مكتبة الإمام الهادي

فهرس الكتاب

 

 

الوشاية بالامام (عليه السلام)

يبدو من بعض المصادر أن أحد أسباب إشخاص المتوكّل العباسي للإمام الهادي(عليه السلام) الى سامراء هو وشاية إمام الحرمين الذي كان معروفاً بالنصب لأهل البيت(عليهم السلام) وقد كانت هذه الوشايات متتابعة ومتكرّرة وهذا دليل على عدم الارتياح لتواجد الإمام الهادي(عليه السلام) بالمدينة وتأثيره الكبير على الحرمين معاً وهما مركز الثقل العلمي والديني في الحاضرة الإسلامية. ويشهد لذلك ما قالوا: من أنه كتب بريحة العباسي[1] صاحب الصلاة بالحرمين إلى المتوكل: «إن كان لك في الحرمين حاجة فأخرج علي بن محمد منهما فإنه قد دعا إلى نفسه واتبعه خلق كثير».

وتابع بريحة الكتب في هذا المعنى فوجّه المتوكل بيحيى بن هرثمة في سنة (234 هـ ) وكتب معه إلى أبي الحسن (عليه السلام) كتاباً جميلاً يعرفه انه قد اشتاقه ويسأله القدوم عليه وأمر يحيى بالمسير معه كما يحب، وكتب إلى بريحة يعرّفه ذلك.

وإليك نصّ رسالة المتوكل الى الإمام الهادي(عليه السلام)، حسبما رواه الشيخ محمد بن يعقوب الكليني :

عن محمد بن يحيى ، عن بعض اصحابنا قال : اخذت نسخة كتاب المتوكل إلى أبي الحسن الثالث (عليه السلام) من يحيى بن هرثمة في سنة ثلاث واربعين ومائتين وهذه نسخته :

«بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد فإن أمير المؤمنين عارف بقدرك ، راع لقرابتك ، موجباً لحقّك يقدّر الاُمور فيك وفي أهل بيتك ، ما اصلح الله به حالك وحالهم وثبت به عزّك وعزّهم ، وأدخل اليُمن والأمن عليك وعليهم . يبتغي بذلك رضى ربّه وأداء ما افترض عليه فيك وفيهم ، وقد رأى أمير المؤمنين صرف عبدالله بن محمد عما كان يتولاه من الحرب والصلاة بمدينة رسول الله(صلى الله عليه وآله). إذ كان على ما ذكرت من جهالته بحقّك واستخفافه بقدرك ، وعندما قرفك[2] به ، ونسبك إليه من الأمر الذي قد علم أمير المؤمنين براءتك منه وصدق نيّتك في ترك محاولته ، وأنّك لم تؤهل نفسك له ، وقد ولّى أمير المؤمنين ما كان يلي من ذلك محمد بن الفضل ، وأمره بإكرامك وتبجيلك ، والانتهاء إلى أمرك ورأيك والتقرب إلى الله والى أمير المؤمنين بذلك ، وأمير المؤمنين مشتاق اليك يحب إحداث العهد بك والنظر إليك .

فإن نشطت لزيارته والمقام قبله ما رأيت، شخصت ومن أحببت من أهل بيتك ومواليك وحشمك على مهلة وطمأنينة ترحل إذا شئت وتنزل إذا شئت ، وتسير كيف شئت، وان أحببت أن يكون يحيى بن هرثمة مولى أمير المؤمنين ومن معه من الجند مشيعين لك ، يرحلون برحيلك ، ويسيرون بسيرك ، والأمر في ذلك إليك حتى توافي أمير المؤمنين .

فما أحد من اخوته وولده وأهل بيته وخاصته ألطف منه منزلة ولا أحد له أثرة ولا هو لهم أنظر وعليهم أشفق ، وبهم أبرُّ وإليهم أسكن منه إليك إن شاء الله تعالى والسلام عليك ورحمة الله وبركاته»[3].

إنّ المتوكل قد كان يهدف في رسالته اُموراً إعلامية ودعائية أولاً تأثيراً في أهل المدينة، محاولة منه لتغيير انطباعهم من جهة فالغالبية من أهل المدينة تعرف المتوكل وعداءه لأهل البيت(عليهم السلام) وشيعتهم .

