فهرس الكتاب

مكتبة الإمام العسكري (ع)

 

الفصل الثاني : الإمــام شاهــد عصــره

معروف - لدى القارئ الذي تابع معنا قصص أئمة الهدى ، ان دور الأئمة (ع) امتداد لدور الأنبياء . ورسالتهم هي تلك الرسالة الخالدة التي بشرت بها كتب السماء .. من الدعوة إلى اللـه .. والترغيب في ثوابه والترهيب من شديد عقابه !! وسوق الناس إلى اتباع رضوانه وتزكية نفوسهم ـ الرذائل . وتطهيرها بالحب والايمان والخلق الفاضل . ثم تعليمهم شرائع دينهم ..

وكان من أبرز مسؤوليات الأنبياء (ع) “ قيادة المجتمع المؤمن بما لهذه المسؤولية من علاقة بتطبيق أصول القيم الإلهية على مفردات الحياة اليومية .. وبتمثيل تلك الأصول ضمن مواقف وفاعليات وأنشطة . حتى يصبح النبي والإمام من بعده ثم الصديقون قدوات وحججاً على الخلق وليقطعوا عنهم حبل المعاذير والتبريرات . ويشحذوا وليشحنوا عزائمهم بومضات من الإرادة ، ومن هنا لا ينبغي ان نحدد دور الإمام في الحقل السياسي بالمعنى الضيق للكلمة بالرغم من ان ا لسياسة تمثل تقاطع سائر الحقول أو ليست الثقافة ذات تأثير على السياسة ؟ أو ليس الإقتصاد والتربية والأنظمة الإجتماعية هي العوامل التي تصنع السياسة .

ومن هنا يجب ان نفرق بين معنيين للسياسة .. المعنى الخاص الذي يعني إدارة القوى الإجتماعية ذات التأثير في عالم الحكم .. والتي يقوم بها السلاطين والرؤساء السياسيون .. وهذه هي السياسة المباشرة ( المعنى الضيّق للكلمة ) .

والمعنى العام والذي يعني صنع القوى الفاعلة في المجتمع والتي تؤثر بالتالي في عالم الحكم . وهي السياسة غير المباشرة ، والتي يقوم بها - عادة - المصلحون وأصحاب المبادئ التغييرية ( وهذه السياسة بالمعنى العام ) .

ولا ريب ان الأنبياء وأوصياءهم كانوا يقودون عملية التغيير ، وثورة الاصلاح بكل أبعادها الثقافية ( نشر الدعوة ) والتربوية ( تزكية النفوس ) والإجتماعية ( تكوين التجمع الايماني وتنظيم علاقاته ) كما كانوا يتعاطون أحياناً السياسة بالمعنى الخاص حيث يديرون البلاد بصورة منفردة أو يشتركون في الإدارة مع سائر القوى ..

كذلك قام النبي الأعظم (ص) باصلاح المجتمع في مكة ، وبنى هناك التجمع الايماني ، ونظم علاقاتهم ثم شكَّل حكومته منهم في المدينة المنورة .

وخلال سني خلافته الظاهرية تعاطى الإمام علي (ع) السياسة المباشرة . بينما قام بدور اصلاحي قبلئذ عند حكومة الخلفاء من قبله وفي ذات الوقت ساهم معهم بصورة أو باخرى في السياسة المباشرة .

والأئمة الأطهار (ع) كانوا يقومون بالاصلاح بكل ما أوتوا من قدرة ويصنعون قوة سياسية فاعلة في المجتمع . وذلك عبر قيادتهم المباشرة للمؤمنين الاصفياء من شيعتهم .

حتى انتهى الأمر إلى الإمام العسكري (ع) إذ قام خلال سني امامته بإدارة الشيعة الذين أصبح وزنهم السياسي متعاظماً في عهد الإمام الكاظم واعترف بهم كقوة سياسية في العهود التي تلت ولاية العهد من قبل الإمام الرضا (ع) ، وحتى غيبة الإمام المهدي عجل اللـه تعالى فرجه ..

كيف كان يدير الإمام الشيعة ؟ وكيف تكونت عبر الآفاق شبكة الوكلاء الذين كانوا يمثلونه ؟ وكيف كانت تجري المراسلة بينهم وبينه ؟

تلك الحقائق لم يبحثها التاريخ الذي اقتصر - مع الأسف - على وصف الملوك وغزواتهم وحروبهم وحتى ليالي مجونهم . بينما أهمل حياة الشعوب والتيارات التي كانت تجري في المجتمع .

