الفصل الرابع |
اتفاقية الهدنة.. الشروط والنتائج: لم يكن الإمام الحسن (عليه السلام) في خيار سوى ترجيح كفة الحل السلمي لمشكلة الأمة، خاصة بعد أن تزاحمت عوامل الضغط الداخلية والخارجية، والتي اضطر الإمام (عليه السلام) للقبول باتفاقية الهدنة (الصلح) بينه وبين معاوية، والتي جاءت بعد محاولات عديدة وجادة أجراها الإمام (عليه السلام) مع جماهير الأمة للوقوف بوجه الهجمة الأموية قبل الوصول إلى هذه المرحلة. وبعد أن شعر الإمام (عليه السلام) بخطورة موقف الأمة على مسيرة الحركة الرسالية، وجد (عليه السلام) أن السبيل الوحيد في الحفاظ على أبناء الحركة الرسالية هو في توقيع اتفاقية هدنة مع معاوية، وبهذه الاتفاقية يستطيع الإمام (عليه السلام) أن يحافظ على الميراث الرسالي ليصل إلى الأجيال القادمة خاصة وأن الأوضاع الأمنية باتت شبه مهددة سواء من جانب معاوية وجلاوزته أو من جانب قطاع كبير من جماهير الأمة... وعليه كان الأمر يتطلب تبريد الموقف وحينما دخل زيد بن وهب الجهني على الإمام (عليه السلام) وما زال ألم الجرح في فخذ الإمام (عليه السلام) شديداً فقال زيد للإمام (عليه السلام): (يا ابن رسول الله لقد اضطرب الناس وتحيروا في أمرهم ماذا تقدر لهم). فأجابه الإمام (عليه السلام) قائلاً: (أرى والله أن معاوية خير لي من هؤلاء، يزعمون أنهم لي شيعة ابتغوا قتلي، وانتهبوا ثقلي، وأخذوا مالي، والله لأن آخذ من معاوية عهداً أحقن به دمي، وآمن به في أهلي، خير من أن يقتلوني، فيضيع أهل بيتي والله لو قاتلت معاوية لأخذوا بعنقي حتى يدفعوني إليه سلماً فوالله لأن أسالمه وأنا عزيز، خير من أن يقتلني وأنا أسيره، أو يمنّ عليّ فيكون سبة على بني هاشم إلى آخر الدهر، ومعاوية لا يزال يمنّ بها وعقبها على الحي منا والميت. ثم قال زيد الجهني: وهل تترك شيعتك كأغنام غاب عنها رعاتها؟! فقال الإمام (عليه السلام): ما أصنع يا أخا جهينة؟ وإني والله أعلم بأمر قد أدى به إلا عن تقاته، إن أمير المؤمنين قال لي ذات يوم وقد رآني فرحاً، يا حسن أتفرح؟ كيف بك إذا رأيت أباك قتيلاً؟ أو كيف بك إذا وليّ هذا الأمر بنو أمية وأميرها الرحب البلعوم، الواسع الأعفاج، يأكل ولا يشبع يموت وليس له في السماء ناصر، ولا في الأرض عاذر، ثم يستولي على غربها وشرقها، تدين له العباد، ويطول ملكه، يسنّن بسنن البدع والضلال، ويميت الحق وسنّة رسول الله، يقسم المال في أهل ولايته، ويمنعه من هو أحق به، ويذلّ في ملكه المؤمن ويقوّي في سلطانه الفاسق، ويجعل المال بين أنصاره دولاً، ويتخذ عباد الله خولاً، ويدرس في سلطانه الحق ويظهر الباطل، ويلعن الصالحين، ويقتل من ناوأه على الحقّ، ويدين من والاه على الباطل فكذلك حتى يبعث الله رجلاً في آخر الزمان، وكلب من الدهر، وجهل من الناس يؤيده الله بملائكته، ويعصم أنصاره، وينصره بآياته، ويظهره على الأرض، حتى يدينوا له طوعاً وكرهاً، يملأ الأرض عدلاً وقسطاً، ونوراً وبرهاناً، يدين له عرض البلاد وطولها، حتى لا يبقى كافر إلا آمن، وطالح إلا صلح، وتصطلح في ملكه السباع، وتخرج الأرض نبتها، وتنزل السماء بركتها، وتظهر له الكنوز، يملك ما بين الخافقين أربعين عاماً فطوبى لمن أدرك أيامه وسمع كلامه)(1)،(2). وثيقة الهدنة... والإجراء الوقائي: قبل أن يصادق الإمام الحسن (عليه السلام) على وثيقة الهدنة بينه وبين معاوية، كتب الإمام (عليه السلام) رسالة مقتضبة إلى معاوية يعلن فيها الإمام (عليه السلام) عن موقفه وسبب قدامه على توقيع الهدنة (أما بعد: فإن، خطبي انتهى إلى اليائس، من حقّ أحييته وباطل أمته، وخطبك خطب من انتهى إلى موارده، وإني اعتزل هذا الأمر وأخلّيه لك، وإن كان تخليتي إيّاه شراً لك في معادك، ولي شروط أشترطها لأبتهضنّك إن وفيت لي بها بعهد، ولا تخف إن غدرت، وستندم يا معاوية كما ندم غيرك، ممن نهض في الباطل أو قعد عن الحق حين لم ينفع الندم)(3). وبعد أن وصلت رسالة الإمام (عليه السلام) إلى معاوية، بعث الأخير بورقة بيضاء مختومة إلى الإمام (عليه السلام) حتى يكتب فيها شروطه لتوقيع اتفاقية الهدنة (الصلح) وهذا نص ما كتبه الإمام (عليه السلام): (بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما صالح عليه الحسن ابن علي بن أبي طالب (عليه السلام) معاوية بن أبي سفيان. صالحه على أن يعمل فيهم بكتاب الله وسنة رسوله وبسيرة الخلفاء الصالحين. وليس لمعاوية بن أبي سفيان أن يعهد لأحد من بعده عهداً، بل يكون الأمر للحسن من بعده فإن حدث به حدث، فلأخيه الحسين. وأن يترك سبّ أمير المؤمنين والقنوت عليه بالصلاة، وأن لا يذكر عليّاً إلا بخير. وأن لا يسمي الحسن (عليه السلام) معاوية أمير المؤمنين، ولا يقيم عنده شهادة. واستثناء ما في بيت مال الكوفة وهو خمسة آلاف ألف، وعلى معاوية أن يحمل إلى الحسين كل عام ألفي ألف درهم، وأن يفرّق في أولاد من قتل مع أمير المؤمنين يوم الجمل وأولاد من قتل معه بصفين، ألف ألف درهم، وأن يجعل ذلك من خراج دار ابجرد. وعلى أن الناس آمنون، حيث كانوا من أرض الله، في شامهم، وعراقهم، وحجازهم ويمنهم، وأن يؤمّن الأسود، والأحمر، وأن يحتمل معاوية ما يكون من هفواتهم وأن لا يتبع أحداً بما مضى، وأن لا يأخذ أهل العراق بإحنة. وعلى أمان أصحاب علي حيث كانوا، وأن لا ينال أحداً من شيعة علي بمكروه، وأن أصحاب علي وشيعته آمنون على أنفسهم، وأموالهم، ونسائهم وأولادهم. وأن لا يتعقب عليهم شيئاً، وأن لا يتعرض لأحد منهم بسوء، ويوصل إلى كلّ ذي حق حقه. وعلى أن لا يبغي للحسن بن علي، ولا لأخيه الحسين، ولا لأحد من أهل بيت رسول الله عائلة سراً ولا جهراً، ولا يخيف أحداً منهم في أفق من الآفاق. وعلى معاوية بن أبي سفيان بذلك عهد الله، وميثاقه، وما أخذ الله على أحد من خلقه بالوفاء بما أعطى من نفسه. شهد عليه بذلك الله وكفى بالله شهيداً والسلام)(4). قبل أن نأتي على الحديث عن الظروف الموضوعية التي دفعت الإمام الحسن (عليه السلام) في توقيع اتفاقية الهدنة مع معاوية وهدف الإمام (عليه السلام) من وراء هذه الاتفاقية نتوقف مع شروط الإمام (عليه السلام) للتعرف على المعاني الحقيقية منها. أضواء على شروط الإمام الحسن (عليه السلام): في نظرة فاحصة للوثيقة التي كتبها الإمام الحسن (عليه السلام) وفرض الشروط الكفيلة بتوقيع اتفاقية الهدنة مع معاوية، نجد أن الإمام (عليه السلام) قد أعدّ في هذه الوثيقة برنامجاً متكاملاً لمعاوية في إدارة الدولة الإسلامية وقد تناول هذا البرنامج الأصعدة التالية: إدارة الدولة: أ. أن يلتزم معاوية في إدارة الدولة الإسلامية بمقررات الدستور الإسلامي المستنبط من كتاب الله وسنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وسيرة الخلفاء الصالحين. ب. أن لا يقوم معاوية بتعيين نواب عنه في استلام منصب الرئاسة للدولة الإسلامية بل إن الإمام الحسن (عليه السلام) هو صاحب الحق في ذلك في حال موت معاوية، فإذا حدث للإمام الحسن (عليه السلام) حادث، ينتقل هذا الحق للإمام الحسين (عليه السلام) وليس لمعاوية أن يوصي لأحد من بعده. إدارة الشؤون المالية: أ. أن يرفع معاوية يده عن بيت مال الكوفة، بمعنى أن تناط مسؤولية إدارة الشؤون المالية برجال خارج البيت الأموي. ب. إقرار مليونان درهم من ميزانية الدولة الإسلامية، ليقوم الإمام الحسين (عليه السلام) بتوزيعها بين المسلمين. ج. تخصيص ميزانية مالية لعوائل شهداء حربي الجمل وصفين بمقدار مليون درهم بحيث تكون هذه الميزانية من خراج دار ابجرد. وأراد الإمام الحسن (عليه السلام) من ذلك أمرين هما: أولاً: للحيلولة دون اعتماد معاوية السياسة الاقتصادية التي سار عليها الخليفة عثمان في عهده حينما ضاعف العطاء وأفرط في التوزيع لبني العاص ممّا سبب في نمو طبقة برجوازية فيما عاش قطاع كبير من المسلمين الفقر المدقع. ولذلك أراد الإمام الحسن (عليه السلام) في هذا الشرط أن يمنع معاوية من اعتماد ذات السياسة. ثانياً: أن يمنع معاوية من استخدام موقعه وقوته في الأخذ بالثارات الجاهلية ضد أبناء الحركات الرسالية الذين وقفوا بصمود وثبات مع قائد المسلمين وأمير المؤمنين علي (عليه السلام) في الجمل وصفين، ممّا يجعل معاوية يفكر في الانتقام منهم بعد الوصول إلى السلطة. سياسة الأمن في الدولة: أ. استخدام مبدأ الأمن والسلام مع كل أبناء الأمة الإسلامية وفي جميع الأقطار، العراق، الشام، الحجاز، اليمن، ومع مختلف الألوان، الأسود والأحمر... فالناس جميعاً سواء في العيش بأمن وسلام. ب. الكف عن استخدام سياسة البطش والتنكيل مع الشعب، وعدم إنزال العقوبات بشتى صورها ضد أفراد الشعب. سياسة الدولة مع المعارضة: أ. أن لا يسلط معاوية سيف الدولة على رقاب القوى المعارضة له، خاصة تلك القوى التي وقفت أمام معاوية عندما كان يقود حركة التمرد ضد الدولة الإسلامية في عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) وبداية عهد الإمام الحسن (عليه السلام)، والتي كانت تتخذ هذه القوى من العراق مركزاً لها وقاعدة لانطلاقها. ب. أن يكف معاوية عن استخدام سياسة الإرهاب السياسي والإعلامي والاقتصادي وغيره ضد طليعة الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) وأهل بيته (عليهم السلام) وبأن لا يلاحقهم أو يتعقبهم، بل يكونوا في أمن من تنكيل النظام وبطشه. ج. اعتماد مبدأ المساواة في التوزيع بين أفراد الشعب والقوى المعارضة للنظام وأن لا يستغل معاوية موقفه المعادي للمعارضة في فرض عقوبات اقتصادية عليها. تعامل الدولة مع قادة التحرك: أ. أن لا يتعرض معاوية بسوء لقادة الحركة الرسالية وتحديداً الإمام الحسن (عليه السلام) وأخيه الإمام الحسين (عليه السلام) وهكذا أهل بيت الرسالة (عليه السلام). ب. أن لا يحاول معاوية تنفيذ عمليات الاغتيال السرية أو العلنية ضد قيادات التحرك الرسالي، أو أن يستخدم معاوية سياسة إرهابية ضدهم. ج. أن ينتهي معاوية من استعمال وسائل التضليل الإعلامي للنيل من قادة الحركة الرسالية وأن يكف معاوية عن سب أمير المؤمنين (عليه السلام)، وأن لا يجعل منبر الدولة وسيلة إعلامية لتصفية الحسابات الجاهلية مع الحركة الرسالية وقياداتها. هذه كانت بعض الأضواء على وثيقة شروط الإمام الحسن (عليه السلام) لإبرام اتفاقية الهدنة مع معاوية قبيل عقد اللقاء بين الإمام (عليه السلام) ومعاوية في العاصمة الكوفة. والملاحظ في شروط الإمام الحسن (عليه السلام) أنها لم تتضمن أي إشارة على تسليم الأمر لمعاوية، بل كانت هذه الشروط ـ في الواقع ـ برنامجاً منظماً يعرضه الإمام (عليه السلام) لمعاوية في كيفية إدارة الدولة. وهنا نقطة في غاية الأهمية وهي أن الإمام الحسن (عليه السلام) يؤكد في هذه الوثيقة على أن الصلح مع معاوية يرتبط بتطبيق الشروط المكتوبة في الوثيقة فإذا انتفى الالتزام بالشروط فإن الصلح بالضرورة ينتفي. وهنا نقول أن الإمام الحسن (عليه السلام) قد كان على علم مسبق بأن معاوية ليس الشخص الذي يقبل بتطبيق هذه الشروط أو الالتزام بها، كيف به وهو يحمل منهجية التفكير الجاهلي الأموي القائم على أساس التسلط وفرض الهيمنة واستعمال الخدع والمكر وباقي القيم الجاهلية. ويأتي السؤال: إذن لماذا قام الإمام الحسن (عليه السلام) بكتابة وثيقة الشروط طالما أنه (عليه السلام) يعلم بأنّ معاوية لن يقدم على تطبيقها؟ وللجواب على ذلك نقول: أولاً: أن الظروف التي اكتنفت فترة الإعداد لتوقيع اتفاقية الهدنة كانت مساعدة في أن يكتب الإمام (عليه السلام) شروطه فيها وأهمها أمرين: الأول: أن معاوية هو الذي طالب بالهدنة ووعد الإمام (عليه السلام) بتسليم الخلافة من بعده وقد طلب من الإمام (عليه السلام) أن يكتب شروطه الموافقة على توقيع اتفاقية الهدنة بينه وبين معاوية. وقد عرفنا سلفاً أن معاوية بعث ورقة بيضاء مختومة بمهره، إلى الإمام (عليه السلام) ليكتب فيها شروط إجراء الهدنة. وإن هذا الأمر ساعد الإمام (عليه السلام) في أن يملي شروطه وبحرية تامة، والتركيز في هذه الشروط على أهم المواضيع الأساسية المرتبطة بمصير التحرك الرسالي وقياداته. ونقطة القوة هنا أن شروط الإمام الحسن (عليه السلام) لم تكن ذات مطالب جزئية أو بسيطة بل كانت تمس الجوانب الرئيسية من أصل الصراع، وأبرزها إدارة الدولة على مختلف الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية... ورد غيرها. إذن هذه الشروط تعبر عن المطالب الرئيسية والمباشرة لحركته الرسالية في صراعها مع النظام الحاكم وإنّ عدم التزام النظام بتنفيذ هذه المطالبة يعني استمرار حالة الصراع بطريقة أو بأخرى وهذه الشروط تكشف عن مسألة كبيرة وهي أن النظام الحاكم غير مؤهل لقيادة الجماهير وبالتالي يفتقر إلى الشرعية في وجوده. الثاني: أن جمعاً غفيراً من المسلمين بمختلف فرقهم وقبائلهم وكبار الشخصيات الدينية والاجتماعية، وبل وحتى أبناء الديانات الأخرى، ستشهد ذلك اليوم الذي سيتم فيه توقيع اتفاقية الهدنة بين الإمام (عليه السلام) ومعاوية. وعليه فإن الإمام (عليه السلام) يجد فرصة في هذا المحفل البشري الكبير لأن يلقي بحجته على معاوية وأن يلزمه بكل البنود التي جاء ذكرها في وثيقة الهدنة والتي هذه تحمل ختم معاوية... وفي حال مخالفة معاوية لبنود الاتفاقية يعني كشف القناع عن الوجه القبيح لمعاوية وسياسته.. ومع أن معاوية يخالف هذه البنود ـ كما سنجد فيما بعد ـ إلا أنه لن يتجرأ على استخدام القمع والتنكيل ضد شيعة أهل البيت (عليهم السلام) في ظل وجود الإمام الحسن (عليه السلام) على قيد الحياة. وقفة مع رواية الصلح... الشبهة والرد: إننا بحاجة إلى أن نتوقف حول ما أثير بالنسبة إلى مسألة الهدنة أو (الصلح) كون أنها أحيطت بملابسات كثيرة... ممّا يدفع ذلك إلى تدقيق النظر في هذه المسألة، خاصة وقد لوحظ أن العديد من الكتب التي تناولت تاريخ الإمام الحسن (عليه السلام) قد جمدت عند الحديث عن ما أسمته بـ(معاهدة الصلح)، أو خصصت بعض هذه الكتب جانباً كبيراً من البحث حول الصلح وأسبابه ونتائجه، هذا في حين أن بعضاً آخر من الكتب قد اختار الصلح كعنوان لها ممّا عكس ذلك أثراً سلبياً في ذهنية القارئ بحيث أوصلته إلى فكرة باطلة وهي أن الإمام الحسن رجل الصلح والدعة والجمود ـ وحاشاه ذلك ـ في وقت كان حري بهؤلاء الكتّاب أن يدرسوا بموضوعية الظروف التي مرت بها الأمة الإسلامية وانعكاسات ذلك على الفترات المتقدمة من تاريخ الدولة الإسلامية ثم ما هي ظروف عهد الإمام الحسن (عليه السلام)؟ وكيف انتهى الأمر بصعود معاوية وما هي طبيعة الاتفاقية التي أجراها معاوية والإمام الحسن (عليه السلام)؟ وما هو هدف الإمام (عليه السلام) من وراء تلك الاتفاقية إلى غير ذلك من التساؤلات..؟ ولعل الدافع الرئيسي في تركيز الكتّاب والمحلّلين التاريخيين والباحثين، على مسألة (الصلح) بحيث جهد هؤلاء في إيراد وحشد اكبر قدر من الأخبار والنصوص التاريخية والتي نقلوها مباشرة دونما تمحيص أو تدقيق إلى أوراق البحث.. وإنما ذلك يرجع إلى وقوع البعض في شرك أحد هذين المحذورين هما: الأول: المصادر التاريخية: فمن خلال مطالعة الغالبية العظمى من المصادر التاريخية التي تناولت حياة الإمام الحسن (عليه السلام) نجد أن هذه المصادر قد وقفت طويلاً عند أحداث ووقائع اتفاقية الهدنة أو ما أسموها بـ(الصلح) في حين اكتفت هذه المصادر بالمرور الخاطف على الأحداث التي سبقت هذه الاتفاقية. ولم تنته عند هذا الحد بل حاولت تضخيم مسألة (الصلح) عبر رصد وتسجيل جميع النصوص المتعلقة بهذا الأمر. أما البعض الآخر من المصادر التاريخية فقد اختصرت الحديث حول تاريخ الإمام الحسن (عليه السلام) في قضية (الصلح) واعتبرته الحادثة الكبرى في حياة الإمام (عليه السلام)، دونما الحديث عن خلفية هذه القضية وجذورها وأصولها الحقيقية. والمشكلة هنا أن حركة تدفق النصوص والأخبار نشطت وراجت بين المصادر التاريخية. وكما هو معروف أن مهمة هذه المصادر هي نقل كافة النصوص المعلقة بالقضية المطروحة دونما النظر في صحة أو سقم هذا الخبر أو ذاك فاختلط الحابل بالنابل... ... فأصبح قسم كبير من النصوص التاريخية يتردد بين التضارب والتناقض بين النصوص بعضها مع البعض الآخر، وأن هذه النصوص جاءت متناثرة ومشتتة بين ثنايا المصادر التاريخية. وهنا يأتي دور الباحث والكاتب والمحلل في كيفية انتقاء الجيد من الرديء بين كومة النصوص التاريخية وليس هذا فحسب، بل عليه أيضاً إيجاد عامل الربط الموضوعي بينها. وهذه العملية قد تكون صعبة كونها تتطلب بذل جهود وطاقات كبيرة، كما تستوجب المزيد من البحث والتنقيب في مصادر التاريخ وكتب السيرة، إضافة إلى التدقيق في متونها، إلا أن هذه العملية هي الطريقة السليمة والصحيحة في سبيل إعطاء نتائج ورؤى أكثر واقعية وأبلغ مصداقية إلى غير ذلك.. الثاني: رواج الروايات المختلفة والموضوعة حول مسألة (الصلح) بحيث أنها شغلت حيزاً خطيراً في كتابات المؤرخين، حتى لا نكاد نجد كتاباً تاريخياً تناول حياة الإمام الحسن (عليه السلام) إلا وأورد واحدة من تلك الروايات الموضوعة. ولعل أشهر هذه الروايات، هي الرواية المنقولة ـ كذباً وزوراً ـ عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حول الإمام الحسن (عليه السلام) (إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين عظيمتين). بحيث أن الكثير من الكتّاب والباحثين اعتمدوا هذه الرواية لتدليل على مسألة (الصلح) بين الإمام الحسن (عليه السلام) ومعاوية، بل إن بعض الكتّاب المعروفين اعتبروا هذه الرواية من العوامل الأساسية التي دفعت الإمام الحسن (عليه السلام) لتوقيع ما أسموه بـ(الصلح). وإذا كنا نقبل عذراً من هؤلاء الكتّاب في مسالة التحقيق في متون المصادر التاريخية ونصوصها، فإنا نرفض عذر إهمال هؤلاء مسألة التدقيق في صحّة الرواية لأنه أمر ضروري ولازم. وإلا فكيف يمكن إيراد النتائج دونما تحقيق في