مكتبة الإمام الهادي

فهرس الكتاب

 

 

ثانياً ـ زيارة الغدير

من أهم زيارات الأئمة الطاهرين ـ عند الشيعة الإمامية ـ زيارة الغدير فقد اهتموا بها اهتماماً بالغاً ، لانها رمز لذلك اليوم الخالد في دنيا الاسلام ، ذلك اليوم الذي قرّر فيه الرسول (صلى الله عليه وآله) المصير الحاسم لأمته ، فنصب الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) خليفة على المسلمين .

وقد زار الإمام أبو الحسن الهادي (عليه السلام) جدّه أمير المؤمنين في السنة التي أشخصه فيها المعتصم من يثرب إلى سر من رأى[1].

نعم زاره بهذه الزيارة التي هي من أروع وأجل الزيارات ، فقد تحدّث فيها عن فضائل الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وما عاناه في عصره من المشاكل السياسية والاجتماعية.

وإليك بعض ما حفلت به هذه الزيارة التي هي من ملاحم أهل البيت(عليهم السلام) :

1 ـ تحدّث الإمام أبو الحسن الهادي (عليه السلام) في زيارته (الغديرية) عن أنّ جده الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) هو أول من أسلم وآمن بالله واستجاب لدعوة نبيه ، قال (عليه السلام) مخاطباً جدّه :

« وأنت أوّل من آمن بالله وصلى له ، وجاهد ، وأبدى صفحته في دار الشرك ، والارض مشحونة ضلالة والشيطان يعبد جهرة...» .

لقد تظافرت الأخبار بأن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) هو أول من أذعن لرسالة خاتم النبيّين ، واستجاب لنداء الله ودعى الى دين الله بعد رسول الله ، فقد روى  ابن اسحاق، قال :

كان أول ذكر آمن برسول الله (صلى الله عليه وآله) وصلى معه ، وصدق بما جاءه من عند الله علي بن أبي طالب (عليه السلام) وهو يومئذ ابن عشر سنين[2].

وروى الطبراني بسنده عن أبي ذرّ قال : أخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) بيد علي (عليه السلام) فقال : «هذا أول من آمن بي وأول من يصافحني يوم القيامة...» [3] .

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعائشة : «هذا علي بن أبي طالب أول الناس ايماناً » [4] .

وكثير من أمثال هذه الاخبار قد اعلنت ذلك .

2 ـ وتحدث الإمام (عليه السلام) في زيارته عن جهاد الإمام أميرالمؤمنين(عليه السلام) وبسالته وشجاعته وصموده في الحروب قائلاً :

« ولك المواقف المشهودة ، والمقامات المشهورة ، والأيام المذكورة يوم بدر ، ويوم الأحزاب  (... وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا* هنالك اُبتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً* وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلاّ غروراً* واذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم بها فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبي يقولون ان بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلاّ فراراً )[5].

وقال الله تعالى : ( ولما رأى المؤمنون الاحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا ايماناً وتسليماً )[6] .

فقتلت عمرهم وهزمت جمعهم ، وردّ الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً ، وكفى الله المؤمنين القتال ، وكان الله قوياً عزيزاً ، ويوم أحد اذ يصعدون ولا يلوون على احد والرسول يدعوهم في اُخراهم وانت تذود بهم المشركين عن النبي (صلى الله عليه وآله) ذات اليمين وذات الشمال حتى ردّهم الله تعالى عنها خائفين ونصر بك الخاذلين.

ويوم حنين على ما نطق به التنزيل ( اذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً وضاقت عليكم الارض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ثم انزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ) . والمؤمنون انت ومن يليك ، وعمك العباس ينادي المنهزمين يا أصحاب سورة البقرة ، يا أهل بيعة الشجرة ، فاستجاب له قوم قد كفيتهم المؤونة وتكلفت دونهم المعونة ، فعادوا آيسين من المثوبة ، راجين وعد الله تعالى بالتوبة ، وذلك قول الله جل ذكره : ( ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء ) . وأنت حائز درجة الصبر ، فائز بعظيم الأجر .

ويوم خيبر اذ اظهر الله خور المنافقين ، وقطع دابر الكافرين ـ والحمدلله رب العالمين ـ ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الادبار ، وكان عهد الله مسؤولاً.

واضاف الإمام قائلاً : وشهدت مع النبي (صلى الله عليه وآله) جميع حروبه ومغازيه ، تحمل الراية امامه ، وتضرب بالسيف قدامه ، ثم لحزمك المشهور وبصيرتك في الاُمور أمّرك في المواطن ، ولم يكن عليك أمير...» .