إلاّ ان الأحاديث التي سجلت الكثير من تفاصيل حياة الأئمة (ع) ، تعتبر مادة موثوقة نستطيع ان نستلهم منها بعض الحقائق .. إلاّ انها تبقى لا تعكس وحدها كل الصورة التي نتشوق إليها لمعرفة حياة الإمام (ع) التي اتسمت كحياة غيره من الأئمة بطابع السرية المطلقة ليس فقط خوفاً من الطغاة وانما أيضاً كاجراء احتياطي للمستقبل والمتغيرات التي تحكمه وكمنهج في تربية الناس على الحقائق الكبرى التي لا يحتمل قلب أغلب الناس ثقلها ..

وما نذكره فيما يلي بعض تلك الحقائق عن حياة الإمام العسكري التي لابد ان نكملها بما نعرفه من سيرة سائر الأئمة (ع) .

1 - الإمام والتقية الشديدة : لان الإمام (ع) كان يمهد للغيبة الكبرى . وكانت من سمات عصر الغيبـة ،التقية . فان حياته اتسمت - وربما أكثر من غيره من الأئمة الهداة - بأقسى حالات التكتم .. والقصص التالية تعكس جانباً من حالات التقية .

أ - يقول داود بن الأسود : دعاني سيدي أبو محمد فرفع إلي خشبة كأنها رجل باب مدورة طويلة ملاء الكف فقال : صر بهذه الخشبة إلى العمري (أحد وكلاءه المقربين) فمضيت فلما صرت في بعض الطرق عرض لي سقاء معه بغل فزاحمني البغل على الطريق . فناداني السقاء ضح عن الطريق ( أي وسع الطريق ) فرفعت الخشبة التي كانت معي فضربت بها البغل ، فانشقت ( الخشبة ) فنظرت إلى كسرهــا فإذا فيها كتب ( رسائل ) فبادرت سريعاً فرددت الخشبة إلى كمي فجعل السقاء ينادي ويشتمني ، ويشتم صاحبي (1) .

هكذا كان الإمام يستخدم اسلوب الكتمان وبهذا المستوى الرفيع .. حتى في نقل الرسائل من دار لدار أو بلد قريب إلى بلد قريب آخر .

وفي نهاية القصة نجد عتاباً شديداً تعرض له حامل الرسالة على تصرفه البعيد عن روح العمل السري فقال خادم الإمام : حكاية عن الإمام قال : وإذا سمعت لنا شاتماً فامضِ في سبيلك التي أمرت بها ، وإياك ان تجاوب من يشتمنا أو تعرفه من أنت ! فأنا ببلد سوء ، ومصر سوء ، وأمضِ في طريقك ، فان أخبارك وأحوالك ترد إلينا فاعلم ذلك (2).

ب - وكان أسلوب التحدث بالاشارة شائعاً في أوساط الشيعة كما يظهر من كثير من قصصهم .. وفي القصة التالية نجد هذا الأسلوب كما نجد مدى تحذير الإمام من مخالفة التقية دعنا نستمع إليها :

يقول محمد بن عبد العزيز البلخي : أصبحت يوماً في شارع الغنم ، فإذا بأبي محمد (ع) قد أقبل من منزله يريد دار العامة (3)، فقلت في نفسي أن صحت أيها الناس هذا حجة اللـه عليكم فاعرفوه ، يقتلوني؟ فلما دنا مني أومأ باصبعه السبابة على فيه ان اسكت . ورأيته تلك الليلة يقول : انما هو الكتمان أو القتل فاتق اللـه على نفسك (4).

ج - ونقرأ عن أسلوب الإشارة أيضاً قصة علي بن محمد بن الحسن قال وافت جماعة من الاهواز من أصحابنا وكنت معهم وخرج السلطان إلى صاحب البصرة ( الذي خرج بالبصرة وهو صاحب الزنج المعروف ) فخرجنا ننظر إلى أبي محمد ( الذي كان يخـرج عادة مـع السلطـان فـي مثل هذه المناسبات الرسمية تطبيقا لمبدأ التقية ) .

