فهرس الكتاب

مكتبة الإمام العسكري (ع)

 

الفصل الثالث : شهادته الاليمة

كان يوم الثامن من ربيع الأول ، لعام 260 هجرية يوماً كئيباً في مدينة سامراء حيث انتشر نبأ استشهاد الإمام العسكري في عنفوان شبابه .

عطلت الأسواق وهرع الناس إلى دار الإمام يبكون وشبَّه المؤرخون ذلك اليوم الحزين بيوم القيامة ، لماذا ؟ لان الجماهير المحرومة التي كانت تكتم حبها واحترامها للإمام العظيم خشية بطش النظام .. أطلقت اليوم العنان لعواطفها الجياشة .

آه كم عانى أهل بيت النبوة في سبيل ترسيخ دعائم الدين ونشر قيم التوحيد .

كم سفكت دماءهم ، وهتكت حرماتهم ولم ترع حقوقهم وقرابتهم من رسول اللـه (ص) .

حقاً كم هي عظيمة محنة أولياء اللـه على مر العصور .. وكم هو عظم مقامهم عند ربهم وأجرهم !

وهـذا الإمـام العظيم الذي يرحل عن دنياهم ، ولم يتجاوز عمره السادسة والعشرين . كم كابد من ألوان المحن ، منذ عهد المتوكل الطاغوت التافه الذي ناصب أهل بيت الرسالة - العداء - وهدم قبر أبي عبد اللـه الحسين (ع) .. وإلى عهد المستعين باللـه الذي حبس الإمام عند واحد من أشد رجاله عداوة لآل البيت .. ( اوتاش الذي اهتدى بالإمام بعد ان رأى منه الكرامات ) . وكاد ان يقتل الإمام لولا ان اللـه لم يمهله فخلع عن السلطة .

وإلى عهد المعتز الذي عمد على سجن الإمام فتضرع الإمام إلى اللـه حتى هلك .

وحتى عهد المهتدي الذي ظل يضايق الإمام حتى اعتقله وأراد قتله ولكن الإمام أخبر واحداً من أصحابه واسمه أبو هاشم بما يلي :

يا أبا هاشم ان هذا الطاغية أراد قتلي في هذه الليلة . وقد بتر اللـه عمره ، ليس لي ولد وسيرزقني اللـه ولــداً (1).

وأخيراً في عهد المعتمد الذي لم يزل يؤذيه حتى اعتقله .

بلى عاش الإمام أكثر أيام قيادته في محن وها هو يقضي نحبه . هل مات حتف أنفه . أم دسَّ إليه الســــم ؟

لقد كان السم من أشهر وسائل الإغتيال عند السلاطين في ذلك العهد . وكانت خشيتهم من أمثال الإمام من القيادات الدينية المحبوبة تدفعهم إلى تصفيتهم بمثل هذه الطريقة .

ويزيدنا دلالة على ذلك طريقة تعامل النظام مع الإمام في مرضه حيث أوعز الخليفة إلى خمسـة مـن ثقاته بملازمة الإمام في مرضه ، وجمع له بعض الأطباء ليرافقوه ليل نهار (2).

لماذا ؟ يبدو ان هناك سببين لمثل هذا التصرف الغريب :

أولاً : محاولة التنصل عن مسؤولية اغتيال الإمام ، أمام الجماهير . وحسب المثل المعروف عن السياسيين : أقتله وابك تحت جنازته .

ثانياً : كان معروفاً عند كل الناس وبالذات عند الساسة ، ان أئمة أهل البيت يحظون باحترام أوسع الجماهير وان الشيعة يعتقدون بان الإمامة تنتقل فيهم كابراً عن كابر . وها هو الإمام الحادي عشر يكاد يرحل عنهم إذاً لابد ان يكون هناك وصي له فمن هو هذا الوصي ؟ كان الخلفاء العباسيون يحاولون دائماً معرفة الوصي عند شهادة واحد من الأئمة . وكان الأئمة يخفون أوصيائهم عند الخوف عليهم حتى يزول الخطر .