المقدمات وكيف نتلقف الروايات ونرمي بها في أبحاثنا وكتاباتنا دونما تدقيق في اصل الرواية وسندها أو دونما إرجاع هذه الرواية إلى مصادر التشريع الأربعة الكتاب والسنة والإجماع والعقل، ثم نقوم بإصدار حكم واقعي من هذه الرواية ثم اعتبار ذلك من المسلمات. ونحن هنا إذ نتوقف على أساس التحقيق في سند ومتن هذه الرواية، لإثبات وضعية ما جاء فيها من خلال التالي: أولاً: رواة التزوير والوضع: فقد نشطت في عهد معاوية حركة التزوير بصورة بالغة حيث تزايد عدد الرواة الوضّاعين والمفترين وذلك بهدف التغطية على فضائل أهل البيت (عليهم السلام)، وقد تركزت هذه الروايات الموضوعة في مدح معاوية ومن لف لفّه، ومن جهة أخرى النيل والقدح في أهل بيت النبوة (عليهم السلام). ونظرة سريعة على رواة الحديث ـ وخاصة رواية الصلح ـ نجد أن الكثير من هؤلاء قد أجمع المؤرخون على كذبهم وتزويرهم ـ كما سيأتي الحديث فيما بعد ـ وقد وجدت في كتاب تاريخ ابن عساكر في ترجمة الإمام الحسن (عليه السلام) خير مثال للتدليل على حقيقة هؤلاء الرواة كون هذا الرجل قد أورد أسماء رجال السند لهذه الرواية ونحن إذ نورد أقوال بعض المحققين في سند هؤلاء الرواة: أنبأنا أبو الحسن الحربي أنبأنا أبو بكر محمد بن هارون بن حميد بن المحدر، أنبأنا محمد بن حميد، أنبأنا عبد الرحمن بن مغراء، عن الأعمش، عن أبي سفيان الواسطي عن جابر وساق الحديث. وأبو بكر محمد بن هارون يقول عنه السيد محسن الأميني (ناصبي منحرف)، وكان يعرف بالأغراب عن أمير المؤمنين (عليه السلام)(5). وأخبرنا أبو سعيد عبد الله بن أسعد: أبو أحمد الصوفي أنبأنا أبو الفضل محمد بن عبد الله بن محمد الصرّام أنبأنا أبو عمر محمد بن الحسين البسطافي، أنبأنا أبو بكر ابن عبد الرحمن الجارود الرقي، أنبأنا يونس بن عبد الأعلى وعلى أحمد بن حرب قالوا حدثنا سفيان أنبأنا موسى قال سمعت الحسن يتحدث عن أبي بكرة قال، (الحديث). أحمد بن عبد الرحمن: اتفق كل من صاحب كتاب تاريخ البغدادي جزء 1، ص247، وصاحب كتاب ميزان الاعتدال جزء 1، ص55، وصاحب كتاب اللئالي المصنوعة جزء 1، ص172: على أنه (كذّاب وضّاع). ... أنبأنا عمرو بن هشام، أنبأنا محمد بن سلمة عن ابن إسحاق عن عمرو بن عبيد، عن الحسن، عن أبي بكرة (الحديث). وعمرو بن عبيد: هو أبو عثمان المعتزلي البصري المتوفى 144، كان من الكذابين الآثمين مبتدعاً ولا كرامة له. وقد ذكر ذلك أو شبهه البغدادي في تاريخه جزء 2، ص182، وصاحب كتاب نصب الراية جزء 1، ص49، والغدير جزء 5، ص249. 4ـ في صفحة 131 ذكر ابن عساكر وأخبرنا أبو عبد الله الغراوي أنبأنا أبو بكر البيهقي أنبأنا أبو عبد الله الحافظ أنبأنا أبو بكر البيهقي أنبأنا أبو عبد الله الحافظ أنبأنا أبو القاسم علي بن المؤمل الماسر جرسي، أنبأنا محمد بن يونس القرشي أنبأنا محمد بن عبد الله الأنصاري أنبأنا أشعث بن عبد الملك عن الحسن عن أبي بكرة: الحديث). محمد بن يونس الكريمي القرشي أحد الحفّاظ الأعلام بالبصرة المتوفى 286هـ كذّاب يضع الحديث. عن النبي (صلّى الله عليه وآله) وعلى الثقات. قال ابن حبّان: قد وضع اكثر من ألف حديث. ورد ذلك في كل من تاريخ بغداد جزء3، ص441، وتذكرة الموضوعات ص14، 18، وشذرات الذهب للمكي جزء2، ص194، وميزان الاعتدال للذهبي جزء3، ص152، واللئالي المصنوعة للسيوطي جزء 2، ص142، وص215، وطبقات الحفّاظ للذهبي جزء2، ص175. 5ـ وفي صفحة 212 أورد ابن عساكر أنه... أنبأنا أبو أيوب صاحب البصري أنبأنا حمّاد بن زيد، عن علي بن يزيد، وهاشم، عن الحسن، عن أبي بكرة قال: وساق الحديث. علي بن زيد: قال عنه ابن حبّان يروي الموضوعات عن الإثبات فإذا روى عن علي بن يزيد أتى بالطّامات، وأضاف وإذا اجتمع في إسناد خبر عبد الله بن زحر وعلي بن يزيد والقاسم بن عبد الرحمن لم يكن متن الخبر إلا ما عملته أيديهم من كتاب تهذيب التهذيب جزء 7، ص13. وقال الأميني في الغدير جزء 7، ص287 ممّا اجتمع فيه هؤلاء الثلاثة فهو ممّا عملته أيديهم). وهشام: هو هشام بن عمّار أبو اليد السلمي فقيه دمشق وخطيبها ومحدثها، قال أبو داوود: حدث بأربعمائة حديث لا أصل له. عن كتاب شذرات الذهب للمكي، جزء2، ص110. وهناك عدد من رجال السند المرتبطين بالبيت الأموي أمثال يحيى بن سعد الأموي وعبد الله بن الحسن بن أحمد الأموي ويونس وأمثال هؤلاء الذين مارسوا الوضع في مدح معاوية وزوّروا الروايات البعيدة عن العقل والمنطق في تلميع آل سفيان وآل العاص وغيرهم. إما عن اصل الرواية، ونحن إذ نعتقد بوضعيتها ولنا في ذلك ثلاث أمور: أولاً: من سياق الحديث نفهم على أن الإمام الحسن (عليه السلام)، وكأنه اليد المباشرة في إدارة دفّة الصلح وصاحب المبادرة في تنفيذه، بينما نعلم تعييناً ومن خلال الوقائع التاريخية التي حصلت في عهد الإمام (عليه السلام) والنزاع الدار مع معاوية أن الإمام (عليه السلام) اضطر إلى القبول بالحل السلمي بعد أن استنفذ كافة الحلول الأخرى في ردع العدوان الأموي على الدولة الإسلامية والذي جاء نتيجة انهيار القدرة العسكرية في جيش الإمام الحسن (عليه السلام) وتتابع حالات الهزيمة والانفراط في قطاعات الجيش كلما اقتربت مرحلة الحرب من ساعة الصفر حتى أصبح الإمام (عليه السلام) غير قادر على حشد عترة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وكما ورد قوله فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة وتردى بالعظمة لئن قام إليّ منكم عصبة بقلوب صافية ونيّات مخلصة لا يكون فيها شوب نفاق ولا نيّة افتراق لأجاهدنّ بالسيف قدماً قدماً ولأضيقنّ من السيوف جوانبها ومن الرماح أطرافها ومن الخيل سنابكها... ثم يقول الإمام الصادق (عليه السلام): فلم يجبه سوى عشرون رجلاً قاموا فقالوا له: يا ابن رسول الله ما نملك إلا أنفسنا وسيوفنا فها نحن بين يديك لأمرك طائعون وعن رأيك صادرون فمرنا ما شئت! فقال الإمام الحسن (عليه السلام): فنظرت يمنة ويسرة فلم أر