وحاول ثانياً أن يُبدي للإمام الهادي(عليه السلام) انه يحترم رأيه ويقدره ويعزه لذا فقد أبدل والي المدينة بغيره ومن ثم جعل له الحرية في الشخوص إلى الخليفة كيف يشاء الإمام (عليه السلام). وتلك أساليب إن كانت تغري العامة فالإمام(عليه السلام) كان يدرك ما يرومه المتوكل ويهدف إليه في استدعائه.

وعلى أيّة حال فقد قدم يحيى بن هرثمة المدينة فأوصل الكتاب إلى بريحة، وركبا جميعاً إلى أبي الحسن (عليه السلام) فأوصلا إليه كتاب المتوكل فاستأجلهما ثلاثاً ، فلما كان بعد ثلاث عاد إلى داره فوجد الدواب مسرّجة والأثقال مشدودة قد فرغ منها.

ولا نغفل عن تفتيش يحيى لدار الإمام(عليه السلام) ممّا يعني أنه كان مأموراً بذلك في الوقت الذي كان الكتاب ينفي عن الإمام أي اتّهام ضدّه.

ومن هنا نعلم أن استقدام الإمام(عليه السلام) كان أمراً إلزامياً له وان كان بصيغة الاستدعاء وإلاّ فلِم هذا التفتيش الذي يكشف عن وجود سوء ظن بالإمام(عليه السلام) بعد تلك الوشايات؟!

وخرج (عليه السلام) بولده الإمام الحسن العسكري(عليه السلام)  وهو صبي مع يحيى ابن هرثمة متوجهاً نحو العراق واتبعه بريحة مشيّعاً فلما صار في بعض الطريق قال له بريحة: قد علمت وقوفك على أني كنت السبب في حملك وعليّ حلف بأيمان مغلظة: لئن شكوتني إلى أمير المؤمنين أو أحد من خاصته وأبنائه لأجمّرنّ نخلك ولاقتلنّ مواليك ولاُعورنّ عيون ضيعتك ولأفعلنّ ولأصنعنّ، فالتفت إليه أبو الحسن فقال له : ان أقرب عرضي إياك على الله البارحة وما كنت لأعرضنك عليه ثم لأشكوك إلى غيره من خلقه. قال: فانكبّ عليه بريحة وضرع إليه واستعفاه فقال له: قد عفوت عنك[4].

وأهم الاشارات ذات الدلالة في هذه الرواية: أن المتوكل أمر يحيى بن هرثمة برعاية الإمام (عليه السلام) وعدم التشديد عليه ، وقد بلغ ذلك بريحة وخشي ان يشتكيه الإمام للمتوكل ، فتوعد الإمام فعمد الإمام (عليه السلام) إلى تركيز مفهوم اسلامي وهو مسألة الارتباط بالله سبحانه ، فإنّه هو الذي ينفع ويضر ويدفع عن عباده ، لذا اجاب الإمام (عليه السلام) بريحة بأنه قد شكاه إلى الله تعالى قبل يوم من سفره وان الإمام (عليه السلام) ليس في نيته أن يشتكي بريحة عند الخليفة مما اضطر بريحة أن يعتذر من الإمام (عليه السلام) ويطلب العفو منه ، فهو يعرف منزلة الإمام وآبائه(عليهم السلام) وصلتهم الوثيقة بالله سبحانه ، فأخبره الإمام (عليه السلام) بأنه قد عفى عنه ، وكان الإمام يدرك أبعاد سلوك الخليفة إزاءه وما يرمي إليه من تفتيش داره وإشخاصه من المدينة إلى سامراء ، وإبعاده عن أهله ومواليه ومن ثم وضعه تحت الرقابة المشددة ومعرفة الداخلين على الإمام المرتبطين به وبالتالي ضبط كل حركات الإمام(عليه السلام) وتحرّكات قواعده، فوجوده(عليه السلام) في المدينة يعني بالنسبة للخليفة تمتع الإمام (عليه السلام) بحرية في التحرك ، فضلاً عن سهولة وتيسر سبل الاتصال به من قبل القواعد الموالية للإمام (عليه السلام) .