ومن جهة اخرى كانت أحاديث المهدي المنتظر سلام اللـه عليه قد ملأت الخافقين وكان العلماء يعرفون انه الوصي الثاني عشر . ومن غير المعقول الا يعرف سلاطين بني العباس شيئاً من تلك الأحاديث . لذلك تراهم يبحثون عن المنتظر بكل وسيلة لعلهم يقدرون على اطفاء نوره الإلهي .. ولكن هيهات .

من هنا اتخذ المعتمد العباسي تدابير استثنائية عندما ثقل حال الإمام وأشرف على الرحيل .

اما بعد وفاته فقد أمر بتفتيش داره ، ومراقبة جواريه ، ولم يكن يعرف ان اللـه بالغ أمره وان الإمام المنتظر قد ولد قبل أكثر من خمس سنوات وانه قد أخفي عن عيون النظام . وان صفوة الشيعة قد بايعوه .

وهكــذا رحل الإمام بسم المعتمد (3) وبعد وفاته وغسله وتكفينه صلى عليه من طرف السلطة أبو عيســى ابن المتوكــل نيابة عن الخليفة وبعد الفراغ كشف وجه الإمام وعرض على الهاشميين والعلوييــــن - بالذات - وكبار المسؤولين ، والقضاة والأطباء وقال هذا الحسن بن ( علي ) بن محمد بن الرضا مات حتف أنفه على فراشه ، وحضره من خدم أمير المؤمنين وثقاته فلان وفلان ، ومن القضاة فلان وفلان ، ومن المتطَّببين فلان وفلان ، ثم غطى وجهه الشريف (4).

وهذا الاجراء جاء لنفي تورط السلطةف في قتل الإمام . مما يدل على أنها كانت متهمة من قبل الناس بذلك .

هكذا رحل الإمام . وخلف وراءه مسيرة وضاءة ليهتدي بنورها الأجيال .. ودفن في مقامه الشريف في مدينة سامراء عند قبر والده حيث لا يزال المسلمون يتوافدون للسلام عليه .

فسلام اللـه عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حياً ..

وسلام اللـه على شيعته واتباعه إلى يوم القيامة .

 

الوصية الأخيرة :

كانت شمس الإمامة تميل إلى المغيب - حيث قدّر اللـه ان تشع هذه الشمس من وراء حجاب الغيبة الصغرى ثم الكبرى . لذلك قام الإمام الحسن العسكري سلام اللـه عليه بدورين هامين :

أولاً : التأكيد على بصيرة الغيبة وأخذ البيعة لولي اللـه الأعظم الإمام المنتظر عجل اللـه فرجه .

ثانياً : ترسيخ قواعد المرجعية الدينية .

 

ألف : البيعة للمنتظر :

تظافرت الأحاديث حول الإمام الحجة المنتظر سلام اللـه عليه ، التي صدرت عن النبي وعن أئمة الهدى جميعاً .. الا ان تأكيد الإمام العسكري (ع) على هذا الأمر كان ذا أثر أبلغ لأنه قد حدد شخص الإمام لخواص أصحابه وهناك روايات عديدة في ذلك نكتفي بذكر واحدة منها .

روى الثقة أحمد بن إسحاق بن سعيد الأشعري ، قال : دخلت على أبي محمِّد الحسن بن عليّ (ع) ، وأنا أريد ان أسأله عن الخلف من بعده ، فقال لي مبتدئاً :

“ يا احمد بن إسحاق إنَّ اللـه تبارك وتعالى لم يخل الأرض منذ خلق آدم ، ولا يخليها إلى ان تقوم الساعة من حجة اللـه على خلقه ، به يرفع البلاء عن أهل الأرض ، وبه ينزل الغيث ، وبه يخرج بركات الأرض “ .

