مكتبة الإمام الحسن

فهرس الكتاب

 

 

مناقضات

الحسن ومناوئوه(1)

لم يكن في الإسلام يوم في مشاجرة قومٍ اجتمعوا في محفلٍ، اكثر ضجيجاً، ولا أعلى كلاماً، ولا اشدّ مبالغةً في قولٍ، من يومٍ اجتمع فيه عند معاوية بن أبي سفيان، عمرو بن عثمان بن عفان، وعمرو بن العاص وعتبة بن أبي سفيان، والوليد بن عتبة بن أبي معيط، والمغيرة بن شعبة، وقد تواطؤا على أمرٍ واحدٍ.

فقال عمروبن العاص لمعاوية: ألا تبعث إلى الحسن بن عليٍّ فتحضره فقد أحيا سيرة أبيه، وخفقت النّعال خلفه إن أمر فأطيع، وإن قال فصدق وهذان يرفعان به إلى ما هو اعظم منهما، فلو بعثت اليه فقصرنا به وبأبيه وسببناه وسببنا أباه، وصغّرنا بقدره وقدر أبيه، وقعدنا لذلك حتى صدق لك فيه.

فقال لهم معاوية: إني أخاف ان يقلّدكم قلائد، يبقى عليكم عارها حتى تدخلكم قبوركم، والله ما رأيته قطّ إلا كرهت جنابه، وهبت عتابه وإني إن بعثت إليه لأنصفته منكم.

قال عمرو بن العاص: أتخاف ان يتسامى باطله على حقّنا، ومرضه على صحّتنا؟

قال: لا.

قال: فابعث اذاً اليه.

فقال عتبة: هذا رأي لا أعرفه، والله ما تستطيعون ان تلقوه بأكثر ولا أعظم مما في أنفسكم عليه، ولا يلقاكم إلا بأعظم مما في نفسه عليكم، وانه لمن أهل بيتٍ خصمٍ وجدلٍ.

فبعثوا إلى الحسن (عليه السلام)، فلما أتاه الرسول، قال له: يدعوك معاوية.

قال: ومن عنده؟.

قال الرسول: عنده فلان وفلان، وسمّى كلاً منهم باسمه.

فقال الحسن (عليه السلام): مالهم، خرّ عليهم السقف من فوقهم، وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون.

ثم قال: يا جارية أبلغني ثيابي.

ثم قال: اللهم إني أدرأ بك في نحورهم، وأعوذ بك من شرورهم وأستعين بك عليهم، فاكفنيهم بما شئت وأنّى شئت، من حولك وقوّتك يا ارحم الراحمين.

وقال للرسول: هذا كلام الفرج.

فلما أتى معاوية رحّب به وحيّاه وصافحه.

فقال الحسن (عليه السلام): إن الذي حييت به سلامة، والمصافحة أمنة.

فقال معاوية: أجل، إن هؤلاء بعثوا اليك وعصوني، ليقرورك ان عثمان قتل مظلوماً، وان أباك قتله، فاسمع منهم، ثم أجبهم بمثل ما يكلمونك ولا يمنعك مكاني من جوابهم.

فقال الحسن (عليه السلام): سبحان الله، البيت بيتك، والاذن فيه اليك، والله لئن أجبتهم إلى ما أرادوا، إني لاستحيي لك من الفحش، ولئن كانوا غلبوك إني لاستحيي لك من الضعف، فبأيهما تقرّ؟ ومن أيّهما تعتذر؟ أما أني لو علمت بمكانهم واجتماعهم، لجئت بعدتهم من بني هاشمٍ، ومع وحدتي هم أوحش مني مع جمعهم، فإنّ الله عزّ وجلّ لوليّي اليوم وفيما بعد اليوم، فليقولوا فأسمع، ولا حولولا قوة إلا بالله العلىّ العظيم.

فقال معاوية:، إني كرهت أن أدعوك، ولكنّ هؤلاء حملوني على ذلك مع كراهتي له، وإنّ لك منهم النصّف، ومني، وانما دعوناك لنقرّر ان عثمان قتل مظلوماً، وأن اباك قتله، فاستمع منهم، ثم أجبهم، ولا تمنعك وحدتك واجتماعهم، أن تتكلّم بكلّ لسان.

فتكلّم عمرو بن عثمان بن عفان فقال: ما سمعت كاليوم، أن بقي من بني عبد المطلب، على وجه الأرض من أحدٍ، بعد قتل الخليفة، عثمان بن عفان وكان [من] ابن اختهم، والفاضل في الإسلام منزلةً، والخاصّ برسول الله صلى الله عليه وآله أثرةً، فبئس كرامة الله حتى سفكوا دمه اعتداءً وطلباً لفتنة، وحسداً ونفاسةً، وطلب ما ليسوا بأهل لذلك، مع سوابقه ومنزلته من الله، ومن رسوله، ومن الإسلام، فياذلاه أن يكون (حسن) وسائر بني عبد المطلب: قتلة عثمان، أحياء يمشون على مناكب الأرض، وعثمان مضرج بدمه مع انّ لنافيكم تسعة عشر دماً بقتلى بني امية ببدرٍ!

ثم تكلّم عمرو بن العاص، فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: إي يا ابن أبي تراب! بعثنا اليك لنقرّرك أنّ اباك سمّ أبابكرٍ الصديق، واشترك في قتل عمر الفاروق، وقتل عثمان ذا النّورين مظلوماً، فادّعى ما ليس له بحق، ووقع فيه - وذكر الفتنة وعيّره بشأنها - ثم أضاف:

إنكم يا بني عبد المطلب! لم يكن الله يعطيكم الملك فترتكبون فيه مالا يحلّ لكم، ثم أنت يا (حسن) تحدّث نفسك بأنك كائن امير المؤمنين وليس عندك عقل ذلك، ولا رأيه، فكيف وقد سلبته، وتركت أحمق في قريش، وذلك لسوء عمل أبيك، وانما دعوناك لنسبك وأبيك، ثمّ انت لا تستطيع أن تعتب علينا ولا أن تكذّبنا في شيءٍ به، فان كنت ترى أنا كذبناك في شيءٍ وتقوّلنا عليك بالباطل، وادّعينا خلاف الحقّ فتكلم، والا فاعلم أنّك وأباك من شرّ خلق الله.

أمّا أبوك فقد كفانا الله قتله وتفردّ به، وأما انت فإنّك في أيدينا نتخير فيك، والله أن لو قتلناك، ما كان في قتلك إثم عند الله، ولا عيب عند الناس.

ثم تكلّم عتبة بن ابي سفيان، فكان أوّل ما ابتدأ به أن قال: يا حسن، إن اباك كان شرّ قريشٍ لقريش، أقطعه، أرحامها، واسفكه لدمائها، وإنّك لمن قتلة عثمان، وان في الحقّ أن نقتلك به، وانّ عليك القود في كتاب الله عزّ وجلّ، وإنّا قاتلوك به، فأمّا ابوك فقد تفرّد الله بقتله فكفاناه وأما رجاؤك للخلافة فلست منها لا في قدحة زندك، ولا في رجحة ميزانك.

ثم تكلّم الوليد بن عقبة بن ابي معيط بنحوٍ من كلام أصحابه، وقال: يا معاشر بني هاشم، كنتم أول من دبّ بعيب عثمان، وجمع الناس عليه، حتى قتلتموه حرصاً على الملك، وقطيعةً للرحم، واستهلاك الامة(2) وسفك دمائها حرصاً على الملك، وطلباً للدنيا الخسيسة وحمّاً لها، وكان عثمان خالكم فنعم الخال كان لكم، وكان صهركم فكان نعم الصهر لكم، قد كنتم أول من حسده، وطعن عليه، ثم وليتم قتله، فكيف رأيتم صنع الله بكم.

ثم تكلّم المغيرة، بن شعبة، وكان كلامه، وقوله كلّه وقوعاً في عليٍّ (عليه السلام) ثمّ قال: يا حسن إن عثمان قتل مظلوماً، فلم يكن لابيك في ذلك عذر بريءٍ، ولا اعتذار مذنبٍ، غير أنّا يا حسن قد ظننا لأبيك في ضمّه قتلته، وايوائه لهم وذبّه عنهم، أنّه بقتله راضٍ، وكان والله طويل السيف واللّسان: يقتل الحيّ، ويعيب الميت، وبنو امية خير لبني هاشمٍ من بني هاشمٍ لبني أمية، ومعاوية خير لك يا حسن منك لمعاوية.

وقد كان أبوك ناصب رسول الله صلّى الله عليه وآله في حياته، وأجلب عليه قبل موته، واراد قتله، فعلم ذلك من امره رسول الله صلّى الله عليه وآله، ثمّ كره ان يبايع أبابكر حتى أتي به قوداً، ثم دسّ إليه فسقاه سمّاً فقتله، ثم نازع عمر حتى همّ أن يضرب رقبته، فعمل في قتله، ثم طعن على عثمان حتّى قتله، كلّ هؤلاء قد شرك في دمهم، فأيّ منزلةٍ له من الله يا حسن، وقد جعل الله السلطان لوليّ المقتول في كتابه المنزل، فمعاوية وليّ المقتول بغير حقّ، فكان من الحقّ لو قتلناك وأخاك والله مادم عليٍّ بخطرٍ من دم عثمان، وما كان الله ليجمع فيكم يا بني عبد المطلب الملك والنبوّة ثم سكت.

فتكلّم ابو محمدٍ الحسن بن عليّ صلوات الله عليهما، فقال:

الحمد لله الذي هدى أوّلكم بأوّلنا، وآخركم بآخرنا، وصلى الله على سيدنا محمدٍ النبي وآله وسلم. إسمعوا منّي مقالتي، واعيروني فهمكم وبك ابدأ يا معاوية.

إنه لعمر الله يا أزرق، ما شتمني غيرك، وما هؤلاء شتموني، ولا سبّني غيرك، وما هؤلاء سبّوني، ولكن شتمتني وسببتني، فحشاً منك، وسوء رأي، وبغياً وعدوانا، وحسداً علينا، وعداوةً لمحمدٍ صلّى الله عليه وآله قديماً وحديثاً.

وإنّه والله لو كنت أنا وهؤلاء يا أزرق! مثاورين في مسجد رسول الله وحولنا المهاجرون والانصار ما قدروا أن يتكلمون بمثل ما تلكّموا به،. ولا استقبلوني بما استقبلوني به، فاسمعوا مني أيها الملأ المجتمعون المعاونون عليّ، ولا تكتموا حقاً علمتموه ولاتصدّقوا بباطلٍ نطقت به، وسأبدأ بك يا معاوية فلا اقول فيك إلا دون ما فيك.

