المقدمة |
حياة العظماء ثرة جداً بالعطاء هي مصدر إشعاع للفكر وينبوع فياض بالمثل، ومنهل نمير للمعرفة، وينبوع غزير بالحكمة، وطاقة فياضة بالخير، وقوة جبارة في تفتيق أبواب العلم وتهذيب الأخلاق والآداب. منها تستوحي الأمة العقيدة الحقة، ومنها تستمد الإيمان الصادق وبها تذود عن المبادئ القويمة، ومن مثلها العليا تعيش الحياة الحرة الكريمة. حياة العظماء مدرسة كبرى للإنسانية ومحطة حضارية وضاءة لتحقيق العدل وإظهار الحق ومقاومة الظلم والطغيان بأي ثمن من الأثمان. جهاد الأبطال عبر الأجيال يسدد خطاهم وينير دروبهم. ولا نجد في الأمة على مسار التاريخ من يساوي أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في عظمتهم وفضلهم، أو يباريهم في مقامهم ومكانتهم وشرفهم ونسبهم، فهم الثقل الذي تركه رسول الرحمة (صلّى الله عليه وآله) بين ظهراني الأمة، وجعلهم نظراء القرآن الكريم. قال فيهم الرسول الأعظم موصياً المسلمين. (إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا أبداً). كان أهل البيت حياة للعلم، وموتاً للجهل هم قادة الأمم وأصول الكرم. ساهموا في تأسيس الحركة العلمية وفي تكوين الثقافة الإسلامية فبسطوا العلم وأشاعوه بين المسلمين في وقت كان الجمود الفكري قد ضرب نطاقه في جميع أنحاء العالم الإسلامي. في ذلك العصر منيت الأمة الإسلامية بثورات متلاحقة، وانتفاضات شعبية كان مبعثها جور الحكم الأموي واضطهاده، فأهملت من جراء ذلك الحياة العلمية والثقافية إهمالاً تاماً. الإمام الباقر (عليه السلام) وعى كل هذه الأمور، ولما كان همه مصلحة الأمة الإسلامية ابتعد عن كل تلك التيارات السياسية ابتعاداً تاماً ولم يشترك بأي عمل سياسي، فانبرى صوب العلم وأسس قواعده وأرسى أصوله ورفع مناره فكان الرائد والقائد والمعلم لهذه الأمة في مسيرتها الثقافية كان من أهم ما عني به (عليه السلام) نشر الفقه الإسلامي الذي يحمل في جوهره روح الإسلام وتفاعله مع الحياة، ومن منجزاته العظيمة إقامة المدرسة الكبرى التي زخرت بكبار الفقهاء والعلماء والأدباء وإلى جانب الفكر والعلم تحلى الإمام الباقر (عليه السلام) بالأخلاق الحميدة والتجرد من كل نزعة مادية، فهو يمثل في سلوكه روح الإسلام وفكره وانطلاقه في هداية الناس وتهذيب سلوكهم وأخلاقهم. وقد داهمت الإمام (عليه السلام) كوارث عدة وهو في غضارة الصبا فامتحن بها امتحاناً شاقاً وعسيراً. من هذه الكوارث. ـ مأساة كربلاء فقد شاهد بأم عينه رزايا كربلاء وما جرى على العترة الطاهرة من صنوف القتل والتنكيل والإجرام. جرت أمامه عملية القتل الجماعي بوحشية وهمجية لعترة النبي (صلّى الله عليه وآله). من قبل الجيش الأموي فقتلوا الشيوخ والأطفال والنساء، ومثلوا تمثيلاً آثماً بجثمان الإمام العظيم، ريحانة الرسول (صلّى الله عليه وآله) وسيد شباب أهل الجنة. حمل الإمام (عليه السلام) مع أسرى أهل البيت إلى ابن مرجانة فبالغ في إذلالهم، ثم حملهم إلى الطاغية الفاجر يزيد بن ميسون فقابلهم بمزيد من التوهين والاحتقار. وعندها قامت السيدة زينب، عقيلة أهل البيت وخاطبته خطاباً تاريخياً فندت فيه مزاعمه الباطلة وإجرامه الحقير ووبخته في حضرته كلاماً قاسياً ترتعد له الفرائص. ـ والكارثة الأخرى وهو في غضون الصبا أنه شهد واقعة الحرة التي انتهك فيها جيش الطاغية يزيد حرمة مدينة الرسول واستباح الأعراض والأموال وأزهق النفوس، ولم ينج من أهوال تلك الكارثة إلا الإمام زين العابدين (عليه السلام). وعى الإمام الباقر تلك الأحداث المؤلمة، فتركت تلك الصور الحزينة في