مكتبة الإمام الحسن

فهرس الكتاب

 

 

الفصل الثالث

عهد الإمام الحسن (عليه السلام) ـ البيعة العامة:

.. بالأمس خسرت الأمة الإسلامية سيد المسلمين، وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين ولم تعرف الأمة كيف تحافظ على قيادتها، وبذلك تعثرت في حركتها، وغارت في غياهب الخنوع والهزيمة، في وقت كانت تمتلك فرصة ذهبية بوجود الإمام علي (عليه السلام)، في أن تشيد حضارة إسلامية شامخة تستند على ركائز العدل والحرية والرفاه والأمن...

غير أن الأمة حينما تستسلم للضغوطات الداخلية أو الخارجية وتخضع لرياح المؤامرات فيغزوها الوهن ويخبطها الضعف، فإن النتيجة هي الوقوع تحت نير القوى الطاغوتية.

عاد الإمام الحسن (عليه السلام) وأهل بيته (عليهم السلام) وأصحابه من تشييع أمير المؤمنين (عليه السلام) من قبره الطاهر، فخرج ابن عباس إلى الناس وقال: (إن أمير المؤمنين توفي، وقد ترك لكم خلفاً، فإن أحببتم خرج إليكم، وإن كرهتم فلا أحد على أحد) فبكى الناس وقالوا: بل يخرج إلينا.

فخرج الإمام الحسن (عليه السلام) وقد لبس ثوب السواد وصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (لقد قبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأولون، ولا يدركه الآخرون، ولقد كان يجاهد مع رسول الله صلّى الله عليه وآله فيقيه بنفسه، ولقد كان يوجّهه برايته، فيكتنفه جبرائيل عن يمينه، وميكائيل عن يساره، فلا يرجع حتى يفتح الله عليه؛ ولقد توفي في الليلة التي قبض فيها موسى بن عمران (عليه السلام)، ورفع فيها عيسى بن مريم (عليه السلام)، وأنزل القرآن، وما خلف صفراء ولا بيضاء إلا سبعمائة درهم من عطائه، أراد أن يبتاع بها خادماً لأهله)(1). أيها الناس: من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن علي وأنا ابن النبي، وأنا بن الوصي، أنا ابن البشير، أنا ابن النذير، أنا ابن الداعي إلى الله عز وجل بإذنه، وأنا ابن السراج المنير... وأنا من أهل البيت الذي كان جبرائيل ينزل إلينا ويصعد من عندنا، وأنا من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، وأنا من أهل البيت الذين افترض الله مودتهم على كل مسلم، فقال تبارك وتعالى لنبيّه: (قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)(2)، (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا)(3) فاقتراف الحسنة مودتنا أهل البيت..).

بعد أن انتهى الإمام (عليه السلام) من خطبته، قام عبد الله بن العباس يستحث الناس لمبايعة الإمام الحسن (عليه السلام) وقال: معاشر الناس هذا ابن نبيكم ووصي إمامكم فبايعوه) وفي الناس إلى ذلك اليوم، كثير ممن سمع نص رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، على إمامته بعد أبيه.

فقالوا: ما أحبه إلينا وأوجب حقه علينا وأحقه بالخلافة فأقبل الناس واجتمعوا على الإمام (عليه السلام) يبايعونه بالخلافة ويسلمونه زمام أمورهم...

وكان ذلك يوم الواحد والعشرين من شهر رمضان، يوم وفاة أبيه (عليه السلام) سنة أربعين للهجرة(4).

وهكذا وفقت الكوفة لأن تضع الثقة الإسلامية في نصابها المفروض لها، من الله عز وجل ومن العدل الاجتماعي، وبايعته ـ معها ـ البصرة والمدائن وبايعه العراق كافة، وبايعه الحجاز واليمن على يد القائد العظيم (جارية بن قدامة)، وفارس على يد عاملها (زياد بن عبيد)، وبايعه ـ إلى ذلك ـ من بقى في هذه الآفاق من فضلاء المهاجرين والأنصار، فلم يكن لشاهد أن يختار ولا لغائب أن يرد، ولم يتخلف عن بيعته ـ فيما نعلم ـ إلا معاوية ومن إليه، واتبع بقومه غير سبيل المؤمنين، وجرى مع الحسن (عليه السلام) مجراه مع أبيه بالأمس. وتخلف أفراد آخرون عرفوا بعد ذلك بالقعّاد.

ويعود الإمام الحسن (عليه السلام) بعد أن أخذت البيعة له ـ فينفتح عهده الجديد، بخطابه التاريخي والبليغ، الذي يستعرض فيه مزايا أهل البيت وحقهم الصريح في الأمر، ثم يصارح الناس فيه بما ينذر به الجوّ المتلبد بالغيوم من مفاجئات وأخطار..

فيقول (عليه السلام) وهذا بعض خطابه:

(نحن حزب الله الغالبون، وعترة رسول الله الأقربون، وأهل بيته الطيبون الطاهرون، وأحد الثقلين اللذين خلّفهما رسول الله في أمته، ثاني كتاب الله الذي فيه تفصيل كل شيء، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فالمعوّل علينا في تفسيره، لا نتظنّى تأويله بل نتيقن حقائقه، فأطيعونا فإن طاعتنا مفروضة، إذ كانت بطاعة الله ورسوله مقرونة، قال الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)، وقال: ولو (ردّوه إلى الرسول وأولى الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم).

ثم يمضي في خطابه، ويردف أخيراً بقوله: (وأحذركم الإصغاء لهتاف الشيطان فإنه لكم عدوٌ مبين فتكونون كأوليائه الذين قال لهم: (لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ) فتلقون إلى الرماح أزراً، وللسيوف جزراً وللعمد حطماً(5)، وللسهام غرضاً ثم (لاَ يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا) ثم نزل من على منبره، فرتب العمّال، وأمر الأمراء ونظر في الأمور)(6).

بداية الأزمة:

بعد أن أطلق جموع الناس البيعة للإمام الحسن (عليه السلام)، قام الإمام (عليه السلام) بدوره في إدارة الدولة الإسلامية، فاختار العمال والولاة على المناطق الإسلامية، ورسم مخطط تنظيم شؤون الدولة، وإعداد مستلزمات إدارة النظام السياسي في الأمة...

في الجبهة المقابلة، كان معاوية ـ آنذاك ـ مستمراً في تنفيذ مخطط المؤامرات السياسية بهدف تقويض الدولة الإسلامية... هذا المخطط الذي بدأ منذ عهد الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، والذي كان يهدف معاوية بذلك إلى توسيع مملكته وبسط نفوذه إلى خارج حدود الشام...

وبقيت جبهة الشام ثغرة واسعة في جدار الدولة الإسلامية، كما شكلت خطورة جدية على الاستقرار السياسي والهدوء الداخلي للأقطار الإسلامية الأخرى...

ولذلك حينما علم معاوية بأن الناس قد اجتمعت على بيعة الإمام الحسن (عليه السلام) بدأت تعتمل في مخيلته فكرة شيطانية تقضي بإثارة الفتن الداخلية وخلق مناخ متقلب بهدف زعزعة الأوضاع وخلق أجواء من البلبلة وإشاعة القلاقل في الداخل فبدأ بإرسال الجواسيس إلى عاصمة الدولة الإسلامية في الكوفة ومدينة البصرة ذات الثقل السياسي والاجتماعي المميز.

فأرسل معاوية رجلاً يدعى الحميري إلى الكوفة، وآخراً يدعى القيني إلى البصرة، وقد طلب من هذين الجاسوسين مراقبة الأوضاع السياسية في العاصمة (الكوفة) ومدينة البصرة، ورصد حجم ولاء الجماهير للإمام الحسن (عليه السلام)، إضافة إلى الاتصال ببعض العناصر في الداخل وربطها بجهة المعارضة في الشام عبر الإغراء والترغيب، وهكذا التعرف على نقاط الضعف والنفوذ في الداخل، والتي تمكن معاوية من تمرير مؤامراته للإطاحة بالنظام الإسلامي.

غير أن خطة التآمر هذه لم تنجح حيث تم القبض على الجاسوسين، وأمر الإمام الحسن (عليه السلام) بإعدامهما في الساحات العامة أمام الناس.. فأعدم الحميري في الكوفة، كما أعدم القيني في البصرة التي كان عبيد الله بن العباس والياً عليها. من جهة أخرى أعرب الرأي العام الإسلامي عن سخطه إزاء المؤامرة الأموية، فيما كشف الإمام الحسن (عليه السلام) عن مخطط معاوية من وراء إرسال الجواسيس، فأرسل خطاباً شديد اللهجة يعلن فيه الإمام (عليه السلام) عن استعداده لخوض الحرب ضد جبهة التمرد التي يقودها معاوية وجاء في الخطاب (أما بعد: فإنك دسست إليّ الرجال، للاحتيال والاغتيال، وأرصدت العيون، كأنك تحب اللقاء، وما أشك في ذلك، فتوقعه إن شاء الله، وقد بلغني إنك شمت بما لا يشمت به ذوو الحجى، وإنما مثلك في ذلك كما قال الأولون:

وقل للذي يبقى خــلاف الذي مضى           تجـــــهّز لأخــــــرى مثلها فكأنّ قد

وأنا ومن قــــــد مــــات منّا لكالذي           يــروح فيمسي في المبيت ليفتدي)

ومن الواضح أن رسالة الإمام الحسن (عليه السلام) إلى معاوية تضمنت تهديداً مباشراً لمعسكر الشام كما انه (عليه السلام) أبرز جانب القوة في قبال التهديدات التي وجهها معاوية بعد إرساله الجاسوسين.

ولعلنا نستوحي من رسالة الإمام (عليه السلام) أن الأمة حينما تدخل الصراع والمواجهة مع العدو يتطلب منها إظهار مواقع القوة والقدرة، في سبيل إدخال الرعب والهزيمة النفسية في قلب العدو، وإضعاف معنوياته، وتفويت الفرصة عليه للتفكير في استغلال جوانب الضعف ـ إن وجدت ـ والاستفادة منها في حالة المواجهة معه.