أنشدكم بالله! هل تعلمون: انّ الرجل الذي شتمتموه صلّى إلى القبلتين كلتيهما، وأنت تراهما جميعاً ضلالةً، تعبد اللات والعزّى؟ وبايع البيعتين كلتيهما: بيعة الرضوان وبيعة الفتح، وأنت يا معاوية بالاولى كافر، وبالاخرى ناكث؟

أنشدكم بالله! هل تعلمون: انما أقول حقاً، أنه لقيكم مع رسول الله يوم بدرٍ، ومعه راية النبي، ومعك يا معاوية راية المشركين، تعبد اللات والعزّى، وترى حرب رسول الله والمؤمنين فرضا واجباً، ولقيكم يوم أحد، ومعه راية النبي، ومعك يا معاوية راية المشركين، ولقيكم يوم الاحزاب ومعه راية النبي، ومعك يا معاوية راية المشركين، كلّ ذلك يفلج الله حجته، ويحقّق دعوته، ويصدق احدوثته، وينصر رايته، وكلّ ذلك رسول الله يرى عنه راضياً في المواطن كلّها؟

ثم أنشدكم بالله هل تعلمون: أنّ رسول الله حاصر بني قريظة وبني النضير، ثمّ بعث عمر بن الخطاب ومعه راية المهاجرين، وسعد بن معاذ ومعه راية الانصار، فأمّا سعد بن معاذ فجرح وحمل جريحاً، وأما عمر فرجع وهو يجبّن أصحابه ويجبّنه أصحابه، فقال رسول الله (لأعطينّ الراية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله، كرّار، غير فرّار، ثمّ لا يرجع حتى يفتح الله عليه، فتعرّض لها أبو بكر وعمر وغيرهما من المهاجرين والانصار، وعليّ يومئذٍ أرمد شديد الرمد، فدعاه رسول الله، فتفل في عينيه، فبرأ من الرمد، فأعطاه الراية فمضى ولم يثن حتى فتح الله (عليه) بمنّه وطوله(3) وأنت يومئذٍ بمكة عدوّ لله ورسوله، فهل يسوى بين رجلٍ نصح لله ولرسوله، ورجلٍ عادى الله ورسوله!؟

ثم اقسم بالله ما أسلم قلبك بعد، ولكنّ اللسان خائف، فهو يتكلّم بما ليس في القلب.

[ثم] أنشدكم بالله! أتعلمون: أن رسول الله استخلفه على المدينة في غزوة تبوك، ولا سخطه ذلك ولا كرهه، وتكلّم فيه المنافقون، فقال: (لا تخلفني يا رسول الله. فاني لم اتخلّف عنك في غزوةٍ قط (فقال رسول الله (انت وصيّي وخليفتي في أهلي، بمنزلة هارون من موسى) ثم أخذ بيد عليّ: ثم قال: (ايّها الناس! من تولاني فقد تولّى الله، ومن تولّى عليّاً فقد تولاّني، ومن أطاعني فقد اطاع الله، ومن أطاع عليّاً فقد أطاعني ومن أحنّي فقد أحبّ الله، ومن أحبّ عليّاً فقد أحبني)؟

أنشدكم بالله! أتعلمون: أن رسول الله قال في حجة الوداع: (ايّها الناس! إني قد تركت فيكم مالم تضلّوا بعده، كتاب الله فأحلّوا حلاله وحرّموا حرامه، واعملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه، وقولوا: آمنّا بما انزل الله من الكتاب، وأحبّوا اهل بيتي وعترتي، ووالوا من والاهم، وانصروهم على من عاداهم، وانهما لم يزالا فيكم، حتى يردا عليّ الحوض يوم القيامة).

ثم دعا - وهو على المنبر - عليّاً، فاجتذبه بيده فقال: (اللهمّ وال من والاه وعاد من عاداه، اللهمّ من عادى عليّاً فلا تجعل له في الأرض مقعداً، ولا في السماء مصعداً، واجعله في اسفل دركٍ من النار).

أنشدكم بالله! اتعلمون: أنّ رسول الله قال له: (انت الذائد عن حوضي يوم القيامة! تذود عنه كما يذود أحدكم الغريبة من وسط إبله)؟

أنشدكم بالله! أتعلمون: انه دخل على رسول الله في مرضه الذي توفّي فيه، فبكى رسول الله، فقال عليّ: ما يبكيك يا رسول الله؟ فقال: (يبكيني أني أعلم: أنّ لك في قلوب الرجال من أمتي ضغائن، لا يبدونها حتى أتولّى عنك)؟

أنشدكم بالله! أتعلمون: انّ رسول الله حين حضرته الوفاة، واجتمع أهل بيته قال: (الهمّ هؤلاء أهلي وعترتي، اللهمّ وال من والاهم، وانصرهم على من عاداهم) وقال: (انما مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوحٍ، من دخل فيها نجا، ومن تخلّف عنها غرق)؟

أنشدكم بالله! أتعلمون: أن اصحاب رسول الله قد سلّموا عليه بالولاية في عهد رسول الله وحياته؟

أنشدكم بالله: أتعلمون أن عليّاً أول من حرّم الشهوات كلّها على نفسه، من أصحاب رسول الله فأنزل الله عزّ وجلّ (يا أيّها الّذين آمنوا لا تحرّموا طيّبات ما أحلّ الله لكم، ولا تعتدوا إنّ الله لا يحبّ المعتدين وكلوا ممّا رزقكم الله حلالاً طيّباً واتّقوا الله الّذي أنتم به مؤمنون(4)).

وكان عنده علم المنايا، وعلم القضايا، وفصل الخطاب، ورسوخ العلم، ومنزل القرآن، وكان في رهطٍ لا نعلمهم، يتمّون عشرةً، نبّأهم الله أنهم به مؤمنون، وأنتم في رهطٍ قريبٍ من عدة اولئك لعنوا على لسان رسول الله، فأشهد لكم وأشهد عليكم أنّكم لعناء الله على لسان نبيّه، كلكم أهل البيت.

وأنشدكم بالله! هل تعلمون: انّ رسول الله بعث اليك، لتكتب لبني خزيمة، حين أصابهم خالد بن الوليد، فانصرف اليه الرسول فقال: هو يأكل، فأعاد الرسول اليك ثلاث مرات، كل ذلك ينصرف الرسول ويقول هو يأكل، فقال رسول الله، (اللهمّ لا تشبع بطنه) فهي والله في نهمتك وأكلك إلى يوم القيامة؟

أنشدكم بالله! هل تعلمون: إنما أقول حقاً إنك يا معاوية كنت تسوق بأبيك على جملٍ أحمر، ويقوده أخوك هذا القاعد، وهذا يوم الأحزاب، فعلن رسول الله، الراكب والقائد والسائق فكان أبوك الراكب وأنت يا أزرق السائق. واخوك هذا القاعد القائد؟

ثم أنشدكم بالله! هل تعلمون، أنّ رسول الله لعن أبا سفيان في سبعة مواطن: أولهنّ حين خرج من مكة إلى المدينة، وأبو سفيان جاء من الشام، فوقع فيه أبو سفيان فسبّه وأوعده وهمّ أن يبطش به، ثم صرفه الله عزّ وجلّ عنه.

والثاني: يوم العير حيث طردها أبو سفيان، ليحرزها من رسول الله.

والثالث: يوم أحدٍ، يوم قال رسول الله: (الله مولانا ولا مولى لكم) وقال أبو سفيان: لنا العزى ولا لكم العزى، فلعنه الله وملائكته ورسوله والمؤمنون اجمعون.

والرابع: يوم حنين، يوم جاء أبو سفيان بجمع قريش وهوازن، وجاء عيينة، بغطفان واليهود، فردّهم الله عزّ وجلّ بغيظهم لم ينالوا خيراً(5) هذا قول الله عزّ وجلّ له في سورتين في كلتيهما يسمّي أبا سفيان وأصحابه كفاراً، وأنت يا معاوية يومئذٍ مشرك على رأي أبيك بمكة، وعليّ يومئذٍ مع رسول الله وعلى رأيه ودينه.

والخامس: قول الله عزّ وجلّ (والهدي معكوفاً أن يبلغ محلّه)(6) وصددت أنت وأبوك ومشركو قريشٍ، رسول الله صلّى الله عليه وآله فلعنه الله لعنةً شملته وذرّيته إلى يوم القيامة.

والسادس: يوم جاء أبو سفيان بجمع قريش، وجاء عيينة بن حصنٍ ابن بدر بغطفان، فلعن رسول الله القادة والاتباع والساقة إلى يوم القيامة فقيل يا رسول الله: أما في الأتباع مؤمن؟ فقال: لا تصيب اللعنة مؤمناً من الأتباع، وأما القادة فليس فيهم مؤمن ولا مجيب ولا ناجٍ.

والسابع: يوم الثنية، يوم شدّ على رسول الله اثني عشر رجلا، سبعة منهم من بني امية، وخمسة من سائر قريش، فلعن الله تبارك وتعالى ورسوله من حلّ الثنية غير النبي وسائقه وقائده؟

ثم أنشدكم بالله! هل تعلمون: أنّ أبا سفيان دخل على عثمان حين بويع في مسجد رسول الله فقال: يابن أخي هل علينا من عين؟ فقال: لا، فقال ابو سفيان، تداولواالخلافة، فتيان بني امية، فوالذي نفس أبي سفيان(7) بيده ما من جنةٍ ولا نار.

وأنشدكم بالله! أتعلمون أنّ أبا سفيان أخذ بيد الحسين حين بويع عثمان وقال: يابن اخي أخرج معي إلى بقيع الغرقد فخرج، حتى اذا توسّط القبور اجترّه فصاح بأعلى صوته: يا أهل القبور! الذي كنتم تقاتلونا عليه، صار بأيدينا وأنتم رميم، فقال الحسين بن علي: قبّح الله شيبتك، وقبّح وجهك، ثم نتريده وتركه، فلولا النعمان بن بشير أخذ بيده وردّه إلى المدينة، لهلك(8).

ومن لعنتك يا معاوية، أنّ أباك أبا سفيان كان يهمّ أن يسلم، فبعثت اليه بشعرٍ معروفٍ مرويٍّ في قريش وغيرهم، تنهاه عن الإسلام، وتصدّه، أو تنسى يا معاوية قولك لأبيك:

يــا صخر لا تسلمن يوماً فتفضحنا          بعد الذين بــــبدرٍ أصــــبحوا مزقا

خـــالي وعـــمّي وعـــم الأم ثالثهم          وحنظل الخـــير قد أهدى لنا الأرقا

لا تـــركــــننّ إلــــى أمــرٍ تــــكلفنا          والـــراقصات بـــه في مكة الخرقا

فـــالموت أهون من قول العداة لقد          حاد ابن حربٍ عن العزّى اذا فرقا

ومن سيّىء اعمالك: أنّ عمر بن الخطاب ولاّك الشام، فخنت به، وولاّك عثمان، فتربّصت به ريب المنون.

ثمّ اعظم من ذلك أنّك قاتلت علياً صلوات الله عليه وآله، وقد عرفت سوابقه وفضله وعلمه، على أمر هو أولى به منك، ومن غيرك عند الله وعند الناس، ولا دنية بل أوطأت الناس عشوةً، وأرقت دماء خلقٍ من خلق الله، بخدعك وكيدك وتمويهك، فعل من لا يؤمن بالمعاد، ولايخشى العقاب، فلما بلغ الكتاب أجله صرت إلى شرّ مثوى، وعليّ إلى خير منقلبٍ والله لك بالمرصاد.

فهذا لك يا معاوية خاصةً، وما أمسكت عنه من مساويك وعيوبك، فقد كرهت به التطويل، فهل تستطيع ان تردّ علينا شيئاً؟

وأما أنت يا عمر بن عثمان، فلم تكن حقيقاً لحمقك أن تتبع هذه الامور، فإنما مثلك مثل البعوضة اذ قالت للنخلة: استمسكي فاني اريد ان انزل عنك، فقالت لها النخلة: ما شعرت بوقوعك، فكيف يشق علي نزولك؟ وإني والله ما شعرت انّك تحسن أن تعادي لي فيشقّ علي ذلك، واني لمجيبك في الذي قلت.

