عصر الإمام الباقر (عليه السلام) |
1ـ الحياة الثقافية العامة |
مرت الحياة الثقافية في عصر الإمام الباقر (عليه السلام) بجمود وخمد وكانت ضحلة للغاية لأن معظم الناس من حكام ومحكومين ابتعدوا عن الأخلاق النبيلة والمثل العليا التي جاء بها الإسلام، وعادوا إلى جاهليتهم الأولى من عصبية قبلية وتفاخر بالآباء والأنساب. وقد لمسنا ذلك من خلال الشعراء الذين تسابوا على أبواب السلطان للمديح والهجاء. وإذا قلبنا صفحات الأدب في تلك الفترة وجدنا سوقاً رائجة لهذين الضربين من الشعر. نلحظ ذلك بصورة واضحة في شعر المثلث الأموي جرير والأخطل والفرزدق. فأكثر ما أثر عنهم من الشعر قد كان في هذا الموضوع. ولا يخفى أنه كان لكل حزب شاعر أو شعراء يشيدون بمآثر حزبهم ويقومون بواجب الدفاع ضد الحزب الآخر. فكما شاد الأخطل الشاعر النصراني، بمآثر الدولة الأموية والحكام الأمويين قام الكميت بن زيد، شاعر العلويين، فأشاد بمناقب قومه من مضر وفضلهم على القحطانيين. إن السياسة الأموية كانت العامل الأكبر في إثارة الخلافات العشائرية، وتقسيم المجتمع إلى نزاري وقحطاني، يريدون بذلك أن ينسوه الإسلام رسالة الوحدة والعزة؛ وانتهى الأمر إلى أن أثار بذلك فتنة جاهلية بين القبائل، مما كان له تأثير هام في زعزعة السياسة الأموية والإطاحة بالحكم الأموي. قام الكميت بدور خطير جداً فقد أجج نار الفتنة بين اليمنية والنزارية، وهما من أهم القبائل العربية عدداً ونفوذاً، بالإضافة إلى كونهما من أعظم المؤيدين للحكم الأموي. فهجا الكميت الأمويين وعدد مثالبهم بأقسى ألوان الهجاء، ثم انطلق ينظم القصائد الحماسية بمجد فيها النزاريين ويذكر مناقبهم. ومما قاله في مدح قومه وهجاء القحطانيين هذه القصيدة المعروفة التي سارت على كل لسان: لنا قمر السماء وكل نـــــــــجم تشير إليه أيــــــدي المهتدينا وجدت الله إذ سمى نــــــــزاراً وأسكنهم بمـــــــــــكة قاطنينا لنا جعل المكارم خالصـــــــات وللناس القـــــــفا ولنا الجبينا وما خربت هجائن من نــــزار فوالخ من فحول الأعجمينا (1) وما حملوا الحمير على عتاق مطهــــــــمة فيلفوا مبلغينا (2) بني الأعمام إنكحنا الأيامــــى وبالآبــــــــاء سمينا البنينا (3) أثر هذا الشعر تأثيراً عظيماً في قلوب القوم وأثار الحفائظ بين القبيلتين فشاع البغض والعداء بينهما، فانبرى للدفاع عنهم دعبل الخزاعي (4) بلغت القصيدة التي رد بها على الكميت ستمائة بيت ومما جاء فيها: أفيقي من ملامك يا ظعـــــينا كفاك اللــــــوم مر الأربعينا ألم تحزنك أحداث اللـــــيالي يشيبن الـــــذوائب والقرونا أحي الغر من سروات قوقي لقد حييت عـــــــــنا يا مدينا فإن يك آل إسرائيل منـــــكم وكنتم بالأعـــــــاجم فأخرينا فلا تنس الخنازير اللواتـــي مسخن مع القرود الخاسئينا وما طلب الكميت طلاب وتر ولكـــــــــــنا لنصرتنا هجينا لقد علمت نزار أن قومــــي إلى نـــــــصر النبوة فأخرينا كل قبيلة أخذت تفتخر على الأخرى وتدلي بمناقبها ومكارمها، وتنتقص القبيلة المعادية حتى اتسع العداء بينها شمل سكان القرى والبادية. فالعصبية القبلية أفسدت قلوبهم وعرى الوحدة بين القبيلتين والأسرتين تمزق وانهار. وهذا ما دعا محمد الجعدي آخر ملوك بني أمية التعصب للنزاريين، مما سبب انحراف اليمانيين عن بني أمية وانضمامهم إلى الدعوة العباسية إبان تحركها ضد الحكم الأموي. وبذلك انهارت الدولة الأموية. يقول أحمد أمين في هذا المجال (وقتلت بعده، الدولة الأموية بقليل)(5). وبعد هذا السرد الموجز نلاحظ أن الطابع العام للأدب في ذلك العصر كان التفاخر والتنابز ولم يكن يمثل وعياً فكرياً بل كله شر وضرر للناس جميعاً. |
2 ـ الحياة السياسية |
بعد هذا التنازع الداخلي والعصبية القبلية المدمرة أصبحت الحياة السياسية في ذلك العصر وضيعة وبشعة للغاية، فالفتن والاضطرابات عمت بين الناس في البلاد، وبدأت أحداث رهيبة ومفجعة أدت إلى فقدان الأمن وانتشار الخوف. ثم تطورت هذه الأحداث فقامت ثورات دامية ذهب ضحيتها آلاف الأبرياء وهذا بلا ريب نتيجة السياسة الأموية الخاطئة التي كان كل همها تحقيق أهدافها الخاصة ومآربها الشخصية بعيداً عن مصالح شعوبها العامة. نتج عن ذلك وجود أحزاب سياسية كل منها يسعى لتحقيق غاياته ونشر مبادئه التي تتعارض مع الأحزاب الأخرى. سار معظم هذه الأحزاب في منعطفات خاصة مستخدمة بذلك جميع الطرق الدبلوماسية دون أن تعنى بمصلحة الأمة. وقد حدث صراع حزبي عنيف ساده القلق والقسوة والاضطراب. من هذه الأحزاب التي برزت على الساحة: 1ـ الحزب الأموي: هو الحزب الحاكم في ذلك الوقت، ولكن كيف توصل إلى الحكم؟ بشتى ألوان الخداع والدهاء والتضليل. من هذه الأساليب الخداعة نذكر قصة (قميص عثمان) التي ما زالت على الألسنة مثلاً سائراً حتى اليوم. اتخذوا من دم عثمان الذي سفكته القوى الشعبية شعاراً لهم لنيل مآربهم السياسية فأوهموا الناس بأكاذيبهم وأقاموا الدنيا وأقعدوها من خلال هذا الموضوع، في حين أنهم هم الذين خذلوه حينما أحاط به الثوار مطالبين الخليفة بالعدالة الاجتماعية وإيقاف هدر أموال المسلمين بالباطل. وقد بقي أياماً محاصراً على مرأى من جميع الأمويين ومسمعهم، فلماذا لم يهبوا لنجدته ويخلصوه قبل أن يجهز عليه الثوار. فبعد أن قتل الخليفة بدأ الأمويون يطالبون بدعم عثمان وذلك للاستيلاء على كرسي الحكم والظفر بخيرات البلاد وأموال بيت مال المسلمين فاعتمدوا لذلك سياسة الملوك الظالمين مقلدين القياصرة والأكاسرة بعيدين كل البعد عن مبادئ الدين الإسلامي العادل والقويم. فكان همهم الدنيا بمباهجها وأفراحها وملذاتها معتمدين سياسة الترغيب والترهيب. وفي كل عصر نجد وعاظ السلاطين الذي يميلون مع أهوائهم ومصالحهم ويبعيون آخرتهم بدنياهم. من هذه الوسائل التي اعتمدوها الأمويون: أ ـ قربهم من الرسول (صلّى الله عليه وآله): لقد خدعوا أهل الشام فأوهموهم أنهم أقرب الناس إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وألصقهم به نسباً وحسباً، وسارت مقولتهم هذه على الشاميين واعتقدوا بذلك اعتقاداً راسخاً، ولم تستبن له الحقيقة على وجهها الصحيح إلا بعد انقلاب الحكم الأموي ومجيء الحكم العباسي (وقد سبق السيف العزل) قال أحد الشعراء في ذلك: أيها الناس اسمعوا أخبركم عجــــــباً زاد على كل العجب عجباً