لمخاطبه: خذه وقرّبه من أذنك فسيعيد عليك ما سمعت، فإنّ هذا جزء من ذلك الجبل، فأخذه الرجل فأدناه إلى أذنه فنطق به الحجر بمثل ما نطق به الجبل أوّلاً من تصديق رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم) فيما ذكره عن قلوب اليهود وفيما أخبر به من أنّ نفقاتهم في دفع أمر محمّد باطل ووبال عليهم.

فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أسمعت هذا؟ أخلف هذا الحجر أحد يكلّمك ويوهمك أنّه الحجر يكلّمك؟

قال: لا، فأتني بما اقترحت في الجبل.

فتباعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى فضاء واسع، ثمّ نادى الجبل: يا أيّها الجبل بحقّ محمّد وآله الطيبين الذين بجاههم ومسألة عباد الله بهم أرسل الله على قوم عاد ريحاً صرصراً عاتية، تنزع الناس كأنّهم أعجاز نخل خاوية، وأمر جبرئيل أن يصيح صيحة [هائلة] في قوم صالح (عليه السلام) حتّى صاروا كهشيم المحتظر، لمّا انقلعت من مكانك بإذن الله، وجئت إلى حضرتي هذه - ووضع يده على الأرض بين يديه - [قال:] فتزلزل الجبل وسار كالقارح الهملاج حتّى [صار بين يديه و] دنا من إصبعه أصله فلزق بها، ووقف ونادى: ها أنا سامع لك مطيع يا رسول ربّ العالمين، وإن رغمت أنوف هؤلاء المعاندين، مرني بأمرك يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إنّ هؤلاء [المعاندين] اقترحوا عليّ أن آمرك أن تنقلع من أصلك فتصير نصفين، ثمّ ينحطّ أعلاك، ويرتفع أسفلك، فتصير ذروتك أصلك واصلك ذروتك.

فقال الجبل: أفتأ مرني بذلك يا رسول ربّ العالمين؟

قال: بلى.

فانقطع [الجبل] نصفين وانحطّ أعلاه إلى الأرض وارتفع أسفله فوق أعلاه، فصار فرعه أصله، وأصله فرعه.

ثمّ نادى الجبل: معاشر اليهود هذا الذي ترون دون معجزات موسى الذي تزعمون أنّكم به مؤمنون.

فنظر اليهود بعضهم إلى بعض فقال بعضهم: ما عن هذا محيص، وقال آخرون منهم: هذا رجل مبخوت يؤتي له والمبخوت يتأتّى له العجائب فلا يغرّنكم ما تشاهدون[منه].

فناداهم الجبل: يا أعداء الله قد أبطلتم بما تقولون نبوّة موسى (عليه السلام)، هلاّ قلتم لموسى: إنّ قلب العصا ثعباناً وانفلاق البحر طرقاً، ووقوف الجبل كالظلّة فوقكم إنّك يؤتى لك، يأتيك جدّك بالعجائب فلا يغرّنا ما نشاهده منك، فألقمتهم الجبال – بمقالتها - الصخور، ولزمتهم حجّة ربّ العالمين.

قوله عزّ وجلّ: (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثمّ يحرّفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون* وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنّا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدّثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجّوكم به عند ربّكم أفلا تعقلون* أو لا يعلمون أنّ الله يعلم ما يسرّون وما يعلنون)(11).

قال الإمام (عليه السلام): فلمّا بهر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هؤلاء اليهود بمعجزته، وقطع معاذيرهم بواضح دلالته، لم يمكنهم مراجعته في حجّته، ولا إدخال التلبيس عليه في معجزته فقالوا: يا محمّد قد آمنّا بأنّك الرسول الهادي المهدي، وأنّ عليّاً أخاك هو الوليّ والوصيّ وكانوا إذا خلوا باليهود الآخرين يقولون لهم: إنّ إظهارنا له الإيمان به أمكن لنا من مكروهه، وأعون لنا على اصطلامه واصطلام أصحابه، لأنّهم عند اعتقادهم أنّنا معهم يقفوننا على أسرارهم، ولا يكتموننا شيئاً فنطّلع عليهم أعداءهم فيقصدون أذاهم بمعاونتنا ومظاهرتنا في أوقات اشتغالهم واضطرابهم، وفي أحوال تعذّر المدافعة والإمتناع من الأعداء عليهم، وكانوا مع ذلك ينكرون على سائر اليهود أخبار الناس عمّا كانوا يشاهدونه من آياته، ويعاينونه من معجزاته.