ان سبّك عليّاً، أبنقص في حسبه؟ أو تباعده من رسول الله، أو بسوء بلاءٍ في الإسلام؟ أو بجورٍ في حكمٍ؟ أو رغبة في الدنيا؟ فان قلت واحدةً منها فقد كذبت، وأما قولك انّ لكم فينا تسعة عشر دماً بقتلى مشركي قريش بني أمية ببدرٍ، فإنّ الله ورسوله قتلهم، ولعمري ليقتلنّ من بني هاشم تسعة عشر وثلاثة بعد تسعة عشر، ثم يقتل من بني أمية تسعة عشر وتسعة عشر في موطنٍ واحدٍ، سوى ما قتل من بني امية لا يحصي عددهم إلا الله.

انّ رسول الله قال: (إذا بلغ ولد الوزغ ثلاثين رجلاً، أخذوا مال الله بينهم دولاً، وعباده خولا، وكتابه دغلا، فاذا بلغوا ثلاث مائة وعشراً، حقّتت عليهم اللعنة، ولهم، فإذا بلغوا أربع مائةٍ وخمسةً وسبعين، كان هلاكهم أسرع من لوك تمرة) فأقبل الحكم بن أبي العاص وهم في ذلك الذّكر والكلام، فقال رسول الله: (أخفضوا أصواتكم(9) فإن الوزغ يسمع). وذلك حين رآهم رسول الله، ومن يملك بعده منهم أمره هذه الأمّة يعني في المنام، فساءه ذلك وشقّ عليه، فأنزل الله عزّ وجلّ في كتابه: (ليلة القدر خير من ألف شهرٍ) فأشهد لكم وأشهد عليكم ما سلطانكم بعد قتل عليٍّ إلاّ ألف شهر، التي أجّلها الله عزّ وجلّ في كتابه.

وامّا أنت يا عمرو بن العاص الشانىء اللعين الأبتر، فإنما أنت كلب، أوّل امرك امّك لبغيّة، وأنّك ولدت على فراشٍ مشترك، فتحا كمت فيك رجال قريشٍ، منهم أبو سفيان بن حرب، والوليد بن المغيرة، وعثمان بن الحارث، والنضر بن الحارث بن كلدة، والعاص بن وائل، كلّهم يزعم انك ابنه، فغلبهم عليك من بين قريشٍ ألأمهم حسباً، وأخبثهم منصباً، وأعظمهم بغية.

ثمّ قمت خطيباً وقلت: أنا شانىء محمّد، وقال العاص بن وائل: إنّ محمداً رجل أبتر لا ولد له، فلو قد مات انقطع ذكره، فأنزل الله تبارك وتعالى: (إنّ شانئك هو الأبتر) فكانت أمّك تمشي إلى عبد قيسٍ لطلب البغية، تأتيهم في دورهم ورحالهم وبطون أوديتهم، ثم كنت في كلّ مشهدٍ يشهد رسول الله عدوّه، أشدّهم له عداوةً وأشدّهم له تكذيباً.

ثمّ كنت في أصحاب السفينة الذين أتوا النّجاشي، والمهرج الخارج إلى الحبشة، في الإشاطة بدم جعفر بن أبي طالب، وسائر المهاجرين إلى النّجاشي، فحاق المكر السيّىء بك، وجعل جدّك الاسفل، وأبطل أمنيتك وخيّب سعيك، وأكذب أحد وثتك، وجعل كلمة الذين كفروا السّفلى وكلمة الله هي العليا.

وأما قولك في عثمان، فأنت يا قليل الحياء والدين، ألهبت عليه ناراً ثم هربت إلى فلسطين تتربّص به الدّوائر، فلمّا أتاك (خبر) قتله، حبست نفسك على معاوية، فبعته دينك يا خبيث بدنيا غيرك، ولسنا نلومك على بغضنا، ولا نعاتبك على حبّنا، وانت عدوّ لبني هاشم في الجاهلية والإسلام، وقد هجوت رسول الله بسبعين بيتاً من شعر. فقال رسول الله: (اللّهمّ إني لا أحسن الشّعر، ولا ينبغي لي أن أقوله، فالعن عمرو بن العاص بكلّ بيتٍ (الف) لعنة. فعليك إذاً من الله ما لا يحصى من اللعن وبالله ما نصرت عثمان حيّاً، ولا غضبت له مقتولاً، ويحك يابن العاص، ألست القائل في بني هاشم لما خرجت من مكة إلى النّجاشي:

تـــقول ابنـــتي: أيـــن هذا الرحيل          ومــــا الــــسّير مــــني بـــمستنكر

فقــــلت: ذريـــــني فــــانّي امـــرؤ          أريــــــد النّـــــجاشيّ فــــي جــعفر

لأكـــــويــه مـــــن عــــنده كــــــيّةً          أقيـــــم بـــــها نــــــخوة الأصــــعر

وشـــــأني أحـــــمد مـــن بـــــينهم          وأقــــــوالهم فـــــيه بــــــالمـــــنكر

وأجـــــري عـــــلى عـــــتبةٍ جاهداً          ولــــــو كـــــان كـــــالذهب الأحمر

ولا أنـــــثني عـــــن بــــــني هاشمٍ          وما اسطعت فـي الغيب والمحضر

فـــــإن قــــــبل العـــــتب مـــنّي له          وإلاّ لــــويــــت لـــــه مــــشــــفري

ثم أنت يا عمرو المؤثر دنيا غيرك على دينك، أهديت إلى النّجاشيّ الهدايا، ورحت إليه رحلتك الثانية، ولم تنهك الأولى عن الثانية، كلّ ذلك ترجع مغلولاً حسيراً، تريد بذلك هلاك جعفرٍ وأصحابه، فلما أخطأك ما رجوت وأمّلت، أحلت على صاحبك عمارة بن الوليد.

وأمّا أنت يا وليد بن عقبة، فوالله ما ألومك أن تبغض عليّاً، وقد جلدك في الخمر ثمانين سوطاً، وقتل أباك بين يدي رسول الله، وأنت الّذي سمّاه الله: الفاسق. وسمّى عليّاً: المؤمن، حيث تفاخرتما، فقلت له: اسكت يا عليّ، فأنا اشجع منك جناناً، وأطول منك لساناً، فقال لك عليّ: اسكت ياوليد، فأنا مؤمن وأنت فاسق، فأنزل الله في موافقة قوله: (أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون)(10) ثمّ أنزل على موافقة قوله: (إن جاءكم فاسق بنبأٍ فتبيّنوا أن تصيبوا قوماً بجهالةٍ فتصبحوا على ما فعلتم نادمين)(11) ويحك يا وليد! مهما نسبت فلا تنس قول الشاعر فيك وفي عليٍّ (عليه السلام):

أنـــــزل الله فـــــي الكــــتاب علينا          في عليٍّ وفـــــي الـــــوليد قـــــرانا

فــــتبوّا الــــولــــيد مـــــنزل كـــفرٍ          وعــــــليّ تبـــــوّأ الإيــــــمانــــــــا

ليــــس مــن كـــان مؤمناً يعبد الله          كــــمن كــــــان فــــــاسقاً خــــوّانا

ســــوف يــــدعى الــوليد بعد قليل          وعــــليّ إلــــى الــــجزاء عـــــيانا

فعــــليّ يجــــزى هـــــناك جــــناناً          وهـــناك الـوليد يجزى هوانا(12)

وما أنت وذكر قريش، وإنما أنت ابن عليجٍ من أهلِ صفّورية يقال له: ذكوان.

وأمّا زعمك أنّا قتلنا عثمان، فوالله ما استطاع طلحة والزبير وعاشئة أن يقولوا ذلك لعليّ بن أبي طالب، فكيف تقوله أنت؟ ولو سالت أمّك: من أبوك، إذ تركت ذكوان، فألصقتك بعقبة بن أبي معيط، اكتست بذلك عند نفسها سناءً ورفعة، مع ما أعدّ الله لك ولأبيك وأمّك من العار والخزي في الدّنيا والآخرة، وما الله بظلاّمٍ للعبيد.

ثم أنت يا وليد - والله - اكبر في الميلاد ممّن تدّعي له النّسب، فكيف تسبّ عليّاً؟ ولو اشتغلت بنفسك لبينت نسبك إلى أبيك، لا إلى من تدّ عي له، ولقد قالت لك أمّك: يا بنيّ أبوك - والله - ألأم وأخبث من عقبة.

وأما أنت يا عتبة بن أبي سفيان، فوالله ما أنت بحصيف فأجاوبك ولا عاقل فأعاتبك، وما عندك خير يرجى ولا شرّ يخشى، وما كنت لو سببت عليّاً لأغار به عليك لأنك عندي لست بكفوٍ لعبد عبد علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فأردّ عليك وأعاتبك، ولكنّ الله عزّ وجلّ، لك ولأبيك وأمّك وأخيك بالمرصاد، فأنت ذرّيّة آبائك الذين ذكرهم الله في القرآن فقال: (عاملة ناصبة تصلى ناراً حاميةً تسقى من عينٍ أنيةٍ - إلى قوله - من جوعٍ)(13).

وأمّا وعيدك إيّاي بقتلي فهلاً قتلت الّذي وجدته على فراشك مع حليلتك، وقد غلبك على فرجها، وشاركك في ولدها، حتّى الصق بك ولداً ليس لك، ويلاً لك لو شغلت نفسك بطلب ثارك منه كنت جديراً وبذلك حرياً، غذ تسومني القتل وتوعدني به، أما تستحي من قول نصر بن الحجّاج فيك:

يــــا لـــلرّجال وحـادث الأزمان          ولــــسبّةٍ تخـــــزي أبـا سفيان

نبــــئت عــــتبة هــيّأته عرسه          لصـــداقه الــهذلي من اللحيان

ألفاه معها في الفراش فلم يكن          فــحلا وأمسك خشية النّسوان

لا تـــعتبن يا عتب نفسك حبّها          إنّ النــــساء حـبائل الشّيطان!

ولا ألومك أن تسبّ علياً، وقد قتل أخاك مبارزةً، واشترك هو وحمزة بن عبد المطلب في قتل جدّك، حتى أصلاهما (الله) على أيديهما نارجهنّم، وأذاقهما العذاب الأليم، (ونفي عمك بأمر رسول الله)(14).

وأمّا رجائي الخلافة، فلعمر الله لئن رجوتها، فإنّ لي فيها لملتمساً وما أنت بنظير أخيك، ولا خليفة أبيك، لأنّ اخاك اكثر تمرداً على الله وأشدّ طلباً لإراقة دماء المسلمين، وطلب ما ليس له بأهل، يخادع الناس ويمكرهم، ويمكر الله، والله خير الماكرين.

وأمّا قولك: إن عليّاً كان شرّ قريشٍ لقريش، فوالله ما حقّر مرحوماً ولا قتل مظلوماً.

وأما انت يا مغيرة بن شعبة، فإنك لله عدوّ، ولكتابه نابذ، ولنبيّه مكذّب، وانت الزّاني وقد وجب عليك الرّجم، وشهد عليك العدول البررة الأتقياء، فأخّر رجمك، ودفع الحق بالباطل، والصدق بالأغاليط، وذلك لما أعدّ الله لك من العذاب الأليم، والخزي في الحياة الدّنيا، ولعذاب الآخرة أخزى.

