مكتبة الإمام العسكري (ع)

فهرس الكتاب

 

 

جامع الكلمة

أن تجمع كلمات وأقوال شخص ما، هذا يعني أن تكتب كل ما قال أو ما كتب في كتاب، وجمع مثل هذا الكتاب في الوقت الحاضر ربما يكون من أيسر ما يكون..إذ المصادر ما شاء الله والحاسوب وآلات الطباعة في خدمة الجميع..

أما التأليف فهو ابتكار وتجديد والإتياء بما فيه المفيد.. ويجب أن تظهر من المؤلف تلك الفكرة التي يطرحها ويتبناها ويكون مستعداً للدفاع عنها بمنهجية علمية منفتحة..

أما الكاتب والأديب.. فهو الأرق عبارة والأجمل أداءً والأبلغ كلاماً إذا تطلب الوضع..

وهذا شأنه – الأديب - مع أنواع الأدب المعروفة في هذا العصر المتنوعة من شعر بأنواعه: عمودي وقريض، ونثر بأنواعه: رواية وقصة ومسرحية..إلى أن يلحق النقد الأدبي كذلك..

فالخائض في هذا الخضم هو أديب إن استطاع أن يتأدب ويؤدب..

وسماحة السيد الشهيد الشيرازي (رحمه الله) هو مؤلف بارع، وكاتب ناجح، وأديب وشاعر.. بكل ما تحتوي هذه الكلمات من معان، وربما أكثر من ذلك.. لأنه عالم رباني وفقيه مجتهد..

وتأليف سماحة السيد الشهيد لموسوعة (الكلمة) هي بحدّ ذاتها فكرة بكر وإبداع من ذاته المبدعة، ليس بالمضمون لا.. ولكن بالأسلوب والتبويب والتنسيق والمقدمات الرائعة..

فكلمات الأئمة الأطهار (عليهم السلام) موجودة في بطون الكتب ومنتشرة في موسوعات كالبحار وغيره. إلا أن جمعها وتنسيقها بهذا الشكل أعطانا فائدة أكبر وطريقة أسهل في التناول والبحث..

وعندما انطلق سماحة السيد الشهيد في هذا المجال باحثاً عن أقوال المعصومين (عليهم السلام) فإنه كان يعي هذه الحقيقة جيداً، وربما كان عمله كله لأجلها.

فجمع أقوال إمام من الأئمة (عليهم السلام) وتبويبها بطريقة جميلة تجعلها أكثر فائدة واسهل مأخذاً وتركزها كما يركز نور الشمس، وهذا هو عمل جيد ومفيد حقاً..

وبالإضافة إلى هذا العمل الضخم الذي بلغ حوالي 20 كلمة، وكان بعضها أربعة مجلدات - ككلمة الإمام الصادق (عليه السلام) - وابتداءً من كلمة الله، وانتهاءً بكلمة العلماء، ومروراً بكلمات المعصومين (عليهم السلام) في دنيا الإسلام، فقد كانت لسماحته كلمات مستقلة منها ما قاله شعراً جميلاً، ومنها ما قاله نثراً وخطابة وارتجالاً، أو تأليفاً وكتابة..

والأدب مقام جميل.. والمتنقل في كلمات السيد الشهيد كأنما يتنقل بين بساتين في فصل الربيع تماماً.. فلا تكاد تعجبك زهرة وتقول عنها بأنها الأجمل إلا وتقع عينك أو يشم أنفك عبير غيرها فتلتفت إليها لتقول لها: أنت الأزكى.. وهكذا تختار باقة من الزهور ومن تنوع الربيع جمالاً وبهاءً وفائدة..

كذلك التنقل في حقول السيد الشهيد حسن الشرازي - رحمه الله - الأدبية، لا تجعلك تمر من قطعة مهما كانت صغيرة إلا وتوقفك لتأخذ منها أو تستوقفك لتتأمل فيها ملياً ولتقول في نفسك: تبارك والمعطي، وسبحان من أعطى هذا الرجل الجليل هذا العقل الجبار وهذا الفكر الوقاد وهذا الأدب العظيم..

ولا اجرؤ على الخوض في عباب بحر السيد الشهيد.. ولا حتى التنزه في حقوله المتنوعة.. للأنني أعشق الربيع ويأخذني جماله الفتان وشذا عطره الأخاذ.. فأسرح بعيداً.. وهذا ما لا يسمح به المقام..

إلا أنني أكتفي بأن أقول: إن الكلمة التي تنطلق من شفاه السيد الشهيد ربما كانت زهرة أو حقل زهور.. أو بلسماً يشفي الصدور.. وربما كانت رصاصة أو حقل ألغام أو صاعقة أو صاروخ أو ما يشبه القنبلة الذرية تدكّ حصون وقلاع الطغاة..

ولا تستغرب من ذلك.. ولا تتعجب من هذا التنوع.. وإذا فعلت فسأذكرك بأننا نقف أمام السيد حسن الشيرازي (رحمه الله) هذا البطل الذي وقف نفسه لربه وقضى نحبه شهيداً سعيداً على تراب لبنان الأبي دفاعاً عن مبادئه ومثله وقيمه ودينه الإسلام الحنيف.. فسمي شهيد الكلمة.. إلا أنني أسميه شهيد الدين والعقيدة والموقف..