فأظهر الله تعالى محمّداً رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) على سوء اعتقاداتهم وقبح دخلاتهم، وعلى إنكارهم على من اعترف بما شاهده من آيات محمّد وواضح بيّناته وباهر معجزاته فقال عزوجلّ: يا محمّد (أفتطمعون) أنت وأصحابك من عليّ وآله الطيبين (أن يؤمنوا لكم) هؤلاء اليهود الذين هم بحجج الله قد بهرتموهم، وبآيات الله ودلائله الواضحة قد قهرتموهم، أن يؤمنوا لكم ويصدّقوكم بقلوبهم ويبدوا في الخلوات لشياطينهم شريف أحوالكم (وقد كان فريق منهم) يعني من هؤلاء اليهود من بني إسرائيل (يسمعون كلام الله) في أصل جبل طور سيناء وأوامره ونواهيه (ثمّ يحرّفونه) عمّا سمعوه إذا أدّوه إلى من ورائهم من سائر بني إسرائيل (من بعد ما عقلوه) وعلموا أنّهم فيما يقولونه كاذبون، (وهم يعلمون) أنّهم في قيلهم كاذبون، وذلك أنّهم لمّا صاروا مع موسى (عليه السلام) إلى الجبل فسمعوا كلام الله، ووقفوا على أوامره ونواهيه، رجعوا فأدوه إلى من بعدهم فشقّ عليهم، فأمّا المؤمنون منهم فثبتوا على إيمانهم، وصدقوا في نيّاتهم.

وأمّا أسلاف هؤلاء اليهود الذين نافقوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذه القضيّة فإنّهم قالوا لبني إسرائيل: إنّ الله تعالى قال لنا هذا، وأمرنا بما ذكرناه لكم ونهانا، وأتبع ذلك بأنّكم إن صعب عليكم ما أمرتكم به فلا عليكم أن لا تفعلوه، وإن صعب عليكم ما عنه نهيتكم فلا عليكم أن ترتكبوه وتواقعوه، هذا وهم يعلمون أنّهم بقولهم هذا كاذبون.

ثمّ أظهر الله نفاقهم الآخر مع جهلهم فقال عزّ وجلّ: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنّا) كانوا إذا لقوا سلمان والمقداد وأباذر وعمّاراً قالوا آمنّا كإيمانكم إيماناً بنبوّة محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، مقروناً بالإيمان بإمامة أخيه عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وبأنّه أخوه الهادي، ووزيره الموالي وخليفته على أمّته، ومنجز عدته، والوافي بذمّته، والناهض بأعباء سياسته وقيّم الخلق، والذائد لهم عن سخط الرحمن، الموجب لهم - إن أطاعوه - رضى الرحمن، وأنّ خلفاءه من بعده هم النجوم الزاهرة، والأقمار المنيرة، والشموس المضيئة الباهرة، وأنّ أوليائهم أولياء الله، وأنّ أعدائهم أعداء الله.

ويقول بعضهم: نشهد أنّ محمّداً صاحب المعجزات ومقيم الدلالات الواضحات، هو الذي لمّا تواطأت قريش على قتله وطلبوه فقداً لروحه أيبس الله تعالى أيديهم فلم تعمل، وأرجلهم فلم تنهض، حتّى رجعوا عنه خائبين مغلوبين ولو شاء محمّد وحده قتلهم أجمعين، وهو الذي لمّا جاءته قريش وأشخصته إلى هبل ليحكم عليه بصدقهم وكذبه، خرّ هبل لوجهه، وشهد له بنبوّته وشهد لأخيه عليّ بإمامته ولأوليائه من بعده بوراثته، والقيام بسياسته وإمامته.