من جهة ثانية استطاع الإمام الحسن في هذه الرسالة أن يسحب البساط من تحت معاوية في أن يمتلك زمام المبادرة في تقرير الحرب ضد الدولة الإسلامية ولذلك نجد أن جواب معاوية على رسالة الإمام الحسن كان خالياً من الإثارة حيث جاء بصورة أراد فيها معاوية أن يتملق للإمام وأن يبعد نفسه عن قضية إرسال الجواسيس فقد كتب، (أما بعد: فقد وصل كتابك وفهمت ما ذكرت فيه ولقد علمت بما حدث فلم أفرح، ولم أشمت، ولم أيأس، وأن علي بن أبي طالب لكما قال أعش بن قيس بن ثعلبة:

وأنــــت الجـــــواد وأنــــــت الـــــــذي          إذا ما القلوب مـــــــلأن الصــــــــدورا

وما مزيـــــد مــــــن خلـــــيج البــحور          يعلو الأكـــــــام ويعلــــــــــو الجسورا

بأجـــــود مـــــــــنه مـــــمّا عــــــــنده          فيعــــــطي الألوف ويعطي البدورا(7))

وكتب عبيد الله بن العباس الوالي على البصرة رسالةً مماثلة إلى معاوية جاء فيها: فإنك ودسك أخابني قين إلى البصرة، تتلمس من غفلات قريش، مثل الذي ظفرت به من يمانيتك لكما قال أمية ـ يعني ابن الأشكري ـ:

لعمـــــرك إني والخزاعي طارقاً          كنعجة غار حتــــــــفها تتحضر

وثارت عليــــها شفرة بكراعها          فظلت بها مــــن آخر الليل تنحر

شمت بقوم مـن صديقك أهلكوا           أصـــابهم يوم من الدهر أصـغر

وبعد أن تمكن الإمام الحسن (عليه السلام) أن ينتزع المبادرة من يد معاوية، أرسل الإمام (عليه السلام) رسالة ثانية أكثر تفصيلاً وتعنيفاً، سلط فيها الأضواء على حقه المشروع في ولاية المسلمين كما بيّن فيها فضائل أهل البيت (عليهم السلام) وحقوقهم، كما ضمّن الرسالة تهديداً لمعاوية وتحذيره من التمادي في غيّه، وشق الصف الإسلامي، وهذا نص الرسالة:

(من الحسن بن علي أمير المؤمنين، إلى معاوية بن أبي سفيان، سلام عليكم، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد؛ فإن الله جلّ جلاله، بعث محمداً رحمة للعالمين، وكافّة للناس أجمعين ينذر من كان حياً، ويحقّ القول على الكافرين، فبلّغ رسالات الله، وقام بأمر الله، حتى توفّاه الله غير مقصّر ولا واهن، وبعد أن أظهر الله به الحق ومحق به الشرك، وخصّ به قريش خاصة. فقال له: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) فلما توفّي، تنازعت سلطانه العرب فقالت قريش، نحن قبيلته وأسرته وأولياؤه، ولا يحلّ لكم أن تنازعونا سلطان محمد وحقه فرأت العرب أن القول ما قالت قريش، وأنّ الحجة في ذلك لهم على من نازعهم أمر محمد، فأنعمت لهم وسلّمت إليهم.

ثم حاججنا نحن قريش، بمثل ما حاججت به العرب، فمل تنصفنا قريش إنصاف العرب لها. إنهم أخذوا هذا الأمر دون العرب بالإنصاف والاحتجاج، فلما سرنا أهل بيت محمد وأولياؤه إلى محاججتهم، وطلب النصف منهم، باعدونا واستولوا بالاجتماع على ظلمنا، ومراغمتنا وللعنت منهم لنا فالموعد إليه، وهو الوليّ النصير.

ولقد كنا تعجبنا لتوثب المتوثبين علينا في حقنا، وسلطان بيتنا وإذ كانوا ذوي فضيلة وسابقة في الإسلام، أمسكنا عن منازعتهم، مخالفة على الدين، أن يجد المنافقون والأحزاب في ذلك مغرماً يثلمون به، أو يكون لهم بذلك سببٌ إلى ما أرادوا إفساده، فاليوم فليتعجّب المتعجّب من توثبك يا معاوية، على أمر لست من أهله لا بفضل في الدين معروف، ولا أثر في الإسلام محمود.

وأنت ابن حزب من الأحزاب، وابن أعدى قريش لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) ولكتابه. والله حسيبك فسترد عليه، وتعلم لمن عقبى الدار وبالله لتلقين عن قليل ربّك، ثم يجزينّك بما قدّمت يداك. وما الله بظلام للعبيد. إن عليّاً لمّا مضى لسبيله رحمة الله عليه يوم قبض، ويوم، منّ الله عليه بالإسلام، ويوم يبعث حيّاً، ولاني المسلمون الأمر من بعده، فأسال الله أن لا يؤتينا في الدنيا الزائلة شيئاً، ينقصنا به في الآخرة، ممّا عنده من كرامة. وإنما حملني على الكتابة إليك، الأعذار فيما بيني وبين الله عز وجل في أمرك ولك في ذلك إن فعلته الحظ الجسيم والصلاح للمسلمين.

فدع التمادي في الباطل، وادخل فيما دخل فيه الناس من بيعتي، فإنك تعلم، أني أحقّ بهذا الأمر منك، عند الله، وعند كل أواب حفيظ، ومن له قلب منيب، واتق الله ودع البغي، واحقن دماء المسلمين، فوالله ما لك خير في أن تلقى الله من دمائهم، بأكثر ممّا لاقيه به. وادخل في السّلم والطاعة، ولا تنازع الأمر أهله، ومن هو أحقّ به منك، ليطفئ الله النائرة بذلك، ويجمع الكلمة ويصلح ذات البين.

وإن أنت أبيت إلا التمادي في غيّك، سرت إليك بالمسلمين، فحاكمتك حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين)(8).

كانت هذه رسالة الإمام الحسن (عليه السلام) لمعاوية والتي فيها دلائل وإثباتات واضحة وصريحة لحق أهل البيت (عليهم السلام) وحق الإمام (عليه السلام) بصورة خاصة... هذه الرسالة كانت بمثابة الحرج الذي ألجم معاوية عن المراوغة والتملص من قوة البرهان القاطع، والذي قطع لسان معاوية عن إيراد حجة مقابلة لذلك راح يبحث عن قشة تنقذه.

فمعاوية الذي يجد نفسه متورطاً أمام دلائل واحتجاجات الإمام الحسن (عليه السلام)، ماذا يمكنه أن يفعل سوى اعتماد أسلوب المكر والخديعة الذي تربى عليهما من صُغرِه حتى تعشعشا في صدره.

ونحن إذ نورد نص جواب معاوية إلى الإمام الحسن (عليه السلام) لنرى إلى أي حد وصلت وسائل المكر بمعاوية في أن يلبس مسوح الإسلام ويغطي نفسه بجلباب الرعيّة ليتحدث باسم الإسلام، فيقول في رسالته: (قد بلغني كتابك وفهمت ما ذكرت به محمداً رسول الله من الفضل، وهو أحق الأولين والآخرين بالفضل كله، قديمه وحديثه، وصغيره وكبيره، وقد والله بلّغ وأدّى، ونصح وهدى، حتى أنقذ الله به من الهلكة وأنار به من العمى، وهدى به الجهالة والضلالة، فجزاه الله أفضل ما جزى نبياً عن أمته... وذكرت وفاته وتنازع المسلمين الأمر بعده وتغلبهم على أبيك، فصرّحت بتهمة أبي بكر الصديق، وعمر الفاروق، وأبي عبيدة الأمين، وحواريي رسول الله، وصلحاء المهاجرين والأنصار، فكرهت ذلك لك،.. وإنك أمرؤ عندنا وعند الناس غير الظنين، ولا المسيء ولا اللئيم، وأنا أحب لك القول السديد والذكر الجميل، وإن هذا الأمة لما اختلفت بينها لم تجهل فضلكم، ولا سابقتكم ولا قرابتكم من نبيكم، ولا مكانكم في الإسلام وأهله، فرأت الأمة أن تخرج من هذا الأمر لقريش، لمكانها من نبيها، ورأي صلحاء الناس من قريش، والأنصار وغيرهم، وسائر الناس وعوامها، أن يولوا من قريش هذا الأمر أقدمها إسلاماً وأعلمها بالله، وأحبها وأقواها على أمر الله، فاختاروا أبا بكر وكان ذلك رأي ذوي الدين، والفضل، والناظرين للأمة، فارفع ذلك في صدوركم لهم التهمة، ولم يكونوا متهمين، ولا فيما أتوا بالمخطئين، ولو رأى المسلمون إنّ فيكم من يغني غناءه ويقوم مقامه، ويدب عن حريم الإسلام دبه، ما عدلوا بالأمر إلى غيره، رغبة عنه ولكنهم عملوا في ذلك بما رأوه صلاحاً للإسلام وأهله، والله يجزيهم عن الإسلام وأهله خيراً.

وقد فهمت الذي دعوتني إليّ من الصلح والحال فيما بيني وبينك اليوم، مثل الحال التي كنتم عليها أنتم وأبو بكر بعد وفاة النبي! فلو علمت إنك أضبط مني للرعية، وأحوط على هذه الأمة وأحسن سياسة وأقوى على جمع الأموال، وأكيد للعدو، لأجبتك إلى ما دعوتني إليه، ولو رأيتك لذلك أهلاً لسلمت لك الأمر بعد أبيك، فإن أباك سعى على عثمان، حتى قتل مظلوماً فطالب الله بدمه، ومن يطلبه الله فلن يفوته ثم ابتز الأمة أمرها، وخالف جماعتها فخالف نظراءه، من أهل السابقة والجهاد، والقدم في الإسلام، وادعى إنهم نكثوا بيعته، فقاتلهم، فسفكت الدماء واستحلت الحرم، ثم أقبل إلينا لا يدعي علينا بيعة ولكنه، يريد أن يملكنا اغتراراً فحاربناه وحاربنا، ثم صارت الحرب إلى أن أختار رجلاً واخترنا رجلاً ليحكما بما يصلح عليه، وتعود به الجماعة والألفة وأخذنا بذلك عليهما ميثاقاً، وعليه مثله، على الرضا بما حكما فأمضى الحكمان عليه الحكم، بما علمت وخلعاه، فوالله ما رضى بالحكم، ولا صبر لأمر الله، فكيف تدعوني إلى أمر، إنما تطلبه بحق أبيك وقد خرج، فانظر لنفسك ولدينك... وقد علمت، إني أطول منك ولاية وأقدم منك بهذه الأمة تجربة وأكبر منك سناً، فأنت أحق أن تجيبني إلى هذه المنزلة التي سألتني، فادخل في طاعتي أعاننا الله وإيّاك على طاعته، انه سميع مجيب الدعاء)(9)...

ومن خلال نظرة خاطفة على رسالة معاوية فإنها تحتوي على مغالطات مفضوحة وكذب صريح ويكفي أن ندلل على ذلك أنه قال في رسالته إن الأمة اجتمعت على أبي بكر واختارته، فإذا كان كذلك، أو لم تجمع الأمة على الإمام علي (عليه السلام) فلماذا شهر سيف البغي ضده وأعلنها حرباً على الدولة الإسلامية وحتى قتل أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كعمار بن ياسر الذي قال عنه رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (يا عمار تقتلك الفئة الباغية..). ومن فمك ندينك فلم يطلب معاوية البيعة من الإمام الحسن (عليه السلام) وقد بايعته الأمة وسلمته زمام أمورها؟ ثم إذا كانت جبهة الشام لم تبايع الإمام الحسن (عليه السلام)، فهي أيضاً لم تبايع ولم تدن في يوم من الأيام سلطة الخلفاء السابقين منذ ولاية معاوية عليها في عهد الخليفة الثاني عمر.

فأية ولاية يتشبث بها معاوية، وهي إنما كانت بئس الولاية وبئس التجربة، أراد منها زعامة سياسية وثاراً جاهلياً، وطمعاً شخصياً، وملكاً قلبياً. غير أنه لم يتخلّ عن مغالطاته الصريحة وكذبه المفضوح فقام ثانية بكتابة رسالة أخرى وبعث بها إلى الإمام (عليه السلام) وقال فيها: (بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد: فإن الله عز وجل، يفعل في عباده ما يشاء، لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب فاحذر أن تكون منيتك على أيدي رعاع من الناس، وآيس أن تجد فينا غمزة وإن أنت أعرضت عما أنت فيه وبايعتني، وفيت لك بما وعدت وأجزت لك ما شرطنا، وأكون في ذلك كما قال الأعشى بن بني قيس بن ثعلبة:

وإن أحــــــداً أســــــدى إلـيك أمانة           فاوف بها تدعــــــى إذا مــت وافياً

ولا تحسب المولى إذا كــان ذا غنى           ولا تجــــــفه إن كـــــان للمال فانياً

ثم الخلافة لك من بعدي، فأنت أولى الناس بها والسلام)(10).