فقلت له : يابن رسول اللـه ! فمن الإمام والخليفة بعدك ؟

فنهض مسرعاً فدخل البيت ، ثم خرج وعلى عاتقه غلام كأنَّ وجهه القمر ليلة البدر من أبناء ثلاث سنين فقال :

“ يا أحمد لولا كرامتك على اللـه - عزّ وجلّ - وعلى حججه ما عرضت عليك ابني هذا إنِّه سمّي باسم رسول اللـه وكنيته الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً : يا أحمد مثله في هذه الأمة مثل الخضر ، ومثل ذي القرنين ، واللـه ليغيبنّ غيبةً لا ينجو من الهلكة فيها إلاّ من ثبّته اللـه على القول بإمامته ، ورفقه فيها للدعاء بتعجيل فرجه “ (5).

 

باء : المرجعية الرشيدة :

وكـان لابد لهذه الإمامة التي كانت امتداد للرسالة الإلهية ، كيان إجتماعي على الأرض وهم الشيعة المخلصـــون ، وكان لابد لهؤلاء من نظـــام إجتماعـــي راســـخ قــــادر على مواجهـــة التحــديـات ، وقد تمـثــل فــــي

القيادة المرجعية ، التي تعني تمحور الطائفة حول العلماء باللـه الأمناء على حلاله وحرامه . لذلك ترَّسخ في عهد الإمام العسكري نظام المرجعية حيث تعاظم دور علماء الشيعة باعتبارهم وكلاء ونواب وسفراء عن الإمام المعصوم (ع) وانتشرت روايات عن الإمام العسكري في دور علماء الدين منها تلك الرواية المعروفة التي نقلت عن الإمام العسكري عن جده الإمام الصادق (ع) . والتي جاء فيها :

“ من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً لهواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام ان يقلدوه “ .

وهكذا طفق العلماء المهتدون بضياء أهل البيت (ع) بالتصدي لشؤون الطائفة في عصر الإمام (ع) . وكانوا يراسلون الإمام فيما تأتيهم من مسائل غامضة فيأتيهم الجواب المختوم بتوقيعه مما سمي عندهم بالتواقيع ، وقد اشتهرت جملة منها عن الإمام العسكري (ع) .

وفيما يلي نذكر أسماء طائفة من أصحاب الإمام والرواة عنه والذين كان بعضهم في مركز قيادة الطائفة حسبما يتبين من التاريخ .

1 - إبراهيم بن أبي حفص الذي قال عنه النجاشي : انه شيخ من أصحاب أبي محمد العسكري (ع) وأضاف في تعريفه : ثقة وجه له كتاب الردّ على الغالية وأبي الخطاب (6)..

ويبدو من كلمته أنه وجه وانه كان شخصية معروفة عند أبناء الطائفة أو عند الناس جميعاً .

2 - أحمد بن إدريس القمي قـال عنه النجاشي : كان ثقة فقيهاً في أصحابنا كثير الحديث صحيح الرواية (7)..

3 - أحمد بن إسحاق الأشعري - كان وافد القميين وكان من خواص الإمام العسكري (ع) .

وقد روى كتباً عن أهل البيت (ع) وقال عنه الشيخ ، انه ممن رأى الإمام صاحب الزمان (ع) (8).

4 - الحسن بن شكيب المروزي كان عالماً متكلماً ومصنفاً للكتب وكان يسكن سمرقند وقد عدهُ الشيخ الطوسي في أصحاب الإمام العسكري (ع) (9).

5 - الحسن بن موسى الخشاب ، الذي يقول عنه النجاشي : انه من وجوه أصحابنا ، مشهور ، كثير العلم والحديث ، له مصنفات منها : كتاب “ الرد على الواقفة “ وكتاب “ النوادر “ (10).

6 - حفص بن عمرو العمري الذي عدّه الشيخ من أصحاب الإمام أبي محمد (ع) وقد خرج من الإمام بشأنه توقيع جاء فيه :

“ فلا تخرجن من البلد حتى تلقى العمري ، رضي الله عنه برضائي عنه فتسلم عليه ، وتعرفه ويعرفك ،

فانه الطاهر الأمين ، العفيف القريب منا وإلينا ، فكل ما يحمله إلينا من شيء من النواحي فإليه يصير آخر أمره ، ليوصل ذلك إلينا “ (11).