وهو الذي لمّا ألجأته قريش إلى الشعب ووكلوا ببابه من يمنع من إيصال قوت، ومن خروج أحد عنه، خوفاً أن يطلب لهم قوتاً غذّى هناك كافرهم ومؤمنهم أفضل من المنّ والسلوى، وكلّما اشتهى كلّ واحد منهم من أنواع الأطعمة الطيّبات، ومن أصناف الحلاوات، وكساهم أحسن الكسوات، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بين أظهرهم إذ رآهم وقد ضاق لضيق فجّهم صدورهم قال بيده هكذا بيمناه إلى الجبال وهكذا بيسراه إلى الجبال، وقال لها: اندفعي فتندفع وتتأخّر حتّى يصيروا بذلك في صحراء لا يرى طرفاها، ثمّ يقول بيده هكذا، ويقول: إطلعي يا أيّتها المودوعات لمحمّد وأنصاره ما أودعكموها الله من الأشجار والأثمار [والأنهار] وأنواع الزهر والنبات، فتطلع من الأشجار الباسقة والرياحين المونقة والخضروات النزهة ما تتمتّع به القلوب والأبصار، وتنجلي به الهموم والغموم والأفكار، ويعلمون أنّه ليس لأحد من ملوك الأرض مثل صحرائهم على ما تشتمل عليه من عجائب أشجارها، وتهدّل أثمارها، واطّراد أنهارها، وغضارة رياحينها، وحسن نباتها.

ومحمّد هو الذي لمّا جاءه رسول أبي جهل يتهدّده ويقول: يا محمّد إنّ الخيوط التي في رأسك هي التي ضيّقت عليك مكّة، ورمت بك إلى يثرب وإنّها لا تزال بك حتّى تنفرك وتحثّك على ما يفسدك ويتلفك إلى أن تفسدها على أهلها، وتصليهم حرّ نار تعدّيك طورك، وما أرى ذلك إلاّ وسيؤول إلى أن تثور عليك قريش ثورة رجل واحد لقصد آثارك، ودفع ضررك وبلائك، فتلقاهم بسفهائك المغترّين بك، ويساعدك على ذلك من هو كافر بك مبغض لك، فيلجئه إلى مساعدتك ومظافرتك خوفه لأن يهلك بهلاكك، وتعطب عياله بعطبك، ويفتقر هو ومن يليه بفقرك، وبفقر متّبعيك إذ يعتقدون أنّ أعدائك إذا قهروك ودخلوا ديارهم عنوة لم يفرّقوا بين من والاك وعاداك، واصطلموهم باصطلامهم لك وأتوا على عيالهم وأموالهم بالسبي والنهب، كما يأتون على عيالك وأموالك، وقد أعذر من أنذر وبالغ من أوضح، أدّيت هذه الرسالة إلى محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو بظاهر المدينة بحضرة كافّة أصحابه، وعامّة الكفّار به من يهود بني إسرائيل، وهكذا أمر الرسول ليجنّبوا المؤمنين، ويغرّوا بالوثوب عليه سائر من هناك من الكافرين.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للرسول: قد أطريت مقالتك؟ واستكملت مقالتك؟

قال: بلى.

قال (صلى الله عليه وآله وسلم): فاسمع الجواب: إنّ أبا جهل بالمكاره والعطب يهدّدني، وربّ العالمين بالنصر والظفر يعدني، وخبر الله أصدق، والقبول من الله أحقّ، لن يضرّ محمّداً من خذله أو يغضب عليه بعد أن ينصره الله عزوجلّ ويتفضّل بجوده وكرمه عليه.

قل له: يا أبا جهل إنّك راسلتني بما ألقاه في خلدك الشيطان، وأنا أجيبك بما ألقاه في خاطري الرحمن، أنّ الحرب بيننا وبينك كائنة إلى تسعة وعشرين يوماً، وإنّ الله سيقتلك فيها بأضعف أصحابي، وستلقى أنت وعتبة وشيبة والوليد وفلان وفلان - وذكر عدداً من قريش - في قليب بدر مقتّلين أقتل منكم سبعين، وآسر منكم سبعين، أحملهم على الفداء العظيم الثقيل.

ثمّ نادى جماعة من بحضرته من المؤمنين واليهود والنصارى وسائر الأخلاط: ألا تحبّون أن أريكم مصرع كلّ واحد من هؤلاء؟

[قالوا: بلى.]