وأنت ضربت فاطمة بنت رسول الله حتى أدميتها، وألقت ما في بطنها، استذلالاً منك لرسول الله، ومخالفةً منك لأمره، وانتهاكاً لحرمته وقد قال لها رسول الله: (انت سيدة نساء أهل الجنّة) والله مصيرك إلى النار، وجاعل وبال ما نطقت به عليك.

فبأيّ الثلاثة(15) سببت عليّاً، انقصاً من حسبه؟ ام بعداً من رسول الله ام سوء بلاءٍ في الإسلام، ام جوراً في حكم، أم رغبةً في الدّنيا؟ ان قلت بها فقد كذبت وكذبك النّاس.

اتزعم أن عليّاً قتل عثمان مظلوماً؟ فعليّ والله أتقى وأنقى من لائمه في ذلك، ولعمرى إن كان علي قتل عثمان مظلوماً، فوالله ما انت من ذلك في شيء، فما نصرته حيّاً، ولا تعصّبت له ميتاً، وما زالت الطائف دارك، تتبع البغايا، وتحيي أمر الجاهلية، وتميت الإسلام حتّى كان في أمس (ما كان).

وامّا اعتراضك في بني هاشم وبني أميّة، فهو ادعاؤك إلى معاوية، واما قولك في شأن الإمارة، وقول اصحابك في الملك الذي ملكتموه، فقد ملك فرعون مصر اربعمائة سنة، وموسى وهارون عليهما السلام نبيّان مرسلان يلقيان ما يلقيان، وهو ملك الله يعطيه البرّ والفاجر وقال الله عز وجل: (وإن أدري لعلّه فتنة لكم ومتاع إلى حين(16)) وقال: (وإذا اردنا أن نهلك قريةً أمرنا مترفيها، ففسقوا فيها، فحقّ عليها القول، فدمّرناها تدميراً)(17).

ثم قام الحسن (عليه السلام) فنفض ثيابه، وهو يقول: (الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات) هم والله يا معاوية: انت واصحابك هؤلاء وشيعتك (والطيبات للطيّبين والطيّبون للطيّبات أولئك مبرّؤون ممّا يقولون لهم مغفرة ورزق كريم(18)) هم عليّ بن أبي طالبٍ واصحابه وشيعته.

ثم خرج وهو يقول: (ذق وبال ما كسبت يداك، وما جنيت، وما قد أعدّ الله لك ولهم من الخزي في الحياة الدّنيا والعذاب الأليم في الآخرة).

فقال معاوية لأصحابه: وانتم فذوقوا وبال ما قد جنيتم، فقال له الوليد بن عقبة: والله ماذقنا إلا كما ذقت، ولا اجترأ إلا عليك، فقال معاوية: ألم اقل لكم إنكم لن تنتصفوا من الرجل؟ فهل(19) اطعتموني أول مرة، أو انتصرتم من الرجل اذ فضحكم، والله ما قام حتى أظلم عليّ البيت وهممت أن اسطو به، فليس فيكم خير، اليوم ولا بعد اليوم.

وسمع مروان بن الحكم بما لقي معاوية وأصحابه المذكورون من الحسن بن عليٍّ (عليه السلام)، فأتاهم فوجدهم عند معاوية في البيت، فسألهم: ما الّذي بلغني عن الحسن وزعله؟ قالوا: قد كان ذلك، فقال لهم مروان: فهلا أحضرتموني ذلك، فوالله لأسبّنّه، ولأسبّنّ أباه، وأهل البيت سبّاً تغنّي به الإماء والعبيد، فقال معاوية، والقوم: لم يفتك شيء - وهم يعلمون من مروان بذر لسانٍ وفحش - فقال مروان: فأرسل اليه يا معاوية، فأرسل معاوية إلى الحسن بن عليٍّ عليهما السلام؛ فلما جاءه الرسول، قال له الحسن (عليه السلام): (ما يريد هذا الطاغية، منّي؟ والله لئن أعاد الكلام، لأوقرنّ مسامعه، ما يبقى عليه عاره وشناره إلى يوم القيامة).

فأقبل الحسن (عليه السلام)، فلمّا أن جاءهم وجدهم بالمجلس، على حالتهم التي تركهم فيها، غير أنّ مروان قد حضر معهم في هذا الوقت فمشى الحسن (عليه السلام) حتّى جلس على السرير مع معاوية، وعمرو ابن العاص، ثم قال الحسن (عليه السلام) لمعاوية: لم أرسلت إليّ؟ قال: لست انا أرسلت اليك، ولكنّ مروان الذي أرسل اليك.

فقال مروان: انت يا حسن السباب رجال قريش؟ فقال: وما الذي أردت؟ فقال: والله لأسبّنّك واباك وأهل بيتك سبّاً تغنّي به الإماء والعبيد، فقال الحسن بن عليٍّ عليهما السلام: أمّا أنت يا مروان، فلست أنا سببتك ولا سببت أباك، ولكنّ الله عزّ وجلّ لعنك ولعن أباك، وأهل بيتك وذرّيّتك، وما خرج من صلب ابيك إلى يومِ القيامة على لسان نبيّه محمّد.

والله يا مروان: ما تنكر أنت ولا أحد ممّن حضر هذه اللعنة من رسول الله لك ولأبيك من قبلك، وما زادك الله يا مروان بما خوّفك إلا طغياناً كبيراً، صدق الله وصدق رسوله، يقول: (والشجرة الملعونة في القرآن، ونخوّفهم فما يزيدهم إلاّ طغياناً كبيراً)(20) وأنت يا مروان وذرّيتك الشجرة الملعونة في القرآن عن رسول الله فوثب معاوية فوضع يده على فم الحسن (عليه السلام) وقال: يا أبا محمّد ما كنت فحّاشاً، فنفض الحسن (عليه السلام) ثوبه، وقام وخرج، فتفرّق القوم عن المجلس بغيظ وحزنٍ وسواد الوجوه(21).

الحسن ومناوئوه(22)

واجتمع معاوية مع بطانته، فجعل بعضهم يفخر على بعضٍ ويتطاول بالمآثر المكذوبة، فأراد معاوية أن يضحك عليهم فقال لهم: -

أكثرتم الفخر، فلو حضركم الحسن بن عليّ، وعبد الله بن عبّاسٍ لقصّرا من أعنّتكم ماطال.

فقال زياد لمعاوية:-

وكيف ذلك يا أمير المؤمنين؟ ما يقومان لمروان بن الحكم في غرب منطقة، ولا لنا في بواذخنا، فابعث اليهما في غدٍ حتى تسمع كلامنا.

فالتفت معاوية إلى عمرو بن العاص مستشيراً.

ما تقول؟

فقال ابن العاص: إبعث إليهما غداً.

فلما كان من غدٍ بعث معاوية ابنه يزيد، إلى الإمام الحسن وعبد الله ابن عبّاس. فأتياه فلمّا استقر بهما المجلس، التفت اليهما معاوية، مبتدئاً:-

إني أجلّكما وأرفع قدركما عن المسامرة باللّيل، ولا سيّما أنت يا أبا محمّد، فإنك ابن رسول الله، وسيد شباب أهل الجنّة.

ثم قال ابن العاص:

يا حسن، إنّا قد تفاوضنا، فقلنا: إنّ رجال بني امية اصبر عند اللّقاء، وأمضى في الوغى، وأوفى عهداً، وأكرم خيماً، وامنع لما وراء ظهورهم، من بني عبد المطّلب.

ثم سكت. فقال مروان بن الحكم:

وكيف لا نكون كذلك، وقد قارعناكم فغلبناكم، وحاربناكم فملكناكم فان شئنا عفونا وإن شئنا بطشنا.

ولما سكت مروان، تكلّم زياد فقال:

ما ينبغي لهم أن ينكروا الفضل لأهله، ويجحدوا الخير في سلطانه نحن أهل الحملة في الحروب، ولنا الفضل على سائر النّاس قديماً وحديثاً.

فقال الإمام (عليه السلام):-

ليس من العجز أن يصمت الرجل عند إيراد الحجّة، ولكن من الإفك أن ينطق الرجل بالخنا، ويصوّر الباطل بصورة الحقّ.

ثم وجّه (عليه السلام) خطابه إلى عمرو بن العاص فقال له:-

يا عمرو، افتخاراً بالكذب، وجرأةً على الإفك؟ مازلت أعرف مثالبك الخبيثة، أبديها مرةً وأمسك عنها أخرى، فتأبى إلا انهماكاً في الضّلالة، أتذكر مصابيح الدّجى، واعلام الهدى، وفرسان الطّراد، وحتوف الأقران، وأبناء الطّعان، وربيع الضّيفان، ومعدن النّبوة، ومهبط العلم؟ وزعمتم أنّكم أحمى لما وراء ظهوركم، وقد تبيّن ذلك يوم بدرٍ حين نكصت الأبطال، وتساورت الأقران واقتحمت اللّيوث، واعتركت المنية، وقامت رحاها على قطبها، وافترّت عن نابها، وطار شرار الحرب، فقتلنا رجالكم ومن النبيّ على ذراريكم، فكنتم لعمري في ذلك اليوم غير مانعين لما وراء ظهوركم، من بني عبد المطلّب.

ثم التفت إلى مروان، فقال له:-

وأمّا انت يا مروان، فما أنت والإكثار في قريشٍ وانت طليق، وأبوك طريد، يتقلّب من خزايةٍ إلى سوأة، ولد جيء بك إلى أمير المؤمنين، فلمّا رأيت الضرغام قد دميت براثنه، واشتبكت انيابه، كنت كما قال القائل:-

ليث إذا سمع الليوث زئيره بصبصن ثم قذفن بالأبعار(23)

فلمّا منّ عليك بالعفو، وأرخى خناقك بعد ما ضاق عليك، وغصصت بريقك، لم تقعد معنا مقعد أهل الشّكر، ولكن تساوينا وتجارينا(24) ونحن مما لا يدركنا عار ولا يلحقنا خزاية.

ثم وجّه (عليه السلام) خطابه إلى زيادٍ فقال له:-

وما أنت يا زياد وقريشاً؟ لا أعرف لك فيها أديماً صحيحاً، ولا فرعاً نابتاً، ولا قديماً ثابتاً، ولا منبتاً كريماً، بل كانت امّك بغيّاً، تداولها رجال قريشٍ وفجّار العرب، فلمّا ولدت، لم تعرف لك العرب والداً، فادّعاك هذا - وأشار إلى معاوية - بعد ممات أبيه، مالك افتخار، تكفيك سميّة، ويكفينا رسول الله وأبي عليّ بن أبي طالبٍ (عليه السلام): سيد المؤمنين، الذي لم يرتدّ على عقبيه، وعمّي حمزة سيد الشّهداء، وجعفر الطيّار، وأنا وأخي سيّدا شباب أهل الجنّة.

ثمّ انعطف على ابن عباسٍ قائلاً:-

يا ابن العمّ، إنما هي بغاث الطيّر انقضّ عليها أجدل.

وأراد ابن عبّاسٍ أن يتكلم، فخاف معاوية من حديثه، فأقسم عليه أن يسكت، فسكت.