أحداً غيرهم. فقلت: لي أسوة بجدّي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حين عبد الله سرّاً وهو يومئذٍ في تسعة وثلاثين رجلاً فلما أكلم الله له الأربعين صار في عدة وأظهر أمر الله فلو كان معي عدتهم جاهدت في الله حق جهاده. إذن لم يكن الإمام الحسن (عليه السلام) مختاراً لهذا الصلح بل كان صلحاً مفروضاً بعد أن تصدعت إرادة الأمة ثم انهارت وابتعدت عن ساحة الصراع والمواجهة. ومن جهة ثانية إن الحديث يشير إلى أن الإمام الحسن (عليه السلام) يصلح بين فئتين وكأنه (عليه السلام) خارج دائرة الصراع أو أن الأهداف التي من أجلها وقع النزال ليست موضع اهتمام الحسن (عليه السلام) ولا ترتبط به بصورة مباشرة، وهذا نوع من التهميش لحقيقة الصراع!! ثانياً: أن الحديث ذكر بأن الإمام الحسن (عليه السلام) يصلح بين فئتين عظيمتين. ولا ندري أين موارد العظمة في هاتين الفئتين فإن كان بالحجم فقد ذكر الإمام الحسن (عليه السلام) فيما سبق أنه لم يتمكن من حشد سوى عشرين رجلاً، إضافة إلى انسحاب الآلاف من جبهات الحق وتوجهت نحو جبهة معاوية. علاوة على ذلك، إن في حال إبرام معاهدة الصلح ـ كما يذكر الحديث ـ لم تكن هناك بالفعل فئتان عظيمتان بل إن الدافع الرئيسي لإبرام الصلح أن فئة الإمام الحسن (عليه السلام) كانت ضعيفة وقليلة للغاية حتى أنه لم يحصل على النصاب والعدة التي ذكرها الإمام (عليه السلام) وهي أربعون رجلاً. أما إذا كان مورد العظمة على أساس المنزلة فلا أعلم بأن المصادر التاريخية أشارت إلى مورد واحد يدلّ على عظمة فئة معاوية بل على العكس من ذلك كانت موضع الإنكار واللعنة والثبور والأدلة على ذلك مستفيضة منها: قوله (صلّى الله عليه وآله) لعمّار بن ياسر (تقتلك الفئة الباغية). وقوله (صلّى الله عليه وآله) له أيضاً: (إن عماراً مع الحق والحق معه، يدور عمار مع الحق كما دار، وقاتل عمار في النار)(6). ويقول ابن حجر في تفسير حديث الرسول (صلّى الله عليه وآله) لعمّار بن ياسر (فهذا إخبار من الصادق الصدوق أن معاوية باغ على عليّ، وإن عليّاً هو الخليفة الحق)(7). ويقول ابن حجر في تفسير حديث الرسول (صلّى الله عليه وآله) لعمّار بن ياسر (فهذا إخبار من الصادق الصدوق أن معاوية باغ على عليّ، وإن علياً هو الخليفة الحق)(8). ويقول ابن حجر: قوله (صلّى الله عليه وآله): (إنه يدعوهم إلى الجنة وهم يدعونه إلى النار)، بالضرورة أن الذي دعاهم عمار إلى ذلك هم فئة معاوية. فحكمه (صلّى الله عليه وآله): بأنهم يدعونه إلى النار صريح في أنهم على ضلال)(9). فكيف يصح إطلاق العظمة على فئة معاوية وهي التي قتلت عماراً وحجراً بن عدي وأصحابه ومالك الأشتر ومحمد بن أبي بكر وثلة من خالص أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام)!! ثالثاً: من خلال استعراض الوقائع التاريخية منذ فتح مكة وحتى توقيع اتفاقية الصلح نجد أن بني أمية كانوا يكيدون للإسلام وأهله وإنما رفعوا شعار الإسلام رهبة وتضليلاً في سبيل تحقيق مطامع الجاهلية، وقد لعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أبا سفيان وابنيه عتبة ومعاوية في حادثة الناقة، ولمّا تولى معاوية ولاية الشام في عهد الخليفة عمر اقتطعها لنفسه ولم تدن لحظة واحدة للدولة الإسلامية بل أصبحت الشام مملكة أموية ولما وصل عثمان بن عفان إلى الخلافة عقد أبو سفيان اجتماعاً سرياً ضمّ أفراد قبيلة بني أمية في دار الخليفة عثمان فقال أبو سفيان: تلقفوها يا بني أمية تلقف الكرة فوالذي يحلف به أبو سفيان لا من جنّة ولا نار ولما عاد الحق إلى نصابه ورجعت الخلافة إلى أمير المؤمنين علي (عليه السلام) بدأت المؤامرات تعتمل في نفس معاوية وكان لا يزال والياً على الشام فنشبت الحروب ضد حكومة العدل الإلهي وأشدّ هذه الحروب فتكاً بالمسلمين كانت حرب صفين كما مر ذكر بعض منها. فنخلص ممّا سبق أن فئة معاوية التي كفرت بالولاية وشنّت الحرب على الإمام علي (عليه السلام) والإمام الحسن (عليه السلام) ولم تدن قط للدولة الإسلامية ليست هي الفئة المسلمة كما يذكر الحديث علاوة على ذلك أن الصلح الذي تمّ في عهد الإمام الحسن (عليه السلام) انتهى إلى تسلم معاوية الخلافة منتزعاً الولاية الشرعية من الإمام الحق الذي نصّبه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من قبل الباري عز وجل فكيف يصلح الإمام الحسن (عليه السلام) بين فئتين من المسلمين على أمر ليس لأحد سوى الله الحق في إقراره، فلم يجعل سبحانه وتعالى لأحد من بعده وحتى أشرف رسله وأعز خلقه محمد (صلّى الله عليه وآله) الحق في تغييره أو المساومة عليه كيف به وقد جعل هذا الأمر مرتبطاً بمصير الرسالة الإسلامية وبكمال الدين. وهو أمر أراد منه رواة هذا الحديث تهميشه حتى وكأن القارئ لهذا الحديث يعتقد بأن موضع النزاع كان بسيطاً وهيناً كنزاع بين أسرتين على قطعة أرض فيقوم الإمام الحسن (عليه السلام) بتسوية الخلافات هذه وإنهاء الحرب بين الطرفين: كلاّ فالأمر ليس كذلك مطلقاً بل هو المعيار الأول والأخير في الإيمان برسالة محمد (صلّى الله عليه وآله) ولن يكون المرء مسلماً حتى يقرّ بولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) والأئمة من بعده. والآن نرجع إلى ما سبق الحديث عنه حول مجريات أحداث اتفاقية الهدنة، فبعد أن سجّل الإمام (عليه السلام) شروطه في الوثيقة التي بعثها معاوية مع عبد الله بن عامر بعد أن ختمها بمهره وأرسلها إلى الإمام (عليه السلام) قام الإمام بعد ذلك بإرسال وثيقة الشروط إلى معاوية فكتب معاوية جميع ذلك بخطه، وختمه بخاتمه، وبذل عليه العهود المؤكدة، والأيمان المغلظة، وأشهد على ذلك جميع رؤساء أهل الشام ووجه به إلى عبد الله فأوصله إلى الحسن(10). وفي طريقه إلى الكوفة لإبرام اتفاقية الهدنة، سار معاوية من الشام حتى نزل النخيلة (معسكر الكوفة) وكان ذلك اليوم جمعة، فخطب في الناس قائلاً: (ما اختلفت أمة بعد نبيها إلا