فنظرنا إليه ماضياً وقعدنا بين الحائطين بـ ( سر من رأى ) ننتظر رجوعه ، فرجع فلما حاذانا وقرب منا وقف ومدَّ يده إلى قلنسوته فأخذها عن رأسه وأمسكها بيده وأمرَّ يده الأخرى على رأسه ، وضحك في وجهه رجل منا .

فقال الرجل مبادراً : أشهد انك حجة اللـه وخيرته ؛ فقلنا يا هذا ما شأنك ؟ قال : كنت شاكاً فيه فقلت في نفسي ان رجع وأخذ القلنسوة عن رأسه قلت بامامته (5).

 

ملامــح عــن عصــر الإمــام :

وتتسارع دورة الحضارة في أي أمة من البشر إلى نهايتها المأساوية ؛ إلاّ إذا قام فيها مصلحون ودفعوا سفينة الحياة بعيداً عن عواصف الهلاك ، وأعاصير الفتن .. ولعل الآية القرآنية تشير إلى هذه الحقيقة إذ يقول ربنا سبحانه :

{ فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ اُولُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَآ اُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ } (هود/116).

ثم يقول :

{ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ } (هود/117).

فما دامت حركة الإصلاح قائمة في الأمة . تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر . وتقاوم باستمرار بؤر الفساد ( الطغاة ، والمترفين ، والاشياع الجهلة ) فان العذاب يتأخر عنها لانها تصبح قوة تردع الأمة عن الانزلاق إلى الهاوية .

ولقد كانت حضارة الأمة الإسلامية في عصر الإمام العسكري قد تكاثرت فيها عوامل الأنهيار ولولا دفاع الإمام وشيعته عن قيم الحق والعدل ، وجهادهم العظيم ضد الترف والبغي والجهل .. ربما كانت الحضارة تتلاشى بصورة كلية .

لقد أوغل الخلفاء وحاشيتهم الفاسدة في الإرهاب والقمع ، وسرقة أموال الأمة . والاسراف في صرفها على لهوهم أو شراء ضمائر الشعراء والتافهين ..

أما ارهابهم وقمعهم للأحرار والمصلحين ، فقد كانت تلك قاعدة الحكم عندهم . مثلاً عندما انتفضت الشــام ضد الحكم العباسي في عهد المتوكل بعث إليهم بجيش قوامه ثلاثة آلاف راجل وسبعة آلاف فارس . فدخلوا الشام وأباحوا دمشق ثلاثة أيام (6).

وقد كان من أساليب الخلفاء يومئذ في الاعدام القاء المتهم أمام السباع لتأكله . أو القاءهـم فـي تنور ليحترقوا أو ضربهم حتى الموت ، أو ما أشبه من الأساليب الوحشية . وقد انعكس الإرهاب حتى أصبح أسلوباً في فض صراعاتهم الداخلية ، حيـث نجـد الإنقـلابات ، والإغتـيالات أصبحت لغة التفاهم بين أبناء الأسرة الحاكمة ..

فهذا المتوكل الطاغية المرهوب يسلط اللـه عليه ابنه المنتصر . فيتحالف مع بعض قواد جيشه الأتراك. فيثبون عليه ليلاً ، ويقتلونه هو ووزيره الطاغية فتح بن خاقان ، وهما غارقان في اللـهو والفجور حتى يقول الشاعر بحقه :

هكـذا لتكــن منـايـــــــــا الـكـــــــرام * بين نــــــاي ومـــــزهر ومــــــــــدام

بيـن كــــأسين أورثــــــــاه جــميعــا * كــــــأس لـذاتــــه وكـــــأس الحمــام

لم يـــــذل نفســه رسول المنايـــــــا * بصنــوف الأوجــاع والأسقــــام (7)

وبعد المتوكل لم يدم نظام ولده وقاتله المنتصر حيث قيل ان الأتراك الذين ساعدوه في اغتيـال والده خشـوا الفتك بهم فدسوا إليه السمّ عبر طبيبه المعروف بـ ( ابن طيغور ) الذي رشوه بثلاثين ألف دينـار ففصده بريشة مسمومة ، فمات من ساعته (8) .

وحكم المستعين الذي خلعه الأتراك وبايعوا المعتز . وكان قد هرب إلى بغداد وجرد جيشاً لمحاربة الأتراك ولكنهم هزموه وجيشه ثم قتلوه ولم يبلغ الثانية والثلاثين من عمره .