وقد كان الإمام (عليه السلام) في كل تحرّكاته وحتى في كتبه ووصاياه إلى شيعته يتصف باليقظة والحذر ، ومن هنا كانت الوشايات به تبوء بالفشل، وحينما كانت تكبس داره ـ كما حصل ذلك مراراً ـ  لا يجد جلاوزة السلطان فيها غير كتب الأدعية والزيارات والقرآن الكريم ، حتى حينما تسوّروا عليه الدار لم يجدوه إلاّ مصلّياً أو قارئاً للقرآن.

وقال ابن الجوزي: ان السبب في اشخاص الإمام (عليه السلام) من المدينة إلى سامراء ـ كما يقول علماء السّير ـ هو ان المتوكل كان يبغض علياً أمير المؤمنين(عليه السلام) وذريّته وخشي تأثيره في أهل المدينة وميلهم إليه[5].

وهذا التعليل ينسجم مع كل تحفّظات الإمام(عليه السلام) تجاه السلطان.

 

الإمام في طريقه الى سامراء

وحاول ابن هرثمة في الطريق إحسان عِشرة الإمام(عليه السلام) وكان يرى من الإمام (عليه السلام) الكرامات التي ترشده الى عظمة الإمام ومكانته وحقيقة أمره وتوضح له الجريمة التي يرتكبها في إزعاج الإمام(عليه السلام) والتجسّس عليه.

عن يحيى بن هرثمة قال: رأيت من دلائل أبي الحسن الأعاجيب في طريقنا، منها: انا نزلنا منزلاً لا ماء فيه، فأشفينا دوابنا وجمالنا من العطش على التلف وكان معنا جماعة وقوم قد تبعونا من أهل المدينة، فقال أبو الحسن: كأنّي أعرف على أميال موضع ماء. فقلنا له: ان نشطت وتفضلت عدلت بنا إليه وكنا معك فعدل بنا عن الطريق.

فسرنا نحو ستة أميال فأشرفنا على واد كأنه زهو الرياض فيه عيون وأشجار وزروع وليس فيها زراع ولا فلاح ولا أحد من الناس، فنزلنا وشربنا وسقينا دوابّنا واقمنا الى بعد العصر، ثم تزودنا وارتوينا وما معنا من القرب ورحنا راحلين فلم نبعد أن عطشت.

وكان لي مع بعض غلماني كوز فضة يشده في منطقته وقد استسقيته فلجلج لسانه بالكلام ونظرت فإذا هو قد أنسى الكوز في المنزل الذي كنا فيه فرجعت اضرب بالسوط على فرس لي، جواد سريع واغد السير حتى اشرفت على الوادي، فرأيته جدباً يابساً قاعاً محلاً لا ماء ولا زرع ولا خضرة ورأيت موضع رحالنا ورؤث دوابنا وبعر الجمال ومناخاتهم والكوز موضوع في موضعه الذي تركه الغلام فأخذته وانصرفت ولم أعرفه شيئاً من الخبر.

فلما قربت من القطر والعسكر وجدته(عليه السلام) ينتظرني فتبسم ولم يقل لي شيئاً ولا قلت له سوى ما سأل من وجود الكوز، فأعلمته أني وجدته.

قال يحيى: وخرج في يوم صائف آخر ونحن في ضحو وشمس حامية تحرق فركب من مضربه وعليه ممطر وذنب دابته معقود وتحته لبد طويل.

فجعل كل من في العسكر وأهل القافلة يضحكون ويقولون هذا الحجازي ليس يعرف الري فسرنا أميالاً حتى ارتفعت سحابة من ناحية القبلة واظلمت واضلتنا بسرعة وأتى من المطر الهاطل كأفواه القرب فكدنا نتلف وغرقنا حتى جرى الماء من ثيابنا الى ابداننا وامتلأت خفافنا وكان أسرع وأعجل من أن يمكن أن نحط ونخرج اللبابيد، فصرنا شهرة ومازال(عليه السلام) يتبسم تبسماً ظاهراً تعجباً من أمرنا.