[قال:] هلمّوا إلى بدر، فإنّ هناك الملتقى والمحشر، وهناك البلاء الأكبر، لأضع قدمي على مواضع مصارعهم، ثمّ ستجدونها لا تزيد ولا تنقص ولا تتغيّر ولا تتقدّم ولا تتأخّر لحظة ولا قليلاً ولا كثيراً، فلم يخفّ ذلك على أحد منهم ولم يجبه إلاّ عليّ بن أبي طالب وحده، وقال: نعم بسم الله، وقال الباقون: نحن نحتاج إلى مركوب وآلات ونفقات فلا يمكننا الخروج إلى هناك وهو مسيرة أيّام.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لسائر اليهود: فأنتم ماذا تقولون؟

قالوا: نحن نريد أن نستقرّ في بيوتنا، ولا حاجة لنا في مشاهدة ما أنت في ادّعائه محيل.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا نصب عليكم في المسير إلى هناك، إخطوا خطوة واحدة فإنّ الله يطوي الأرض لكم ويوصلكم في الخطوة الثانية إلى هناك.

فقال المؤمنون: صدق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلنتشرّف بهذه الآية، وقال الكافرون والمنافقون: سوف نمتحن هذا الكذب لينقطع عذر محمّد وتصير دعواه حجّة عليه، وفاضحة له في كذبه.

قال: فخطا القوم خطوة ثمّ الثانية فإذا هم عند بئر بدر فعجبوا.

فجاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: إجعلوا البئر العلامة، واذرعوا من عندها كذا ذراعاً، فذرعوا فلمّا انتهوا إلى أخرها قال: هذا مصرع أبي جهل يجرحه فلان الأنصاري، ويجهز عليه عبدالله بن مسعود أضعف أصحابي.

ثمّ قال: إذرعوا من البئر من جانب آخر ثمّ جانب آخر ثمّ جانب آخر كذا وكذا ذراعاً وذراعاً، وذكر أعداد الأذرع مختلفة، فلمّا انتهى كلّ عدد إلى آخره قال محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم): هذا مصرع عتبة، وذلك مصرع شيبة، وذلك مصرع الوليد، وسيقتل فلان وفلان - إلى أن سمّى تمام سبعين منهم بأسمائهم - وسيؤسر فلان وفلان، إلى أن ذكر سبعين منهم بأسمائهم وأسماء آبائهم وصفاتهم ونسب المنسوبين إلى الآباء منهم، ونسب الموالي منهم إلى مواليهم.

ثمّ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أوقفتم على ما أخبرتكم به؟

قالوا: بلي.

قال: إنّ ذلك لحقّ كائن بعد ثمانية وعشرين يوماً من اليوم، في اليوم التاسع والعشرين وعداً من الله مفعولاً، وقضاءً حتماً لازماً.

ثمّ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا معشر المسلمين واليهود اكتبوا بما سمعتم.

فقالوا: يا رسول الله قد سمعنا ووعينا ولا ننسى.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الكتابة [أفضل و] أذكر لكم.

فقالوا: يا رسول الله وأين الدواة والكتف؟

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ذلك للملائكة، ثمّ قال: يا ملائكة ربّي، أكتبوا ما سمعتم من هذه القصّة في أكتاف واجعلوا في كمّ كلّ واحد منهم كتفاً من ذلك.

ثمّ قال: معاشر المسلمين تأمّلوا أكمامكم وما فيها وأخرجوه واقرؤوه.

فتأمّلوها فإذا في كمّ كلّ واحد منهم صحيفة، قرأها وإذا فيها ذكر ما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في ذلك سواء، لا يزيد ولا ينقص ولا يتقدّم ولا يتأخّر.

فقال: أعيدوها في أكمامكم تكن حجّة عليكم، وشرفاً للمؤمنين منكم، وحجّة على الكافرين، فكانت معهم.

فلمّا كان يوم بدر جرت الأمور كلّها ببدر، ووجدوها كما قال (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يزيد ولا ينقص، قابلوا بها ما في كتبهم فوجدوها كما كتبته الملائكة لا تزيد ولا تنقص ولا تتقدّم ولا تتأخّر، فقبل المسلمون ظاهرهم، ووكّلوا باطنهم إلى خالقهم، فلمّا أفضى بعض هؤلاء اليهود إلى بعض قالوا: أيّ شيء صنعتم أخبرتموهم بما فتح الله عليكم من الدلالات على صدق نبوّة محمّد وإمامة أخيه عليّ (عليه السلام) (ليحاجّوكم به عند ربّكم) بأنّكم كنتم قد علمتم هذا وشاهدتموه فلم تؤمنوا به ولم تطيعوه؟ وقدّروا بجهلهم أنّهم إن لم يخبروهم بتلك الآيات لم يكن له عليهم حجّة في غيرها.