حاول معاوية في رسالته هذه أن يرفع الإثارة والحدية مع الإمام (عليه السلام) فاعتمد أسلوب المراوغة والالتفاف، غير أن الإمام الحسن (عليه السلام) كشف النقاب عن الإطراء الأموي المزيف وكتب جواباً مختصراً أكد فيه الإمام (عليه السلام) موقفه الثابت تجاه السياسة الأموية وقال فيه: (أما بعد: فقد وصل إليّ كتابك، تذكر فيه ما ذكرت، وتركت جوابك، خشية البغي عليك، وبالله أعوذ من ذلك، فاتبع الحق تعلم أني من أهله، وعليّ إثم أن أقول فأكذب والسلام) وبهذه الرسالة يكون الإمام الحسن (عليه السلام) قد أوصد باب المراوغة أمام معاوية بعد أن ألقى عليه الإمام (عليه السلام) الحجة في رسالته الأولى، خاصة وأن معاوية عكف على استخدام الخداع والحياد عن الحق، وعلى ذلك تكون ـ والحال هذه ـ لغة المخاطبة والحوار هي الحرب ولهذا أنهى الإمام (عليه السلام) بجوابه الأخير لمعاوية أسلوب التفاوض وتسوية الخلاف على أساس الطرق السليمة، طالما أن المعتدي يصر على موقفه الرافض للتسليم للإمام الحق والحاكم الشرعي.

التعبئة العسكرية في الدولة الإسلامية:

وبعد أن أوقف الإمام (عليه السلام) المكاتبات مع معاوية، قام بالتعبئة العسكرية العامة وتثوير الشعب، وتشجيعه وتكتيل الطاقات في الداخل للاستعداد لخوض الحرب ضد معاوية ومعسكر الشام.

وخطب الإمام الحسن (عليه السلام) في الناس بهدف اطلاع الرأي العام الإسلامي على أبعاد القضية الراهنة وطرق علاجها فاجتمع الناس حول الإمام حسن (عليه السلام) فقام الإمام (عليه السلام) خطيباً فيهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:

(أما بعد: فإن الله كتب الجهاد على خلقه وسمّاه كرهاً، ثم قال لأهل الجهاد من المؤمنين: (وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) فلستم نائلين ما تحبون إلا الصبر على ما تكرهون، وبلغني أن معاوية بلغه أنّا كنا أزمعنا على المسير إليه فتحرّك، لذلك اخرجوا رحمكم الله إلى معسكركم بالنخيلة حتى ننظر وتنظرون)(11). أراد الإمام (عليه السلام) في هذه الخطبة حث الناس على الجهاد وبعث فيهم الروح الثورية واستنهاض طاقات جماهير الأمة للحرب ضد معاوية.

أين الأمة من مسؤولية الجهاد؟

كانت الصدمة الأولى التي وقعت في بدء مرحلة الإعداد والتعبئة أن حصل إحجام من جماهير الأمة عن تلبية نداء قيادتها ورغبتها في الخنوع والراحة والتالي التنصل من الواجب المقدس..

وإن هذا الموقف المتخاذل الذي اتخذته جماهير الكوفة من الإمام الحسن (عليه السلام) إنما يعبر في حقيقته عن الروح الانطوائية وحب الراحة التي تعكس صورة الثقافة التخديرية الجامدة التي راجت وماجت في أوساط المجتمع الكوفي بعد أن خذل هذا المجتمع ـ من قبل ـ أمير المؤمنين (عليه السلام) وأكرهته على القبول بالمفاوضات مع معاوية.

وفي الواقع أن مثل هذه الثقافة من الممكن أن تغزو أي مجتمع خاصة وأنها تنمي عند الإنسان رغبة الراحة وحب الاستقرار وربما تجد لها مبرراً في أداء بعض المسؤوليات الدينية غير المجهدة أو المتعبة.. كما أن الناس حينما تعشق ثقافة الجمود يدفعها ذلك لأن تقف إلى جانب ذلك القائد الذي لا يطلب منها مسؤولية التحرك، ولا يكلفها مهمة البذل والعطاء، ولا يدفعها للإيثار والتضحية والذي بالتالي لا يعكر صف وضعها المعيشي...

ولذلك فإنّ مثل هذه الأمة تبحث وتتبنى الثقافة المخدرة الخاوية والخالية من المسؤوليات وتكتفي بتأدية الفرائض الاعتيادية والمسؤوليات البسيطة والتي لا تشكل خطورة عليها ولا تهدد مصالحها ورغباتها..

وفي مثل هذه الحالة، فإن البعض من الناس ترفض تبني الثقافة الثورية الداعية إلى الجهاد والتحرك والثورة ضد الواقع الفاسد، فتضع لنفسها التبريرات الواهية المستقاة من ثقافتها الجامدة فتعتبر التحرك الثوري تطرفاً، وأن الجهاد تهوراً وهكذا.

وهذا النمط من الثقافة ظهر وبوضوح في موقف الناس في الكوفة حينما دعا الإمام (عليه السلام) للتحرك والجهاد ضد معسكر الشام، حيث قابلت دعوة الإمام (عليه السلام) بالرفض ونكصت على عقبها وكأنما ألجمت أفواهها بالصمت معلنة عن تراجعها أمام قرار الحرب الذي اتخذه الإمام الحسن (عليه السلام).

وأمام هذا الموقف المتخاذل قام عدي بن حاتم من طليعة الإمام الحسن (عليه السلام) ليمزق طوق الصمت، مستنكراً من جواب الجماهير الانهزامي، ومعرباً عن سخطه وقال: (أنا ابن حاتم، سبحان الله ما أقبح هذا المقام ألا تجيبون إمامكم وابن بنت نبيكم، أين خطباء المصر الذين ألسنتهم كالمخاريق في الدعة، فإذا جد الجد فرّوا مراوغين كالثعالب أما تخافون مقت الله ولا عيبها وعارها...).

نستوحي من كلمة عدي بن حاتم هذه أنه كان يوجه انتقاداً لاذعاً لتلك الفئة المتبنية للثقافة الاستهلاكية والترف الفكري، والتي تتغذى على ثقافتها في زمن الهدوء والاستقرار، وتتخلى عن ثقافتها ـ كما يشير عدي في خطبته ـ في وقت الصراع والمواجهة... ثم اقترب عدي من الإمام الحسن (عليه السلام) وقال كلمات أعرب فيها عن استعداده للجهاد معه قائلاً: (أصاب الله بك المراشد، وجنّبك المكاره، ووفقك لما تحمد ورده وصدره، قد سمعنا مقالتك، وانتهينا إلى أمرك وسمعنا لك وأطعناك فيما قلت وما رأيت وهذا وجهي إلى معسكري فمن أحب أن يوافيني فليواف..).

قال بعده قيس بن سعد، وقيس بن عبادة الأنصاري، ومعقل بن قيس الرياحي، وزياد بن صعصعة التميمي، وقالوا بمثل ما قال عدي فأنّبوا الناس ولا موهم على الموقف المتخاذل الذي اتخذوه من الإمام (عليه السلام)، ثم استحثوا الناس للحرب ومقاومة المد الأموي ثم جاءوا للإمام (عليه السلام) وأعلنوا له عن استعدادهم لخوض الحرب معه، والإمام (عليه السلام) بدوره أعرب لهم عن ارتياحه من الموقف البطولي لصحابته فقال لهم: (صدقتم رحمكم الله ما زلت أعرفكم بصدق النية والوفاء والقبول والمودة الصحيحة فجزاكم الله خيراً)..

ولكن الحال أن خوض الحرب بحاجة إلى جيش، وهذا لا يكون إلا بتجنيد أعداد كبيرة من الناس محاولاً استنهاضهم وتشجيعهم ثانية للالتحاق بجبهات الحرب فقام الإمام (عليه السلام) خطيباً وقال: (معشر الناس: عفت الديار، ومحيت الآثار، وقلّ الاصطبار فلا قرار على همزات الشياطين وحكم الخائنين، الساعة والله صحّت البراهين وفصّلت الآيات، وبانت المشكلات، ولقد كنا نتوقع تمام هذه الآية تأويلها، قال الله عز وجلّ: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)(12).

فلقد مات والله جدي رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وقتل أبي (عليه السلام)، وصاح الوسواس الخنّاس في قلوب الناس، ونعق ناعق الفتنة، وخالفتم السنّة، فيا لها من فتنة صمّاء عمياء لا يسمع لداعيها، ولا يجاب مناديها، ولا يخالف واليها، أظهرت كلمة النفاق، وسيّرت رايات أهل الشقاق، وتكالبت جيوش أهل العراق، من الشام والعراق، هلّموا رحمكم الله إلى الافتتاح، والنور الوضّاح، والعلم الجحجاح، والنور الذي لا يطفئ، والحق الذي لا يخفى.

أيها الناس: تيقظوا من رقدة الغفلة ومن تكاشف الظلمة، فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة، وتردى بالعظمة، لئن قام إليّ منكم عصبة بقلوب صافية وبنيّات مخلصة لا يكون فيها شوب نفاق ولا نية افتراق، لأجاهدن بالسيف قدماً ولأضيقنّ من السيوف جوانبها ومن الرماح أطرافها، ومن الخيل سنابكها فتكلموا رحمكم الله).

بهذا الخطاب البليغ الذي تقشعر له الأبدان وتصدع له العقول والأذهان، شرح الإمام الحسن (عليه السلام) خطورة الموقف، فدعا الناس إلى تحمل المسؤوليات الملقاة على عواتقهم. إلا أنه عميت أبصار قلوبهم عن مناصرة الحق ومقارعة الباطل، فاختارت لنفسها حياة الذل وسنرى ـ فيما بعد ـ كيف أن هذا الموقف الجبان كلف جماهير الكوفة وقطاع كبير من الأمة ثمناً باهظاً ومأساة رهيبة ونتائج سلبية في غاية الخطورة بسبب ذلك الموقف.

ومع ذلك لم يستسلم الإمام (عليه السلام) بالرغم من موقف الأمة السلبي هذا من أن يبادر في الاستعداد والتجهيز لحربه ضد معاوية، مع المجموعة تلك التي خرجت للقتال معه، هذه المجموعة التي سنأتي على شرح تركيبتها وقوامها، والدوافع الأساسية التي اعتمد عليها الإمام الحسن (عليه السلام) في إدخال هذه المجموعة ساحة الصراع المصيري ضد معاوية.

الفكر الاستراتيجي عند الإمام الحسن (عليه السلام):

بعد أن تمكن الإمام (عليه السلام) من حشد وتجنيد ما أمكنه من أبناء الأمة لحرب جيش الشام بدأ الإمام الحسن (عليه السلام) مرحلة تعبئة الصفوف إلى الجبهات...

