مكتبة الإمام الباقر (ع)

فهرس الكتاب

 

المسح على الخفين :

وجوّز فقهاء المذاهب الإسلامية المسح على الخفين في الوضوء، ولم يشترطوا مماسّة اليد لظاهر القدمين[1]. وأمّا أئمة أهل البيت (عليهم السلام) فقد اعتبروا المماسّة واشترطوها ولم يسوغوا غيرها، يقول الربيع: سألت أبا اسحاق عن المسح، فقال: أدركت الناس يمسحون ـ يعني على الخفين ـ حتى لقيت رجلاً من بني هاشم لم أر مثله قط يقال له: محمد بن علي بن الحسين فسألته عن المسح، فنهاني عنه، وقال: «لم يكن أمير المؤمنين (عليه السلام) يمسح، وكان يقول: سبق الكتاب المسح على الخفين»[2].

لقد دل الكتاب العظيم على اعتبار المماسة إذ قال تعالى: (وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم) والآية ظاهرة أشد الظهور فيما حكم به أهل البيت (عليهم السلام).

مس الفرج لا ينقض الوضوء :

وذهب الشافعي إلى أنّ مسّ الفرج من نواقض الوضوء، وتمسّك بذلك بما روي عن ابن عمر وسعد بن أبي وقاص وأبي هريرة وعائشة وسعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار من أن مسّ الفرج من نواقض الوضوء. أما الامام أبو جعفر (عليه السلام) وسائر أئمة أهل البيت (عليهم السلام) فإنهم لا يرون ذلك، فقد روى زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: «ليس في القبلة ولا المباشرة، ولا مس الفرج وضوء»[3].

الجهر في صلاة الاخفات :

وذهب فقهاء المذاهب الإسلامية إلى أن الجهر في صلاة الإخفات أو الإخفات في صلاة الجهر متعمداً غير مبطل للصلاة، أما في فقه مذهب أهل البيت (عليهم السلام) فإنه مبطل للصلاة، فقد روى زرارة عن الامام أبي جعفر(عليه السلام) في رجل جهر فيما لا ينبغي الاجهار فيه أو أخفى فيما لا ينبغي الإخفاء فيه، فقال (عليه السلام): «إنْ فعل ذلك متعمداً فقد نقض صلاته وعليه الإعادة، وإن فعل ذلك ناسياً أو ساهياً أو لا يدري فلا شيء عليه وقد تمّت صلاته»[4].

الصلاة على آل النبي في التشهد :

وذهب أكثر فقهاء المسلمين الى وجوب الصلاة على آل النبي (صلى الله عليه وآله) في التشهد، وقد روى جابر الجعفي عن الإمام أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «من صلى صلاة لم يصلّ فيها عليّ، ولا على أهل بيتي لم تقبل منه»[5].

هذه نماذج من المسائل الفقهية الكثيرة التي تكلّم عنها الإمام أبو جعفر (عليه السلام) .

من وصايا الإمام الباقر (عليه السلام)

وزوّد الإمام أبو جعفر (عليه السلام) تلميذه العالم جابر بن يزيد الجعفي بهذه الوصية الخالدة الحافلة بجميع القيم الكريمة والمثل العليا التي يسمو بها الانسان فيما لو طبقها على واقع حياته ، وهذا بعض ما جاء فيها :

« أوصيك بخمس : إن ظلمت فلا تظلم ، وان خانوك فلا تخن ، وان كذبت فلا تغضب ، وان مدحت فلا تفرح ، وان ذممت فلا تجزع ، وفكّر فيما قيل فيك ، فإن عرفت من نفسك ما قيل فيك فسقوطك من عين الله جلّ وعزّ عند غضبك من الحق أعظم عليك مصيبة مما خفت من سقوطك من أعين الناس ، وإن كنت على خلاف ما قيل فيك، فثواب اكتسبته من غير أن يتعب بدنك .

واعلم بأنك لا تكون لنا ولياً حتى لو اجتمع عليك أهل مصرك ، وقالوا : إنك رجل سوء لم يحزنك ذلك ، ولو قالوا : إنك رجل صالح لم يسرك ذلك ، ولكن اعرض نفسك على كتاب الله فإن كنت سالكاً سبيله ، زاهداً في تزهيده ، راغباً في ترغيبة ، خائفاً من تخويفه فاثبت وأبشر، فإنه لا يضرك ما قيل فيك ، وإن كنت مبائناً للقرآن ، فماذا الذي يغرّك من نفسك.

إن المؤمن معنيّ بمجاهدة نفسه ليغلبها على هواها ، فمرة يقيم إودها ويخالف هواها في محبة الله، ومرة تصرعه نفسه فيتبع هواها فينعشه الله ، فينتعش ، ويقيل الله عثرته فيتذكر ، ويفزع الى التوبة والمخافة فيزداد بصيرة ومعرفة لما زيد فيه من الخوف، وذلك بأن الله يقول : ( إن الذين اتقوا اذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون )[6].

