تقديم |
محطتنا هذا العام عند كوكب من كواكب الإسلام المشرقة عظيم وعلم من أعلام الإنسانية كريم. نقف عنده لنأخذ عبرة ونستلهم من مواقفه كل جوانب العلم والحلم والخير. نحن عند علم على شفة الموت وجفن الحياة وبينهما مشرف الشهادة، وهذه فوق الحياة والموت لأنها عري الذات وامتشاق الإرادة للانهمار على بحر الله بحر المعرفة والعرفان. والاندياح فيه دون شراع. هو فرع الدوحة النبوية الشريفة لكنه يختلف عمن سبقه بأشياء وأشياء، هو من النادرين في تاريخ الأرض وقد تميز تميزاً واضحاً يلفت النظر إلى الشكل والمضمون في العلوم التي بقرها بقراً كأنه من نسيج الفضاء لا تحده حدود. إنه محمد بن علي بن الحسين (عليهم السلام) لبس درع الرسالة الإسلامية فوجد في كل حلقة فيه نبضة قلب تتفجر عزيمة، والعزيمة تشع كضوء يتماوج بألف لون ولون. ثم نظر إلى موقع قدميه فلمح كوة تنفتح على الجنة فيها آباؤه وأجداده الأطهار، ورفع بصره إلى فوق فإذا بنسمة عريضة من الفم الملائكي وكأنها تقول له: سر في درب الحق وأسرع في العطاء النبيل الجليل فأنت محوط بالعناية الإلهية. نقف بإجلال وتقدير كبيرين عند إشراقة من حياة الإمام الخامس من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) عند أبي جعفر مجمع الفضائل، ومنتهى المكارم سبق الدنيا بعلمه وامتلأت الكتب بحديثه. وليس من نافلة القول في شيء إن قلنا إن الإمام أبا جعفر كان من أبرز رجال الفكر ومن ألمع أئمة المسلمين، ولا غرو من أن يكون كذلك بعد أن سماه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بالباقر في حديث جابر بن عبد الله الأنصاري، لأنه بقر العلم بقراً، أي فجره ونشره فلم يرو عن أحد من أئمة أهل البيت ـ بعد الإمام الصادق (عليه السلام) ما روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) فها هي كتب الفقه والحديث والتفسير والأخلاق، مستفيضة بأحاديثه، مملوءة بآرائه، فقد روى عنه رجل واحد من أصحابه ـ محمد بن مسلم ـ ثلاثين ألف حديث، وجابر الجعفي سبعين ألف حديث، وليست هذه بميزة له عن بقية الأئمة المعصومين، فعقيدتنا (عليهم السلام) أنهم متساوون في العلم، سواسية في الفضل، فهم يغترفون من معين واحد: كتاب الله وسنة رسوله، وما أودع الله فيهم من العلم اللدني بصفتهم أئمة الحق وساسة الخلق الكريم وورثة الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله). كان الإمام الباقر (عليه السلام) الرائد والقائد للحركة العلمية والثقافية التي عملت على تنمية الفكر العربي الإسلامي، وأضاءت الجوانب الكثيرة من التشريعات الإسلامية الواعية التي تمثل الأصالة والإبداع والتطور في عالم التشريع… أما ما يدعم ذلك فقد ألمحنا إليه في هذا البحث المتواضع من العلوم والمعارف التي فتق أبوابها، وسائر الحكم والآداب التي بقر أعماقها، فكانت مما يهتدي بها الحيران، ويأوي إليها الظمآن، ويسترشد بها كل من يفيء إلى كلمة الله. لقد كانت حكمه السائرة وآدابه الخالدة من ابرز ما أثر على أئمة المسلمين في هذا المجال، فقد ملأت الفكر وعياً وأترعت القلب إيماناً ومكنت النفس ثقة وصقلت الروح جلالاً وصفاءً. نعم، إن الظروف التي مرت على الإمام الباقر (عليه السلام) كانت مؤاتية. فالدولة الأموية أصبحت في نهايتها واهية البنيان، مقلقلة الأركان، والثورات تقوم هنا وتهدأ هناك، فاستغل (عليه السلام) هذه الفرصة الذهبية ونشر ما أمكنه نشره من العلوم والمعارف، كما استغل ولده الإمام الصادق (عليه السلام) من بعده انشغال الدولتين الأموية والعباسية عنه، فأتم ما كان والده قد أسسه، ولو تيسر للإمام الجواد (عليه السلام) أن يحصل على ظرف مناسب كظرف الصادقين (عليهما السلام) فما كان ليقصر عن ذلك. فهو الذي أجاب في مجلس واحد عن ثلاثين ألف مسألة، لكن الظروف السياسية والاجتماعية تقوم بدورها في كل عصر. وهكذا كانت بقية الأئمة (عليهم السلام) كواكب مشرقة على مفارق الطرق كل واحد منهم قام بدوره على أكمل وجه وفي ظروفه وأوضاعه. والإمام الباقر (عليه السلام) قام بدور عظيم في بحوثه ومحاضراته على الفقه الإسلامي وخاض جميع ألوان العلوم الفقهية والعلمية والفلسفية، أما تفسير القرآن الكريم فقد استوعب اهتمامه فخصص له وقتاً، ودون أكثر المفسرين ما ذهب إليه وما رواه عن آبائه في تفسير الآيات الكريمة. وقد ألف كتاباً في التفسير رواه عنه زياد بن المنذر الزعيم الروحي للفرقة الجارودية(1). لقد ترك الإمام (عليه السلام) ثروة فكرية هائلة تعد من ذخائر الفكر الإسلامي، ومن مناجم الثروات العلمية في الأرض، وليس من المستطاع تسجيل جميع ما أثر عنه من العلوم والمعارف لأن ذلك يستدعي عدة مجلدات. وقد أشرت إلى ذلك إشارات سريعة وتركت الباب مفتوحاً لمن يريد التعمق والتفصيل في كل باب من هذه الثروات العلمية المعظمة. وناظر (عليه السلام) علماء المسيحيين والفرق والملحدين، وقاوم الغلاة وخرج من مناظراته ضافراً باعتراف الخصم. لقد وقف حياته كلها لنشر العلوم الإسلامية بين الناس، عاش في يثرب كالينبوع الغزير يستقي منه رواد العلم من نمير علومه وفقهه ومعارفه، عاش لا لهذه الأمة فحسب، وإنما للناس جميعاً. وإن هذه البحوث التي أقدمها عن هذا العالم العظيم تبقى قاصرة عن استيعاب جميع جوانب علوم الباقر (عليه السلام) ومعارفه، ولا تحكي واقعه المشرق تماماً وإنما هي مؤشرات تلقى الضوء على بعض معالم شخصيته وأطلب المعذرة من باقر علوم الأولين والآخرين إذا تعبت في ارتقاء هذا الجبل الأخضر العظيم. إنه حبيبي وأملي ورجائي، والحبيب يعذر حبيبه.
|
(1) فهرست الشيخ الطوسي ص98. |