ثمّ قال عزّ وجلّ: (أفلا تعقلون) أنّ هذا الذي تخبرونهم به بما فتح الله عليكم من دلائل نبوّة محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) حجّة عليكم عند ربّكم.

قال الله عزّ وجلّ: (أولا يعلمون) يعني أولا يعلم هؤلاء القائلون لإخوانهم (أتحدّثونهم بما فتح الله عليكم): (أنّ الله يعلم ما يسرّون) من عداوة محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) ويضمرونه من أنّ إظهارهم الإيمان به أمكن لهم من اصطلامه وإبارة أصحابه (وما يعلنون) من الإيمان ظاهراً ليؤنسوهم ويقفوا به على أسرارهم فيذيعوها بحضرة من يضرّهم، وأنّ الله لمّا علم بذلك دبّر لمحمّد تمام أمره، وبلوغ غاية ما أراده الله ببعثه، وأنّه يتمّ أمره، وأنّ نفاقهم وكيدهم لا يضرّه.

النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وجماعة اليهود(12).

قوله عزوجلّ: (أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سُئل موسى من قبل ومن يتبدّل الكفر بالإيمان فقد ضلّ سواء السبيل)(13) قال الإمام الحسن العسكري (عليه السلام):

قال عليّ بن محمّد بن عليّ بن موسى الرضا صلوات الله عليهم: (أم تريدون) بل تريدون يا كفّار قريش واليهود (أن تسألوا رسولكم) ما تقترحونه من الآيات التي لا تعلمون هل فيه صلاحكم أو فسادكم (كما سئل موسى من قبل) واقترح عليه لمّا قيل له: (لن نؤمن لك حتّى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة)(14).

(ومن يتبدّل الكفر بالإيمان) بعد جواب الرسول له أن ما سأله لا يصلح اقتراحه على الله، [أ] وبعد ما يظهر الله تعالى له ما اقترح إن كان صواباً، (ومن يتبدّل الكفر بالإيمان) بأن لا يؤمن عند مشاهدة ما يقترح من الآيات، أو لا يؤمن إذا عرف أنّه ليس له أن يقترح، وأنّه يجب عليه أن يكتفي بما قد أقامه الله تعالى من الدلالات، وأوضحه من الآيات البيّنات فيتبدّل الكفر بالإيمان بأن يعاند ولا يلتزم الحجّة القائمة (فقد ضلّ سواء السبيل) أخطأ طريق القصد المؤدّية إلى الجنان، وأخذ في الطريق المؤدّية إلى النيران.

قال(عليه السلام): قال الله تعالى [لليهود]: يا أيّها اليهود (أم تريدون) بل تريدون من بعد ما آتيناكم (أن تسألوا رسولكم) وذلك أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قصده عشرة من اليهود يريدون أن يتعنّتوه ويسألوه عن أشياء يريدون أن يتعانتوه بها، فبيناهم كذلك إذ جاء أعرابيّ كأنّما يدفع في قفاه قد علّق على عصا - على عاتقه - جراباً مشدود الرأس فيه شيء قد ملأه لا يدرون ما هو؟ فقال: يا محمّد أجبني عمّا أسألك.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا أخا العرب قد سبقك اليهود [ليسئلوا] أفتأذن لهم حتّى أبدأ بهم؟

قال الأعرابيّ: لا فإنّي غريب مجتاز.

فقال رسول الله: فأنت إذاً أحقّ منهم لغربتك واجتيازك.

فقال الأعرابيّ: ولفظة أخرى.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما هي؟

قال: إنّ هؤلاء أهل الكتاب يدّعونه ويزعمونه حقّاً، ولست آمن أن تقول شيئاً يواطؤونك عليه، ويصدّقونك ليفتنوا الناس عن دينهم وأنا لا أقنع بمثل هذا، لا أقنع إلاّ بأمر بيّن.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أين عليّ بن أبي طالب؟

فدعي بعليّ (عليه السلام) فجاء حتّى قرب من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال الأعرابي: يا محمّد: وما تصنع بهذا في محاورتي إيّاك؟

قال: يا أعرابيّ سألت البيان وهذا البيان الشافي، وصاحب العلم الكافي، أنا مدينة الحكمة وهذا بابها، فمن أراد الحكمة والعلم فليأت الباب.