3 ـ وعرض الإمام في زيارته إلى مبيت الإمام على فراش النبي(صلى الله عليه وآله) ، ووقايته له بنفسه حينما اجمعت قريش على قتله ، فكان الإمام الفدائي الأول في الاسلام ، يقول (عليه السلام) :

« وأشبهت في البيات على الفراش الذبيح (عليه السلام) اذ أجبت كما أجاب ، وأطعت كما أطاع اسماعيل محتسباً صابراً اذ قال : ( يابنيّ إني أرى في المنام أني اذبحك فانظر ماذا ترى قال ياأبت افعل ما تؤمر ستجدني ان شاء الله من الصابرين ).

وكذلك انت لما أباتك النبي (صلى الله عليه وآله) وأمرك ان تضطجع في مرقده واقياً له بنفسك اسرعت إلى اجابته مطيعاً ، ولنفسك على القتل موطناً فشكر الله تعالى طاعتك وأبان من جميل فعلك بقوله جلّ ذكره : ( ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله )[7] .

التحصين العلمي

إنّ النقطة الجوهرية لتحقيق ورفع المستوى العلمي الذي تحتاجه الجماعة الصالحة هي تربية العلماء والكفاءات العلمية المتخصّصة في مختلف الفروع العلمية الإسلامية. ثمّ إعطاء العلماء بالشريعة الدور المتميّز في المجتمع الإسلامي. وهذا ما سار عليه أئمة أهل البيت(عليهم السلام) بلا استثناء.

وتميّز عصر الإمام الهادي(عليه السلام) بأنه العصر الممهّد لعصر الغيبة حيث ينقطع الناس عن إمامهم ولا يبقى للناس أيّ ملجأ فكريّ وديني سوى العلماء بالله الاُمناء على حلاله وحرامه.

ومن هنا  كان اهتمام الإمامين العسكريين بالعلماء بليغاً جدّاً حيث عُبّر عنهم بأنّهم الكافلون لأيتام آل محمد، وكان التبجيل والإجلال في سيرة الإمام الهادي(عليه السلام) لمثل هؤلاء العلماء ملفتاً للنظر جدّاً[8].

ومن يقرأ تراث الإمام الهادي(عليه السلام) يلاحظ استمرار العطاء العلمي في هذا العصر الى جانب الاهتمام بايضاح المنهج العلمي الذي كان يبتغيه أهل البيت(عليهم السلام) والتصدّي منهم لتعميقه.

وتكفي قراءة سريعة لرسالة الإمام الهادي(عليه السلام) الى أهل الأهواز لتلمّس مدى اهتمامه(عليه السلام) بالتأصيل النظري وبالتربية على سلوك المنهج العلمي السليم[9].

التحصين التربوي

بالرغم من كل الظروف التي فرضت على الإمام الهادي(عليه السلام) لعزله عن شيعته ومحبّيه فإنّا نجد الإمام(عليه السلام) يمارس مسؤولياته التربوية بكل ما يتسنى له من الوسائل التي تكون أبلغ في التأثير ، فهو تارة يدعو لبعض شيعته ويتوجّه الى الله ليقضي حوائجهم، واُخرى يلبّي حاجاتهم المادية فيسعفهم بمقدار من المال. وثالثة يباشرهم بالكلام الصريح حول المزالق التي تنتظرهم.

فهذا أخوه موسى الذي نصب له المتوكل مصيدة ليوقعه فيما هو غير لائق به ويفضحه ويفضح أخاه الإمام الهادي(عليه السلام) يتصدّى الإمام بنفسه ليواجهه قبل أن يلتقي بالمتوكل ويحاول أن يبصّره بحقيقة ما ينتظره من مخاوف وأخطار معنوية[10].

وفي أكثر من مورد يبادر الإمام(عليه السلام) لتقديم تجربة حسيّة يعيش من خلالها اتباعه معنى التوجه الى الله واللجأ إليه في المهمّات ثم يبصّرهم بعد ذلك أهمية هذا المبدأ.

فعن أبي محمد الفحّام بالإسناد عن أبي الحسن محمد بن أحمد قال: حدثني عمّ أبي قال: قصدت الإمام يوماً فقلت انّ المتوكّل قطع رزقي وما اتّهم في ذلك إلاّ علمه بملازمتي لك، فينبغي أن تتفضل عليّ بمسألته فقال: تكفى إن شاء الله فلما كان في الليل طرقني رسل المتوكل رسولاً يتلو رسولاً، فجئت اليه فوجدته في فراشه فقال: يا أبا موسى تشغل شغلي عنك وتنسينا نفسك أي شيء لك عندي؟

فقلت: الصّلة الفلانية، وذكرت أشياء فأمر لي بها وبضعفها، فقلت للفتح وافى عليّ بن محمد الى هيهنا وكتب رقعة؟ قال: لا، قال: فدخلت على الإمام فقال لى:  يا أبا موسى هذا وجه الرضّا، قلت: يا سيّدي ولكن قالوا انّك ما مضيت اليه ولا سألت قال: إنّ الله تعالى علم منّا انّا لا نلجأ في المهمّات إلاّ إليه ولا نتوكّل في الملمّات إلاّ عليه وعوّدنا إذا سألناه الإجابة ونخاف أن نعدل فيعدل.