ظهر أهل باطلها على أهل حقها. فتوقف معاوية قليلاً وشعر بخطورة ما قاله وكأنما كشف عن حقيقة مخططه فاستدرك قائلاً: (إلا هذه الأمة فإنها.. وإنها.. الخ، فاختلط عليه الأمر فلم يع ما يقول، فعاود الحديث سريعاً لاستدراك الموقف فقال: (إني والله ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتصوموا، ولا لتحجوا، ولا لتزكوا، إنكم لتفعلون ذلك ولكني قاتلتكم لأتأمر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون. ألا وإني كنت منيت الحسن وأعطيته أشياء وجميعها تحت قدمي لا أفي بشيء منها وذكر المدائني أن معاوية قال: (... إن كل مال أو دم أصيب في هذه الفتنة لمطلول وكل شرط أشرطته فتحت قدمي هاتين ولا يصلح للناس إلا ثلاث: إخراج العطاء عند محله، وإقفال الجنود لوقتها، وغزو العدو في داره، فإن لم تغزوهم غزوكم)(11). وبذلك أعلن معاوية في هذه الخطبة عن خيانته لكل الوعود والأيمان المغلظة والمواثيق والعهود التي أخذها على نفسه بالالتزام بكل شروط اتفاقية الهدنة. وهذه كانت بداية افتضاح أمر معاوية لدى الرأي العالم الإسلامي ـ آنذاك ـ وقد سجلت هذه المبادرة الخيانة من معاوية، نقطة قوة لصالح الحركة الرسالية وقيادتها المتمثلة في الإمام الحسن (عليه السلام). حيث أن هذه النقطة يمكن الاستفادة منها في تعرية نظام معاوية وتوظيفها في حركة التغيير. وعندما وصل معاوية إلى الكوفة، وفي اليوم المقرر احتشد الناس من كل مكان ليشهدوا توقيع اتفاقية الهدنة، وقد شكل المحفل الجماهيري ـ يومئذ ـ ورقة ضغط على معاوية للالتزام ببنود اتفاقية الهدنة إلا أن الحركة الرسالية والإمام الحسن (عليه السلام) كان يعلم بأن معاوية لن يلتزم بالشروط فيما بعد. فبعد أيام من توقيع اتفاقية الهدنة جاء معاوية إلى المسجد في الكوفة وصعد المنبر ثم نال من الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) كما نال من الإمام الحسن (عليه السلام)، وكان الحسن (عليه السلام) والحسين (عليه السلام) حاضرين في المسجد فقام الحسين (عليه السلام) ليرد على معاوية فأخذ الحسن (عليه السلام) بيد أخيه الحسين (عليه السلام) وأجلسه ثم قام الإمام الحسن (عليه السلام) فقال لمعاوية! (أيها الذاكر عليّاً أنا الحسن وأبي عليّ، وأنت معاوية وأبوك صخر، وأمي فاطمة وأمك هند، وجدي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وجدك حرب، وجدتي خديجة وجدتك فتيلة فلعن الله أخملنا ذكراً وألأمنا حسباً، وشرنا قدماً، وأقدمنا كفراً ونفاقاً. فقال طوائف من أهل المسجد آمين... آمين)(12). ثم طلب معاوية من الإمام (عليه السلام) أن يصعد المنبر ويخبر الناس بأنه رأى معاوية أهلاً للخلافة دونه فصعد الإمام (عليه السلام) المنبر وخطب في الناس وقال: (الحمد لله كلما حمده حامد، وأشهد أن لا إله إلا الله كلما شهد له شاهد وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى، وائتمنه على الوحي (صلّى الله عليه وآله)). (أيها الناس: إن الله هداكم بأوّلنا، وأحقن دماءكم بآخرنا، وإن لهذا الأمر مدة، والدنيا دول، قال عز وجل لنبيه محمد (صلّى الله عليه وآله): (فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ)(13)، (وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ)(14). أيها الناس: إنّ معاوية زعم أني رأيته للخلافة أهلاً، ولم أر نفسي لها أهلاً، فكذب معاوية، نحن أولى الناس بالناس في كتاب الله عزّ وجلّ وعلى لسان نبيه، ولم نزل ـ أهل البيت ـ مظلومين منذ قبض الله نبيه، فالله بيننا وبين من ظلمنا، وتوثّب على رقابنا، وحمل الناس علينا، ومنعنا سهمنا من الفيء ومنع أمّنا ما جعل إليها رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وأقسم بالله لو أن الناس بايعوا أبي حين فارقهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لأعطتهم السماء قطرها، والأرض بركتها، ولما طمعت فيها ـ يا معاوية ـ فلما خرجت من معدنها وتنازعت قريش بينها، فطمع فيها الطلقاء، وأبناء الطلقاء، وأنت وأصحابك، وقد قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (ما ولّت أمة أمرها رجلاً وفيهم من هو أعلم منه، إلا لم يزل أمرهم يذهب سفالاً، حتى يرجعوا إلى ما تركوا) فقد ترك بنو إسرائيل، هارون وهم يعلمون أنه خليفة موسى فيهم، واتبعوا السامري وتركت هذه الأمة أبي وبايعوا غيره، وقد سمعوا رسول الله يقول (أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا النبوة). وقد رأوا رسول الله نصّب أبي يوم غدير خم، وأمرهم أن يبلّغ أمره الشاهد الغائب. وهرب رسول الله من قومه وهو يدعوهم إلى الله حتى دخل الغار ولو أنه وجد أعواناً لما هرب، وقد كفّ أبي يده حين ناشدهم، واستغاث فلم يغث فجعل الله هارون في سعة حين استضعفوه وكادوا يقتلونه، وجعل الله النبي في سعة حين دخل الغار ولم يجد أعواناً، وكذلك أبي وأنا في سعة حين خدعتنا هذه الأمة. وإنما هي السنن والأمثال يتبع بعضها بعضاً)(15). فو الذي بعث محمداً بالحق، لا ينتقص من حقّنا ـ أهل البيت ـ أحدٌ إلا نقصه الله من علمه، ولا تكون علينا دولة إلا وتكون لنا العاقبة وليعلمنّ نبأه بعد حين(16). أيها الناس إنكم لو التمستم فيما بين المشرق والمغرب لم تجدوا رجلا من ولدني غيري وغير أخي(17). وقبل كل شيء، فإن الإمام الحسن (عليه السلام) قد سفّه أحلام معاوية في أن يرضخ لمطلبه بعد انتهاكه السافر لشروط الاتفاقية ولذلك فإن الإمام (عليه السلام) في هذه الخطبة أظلم نهار معاوية، كما شرح مشكلة الأمة الإسلامية الحقيقية وكشف عن هوية المنتزين على كراسي الحكم والإدارة في الدولة الإسلامية، حتى جلس معاوية حائراً لا يدري ما يصنع فقد أحاط المكر السيئ بأهله. وفي اليوم التالي جاء معاوية إلى المسجد وصعد المنبر وخطب ثم طلب من الإمام الحسن (عليه السلام) أن يصعد المنبر وصاح بالناس: أيها الناس هذا الحسن بن علي وابن فاطمة رآنا للخلافة أهلاً ولم ير نفسه لها