قال يحيى: وصارت إليه في بعض المنازل امرأة معها ابن لها أرمد العين ولم تزل تستذل وتقول معكم رجل علوي دلوني عليه حتى يرقى عين ابني هذا. فدللناها عليه، ففتح عين الصبي حتى رأيتها ولم أشكّ انها ذاهبة فوضع يده عليها لحظة يحرك شفتيه ثم نحّاها فإذا عين الغلام مفتوحة صحيحة ما بها علّة[6].

ومرّ الركب ببغداد ـ في طريقه الى سامراء ـ فقابل ابن هرثمة واليها اسحاق بن ابراهيم الطاهري فأوصاه بالإمام(عليه السلام) خيراً واستوثق من حياته بقوله: يا يحيى إنّ هذا الرجل قد ولده رسول الله(صلى الله عليه وآله)، والمتوكل مَن تعلم، وإن حرّضته على قتله كان رسول الله(صلى الله عليه وآله) خصمك.

فأجابه يحيى: والله ما وقفت له إلاّ على كل أمر جميل[7].

وحين وصل الركب الى سامراء بدأ ابن هرثمة بمقابلة وصيف التركي ـ وهو ممّن كان يشارك في تنصيب الخليفة وعزله ومناقشته في أعماله ـ وممّا قاله وصيف ليحيى: والله لئن سقطت من رأس هذا الرجل ـ ويقصد به الإمام الهادي(عليه السلام) ـ شعرة لا يكون المطالب بها غيري.

قال ابن هرثمة: فعجبت من قولهما وعرّفت المتوكّل ما وقفت عليه من حسن سيرته وسلامة طريقه وورعه وزهادته وأني فتشت داره فلم أجد فيها غير المصاحف وكتب العلم وانّ أهل المدينة خافوا عليه، فأحسن جائزته وأجزل برّه[8].

غير أن هذا الإكرام الذي ادّعاه ابن هرثمة يتنافى مع ما أمر به المتوكل من حجب الإمام(عليه السلام) عنه في يوم وروده الى سامراء، ويزيد الأمر إبهاماً وتساؤلاً هو أمره بإنزال الإمام(عليه السلام) في مكان متواضع جدّاً يُدعى بخان الصعاليك[9].

قال صالح بن سعيد: دخلت على أبي الحسن(عليه السلام) فقلت له: جعلت فداك في كل الاُمور أرادوا اطفاء نورك والتقصير بك حتى أنزلوك هذا الخان الأشنع، خان الصعاليك[10].

وليس ببعيد أن تكون الصورة التي نقلها يحيى للمتوكل عن الإمام(عليه السلام) ومدى نفوذ شخصيّته حتى عند الولاة والقوّاد مدعاةً للضغط على الإمام(عليه السلام) والسعي للتضييق الحقيقي عليه من خلال الحيلولة بينه وبين ارتباطه بقواعده وإن كان ذلك بالتظاهر بالإكرام كما نراه في النص الذي نُقل عن يحيى، ولا يغيب عن مثل يحيى مدى كره المتوكل لآل أبي طالب بشكل عام وللإمام الهادي(عليه السلام) بشكل خاص.

 

الإمام (عليه السلام) في سامراء

إنّ حجب المتوكل للإمام الهادي(عليه السلام) لدى وروده والأمر بإنزاله في خان الصعاليك لو لاحظناه مع ما جاء في رسالة المتوكل للإمام الهادي(عليه السلام) يحمل بين طيّاته صورة واضحة من نظرة المتوكل الى الإمام(عليه السلام). فهو لا يأبى من تحقير الإمام وإذلاله كلما سنحت له الفرصة. ولكنه كان يحاول التعتيم على ما يدور في قرارة نفسه ولهذا أمر بعد ذلك بإفراد دار له فانتقل اليها. مع العلم بأن المتوكل هو الذي كان قد استدعى الإمام(عليه السلام) وكان يعلم بقدومه عليه، ولابد أن يكون قد استعد لذلك.

وعلى أية حال فالذي يبدو من سير الأحداث أن المتوكل حاول بكل جهده ليكسب ودّ الإمام ويورّطه فيما يشتهي من القبائح التي كان يرتكبها المتوكل.