وعن علي بن جعفر قال: عرضت مؤامرتي على المتوكل فأقبل عليّ عبيدالله ابن يحيى فقال: لا تتعبن نفسك، فانّ عمر بن أبي الفرج أخبرني أنه رافضي فانه وكيل علي بن محمد، فأرسل عبيدالله إليّ فعرفني أنه قد حلف ألا يخرجني من الحبس إلاّ بعد موتي بثلاثة أيام.

قال فكتب الى أبي الحسن: ان نفسي قد ضاقت وقد خفت الزيغ، فوقّع إلي: اما إذا بلغ الأمر منك ما قلت فينا، فسأقصد الله تبارك وتعالى  فيك. فما انقضت أيام الجمعة حتى خرجت من الحبس[11].

ويمكن  تلخيص المنهج العام للتربية وبناء الذات عند الإمام الهادي(عليه السلام) بما يلي:

1 ـ التوجيه التربوي من خلال الأحاديث التربوية التي تقدّم للإنسان أهم المفاهيم التربوية[12].

2 ـ التأكيد على طاعة الله تعالى.

3 ـ التأكيد على أهمية التوجه الى الله في الحوائج وعدم طلب الحوائج من غيره[13].

4 ـ أهمية الدعاء والالتزام به في بلورة روح التوحيد والتوكّل على الله.

5 ـ الدعاء للمؤمنين.

6 ـ السعي في قضاء حوائجهم.

7 ـ الربط العاطفي بالقدوة الصالحة المتمثلة في أهل البيت(عليهم السلام) من خلال زياراتهم ودراسة سيرتهم.

وأما دعاؤه للمؤمنين وسعيه في قضاء حوائجهم فيشهد له ما يلي:

1 ـ ما مرّ من أن الإمام(عليه السلام) أجاب على كتاب عمر بن أبي الفرج إليه بأنّ نفسي قد ضاقت وقد خفت الزيغ فوقّع الإمام(عليه السلام) إليه: أما إذا بلغ الأمر منك ما قلت فينا فسأقصد الله تبارك وتعالى فيك. فما انقضت أيام حتى خرج من الحبس[14].

2 ـ روى المجلسي عن الخرائج: روى عن محمد بن الفرج أنه قال: إن أبا الحسن كتب إليّ: أجمع أمرك، وخذ حذرك، قال: فأنا في جمع أمري لست أدري ماالذي أراد فيما كتب به إليّ حتى ورد عليّ رسول حملني من مصر مقيّداً مصفّداً بالحديد ، وضرب على كلّ ما أملك.

فمكث في السجن ثماني سنين ثم ورد عليّ كتاب من أبي الحسن(عليه السلام) وأنا في السجن «لا تنزل في ناحية الجانب الغربيّ» فقرأت الكتاب فقلت في نفسي: يكتب إلي أبو الحسن (عليه السلام) بهذا وأنا في الحبس إنّ هذا لعجيب ! فما مكث إلاّ أياماً يسيرة حتى اُفرج عني، وحلّت قيودي وخلّي سبيلي.

ولما رجع الى العراق لم يقف ببغداد لما أمره أبو الحسن(عليه السلام) وخرج الى سرّ من رأى.

قال: فكتبت إليه بعد خروجي أسأله أن يسأل الله ليردّ عليّ ضياعي فكتب إليّ سوف يردّ عليك، وما يضرّك أن لا تردّ عليك.

قال علي بن محمد النوفلي: فلما شخص محمد بن الفرج الى العسكر كتب له بردّ ضياعه، فلم يصل الكتاب إليه حتى مات[15].

وقضاء حوائج المؤمنين بالإضافة الى دوره التربوي يعدّ خطوة من خطوات التحصين الاقتصادي لهم، حيث يشكّل عاملاً من عوامل استقلالهم وعدم اضطرارهم للخضوع الى كثير ممّا يستذلّ به الحكّام رعيّتهم.

[1] مفاتيح الجنان : 363 .

[2] السيرة النبوية، ابن اسحاقة : 1/262 وعنه في الطبري : 2/312.

[3] فيض القدير : 4 / 358 .

[4] الاستيعاب : 2 / 759 .

[5] الأحزاب (33): 10 ـ 13 .

[6] الأحزاب (33): 22 .

[7] راجع حياة الإمام علي الهادي(عليه السلام): 140 ـ 147 .

[8] راجع الفصل الثالث من الباب الأوّل.

[9] راجع الفصل الرابع من الباب الرابع، رسالة الإمام الى أهل الأهواز.

[10] راجع الكافي: 1/502 .

[11] راجع مسند الإمام الهادي(عليه السلام): 112 و 121 .

[12] راجع تراثه التربوي والأخلاقي في الفصل الأخير من الباب الرابع.

[13] راجع تحف العقول : 361، وكشف الغمة : 3/176.

[14] مسند الإمام الهادي(عليه السلام): 121.

[15] بحار الأنوار: 50/140.