اما المعتز الذي كان شديد العداء لآل البيت (ع) وقد ورث من أبيه المتوكل الحقد ضد الأسرة النبوية الشريفة ، فقد أخذ هو الآخر وأقيم في الشمس في يوم قائظ واضطر ليخلع نفسه أمام قاضي بغداد ثم قتلوه صبراً .

وبعد المعتز نصب الأتراك المهتدي الذي سار على سنة أجداده في الإرهاب والضغط على أهل البيت (ع) وشيعتهم حتى قال : واللـه لأجلينّهم عن جديد الأرض ، ولكن اللـه نفاه إلى جهنم قبل ذلك ، حيث هجم عليه قائد تركي مخمور وضربه على أوداجه ثم أخذ يشرب دمه ، حتى روى منه .

وبعد المعتز بويع المعتمد الذي لم يشذ في شيء من اللـهو والفجور والإرهاب والقمع عن الشجرة الملعونة ( بني العباس ) . لقد كانت تلك صورة خاطفة عن طبيعة النظام القائم على الإرهاب خارجياً وداخلياً .

ولقد كانت سيطرة الأتراك الذين جاء بهم العباسيون كمرتزقة لحماية عروشهم ومقاومة غضب العرب من جهة واستثار الفرس من جهة ثانية فتحولوا مع الزمن ، إلى أكبر مشكلة للحكم العباسي ؛ حيث تسيس الجيش التركي المرتزق ولعل بعضهم كان يتأثر بتيارات سياسية وثقافية معينة ويؤيدهُ ضد تيار آخر ويقوم - تبعاً لذلك - بانقلاب عسكري ضد الخليفة - ولا نستبعد وجود قيادات مؤيدة للتيار العلوي حسبما تشير إلى ذلك بعض الشواهد التاريخية .

وهناك قانون سياسي مشهور كلما توغل النظام في الإرهاب كلما شجع على اللـهو والفجور ليلهي الناس عن الحياة المرة التي يعيشونها . وهكذا فعل العباسيون منذ باكـورة عهـدهـم حيـث تشهـد بذلك قصص ألف ليلة وليلة وأخبار قصورهم المليئة بأسباب اللـهو والدعارة .

وكلما تقدم الزمن وزاد إرهاب العباسيين وعزلتهم عن الجماهير كلما أزدادوا انهماكاً في اللذات حتى إذا بلغ عهد المتوكل بلغ به الخلاعة واللـهو الذروة . فكانت مجالسته معروفة حتى قال المؤرخون انه كان يملك خمسة آلاف سرية يقال انه قاربهن جميعاً ، حتى حلف عبد من عبيده انه لو لم يقتل لما عاش طويلاً لكثرة جماعه (9) .

واللـهو والترف كان على حساب الجماهير المستضعفة حيث كان النظام يستنزف الناس بزيادة الخراج ( التي هي بمثابة الضرائب اليوم ) وبقمع المعترضين ، وكلما سبب ترف النظام وبذخه افلاس الخزينة ابتدع الولاة أسلوباً جديداً في جمع الأموال من الناس ، وفرض الضرائب الفادحة عليهم .

واستأثروا بأموال الدولة وكانت أموال المحسوبين تقدر بالملايين . وكان يفرق الخليفة على رؤساء جنده، وأقاربه وأرحامه ، والشعراء المتزلفين إليه الأموال الطائلة التي تعد بآلاف الألوف .

وكانت عطايا المتوكل على بعض جواريه تعد بخمسين ألف . وقد صنعت في عهد المقتدرصورة مجسمة لقرية من فضة وقد كانت كل ما في القرى من اشجار وحيوانات وبيوت ، وقد أنفق عليها أموال طائلة .. ثم هداها الخليفة إلى بعض جواري أمه .

وقد بنى المتوكل قصراً فخماً أنفق عليه مليون وسبعمائة ألف دينار فدخل عليه بعض حواشيه (يحيى) وقال : أرجو - يا أمير المؤمنين - ان يشكر اللـه لك بناء هذا القصر فيوجب لك به الجنة .