وكانت أول فرقة عسكرية بعث بها الإمام (عليه السلام) هي فرقة عبيد الله بن العباس والتي تتشكل من اثني عشر ألف مقاتل، وهذه أكبر الفرق العسكرية في جيش الإمام الحسن (عليه السلام)، وقبل أن تتحرك هذه الفرقة وجه الإمام (عليه السلام) وصايا هامة لقائد الفرقة عبيد الله بن العباس جاء فيها: (يا ابن عمّ: إني باعث معك اثني عشر ألفاً من فرسان العرب وقرّاء مصر... فسر بهم وألن جانبك، وأبسط وجهك، وافرش لهم جناحك، وأدنهم من مجلسك، وسر بهم نحو الفرات، حتى تقطع بهم الفرات، ثم تصير بمسكن، ثم امضي حتى تستقبل معاوية فإن أنت لقيته، فاحبسه حتى نأتيك، فإني في أثرك وشيكاً، وليكن خبرك عندي كل يوم، وشاور هذين ـ يعني قيس بن سعد ـ وسعيد بن قيس ـ فإذا لقيت معاوية فلا تقاتلنّه حتى يقاتلك، وإن فعل فقاتله، فإن أصبت فقيس على الناس، وإن أصيب قيس، فسعيد بن قيس على الناس).

والإمام (عليه السلام) في حديثه مع عبيد الله بن العباس، تضمن مجموعة من الوصايا الضرورية للقائد العسكري والتي ترتبط بالصفات النفسية والأخلاقية عند القائد العسكري تجاه القيادة العليا للدولة من هذه الوصايا تنقسم إلى:

أولاً: أخلاقيات القائد العسكري:

فلقد سلط الإمام الحسن (عليه السلام) في وصاياه لعبيد الله بن العباس الضوء على بعد هام وهو البعد الأخلاقي في تعامل القائد العسكري مع عناصر فرقته هذا التعامل الذي ينعكس في طاعة جنود الفرقة واخلاصها لقائدها وتنفيذ القرارات الصادرة عنه بجدية وتفاني، وهذه بالتالي تترك آثارها في نتائج الحرب.

ومن الصفات الأخلاقية التي أوحى بها الإمام (عليه السلام) إلى عبيد الله بن العباس هي كالتالي:

أ. الرفق بالجنود:

إن طبيعة العمل العسكري والتدريبات البدنية الشاقة تتطلب من الجنود بذل جهود كبيرة حتى يتمكن الجنود من تأدية هذه المهمة على أحسن وجه، كقطع المسافات الطويلة، وصعود الجبال، والسهر في الليل، والبقاء فترة من الزمن دون غذاء أو شراب وغيرها...

غير أن المطلوب من القائد العسكري، ـ مع ضرورة هذه التدريبات في سبيل صقل شخصية الجندي وإعداده ـ أن لا يغفل هذا القائد قدرة تحمل الجنود والقابليات النفسية عند كل فرد من أفراد الفرقة خاصة إذا كان القائد يهدف من وراء كل ذلك تخريج كوادر عسكرية قادرة على القيادة في المستقبل، دونما الجمود على الأوامر، وتفريغ القرارات العسكرية من محتواها الأساسي.

ولذلك يوصي الإمام الحسن (عليه السلام) عبيد الله العباس بالرفق بالجنود (ألن جانبك).

ب. إدخال السرور على الجنود:

قد تكون الصرامة والجدية المفرطة في الجهاز العسكري حائلاً دون إشاعة المودة والسرور بين الجنود وقيادتها. فإذا كان الجهاز العسكري يعمل في إطار تربية الجنود على أساس خلق روحية خشنة تناسب مناخ العمل العسكري لا يعني ذلك أن يتعامل القائد العسكري مع جنوده وأفراد فرقته بخشونة وبصرامة خارج فترات التدريب.

وفي سبيل تشذيب هذا الأسلوب عند القائد العسكري، أي في تعامله مع عامة الناس والذي بالتالي يؤدي إلى صناعة حواجز نفسية ما بين القائد وجنوده، فتكون حلقات الوصل بين القرار القيادي وطاعة الجنود متشنجة ومشدودة لهذا يدخل عنصر التواضع في تفتيت الحواجز النفسية بين القائد العسكري وبين الجنود، ممّا يشكل عاملاً مهماً في التزام واحترام الجنود للقائد وتنفيذ الأوامر العسكرية باخلاص وقبول تام ورضى.

من هنا فالإمام الحسن يوصي ابن عباس (وافرش لهم جناحك).

ح. التعرف على مشاكل وهموم الجنود:

في سبيل إعداد كادر عسكري مخلص وقوي يتطلب من القائد العسكري أن يكون قادراً على توفير الإمكانيات النفسية الفاعلة في الجيش وهذا لا يتم إلا بالتعرف على المشاكل التي تكتنف مسيرة أفراد الجيش وتعميق نموهم واستقامتهم هذا ويلزم على القائد العسكري أن يضع في عين الاعتبار أن الجندي ليس آلية عسكرية جامدة تتحرك بفعل المؤثرات الخارجية، بل هو روح تنقبض وتنبسط له هموم ورغبات كغيره من أفراد المجتمع، وأن انتمائه في السلك العسكري لا ينفي أي من تلك الهموم والرغبات.. بل إن وظيفة القائد هي تشذيب تلك الهموم والرغبات والتعامل معها بواقعية معتمداً في ذلك على قاعدة (لا إفراط ولا تفريط) وهذا إنما يتم عبر تعرف القائد العسكري على هموم ومشاكل الجنود من خلال عقد اللقاءات الودية والحوار المشترك حتى يكون هذا القائد على علم بما يجري في الداخل أفراد الفرقة ومدى الاستعداد النفسي عند كل فرد مستوى التفاعل مع قرارات القائد العسكري فالإمام يقول (وأدنهم من محلك).

هذه كانت مجموعة من الوصايا التي وجهها الإمام الحسن (عليه السلام) إلى عبيد الله ابن العباس الذي نصبه الإمام (عليه السلام) قائداً عسكرياً على الفرقة الأولى المتوجهة إلى معسكر النخيلة وترتبط هذه الوصايا بالبعد الأخلاقي.

وهناك مسؤوليات هامة على القائد العسكري تجاه القيادة العليا للدولة، ذكرها الإمام الحسن (عليه السلام) لعبيد الله بن العباس ومنها.

أولاً: الالتزام بالقرارات العليا:

هناك مجموعة من الحدود الثابتة التي لا يحق للقائد العسكري أن يتجاوزها، أو يبت فيها كونها تختص بالاستراتيجية العامة للدولة ومن تلك الحدود هي قرار بدء الحرب أو تقرير مصيرها والتي هي من صلاحيات القائد الأعلى للدولة وإن كان له فرصة التشاور ولكن لا يحق له أن يتخذ قراراً فردياً في هذا الشأن، حيث أن مثل هذا القرار يرتبط بالخطة الاستراتيجية العامة في الدولة.

هذا إضافة إلى أن تعاليم الإسلام توحي بأن لا يبدأ المسلمون الحرب من جانبهم حتى يبدأ العدو وفي ذلك لإتمام الحجة عليه ويقول الإمام الحسن (عليه السلام) لابن عباس (فإن أنت لقيته فاحبسه).

ثانياً: رفع التقارير اليومية واطلاع القيادة العامة على مجريات الحرب:

للمهمة الصعبة والخطيرة التي يقوم بها الجيش ـ بكل فصائله ـ في الحرب ضد العدو، والتحركات التكتيكية والاستراتيجية الحساسة والتي تؤثر في مستقبل ومصير الحرب وبالتالي مستقبل الدولة وجوداً وعدماً، يلزم ذلك على القائد العسكري رفع التقارير اليومية للقيادة العليا، يشرح فيها سائر الأوضاع على جبهات الحرب بما فيها تحركات العدو وإعداداته ومواقعه، كل ذلك بصورة تفصيلية، والتي تساعد القيادة العليا على ضوء تقارير القائد العسكري في أن تضع الخطط الكفيلة والمناسبة في مواجهة تحركات جيش العدو، ومعرفة احتياجات قوات الجيش.

يقول الإمام الحسن (عليه السلام) لابن عباس، (وليكن خبرك عندي كل يوم).

ثالثاً: إقرار الشورى مع الكفاءات العسكرية في الجيش:

كون الفرقة العسكرية لا تقتصر تركيبتها على قائد عسكري وجنود اعتياديين ـ فضلاً عن داخل الجيش ـ بل هناك رتب عسكرية متفاوتة وفي أوساط هذه الرتب توجد كفاءات قادرة على التخطيط والمشاركة في صياغة القرار العسكري المخوّل بيد القائد العسكري ـ لاعتبارات مختلفة منها الخبرة والتجربة الطويلتين عند أفراد هذه الرتب خلال فترة العمل العسكري، والتي ساعدتهم في الوصول إلى مستوى متقدم في ميدان العمل العسكري.

ولهؤلاء الحق على القائد العسكري أن يشركهم في التفكير والمشاورة فيما يرتبط بمهام القائد العسكري فيوصي الإمام (عليه السلام) عبيد الله بن عباس ويقول له: (وشاور هذين قيس بن سعد وسعيد بن قيس).

رابعاً: اعتماد النوّاب:

يمثل القائد العسكري الرأس من الجسد، لذلك فهو أكثر حساسية وخطورة، وغالباً ما يقوم العدو بشل الجسد العسكري عبر اقتناص الرأس المتمثل في القائد العسكري، وذلك بهدف إثارة البلبلة والتخبط بين أفراد الجيش، ممّا يؤدي إلى شلّ التحرك العسكري وشقّ صفوف الجيش، وبالتالي القضاء على مفعول العمليات التي ينفذها عناصر الجيش كونها غير خاضعة لإشراف ونظر القائد العسكري أو تعرضه للتصفية.

ولذلك جاءت ضرورة تعيين نواب يكونوا على درجة من الكفاءة والخبرة في المجال العسكري للحيلولة دون إصابة الجيش بحالات من التدهور والانهيار في حال غياب القائد العسكري أو تعرضه للتصفية.

وهناك نقطة ضرورية وحساسة هي أن تعيين النواب في داخل الفرقة الواحدة يدفع خطر الانشقاق العسكري والتمرد والذي يسبب إثارة النزاعات والخلافات بين أفراد الفرقة في سبيل الاستئثار بمنصب القيادة... فالإمام (عليه السلام) يوصي ابن عباس: (فإن أصبت فقيس على الناس وأن أصيب قيس فسعد بن قيس على الناس).

وهنا قد يتساءل البعض عن ماهية الدوافع الرئيسية التي أدت بالإمام الحسن (عليه السلام) لأن يبعث في المرحلة الأولى بأكبر فرقة عسكرية وهي فرقة عبيد الله ابن العباس التي يبلغ عددها اثني عشر ألف جندياً والتي تضم أفضل الكفاءات العسكرية في جيش الإمام (عليه السلام) وكان لها دور فاعل وبارز في حرب صفين مع الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في حربه ضد جيش معاوية؟

والجواب على ذلك أن الهدف من وراء إرسال فرقة عبيد الله بن العباس بهذا الحجم والكيفية إنما كان لسببين وهما:

أولاً: إن الإمام الحسن (عليه السلام) أراد أن يظهر جانب القوة في جيشه أمام جيش الشام لذلك كانت فرقة عبيد الله بن العباس هي أقوى فرقة في جيش الإمام (عليه السلام) من حيث الكم والكيف، ومن جهة ثانية، الإمام (عليه السلام) إنما قدم أصحابه وطليعته لإثارة الحماس في نفوس الناس الذين تثاقلوا عن نصرة الإمام (عليه السلام)، وبعث فيهم روح الحماس والشجاعة للخروج مع الإمام (عليه السلام) في حربه ضد معاوية.