وهذا التوقيع يدل على منهجية الإمام (ع) في تكريس القيادات الصالحة في الطائفة ، لتكون المرجع ، لشؤونها في عصرهم ، وليصير سنة حسنة في العصور التالية .

7 - حمدان بن سليمان : أبو سعيد النيشابوري ، عده الشيخ من أصحاب الإمام العسكري وكان ثقة من وجوه الشيعة (12).

8 - سعد بن عبد اللـه القمي حيث عاصر الإمام العسكري (ع) بالرغم من ان الشيخ الطوسي قال عنه: لم أعلم انه قد روى عنه ، وقال النجاشي عنه : انه شيـخ هذه الطائفة وفقيهها وحجتها وقد صنـّف كتباً كثيرة ، وسافر في طلب الحديث . وسمعه من أئمته من مختلف المذاهب (13).

9 - السيـد عبـد العظيـم الحسـني الـذي ينتهي نسبه إلى الإمام المجتبى (ع) . وكان عالماً فقيهاً زاهداً، معارضاً للسلطات الطاغية ، وكان الأئمة يأمرون شيعتهم بالرجوع إليه . فقد روى أبو حماد الرازي وقال : دخلت على علي بن محمد ( الإمام الهادي عليه السلام ) بسر من رأى ، فسألته عن أشياء من الحلال والحرام فأجابني فيها ، ولما ودعته قال لي :

“ يا حماد إذا أشكل عليك شيء من أمر دينك بناحيتك ، فسل عنه عبد العظيم بن عبد اللـه الحسني واقرأه مني السلام “ (14) .

وقد اشتهر بين الشيعة في منطقة ( الري ) بالرغم من اختفاءه وسرية أعماله حتى إذا مات ، دفن في بستان هناك ، وأصبح قبره مزاراً للطائفة حتى اليوم .

10 - عبد اللـه بن جعفر الحميري الذي كان شيخ القميين ووجههم وقد ألف كتباً كثيرة في حقول شتى وقد قدم الكوفة زهاء عام التسعين بعد المائتين فسمع أهلها منه حديثاً كثيراً (15) .

11 - علي بن جعفر الهماني الذي كان - حسب البرقي - فاضلاً مرضياً من وكلاء الإمامين الهادي والعسكري (ع) ، وقد روى الكشي فيه حديثاً طريفاً . جاء فيه : انه حبس في عهد المتوكل العباسي لصلته بالإمام الهادي فلما طال حبسه وعد أحد أمراء العباسيين ( واسمه عبد اللـه بن خاقان ) بثلاثة آلاف دينار ليكلم المتوكل فيه فلما كلمه قال : يا عبد اللـه لو شككت فيك لقلت انك رافضي وأضاف : هذا وكيل فلان (يعني الإمام الهادي عليه السلام) وأنا عازم على قتله فلما بلغ الهماني هذا الخبر كتب إلى أبي

الحسن (ع) “ يا سيدي اللـه اللـه فيَّ فقد - واللـه - خفت ان أرتاب ، فوقع في رقعة :

اما إذا بلغ بك الأمر ما أرى فسأقصد اللـه فيك .

وكان هذا في ليلة الجمعة فأصبح المتوكل محموماً فازدادت عليه حتى صرخ عليه يـوم الأثنين . فأمـر بتخلية كل محبوس عرض عليه إسمه حتى ذكر له علي بن جعفر ( الهماني ) فقال لعبد اللـه ( بن الخاقان ) لِمَ لَمْ تعرض علي أمره ؟ فقال : لا أعود إلى ذكره أبداً قال : خل سبيله الساعة وسله ان يجعلني في حل فخلى سبيله وصار إلى مكة بأمر أبي الحسن (ع) فجاور بها (16) .