فلمّا مثّل بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال رسول الله بأعلى صوته: يا عباد الله من أراد أن ينظر إلى آدم في جلالته، وإلى شيث في حكمته، وإلى إدريس في نباهته ومهابته، وإلى نوح في شكره لربّه وعبادته، وإلى إبراهيم في وفائه وخلّته وإلى موسى في بغض كلّ عدوّ لله ومنابذته، وإلى عيسى في حبّ كلّ مؤمن وحسن معاشرته، فلينظر إلى عليّ بن أبي طالب هذا.

فأمّا المؤمنون فازدادوا بذلك إيماناً، وأمّا المنافقون فازداد نفاقهم.

فقال الأعرابيّ: يا محمّد هكذا مدحك لابن عمّك، إنّ شرفه شرفك، وعزّه عزّك ولست أقبل من هذا شيئاً إلاّ بشهادة من لا تحتمل شهادته بطلاناً ولا فساداً، بشهادة هذا الضبّ.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا أخا العرب فأخرجه من جرابك لتستشهده فيشهد لي بالنبوّة، ولأخي هذا بالفضيلة.

فقال الأعرابيّ: لقد تعبت في اصطياده، وأنا خائف أن يطفر ويهرب.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا تخف فإنّه لا يطفر [ولا يهرب] بل يقف ويشهد لنا بتصديقنا وتفضيلنا.

فقال الأعرابي: [إنّي] أخاف أن يطفر.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): فإن طفر فقد كفاك به تكذيباً لنا، واحتجاجاً علينا، ولن يطفر ولكنّه سيشهد لنا بشهادة الحقّ، فإذا فعل ذلك فخلّ سبيله فإنّ محمّداً يعوّضك عنه ما هو خير لك منه، فأخرجه الأعرابيّ من الجراب ووضعه على الأرض، فوقف واستقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومرّغ خدّيه في التراب ثمّ رفع رأسه، وأنطقه الله تعالى فقال: أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله وصفيّه، وسيّد المرسلين، وأفضل الخلق أجمعين، وخاتم النبيين، وقائد الغرّ المحجّلين، وأشهد أنّ أخاك عليّ بن أبي طالب على الوصف الذي وصفته، وبالفضل الذي ذكرته وأنّ أولياءه في الجنان مكرّمون، وأنّ أعداءه في النار يهانون.

فقال الأعرابيّ وهو يبكي: يا رسول الله وأنا أشهد بما شهد به هذا الضبّ فقد رأيت وشاهدت وسمعت ما ليس لي عنه معدل ولا محيص.

ثمّ أقبل الأعرابيّ على اليهود فقال: ويلكم أيّ آية بعد هذه تريدون؟ ومعجزة بعد هذه تقترحون؟ ليس إلاّ أن تؤمنوا أو تهلكوا أجمعين، فآمن اولئك اليهود كلّهم وقالوا: عظمت بركة ضبّك علينا يا أخا العرب، ثمّ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): خلّ الضبّ على أن يعوّضك الله عزوجلّ [عنه ما هو خير] منه، فإنّه ضبّ مؤمن بالله وبرسوله وبأخي رسوله، شاهد بالحقّ، ما ينبغي أن يكون مصيداً ولا أسيراً، ولكنّه يكون مخلّى سربه [تكون له مزيّة] على سائر الضباب بما فضّله الله أميراً.

فناداه الضبّ: يا رسول الله فخلّني وولّني تعويضه لأعوّضه.

فقال الأعرابي: وما عساك تعوّضني؟

قال: تذهب إلى الجحر الذي أخذتني منه ففيه عشرة آلاف دينار خسروانيّة، وثلاثمأة ألف درهم فخذها.

فقال الأعرابيّ: كيف أصنع؟ قد سمع هذا – من هذا الضبّ - جماعات الحاضرين ههنا وأنا متعب، فلن آمن ممّن هو مستريح يذهب إلى هناك فيأخذه.

فقال الضبّ: يا أخا العرب إنّ الله تعالى قد جعله لك عوضاً منّي فما كان ليترك أحداً يسبقك إليه ولا يروم أحد أخذه إلاّ أهلكه الله، وكان الأعرابي تعباً فمشى قليلاً وسبقه إلى الحجر جماعة من المنافقين كانوا بحضرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأدخلوا أيديهم إلى الجحر ليتناولوا منه ما سمعوا فخرجت عليهم أفعي عظيمة فلسعتهم وقتلتهم، ووقفت حتّى حضر الأعرابيّ، فقالت له: يا أخا العرب أنظر إلى هؤلاء كيف أمرني الله بقتلهم دون مالك - الذي هو عوض ضبّك - وجعلني حافظته فتناوله، فاستخرج الأعرابي الدراهم والدنانير، فلم يطق احتمالها.