ثانياً: إدخال الرعب وإنزال الهزيمة النفسية بالعدو كون أن هذه الفرقة كانت تشكل خطورة بالغة على جيش الشام، حيث كان لها دوراً فاعلاً في إنزال ضربات ساحقة في معركة صفين حتى تكبد معاوية في ليلة الهرير تسعين ألف قتيل والتي اعتبرت أكبر هزيمة عسكرية قبل أن يستخدم معاوية خدعة رفع المصاحف لإيقاف مسلسل هزائمه في هذه المعركة.

لذلك الإمام الحسن (عليه السلام) في هذه الفرقة أراد أن يذكّر جيش الشام بصفين لإضعاف معنويات أفراد العدو.

ثم، وبعد مغادرة أول فرقة عسكرية بقيادة عبيد الله بن العباس والتي نزلت مسكن والأنبار وجواريها، واصل الإمام الحسن (عليه السلام) نداءاته في استنفار الجماهير للتعبئة العسكرية العامة، بينما بعث حجر بن عدي إلى العمال والولاة لكي يأمرهم باستنفار الناس والمسير بهم نحو معسكرات الإمام الحسن (عليه السلام) خارج الكوفة. وتمكن حجر أن يجند مجموعة من الناس للحرب مع الإمام (عليه السلام) ضد معاوية ويذكر الشيخ المفيد (رحمه الله) في الإرشاد أنه (سار معاوية نحو العراق ليقلب عليه ـ أي على الإمام (عليه السلام) ـ فلما بلغ جسر منبح (عشر فراسخ عن حلب) تحرك الحسن (عليه السلام) وبعث حجر بن عدي يأمر العمال بالمسير، واستنفر الناس للجهاد فتثاقلوا عنه ثم خفّوا معه أخلاط من الناس بعضهم شيعة لأبيه، وبعضهم محكمّة يؤثرون قتال معاوية بكل حيلة وبعضهم أصحاب فتن وطمع في الغنائم وبعضهم شكّاك، وبعضهم أصحاب عصبية اتبعوا رؤساء قبائلهم لا يرجعون إلى دين). وهذا المزيج من الناس التي خرجت مع الإمام (عليه السلام) كانت تشكل (2/5) من جيش الإمام (عليه السلام) ـ أي ثمانية آلاف رجلاً ـ وليس كما ذكر بعض الكتّاب المؤرخين على أن كل جيش الإمام الحسن (عليه السلام) تشكل من هذا المزيد ـ وذلك لأن حديث الشيخ المفيد (رحمه الله) يتعلق فقط بالفرق العسكرية التي خرجت مع الإمام الحسن (عليه السلام) بعد مغادرة فرقة عبيد الله بن العباس والتي بعثها بها الإمام (عليه السلام) في أول الأمر.

وهنا يمكن أن نتوقف قليلاً للتعرف على طبيعة الفرق العسكرية التي تحدث عنها الشيخ المفيد (رحمه الله) والتي خرجت مع الإمام الحسن (عليه السلام) وهي كالتالي:

1ـ الطليعة الرسالية:

وهذه تؤمن بحق الإمام الحسن (عليه السلام) المشروع في ولاية المسلمين وتقف إلى جانبه كما وقفت إلى جانب أبيه أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهذه الفئة هي قليلة قياساً بغيرها من الفئات الأخرى في الفرق العسكرية لجيش الإمام الحسن (عليه السلام).

2ـ المحكمّة:

وسُميت بهذا الاسم لأنها قبلت بالتحكيم في حرب صفين وطلبت من الإمام علي (عليه السلام) القبول بذلك، ثم تظاهرت على الإمام علي (عليه السلام) بعدان أكرهته على التحكم. وهذه الفئة تكيد العداوة لمعاوية وتسعى لحربه بأي صورة كانت وتحت أية لواء كان طالما ضد معاوية إلا أن هذه الفئة لا تحمل ولاءً حقيقياً للإمام الحسن (عليه السلام)، وإنما أرادت أن تحارب مع الإمام (عليه السلام) ضد معاوية لأنها وجدت في الإمام (عليه السلام) لواءً يمكنها الانضواء تحته في الحرب ضد عدوها.

3ـ المصلحيّون والمحاربون للمغنم:

وهذه الفئة لا تحمل هدفاً مقدساً أو غرضاً سامياً وإنما تستخدم الحرب كوسيلة لاكتساب المغانم وتحقيق المصالح والرغبات الشخصية. وهذه الفئة لا يمكن أن تدخل صراعاً حقيقياً بل لديها القابلية لانقلاب على الإمام الحسن (عليه السلام) والانحيار إلى جانب معاوية في حالة لو تعرض جيش الإمام (عليه السلام) للانكسار والتقهقر.

4ـ الشكّاكون والمتذبذبون:

هذه الفئة لا تقف على أرض ثابتة وليس لها قدم راسخ فهي كالماشي على رمال متحركة، لا يقر لها قرار، ولا يهدأ لها بال، فقد يطفح كيل الشك بها فتترك الموقع التي هي فيه وتنزح إلى الأعداء وهذه الفرقة من الصعب الاعتماد عليها أو إيلائها الثقة في حال السلم فكيف في حال الحرب التي فيها امتحان الإرادات.

5ـ أتباع الفكر القبلي:

أما هذه الفئة فينحصر ولاؤها لزعماء القبيلة، فهي تتلقّى أوامرها من هؤلاء الزعماء، فتقدم طاعة رؤساء القبيلة وزعاماتها على طاعة الإمام الحسن (عليه السلام)... وعليه فإن هذه الفئة غير قابلة لأن تتبع استراتيجية الإمام (عليه السلام) في حربه مع معاوية إلا بما يمكن زعماء القبيلة عليها.

وهنا يطرح السؤال التالي: إذا كان هذا حال الفرق، إذن لماذا جندهم الإمام الحسن (عليه السلام) في حربه ضد معاوية؟

والجواب على ذلك: لعل هناك سببين رئيسين في ذلك وهما:

أولاً: أراد الإمام (عليه السلام) توجيه كافة الحراب نحو معاوية، ولوجود جبهات معارضة في داخل الكوفة ضد جبهة الشام، لذلك استفاد الإمام (عليه السلام) من حركات المعارضة في الحرب مع معاوية بالرغم من اختلاف أهدافها وتطلعاتها.

ثانياً: لم يكن الإمام يأمن غائلة هذه الفرق خاصة وأن فيها من هي على استعداد تام لشهر السلاح ضد الإمام فيما لو لم يتم استغلالها وتوجيه سهامها نحو عدو آخر لها، من جهة ثانية أن بعض هذه الفئات لديها القابلية للحرب مع معاوية ضد الإمام وإذا لم يستفد منهم الإمام في حربه ضد معاوية، من الممكن أن يغريهم معاوية ويجندهم لصالحه، وفيهم من يركع لبريق المعدن ويسجد لطعم المال والشهوة والمنصب.

1ـ خيانات الجيش:

وبعد أن تحرك الإمام الحسن بالناس ووصل بهم معسكر المدائن بدأ يعدّ الفرق ويجهز الصفوف لخوض الحرب، وفي هذه الأثناء وصلت رسالة مستعجلة من قيس بن سعد إلى الإمام جاء فيها (إنهم نازلوا معاوية بقرية يقال لها الجنوبية بإزاء مسكن، وإن معاوية أرسل إلى عبيد الله بن العباس، يرغبه في المسير إليه، وضمن له ألف ألف درهم يعجل له فيها النصف، ويعطيه النصف الآخر عند دخوله الكوفة، فانسلّ عبيد الله في الليل إلى معسكر معاوية في خاصته...)(13).

كانت هذه الرسالة تشكل الصدمة العنيفة والكبرى التي هزّت القوى المجنّدة في جيش الإمام الحسن (عليه السلام) وهذه الصدمة حدثت بعد أن بث معاوية شائعة في أوساط جيش الإمام المرابط في الأنبار ومسكن، في رسالة بعثها معاوية إلى عبيد الله بن العباس قال فيها: (إن الحــــسن قــــد أرسلني في الصلح، وهــــو مسلّم الأمر إليّ فـــإن دخلت في طاعتي متــــبوعاً، وإلا دخلت وأنت تابع)(14).

ولقد قدم معاوية في رسالته الإغراءات المادية إلى عبيد الله بن العباس التي هي عبارة عن مائة ألف ديناراً يستلم نصفها حال وصوله إليه، والنصف الآخر في الكوفة بعد أن يدخلها معاوية للسيطرة على السلطة هذا إضافة إلى أن معاوية أخبر عبيد الله بأنه سيمنحه أحد كور الشام. وحينما وصلت هذه الرسالة من معاوية إلى عبيد الله بن العباس، جلس الأخير ينظر في ترغيبات معاوية، وراح يهيم بفكره المسند بشيطان الهوى إلى ما سيناله من أموال وقطائع وغاب عن ذهنه الهدف المقدس الذي جاء من أجله لمحاربة معاوية، فلم يخطر بباله عاقبة السوء التي تنتظره فآثر حب الذات والشهوات على هدفه الكبير.

وفي منتصف الليل سار عبيد الله على رأس ثمانية آلاف رجل، متخفياً صوب جبهة معاوية، فسلّم نفسه إليه مؤثراً إلحاد معاوية على إيمان إمامه الحسن (عليه السلام).

يقول اليعقوبي: (أنه ـ أي معاوية ـ أرسل عبيد الله بن عباس، وجعل له ألف ألف درهم، فصار إليه في ثمانية آلاف من أصحابه، وأقام قيس بن سعد على محاربته)(15).

... تسلم قيس بن سعد قيادة الجيش في الأنبار ومسكن، فصلى بالناس ثم خطب فيها خطبة أراد فيها استعادة معنويات الجيش المنهارة، وتسوية ما جرى من شكوك وظنون في داخل أفراد الفرقة، من هول الفتق الذي سببه عبيد الله في الجيش. فقال قيس في خطبته: (أيها الناس: لا يهولنكم ولا يعظمن عليكم ما صنع هذا الرجل المولّه، إن هذا وأباه وأخاه لم يأتوا بيوم خير قط، إن أباه عم رسول الله خرج يقاتله ببدر فأسره أبو اليسر كعب بن عمرو الأنصاري فأتى به رسول الله فأخذ فداءه فقسمه بين المسلمين وإن أخاه ولاّه علي (عليه السلام) البصرة (البصرة) فسرق ماله ومال المسلمين، فاشترى به الجواري وزعم أن ذلك له حلال وأن هذا ولاّه على اليمن فهرب من بسر بن أرطأة وترك ولده حتى قتلوا وصنع الآن هذا الذي صنع).

وبعد أن وصل خبر عبيد الله بن العباس إلى الإمام الحسن (عليه السلام)، عمد بعدها الإمام (عليه السلام) إلى تعبئة الفراغ الذي خلّفه عبيد الله في جبهة الأنبار فوجه رجلاً آخر من كندة على رأس أربعة آلاف مقاتل وطلب منه الإمام (عليه السلام) أن لا يحدث شيئاً حتى تأتيه الأوامر من الإمام (عليه السلام).