وقد وقع خلاف بين علي بن جعفر وبين شخص كان ينافسه في زعامة الشيعة إسمه فارس . فكتب بعضهم إلى الإمام العسكري يسأله عنهما فجاء الكتاب بتوثيق علي بن جعفر وكان ضمن الكتاب :

قد عظّم اللـه قدر علي بن جعفر . متعنا اللـه تعالى به وأضاف ، فأقصد علي بن جعفر بحوائجك . واخشوا فارساً وامتنعوا في ادخاله في شيء من أموركم (17) .

ومن هذا التوقيع يتبين كيف كان الأئمة (ع) يديرون شؤون الطائفة من خلال وكلائهم ، ويكرسون المرجعية الدينية في اوساطهم .

12 - محمد بن الحسن الصفار الذي كان وجهاً من وجوه الشيعة في قم وكان ثقة عظيم القدر وقد ألف عشرات الكتب حفظ فيها أحاديث أهل البيت (ع) في مختلف الحقول . وقد كانت له مراسلات مع الإمام العسكري (ع) (18) .

13 - الفضل بن شاذان الذي كان من أكثر الشيعة انتاجاً ، وقالوا ان بعض مؤلفاته قد حظيت برضا الإمام العسكري (ع) وانه كتب فيه : هذا صحيح ينبغي ان يعمل به . وقالوا : ان الإمام (ع) نظر في بعض مؤلفاته وقال :

“ اغبط أهل خراسان بمكان الفضل بن شاذان وكونه بين أظهرهم “ (19) .

14 - عثمان بن سعيد العمري الذي كان من أعمدة النظام المرجعي في عهد الإمام العسكري (ع) وقد أشار الأئمة بمقامه . وكان عظيم الشأن عند الطائفة وقد كان الإمام الهادي (ع) يرجع الطائفة إليه . حسبما جاء في رواية أحمد بن إسحاق القمي قال :

دخلت على أبي الحسن علي بن محمد صلوات اللـه عليه في يوم من الأيام فقلت يا سيدي أين أغيب وأشهد ، ولا يتهيأ لي للوصول إليك إذا شهدت في كل وقت فقول من نقبل ، وامر من نمتثل ؟ فقال لي صلوات اللـه عليه :

“ هـذا أبـو عمـرو الثقة الأمين ، ما قاله لكم فعني يقوله . وما أداه إليكم فعني يؤديه “ .

فلما مضى أبو الحسن (ع) ، وصلت إلى أبي محمد ابنه الحسن العسكري (ع) ذات يوم ، فقلت مثل قولي لأبيه ، فقال لي :

“ هذا أبو عمرو الثقة الأمين ، ثقة الماضي وثقتي في المحيا والممات ، فما قاله لكم فعني يقوله ن وما أدى إليكم فعني يؤديه “ (20) .

وبعد الإمام العسكري تولى عثمان بن سعيد مقام النيابه عن سيدنا ومولانا الإمام المهدي عجل اللـه تعالى فرجه مده خمسين سنة حيث كان جسراً بين الطائفة وبين الإمام الغائب (ع) .

15 - علي بن بلال الذي كان من وجوه الشيعة في الواسط ( فيما يبدو ) وقد اعتمده الأئمة (ع) في رسائلهم . وقد جاء في بعض الرسائل الواردة إليه من الإمام العسكري (ع) : “ وقد أعلم انك شيخ ناحيتـك ، فاحببت أفرادك واكرامك بالكتاب بذلك “ .

وجاء في رسالة منه موجهة إلى إسحاق ( احد أصحابه ) :

“ يا إسحاق أقرأ كتابنا على البلالي رضي اللـه عنه فانه الثقة المأمون العارف بما يجب عليه “ (21) .

16 - العمري ، نجل عثمان بن سعيد الذي كان - كما والده - من أعمدة النظام المرجعي الذي أقامه أئمة الهدى (ع) في الطائفة حيث جعلوه معتمداً من قبلهم في شؤون الشيعة وقد سأل أحمد بن إسحاق الإمام العسكري ، وقال : من أعامل ، أو عمَّن آخذ ؟ وقول من أقبل ؟ فقال (ع) :

“ العمري - عثمان بن سعيد ، وابنه - يعني محمد - ثقتان فما أديا إليك فعني يؤديان “ (22) .