من عبد شمس أنـهم فتحوا للــــناس أبواب العذاب ورثوا أحمد فيما زعــــموا دون عــباس بن عبد المطلب كذبوا والله ما نعلــــــــــمه يحرز الميراث إلا من قرب (6) عجيب أمرهم والله؟! ألم يعلموا أن القريب من الرسول الأعظم هو القريب بأعماله الصالحة وتقاه وعدله وسنته الشريفة والقريب من الرسول (صلّى الله عليه وآله) هو الذي يسير على خط الرسول ويعمل بما أوحى به الرسول وينتهي عما نهى عنه الرسول. ألم يسمعوا ما قاله الرسول (صلّى الله عليه وآله) نفسه لابنته السيدة الزهراء التي أطلق عليها لقب (أم أبيها) لتعلقه بها ومحبته لها. قال (صلّى الله عليه وآله): (يا فاطمة لا يفيدك كوني أباك بل عملك الصالح). الأعمال الصالحات هي ميزان التقوى وهي البرهان العملي على صدق الإيمان وحسن العقيدة. ب ـ الوضع في الحديث: بدأ الوضع في الحديث بشكله السافر واتخذه الحكام وسيلة لخدمة أغراضهم السياسية (7). (حدثنا علي بن إبراهيم عن أبيه عن حماد بن عيسى.. قال: قلت لأمير المؤمنين (عليه السلام) إني سمعت من سلمان والمقداد وأبي ذر شيئاً من تفسير القرآن وأحاديث عن النبي (صلّى الله عليه وآله) غير ما في أيدي الناس، ثم سمعت منك تصديق ما سمعت منهم، ورأيت في أيدي الناس أشياء كثيرة من تفسير القرآن ومن أحاديث عن رسول الله أنتم تخالفونهم فيها وتزعمون أن ذلك كله باطل! (أفترى الناس يكذبون على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) متعمدين ويفسرون القرآن بآرائهم قال: فأقبل علي (عليه السلام) فقال: سألت فافهم الجواب: (إن في أيدي الناس حقاً وباطلاً، صدقاً وكذباً، وناسخاً ومنسوخاً، وعاماً وخاصاً، ومحكماً ومتشابهاً، وحفظاً ووهماً، وقد كذب على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) على عهده حتى قام فقال: أيها الناس قد كثرت عليّ الكذابة فمن كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)(8) استخدم بنوا أمية الأحاديث الموضوعة على لسان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ليفيدوا أنهم سادة الخلق، وأقرب الناس منزلة عند الله، كما بذلوا الأموال الطائلة للوضاع، وعاظ السلاطين، تدعيماً لملكهم وسلطانهم. ج ـ استخدامهم الشعراء لمدحهم: كان شعراء البلاد الأموي يتسابقون في مدح الملوك الأمويين والثناء عليهم ليكسبوا الجوائز السنية، وقد أجزلوا لهم العطاء ووهبوهم أعرض الثراء لأن الشعر في ذلك العصر كان من أقوى وسائل الإعلام. فالشعراء كانوا صحفي عصرهم. وممن استخدمه الحكام الأمويون من هؤلاء الشعراء المتكسبين: أعشى ربيعة الشيباني فقد مدح عبد الملك بن مروان بقصيدة قال فيها: وما أنا في أمري ولا في خصومتي بمهتضم حـــــــــقي ولا قارع سني وفضلني من الشــــــعر واللب أنني أقول عـــــلى علم وأعرف ما أعني فأصبحت إذ فضلت مــــروان وابنه على الناس قد فضلت خير أب وابن فأحسن عبد الملك جائزته مشترياً منه ضميره بدريهمات، وراح الشاعر يكيل المديح والثناء لبني مروان بلا حساب (9). وبعد المديح عمد الأعشى إلى حث عبد الملك على مقاتلة الزيريين فقال: قوموا إليهم لا تناموا عنــــــهم كم للغواة أطــــــــلـتم إمهالها إن الخلافة فيـــــكم لا فـــــــيهم ما زلــــــــتم أركانـها وثمالها أمسوا على الخيرات فقلاً مغلقاً فانــهض بيمنك وافتتح أقفالها ومن الشعراء الذين استخدموهم الأخطل التغلبي، قربه عبد الملك بن مروان ولقبه (شاعر بني أمية) و(شاعر أمير المؤمنين) كان يدخل على الخليفة بدون إذن وعليه جبة خز، وفي عنقه سلسلة ذهب فيها صليب ذهب، ولحيته تنفضّ خمراً. قال في مديح عبد الملك وقومه: إلى امرئ لا تعــــــــــدينا نوافـــــــــله أظفــــــــره الله؛ فليهنئ له الظفر الخائض الغمر، والميمــــــــون طائره خليــــــفة الله، يستسقى به المطر حشد على الحق، عيــــــافو الخنا أنف إذا ألمـــــت بهم مكروهة، صبروا أعطاهم الله جداً، ينصـــــــــــــرون به لا جـــــــــد إلا صغير، بعد، محتقر شمس العداوة، حتى يستـــــــــقاد لهم وأعــــظم الناس أحلاماً، إذا قدروا حتى استكانوا، وهم مني على مضض والقــــــــــول ينفذ ما لا تنفذ الإبر ثم قال في أعدائهم: قوم أنابت إليهم كل مخـــــزية وكل فاحــــــــشة سبت بها مضر الآكلون خبيث الزاد، وحــدهم والسائلون بظهر الغيب: ما الخبر صفر اللحى من وقد الادخنات إذا رد الـــرفاد وكفّ الحالب القِرَر وأقسم المجد حقاً لا يحالـــهم حتى يحالف بــــــطن الراحة الشّعَر وممن أخلص لبني مروان عدي بن الرقاع لأنهم وهبوا له الثراء العريض فقد مدح الوليد بن عبد الملك وقال فيه: هو الذي جمع الرحمن أمته على يديه وكانوا قبله شيعا إن الوليد أمير المؤمنـين له ملك عليك أعان الله فارتفعا وهو القائل فيه: ولقد أراد الله إذ ولاكــــــــــــــــها مـــــن أمة إصلاحها ورشادها أعمرت أرض المسلمين فأقــــبلت وكـففت عنها من يروم فسادها وأصبحت في أرض العدو مصيبة عــمت أقاصي غورها ونجادها ظفراً ونصــــــراً ما تنــــــال مثله أحــد من الخلفاء كان أرادها (10) ودرج على سنة أبيه عبد الملك بن مروان فقد استخدم الشاعر الأحوص، فمنحه الجوائز السنية ليكيل له المديح الفارغ. قال فيه: ملك تدين له الملوك مبارك كادت لهيبته الجبال تزول ونوجز القول أن الأمويين استخدموا الشعراء لدعم سياستهم وفرض ملكهم وتثبيت دعائم سلطانهم. 2 ـ الحزب الزبيري: يرى هذا الحزب أن أسرة الزبير هي أولى من غيرها بالحكم، ويأتي على رأس هذه الأسرة عبد الله بن الزبير، فأمه صفية عمة النبي (صلّى الله عليه وآله) وكان أحد المرشحين السنة للخلافة حسب برنامج الشورى الذي وضعه عمر بن الخطاب، فهو إذن أقرب من غيره من الرسول وأحق بالخلافة. من أبرز دعاة هذا الحزب الشاعر عبيد الله بن قيس الريات، مدح الزبيريين وهجا خصومهم. قال في مدح مصعب بن الزبير: إنما مصعب شهاب مــن الله تجــلت عن وجهه الظلماء ملكه ملك قوة ليس فـــــــيه جــــبروت منه ولا كبرياء يتقي الله في الأمور وقد أفـ ـلح من كان همه الاتقاء (11) ودعا في القصيدة نفسها إلى الثورة العارمة ضد بني أمية فقال: كيف نوحي على الفراش ولما تشمل الـــــشام غارة شعواء تذهل الشيخ عن بنيه وتبـــدي عن بـــــراها العقلية العذراء أنا عنكم بني أمية مـــــــــزور وأنــــــــتم في نفسي الأعداء إن قتلي