ثم سار هذا الرجل مع فرقته متوجهاً نحو الأنبار، فنزل بها يستعد لتنفيذ أوامر الإمام (عليه السلام)، ووصل خبره إلى معاوية يفيد بوصول فرقة عسكرية جديدة إلى الأنبار، فأرسل معاوية رسالة إغراء مماثلة إلى قائد هذه الفرقة وقال له فيها (إنك أن أقبلت إليّ أوّلتك بعض كور الشام والجزيرة غير منفّس عليك).

كما أرفق معاوية مع رسالته هذه خمسمائة ألف درهم، فلما وصلت الرسالة إلى الكندي هاجت نفسه للقبول بإغراءات معاوية، والخضوع لترغيباته، فانسلّ ومائتا رجل باتجاه معسكر الشام، فترك فرقته دونما قيادة.

وعلم الإمام الحسن (عليه السلام) بخبر الكندي فقام وخطب في الناس وقال: (هذا الكندي توجه إلى معاوية وغدر بي وبكم وقد أخبرتكم مرة بعد مرة أنه لا وفاء لكم، أنتم عبيد الدنيا، وأنا موجه رجلاً آخر مكانه وإني أعلم أنه سيفعل بي ما فعل صاحبه ولا يراقب الله فيّ ولا فيكم).

ثم طلب الإمام (عليه السلام) رجلاً من مراد فسلّمه زمام القيادة العسكرية وأمدّه(16) بأربعة آلاف رجل، وقبل أن يغادر المرادي المدائن، جاء إلى الإمام (عليه السلام) أمام جموع الناس وعلى مرأى ومسمع منهم وحلف بالإيمان المغلظة التي لا تقوم لها الجبال بأنه لن يفعل ما فعله من كان قبله من القادة العسكريين.

وسار المرادي مع كتيبته إلى الأنبار، فلمّا وصل، جاء خبره إلى معاوية فعاود الأخير الكرّة ثالثة وأرسل إلى المرادي يغريه ويرغبه في المسير إليه وأرفق بالرسالة خمسة آلاف درهم كما وعده إحدى كور الشام والجزيرة، ولما وصلت الرسالة إلى المرادي مالت به ريح الشهوات إلى معاوية، فسلك الطريق إليه تاركاً وراءه العهود والمواثيق والأيمان التي اقتطعها على نفسه للإمام الحسن (عليه السلام). ولما بلغ الخبر الإمام (عليه السلام) جاء إلى الناس وقال: (قد أخبرتكم مرة بعد أخرى أنكم لا تفون لله بعهد وهذا صاحبكم المرادي غدر بي وبكم وصار إلى معاوية).

وأخيراً فما صمدت من الثلاثة فرق العسكرية التي بعث بها الإمام الحسن (عليه السلام) إلى جبهات القتال سوى المجموعة المتبقية من فرقة عبيد الله بن العباس والتي يبلغ عددها أربعة آلاف رجل وقد تسلم قيس بن سعد قيادة هذه البقية من الفرقة تلك.

2ـ مخطط اغتيال الإمام الحسن (عليه السلام)

أ- المحاولة الأولى: بينما كان الإمام (عليه السلام) يستحث الناس للنهوض والانخراط في صفوف الجيش لحرب معاوية، كان الأخير ـ حينئذ ـ يغرق الكوفة من رسائله إلى رؤساء العشائر وزعماء القبائل من أمثال عمرو بن حريث، والأشعث بن قيس، والحجر بن الحجر، وشبث بن ربعي... وكانت هذه الرسائل تحتوي على فكرة مشتركة واحدة وهي: (إنك إن قتلت الحسن بن علي فلك مائتا ألف درهم وجند من أجناد الشام وبنت من بناتي).

وحينما كشف الإمام الحسن (عليه السلام) عن مؤامرة معاوية هذه، ارتدى درعاً واقياً فلا يتقدم الإمام (عليه السلام) للصلاة دونه، فيما كانت المجموعة ترسم مخطط الاغتيال ضد الإمام (عليه السلام) وقد اختارت هذه المجموعة موعد تنفيذ المخطط العدواني في وقت يكون فيه الإمام (عليه السلام) متلبساً، بالصلاة، فتحرك أحد أفراد المجموعة في الوقت المحدد لتنفيذ عملية الاغتيال، وبينما كان الإمام الحسن (عليه السلام) يصلي في مسجد الكوفة، قام ذلك المجرم بتسديد سهم في كبد قوسه، ثم أطلقه نحو الإمام (عليه السلام) فوقع السهم في منطقة الدرع الذي كان يلبسه الإمام (عليه السلام) فحال ذلك دون نجاح مخطط الاغتيال وبالتالي فشلت مؤامرة معاوية.

ثم قام الإمام الحسن (عليه السلام) بعد أن انتهى من صلاته خاطباً في الناس ومحذراً أقطاب المؤامرة وبعض الفئات المتعاطفة مع معاوية فقال: (يا قوم ويلكم والله أن معاوية لا يفي لأحد منكم بما ضمنه في قتلي وإني إن وضعت يدي في يده فأسالمه لم يتركني أدين بدين جدي وإني أقدر أن أعبد الله عز وجل وحدي ولكن كأني أنظر إلى أبنائكم واقفين على أبواب أبنائهم يستسقــــونهم ويستطعــمونهم ممّا جعل الله لهم فلا يسقــــون ولا يطعــــمون فبعــــداً وسحقاً لما كسبته أيديهم (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)(17).

وكشف الإمام (عليه السلام) في خطبته هذه النقاب عن الجهة التي كانت وراء تنفيذ محاولة الاغتيال، حينما ذكر الإمام (عليه السلام) السبب الرئيسي وراء إقدام هذه الجهة على عملية عدوانية تسعى منها إلى تحقيق بعض المصالح والمطامع المادية التي وعدهم بها معاوية.

ثم انه (عليه السلام) حذر من مغبة النتائج التي تعقب تنفيذ مثل هذه المؤامرة الخبيثة، ومنها سيطرة معاوية على الحكم وإقراره نهجاً سياسياً فاسداً في إدارة الدولة الإسلامية، خاصة وأن هذه السيطرة ستقوم على غير شرعية الجماهير وارادتها، وأنّ الهدف الرئيسي من إقدام مرتزقة زعماء القبائل على تنفيذ عملية الاغتيال ضد الإمام الحسن (عليه السلام) إنما هو ضرب الشرعية الجماهيرية المتمثلة في قيادة الإمام الحسن (عليه السلام) وبذلك فرض نظام قمعي وإرهابي غير مستند على تأييد ودعم الجماهير.

وفي الواقع أن هذا يتم في حال غياب الوعي السياسي في الأمة، واسترسال الجماهير في البحث عن وسائل الرفاه والراحة واستسلامها للضغوطات وانتشار حالة التململ من الجهاد والمقاومة، هذه وغيرها من الأسباب حالت دون وقوف أبناء المجتمع في الكوفة والبصرة وغيرها، إلى جانب الإمام الحسن (عليه السلام).

هذا في وقت أن الإمام (عليه السلام) يستصرخ ضمائر الناس، ويكشف لهم عن الطبخات الأموية ومؤامرات معاوية في سبيل كرسي الحكم والتسلط على رقاب الشعب بالقوة والإكراه غير أن المشكلة الأم هي حينما تسكت الأمة عن حقوقها، وتطالب بالسلم وإن كان فيه الذلة لها وتهرب من الجهاد والمقاومة وإن كان فيه عزّتها وكرامتها.

إن مثل هذه الأمة تكون عرضة لألوان الهيمنة والتبعية، وبذلك تكون بمثابة الساحة المكشوفة التي تنفذ فيها المؤامرات في وضح النهار، وتمر في أرضها عربة المخططات السياسية، دونما اكتراث لصوت المعارضة، أو تأثير لصرخة الضمير الحر، فيقتل القادة، وتُباد الطليعة أو تُعتقل، ويُفرض الإرهاب في كل مكان...

فحينما يخيّم التقاعس في الأمة، ويضرب الملل أطنابه فيها فإنّ ذلك يعني تسليم مفاتيح الدولة للقوى المناوئة الداخلية والخارجية والسماح لها في التغلغل إلى داخل المجتمع والسيطرة على ممتلكاته وخيراته... وهذا إنما يتم حينما تنطفئ شمعة اليقظة، وتخبو روح المسؤولية عند أبناء هذه الأمة.

كما أن انكفاء الجماهير عن محاربة القوى المعادية والمتآمرة يعني ذلك إطلاق اليد لتلك القوى لتنفيذ سلسلة من المؤامرات المتلاحقة والشديدة الخطورة التي تهدد وجود الدولة واستقلالها.

ولذلك لمّا تنصلت الجماهيري عن المسؤولية الشرعية في دعم وتأييد ومناصرة الإمام الحسن (عليه السلام) كانت النتيجة الطبيعية والأتوماتيكية هي أن تتحول هذه الجماهير إلى لقمة سائغة للمخططات السياسية التي ينفذها العدو ضدها، بل قد يدفع هذا العدو جماهير الأمة في أن تشارك في تنفيذ مخططه ضد نفس هذه الجماهير.

وعلى العكس تماماً فيما لو استنهضت الجماهير قواها، وقدراتها وطاقاتها الذاتية وانتزعت المبادرة من إشغال العدو، فإنها حينئذ تكون قد ساهمت في صد الهجمات العدوانية، وتمكنت بذلك من تحصين حدودها من الغزو الخارجي، وضمان استقلالها.

وهنا نشير إلى مسألة هامة وهي أن البعض من الناس يعتقد بأن بث الوعي كفيل بتغيير الأوضاع السائدة في الأمة. غير أن عملية التغيير لا يمكن أن تتم إذا لم تساندها إرادة التغيير، فوجود حالة الوعي في الأمة لا تعني بحد ذاتها تغييراً حقيقياً في واقع الأمة حتى تنقدح هذه الحالة في صورة إرادة تغييرية عند الجماهير تسعى عبرها في تحريك الساحة الجماهيرية للثورة على الواقع الفاسد.

ب. المحاولة الثانية: أجرى الإمام الحسن (عليه السلام) ثلاث محاولات لاستعادة قوة الجيش، بعد ظهور الخيانات من قبل القادة العسكريين، بحيث تسلم بعدها الإمام (عليه السلام) قيادة الجيش فاجتمع الناس من حوله وقالوا: إن خانك الرجلان وغدرا بك فإنا مناصحون لك.

فقال الإمام (عليه السلام) لهم: لأعودن هذه المرة فيما بيني وبينكم وإني لأعلم أنكم غادرون ما بيني وبينكم، إنّ معسكري بالنخيلة فوافوني هناك والله لا تفون لي بعهدي ولتنقضن الميثاق بيني وبينكم)(18).

وبعد أن اتخذ الإمام (عليه السلام) قرار قيادة الجيش، تحرك نحو النخيلة وكان معه أربعة آلاف رجل، وحينما وصل الإمام (عليه السلام) إلى دار بكر نزل في ساباط ـ دون القنطرة ـ وهي إحدى قرى منطقة المدائن فبات الإمام (عليه السلام) مع جيشه في هذه القرية.