تعجب المتوكل من كلام هذا المتزلف التافه . لأنه كان يعرف انه سرق أموال الشعـب وبنى به هذا القصر وانى يرضى الرب بذلك فقال : وكيف ذلك ؟ قال يحيى : لانك شوقت الناس بهذا القصر إلى الجنة ، فيدعوهم ذلك إلى الأعمال الصالحة التي يرجون بها دخول الجنة فسرَّ بذلك المتوكل (10) .

وكان المتـوكل قـد أمـر ألاّ يدخـل فـي هذا القصر أحد إلاّ وهو في ثياب من الديباج والوشي وقد أحضر أصحاب الملاهي والمعازف ..

وإلى جانب هذا البذخ كان يعيش عامة الناس أشد البؤس . أو ليس قد قال الإمام أمير المؤمنين (ع) : “ ما رأيت نعمة موفورة إلاّ وبجانبها حق مضيع “ .

وقد عبر الشعراء المعدمون عن تلك الحياة الصعبة التي كان يعيشها عامة الناس ، أحسن تعبير فقال بعضهم وهو يصف حالة نفسه ( التي تعكس حالة مجتمعه ) وكيف ان له صبية أضرّ بهم الجوع ..

و صـبـــيــة مـثــــل صغـــــار الذر * سـود الــوجـــــوه كسواد القــــدر

جــــاء الشــــــــتاء وهــم بــــشـر * بغــــيـــر قــــمــص و بغــــير ازر

تــــراهـــم بعــد صــلاة العــــصـر * وبعــــضهــم ملتــــصــق بصـدري

وبعضهم مــلتصـق بــــظهـــــــري * وبعـــــــضهم منحجــر بحــــجـري

إذا بكــــوا عــــــللتهــم بـالفجــــر * حــــتى إذا لاح عــــمـود الــــفجـر

ولاحــت الشمـس خرجت أســري * عنهــــــم وحــلّـوا بـأصول الجــدر

كــأنهـم خــــنــافــس فــي حجــــر * هـذا جــــميـع قــــصتـي وامــــري

فارحــم عيـالـي وتــــــول أمــري * فـــــأنت أنــت ثقــــتــي وذخــــــري

كنيــت نفســي كنيــة فــي شعــــر * أنا أبو الفــقــر وأمِّ الـفــقـــر(11)

وكان المعارضون للسلطة يواجهون حصاراً إقتصادياً شديداً . وقد بلغ الأمـر بالسلالة العلويـة في عهد

المتوكل ان القميص الواحد كان مشتركاً بين العلويات تصلي فيه الواحدة بعد الأخرى (12) .

وبسبب هذا الوضع الإجتماعي البائس اندلعت ثورات إجتماعية أبرزها - في عصر الإمام العسكري - ثورة يحيى بن عمر الطالبي التي اندلعت في الكوفة فاستولى يحيى عليها وأخرج من كان في سجونها ، ولكنها قمعت من قبل العسكر العباسي . وقتل قائدها وكان يوماً عظيماً في تاريخ الحركة الرسالية . إذ كانت تلك المصيبة حلقة في سلسلة المصائب التي تواردت على آل النبي (ص) وقـد رثاه بعض الشعراء بأبيات منها :

بـــكــــــــــت الخـــــيل شجــوهــــــا * وبكــــاه الــمهنـد الــمصــــــقــول

وبكــاه العـراق شرقـاً وغـــــربــــاً * و بكــــاه الكتــاب والتـــــنـزيـــــل

والمصلـي والبـــــيــت والـــحــــــــ * ــجـــــر جـــــميعـا عليــه عــويــل

كــــيـف لم تسقــط السمـاء علينــا * يـوم قالوا أبو الحسيـن قتيل(13)

وثورة الزنج التي قادها علي بن عبد الرحيم من بني عبد القيس وقد ادعى انه علوي إلاّ ان المؤرخين يشكون في ذلك وقد صدر عن الإمام العسكري بيان ينفي كونه منهم أهل البيت .

ولا ريب انها من أعظم الثورات في ذلك العصر . حيث اتبعها المحرومون والفقراء ، وقد استنفذت طاقات الخلافة العباسية ردحاً من الزمن .