وورد التوقيـع مـن لدن الإمام الحجة المنتظر (ع) عند وفاة والده جاء فيه :

“ أجزل اللـه لك الثواب ، وأحسن إليك العزاء ، رزيت ورزينا ، وأوحشك فراقه وأوحشنا ، فسرّه اللـه في منقلبه ، كان من كمال سعادته ، ان رزقه اللـه ولداً مثلك يخلفه من بعده ويقوم مقامه بامــــره ويترحم عليــــه “ (23).

هؤلاء هم بعض وكلاء الإمام ونوابه والذين بهم ترسخت أعمدة النظام المرجعي في الأمة . ذلك النظام الذي يعتبر منهجاً في التحرك السياسي ، وسبيلاً قويماً للدعوة إلى اللـه ، وتنظيماً رسالياً للمجتمع . كما انه يصلح ان يكون نظاماً سياسياً للأمة إذا عاد الحكم إلى أهله .

وينبعث النظام المرجعي ، كما نظام الإمامة من صميم الدين ، إذ انه تنظيم بعيد عن الطائفية والعشائرية . كما هو بعيد عن الروح الحزبية والفئوية . ولا تزال الطائفة الشيعية تعيش في ظل هذا التنظيم الرسالي منذ عهد الأئمة الأطهار (ع) وتتمتع بكفائته العالية ، بالرغم من ان تخلف الأمة قد سبَّب قدراً من التوقف فيه ، وعدم التسارع إلى التطور في بعض جوانبه .. .

ولان عهد الإمام العسكري قد تميَّز بتكريس هذه القيادة للطائفة ، ولان هذه القيادة لا تزال حتى اليوم تتصدى لشؤون الطائفة الدنيوية والأخروية ، فمن المناسب أن نتحدث قليلاً عن واقع المرجعية وأبعادها بكلمات :

أولاً : لأن المرجعية نظام إلهي وتكمن قوة تنفيذ أوامرها من فطرة الإنسان ، ووجدانه وروح التقوى في ذاته . فان هذا النظام يكون منسجماً مع سائر الأحكام الشرعية التي تنفذ هي الأخرى بروح التقوى .

ان السياسة في الإسلام - كما المجتمع والشؤون الشخصية - محراب عبادة . ومعراج المؤمن إلى اللـه . فمن أجل اللـه يطيع المؤمن ولي أمره وفي سبيل اللـه ينبعث إلى القتال ضد أعداءه وابتغاءً لمرضاة اللـه ينضوي تحت راية الحركة الدينية وتنفيذ أوامرها . واتباعاً لأمر اللـه تراه يخالف الطاغوت .. ويتمرد ضد سلطة ظالمة ، ويبني كياناً سياسياً بديلاً . .

ومن هنا فان كلمة التقوى وليست حمية الجاهلية وعصبيتها الضيقة ، تضحى محور المجتمع الإسلامي . وقاعدة انطلاقه ، وآصرة الشد بين أركانه .. هكذا نقرأ في كتاب ربنا سبحانه :

{ إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَاَنزَلَ اللـه سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللـه بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } (الفتح/26)

وفرق كبير بين حمية الجاهلية وكلمة التقوى - إذ الحمية التي يسميها ابن خلدون العصبية ويجعلها سبباً للملك ومحوراً للمدينة - انها : تنبعث من قيم مادية ، وتبعث إلى الصراع والتناحر ، ولا تتناسب والأحكام الإلهية ذات القيم الإنسانية النقية عن شوائب الشرك والحقد والتحزب .

من هنا قال ربنا سبحانه :

{ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ } (النساء/59)

وهكذا تصبح طاعة أولي الأمر ، امتداداً لطاعة اللـه والرسول ، بل تصبح تجسداً لهما ، ووسيلة إليهما . فأنى يمكن طاعة اللـه ورسوله من دون طاعة تلك القيادة التي أمر اللـه بها !