وفي صباح الغد وقرب موعد المسير إلى النخيلة، أراد الإمام الحسن أن يمتحن إرادة الجيش وأن يستبرئ ذمم الجيش وطاعتهم للإمام (عليه السلام) بهدف فرز الموالين من الخائنين ويكون على بصيرة من لقاء معاوية وأهل الشام، فأمر (عليه السلام) أن ينادي بالصلاة جامعة، فاجتمعوا، فصعد المنبر فخطبهم فقال: (الحمد لله كلّما حمده حامد،وأشهد أن لا إله إلا الله كلّما شهد له شاهد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق وائتمنه على الوحي (عليه السلام)، أما بعد:فوالله إني لأرجو أن أكون قد أصبحت بحمد الله ومنّه وأنا أنصح خلق الله لخلقه وما أصبحت محتملاً على مسلم ضغينة ولا مريداً له سوءاً ولا غائلة إلا وإن ما تكرهون في الجماعة خير لكم ممّا تحبون في الفرقة، إلا وإني ناظر لكم خيراً من نظركم لأنفسكم فلا تخالفوا أمري ولا تردوا عليّ رأيي، غفر الله لي ولكم، وأرشدني وإياكم لما فيه المحبة والرضا)(19).

ومن الواضح في هذه الخطبة أن الإمام (عليه السلام) إنما أراد استيضاح طاعة الجيش للإمام (عليه السلام) خاصة وأن الخيانات التي ارتكبتها قيادات الجيش في السابق تركت أثراً بالغاً وأعطت انطباعاً سيئاً عند أفراد الجيش، هذا بالإضافة إلى أن حبل الولاء بين الجندي والقائد أصبح شبه مقطوع.

وأن الإمام الحسن (عليه السلام) الذي عاش تجربة مريرة مع مختلف فصائل الجيش فوجد أن طاعة الجنود لقياداتها في الباطل ـ أكبر ممّا هي عليه بالنسبة للحق ـ كيف وقد انسل قطاع كبير من الجيش مع القادة العسكريين إلى جبهة العدو، فكان من الضروري غربلة النوايا فيما يرتبط بالحرب فبعد أن انتهى الإمام (عليه السلام) من خطبته، أخذ ينتظر ردود فعل الجيش فنظر الناس بعضهم إلى بعض وقالوا ما ترونه يريد بما قاله؟ قالوا:نظنه والله أن يصالح معاوية ويسلم الأمر إليه فقالوا: (كفر والله الرجل)، فهجموا على الإمام (عليه السلام) وانتهبوا متاعه وفسطاسه ثم كمن له رجل خارجي يدعى (الجراح ابن السنان) في الساباط ليقوم بتنفيذ عملية الاغتيال فعندما مرّ الإمام (عليه السلام) على الساباط، صرخ الخارجي قائلاً: (الله اكبر أشركت كما أشرك أبوك من قبل) ثم طعن الإمام (عليه السلام) برمح في فخذه حتى وصل العظم.

فسقط الإمام (عليه السلام) إلى الأرض وقد نزف دمه الشريف من فخذه ثم قال (عليه السلام): (عليكم لعنة الله من أهل قرية، فقد علمت أن لا خير فيكم، قتلتم أبي بالأمس واليوم تفعلون بي هذا)(20). فحمل الإمام الحسن (عليه السلام) إلى المدائن حيث دار سعد ابن مسعود الثقفي (والي المدائن) منذ عهد الإمام علي (عليه السلام) لتلقي العلاج هناك.

أما عن الجيش فأقل ما يمكن أن يقال عنه أنه لا يصلح لأن يخوض حرباً، ما دام يفتقر إلى العصب الرئيسي في تحركه وهو طاعة القيادة والالتزام بأوامرها، خاصة وأن هذا الجيش ـ كما عرفنا ـ لم يقترب بعد من خط النار ومن جبهة المواجهة فلم تشتبك بعد السيوف والأسنة والتي فيها صراع خبايا وخفايا الجنود وامتحان الإرادات وإظهار المعدن والجوهر.

وإن جيشاً مثل هذا لا يعلن ولاءه الكامل لقيادته، بل ويحاول اغتيالها فمن الصعب الحديث عن مقومات القدرة العسكرية عند الجيش، في ظل غياب المحور الأساسي ودينامو قدرات الجيش وامكانياته وهي طاعة القيادة، والتي بدونها تعني التخبط والفوضى والعشوائية... الخ، وبالتالي نزول الهزيمة بساحة المسلمين...

في حين نجد أن الإمام الحسن (عليه السلام) حينما يتحدث عن الجسم العسكري يركز على وحدة الصف والمصير ومحورها طاعة القيادة ففي خطبة للإمام (عليه السلام) ألقاها في الناس وهو يستحثهم لقتال معاوية قال (عليه السلام): (الحمد لله لا إله غيره، ولا شريك له...، إن ممّا عظم الله عليكم من حقه، وأسبغ عليكم من نعمه ما لا يحصى ذكره، ولا يؤدي شكره ولا يبلغه قول ولا صفة، ونحن إنما غضبنا لله ولكم، إنه لم يجتمع قوم قط على أمر واحد إلا اشتد أمرهم، واستحكمت عقدتهم فاحتشدوا في قتل عدوكم معاوية وجنوده، ولا تخاذلوا فإن الخذلان يقطع نياط القلوب، وإن الإقدام على الأسنة نخوة وعصمة، لم يمتنع قوم قط إلا رفع الله عنهم العلّة وكفاهم حوائج الذلّة، وهداهم معالم الملّة).

وفي هذه الخطبة الرائعة يؤكد الإمام (عليه السلام) على مسألة خطيرة وحساسة في داخل الجيش وهي اتفاق أفراد الجيش على هدف واحد ومصير واحد، واعتبر الإمام (عليه السلام) ذلك قطب الرحى في حركة الجيش بشتّى أنواعها وألوانها، ويشير الإمام (عليه السلام) إلى فائدتين عظيمتين من وراء وحدة الهدف والمصير في داخل الجيش وهما:

الأولى: تصليب الإرادة وتقوية الجسم العسكري، إضافة إلى بعث روح الجدّيّة والنشاط والتضحية في المواجهة وإنزال الضربات الساحقة في عمق مناطق حشود وتجمعات العدو، يقول الإمام (عليه السلام): (إلا واشتد أمرهم).

الثانية: توحيد صفوف الجيش للحيلولة دون عمليات الاختراق أو التسلل قد يقوم بها العدو في داخل فصائل الجيش، أو إثارة الفتن والخلافات في أوساط الجيش غير أن هذه المؤامرات تزول وتختفي في حال توحيد الصفوف التي تعكسها وحدة الهدف والمصير وطاعة القيادة في الجيش.

وهذا ما كان ينقص جيش الإمام الحسن (عليه السلام) بشكل واضح، بحيث كانت ثغرات الاختراق في الجيش واسعة ومتعددة، والتي يرجع إلى تعدد الأهداف، واختلاف القيادات وتباين المصالح عند كل فرقة هذا إضافة إلى عدد جيش الإمام (عليه السلام) القليل كمّاً ونوعاً، مقارنة بالحشود الهائلة التي تقاطرت من كل المناطق الواقعة تحت سيطرة معاوية لحرب الإمام الحسن (عليه السلام) والدولة الإسلامية.

3ـ رسائل عملاء الكوفة إلى معاوية:

جاء الإمام الحسن (عليه السلام) مع جيشه إلى معسكر النخيلة بفترة قصيرة، بعد أن أخبر الناس عن موقعه لمن شاء أن يلتــــحق به، فراح قطاعٌ من أهل الكــــوفة يبعـــثون الرســـائل إلى معاوية يخبروه فيها (بأنا معك وإن شئت أخذنا الحسن أسيراً وبعثناه إليك)(21).

وهكذا فعل الزعماء ورؤساء القبائل في الكوفة من أمثال عمرو بن سعد بن أبي وقاص، وحجر بن عمرو، وعمرو بن حريث، وأبو موسى الأشعري، وعمارة ابن الوليد بن عقبة، وعبد الله بن وهب الراسي، وشبث بن ربعي، والأشعث بن قيس... وغيرهم، وهؤلاء جميعاً كانوا قد بايعوا الإمام الحسن (عليه السلام) في أول الأمر، قبل أن تتم المواجهة مع معاوية على السمع والطاعة.

وقد كتب هؤلاء رسائل عديدة يطلبوا فيها من معاوية بالتحرك والمسير إلى الكوفة كما وأعلنوا له عن استعدادهم التام للوقوف بجانبه ضد الإمام الحسن (عليه السلام) ووعدوا بتسليم الإمام (عليه السلام) له عند وصول معاوية إلى الكوفة.

وبقي الإمام الحسن (عليه السلام) عشرة أيام ينتظر قدوم الناس للانضمام إلى جيشه لمحاربة جيش الشام، ولكن لم يحدث ذلك، بل تكثفت حجم المؤامرة ضد الإمام (عليه السلام) وتوسعت رقعة التواطؤ الداخلي مع جبهة الشام..

فالمؤامرة إذن في غاية الخطورة فبالأمس خيانات في الجيش، ثم محاولة اغتيال الإمام القائد (عليه السلام) والتي هذه كشفت عن شبكة عملية تضرب جذورها في أعماق المجتمع الكوفي وتتلقى توجيهات من الخارج وتنفذ مخططاته في داخل الدولة الإسلامية، واليوم تتسع هذه الشبكة لتطال قطاع كبير من أبناء الأمة، حتى دخل هذا القطاع في تشكيلة جيش الإمام (عليه السلام)، وإذا بسيل من الرسائل تصل إلى معاوية وتطالبه في الدخول إلى الكوفة والسيطرة على الحكم.

4ـ مطالبة الجماهير بالحل السلمي وممارسة الضغوطات على الإمام (عليه السلام):

إن من أخطر الآفات التي تفتك بأي أمة من الأمم وتشل حركتها وتقدمها وتفقدها الاستقلالية هي أن تصاب بأحد هذين المرضين وهما:

أولاً: في حال أن يغزو التعب والتململ مراكز القيادة والتوجيه في الأمة، فتقوم هذه المراكز بممارسة مختلف الوسائل والطرق بهدف منع الجماهير عن التحرك والتقدم، بحيث تعمد قيادات الأمة إلى استخدام مواقعها في توجيه الناس نحو التقاعس والتكاسل من خلال بث الأنماط الثقافية الانهزامية كالاهتمام بالقشور والظواهر من الدين، ومطالبة الناس بالابتعاد عن المواضيع الضرورية والحساسة في حياة المجتمع بأكمله، كإغفال الجهاد والأمر بالمعروف وعليه فإنّ دور هذه القيادات ينحصر في إقعاد وتخدير الجماهير عن التحرك، وهكذا تجبين فئات المجتمع عن النهوض والثورة فعوضاً من أن تقوم هذه القيادات بدفع القاعدة الجماهيرية نحو الثورة والمقاومة تبدأ هذه القيادات تفكر بالحلول السلمية، واعتماد الصيغ الدبلوماسية في معالجة القضايا المصيرية.. وبذلك تصاب حركة الأمة بالشلل، فتفقد استقلاليتها. وتموت كرامتها وتندثر طاقاتها.

وكل ذلك بسبب اعتماد القيادات ومراكز التوجيه منهجية عقيمة في التعامل مع قضايا المجتمع.

ثانياً: أن تصاب الأمة نفسها بالتعب والتململ والاستسلام للدعة والتقاعس وحب الراحة فلا تستجيب لنداءات قياداتها، ولا تعبأ بمطالبها، فتغزوها الجيوش من كل جانب ويهيمن عليها أشرار الأمة، فتبقى كالأسيرة لا ترد مظلمة ولا تتصدى لهجمة، وذلك لأنها لم تسند القيادات الشرعية الحقيقية في الأمة ولم تؤثر طاعتهم على مصالحها وأهواءها وشهواتها.