فنادته الأفعي: خذ الحبل الذي في وسطك وشدّه بالكيسين، ثمّ شدّ الحبل في ذنبي فإنّي سأجرّه لك إلى منزلك، وأنا فيه حارسك وحارس مالك هذا.

فجاءت الأفعي فما زالت تحرسه والمال إلى أن فرّقه الأعرابي في ضياع وعقار وبساتين اشتراها، ثمّ انصرفت الأفعي.

ميثاق النبوّة(15):

عن أيّوب بن نوح قال: قال لي أبوالحسن العسكري (عليه السلام) - وأنا واقف بين يديه بالمدينة ابتداءً من غير مسألة -:

يا أيّوب إنّه ما نبّأ الله من نبيّ إلاّ بعد أن يأخذ عليه ثلاث خصال:

شهادة أن لا إله إلاّ الله، وخلع الأنداد من دون الله، وأنّ لله المشيئة يقدّم ما يشاء ويؤخّر ما يشاء، أما إنّه إذا جرى الإختلاف بينهم لم يزل الإختلاف بينهم إلى أن يقوم صاحب هذا الأمر.

القرآن والحروف المقطّعة(16):

كذّبت قريش واليهود بالقرآن وقالوا: سحر مبين تقوّله، فقال الله عزوجلّ: (الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للمتّقين) أي: يا محمّد هذا الكتاب الذي أنزلته عليك، هو [بـ] الحروف المقطّعة التي منها: ألف، لام، ميم، وهو بلغتكم وحروف هجائكم (فأتوا بمثله إن كنتم صادقين) واستعينوا على ذلك بسائر شهدائكم، ثمّ بيّن أنّهم لا يقدرون عليه بقوله: (قل لئن اجتمعت الإنس والجنّ على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولوكان بعضهم لبعض ظهيراً)(17).

ثمّ قال الله تعالى: (الم) هو القرآن الذي افتتح بـ (الم)، هو (ذلك الكتاب) الذي أخبرت به موسى، و[من] بعده من الأنبياء فأخبروا بني إسرائيل أني سأنزل [به] عليك يا محمّد كتاباً [عربيّا] عزيزاً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، (لا ريب فيه) لا شكّ فيه لظهوره عندهم، كما أخبرهم أنبياؤهم أنّ محمّداً ينزل عليه كتاب لا يمحوه الباطل يقرأه هو وأمّته على سائر أحوالهم (هدى) بيان من الضلالة (للمتّقين) الذين يتقون الموبقات، ويتقون تسليط السفه على أنفسهم، حتّى إذا علموا ما يجب عليهم عمله عملوا بما يوجب لهم رضا ربّهم.

 

1 - تفسير الإمام العسكري (عليه السلام): 221 إلى 227، ح 103 إلى 106.

2 - سورة البقرة: الآيتان 35 و 39.

3 - سورة الأعراف: الآيتان 20 و 21.

4 - الخرائج والجرائح: ج2 ص738 و 739، ح 53.

5 - سورة يوسف: الآية 77.

6 - تفسير الإمام الحسن العسكري 29، ح 10.

7 - سورة النمل: الآيتان 29 و 30.

8 - تفسير الإمام العسكري (عليه السلام): 155 - 158 ، و 168 - 190، ح 77 - 78، و 83 - 88: قال الإمام الحسن العسكري (عليه السلام):..

9 - تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) 286 – 298، ح 141 – 142:..

10 - سورة البقرة: الآية 74.

11 - سورة البقرة: الآية 75-77.

12 - تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) 496 – 500، ح 313:..

13 - سورة البقرة: الآية 108.

14 - سورة البقرة: الآية 55.

15 - تفسير العياشي 2/215، ح 56: عن عليّ بن عبد الله بن مروان:..

16 - تفسير الإمام العسكري (عليه السلام)62، ح 32: قال الإمام الحسن العسكري (عليه السلام):..

17 - سورة الإسراء: الآية 88.