بالطف قد أوجعــــتني كان منكم ـ لئن قتلتم شفاء (12) والشاعر الشديد الانفعال والتأثير يسيل انفعاله في سيلان نظمه وانسكاب ألفاظه، يخلص لقبيلته قريش ويفخر برجالها العظام ومآتيها الجسام فيقول: أقفرت بعد عبد شمس كــــــداء فكدّي، فالركن، فالبطحاء فمنى، فالجمار، من عبد شمس مقــفرات، فبلدح، فحراء ثم يهاجم المتطاولين على قريش، المشتهين لها أن تزول، وبين لهم أن حياة الناس منوطة بحياة قريش: لو تقفّي وتترك الناس كانوا غنم الذئب غاب عنها الرعاء ويخاطب بني أمية في استعلاء وإباء: فرضينا، فمت بــــــدائك غماً لا تمـــــيتنَّ غيرك الأدواء لو بكت هذه السماء على قو م كرام، بكت علينا السماء ويقول أن بني أمية هم أصل البلاء الأكبر، فيتململ ويرشقهم بأقسى الكلام: عين فابكي على قريش، وهل يرجع ما فات، إن بكيتِ، البكاء لكن هذا الحزب لم يدم طويلاً، فحينما قضى الحجاج بن يوسف على ابن الزبير ضعف الحزب وتلاشى. 3 ـ الخوارج: آمن الخوارج بالمساواة المطلقة بين المسلمين وأن أمارة المؤمنين ليست من وجهة نظرهم مشروطة بشرط أو مقصورة على أسرة بعينها أو قبيلة من القبائل العربية. كما آمنوا بضرورة الثورة على كل حكم قائم في البلاد الإسلامية إذا لم يحمل مبادءهم وأفكارهم أما دعاتهم فكثيرون منهم عمران بن حطان وقطري بن الفجاءة والطرماح والجميع يتحاشون الموت على الفراش في ساحة القتال. وقد صور شاعرهم عمران بن حطان هذا المعنى أفضل تصوير فقال: لقد زاد الحياة إليّ بغـــــــضاً وحباً للخـــــــــــــوارج أبو بلال أحاذر أن أموت على فراشي وأرجو الموت تحت ذرا العوالي ولو أني علمت بأن حتــــفي كحــــــــتف أبـــــــي بلال لم أبال فمن يك همه الدنيا فــــــإني لها ـ والله رب البــــــــــيت ـ قال وكان عمران يرى أن الشعر وسيلة كريمة للتعبير عن العقيدة واستنهاض الهمم، وكان يربأ بالشعر أن يستغل للتكسب والسؤال. ومن شعرائهم المعروفين أيضاً الطرماح بن حكيم الشيباني هو كبير شعراء الخوارج دون نزاع، وما يعنينا من شعره السياسي الذي أفصح بواسطته في قوة وبلاغة عن عقيدته ومذهبه، مذهب الشراة الذين شروا أنفسهم ووهبوها للجهاد فيقول: لقد شقيت شقاء لا انقطــاع له إن لـــــــم أفز فوزة تنجي من النار والنار لم ينج من روعتها أحد إلا المنيب بقلب المخلص (الشاري) والطرماح يصف أبناء حزبه شجعاناً أتقياء لا يبالون بعرض الحياة الدنيا يتمنون الاستشهاد في المعارك، وتصير جسومهم طعماً للطيور. كل ذلك فداء لعقيدتهم السياسية التي أسرفوا على أنفسهم فيها وعلى الناس فيقول: عــصائب من شتى يؤلف بيـنهم هدى الله نزّالــــــــون عند المواقف فــوارس من شيبان ألّف بـــينهم تقى الله نــــــــــزالون عند التزاحف إذا فــارقوا دنياهم فارقوا الأذى وصارواعلىموعودما في المصاحف فأقتــلَ قعصاً ثم يُرمى بأعظـمي كضعث الخلا بين الرياح والعواصف ويصــبح لحمي بين طير مَقـيلُهُ دُوَيْن الســــــــماء في نسور عواكف وحياة الشراة عند الطرماح عبادة صادقة لله، وسهد في التبتل، وكلف بتلاوة القرآن الكريم يصورها الطرماح فيقول: لله در (الشــــــــراة) إنهم إذا الكـــرى مال بالطُلا أرقوا يرجعــــــــون الحنين آونة وإن عـــلا ساعة بهم شهقوا خوفاً تبـيت القلوب واجفة تكــــــاد عنها الصدور تنفلق كيف أجــري الحياة بعدهم وقـد مضى مؤنسيَّ فانطلقوا قوم شحاح على اعتقادهم بالفوز مما يخاف قد وثقوا (13) وشعر الخوارج أكثره يدور في فلك الجهاد والتقوى والاستبسال في الحروب واحتقار الحياة الدنيا وابتغاء الشهادة، وقد أدى الشعر في خدمة مذهبهم دوره كاملاً، الأمر الذي جعل شعرهم يحتل مكاناً مرموقاً بين شعر الحركات الإسلامية الأخرى كنموذج للشعر القوي الرصين الذي جرى على ألسنة اتسمت بالحذق والجودة والفصاحة. 4 ـ الشيعة: كان للشعر دور هام في موكب التشيع والدفاع عن عقيدة أهل البيت كظاهرة هامة للشعر العربي بالتغلغل إلى صميم قضايا المسلمين الفكرية والسياسية والعقيدية. وقد انضم إلى هذا الحزب كبار الصحابة الأجلاء وأعلام الإسلام الأتقياء أمثال سلمان الفارسي، والمقداد، وعمار بن ياسر، وأبي ذر الغفاري وغيرهم من الذين ساهموا في بناء الإسلام، وإقامة صروحه المباركة. آمن هذا الحزب إيماناً راسخاً في أن أهل البيت أحق بالخلافة، وأولى بها من غيرهم لأنهم سفينة النجاة وأمن العباد حسبما يقول الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) في أحاديث موثوقة عند الجميع منها هذا الحديث الذي سار على كل شفة ولسان: (إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي) بالإضافة إلى مواهبهم العظيمة وعلومهم الوفيرة التي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم الطاهرين المعصومين. فعلي بن أبي طالب (عليه السلام) كان أحق المسلمين بالخلافة لفضله وعلمه واستقامته وعدله وقوة شخصيته وسابقته في الإسلام ونص الرسول (صلّى الله عليه وآله) عليه. وكان لسانهم الناطق في عصر الإمام الباقر (عليه السلام) عدة شعراء مخلصين منهم كثير عزة والسيد الحميري والكميت بن زيد الأسدي يقول كثير: ألا إن الأئمة من قريــــش ولاة الــــــحق أربعة سواء علي والثلاثة من بنـــــــيه هــم الأسباط ليس بهم خفاء فسبط سبط إيمـــــان وبرٍّ وســـــــــــبط غيَّبته كربلاء وسبط لا تراه العين حــيّ يقــــود الخيل يقدمها اللواء تغيب لا يُرى فيهم زمــاناً يرضون عنده عسل وماء (14) غير أن هناك من الشعراء من قد ضحوا تضحية كبرى في سبيل تشيعهم لآل البيت، فلم يرضوا بمجرد العاطفة نحوهم وإظهار الأسى لما حل بهم، وإنما خاصموا من خاصمهم وشهروا عليهم سلاح القول ألسنة حداداً مع مجادلة ومحاجة وفي مقدمة هؤلاء الشعراء، الكميت بن زيد الأسدي الذي يهاجم بني أمية بكل جرأة وعنف فيقول: فقل لبني أمية حيث حــلوا وإن خفت المهند والقطيعا أجاع الله من أشبـــــعتموه واشــبع من بحوركم أجيعا بمرض بالسياسة هاشمـي يكـــــون حياً لأمته ربيعاً (15) وكان الكميت علوي المذهب يدافع بكل قواه عن الفكر الشيعي بأعظم الحجج وأوضح الدليل. فهو يعارض الحزب الحاكم المتمثل في الحكام الأمويين المنحرفين عن الخط الإسلامي الصحيح والمبتدعين في الدين غير الملتزمين بما جاء في الكتاب العزيز، السافكين دماء المسلمين فيقول فيهم: لهم كل عام بدعة يحـــــــــدثونها أزلَّوا بها أتباعهم ثم أوصلوا كما ابتدع الرهبان ما لم يجيء به كتـاب ولا وحي من الله منزل تحل دماء المسلمين لديــــــــــهم ويحـــرم طلع النخلة المتهدل فيا ربِّ هل إلا بك النصر نبتـــغي عليـهم وهل إلا عليك المعوّل؟ وفوق حملته على الأمويين يعمد إلى الانتصار لأهل البيت عن طريق المناظرة والمحاجة والإقناع، وكأنه متأثر بالمعتزلة تأثراً بالغاً. ونراه يسفه حق بني أمية في الخلافة ويقرر حق الهاشميين فيها فيقول: وقالوا ورثناها أبانا وأمـــــــــــــنا ومــا ورثتهم ذاك أم ولا أب (16) يرون لهم فضلاً على الناس واجباً سفاهاً وحق الهاشميين أوجب ولكن مواريث ابن آمــــــــنة الذي بــــــه دان شرقي لكم ومغرِّب وتستخلف الأموات غيرك كلـــــهم وتـعتب لو كنا على الحق نعتب يقولون لم يورث، ولولا تــــــراثه لقد شركت فيه بكيلٌ وأرحب (17) وعك ولخم والسكون وحــــــــمير وكــــــندة والحيان بكر وتغلب والحق يقال أن الكميت كان المحامي الذلق المتمكن بالحجة المفخمة وهو كما قال شوقي ضيف: (طرفة نفيسة من طرف العصر الأموي ولون أدبي جديد في تاريخ الأدب العربي)(18). |
3 ـ الحياة الاجتماعية |
أ ـ حياة اللهو: انغمس ملوك بني أمية باللهو الفارغ والترف الزائغ وتهالكوا على اللذة والمجون فأنفقوا بيت مال المسلمين على شهواتهم الشخصية، وشايعهم في ذلك أهل الثروة والثراء من الحاشية المقربين والشعراء المداحين والمغنيات والمغنين. ولم يتركوا لوناً من ألوان الدنيوي إلا استعملوه مقلدين حكام القياصرة وملوك الأكاسرة. فقد نسوا أو تناسوا أنهم مسلمين فانحرفوا عن سنة النبيين وشذوا عن أصول الدين وتركوا ما كان سائداً أيام عصر الرسول (صلّى الله عليه وآله) وعهد الخلفاء الراشدين حيث كانت الحياة العامة يسودها التقشف والزهد في مباهج الحياة، وقد سئلت عائشة عن ثوبها أيام الرسول (صلّى الله عليه وآله) فقالت: أما والله ما كان خزاً ولا قزاً، ولا ديباجاً ولا قطناً ولا كتاناً… وإنما كان سداه من شعر ولحمته من أوبار الإبل (19) والحقيقة أن الحياة في عصر بني أمية قد تغيرت تغيراً تاماً، فشباب بني مروان كانوا يرفلون في الوشي كأنهم الدنانير الهرقلية (20) ومروان بن إيان بن عثمان يلبس سبعة أقمص كأنها درج بعضها أقصر من بعض، وفوقها رداء عدني بألفي درهم (21) وممن أبدع من ملوكهم في اللهو والطرب يزيد بن عبد الملك فقد شغل عن مصالح الدولة بجاريتين إحداهما سلامة والأخرى حبابة، فتسلطت حبابة على قلبه وعقله حتى أصبحت المملكة طوع إرادتها، تولي من شاءت وتعزل من شاءت، وهو لا يعرف من أمور الدنيا شيئاً، فلامه أخوه مسلمة وقال له: (توليت هذا الأمر بعد عمر بن عبد العزيز المعروف باستقامته وعدله، وتشاغلت بهذه الجارية عن النظر في الأمور، والوفود وأصحاب الظلامات يصيحون وأنت غافل عنهم) فتأثر لقوله وقال: صدقت وهم بترك الشراب ولم يجتمع بحبابة أياماً، فاشتاقت هي له فلما كان يوم الجمعة قالت لبعض جواريها: (إن خرج (أمير المؤمنين) للصلاة فأعلميني فلما أراد الخروج أعلمتها فتلقته والعود في يدها وغنت: ألا لا تلمه اليوم أن يتبلدا فقد غلب المحزون أن يتجلدا فغطى يزيد وجهه وقال: (مه، لا تفعلي!) ثم غنت: فما العيش إلا ما تلذ وتشتهي وإن لام فيه ذو الشنان وفندا فلم يتمالك إن عدل إليها وقال: (صدقت والله.. قبح الله من لامني فيك!. يا غلام، مر مسلمة أن يصلي بالناس). وأقام معها يشرب وتغنيه وعاد إلى ما كان عليه (22) لقد أفرط الناس في العصر الأموي في اللذائذ يتحرونها، ويتغنون في الاستمتاع بها، وكلما ملوا نوعاً ابتكروا نوعاً آخر، وإذا أخذوا يهدأون نشط الدعاة يستحثونهم على الإغراق فيها، والأخذ بأكبر حظ منها (23). ب ـ الترف و الإسراف: بعد الثراء، ترف وإسراف وهذا أمر طبيعي في مجتمع همه مصلحته وملذاته. من مظاهر هذا الترف: المغالاة في المهور. فقد رووا أن عائشة بنت طلحة تزوجت بعد وفاة زوجها عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر بمصعب بن الزبير فأمهرها بألف ألف درهم (24)، ومن مظاهر ترفها كانت إذا حجت يرافق موكبها ستون بغلة عليها الهوادج والرحائل فتعرض لها عروة بن الزبير فقال: عائش يا ذات البغال الستين أكـــــــــل عام هكذا تحجين (25) هذه المغالات من المهور كانت دلالة واضحة من دلائل الترف في العصر الأموي ومن سار في ركابهم. كما روى المؤرخون أن عاتكة بنت يزيد بن معاوية استأذنت عبد الملك فقال لها: ارفعي حوائجك واستظهري، فإن عائشة بنت طلحة تحج ففعلت فجاءت بهيئة جهدت فيها، فلما كانت بين مكة والمدينة إذا موكب قد جاء فطغتها، وفرق جماعتها، فقالت: أرى هذه عائشة بنت طلحة، فسألت عنها فقالوا: هذه خازنتها، ثم جاء موكب آخر أعظم من ذلك فقالوا: عائشة فضغتهم، فسألت عنه فقالوا: هذه ماشطتها ثم جاءت مواكب على هذه الهيئة إلى سننها، ثم أقبلت كوكبة فيها ثلاثمائة راحلة عليها القباب والهوادج، فقالت عاتكة ما عند الله خير وأبقى (26). ومن مظاهر الترف في ذلك العصر نقل المؤرخون صوراً كثيرة منها: إن مصعب بن الزبير أهدى عائشة بنت طلحة ثماني حبات من اللؤلؤ قيمتها عشرون ألف دينار، فلما دخل عليها ليقدم هديته الثمينة وجدها نائمة فأيقظها فلما رأت الهدية لم تعن بها وقالت: كان النوم أحب إلي! (27). ج ـ الغناء: شجع ملوك بني أمية الغناء ووهبوا للمغنين الأموال الطائلة وقد روى المؤرخون أموراً كثيرة عن عشقهم للغناء وتشجيعهم عليه. منها: وفد على يزيد بن عبد الملك معبد، ومالك بن أبي السمح وابن عائشة، فأمر لكل واحد منهم جائزة بلغت ألف دينار (28). ثم توسع الوليد بن يزيد في جوائز المغنين فأعطى معبداً اثني عشر ألف دينار كما استقدم جميع مغني الحجاز وأجازهم جوائز كثيرة (29). وقد راجت حرفة الغناء بين الناس وأقبلوا عليها حينما رأوا ملوك بني أمية قد قربوا المغنين والمغنيات، ووهبوهم الثراء العريض، ومن طريف ما ينقل عن المؤرخين: إن الوليد بن يزيد لما ولي الخلافة استدعى عطرد من المدينة وكان حسن الصوت جميل الوجه فغناه، فطرب الوليد وطار طرباً حتى أنه شق حلة وشي كانت عليه، ورمى نفسه في بركة خمر، فما زال بها حتى أخرج كالميت سكراً فلما أفاق قال له: كأني بك الآن قد أتيت المدينة فقمت في مجالسها ومحافلها وقلت: دعاني أمير المؤمنين فدخلت عليه فاقترح علي فغنيته وأطربته