يا جابر، استكثر لنفسك من الله قليل الرزق تخلصاً الى الشكر ، واستقلل من نفسك كثير الطاعة لله إزراءاً على النفس[7] وتعرضاً للعفو.

وادفع عن نفسك حاضر الشر بحاضر العلم، واستعمل حاضر العلم بخالص العمل، وتحرّز في خالص العمل من عظيم الغفلة بشدة التيقظ ، واستجلب شدة التيقظ بصدق الخوف، واحذر خفي التزين بحاضر الحياة، وتوقّ مجازفة الهوى بدلالة العقل، وقف عند غلبة الهوى باسترشاد العلم، واستبق خالص الاعمال ليوم الجزاء.

وانزل ساحة القناعة باتقاء الحرص، وادفع عظيم الحرص بايثار القناعة، واستجلب حلاوة الزهادة بقصر الأمل، واقطع اسباب الطمع ببرد اليأس.

وسد سبيل العجب بمعرفة النفس، وتخلص الى راحة النفس بصحة التفويض ، واطلب راحة البدن بإجمام[8] القلب، وتخلّص الى اجمام القلب بقلة الخطأ.

وتعرّض لرقة القلب بكثرة الذكر في الخلوات، واستجلب نور القلب بدوام الحزن.

وتحرّز من ابليس بالخوف الصادق، وإياك والرجاء الكاذب فإنه يوقعك في الخوف الصادق.

وتزيّن لله عزّوجلّ بالصدق في الاعمال، وتحبّب إليه بتعجيل الانتقال. وإياك والتسويف فإنه بحر يغرق فيه الهلكى.

وإياك والغفلة ففيها تكون قساوة القلب ، وإياك والتواني فيما لا عذر لك فيه فإليه يلجأ النادمون.

واسترجع سالف الذنوب بشدة الندم، وكثرة الاستغفار.

وتعرض للرحمة وعفو الله بحسن المراجعة، واستعن على حسن المراجعة بخالص الدعاء ، والمناجاة في الظلم.

وتخلّص الى عظيم الشكر باستكثار قليل الرزق ، واستقلال كثير الطاعة.

واستجلب زيادة النعم بعظيم الشكر، والتوسل الى عظيم الشكر بخوف زوال النعم.

واطلب بقاء العزّ بإماتة الطمع، وادفع ذل الطمع بعز اليأس ، واستجلب عزّ اليأس ببعد الهمة.

وتزود من الدنيا بقصر الأمل، وبادر بانتهاز البغية عند امكان الفرصة، ولا امكان كالايام الخالية مع صحة الابدان.

وإياك والثقة بغير المأمون فإن للشر ضراوة كضراوة الغذاء .

واعلم انه لا علم كطلب السلامة ، ولا سلامة كسلامة القلب ، ولا عقل كمخالفة الهوى، ولا خوف كخوف حاجز ، ولا رجاء كرجاء معين.

ولا فقر كفقر القلب ، ولا غنى كغنى النفس، ولا قوة كغلبة الهوى.

ولا نور كنور اليقين، ولا يقين كاستصغارك للدنيا، ولا معرفة كمعرفتك بنفسك.

ولا نعمة كالعافية ، ولا عافية كمساعدة التوفيق ، ولا شرف كبعد الهمة ، ولا زهد كقصر الأمل ، ولا حرص كالمنافسة في الدرجات.

ولا عدل كالإنصاف ، ولا تعدّي كالجور ، ولا جور كموافقة الهوى، ولا طاعة كأداء الفرائض، ولا خوف كالحزن ، ولا مصيبة كعدم العقل، ولا عدم عقل كقلّة اليقين، ولا قلّة يقين كفقد الخوف ولا فقد خوف كقلّة الحزن على فقد الخوف.

ولا مصيبة كاستهانتك بالذنب، ورضاك بالحالة التي أنت عليها.

ولا فضيلة كالجهاد ، ولا جهاد كمجاهدة الهوى، ولا قوة كردّ الغضب.

ولا معصية كحب البقاء ، ولا ذلّ كذلّ الطمع ، وإياك والتفريط عند إمكان الفرصة فإنه ميدان يجري لأهله بالخسران...»[9].

وبهذا ينتهي بنا الحديث عن بعض كلماته الحكيمة التي تمثّل أصالة الفكر والإبداع .

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين

[1] الخلاف: 1 / 18.

[2] روضة الواعظين: 243، وهذا النصّ يفيد أنّ الكتاب لا يوافق المسح على الخفّين.

[3] الخلاف : 1 / 23 .

[4] المصدر السابق : 1 / 130.

[5] الخلاف : 1 / 131 .

[6] الاعراف (7) : 201 .

[7] ازراءاً على النفس : أي احتقاراً واستخفافاً بها .

[8] الجمام : ـ بالفتح ـ الراحة .

[9] تحف العقول : 284 ـ 286 .