وحاول المتوكل غير مرّة إفحام الإمام(عليه السلام) بالرغم من أنه كان يضطر الى الالتجاء إليه حين كان يعجز علماء البلاط أو وعّاظ السلاطين عن تقديم الأجوبة الشافية في الموارد الحرجة.

وإليك جملة من هذه الموارد:

1 ـ إنّ نصرانياً كان قد فجر بامرأة مسلمة فأراد المتوكل أن يقيم عليه الحد فأسلم. فقال ابن الأكثم: قد هدم ايمانه شركه وفعله. وقال بعضهم يضرب ثلاثة حدود. وقال آخرون غير ذلك، فأمر المتوكل بأن يكتب الى الإمام الهادي(عليه السلام) وسؤاله عن ذلك فلما قرأ الكتاب، كتب: يضرب حتى يموت.

فأنكر ابن الأكثم وسائر فقهاء العسكر وطالبوا الإمام بالحجة من الكتاب والسنة فكتب(عليه السلام): بسم الله الرحمن الرحيم: (فلمّا رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنّا به مشركين*  فلم يك ينفعهم ايمانهم لمّا رأوا بأسنا سنّت الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون). فأمر المتوكل فضرب حتى مات[11].

2 ـ وحين نذر المتوكل أن يتصدّق بمال كثير واختلف الفقهاء في تحديد المال الكثير، أشار عليه أحد ندمائه بالسؤال من الإمام(عليه السلام) قائلاً: ألا تبعث الى هذا الأسود فتسأله عنه؟ فقال له المتوكل: من تعني؟ ويحك! فقال له: ابن الرضا. فقال له: وهو يحسن من هذا شيئاً؟ فقال: إن أخرجك من هذا فلي عليك كذا وكذا وإلاّ فاضربني مائة قرعة. فبعث من يسأل له ذلك من الإمام فأجاب الإمام بأن الكثير ثمانون. فلما سُئل عن دليل ذلك أجاب قائلاً: (ولقد نصركم الله في مواطن كثيرة) فعددناها فكانت ثمانين[12].

إنّ هذا التنكّر من المتوكّل للإمام(عليه السلام) أو هذا التعجب من أنه قادر على الإجابة وقد عرفنا موارد منها ليشير الى مدى حقد المتوكل وتعمّده في تسقيط الإمام(عليه السلام) أمام الآخرين. ولكنه لم يفلح حتى أنه كان يبادر للتعتيم الإعلامي على فضائل الإمام(عليه السلام) ومناقبه، كما نرى ذلك بعد ردّه على اسئلة ابن الأكثم حيث قال ابن الأكثم للمتوكل: ما نحب أن تسأل هذا الرجل عن شيء بعد مسائلي هذه وانّه لا يرد عليه شيء بعدها إلاّ دونها وفي ظهور علمه تقوية للرافضة[13].

3 ـ ومن جملة القضايا التي حاول إحراج الإمام فيها قضية زينب الكذّابة حيث أمر الإمام(عليه السلام) بالنزول الى بركة السباع.

قال أبو هاشم الجعفري: ظهرت في أيام المتوكل امرأة تدّعي أنها زينب بنت فاطمة بنت رسول الله(صلى الله عليه وآله) فقال المتوكّل: أنت امرأة شابة وقد مضى من وقت رسول الله(صلى الله عليه وآله) ما مضى من السنين، فقالت: إنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) مسح عليّ وسأل الله أن يردّ عليّ شبابي في كل أربعين سنة، ولم أظهر للناس الى هذه الغاية فلحقتني الحاجة فصرت اليهم.

فدعا المتوكل مشايخ آل أبي طالب وولد العباس وقريش وعرّفهم حالها فروى جماعة وفاة زينب في سنة كذا، فقال لها: ما تقولين في هذه الرواية؟

فقالت: كذب وزور، فإنّ أمري كان مستوراً عن الناس، فلم يعرف لي حياة ولا موت، فقال لهم المتوكل: هل عندكم حجّة على هذه المرأة غير هذه الرواية؟ فقالوا: لا، فقال: هو بريء من العبّاس إن لا أنزلها عمّا ادّعت إلاّ بحجة.