وهنا المشكلة أنه حينما تؤثر الأمة السلم مع الذل، على الحرب مع العز، فإن مصير هذه الأمة يؤول نحو الهاوية والدمار الشامل. وكما يقول الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (أما بعد، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة، فتحه الله لخاصة أوليائه، وهو لباس التقوى ودرع الله الحصينة وجنته الوثيقة، فمن تركه رغبه عنه ألبسه الله ثوب الذلّ وشمله البلاء وديّث بالصّغار والقماءة أو ضرب على قلبه بالإسهاب وأديل الحق منه بتضييع الجهاد، وسيم الخسف ومنع النصف)(22).

وليس ثمة شك في أن الإمام الحسن (عليه السلام) عاش بين مجتمع يهوى الراحة ويبحث عن الدعة يكره الحرب وحر السيف، ويتثاقل عن الجهاد في سبيل الله، ويخاف من زمجرة الجيوش ونقع العاديات..، ولذلك كان يعيش الإمام الحسن (عليه السلام) كالغريب في مثل هذا المجتمع، كما كان أبوه أمير المؤمنين (عليه السلام) من قبل، فهو أيضاً كان قد استصرخ ضمائر الناس لأن يهبوا الدفاع عن حريم الإسلام وحرمات المسلمين، فإذا بالقوم جامدون كأنما على رؤوسهم الطير، يخافون أن يتخطفهم الموت... فتسرق الأموال وتهتك الحرمات، ويذبح الرجال والنساء والأطفال وكأنما خليت الديار من أصحابها أو غشي أهلها الظلام حتى لا تكاد تبصر ما يري في ساحتها!!

وطبيعي أن يكون مصير كل أمة تفضل الراحة على الحركة وتميل إلى التقاعس والتخلي عن النهضة والانتفاض والهروب من الواجب المقدس رغبة أو رهبة، فإن أولى مصائبها الذلة والهوان وقد مارس المجتمع في عهد الإمام الحسن (عليه السلام) الحالات تلك بحذافيرها، حتى ظهرت فيه معالم المجتمع المهزوم الناكص، وسيطرت عليه حالة التوافق الاجتماعي باتجاه الاستسلام والتثاقل والتهرب من كل ما من شانه أن يقود إلى الحرب أو يمت إليها بصلة...

ولذلك أقفل الإمام الحسن (عليه السلام) راجعاً إلى الكوفة بعد أن مكث طويلاً في انتظار قدوم جموع من أهل الكوفة، وحينما بلغ اليأس حدّه عاد الإمام (عليه السلام) من معسكر النخيلة ودخل المسجد في الكوفة ثم خطب في الناس قائلاً: (أما والله ما ثنانا عن قتال أهل الشام ذلةٌ ولا قلة، ولكن كنّا نقاتلهم بالسلامة والصبر، فشيت السلامة بالعداوة، والصبر بالجزع، وكنتم في مسيركم إلى صفين ودينكم أمام دنياكم، وقد أصبحتم اليوم ودنياكم أمام دينكم، وكنا لكم، وكنتم لنا، وقد صرتم اليوم علينا، ثم أصبحتم تصدّون قتيلين، قتيلاً بصفين تبكون عليه، وقتيلاً بالنهروان تطلبون بثأره فأما الباكي فخاذل وأما الطالب فثائر، وإن معاوية قد دعا إلى أمر ليس فيه عز ولا نصفة، فإن أردتم الحياة قبلنا منه وأغضينا على القذى، وإن أردتم الموت بذلناه في ذات الله، وحاكمناه إلى الله بظبا السيوف).

فنادى القوم بأجمعهم: بل التقية والحياة، أو قيل فناداه الناس من كل جانب: البقية البقية وأمضي الصلح)(23).

فقال الإمام (عليه السلام): (يا عجباً من قوم لا حياء لهم ولا دين، ولو سلمت الأمر فأيم الله لا ترون فرجاً أبداً مع بني أمية، والله ليسومونكم سوء العذاب حتى تتمنوا أنّ عليكم جيشاً ولو وجدت أعواناً ما سلمت له الأمر، لأنّه محرّم على بني أمية فأف وترحاً يا عبيد الدنيا)(24).

ثم كشف الإمام (عليه السلام) في حديث عن طبيعة المجتمع وموقفه خلال فترة التحول السياسي والاستراتيجي بعد حرب صفين وحتى عهد الإمام الحسن (عليه السلام) يقول الإمام (عليه السلام): (خالفتم أبي حتى حكم وهو كاره، ثم دعاكم إلى قتال أهل الشام بعد التحكيم فأبيتم حتى صار إلى كرامة الله، ثمّ بايعتموني على أن تسالموا من يسالمني وتحاربوا من حاربني وقد أتاني أن أهل الشرف منكم قد أتوا معاوية وبايعوه، فحسبي منكم لا تغروني من ديني ونفسي. يا أهل العراق: إنما سخي عنكم بنفسي ثلاث: قتلكم أبي وطعنكم إياي، وانتهابكم متاعي)(25).

وبطبيعة الحال إن الوضع العام كان في غاية الخطورة كون المناخ الاجتماعي ظلّ متردياً للغاية... فالجماهير التي كانت من المفترض أن تصبح رأس مال يستثمر في الضغط على العدو ودرء مؤامراته وأخطاره ـ تتحول هذه الجماهير ـ إلى عامل خسارة، وعنصر ضعف، ومؤشر انهيار في حساب القوة الإسلامية.. فيكون القرار قرار العدو، وتكون الإرادة الحاكمة هي إرادة المستعمر، وبالتالي يكون الحكم هو حكم الغريب والمحتل!!

من هذا المنطلق نجد أن مثل هذه الأمة لا تنفع لقائد كالإمام الحسن (عليه السلام) والذي لم يوفر لنفسه جهداً أو طريقاً لاستنهاض الهمم وبعث الحميات في جماهير هذه الأمة إلا وبذلها، ولكن حقيقة الأمر هي أنه (لا رأي لمن لا يطاع)، فماذا يمكن أن يقوم به الإمام (عليه السلام) لجماهير تصر على العمل خلاف مصلحتها، وتسري في ركب سياسة ليست تابعة لقافلتها، وتتمسك بعرى قرارات صادرة عن غير قيادتها.. ولذلك فهي الأمة وحدها التي خسرت وستدفع ضريبة موقفها المسالم هذا قسطين من العذاب، أوله العار والذل، وثانية ظلم الحاكم المستبد.

ولقد أخبرهم الإمام الحسن (عليه السلام) عن ذلك من قبل حين قال لهم: (عزرتموني كما عزرتم من كان قبلي، مع أيّ إمام تقاتلون بعدي، مع الكافر الظالم الذي لا يؤمن بالله ولا برسوله قط، ولا أظهر الإسلام هو وبنو أمية إلا فرقاً من السيف؟ ولو لم يبق لبني أمية إلا عجوز درداء لبغت دين الله عوجاً، وهكذا قال رسول الله)(26).

وبالرغم من أن الإمام (عليه السلام) في كلمته هذه وغيرها من الخطب والأحاديث يؤكد مراراً وتكراراً على حقه المشروع في قيادة الأمة، كما يكشف عن طبيعة البيت الأموي وما يدور في داخله من أطماع توسعية ومخططات للسيطرة والتسلط، إلا أن جماهير الكوفة عميت أبصارها عن معاينة الحق، بعد أن ربضت في أذهانها فكرة الاستسلام والركوع والانحناء للمستعمر الأموي.. وكيف يحصل على العزّ من له قابلية الذلّ؟ وهل تسرق كرامة من كان هو الحارس عليها؟ أم هل تنتزع إرادة من كان هو الكافل أمرها؟.. ولكن المجتمع الكوفي خرج من ذلك كله، فألقى بكلّه في حضن معاوية، ولذلك عاش ذليلاً وبقي مهاناً وظل مسلوب الإرادة، تماماً كالجسد الذي فقد المناعة التامة فلا هو قادر على الحفاظ على توازنه ولا هو قادر على توازنه ولا هو قادر على تنمية نفسه أو درء أخطار الهجومات الموجهة إليه من الخارج.

أما الإمام الحسن (عليه السلام) فقد وجد بعد أن انكفأت الأمة عن نصرته، أن يصبّ اهتمامه على كيفية الحفاظ على بيضة الإسلام وهكذا حفظ الصفوة والبقية الباقية من أبناء الرسالة لضمان استمرارية الخط الرسالي وتفاعله في أوساط الأمة وعبر الأجيال لتبقى شعلة الإسلام متقدة وبالتالي الاطمئنان على ديمومة الدين في مراحل حياة المجتمع المختلفة.

وقد اجتمعت تلك الأسباب والتي مر الحديث عنها فكانت بمثابة عوامل الضغط التي دفعت بالإمام الحسن (عليه السلام) للوقوف أمام الخيار الصعب والذي اختاره مرغماً وهو خيار الصلح، ليكون المخطط الاستراتيجي بعد (الصلح) ينحى باتجاه الإبقاء على نواة الرسالة والإعداد للمرحلة القادمة.

 

1 - تاريخ اليعقوبي، ج2، ص190، ابن الأثير ج3، ص16، ومقاتل الطالبين.

2 - سورة الشورى: 23.

3 - سورة الشورى: 23.

4 - يرجع فيما ذكرناه هنا إلى شرح النهج لابن أبي الحديد، ج4، ص11 وذكر غيره مكان عبيد الله أخاه عبد الله. وسنشير فيما بعد إلى أن عبد الله لم يكن في الكوفة أيام بيعة الحسن (عليه السلام).

5 - روى هذه الخطبة هشام بن حسان. وقال: إنها بعض خطبته بعد البيعة له بالأمر، البحار، ج10، ص99 والمسعودي.

6 - وروى هذا النص أكثر المؤرخين.

7 - شرح النهج لابن أبي الحديد: ج4، ص11.

8 - كلمة الإمام الحسن (عليه السلام) السيد حسن الشيرازي: ص108، 110.

9 - شرح النهج لابن أبي الحديد: ج4، ص12.

10 - شرح النهج لابن أبي الحديد: ج4، ص13.

11 - أعيان الشيعة، السيد محسن الأمين، المجلد الأول.

12 - سورة آل عمران: 44.

13 - الإرشاد، الشيخ المفيد، ص7.

14 - شرح ابن أبي الحديد: ج6، ص42.

15 - تاريخ اليعقوبي: ج2، ص191.

16 - مقاتل الطالبين: ص35.

17 - معالي السبطين للحائري: ص21.

18 - بحار الأنوار، ج44.

19 - أعيان الشيعة: ج1، ص35.

20 - الروائع المختارة من خطب الإمام الحسن (عليه السلام): ص59.

21 - معالي السبطين للحائري.

22 - نهج البلاغة، د. صبحي الصالح: ص69.

23 - الكامل في التاريخ، لابن الأثير: ج3، ص204.

24 - بحار الأنوار، الشيخ المجلسي، ج44.

25 - كلمة الإمام الحسن (عليه السلام)، السيد حسن الشيرازي: ص94.

26 - كلمة الإمام الحسن (عليه السلام)، السيد حسن الشيرازي: ص94.