ثانيا : لان أساس بناء المرجعية ، التقوى ، لا الحمية ، فإنَّ هذا الكيان يتجاوز الأرض والدم واللغة ، وسائر الفوارق المادية التي تفصل بين الناس ، ويُنشأ المجتمع الإسلامي النقي ، الذي يقوم على أساس طاعة الإمام الحق ( ولي أمر المسلمين ) ويكون جسراً بين سائر الأمم . ووسيلة لتقاربهم ، ومحوراً لتجميعهم ، وبالتالي يُصبح المؤمنون بالشريعة ، فوق حواجز العرق والإقليم والمصلحة . شاهدين على الناس بالحق . قوّامين بينهم بالقسط ، كما قال ربنا سبحانه :

{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ اُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } (البقرة/143)

ان الحظيرة القُدسية التي تدعونا إليها رسالات السماء ، تجمع الأسود والأبيض ، الفقير والغنى ،العـــرب

والعجم ، البعيد والقريب ، تجمعهم تحت ظل التوحيد ، وفي منزل صدق ، وعلى مائدة الرحمن ، وما المرجعية الرشيدة إلاّ اطاراً لهذا الجمع المبارك والوفد الميمون !

وإذا كانت رسالات اللـه عبر العصور تبشر البشر بمملكة اللـه في الأرض ، حيث يسود الحب والعدل والاحسان . فان التجمع المرجعي الحق صورة لتلك المملكة الموعودة . ترعاها عناية الرب سبحانه .

ثالثاً : ولأن محور التجمع في ظل المرجعية الرشيدة هو التقوى التي قال عنها ربنا سبحانه :

{ يَآ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَرٍ وَاُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللـه أَتْقَاكُمْ } (الحُجُرات/13)

لذلك ، فان الكفاءة والامامة هما الوسيلة الوحيدة لصعود الأفراد . لا الغنى والنسب والعرق والمحسوبيات ..

وهكذا تصبح الكفاءة والأمانة قصب السبق الذي يتنافس عليهما أبناء المجتمع فتعلو بذلك هممهم وتطلعاتهم ويحلق المجتمع عالياً في سماء المجد والعظمة . لان الكفاءة والأمانة هما كجناحي طائر لأي مجتمع متقدم يخفقان بالسعادة والفلاح .

 

وكلمة أخيرة :

أن اللـه سبحانه قد أتم حجته البالغة على عباده بهذه المرجعية الرشيدة ولكنه لم يكرههم عليها ، كما لم يكرههم على سائر المبادىء والأحكام . والناس يسعدون بقدر قربهم من هذا النموذج الأسمى . اما إذا ابتعدوا عنه فقد تمت الحجة عليهم !

 

 

(1) المصدر : ( ص 254 ) نقلاً عن مهج الدعوات : ( ص 274 ) .

(2) المصدر : ( ص 267 ) عن الإرشاد : ( ص 383 ) .

(3) المصدر : ( ص 267 ) عن الارشاد : ( ص 383 ) .

(4) المصدر : ( ص 268 ) نقلا عن الإرشاد : ( ص 383 ) .

(5) المصدر : ( ص 263) .

(6) حياة الإمام الحسن العسكري لمؤلفه الأستاذ باقر شريف القرشي : ( ص 131 ).

(7) المصدر : ( ص 135 ) .

(8) المصدر : ( ص 136) .

(9) المصدر : ( ص 141 ) .

(10) المصدر : ( ص 142) .

(11) المصدر : ( ص 144 ) .

(12) المصدر .

(13) المصدر : ( ص 148 )

(14) المصدر : ( ص 150 )

(15) المصدر : ( ص 151 ) .

(16) المصدر : ( ص 156 ) .

(17) المصدر : ( ص 157 ) .

(18) المصدر : ( ص 165 ) .

(19) المصدر : ( ص 161 ) .

(20) المصدر : ( ص 153 ) .

(21) المصدر : ( ص 155 ) .

(22) المصدر : ( ص 168 ) .

(23) المصدر .