فشق ثيابه وفعل، والله لئن تحركت شفتاك بشيء مما جرى فبلغني لأضربن عنقك، ثم أعطاه ألف دينار فأخذها وانصرف إلى المدينة (30). وكثير مثل هذه الصور رواها المؤرخون وهي إن دلت على شيء فإنها تدل على خلاعة بني أمية واستهتارهم في أمور الدين وانحرافهم عما أمر به الإسلام القويم العظيم من ترك حياة اللهو والعبث والمجون والعمل بما يرضي الله عز وجل ويفيد الفرد في سلوكه الخاص ويكسبه الوقار والاحترام في مجتمعه. وهكذا انتشر الغناء في المدينة التي هي عاصمة الإسلام، ومدينة الرسول الأعظم. ومما لا شك فيه أن ذلك كله كان بوحي من الحكومة الأموية وتشجيع من الحكام الأمويين لإسقاط هيبة المدينة، عاصمة الرسول (صلّى الله عليه وآله) وتلهي الشباب في أمور تافهة تنسيهم انحراف الحكام فينغمسون بمباهج الدنيا ويهملون واجبهم الشرعي فلا يقاومون الظالمين ولا يقومون بثورات ضدهم. لكن سرعان ما خاب ظنهم حيث قامت اضطرابات كثيرة عمت البلاد وثورات عديدة تطالب بالعودة إلى الحكم الإسلامي العادل والحياة الإسلامية الكريمة. د – الوضع في الحديث الشريف: بدأ الوضع في السنة الشريفة بشكله السافر واتخذ حكام بني أمية من ذلك وسيلة لخدمة أغراضهم السياسية (31). كان من أعظم ما عاناه المسلمون من خطوب، الأحاديث الموضوعة التي وضعها من لا حريجة له في الدين، وذلك لصرف المسلمين عن أحكام دينهم، وتعاليم نبيهم، وتشويه الواقع المشرق للإسلام. وكان أول من تجرأ على الوضع والافتعال، معاوية بن أبي سفيان. عمد إلى ذلك لتركيز أهدافه السياسية ودحض الأحاديث التي تؤكد أن الخلافة لعلي كحديث (حجة الوداع) وحديث (علي مني كهارون من موسى) و(علي مع الحق والحق مع علي) وغيرها من الأحاديث الشريفة التي تثبت الخلافة لعلي وللأئمة المعصومين من ولده. شكل معاوية لجاناً لوضع الحديث عن لسان الرسول (صلّى الله عليه وآله) ودفع للمحدثين المتكسبين أموالاً طائلة فذاعت تلك الأحاديث بين الناس وحفظها بعض الرواة وهم لا يعلمون زيفها وعدم صحتها، ولو علموا بذلك لنبذوها وطرحوها. قال المدائني في ذلك: (وظهر حديث كثير موضوع، وبهتان منتشر، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة، وكان من أعظم الناس بلية في ذلك القراء المراؤون والمستضعفون الذين يظهرون الخشوع والنسك فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم، ويقربوا مجلسهم ويصيبوا الأموال والضياع والمنازل، حتى انتقلت تلك الأخبار والأحاديث إلى أيدي الديانين الذين لا يستحلون الكذب والبهتان فقبلوها ورووها وهم يظنون أنها حق، ولو علموا أنها باطلة لما رووها ولا تدينوا بها)(32). ولا يخفى على ذوي البصائر أن أهم الدوافع التي حدت بمعاوية وحكام بني أمية إلى ذلك هو الحط من شأن العترة الطاهرة التي فرض الله مودتها في كتابه وطهرها تطهيراً. (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً). عهد معاوية إلى لجان الوضع أن تضع الأحاديث في ذم علي (عليه السلام) وتشويه سمعته. قال ابن أبي الحديد: (وذكر شيخنا أبو جعفر الإسكافي أن معاوية وضع قوماً من الصحابة، وقوماً من التابعين على رواية أخبار قبيحة في علي تبتغي الطعن فيه، والبراءة منه وجعل لهم على ذلك جعلاً يرغب في مثله، فاختلفوا ما أرضاه، منهم: أبو هريرة، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة وعروة بن الزبير)(33). وقد حذر رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من هذا الوضع وهذا الانحراف فقال (صلّى الله عليه وآله): (من رد حديثاً عني فأنا مخاصمه إلى يوم القيامة، فإذا بلغكم عني حديث فلم تعرفوه فقولوا: (الله أعلم)(34). ويقول أيضاً: (من حدث عني حديثاً وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين)(35). وقوله (صلّى الله عليه وآله): (من بلغه عني حديثاً فكذب به فقد كذب ثلاثة: الله، ورسوله والذي حدث به)(36). ومن مظاهر ذلك الوضع ما رواه مسلم أن النبي (صلّى الله عليه وآله) أمر بقتل الكلاب إلا كلب صيد أو ماشية، وقد أخبر ابن عمر أن أبا هريرة قد زاد أو كلب زرع فقال: إن له أرضاً كان يزرعها)(37). ومن المحدثين الذين استغلهم الحكام الأمويون: الزهري، فقد أخذ يضع لهم الحديث من صنعه لتدعيم سياستهم ومن موضوعاته المكشوفة روايته عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنه قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى) فجعل بيت المقدس كالبيت الحرام مما يشد إليه الرحال، وقد افتعل ذلك لسبب اعتقد أنه يخدم فيه مصلحة الأمويين. ذلك حينما حرم الأمويون السفر إلى بيت الله الحرام خوفاً من الاختلاط بأهل الحجاز حينما كانوا خاضعين لحكومة ابن الزبير وقد حج أهل الشام إلى بيت المقدس بدلاً من البيت الحرام (38) وممن كذب على الإمام الباقر: (بيان). ابتلي الإمام الباقر بجماعة من الخونة والمارقين الذين أخذوا يضعون الأحاديث على لسانه ويكذبون عليه في حياته من هؤلاء: بيان بن سمعان النهدي من بني تميم (39). وقد طـــلب الإمام الـــباقر وولده الإمـــام الصادق (عليهما السلام) من الشيعة التبري منه لأنه يكذب على الأئمة (عليهم السلام)(40). هـ – الكفر والإلحاد: إن بعض العناصر الحاقدة على الإسلام والباغية عليه حملت إلى البلاد الإسلامية موجات من الكفر والإلحاد والزندقة، وقد أعرض الحكام الأمويون عن ملاحقة دعاتها مما أوجب انتشارها بين المسلمين. في مثل هذه الحالات لا يمكن للأئمة المعصومين أن يقفوا مكتوفي الأيدي أمام هذه الانحرافات فقد تصدى لها الإمام الباقر وولده الإمام الصادق (عليهما السلام) إلى نقدها وتزييفها. من ذلك ما عرض للإمام الباقر مع رجل ملحد، كان (عليه السلام) جالساً في فناء الكعبة فقصده رجل وقال له: هل رأيت الله حتى عبدته؟ فقال (عليه السلام): ما كنت لأعبد شيئاً لم أره. فكيف رأيته؟ أجاب (عليه السلام): لم تره الأبصار بمشاهدة العيان، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان لا يدرك بالحواس، ولا يقاس بالناس، معروف بالآيات منعوت بالعلامات، يجوز في قضيته، بان من الأشياء، وبانت الأشياء، ليس كمثله شيء ذلك الله لا إله إلا هو. فلما سمع الرجل الجواب تفندت أوهامه واقتنع من كلام الإمام (عليه السلام) لأنه كلام واقعي مشرق مبني على جوانب التوحيد. وراح يقول: (الله أعلم حيث يجعل رسالته فيمن يشاء)(41). ثم نهى الإمام الباقر (عليه السلام) عن الخوض في الحديث عن ذات الله تعالى وأنها غير مسموح لها أن تتداول بين أفراد المجتمع وليتجه الجميع إلى التأمل في مخلوقات الله بدل الحديث في ذات الخالق. بعد هذا العرض الموجز لما ساد البلاد في العصر الأموي من الظلم والجور والانحراف والبعد عن الدين الإسلامي الصحيح القويم قامت الثورات في البلاد الإسلامية وعصفت الاضطرابات بأمن الأمة ورخائها، وتدهورت اقتصادياتها، ولم يعد لها أي ظل لكرامتها وعزتها وحريتها. وأخذت البلاد ترزح مثقلة بالقيود تحت وطأة الحكم الأموي الذي انحرف عن الحق وكفر بحقوق الإنسان. |