وقد أثرت هذه الطريقة الشاذة التي اتبعها السلاطين في إدارة البلاد باسم الخلافة الإسلامية أثرت تأثيراً سلبياً على الثقافة الدينية للأمة ! فاستغل المتأثرون بالفلسفة اليونانية هذا الوضع ، وحاولوا تشكيك الناس بحقائق دينهم وكان بينهم الفيلسوف المعروف “ إسحاق الكندي “ حيث اخذ في تأليف كتاب يظن انه يرد على القرآن الكريم ويبين تناقضاته ( على طريقة الفلاسفة في الرد على بعضهم عبر بيان تهافت أفكارهم ) فلما انتهى الخبر إلى الإمام العسكري طلب بعض تلامذة الكندي وقال له : اما فيكم رجل رشيد يردع استاذكم الكندي عما أخذ فيه من تشاغله بالقرآن ؟

فلما سأله الرجل عن كيفية ذلك قال له الإمام (ع) : “ أتؤدي إليه ما ألقيه إليك “ ؟

قال : نعم قال :

“ صر إليه ، وتلطف في مؤانسته ، ومعونته على ما هو بسبيله فإذا وقعت الأنسة فقل : قد حضرتني مسألة أسألك عنها ، فانك تستدعي ذلك منك ، فقل له .. ان أتاك هذا المتكلم بهذا القرآن ، هل يجوز ان يكون مراده بما تكلم منه غير المعاني التي قد ظننتها انك ذهبت إليها ، فانه سيقول لك انه من الجائز لانه رجل يفهم إذا سمع ؛ فإذا أوجب ذلك فقل له : فما يدريك لعله أراد غير هذا الذي ذهبت أنت إليه ، فيكون واضعاً لغير معانيه “ .

فذهب الرجل إليه . وصنع مثلما أمره الإمام فوقع الكلام في قلبه موقعه لانه - كما أشار الإمام - كان رجلاً ذكياً فهماً . وعرف ان الإحتمال - مجرد الإحتمال - يبطل الإستدلال - كما يقول الفلاسفة - وان هذا الكلام لو انتشر في تلامذته لم يصدقه أحد في كتابه فيكون قد حكم على نفسه بالسفه إذا هو أصر في تأليف الكتاب فارتدع عنه ولكنه سأل من الرجل وقال له :

أقسمت عليك الا ما أخبرتني من أين لك هذا ؟ قال الرجل : أنه شيء عرض بقلبي فأوردته عليك قال الكندي : كلا ما مثلك من يهتدي إلى هذا : قال الرجل : أمرني به الامام أبو محمد .. فقال الكندي : وما كان ليخرج مثل هذا إلاّ من ذلك البيت .. وعمد إلى كتابه فأتلفه (14).

وهكذا أنقذ الإمام دين جده المصطفى (ع) من كتاب شبهة وضلالة - ولعل - هذا التلميذ كان من شيعة الإمام الذي تسلل إلى جهاز الكندي . إذ من المناسب جداً استخدام هذه الأساليب من قبل القيادات الرسالية لمقاومة التيارات المنحرفة !

وكم من المبادرات الشجاعة قامت بها القيادة الرسالية لصد هجمات الأعداء الفكرية وظلت في طي الكتمان لطبيعتها السرية - مثل هذه المبادرة - أو لضياع المصادر والمراجع التاريخية .

ومثل هذه المبادرة قصة الإمام (ع) مع الراهب الدجال الذي كاد يفسد على ضعفاء النفوس دينهم ، والتي سبق الحديث عنها .

 

(1) بحار الأنوار : ( ج 50 ، ص 283 ).

(2) المصدر .

(3) لعلها كانت داراً يجلس فيها للعامة.

(4) المصدر : ( ص 290 ) .

(5) المصدر : ( ص 294 ) .

(6) حياة الإمام العسكري : ( ص 217 ) .

(7) المصدر : ( ص 242 ) .

(8) المصدر : ( ص 246 )

(9) المصدر : ( ص 231 ) .

(10) المصدر : ( ص 192 ) نقلاً عن عيون التواريخ 6 / ورقة 170 مصدر في مكتبة الإمام أمير المؤمنين بالنجف الأشرف .

(11) المصدر : ( ص 195 ) نقلاً عن طبقات ابن المعتز : ( ص 377 ) .

(12) المصدر : ( ص 234 ) نقلاً عن مقاتل الطالبيين .

(13) المصدر : ( ص 216 ) عن ابن الأثير : ( ج5 ، ص 314 - 316 ) .

(14) المصدر : ( ص 220 - 221 ) نقلاً عن المناقب : ( ج 4 ، ص 424 ) .