فهرس الفصل الأول

سمو العطاء

كما هو سام في أخلاقه هو سام في نبل عطائه. كريم ابن كريم وعظيم ابن عظيم، آثر الآخرين على نفسه وأعطاهم من نفسه وعلمه وماله، أعطاهم من أجل العطاء، وأحبهم من أجل المحبة وأحسن إليهم من أجل الإحسان. همه الإنسان من أجل كسب رضى الرحمن. وليس المهم في العطاء هو أن تكون المبالغ المعطاة كبيرة، بل المهم ما يصحب ذلك العطاء من إيمان وتقى، ويحفظ للسائل ماء وجهه وكرامته، وكلما كانت حاجة السائل أكثر كانت العطية منه أفضل. والكرم من صفات الله عز وجل، أطلقها على نفسه فهو كريم ويحب الكرماء في سبيل الله. وأهل البيت (عليهم السلام) كلهم كرماء أعطوا الإنسان بلا منة أو برهان وأحسنوا إلى السائلين والمحتاجين بدافع الإحسان لا يريدون جزاء ولا شكوراً سوى رضى رب العالمين، الرحمن الرحيم أرسلهم مثلاً أعطى لكل المؤمنين. والتصدق باليسير خير من الحرمان.

أجمع المفسرون على نزول بعض الآيات في أهل البيت عامة وفي أمير المؤمنين خاصة عليهم جميعاً أفضل السلام. قال تعالى: (الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون)(1) نزلت هذه الآية الكريمة إثر تصدق أمير المؤمنين بأربعة دراهم لا يملك غيرها، تصدق بدرهم ليلاً، وبدرهم نهاراً، وبدرهم سراً، وبدرهم علانية.

وآية كريمة أخرى تقول: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون)(2).

نزلت هذه الآية في أمير المؤمنين أيضاً لما تصدق (عليه السلام) بخاتمه على سائل سأل في مسجد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ولم يعطه أحد وكان (عليه السلام) يصلي فأشار إلى السائل ومد إصبعه، فأخذ خاتمه. كما قال المفسرون أن سورة (هل أتى على الإنسان)(3) قد نزلت في أهل البيت بعدما تصدقوا بأقراص من شعير على مسكين ويتيم وأسير.

وعن أبي بصير عن أحدهما (4) قلت له: أي الصدقة أفضل؟ قال: جهد المقل، أما سمعت قول الله عز وجل: (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة)(5).

فالمقصود بالعطية والهبة والصدقة الكيفية قبل الكمية، وما يحيط بذلك من إخلاص في النية، ونبل في العطاء، وتقرب إلى المولى عز وجل. فالمال مال الله، والعطاء في سبيل الله والعباد كلهم عباد الله وأقربهم إليه أنفعهم لعياله.

بهذا الخط السليم والدقيق سار أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في هباتهم وعطاياهم وصدقاتهم. وإن تقربهم بتلك الصدقات إلى الله تعالى، وتزلفهم بها إليه، هو الذي خلد ذكرها عبر القرون المتطاولة، والأجيال المتعاقبة حتى باتت مثلاً أعلى يحتذى. والإمام الباقر هو سر أبيه وجده نذكر بعض ما ورد له (عليه السلام) من هذه المآثر الطيبة.

قال عمرو بن دينار وعبد الله بن عبيد بن عمير، ما لقينا أبا جعفر محمد بن علي (عليه السلام) إلا وحمل إلينا النفقة والصلة، والكسوة، ويقول: هذه معدة لكم قبل أن تلقوني)(6).

وقال ابن الصباغ المالكي:

(كان محمد بن علي بن الحسين (عليه السلام) مع ما هو عليه من العلم

والفضل والسؤدد والرياسة والإمامة، ظاهر الجود في الخاصة والعامة، مشهور الكرم في الكافة، معروفاً بالفضل والإحسان مع كثرة عياله وتوسط حاله، وأنه كان يدخل عليه بعض إخوانه فلا يخرجون من عنده حتى يطعمهم الطعام الطيب ويكسوهم الثياب الحسنة ويهب لهم الدراهم…)(7).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: دخلت على أبي يوماً وهو يتصدق على فقراء أهل المدينة بثمانية آلاف دينار، وأعتق أهل بيت بلغوا أحد عشر مملوكاً(8).

 

(1) سورة البقرة، الآية 274.

(2) سورة المائدة، الآية 55.

(3) سورة الإنسان.

(4) أي الباقر أو الصادق (عليهما السلام).

(5) سورة الحشر، الآية 9 وانظر ثواب الأعمال ص142.

(6) أعيان الشيعة ج2 ص49 وكشف الغمة ص12 ج2.

(7) الفصول المهمة ص215.

(8) بحار الأنوار ج11 ص86.