ثورات عارمة |
بعد هذا الجور والظلم الذي عصف بالأمة الإسلامية تفجر بركان ثورات عديدة انطلقت به الشعوب الإسلامية في مختلف المناطق كالمارد الجبار بعد أن عانت الخطوب والأهوال من الحكم الأموي. فأعلنت العصيان المسلح في ثورات متلاحقة أصاب لهيبها جبروت الحكم الأموي وطغيانه من أهم هذه الثورات التي حدثت في عصر الإمام الباقر (عليه السلام) نذكر: 1 ـ ثورة المدينة: وهي أفجع ثورة في الإسلام بعد كارثة كربلاء، سماها المؤرخون بواقعة(الحرة) انتهكت فيها جميع الحرمات، واستباح الجيش الأموي الآثم نفوس المسلمين وأعراضهم وأموالهم. أما سبب هذه الثورة فهو أن بقايا الصحابة من خيار المسلمين وجدوا في عهد يزيد الجور الشامل والسلطان الظالم، فقد اقترف جميع الموبقات وانتهك حرمة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بإبادته عترته الطاهرة وسبيه ذراريه من المدينة إلى الشام. عند ذلك رأوا الخروج عليه واجباً شرعياً. أدلى بذلك عبد الله بن حنظلة أحد زعماء الثورة فقال: (والله ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نرمي بالحجارة من السماء.. إن رجلاً ينكح الأمهات والبنات ويشرب الخمر ويدع الصلاة والله لو لم يكن معي أحد من الناس لا بليت لله فيه بلاءً حسناً)(42). ويقول ثائر آخر، المنذر بن الزبير: (إنه، قد أجـــازني بمـــائة ألف، ولا يمنعني ما صـــنع بي أن أخبركم خبره، والله إنه ليشرب الخمر، ويسكر حتى يدع الصلاة)(43). أجمع أهل المدينة على خلع بيعة يزيد، فطردوا حاكمهم والأمويين معه. خاف مروان بن الحكم على نفسه ونسائه فأسرع إلى الإمام زين العابدين (عليه السلام) فأجابه إلى ذلك وتناسى إساءة مروان لأهل البيت وقام (عليه السلام) بالإنفاق على أهل مروان وهرب هذا من يثرب خوفاً من أهل المدينة (44). أرسل يزيد الطاغية جيشاً كبيراً لاحتلال المدينة بقيادة مجرم خطير هو مسلم بن عقبة الذي قال إلى يزيد: (والله لأدعنّ المدينة أسفلها أعلاها). زحف المجرم بجيشه إلى يثرب فاحتلها بعد معارك دامية وراح جنوده يمعنون في قتل الأبرياء من الأطفال والشيوخ والنساء مستبيحين كل ما حرمه الله مدة ثلاثة أيام. فقدت المدينة في هذه المجزرة ثمانين من أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حتى لم يبق فيها بدري واحد، كما فقدت سبعمائة من قريش والأنصار، وعشرة آلاف من سائر الناس (45). أخذ الطاغية البيعة من أهل المدينة على أنهم خول عبيد ليزيد يصنع بهم ما أراد، ومن أبى ضربت عنقه (46). جرت أحداث مذهلة على أهل المدينة دون أن تراعى حرمة الرسول (صلّى الله عليه وآله) في أنصاره المدافعين عن الإسلام أيام غربته ومحنته. استسلمت المدينة إلى جيش يزيد العاتي الظلوم الذي عاث فيها فساداً وتركها ضربة موحشة، ملئت بيوتها بالثكل والحزن والحداد. 2 – ثورة التوابين: ندم الشيعة الكوفيون على ما اقترفوه من إثم عظيم في خذلانهم لسيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) في حين أنهم هم الذين كاتبوه ودعوه بالقدوم إلى الكوفة عن طريق الرسائل والوفود. فقد رؤوا أن لا كفارة لهم سوى إعلان الثورة على حكومة يزيد، والمطالبة بدم الإمام الحسين (عليه السلام). كان زعيم التوابين سليمان بن صرد الخزاعي الذي أناطوا به القيادة العسكرية والسياسية ومراسلة المناطق الشيعية في العراق وخارجه. جمع التوابون التبرعات والأموال وأحاطوا أمرهم بكثير من السر والكتمان. ولما هلك الطاغية الفاسد يزيد أعلن التوابون ثورتهم العارمة في سنة 65هـ وكان عددهم فيما يقول المؤرخون أربعة آلاف. وكان شعارهم: (يا لثارات الحسين) ولأول مرة دوى هذا النداء في سماء الكوفة فكان كالصاعقة على رؤوس المجرمين. جرت أعنف المعارك بين التوابين وجنود أهل الشام في مكان يدعى (عين الوردة) أبدى فيها التوابون بسالة وصموداً يعجز عنه الوصف. استشهد في هذه المعركة الضارية قادة التوابين مثل: سليمان ابن صرد والمسيب بن نجية وعبد الله بن سعد وغيرهم.. وأدركوا عند ذلك أن لا قدرة لهم على مقابلة أهل الشام، فتركوا ساحة القتال وعادوا إلى غلس الليل إلى الكوفة ومضى كل جندي إلى بلده وانتهت بذلك معركة التوابين بعد أن أدخلت الفرح إلى قلوب أهل البيت وألقت الرعب في نفوس المجرمين السفاحين. 3 ـ ثورة المختار: المختار هو علم من أعلام الشيعة وسيف من سيوف آل الرسول (صلّى الله عليه وآله) لم يعرف التاريخ العربي والإسلامي شخصية ألمع من شخصيته. لم يقم بثورته طمعاً بالحكم وإنما لأخذ الثأر لأهل البيت، آل النبي (صلّى الله عليه وآله) الذي فجعوا بمصيبة سيد الشهداء (عليه السلام) وأثقلهم الخطب بتلك الفاجعة، وهم ينتظرون بفارغ الصبر من يأخذ بيده الله جل وعلا لينتقم من الظالمين ويأخذ بثأرهم من المجرمين. كان المختار على جانب كبير من التقوى، يقول المؤرخون أنه كان يكثر من الصوم شكراً لله تعالى لأنه وفقه للأخذ بثأر العترة الطاهرة وإبادة الأرجاس من أتباع الأمويين. ساد الرعب في قلوب أولئك المجرمين الذين قتلوا سيد الأحرار وريحانة الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) الإمام الحسين (عليه السلام). لقد فرّ بعضهم إلى عبد الملك بن مروان فقال له: (إني هربت إليك من العراب) فصاح عبد الملك: (كذبت ليس لنا هربت، ولكن هربت من دم الحسين وخفت على دمك فلجأت إلينا)(47). شرع المختار إلى تنفيذ حكم الإعدام بلا هوادة بكل من اشترك في قتل سيد شباب أهل الجنة فقتل المجرم الخبيث ابن مرجانة في معركة ضارية انتصر فيها على جيوش الشام التي كان يقودها ابن زياد، ثم تتبع قتلة الحسين (عليه السلام) فقتل، عمر بن سعد مع ولده حفص، وبعث برؤوسهم إلى يثرب