ثم خرج الإمام وابن عباس، فالتفت معاوية إلى بطانته مستهزئاً بهم:

- أجاد عمرو الكلام لولا أنّ حجته دحضت، وتكلم مروان، لولا أنه نكص، ثم التفت إلى زياد، فأنكر عليه هذا التّدخّل قائلاً:-

ما دعاك إلى محاورته، ما كنت إلاّ كالحجل في كفّ البازي؟

فقال ابن العاص لمعاوية:-

_ ألا رميت من ورائنا؟

فردّ عليه معاوية:-

- إذاً كنت شريككم في الجهل، افاخر رجلاً رسول الله جدّه، وهو سيّد من مضى ومن بقي، وامّه فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين.

ثم التفت إلى ابن العاص:-

- والله لئن سمع به أهل الشام لهي السّوءة السوآء.

فقال عمرو:-

- لقد أبقى عليك ولكنّه طحن مروان وزياداً طحن الرّحى بثفالها، ووطأهما وطء البازل القراد بمنسمه.

فقال زياد:-

- قد والله فعل، ولكنّ معاوية يأبى الا الإغراء بيننا وبينهم، لا جرم والله لا شهدت مجلساً يكونان فيه، إلا كنت معهما على من فاخرهما.

وخلص ابن عبّاسٍ بالإمام، فقبّل ما بين عينيه وأظهر الاعجاب بحديثه، وردّه على القوم قائلاً:-

- أفديك يا بن العمّ، والله ما زال بحرك يزخر، وأنت تصول حتى شفيتني من أولاد البغايا.

الحسن ومناوئوه(25)

دخل الإمام يوماً على معاوية، وكان عنده عبد الله بن الزّبير، فقال له معاوية - مغرياً إياه بمطاولة الإمام:-

- لو افتخرت على الحسن، فإنك ابن حواريّ رسول الله وابن عمّته، ولأبيك في الإسلام نصيب وافر.

فقال ابن الزبير:-

- أنا له.

حتى اذا استوى المجلس بالإمام انبرى اليه ابن الزبير قائلاً:-

- لولا أنّك خوّار في الحرب غير مقدام، ما سلّمت لمعاوية الأمر، وكنت لا تحتاج إلى اختراق السّهوب، وقطع المفاوز، تطلب معروفه، وتقوم ببابه، وكنت حرياً أن لا تفعل ذلك، وأنت ابن عليّ في باسه ونجدته، فما أدري ما الذي حملك على ذلك؟ أضعف في الرّأي، أم وهن ونحيزة، فما أظنّ لك مخرجاً من هاتين الخلّتين، أما والله لو استجمع لي ما استجمع لك، لعلمت: أني ابن الزّبير، وأني لا أنكص عن الأبطال وكيف لا أكون كذلك، وجدّتي صفية بنت عبد المطّلب، وأبي الزبير، من حواري رسول الله، وأشدّ الناس بأساً، وأكرمهم حسباً في الجاهلية وأطوعهم لرسول الله.

فقال له الإمام:-

- أما والله لولا أنّ بني أمية تنسبني إلى العجز عن المقال لكففت عنك تهاوناً، ولكن سأبيّن لك ذلك لتعلم: أني لست بالعيّ، ولا الكليل اللّسان، إيّاي تعيّر، وعليّ تفتخر، ولم يكن لجدّك بيت في الجاهليّة، ولا مكرمة، فزوجته جدّتي صفية بنت عبد المطّلب، فبذخ على جميع العرب بها، وشرف بمكانها، فكيف تفاخر من هو من القلادة واسطتها ومن الأشراف سادتها، نحن اكرم اهل الأرض زنداً، لنا الشرف الثاقب والكرم الغالب، ثم تزعم: اني سلّمت الأمر، فكيف يكون ذلك ويحك هكذا؟ وأنا ابن أشجع العرب، وقد ولدتني فاطمة سيدة نساء العالمين وخيرة الإماء، لم افعل ذلك ويحك جبناً ولا ضعفاً، ولكنه بايعني مثلك وهو يطلبني بترة، ويداجيني المودّة، ولم أثق بنصرته لأنكم اهل بيت غدر، وكيف لا يكون كما أقول؟ وقد بايع ابوك امير المؤمنين، ثم نكث بيعته، ونكص على عقبيه، واختدع حشيّةً من حشايا رسول الله ليضلّ بها النّاس، فلما دلف نحو الأعنّة، وراى بريق الأسنّة، قتل مضيعة لا ناصر له، وأتي بك أسيراً، قد وطأتك الكماة بأظلافها، والخيل بسنابكها واعتلاك الأشتر، فغصصت بريقك، وأقعيت على عقيبك كالكلب اذا احتوشه الليّوث، فنحن ويحك نور البلاد وأملاكها، وبنا تفخر الأمّة وإلينا تلقى مقاليد الأمة، أتصول وانت تختدع النّساء؟ ثم تفخر على بني الأنبياء، لم تزل الاقاويل منّا مقبولة، وعليك وعلى ابيك مردودة، دخل الناس في دين جدّي طائعين وكارهين، ثم بايعوا امير المؤمنين، فسار إلى ابيك وطلحة، حين نكثا البيعة، وخوى عرس رسول الله، فقتل أبوك وطلحة، وأتي بك أسيراً، فبصبصت بذنبك، وناشدته الرّحم ان لا يقتلك فعفا عنك، فأنت عتاقة أبي، وأنا سيّدك وسيّد أبيك، فذق وبال أمرك).

فسكت ابن الزبير وخجل، فأردف الإمام:-

اعذر يا ابا محمّد، فإنما حملني على محاورتك هذا - واشار إلى معاوية - فهلاّ إذ جهلت امسكت عنّي، فانكم اهل بيتٍ سجيتكم الحلم والعفو.

ثم التفت الإمام إلى معاوية قائلاً:-

أنظر هل أكيع عن محاورة أحد، ويحك أتدري من ايّ شجرةٍ أنا، وإلى من أنتمي؟ إنته قبل أن أسمك بميسمٍ تتحدّث به الرّكبان في الآفاق والبلدان.

فقال ابن الزبير:

هو لذلك أهل.

فقال له معاوية:

أما إنه قد شفا بلابل صدري منك، ورمى مقتلك، فصرت كالحجل في كفّ البازي، يتلاعب به كيف أراد، فلا أراك تفتخر على أحدٍ بعدها.

الحسن ومناوئوه(26)

قال مروان بن الحكم، للحسن بن عليٍّ عليهما السلام بين يدي معاوية:-

أسرع الشيب إلى شاربك يا حسن! ويقال إنّ ذلك من الخرق.

فقال (عليه السلام):-

ليس كما بلغك، ولكنّا معشر بني هاشمٍ طيّبة أفواهنا، عذبة شفاهنا، فنساؤنا يقبلن علينا بأنفاسهنّ، وانتم معشر بني أمية، فيكم بخر شديد، فنساؤكم يصرفن أفواهنّ وانفاسهنّ إلى أصداغكم، فإنما يشيب منكم موضع العذار من أجل ذلك.

قال مروان:

أما إنّ فيكم يا بني هاشمٍ خصلة (سوء)(27).

قال: وماهي؟

قال: الغلمة.

قال: أجل نزعت من نسائنا، ووضعت في رجالنا، ونزعت الغلمة من رجالكم، ووضعت في نسائكم، فما قام لأمويّةٍ إلا هاشميّ.

ثم خرج يقول:-

ومـــارست هــــذا الدهر خمسين حجّةً          وخــــمساً أرجّــــي قــــابلاً بــــعد قابل

فما أنا في الدّنــــــيا بلـــــغت جسيمها          ولا في الّــــذي أهـــــوى كدحت بطائل

فقد أشرعتني في المنايـــا أكفّها(28)          وأيـــــقنت أنّـــي رهـــن مـوتٍ معاجل

الحسن و مناوئوه(29)

وتحدّث الإمام (عليه السلام) في مجلس معاوية، عن فضله وشرف نسبه وعلوّ منزلته، قائلاً:-

قد علمت قريش بأسرها: أنّي منها في عزّ أرومتها، لم أطبع على ضعف، ولم أعكس على خسف، أعرف بشبهي، وأدعى لأبي.

فاغتاظ ابن العاص وقال:-

قد علمت قريش: أنّك من أقلّها عقلاً، وأكثرها جهلاً، وانّ فيك خصالاً لولم يكن فيك إلا واحدة منهنّ لشملك خزيها كما شمل البياض الحالك، لعمرو الله لتنتهين عما أراك تصنع، أو لأكبسنّ لك حافةً كجلد العائط، أرميك من خللها، بأحرّ من وقع الأثافي، أعرك منها اديمك عرك السّلعة، فإنّك طالما ركبت صعب المنحدر، ونزلت في اعراض الوعر، التماساً للفرقة وإرصاداً للفتنة، ولن يزيدك الله إلا فظاعة.

فردّ عليه الإمام قائلاً:-

أما والله لو كنت تسمو بحسبك، وتعمل برأيك، ما سلكت فجّ قصد، ولا حللت رابية مجد، وأيم الله لو أطاعني معاوية لجعلك بمنزلة العدوّ الكاشح، فإنّه طالما طويت على هذا كشحك، وأخفيته في صدرك وطمع بك الرجاء إلى الغاية القصوى، التي لا يورق لها غصنك، ولا يخضرّ لها مرعاك، أما والله ليوشكنّ يابن العاص، أن تقع بين لحي ضرغامٍ من قريش، قويّ ممتنع، فروسٍ ذي لبد، يضغطك ضغط الرّحا للحب، لا ينجيك منه الرّوغان، إذا التقت حلقتا البطان.

فقال ابن العاص:-

- يا حسن، أزعمت أنّ الدين لا يقوم إلا بك وبأبيك؟ فلقد رأيت الله عز وجل أقامه بمعاوية، فجعله راسياً بعد ميله، وبيّناً بعد خفائه، أفرضي الله قتل عثمان؟ أم من الحقّ أن تدور بالبيت، كما يدور الجمل بالطّحين، عليك ثياب كغرقىء البيض، وأنت قاتل، عثمان؟ والله إنّه لا ألمّ للشّعث وأسهل للوعث، أن يوردك معاوية حياض أبيك.

فقال الإمام:-

- إنّ لأهل النّار علاماتٍ يعرفون بها وهي: الإلحاد لأولياء الله، والموالاة لأعداء الله، والله إنّك لتعلم أنّ عليّاً (عليه السلام) لم يتريّب في الأمر، ولم يشكّ في الله طرفة عين، وايم الله لتنتهينّ يابن امّ عمرو أو لأنفذنّ حضنيك، بنوافذ أشدّ من الأقضية، أو لأقرعنّ جبينك بكلام، تبقى سمته عليك ما حييت، فإياك والا براز عليّ، فإني من قد عرفت، لست بضعيف الغميزة، ولا بهشّ المشاشة، ولا بمريء المأكلة، واني من قريشٍ كواسطة القلادة، يعرف حسبي، ولا أدعى لغير أبي وأنت تعلم ويعلم النّاس وتحاكمت فيك رجال قريش، فغلب عليك جزّارها: الأمهم حسباً وأظهرهم لؤماً، فإياك عني فإنك رجس، ونحن أهل بيت الطّهارة، أذهب الله عنّا الرّجس، وطهّرنا تطهيراً(30).

فأفحم عمرو واكتأب.