أهلاً وقد أتانا ليبايع طوعاً فقام الحسن (عليه السلام) وكان الحاضرون قد شدّوا أنظارهم إلى الإمام (عليه السلام) وتقدم (عليه السلام) إلى المنبر فصعد وما نزل إلا وقد أظلمت الدنيا على معاوية فقد قال الإمام الحسن (عليه السلام) في خطبته: (الحمد لله المستحمد بالآلاء وتتابع النعماء، وصارف الشدائد والبلاء عن الفهماء وغير الفهماء، المذعنين من عباده لامتناعه بجلاله وكبريائه وعلوّه عن لحوق الأوهام ببقائه، المرتفع عن كنه تظنيات المخلوقين، من أن تحيط بمكنون عينه روايات عقول الرائين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده في ربوبيته ووجوده ووحدانيته، صمداً لا شريك له، فرداً لا ظهير له معه وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اصطفاه وانتجبه وارتضاه وبعثه داعياً إلى الحقّ، سراجاً منيراً، وللعباد ممّا يخلفون نذيراً، ولما يأملون بشيراً، فنصح للأمة، وصدع بالرسالة، وأبان لهم درجات العمالة، شهادة عليها أموت وأحشر، وبها في الآجلة أقرب وأحبر، وأقول معشر الخلائق فاسمعوا ولكم أفئدة وأسماع فعوا، إنا أهل بيت أكرمنا الله بالإسلام واختارنا واصطفانا واجتبانا فأذهب عنّا الرجس وطهرنا تطهيراً، والرجس هو الشك، فلا نشك في الله الحق ودينه أبداً، وطهرنا من كلّ آفن، وعيبة مخلصين إلى آدم نعمة منه، لم يفترق الناس قط فرقتين إلا جعلنا الله في خيرها، فأدت الأمور وأفضت الدهور، إلى أن بعث الله محمداً بالنبوة واختاره للرسالة، وأنزل عليه كتابه، ثم أمره بالدعوء إلى الله تعالى، فكان أبي أول من استجاب لله ولرسوله، وأول من آمن وصدّق الله ورسوله، وصدق الله تعالى في كتابه المنزل على نبيّه المرسل: (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ)(18) وأبي الذي يتلوه وهو شاهد منه، وقد قال له رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حين أمره أن يسير إلى مكة والموسم ببراءة (سر بها يا علي فإني أمرت أن لا أسير بها إلا أنا أو رجل مني وأنت هو)(19). فعليّ من رسول الله ورسول الله منه، وقال له نبيّ الله حين قضى بينه وبين أخيه جعــــفر بن أبي طالب ومولاه زيد بن حارثة في ابنه حــــمزة (أما أنت يا علي فمني وأنا منك، وأنت ولــــيّ كلّ مؤمن من بعـــدي)(20). فصدّق أبي رسول الله سابقاً ووقاه بنفسه، ثم لم يزل رسول الله في كل موطن يقدمه ولكل شديدة يرسله، ثقة منه به وطمأنينة إليه، لعلمه بنصيحته لله ورسوله، وأنّه أقرب المقرّبين من الله ورسوله، وقد قال الله عزّ وجل: (السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ، أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ)(21). فكان أبي سابق السابقين إلى الله عز وجل، والى رسوله، وأقرب الأقربين وقد قال الله تعالى: (لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً...)(22). أبي كان أوّلهم إسلاماً، وإيماناً وأوّلهم إلى الله ورسوله هجرة ولحوقاً وأوّلهم على وجده ووسعه نفقة قال سبحانه: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)(23). فالناس من جميع الأمم يستغفرون له بسبقه إيّاهم إلى الإيمان بنبيه، وذلك أنّه لم يسبقه إلى الإيمان به أحد، وقال الله تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ)(24). فهو سابق جميع السابقين فكما أنّه عز وجل فضل السابقين على المتخلفين والمتأخرين فكذلك فضل سابق السابقين، وقد قال الله عز وجل: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)(25). فهو المجاهد في سبيل الله حقاً وفيه نزلت هذه الآية، وكان ممن استجاب لرسول الله، عمّه حمزة، وجعفر ابن عمّه، فقتلا شهيدين رضي الله عنهما، في قتلى كثيرة معهما من أصحاب رسول الله، فجعل الله تعالى حمزة سيد الشهداء من بينهم، وجعل لجعفر جناحين يطير بهما مع الملائكة كيف يشاء من بينهم، وذلك لمكانهما من رسول الله ومنزلتهما وقرابتهما منه، وصلى رسول الله على حمزة سبعين صلاة، من بين الشهداء الذين استشهدوا معه، وكذلك جعل الله تعالى لنساء النبي المحسنة منهن أجرين، وللمسيئة منهن وزرين ضعفين لمكانهن من رسول الله وجعل الصلاة في مسجد رسول الله بألف صلاة في سائر المساجد، إلا المسجد الحرام مسجد خليله إبراهيم بمكة، وذلك لمكانة رسول الله من ربّه، وفرض الله عز وجل الصلاة على نبيه على كافة المؤمنين فقالوا يا رسول الله كيف الصلاة عليك، فقال (صلّى الله عليه وآله): (قولوا اللّهم صلي على محمد وآل محمد) فحقّ على كل مسلم أن يصلّي علينا مع الصلاة على النبي فريضة واجبة، وأجلّ الله تعالى خمس الغنيمة لرسول الله وأوجبها له في كتابه، وأوجب لنا من ذلك ما أوجب له، وحرّم عليه الصدقة وحرّمها علينا معه، فأدخلنا ـ وله الحمد ـ فيما أدخل فيه نبيه، وأخرجنا ونزّهنا ممّا أخرجه منه ونزّهه عنه، كرامة أكرمنا الله عزّ وجلّ بها، وفضيلة فضّلنا بها على سائر العباد، فقال الله تعالى لمحمد حين جحده كفرة أهل الكتاب وحاجّوه: (فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) فأخرج رسول الله من الأنفس معه أبي، ومن البنين أنا وأخي، ومن النساء أمي فاطمة، ومن الناس جميعاً، فنحن أهله، ولحمه، ودمه، ونفسه، ونحن منه، وهو منّا، وقد قال الله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا). فلما نزلت آية التطهير جمعنا رسول الله أنا وأخي وأمي وأبي فجلّلنا ونفسه في كساء لأمّ سلمة خيبري، وذلك في حجرتها وفي يومها، فقال: (الهم هؤلاء أهل بيتي، وهؤلاء أهلي وعترتي، فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً). فقالت أم سلمة: أأدخل معهم يا رسول الله؟ فقال لها رسول الله: يرحمك الله أنت على خير وإلى خير، وما أرضاني عنك، ولكنها خاصة لي ولهم. ثم قالها رسول الله بعد ذلك بقية عمره، حتى قبضه الله، يأتينا في كل يوم عند طلوع الفجر فيقول: (الصلاة يرحمكم الله، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً) وأمر رسول الله بسدّ الأبواب الشارعة في مسجده غير بابنا، فكلموه في ذلك فقال: (أما إني لم أسدّ أبوابكم، ولم أفتح باب عليّ من تلقاء نفسي،ولكنّي أتبع ما يوحى إليّ، وإنّ الله أمر بسدّها وفتح بابه) فلم يكن من بعد ذلك أحد تصيبه جناية في مسجد رسول الله ويولد فيه الأولاد، غير رسول الله، وأبي علي بن أبي طالب، تكرمة من الله تعالى، وفضلاً اختصّنا به على جميع الناس، وهذا باب أبي قرين باب رسول الله في مسجده فبنى فيه عشرة أبيات، تسعة لنبيه وأزواجه وعاشرها وهو متوسطها لأبي، وهاهو بسبيل مقيم، والبيت هو المسجد المطهّر، وهو الذي قال الله تعالى: (أَهْلَ الْبَيْتِ)، فنحن أهل البيت، ونحن الذين أذهب الله عنا الرجس وطهرنا تطهيراً...). أيها الناس: إنه لا يعاب أحد بترك حقّه، وإما يعاب أن يأخذ ما ليس له، وكلّ صواب نافع وكل خطأ ضار لأهله وقد كانت القضية ففهمناها سليمان، فنفعت سليمان، ولم تضرّ داوود فأمر القرابة فقد نفعت المشرك وهي والله للمؤمن أنفع. أيها الناس: اسمعوا وعوا، واتقوا الله وراجعوا، وهيهات منكم الرجعة إلى الحقّ، وقد صارعكم النكوص، وخامركم الطغيان، والجحود أنلزمكموها وأنتم لها كارهون. والسلام على من اتبع الهدى. فقال معاوية: والله ما نزل الحسن حتى أظلمت عليّ الأرض وهممت أن أبطش به، ثم علمت، أن الإغضاء أقرب إلى العافية(26). وفي هذه الخطبة الرائعة التي حملت من المعاني أجلاها وأعظمها ومن الحكم أوثقها وابلغها نجد فيها تركيزاً على جانبين مهمين وهما: أولاً: تبيان حقوق أهل البيت (عليهم السلام) وفضائلهم وقرابتهم من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وواجب المسلمين جميعاً في عقد الحب والولاء لهذا البيت الطاهر، وجريمة الفصل بين أهل البيت (عليهم السلام) وبين رسول الله (صلّى الله عليه وآله). ثانياً: إغفال الأمة في عهد الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وابنه الحسن (عليه السلام) لهذه الحقوق ونكوصها عن الوقوف إلى جانب الإمام علي (عليه السلام) وابنه الحسن (عليه السلام) في المحن الشديدة والفتن الخطيرة التي عصفت رياحها بالدولة الإسلامية، فتخاذلت الأمة عن النهوض ومقاومة القوى المناوئة لأهل البيت (عليهم السلام)، وجمدت عن قطع دابر المخططات الأموية التي كانت تتربص الدوائر للإطاحة بالنظام الإسلامي واقامة نظام جاهلي قبلي تنبعث فيه قيم الشر ونزعات الفتنة... ثم جاء معاوية في يوم آخر إلى المسجد، فطلب من الإمام الحسن (عليه السلام) وبإصرار أن يصعد المنبر ويمتدحه، فقام الإمام (عليه السلام) وصعد ثم قال (عليه السلام): (الحمد لله الذي توحّد في ملكه وتفرّد في ربوبيته يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء والحمد لله الذي أكرم بنا مؤمنكم، وأخرج من الشرك أولكم، وحقن دماء آخركم، فبلاؤنا عندكم قيماً وحديثاً أحسن البلاء، إن شكرتم أو كفرتم أيها الناس: إن رب عليّ كان أعلم بعليّ حين قبضه إليه، ولقد اختصه بفضل لم تعهدوا بمثله، ولم تجدوا مثل سابقته، فهيهات هيهات طال ما قلبتم له الأمور، حتى أعلاه الله عليكم، وهو صاحبكم، وعدوّكم في بدر وأخواتها، جرّعكم رنقاً، وسقاكم علقاً، وأذلّ رقابكم، وأشرقكم بريقكم فلستم بملومين على بغضه. وأيم الله لا ترى أمة محمد خصباً، ما كانت سادتهم وقادتهم في بني أمية، ولقد وجّه الله إليكم فتنةً، لن تصدوا عنها حتى تهلكوا، لطاعتكم طواغيتكم وانضوائكم إلى شياطينكم، فعند الله احتسب ما مضى، وما ينتظر من سوء رغبتكم، وحيف حكمكم. يا أهل الكوفة: لقد فارقكم بالأمس سهم من مرامي الله صائب على أعداء الله، نكّال على فجّار قريش، لم يزل آخذ بحناجرها، جاثماً على أنفاسها ليس بالملومة في أمر الله، ولا بالسروقة لمال الله، ولا بالغروقة في حرب أعداء الله أعطى الكتاب خواتمه وعزائمه، دعاه فأجابه، وقاده فاتّبعه لا تخذه في الله لومة لائم فصلوات الله عليه ورحمته(27). الذي يحدق النظر في كلام الإمام الحسن (عليه السلام) يجد أنه (عليه السلام) في كل مرة يطلب منه معاوية صعود المنبر ومدحه، يبدأ الإمام (عليه السلام) بذكر فضائل أهل البيت (عليهم السلام) والتركيز على ولاية أمير المؤمنين علي (عليه السلام) وفضائله وخسارة الأمة الإسلامية حينما ضيعت الولاية وأفسحت المجال لسيطرة بني أمية عليها. كما نجد أن الإمام (عليه السلام) يخصص في حديثه عن الإمام أمير المؤمنين جانب القيادة وعلاقة الراعي مع الرعيّة، والتي أراد الإمام الحسن (عليه السلام) من تسليط الضوء على هذا الجانب لبث الوعي في جماهير الكوفة لما سيجري من مخاطر وأزمات ستهدد مستقبل الأمة في ظل السيطرة الأموية على دفة الحكم.
|
1 - كلمة الإمام الحسن (عليه السلام): ص82، 83. 2 - المقطع الأخير من كلام الإمام (عليه السلام) إشارة إلى عهد الإمام الحجة (عجل الله تعالى فرجه الشريف). 3 - كلمة الإمام الحسن (عليه السلام): ص112. 4 - كلمة الإمام الحسن (عليه السلام) ص112، 114. مع تعديل طفيف في ترتيب المقطع الأخير. 5 - الغدير: ج5، ص294. 6 - الغدير: ج1، ص312. 7 - الصواعق المحرقة: ج2، ص32. 8 - الصواعق المحرقة: ج2، ص32. 9 - الصواعق المحرقة: ج2، 32. 10 - الإمامة والسياسة لابن قتيبة: ص200. 11 - أعيان الشيعة: المجلد الأول، ص570. 12 - الإرشاد للمفيد: ص191. 13 - سورة الأنبياء: 109-110. 14 - سورة الأنبياء: 111. 15 - بحار الأنوار، المجلس، ج10، ص114 طبعة قديمة. 16 - المسعودي هامش ابن الأثير، ج6، ص61، 62. 17 - بحار الأنوار، المجلسي: ج44، ص23. 18 - سورة هود: 17. 19 - الإمام الحسن (عليه السلام)، فؤاد الأحمد، ص103. 20 - الإمام الحسن (عليه السلام)، فؤاد الأحمد، ص103. 21 - سورة الواقعة، الآيتان: 10-11. 22 - سورة الحديد: 10. 23 - سورة الحشر: 10. 24 - سورة التوبة: 100. 25 - سورة التوبة: 19. 26 - جلاء العيون، ج11، ص349، 354. 27 - كلمة الإمام الحسن (عليه السلام): ص93، 94. |