لأهل البيت. مما أدخل الفرح إلى قلوبهم. قال الإمام الصادق (عليه السلام)(48): (ما امتشطت فينا هاشمية ولا اختضبت حتى بعث لنا المختار برؤوس الذي قتلوا الإمام الحسين (عليه السلام). ثم أرسل المـــختار بعشرين ألف دينـــار إلى الإمام زين العابدين ليبني بها دور بني عقيل التي هدمها أوغاد بني أمية (49). كان المختار حسنة من حسنات عصره ومن مفاخر الأمة الإسلامية بتقواه وحريجته في الدين، وقد شفى الله بثورته صدور المؤمنين بقضائه على تلك الزمرة الخائنة. ثورته التي استهدف بها القضايا المصيرية للأمة الإسلامية من نشر المساواة والعدالة الاجتماعية بين الناس وإعادة سيرة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وسياسته المشرقة بين المسلمين خاصة وغير المسلمين عامة. 4 ـ ثورة ابن الزبير: لم تكن ثورة ابن الزبير كغيرها من الثورات السابقة ذلك أنها كانت تهدف لمصلحة شخصية وليس لصالح الأمة وإسعادها فقد هدفت إلى نقل الخلافة إلى آل الزبير الذين لم يفكروا قط في غير مصلحتهم. دليلنا على ذلك ما قاله عبد الله بن عمر لزوجته حينما ألحت عليه لمبايعة الزبيريين. فقال لها: (أما رأيت بغلات معاوية التي كان يحج عليها الشهباء؟ فإن ابن الزبير ما يريد غيرهن)(50). لقد كان ابن الزبير يبغي بثورته الملك والسلطان، ولا يبغي وجه الله ومصلحة الأمة الإسلامية. وقد أغرى الناس البسطاء فتسلح بالنسك والعبادة ليجذب السذج. وفيه قال أمير المؤمنين: (ينصب حبالة الدين لاصطفاء الدنيا)(51). عرف بعدائه لآل النبي (صلّى الله عليه وآله) وحقده عليهم كأشد ما يكون الحقد، حتى أنه ترك الصلاة على النبي في خطبه فقال: (إن له أهل سوء يشرأبون لذكره، ويرفعون رؤوسهم إذا سمعوا به)(52) من الطبيعي أن يخفق بثورته بعد أن بلي بالشح والاستبداد بالرأي والعجب بنفسه بعد أن أخذت جيوش الحجاج تكيل له الضربات وهو معتصم ببيت الله الحرام الذي لم يرع له الحجاج السفاك حرمة وخرج أكثر أصحابه يطلبون الأمان وبقي ابن الزبير إلى أن قتله الحجاج وصلبه. |
4 ـ الحياة الاقتصادية |
مما لا ريب فيه أن الحياة السياسية تؤثر تأثيراً كبيراً على الحياة الاقتصادية في أي عصر من العصور. ففي عصر الإمام الباقر (عليه السلام) كانت الحياة الاقتصادية مضطربة ومشلولة فثروة البلاد قد انحصرت في أيدي الطبقة الحاكمة وعند عملائها وحاشيتها. وهم بدورهم ينفقونها بسخاء على كل من يلوذ ببلاطهم من الشعراء والأدباء والعملاء الذين كانوا يهللون للحاكم ويدعون له في المناسبات الحكام يتفننون في أنواع الملذات وعامة الشعب كانت ترزح تحت نير الفقر والبؤس. فالأسعار غالية جداً قد أرهقت كواهل الناس، وكلفتهم من أمرهم شططاً. حتى أصبح عامة الناس طاوية بطونهم عارية أجسادهم. وما أشبه اليوم بالبارحة!! كان عامة الناس على هذا الغرار يعيشون حياة الفقر، وهل أقسى من الفقر على الإنسان؟ قال أمير المؤمنين في هذا المجال: (لو تمثل لي الفقر رجلاً لقتلته). لقد تحول اقتصاد الدولة إلى جيوب الأمويين ومن سار على ركابهم دون أن ينفق شيء منه على تطور الحياة العامة وازدهار مرافقها وتقدمها. وقد تبين ذلك من خلال ما قاله الشعراء أمثال الشاعر الأسدي والنمري. قال النمري مخاطباً عبد الملك بن مروان يشكو اضطهاد العمال لقومه وابتزازهم أموال الأمة: أخليفة الرحمن إنا معــــــــــشر حنفاء نسجد بكرة وأصيلاً إن السعاة عصوك يوم أمـرتهم وأتوا دواهي لو علمت وغولا أخذوا العرين فقطعوا حيــزومه بالأصبحية قائماً معـــــلولا (53) حتى إذا لم يتركوا لعضـــــــامه لحماً ولا لفؤاده مـــــعقولا (54) يدعوا أمير المؤمنـــين ودونه خرق تجر به الريــاح ذيولا (55) كهداهد كسر الرماة جـــــناحها تدعو بقارعة الطــــريق هديلا أخليفة الرحمن أن عشــــــيرتي أمسى سوامهم عزين فلولا (56) قوم على الإسلام لما يتركـــــوا ماعونهم ويضيعوا التأهليلا (57) قطعوا اليمامة يطردون كأنــهم قوم أصابوا ظالمـــــــين فتيلا شهري ربيع ما تذوق بطونـهم إلا حموضاً وخمة وذبــــيلا (58) وأتاهم يحيى فشد عليـــــــــهم عقداً يراه المسلمون ثقيـــلا (59) كتباً تركن غنيهم ذا عـــــــــيلة بعد الغنى وفقيرهم مهــــزولا فتركت قومي يقسمون أمورهم إليك أم يتربصون قلـــــــيلا (60) نرى من خلال هذه الأبيات الجور الهائل الذي صبه العمال على قوم الشاعر حتى أنهم لم يتركوا عليهم عظماً إلا هشموه، وسياطهم الثقيلة ألهبت أجسام القوم المظلومين فتركوهم أشباحاً مبهمة خالية من الحياة والروح، كجذوع نخل خاوية. واستمرت المظالم الاقتصادية حتى في عهد عمر بن عبد العزيز الخليفة العادل الشهم النبيل، فالعمال استمروا في نهب أموال الرعية وسلب خيراتها ظلماً وعدواناً. قال في ذلك الشاعر كعب الأشعري مخاطباً الخليفة: إن كنت تحفظ ما يليك فإنـما عمال أرضك بالبلاد ذئاب لن يستجيبوا للذي تدعو له حتى تجلد بالسيوف رقاب بأكف منصلتين أهل بصائر في وقعهن مزاجر وعقاب الحكام الأمويون يعلمون بكل تصرفات عمالهم الجائرة، لكنهم لم يقدموا على محاسبتهم وما اقترفوا من الجور والظلم للرعية. وهذا مما سبب الفتن والثورات التي مر ذكرها والتي التهمت نيرانها في خراسان حكم بني أمية والقضاء على دولتهم. هذه أوضاع عصر الإمام الباقر (عليه السلام) بكل آلامه وويلاته وظلمه وجوره تصور لنا بؤس المجتمع الذي ترك التياعاً وألماً في نفس الإمام وهو بحكم قيادته الروحية للمسلمين يعز عليه بؤسهم وشقاءهم. |
5 ـ الحياة العلمية |