الحسن ومناوئوه(31)

ودخل الإمام الحسن (عليه السلام) على معاوية، فلمّا رآه قابله بحفاوة وتكريم، فاستاء مروان وقال له:-

- يا حسن، لولا حلم امير المؤمنين، وما قد بنى له آباؤه الكرام من المجد والعلا، ما أقعدك هذا المقعد، ولقتلك، وأنت له مستوجب بقودك الجماهير، فلما أحسست بنا، وعلمت أن لا طاقة لك بفرسان أهل الشام، وصناديد بني أميّة، أذعنت بالطّاعة، واحتجزت بالبيعة، وبعثت تطلب الأمان، أما والله لولا ذلك لأريق دمك، وعلمت أنّا نعطي السيوف حقّها عند الوغى، فاحمد الله إذ ابتلاك بمعاوية، فعفا عنك بحكمه، ثم صنع بك ما ترى!!.

فردّ عليه الإمام:-

ويحك يا مروان! لقد تقلّدت مقاليد العار في الحروب عند مشاهدتها والمخاذلة عند مخالطتها، نحن - هبلتك الهوابل!- لنا الحجج البوالغ، ولنا إن شكرتم عليكم النّعم السّوابغ، ندعوكم إلى النّجاة، وتدعوننا إلى النّار، فشتان ما بين المنزلتين، تفخر ببني امية، وتزعم أنهم صبر في الحروب، أسد عند اللّقاء، ثكلتك أمّك، اولئك البهاليل السّادة، والحماة الذّادة، والكرام القادة، بنو عبد المطّلب، أما الله لقد رأيتهم وجميع من في هذا البيت، ما هالتهم الأهوال، ولم يحيدوا عن الأبطال، كالليوث الضّارية الباسلة الحنقة، فعندها وليّت هارباً، وأخذت أسيراً، فقلدت قومك العار لأنك في الحروب خوّار، أيراق دمي زعمت؟!! أفلا أرقت دم من وثب على عثمان في الدّار، فذبحه كما يذبح الجمل؟ وأنت تثغو ثغاء النّعجة!! وتنادي بالويل والثّبور، كالأمة اللّكعاء، ألا دفعت عنه بيدٍ أو ناضلت عنه بسهم؟! لقد ارتعدت فرائصك!! وغشي بصرك، فاستغثت بي كما يستغيث العبد بربّه، فأنجيتك من القتل، ومنعتك منه، ثم تحثّ معاوية على قتلي؟ ولو رام ذلك معك لذبح كما ذبح ابن عفّان، أنت معه اقصر يداً، وأضيق باعاً، وأجبن قلباً من أن تجسر على ذلك، ثم تزعم أنّي ابتليت بحلم معاوية، أما والله لهو أعرف بشأنه، وأشكر لما وليّناه هذا الأمر، فمتى بداله، فلا يغضينّ جفنه على القذى معك، فوالله لأعقبن أهل الشام بجيش، يضيق عنه فضاؤها، ويستأصل فرسانها ثم لا ينفعك عند ذلك الهرب والزّوغان، ولا يردّ عنك الطلب تدريجك الكلام، فنحن من لا يجهل آباؤنا القدماء الأكابر، وفروعنا السادة الأخيار، انطق إن كنت صادقاً.

فقال ابن العاص مستهزئاً بمروان:-

ينطق بالخنا، وتنطق بالصّدق. ثم أنشأ يقول:-

قد يـــــضرط الـعيروالمكواة تأخذه          لا يضرط العـير والمكواة في النّار

ذُق وبال أمرك يا مروان.

وصاح معاوية بمروان:-

قد كنت نهيتك عن هذا الرجل، وأنت تأبي إلاّ انهماكاً فيما لا يعنيك، اربع على نفسك فليس أبوك كأبيه، ولا أنت مثله، أنت ابن الطريد الشريد، وهو ابن رسول الله الكريم، ولكن ربّ باحثٍ عن حتفه وحافرٍ عن مديته.

وانتفخت أوداج مروان غضباً وغيظاً، فاندفع نحو معاوية قائلاً:-

ارم من دون بيضتك، وقم بحجّة عشيرتك.

ثم التفت إلى ابن العاص:-

وطعنك أبوه، فوقيت نفسك بخصييك، فلذلك تحذره.

ثم قام وخرج حنقاً، فقال معاوية:-

لا تجار البحور فتغمرك، ولا الجبال فتبهرك.

الحسن ومناوئوه(32)

وفد الحسن بن عليٍّ عليهما السلام على معاوية، فحضر مجلسه واذا عنده مروان بن الحكم، والمغيرة بن شعبة، والوليد بن عقبة، وعتبة بن أبي سفيان، ففخر كلّ رجلٍ منهم على بني هاشم فوضعوا منهم، وذكروا أشياء ساءت الحسن (عليه السلام) وبلغت منه، فقال الحسن بن عليّ عليهما السلام:-

أنا شعبة من خير الشّعب، آبائي أكرم العرب، لنا الفخر والنّسب والسماحة عند الحسب، من خير شجرةٍ أنبتت فروعاً نامية، وأثماراً زاكية وأبداناً قائمة، فيها أصل الإسلام، وعلم النبوّة، فعلونا حين شمخ بنا الفخر واستطلنا حين امتنع منا العز، بحور زاخرة لا تنزف، وجبال شامخة لا تقهر.

فقال مروان:-

مدحت نفسك، وشمخت بأنفك، هيهات يا حسن، نحن والله الملوك السّادة، والأعزة القادة، لا ننحجز(33) فليس لك مثل عزّنا، ولا فخر كفخرنا. ثم أنشأ يقول:-

ستفــــنينا أنــفساً طابت وقورا          فنالـــــت عــــزّها فـــيمن يلينا

وأبــــنا بـــالغنيمة حيــــث أبنا          وأبنا بـــــالملوك مـــــقرّبــــينا

ثم تكلم المغيرة بن شعبة فقال:-

نصحت لأبيك فلم يقبل النّصح، لولا كراهية قطع القرابة، لكنت في جملة أهل الشّام، فكان يعلم أبوك أني أصدر الوراد عن مناهلها بزعارة قيس، وحلم ثقيفٍ وتجاربها للامور على القبائل.

فتكلّم الحسن (عليه السلام) فقال:-

يا مروان أجبناً وخوراً، وضعفاً وعجزاً؟ أتزعم أني مدحت نفسي وأنا ابن رسول الله وشمخت بأنفي، وأنا سيّد شباب أهل الجنّة؟ وإنّما يبذخ ويتكبّر ويلك - من يريد رفع نفسه، ويتبجّح من يريد الإستطالة، فأما نحن فأهل بيت الرّحمة، ومعدن الكرامة، وموضع الخيرة، وكنز الإيمان، ورمح الإسلام، وسيف الدّين، ألا تصمت ثكلتك أمّك، قبل أن أرميك بالهوائل، وأسمك بميسمٍ تستغني به عن اسمك.

فأمّا إيابك بالنّهاب والملوك، أفي اليوم الّذي ولّيت فيه مهزوماً وانحجزت مذعوراً، فكانت غنيمتك هزيمتك، وغدرك بطلحة حين غدرت به فقتلته، قبحاً لك، ما أغلظ جلدة وجهك!

فنكس مروان رأسه، وبقي المغيرة مبهوتاً، فالتفت إليه الحسن (عليه السلام) فقالك-

[يا] أعور ثقيف! ما أنت من قريشٍ فأفاخرك، أجهلتني يا ويحك وأنا ابن خير الآباء، وسيدة النّساء، غذّانا رسول الله بعلم الله تبارك وتعالى، فعلّمنا تأويل القرآن ومشكلات الأحكام، لنا العزة الغلباء، والكلمة العلياء، والفخر والسناء، وأنت من قومٍ لم يثبت لهم في الجاهلية، نسب، ولا لهم في الإسلام نصيب، عبد آبق ماله والافتخار عند مصادمة الليّوث، ومجاحشة، الأقران، نحن السّادة، ونحن المذاويد القادة، نحمي الذّمار، وننفي عن ساحتنا العار، وانا ابن نجيبات الأبكار.

ثمّ أشرت - زعمت بخير وصيّ خير الأنبياء؟ كان هو بعجزك أبصر، وبخورك أعلم، وكنت للردّ عليك منه أهلاً، لو غرّك في صدرك وبدو الغدر في عينك، هيهات لم يكن ليتّخذا المضلّين عضداً(34) وزعمت لو أنّك كنت بصفّين بزعارة قيس، وحلم ثقيف، فيماذا ثكلتك أمّك! أبعجزٍ عند المقامات، وفرارك عند المجاحشات؟ أما والله لو التفّت عليك من أمير المؤمنين الأشاجع، لعلمت أنه لا يمنعه منك الموانع، ولقامت عليك المرنات الهوالع.

وأمّا زعارة قيس، فما أنت وقيساً؟ إنما أنت عبد آبق، فتسمّى ثقيفاً(35) فاحتل لنفسك من غيرها، فلست من رجالها، أنت بمعالجة الشّرك، وموالج الزرائب، أعرف منك بالحروب، فأيّ الحلم عند العبيد القيون.

ثم تمنّيت لقاء أمير المؤمنين (عليه السلام) فذاك من قد عرفت، أسد باسل، وسمّ قاتل، لا تقاومه الأبالسة، عند الطّعن والمخالسة، فكيف ترومه الضّبعان، وتناوله الجعلان بمشيتها القهقرى، وأمّا وصلتك فمنكولة(36) وقرابتك فمجهولة، وما رحمك منه، إلا كنبات الماء من خشفان الظبّا، بل أنت أبعد منه نسبئاً.

فوثب المغيرة، والحسن (عليه السلام) يقول:-

عذرنا من بني أميّة أن تجاورنا بعد مناطقة القيون، ومفاخرة العبيد.

فقال معاوية:-

ارجع يا مغيرة! هؤلاء بنو عبد مناف، لا تقاومهم الصّناديد، ولا تفاخرهم المذاويد.

ثم أقسم على الحسن (عليه السلام) بالسكوت، فسكت.

الحسن على لسانه(37)

بعد ما انتهى الصلح بين الإمام الحسن ومعاوية، كان الإمام - ذات يومٍ - جالساً في مجلس معاوية، فقال له: يا حسن! اصعد المنبر واذكر فضلنا، فصعد الإمام المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وصلّى على النبيّ محمد وآله، ثم قال:-

من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا الحسن ابن رسول الله، أنا ابن البشير النّذير، أنا ابن المصطفى بالرسالة، أنا ابن من صلّت عليه الملائكة، أنا ابن من شرفت به الأمّة، ابن من كان جبرئيل السفير من الله إليه، أنا ابن من بعث رحمةً للعالمين (صلى الله عليه وآله أجمعين).

فلم يقدر معاوية، أن يكتم عداوته وحسده، فقال: يا حسن عليك بالرّطب فانعته لنا. قال: نعم يا معاوية، الريح تلقحه، والشمس تنفخه، والقمر يلوّنه، والحرّ ينضجه، والليل يبرده.

ثم أقبل على منطقه فقال: أنا ابن المستجاب الدّعوة، أنا ابن من كان من ربّه كقاب قوسين أو أدنى، أنا ابن الشفيع المطاع، أنا ابن مكّة ومنى، أنا ابن من خضعت له قريش رغماً، أنا ابن من سعد تابعه وشقي خاذله، أنا ابن من جعلت الأرض له طهوراً ومسجدا، أنا ابن من كانت أخبار السماء إليه تترى، أنا ابن من أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيرا. فقال معاوية: أظنّ نفسك يا حسن تنازعك إلى الخلافة؟ فقال: ويلك يا معاوية! إنّما الخليفة من سار بسيرة رسول الله وعمل بطاعة الله، ولعمري إنّا لأعلام الهدى ومنار التّقى، ولكنك يا معاوية ممّن أباد السّنن وأحيا البدع، واتّخذ عباد الله خولا، ودين الله لعباً، فكان قد أخمل ما أنت فيه فعشت يسيراً وبقيت عليك تبعاته.