قالوا: فأحضر ابن الرضا(عليه السلام) فلعلّ عنده شيئاً من الحجة غيرما عندنا. فبعث إليه فحضر فأخبره بخبر المرأة فقال: كذبت فإنّ زينب توفيت في سنة كذا في شهر كذا في يوم كذا، قال: فإنّ هؤلاء قد رووا مثل هذه وقد حلفت أن لا أنزلها إلاّ بحجّة تلزمها.

قال: ولا عليك فههنا حجّة تلزمها وتلزم غيرها، قال: وماهي؟ قال: لحوم بني فاطمة محرّمة على السباع فأنزلها الى السباع فإن كانت من ولد فاطمة فلا تضرّها، فقال لها: ما تقولين؟ قالت: إنّه يريد قتلي، قال: فههنا جماعة ولد الحسن والحسين(عليهما السلام) فأنزل من شئت منهم، قال: فوالله لقد تغيّرت وجوه الجميع، فقال بعض المبغضين: هو يحيل على غيره لم لا يكون هو؟

فمال المتوكل الى ذلك رجاء أن يذهب من غير أن يكون له في أمره صنع فقال: يا أبا الحسن لم لا تكون أنت ذلك؟ قال: ذاك إليك قال: فافعل، قال: أفعل. فاُتي بسلّم وفتح عن السباع وكانت ستة من الأسد فنزل أبو الحسن إليها فلما دخل وجلس صارت الاُسود إليه فرمت بأنفسها بين يديه، ومدّت بأيديها، ووضعت رؤوسها بين يديه فجعل يمسح على رأس كل واحد منها، ثم يشير اليه بيده الى الاعتزال فتعتزل ناحية حتى اعتزلت كلّها وأقامت بازائه.

فقال له الوزير: ماهذا صواباً فبادر بإخراجه من هناك، قبل أن ينتشر خبره فقال له: يا أبا الحسن ما أردنا بك سوءاً وإنّما أردنا أن نكون على يقين ممّا قلت فاُحبّ أن تصعد، فقام وصار الى السلّم وهي حوله تتمسّح بثيابه.

فلمّا وضع رجله على أوّل درجة التفت إليها وأشار بيده أن ترجع، فرجعت وصعد فقال: كلّ من زعم أنّه من ولد فاطمة فليجلس في ذلك المجلس، فقال لها المتوكّل: انزلي، قالت: الله الله ادّعيتُ الباطل، وأنا بنت فلان حملني الضرّ على ما قلت، قال المتوكلّ: ألقوها الى السباع، فاستوهبتها والدته[14].

إنّ هذه المواقف من الإمام(عليه السلام) لم تكن لتثني المتوكل عما كان يراوده من الضغط على الإمام(عليه السلام) ومحاولة تسقيطه وعزله عن عامة الناس وخواص أتباعه. وكان رصده للإمام(عليه السلام) لا يشفي غليله فكان يفتش دار الإمام (عليه السلام) بشكل مستمر وكان ذلك واحداً من أساليبه لإهانة الإمام(عليه السلام) أو طريقاً للعثور على مستمسك يسوّغ له الفتك بالإمام(عليه السلام) .

[1] وقيل اسمه «تريخه»، وعن الطريحي في مجمع البحرين: «بريمة». بينما ذكر آخرون أن اسمه عبدالله بن محمد وكان يتولّى الحرب والصلاة بمدينة الرسول(صلى الله عليه وآله)، اُنظر الارشاد: 2/309.

[2] قرف: عابه أو اتّهمه.

[3] الكافي : 1 / 501 .

[4] اثبات الوصية : 196 ـ 197 .

[5] تذكرة الخواص : 322 .

[6] إثبات الوصية: 225 .

[7] مروج الذهب: 4/85.

[8] مروج الذهب: 4/85 ، وتذكرة الخواص: 359 .

[9] الارشاد: 313 ـ 314 .

[10] الكافي: 1/498.

[11] الكافي: 7/238 .

[12] الكافي: 7/463.

[13] المناقب: 2/443 .

[14] بحار الأنوار: 50/149.