لقد أثرت الحياة السياسية وما سادها من قلق واضطرابات على الحياة العلمية تأثيراً سلبياً واضحاً ظهرت معالمه بكثير من الجمود والخمول في عصر الإمام الباقر (عليه السلام). فالتيارات السياسية التي حرفت الناس وتهالكت من خلالتها البيوتات الرفيعة على الظفر بالحكم والطاقات البشرية والمالية استهلكت جميعها في حروب طاحنة ومذهلة، والنكبات الفظيعة التي منيت فيها الأمة وجرت عليها أفدح الخسائر المادية والبشرية. كل ذلك أثر على الحركة العلمية وجعلها تتردى ضموراً وانحلالاً. اتجه الأمويون اتجاهاً عسكرياً مدمراً في حروب داخلية مريعة وعاشت الأمة حياة لم يكن فيها أي بصيص لنور المعلم وتألق الفكر، وما حدث أن ذلك النور الذي فجره الإسلام في العالم العربي خاصة وسائر الدنيا عامة، قد خبا وضعف بريقه عما كان عليه في صدر الإسلام، الإسلام الذي أراد للبشرية أن تسير على هديه لتحقق أهدافها الإنسانية ورسالتها المثلى من الأمن والرخاء والتطور. كان هم الإسلام الإنسان وهدفه تحسين أوضاعه ليعيش بسعادة وحرية وكرامة. كل ذلك قد توقف في العصر الأموي ولم يعد له ظل يذكر بسبب انحراف الحكام الأمويين عن الخط الإسلامي الذي رسمه الرسول الأعظم وجاهد الأئمة الأطهار على تطبيقه عبر جهاد مرير ضد الظالمين والمجرمين والمارقين. والإمام الباقر (عليه السلام) لابد له من أن يسير على خط آبائه وأجداده ويكمل الرسالة النبوية وينفذ الوصية. فما كان دوره في تلك الأيام العصيبة؟ دور مشرق هام لأعظم إمام: تميز الإمام الباقر (عليه السلام) بمواهب عظيمة وطاقات هائلة وعبقريات ضخمة من العلم شملت جميع أنواع العلوم وشتى المعارف من فقه وعلم كلام وحديث وفلسفة وحكم إنسانية عالية، وآداب أبدية سامية، مضافاً إلى علم خاص زود به بأخبار عن أحداث قبل وقوعها، ثم تحققت على مسرح الحياة. ومع سعة مدى علومه وكثرة ما انتهل العلماء من نمير معارفه فإنه كان يشعر في نفسه ضيقاً وحرجاً لكثرة ما عنده من العلوم التي لم يجد لنشرها سبيلاً. وكثيراً ما كان يصعد الحسرات ويقول: (لو وجدت لعلمي الذي أتاني الله عز وجل لنشرت التوحيد والإسلام والدين والشرايع… وكيف لي بذلك، ولم يجد جدي أمير المؤمنين (عليه السلام) حملة لعلمه حتى كان يتنفس الصعداء ويقول على المنبر: سلوني قبل أن تفقدوني فإن بين الجوانح علماً جماً…)(61). وقد أجمع المؤرخون أن الإمام الباقر (عليه السلام) كان من أغنى رجال الفكر والعلم في عصره في مواهبه الشخصية وقدراته العلمية، وأنه ممن رفع منار العلم وأبرز حقائقه وأظهر كنوزه لجميع من قصده من علماء عصره. أطل الإمام الباقر على عالم مليء بالاضطرابات والفتن والأحداث الدامية. نظر إلى الحياة من حوله فوجدها قد فقدت جميع مقوماتها ولم تعد كما أرادها رب العالمين في وحدتها وتطورها في ميادين العلم والعطاء. لم يجد بداً الإمام (عليه السلام) أن يقوم بواجبه الشرعي لإعادة مجد الأمة الإسلامية وردها إلى الخط السليم وبناء كيانها الحضاري. ولا يتم ذلك إلا عن طريق منائر العلم وصروح الفكر، فانصرف عن كل تحرك سياسي، واتجه صوب العلم وحده متفرغاً له في عزلته في المدينة المنورة، حصن الإسلام الأمين. وفي هذا الحصن المنيع كان يخف إليه العلماء من أعيان الأمة وسائر الأقطار للاستفسار والشرح والتحصيل. وكان ممن وفد إليه العالم الكبير جابر بن يزيد الجعفي ومحمد بن مسلم الطائفي، وأبو بصير المرادي، وأبو حمزة الثمالي ووفود علمية تترى جاءت لتأخذ عنه العلوم والمعارف. جاء في عيون الأخبار (وما قصد أحد من العلماء مدينة النبي (صلّى الله عليه وآله) إلا عرج عليه ـ يقصد الإمام الباقر ـ ليأخذ عنه معالم الدين، وقد أخذ عنه أهل الفقه ظاهر الحلال والحرام (62). وخلاصة القول: إن العالم الإسلامي استمد من الإمام الباقر جميع مقومات نهوضه وارتقائه في المنهج الحضاري، ولم يقتصر المد الثقافي والحضاري على عصره، وإنما امتد إلى العصور التالية. وقد جاء (عليه السلام) ليكمل رسالة أهل البيت في تطور الحياة العلمية في الإسلام. والحق يقال أن الحياة الثقافية في عصر الإمام مدينة لهذا الإمام العظيم الذي يعد الباعث والقائد والناهض بها على امتداد التاريخ.
|
(1) الهجائن: الحرات الكريمات، الفوالخ: جمع فالخ، ويراد به الزوج. (2) عتق مطمهة: يراد بها النساء العربيات، مروج الذهب ج2 ص196. (3) لقد عيرهم بأنهم يزوجون بناتهم للحبش والفرس فتولد السود والحمر فكان هذا النسل يشبه تلقيح الحمير للخيل العتاق التي تنتج البغال، المرجع السابق ج2 ص196. (4) أعتقد أنه كان على اتفاق مع كميت في ذلك لتأجيج نار الفتنة بين القبائل وإضعافها. (5) ضحى الإسلام ج3 ص206 والمقصود أي بعد الكميت. وراجع مروج الذهب ج2 ص197. (6) مروج الذهب ج2 ص73. (7) نقد الحديث في علم الرواية وعلم الدراية للمؤلف ج1 ص370. (8) الأحكام في أصول الأحكام لابن حزم ج2 ص582 وراجع ابن سعد في الطبقات ج2 ص100 والسنة قبل التدوين ص191 ويقصد بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام). (9) الأغاني ج11 ص271. (10) الأغاني ج15 ص59. (11) ديوان ابن قيس الرقيات ص176. (12) نفسه الرقيات ص176. (13) ديوان الطرماح ص157. (14) الأغاني ج9 ص14ـ15. (15) الأغاني ج5 ص271. (16) الهاشميات ص36. (17) بكيل وأرحب وعك ولخم قبائل عربية. (18) التطور والتجديد في الشعر الأموي ص317. (19) العقد الفريد ج1 ص 394. (20) الأغاني ج1 ص 310. (21) الأغاني ج 17 ص 89. (22) ابن الأثير ص 57 ومروج الذهب ج 2 ص 125. (23) ضحى الإسلام لأحمد أمين ج 1 ص 101 وما بعدها. (24) الأغاني ج 10 ص 60. (25) حياة الإمام محمد الباقر لباقر شريف القرشي ص 152 ج 2 عن الأغاني ج 10 ص 60. (26) الأغاني ج 10 ص 60. (27) نفسه ج 10 ص 60. (28) نفسه ج 5 ص 109. (29) نفسه ج 5 ص 161 وبالطبع الولد سر أبيه! (30) الأغاني ج 3 ص 307. (31) السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي ونقد الحديث في علم الرواية وعلم الدراية ج 1 ص 369 للمؤلف. (32) النهج ج 3 ص 16. (33) شرح النهج ج 4 ص 63 وعروة بن الزبير من التابعين. (34) المفيد للعلموي ص 17. (35) نفسه ص 17. (36) نفسه ص 17. (37) صحيح مسلم كتاب العيد. (38) حياة الإمام محمد الباقر القرشي ج 2 ص 158. (39) لسان الميزان ج 2 ص 69. (40) رجال الكشي ص 223. (41) تاريخ دمشق ص 45 وزهر الآداب ج 1 ص 116. (42) طبقات ابن سعد. (43) تاريخ الطبري ج 4 ص 368. (44) تاريخ ابن الأثير ج 3 ص 311. (45) تاريخ الطبري ج 7 ص5 وما بعدها. (46) تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 232 وأنساب الأشراف ج 4 ص 38. (47) عيون الأخبار لابن قتيبة ج1 ص103. (48) رجال الكشي. (49) سفينة البحار ج1 ص435. (50) حياة الإمام الحسين للقرشي ج2 ص310. (51) شرح النهج ج7 ص24. (52) اليعقوبي ج3 ص8. (53) الحيزوم: وسط الظهر والأصبحية: السياط جمع أصبح. (54) المعقول: الإدراك. (55) الخرق: الصحراء الواسعة. (56) العزين: الجماعات. (57) الماعون: الزكاة. (58) الحموش: المر المالح. (59) يحيى: هو أحد السعاة الظالمين. (60) حياة الإمام موسى بن جعفر ج1 ص304. (61) سفينة البحار. (62) عيون الأخبار ص213. |