يا معاوية، والله لقد خلق الله مدينتين، إحداهما بالمشرق والأخرى بالمغرب أسماهما: جابلقا وجابلسا، مابعث الله إليهما أحداً غير جدّي رسول الله.

فقال معاوية: يا أبا محمّدٍ أخبرنا عن ليلة القدر. قال: نعم عن مثل هذا فاسأل، إنّ الله خلق السماوات سبعاً والأرضين سبعاً، والجنّ من سبع، والانس من سبع، فتطلب من ليلة ثلاثٍ وعشرين إلى ليلة سبعٍ وعشرين، ثم نهض (عليه السلام) من المنبر فنزل.

الحق أبلج(38)

إنّ معاوية قصد يثرب، فلمّا انتهى إليها رأى حفاوة الناس بالإمام الحسن، وإكبارهم له، فساءه ذلك، فاستدعى أبا الأسود الدّؤلي والضّحّاك ابن قيسٍ الفهري، ولما مثلا عنده، استشارهما في أمر الحسن، وان يوصمه بشيءٍ ينقصه في أعين النّاس، فأشار عليه أبو الأسود بالتّرك قائلاً:-

رأي أمير المؤمنين أفضل، وأرى ألاّ يفعل، فإنّ أمير المؤمنين لن يقول فيه قولاً إلا أنزله سامعوه منه به حسداً، ورفعوا به صعداً، والحسن يا أمير المؤمنين معتدل شبابه، احضر ماهو كائن جوابه، فأخاف أن يردّ عليك كلامك بنوافذ تردع سهامك، فيقرع بذلك ظنبوبك، ويبدي به عيوبك، فإذن كلامك فيه صار له فضلاً وعليك كلاّ، إلا أن تكون تعرف له عيباً في أدب، أو وقيعةً في حسب، وإنّه لهو المهذّب، قد أصبح من صريح العرب، في عزّ لبابها وكريم محتدها، وطيب عنصرها فلا تفعل يا أمير المؤمنين.

ولكنّ الضّحّاك بن قيس أشار على معاوية بالوقيعة فيه قائلاً:-

امض يا أمير المؤمنين فيه برأيك، ولا تنصرف عنه بدائك، فإنّك لو رميته بقوارص كلامك ومحكم جوابك، لذلّ لك كما يذلّ البعير الشّارف من الإبل.

واستصوب معاوية رأي الضحّاك، فلما كان يوم الجمعة صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على نبيّه، ثم ذكر أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبٍ (عليه السلام)، فانتقصه وكان ممّا قال:-

أيّها النّاس، إنّ صبيةً من قريشٍ ذوي سفهٍ وطيش، وتكدّرٍ من عيش، أتعبتهم المقادير، فاتخذ الشيطان رؤوسهم مقاعد، وألسنتهم مبارد، فباض وفرّخ في صدورهم، ودرج في نحورهم، فركب بهم الزّلل، وزيّن لهم الخطل، وأعمى عليهم السّبل، وأرشدهم إلى البغي والعدوان، والزّور والبهتان، فهم له شركاء وهو لهم قرين (ومن يكن الشّيطان له قريناً فساء قرينا) وكفى لهم مؤدّباً، والمستعان الله.

فوثب إليه الإمام الحسن (عليه السلام) قائلاً:-

أيّها النّاس!

من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن عليّ بن أبي طالب، أنا ابن نبيّ الله، أنا ابن من جعلت له الارض مسجداً وطهورا أنا ابن السّراج المنير، أنا ابن البشير النّذير، أنا ابن خاتم النّبيين وسيّد المرسلين، وإمام المتّقين، ورسول ربّ العالمين. أنا ابن من بعث رحمةً للعالمين.

وشقّ على معاوية كلام الإمام، فأراد أن يقطعه فقال له: يا حسن عليك بصفة الرّطب. فقال (عليه السلام):-

الريح تلقحه، والحرّ ينضجه، والليل يبرده ويطيبه على رغم أنفك يا معاوية.

ثم استرسل (عليه السلام) في كلامه فقال:-

أنا ابن مستجاب الدّعوة، أنا ابن الشفيع المطاع، أنا ابن أوّل من ينفض رأسه من التّراب، ويقرع باب الجنّة، أنا ابن من قاتلت الملائكة معه ولم تقاتل مع نبيٍّ قبله، أنا ابن من نصر الأحزاب، أنا ابن من ذلّت له قريش رغماً.

وغضب معاوية فصاح:-

أما إنك تحدّث نفسك بالخلافة.

فأجابه الإمام (عليه السلام):-

امّا الخلافة فلمن عمل بكتاب الله وسنّة نبيه، وليست الخلافة لمن خالف كتاب الله وعطّل السّنّة، إنما مثل ذلك مثل رجل أصاب ملكاً فتمتّع به، وكأنه انقطع عنه وبقيت تبعاته عليه.

وراوغ معاوية فقال:-

ما في قريشٍ رجل إلاّ ولنا عنده نعم جزيلة ويد جميلة.

فردّعليه الإمام قائلاً:-

بلى، من تعزّزت به بعد الذّلّة، وتكثّرت به بعد القلّة.

فقال معاوية:-

من اولئك يا حسن؟

وردّ عليه الإمام:-

من يُلهيك عن معرفتهم.

ثم استمرّ (عليه السلام) في كلامه:-

أنا ابن من ساد قريشاً شاباً وكهلا، أنا ابن من ساد الورى كرماً ونبلاً، أنا ابن من ساد أهل الدّنيا بالجود الصّادق، والفرع الباسق والفضل السّابق، أنا ابن من رضاه رضى الله وسخطه سخطه، فهل لك أن تساميه يا معاوية؟

فقال معاوية: أقول لا، تصديقاً لقولك.

فقال الحسن: الحقّ أبلج والباطل لجلج، ولم يندم من ركب الحقّ وقد خاف من ركب الباطل، (والحقّ يعرفه ذوو الألباب).

فقال معاوية على عادته من المراوغة: لا مرحباً بمن ساءك(39)!

نحن المغبوطون(40)

خطب الحسن عائشة بنت عثمان. فقال مروان: أزوّجها عبد الله ابن الزّبير، ثم إنّ معاوية كتب إلى مروان، وهو عامله على الحجاز يأمره أن يخطب أمّ كلثوم بنت عبد الله بن جعفرٍ لابنه يزيد. فأبى عبد الله بن جعفر، فأخبره بذلك فقال عبد الله: إنّ أمرها ليس إليّ إنما هو إلى سيّدنا الحسن، وهو خالها، فأخبر الحسن بذلك فقال: أستخير الله تعالى: اللهم وفّق لهذه الجارية رضاك من آل محمّد، فلما اجتمع الناس في مسجد رسول الله أقبل مروان حتى جلس إلى الحسن (عليه السلام)، وعنده من الجلّة وقال: إنّ أمير المؤمنين معاوية، أمرني أن أخطب زينب بنت عبد الله بن جعفر، ليزيد بن معاوية، وان أجعل مهرها حكم أبيها بالغاً ما بلغ مع صلح ما بين هذين الحيّين، مع قضاء دينه، واعلم انّ من يغبطكم بيزيد اكثر مّمن يغبطه بكم، والعجب كيف يستمّهر يزيد، وهو كفو من لاكفو له، وبوجهه يستسقى الغمام، فردّ خيراً يا أبا محمّد. فقال الحسن (عليه السلام):

الحمد لله الذي اختارنا لنفسه، وارتضانا لدينه، واصطفانا على خلقه.. يا مروان قد قلت فسمعنا، أما قولك: مهرها حكم أبيها بالغاً ما بلغ، فلعمري لو أردنا ذلك ما عدونا سنّة رسول الله في بناته ونسائه وأهل بيته: وهو اثنتا عشرة أوقيةً يكون أربعمائة وثمانين درهماً.

وأما قولك: مع قضاء دين أبيها، فمتى كان نساؤنا يقضين عنّا ديوننا.

وأما صلح ما بيه هذين الحيّين، فإنّا قوم عادينا كم لله وفي الله، ولم نكن نصالحكم للدّنيا، فلعمري فلقد أعيى النسب فكيف السّبب.

وأمّا قولك: العجب ليزيد كيف يستمهر؟ فقد استمهر من هوخير من يزيد، ومن أب يزيد، ومن جدّ يزيد.

وأمّا قولك: إن يزيد كفو من لا كفو له، فمن كان كفوه قبل اليوم فهو كفوه اليوم، مازادته إمارته في الكفاية شيئاً.

وأمّا قولك: بوجهه يستسقى الغمام، فإنّما كان ذلك بوجه رسول الله.

وأمّا قولك: من يغبطنا به اكثر ممّن يغبطه بنا، فإنّما يغبط به أهل الجهل ويغبطه بنا أهل العقل. ثم قال بعد كلام: فاشهدوا جميعاً أني قد زوّجت أمّ كلثوم بنت عبد الله بن جعفرٍ من ابن عمّها القاسم بن محمّد بن جعفرٍ على أربعمائة وثمانين درهماً، وقد نحلتها ضيعتي بالمدينة، أو قال: أرضي بالعقيق وإنّ غلّتها في السّنة ثمانية آلاف دينار، ففيها لهما غنى إن شاء الله.

فتغيّر وجه مروان وقال: أغدراً يا بني هاشمٍ تأبون إلا العداوة.

فذكّره الحسين خطبة الحسن عائشة وفعله. ثم قال" فأين موضع الغدر يامروان؟

فقال مروان:

أردنــــا صـــــهركم لنــــجدّ ودّاً          قد اخلــــقه بـــه حدث الزّمان

فـــــلمّا جئــــتكم فجبــــهتموني          وبحــــتم بالضمير من الشّنان

فأجابه ذكوان مولى بني هاشم:

أمـــاط الله مــــنهم كــلّ رجسٍ          وطــــهّرهم بذلك فـــي المثاني

فــــما لهــــم سـواهم من نظيرٍ          ولا كــــفؤ هــــناك ولا مــداني

أيجــــعل كــــلّ جــــبارٍ عنــــيدٍ          إلى الأخــــيار مـن أهل الجنان

لــــشد مــــا عـــــلوت به(41)

دخل الإمام الحسن يوماً على معاوية، فقال له:

يا حسن! أخير منك!!.

فقال الإمام:

وكيف ذاك يا بن هند؟

فقال معاوية:

لأنّ الناس قد أجمعوا عليّ، ولم يجمعوا عليك..

فقال الإمام:

هيهات: الشرّ ما علوت به يابن آكلة الأكباد، المجتمعون عليك رجلان، بين مطيعٍ ومكره، فالطائع لك عاصٍ لله، والمكره معذور بكتاب الله، وحاشا الله أن اقول: أنا خير منك لأنّك لا خير فيك، فان الله قد برّأني من الرّذائل، كما برّأك من الفضائل.