نفسه شعوراً طافحاً بالأسى والحزن، وظلت ملازمة له طوال حياته فلم يهنأ بعيش ولم يذق طعم سعادة الحياة. ومن الأمانة العلمية أن نقول: إن عصر الإمام (عليه السلام) من أدق العصور في الإسلام. فالسياسة الأموية لم تضع نصب أعينها سوى مصالحها الشخصية ورغباتها في تحصيل أنواع الملذات الخاصة فأهملت مصالح الأمة وأثقلت كواهلها بالضرائب والخراج. والإمام (عليه السلام) عاش هذه الظلامات وعاصر أحداثاً سياسية مرهقة أثرت تأثيراً كبيراً في الحياة الاجتماعية والفكرية والاقتصادية في ذلك العصر. وما نلفت إليه أن المكتبات العربية لم تحظ بدراسة عن هذا الإمام العظيم، العلم الكبير والرائد العظيم في التثقيف الاجتماعي والتكوين الحضاري للأمة الإسلامية. وليس من الوفاء في شيء أن نهمل حياة عظمائنا وقادتنا وعلمائنا الذين كانوا مشاعل مضيئة بالخير لجميع الناس، في حين أننا نرى الأمم الأخرى تهتم بتخليد عظمائها وتشيد بمآثرهم إلى العالم للتدليل على مدى أصالتها وما تملكه من قيم تقول إنها كريمة!! هذا الاهتمام نجده في أوروبا التي أبرزت عظماءها بعصبية زائدة، فأعملت الخيال في تبرير النقص وتكميل العيب وإثارة لطلب الكمال. أما نحن العرب فقد وضعنا سدوداً وحواجز بين عظمائنا وبين استفادة شبابنا من ثرواتهم. ألا يحق لنا أن نشيد بالإمام محمد الباقر (عليه السلام) الذي بقر العلوم بقراً وفجرها تفجيراً وفتق أسرارها. فقد كان واحداً من عباقرة الدنيا الذي ملأ رحابها بمآثره وخدماته الجلى منها: تحرير النقد العربي والإسلامي من السيطرة الخارجية.. يقول القرشي: (إن القدامى عنوا بالبحث عن سيرة الإمام الباقر (عليه السلام) فألف الجلودي عبد العزيز بن يحيى المتوفى سنة (304هـ) كتاباً أسماه: (أخبار أبي جعفر الباقر)(1). ولا أزعم أنني أحطت بمآثر الإمام الباقر (عليه السلام) ودونت جميع ما أثر عنه من فضائل وعلوم ومعارف، لكنني عملت جهدي من إلقاء الضوء على بعض نواحي شخصيته، وتركت الباب مفتوحاً للبحاث للكشف عما أغفلته عن هذا الإمام العظيم وابن الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) وحفيد الإمام الحسين، سيد الشهداء. وما أحوجنا نحن اليوم، ونحن نتطلع إلى مستقبل أفضل، أن نأخذ من حياته (عليه السلام) الدروس والعبر، ونستلهم من سيرته المثل العليا، والفضائل المثلى لنحقق أهدافنا في الإصلاح النفسي والاجتماعي والإداري والسياسي… ونحيي مجد الإسلام الغابر ونعيش حياة كريمة في هذه الأيام الظالم أهلها والمظلمة رحابها. (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) التوبة، الآية 105. وقال الرسول الأعظم: (من عمل منكم عملاً فليتقنه). والإتقان هو أعلى درجة من درجات المعرفة. فلنحذر أيها الأخوة أعمالنا لنتقنها كل منا في الحقل الذي يعمل فيه ولنتذكر الآية الكريمة: فالله عز وجل يراقبنا، والرسول الأعظم يحاسبنا والمؤمنون من عباد الله الصالحين يستطلعون أعمالنا. وآمل أن يكون هذا البحث دعوة لي ولكم للسير حذو منهج هذا الإمام العظيم، مقتفين لآثاره، ميميمين نحو أهدافه. اللهم أعني على نفسي بما تعين به الصالحين على أنفسهم وخذ بيدي لما يسعدني في آخرتي ودنياي إنك سميع مجيب. وجنبني مزالق السوء، ومرابض الفتن وإنك أنت العزيز القدير. قال تعالى: (ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيآتنا وتوفنا مع الأبرار. ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد)(2).
|
(1) حياة الإمام الباقر (عليه السلام) ج1 ص15 عن الذريعة ج1 ص315. (2) سورة آل عمران، الآية: 193 و194. |