قتله طاغية بغداد - صدام اللعين - خوفاً منه ومن قلمه الجريء ولسانه الطليق.. رغم بعده عنه آلاف الأميال.. إلا أن بريق القلم ينتشر في الآفاق ويعم الدنيا في غضون لحظات.. إلا أنه يخلد في الزمن وتحفظه الأجيال ويتغنى به الأطفال.. وصوت الحق هادر ويعلو ولا يعلى عليه مهما حاول الطغاة والجبارون إخفاءه أو التشويش عليه وتشويه نبرته..

فالذي سبب هجرة السيد الشهيد حسن الشيرازي (رحمه الله) إلى لبنان كان محاولة لإخفاء صوته وإسكاته بأي طريقة وبأية وسيلة مهما كانت من الخساسة والدناءة.. فلم يستطيعوا إلى ذلك سبيلاً إلا بالقتل.. ظناً منهم أنهم حين يقتلوه يريحوا آذانهم من كلماته وقصائده وصوته الهادر..

وخاب ظنهم بهذه كذلك فانطلقت مئات الحناجر تصدح بصوت الشهيد وبذكر الشهيد.. فتحول من مجرد رجل إلى شعار يرفعه المؤمنون ويحيون ذكراه..

ومن شخص إلى قيمة يتمثلها أهل الفضل من الطلبة والعلماء.

من صاحب عمة إلى نهج لأصحاب العمائم..

ومن فرد الى مدرسة للعاملين..

فالسيد الشهيد كان عملاقاً عظيماً في حياته، وبقي في مماته كذلك.. اذ العظيم هو ذلك التجسيد الحي للمثل العليا وللقيم السامية، وإحياء ذكرى العظيم هو إحياء كل تلك المثل التي تجسدت في ذاته وفي شخصيته وفي مسيرة حياته..

والإنسان حسب ركائز نفسية وسيكولوجية مغروسة في أعماق ذاته يجنح إلى تقمص شخصية العظماء.. وإلى الاحتذاء بحذوهم فإذا قدمت له الأنموذج الصالح تطبع بطباعه واهتدى بهديه وسار على سيرته..

إننا نحيي ذكرى العظماء والشهداء لكي نستعين بهم في عملية الصراع الكبرى الدائرة بين سلطان العقل وبين السلطات الأخرى: الشهوات، النفس، الهوى، الدنيا..

ففي هذه المعركة المصيرية والحاسمة يتجلى لنا البطل الشهيد أنمودجاً مثالياً يزرع فينا عوامل الخير، ويغذي فينا دواعي الترقي والسمو نحو مدارج الكمال.. ونحو القمة السامقة في معاني الخير.. فانه كان تلميذاً في مدرسة أجداده الطاهرين أهل بيت رسول الله(صلوات الله عليهم أجمعين).

والشهيد حسن الشيرازي (رحمه الله) كان ذلك المزيج الفريد بين التقوى والزهد من جهة.. وبين الفكر الوقاد والعطاء المتجدد.. وبين العمل الصالح والخدمات.. وبين الشجاعة والصمود.. والتصدي والتحدي أيضاً لجحافل الظلام(1).

فالسيد الشهيد (رحمه الله) كان حاضراً في الضمائر والقلوب.. في كربلاء وبغداد.. في السجن وخارجه.. في سورية ولبنان.. وأفريقيا وبلاد اخرى.. وكان الشيعي والسني والمسيحي وكل الذين تعرفوا على هذه الشخصية المتميزة بالعلم الغزير والخلق الرفيع.. يشعر أن فيها ما يمثله، وفيها ما يخاطبه من الداخل.. فقد اكتسب ثقة لا حدود لها بين الناس..

أليس هذا هو التمثيل الحقيقي لنهج أهل البيت (عليهم السلام)؟ هذا النهج الذي بوسعه أن يخاطب كل الناس على اختلاف أديانهم وطوائفهم وميولهم أو اتجاهاتهم..(2).

نعم، إنه كان أمة في رجل..

ورجلا مقتدى بأئمة أهل البيت (عليهم السلام) حق الاقتداء..

فكان من أصدق تعبير عن قول المعصوم (عليه السلام): (كونوا دعاة لنا بغير ألسنتكم).

وكلما ذكرت السيد الشهيد اذكر كلمة الإمام الصادق (عليه السلام) وهو يأمر أحد خلص أصحابه بالجلوس في المسجد والإفتاء ويقول له: إني احب أن يرى في شيعة جعفر بن محمد من أمثالك..

فالسيد الشهيد - رضوان الله تعالى عليه - كان منهم نسباً ومن شيعتهم قولا وعملا.. ويحق لنا أن نفتخر - نحن الشيعة - أن فينا ومنا مثل السيد حسن الشيرازي..

وهذه – بالحقيقة - علامة عافية في جسد الأمة وصحة مبادئها.. لأن الشهيد مشعل من مشاعل النور يضيء الدرب للأجيال لتسير على هدى من أمرها.. بإذن ربها..

فرحمة الله على السيد الشهيد السعيد حسن الشيرازي ما سمر سمير وما أم نجم في السماء نجما.. وما طلعت الشمس وغربت وتعاقب الليل والنهار.. ولعنة الله على الظالمين بعد ذلك وأكثر..

وسيعلم الذين ظلموا آل محمد أي منقلب ينقلبون..

 

1 - الراحل الحاضر: ص 150 من كلمات آية الله السيد مرتضى الشيرازي يؤبن عمه الشهيد.

2 - الراحل الحاضر: ص 137 من كلمات العلامة السيد محمد حسن الأمين يؤبن الشهيد.