ملكنا وملككم(42)

إنّ الحسن بن عليٍّ عليهما السلام مرّ في مسجد رسول الله بحلقةٍ فيها قوم من بني أميّة، فتغامزوا به، وذلك عندما تغلّب معاوية على ظاهر أمره، فرآهم وتغامزهم به، فصلّى ركعتين ثم قال: (قد رأيت تغامزكم، أما والله لا تملكون يوماً إلا ملكنا يومين، ولا شهراً إلا ملكنا شهرين، ولا سنةً إلا ملكنا سنتين، وإنّا لنأكل في سلطانكم، ونشرب ونلبس وننكح ونركب، وأنتم لا تأكلون في سلطاننا ولا تشربون ولا تنكحون).

فقال له رجل: فكيف يكون ذلك يا أبا محمّد؟ وأنتم أجود الناس وأرأفهم وارحمهم، تأمنون في سلطان القوم، ولا يأمنون في سلطانكم؟

فقال: لأنّهم عادونا بكيد الشّيطان، وكيد الشّيطان ضعيف، وعاديناهم بكيد الله، وكيد الله شديد.

ران على قلوبهم

لقي الإمام الحسن (عليه السلام) حبيب بن سلمة الفهريّ في الطّواف - وكان من أتباع معاوية - فقال له الإمام: يا حبيب! ربّ مسيرٍ لك في غيرطاعة الله، فقال حبيب مستهزئاً به: أمّا مسيري من أبيك فليس من ذلك، فقال له الإمام: بلى والله، ولكنّك أطعت معاوية على دنيا قليلةٍ زائلة، فلئن قام بك في دنياك (فـ) لقد قعد بك في آخرتك، ولو كنت إذ فعلت قلت خيراً، كان ذلك كما قال الله تعالى: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيّئاً)(43).

ولكنّك، كما قال الله سبحانه: (كلاّ بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون(44)).

ابليس شارك أباك(45)

عن ابن عبّاسٍ في قوله تعالى: (وشاركهم في الأموالٍ والأوّلاد)(46) أنّه جلس الحسن بن عليّ، ويزيد بن معاوية بن أبي سفيان يأكلان الرّطب، فقال يزيد: يا حسن! اني مذكنت أبغضك، قال الحسن:

اعلم يا يزيد! أنّ إبليس شارك أباك في جماعة، فاختلط الماءان فأورثك ذلك عداوتي، لأنّ الله تعالى يقول: (وشاركهم في الأموال والأولاد)، وشارك الشيطان حرباً عند جماعة، فولد له صخر، فلذلك كان يبغض جدّي رسول الله.

بل اراد الغدر(47)

قال معاوية ذات يوم: لا ينبغي ان يكون الهاشميّ غير جواد، ولا الأمويّ غير حليم، ولا الزّبيريّ غير شجاع، ولا المخزوميّ غير تيّاه. ونقل كلامه إلى الإمام الحسن (عليه السلام) فقال:-

قاتله الله! أراد ان يجود بنو هاشمٍ فينفذ ما بأيديهم، ويحلم بنو أمية فيتحبّبوا إلى النّاس، ويتشجّع إلى الزبير فيفنوا، ويتيه بنو مخزومٍ فيبغضهم النّاس.

الشاتم علياً(48)

انت الشاتم علياً عند آكلة الأكباد؟ أما والله لئن وردت الحوض ولا ترده، لترينّه مشمّراً عن ساقيه، حاسراً عن ذراعيه، يذود عنه المنافقين.

انا ابن النبي(49)

ايها النّاس! من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فسأبيّن له نفسي، بلدي مكّة ومنى، وانا ابن المروة والصّفا، وانا ابن النّبيّ المصطفى، وانا ابن من علا الجبال الروّاسي، وأنا ابن من كسا محاسن وجهه الحّياء، أنا ابن فاطمة سيّدة النّساء، انا ابن قليلات العيوب نقيّات الجيوب.

واذّن المؤذّن فقال: اشهد أن لا إله إلا الله، اشهد أنّ محمداً رسول الله، فقال لمعاوية:

محمد أبي أم أبوك؟ فان قلت ليس بأبي فقد كفرت، وإن قلت نعم فقد أقررت، ثم قال:

أصبحت قريش تفتخر على العرب بأن محمّداً منها، وأصبحت العرب تفتخر على العجم بأنّ محمداً منها، وأصبحت العجم تعرف حقّ العرب بأنّ محمّداً منها، يطلبون حقّنا، ولا يردّون إلينا حقّنا.

 

1 - الاحتجاج: روي عن الشعبي، وابي مخنف، ويزيد بن ابي حبيب المصري: انهم قالوا:..

2 - هكذا في النسخ والمصدر ص - 138. وقد صححه في الأصل المطبوع هكذا: واستملاك الامة، وليس بشيء.

3 - هذه القصة انما جرت بخيبر لا في حصار بني قريظة، ولعله من خطأ الرواة.

4 - المائدة: 87.

5 - اشارة إلى قوله تعالى في الاحزاب: 26 (ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً، وكفى الله المؤمنين القتال..) وهذا في غزوة الاحزاب. واما الثانية من السورتين، فكأنه اراد قوله تعالى: في الفتح: 24: (وهو الذي كف ايديهم عنكم وايديكم عنهم ببطن مكة - إلى قوله تعالى - هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام..) الآية. وهذا في الحديبية.

وكيف كان ففي الحديث اضطراب واضح، حيث ان اباسفيان، وعيينة بن حصن كانا في حنين مسلمين وقد اعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم كل واحد منهما مائة بعير من الفيء تاليفاً لقلبيهما وقد كان لعيينة بن حصن في اخذ عجوز من عجائز هوازن سهماً من الغنيمة شأن من الشأن، راجع سيرة ابن هشام ج 2 - 490 - 493.

6 - الفتح 25.

7 - ذكره ابن عبد البر، في الاستيعاب بذيل الاصابة ج 4 - ص 87.

8 - فيه غرابة حيث أنه كان للحسين (عليه السلام) حين ولي عثمان الخلافة اكثر من عشرين سنة، فكيف اجتره ابو سفيان؟ وكيف نتريده؟ وكيف كان يهلك لولا النعمان بن بشير؟.

9 - اخفضوا اقوالكم) خ ل. اخرجه الحاكم بالاسناد إلى علي (عليه السلام) وهكذا ابي ذر وابي سعيد الخدري، وصححه راجع مستدرك الحاكم ج 4 - ص 480.

10 - سورة السجدة آية 18.

11 - سورة الحجرات آية 6.

12 - الامالي المجلس 74 الرقم 4.

13 - الغاشية آية 3.

14 - ما بين العلامتين لا يناسب عتبة بن أبي سفيان وهو اخو معاوية لأبويه، وانما يناسب الوليد بن عقبة أخا عثمان بن عفان لأمه أروى بنت كريز، والحكم بن أبي العاص طريد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، ولعينه عم عثمان حقيقة. وعم الوليد بن عقبة بهذا السبب، والظاهر انه من اضطراب في الرواية.

15 - الظاهر جعل الثلاثة الاخيرة واحداً حتى يصح (فبأي الثلاثة).

16 - الانبياء آية 111.

17 - الإسراء ىية 16.

18 - النور آية 26.

19 - فهلاظ.

20 - الاسراء آية 60.

21 - راجع الاحتجاج ص 137 - 143، وقد نقل القصة بنحو آخر في تذكرة خواص الامة لسبط ابن الجوزي ص 114 - 116 واسندها إلى اهل السير، ثم شرح غريب ألفاظها من 116 - 119.

ونقل كثيراً من مثالب هؤلاء عن كتاب المثالب لهشام بن محمد الكلبي فراجع (البحار ج 44 - ص 70 - 86. الطبعة الحديثة).

22 - حياة الإمام الحسن ج 2- 271 - 276 .

23 - ويروى: رمين بالأبعار.

24 - هكذا جاء في الاصل، والاصح: ولكن كيف تساوينا.

25 - (أ) المحاسن والمساوىء للبيهقي ج 1 - ص 58 - 61.

(ب) المحاسن والأضداد للجاحظ، ص 92 - 94.

(ج) حياة الإمام الحسن ج 2 - ص 277 - 279.

26 - البحار ج 44 - ص 105 - 106 محمد باقر المجلسي.

27 - الزيادة من المصدر ج 4 - ص 23.

28 - فقد أشرعت في المنايا أكفها: ظ وما في الصلب مطابق للاصل والمصدر.

29 - (أ) البحار ج 44 - ص 102 - 103 محمد باقر المجلسي.

(ب) حياة الإمام الحسن ج 2- ص 281 - 283، عن مناقب بن شهر آشوب والعقد الفريد.

30 - شرح ابن ابي الحديد ج / 4 ص/ 10 المحاسن والمساوىء ج /1 ص/ 65،.

31 - (أ) المحاسن والمساوىء للبيهقي ج 1- ص 63 - 65.

32 - (أ) البحار ج 44 ص 93 - 95، محمد باقر المجلسي.

(ب) الاحتجاج للطبرسي.

33 - في المصدر ص 144: (لا ننحجن) ومعنى الانحجان: الانعطاف والاعوجاج، ولكن الاظهر ما اختاره المصنف صاحب البحار - رضوان الله عليه - حيث يجيء في كلامه (عليه السلام) رداً على مروان: (وانحجزت مذعوراً).

34 - لما قتل عثمان وبايع الناس علياً، دخل المغيرة بن شعبة فقال: يا امير المؤمنين ان لك عندي نصيحة، قال: وماهي؟ قال: ان اردت ان يستقيم لك الامر فاستعمل طلحة بن عبيد الله على الكوفة، والزبير بن العوام على البصرة، وابعث معاوية بعده على الشام حتى تلزمه طاعتك، فاذا استقرت لك الخلافة فأدركها كيف شئت برأيك، فلم يقبل (عليه السلام) عنه ذلك، وقال: ان اقررت معاوية على ما في يده، كنت متخذ المضلين عضدا. راجع الاستيعاب بذيل الاصابة ج 3- ص 271.

35 - في المصدر: (عبد آبق فثقف) وكلاهما بمعنى.

36 - في المصدر ص 144: (واما وصلتك فمنكورة).

37 - تحف العقول.

38 - مقتل الحسين للخوارزمي ج 1 - ص 125.

الإمام الحسن - م (11)

39 - ومن الملحوظ: ان في هذا الحديث وما سبق تشابه كثير، ولكن اثبتناهما معاً لما فيهما من اختلاف.

40 - مناقب ابن شهر آشوب ج/3- ص/199 - 200 عبد الملك بن عمير والحاكم، والعباس: انهم قالوا:

41 - روضة الواعظين لأبي عليّ النيسابوريّ.

42 - مناقب آل أبي طالب ج 4 - ص 8، عن اسماعيل بن أبان باسناده..

43 - سورة التوبة: 102.

44 - سورة المطففين: 13.

45 - كتاب الشيرازي: روى سفيان الثوري، عن واصل، عن الحسن:..

46 - الاسراء: 64.

47 - عيون الاخبار لابن قتيبة ج/1-ص/ 196.

48 - أعيان الشيعة ج 4- ق 1- ص 28 قاله (عليه السلام) لمعاوية بن خديج عندما رآه خارجاً من دار عمرو بن حريث.

49 - المناقب لابن شهر آشوب ج 4 - ص 12 عن المنهال بن عمرو: ان معاوية سأل الحسن (عليه السلام) أن يصعد المنبر وينتسب، فصعد فحمد الله واثنى عليه، ثم قال:..