الصفحة 152
فأما أصحابه فقد أوصاهم (عليه السلام) مراراً بالصبر والتسلُّح به في مواجهة
النوائب والمحن ، والصبر على حدِّ السيف وطعن الاسنَّة وعلى أهوال الحرب.
وكما لا يخفى أن هذا ليس بالامر السهل إذ أن مواجهة ذلك يحتاج إلى التدرُّع بالصبر
والحزم ، وعدم الجزع من أهوال المعركة والثبات عند القتال ، وعدم الاستسلام أو
الانهزام ، فإذا ما تسلح المقاتل بالصبر كان في قمة المواجهة ، لا يبالي بما يلاقيه
وما يتعرَّض إليه من ألم السنان وجرح الطعان.
ولذا نادى - صلوات الله عليه - فيمن تبعه من الناس - في بعض المنازل - قائلاً لهم :
أيها الناسُ فمَنْ كان منكم يصبر على حدِّ السيف وطعن الاسنة فليقُمْ معنا وإلا
فلينصرف عنَّا (1).
فإذا كان المقاتل لاصبر له على ذلك كيف يثبت في ساحة القتال حينما يرى أهوال
المعركة إنّ هذا وأمثاله لا يؤمن منه الجزع ، فإما أن ينهزمَ أو يستسلم للاعداء.
وهنا لا ننسى تأكيد القرآن الكريم في هذا الجانب إذ حثّ المجاهدين في سبيل الله
تعالى على التحلَّي بالصبرو والثبات في ساحة القتال قال تعالى :
( يَاأيُّها
الَّذينَ آمنُوا اصبرُوا وصابروا وَرَابِطُوا ) (2) ، وقال تعالى :
( إِنْ يَكُنْ
مِنْكُم عِشرُونَ صَابُرونَ يَغْلِبُوا مِائَتَينِ ) (3) ، وقال تعالى : ( يَا
أَيُّها الَّذينَ آمَنُوا إِذَا
____________
(1) ينابيع المودة : ص338 ، كلمات الامام الحسين : ص348.
(2) سورة آل عمران : الاية 200.
(3) سورة الانفال : الاية 65.
الصفحة 153
لَقِيتُم فِئَةً فَاثْبُتُوا واذكَرُوُا اللهَ كثيراً لَّعَلَّكمُ تُفْلحِوُنَ )
(1)
ومن الواضح أن نجد الحسين عليه السلام في هذه الليلة ـ استعداداً للمواجهة ـ أن
يوصي أصحابه بذلك ويرغبهم في احتمال المكاره قائلا لهم : فإن كنتُم قد وطأتم أنفسكم
على ما قد وطأتُ عليه نفسي ، فاعلمُوا أن الله إنما يَهبُ المنازلَ الشريفةَ لعبادة
باحتمال المكاره ، وإن الله وإن كان قد خَصَّني مع مَنْ مضى من أهلي الذين أنا
آخِرهُم بَقاءً في الدُنيا من الكرامات ، بما سَهّل معها على احتمال الكريهات ،
فإنَّ لكم شطرَ ذلك من كرامات الله ، واعلموا أن الدُنيا حُلوها مرٌ ، ومرُّها
حُلوٌ ، والانتباه في الاخرة ، والفائزُ من فاز فيها والشقي من يشقى فيها
(2).
الامر الذي أثَّر في نفُوسهم وزاد في تَحمُّلهم ، حتى أوقفهم على غامض القضاء ،
وكَشف عن أبصارهم فرأوا منازلهم من الجنة وما حباهُم الله تعالى من النعيم.
كما أوصاهم (عليه السلام) بهذا أيضاً ونحوه بعد ما صلَّى بهم الغداةً قائلاً لهم :
إن الله تعالى أذنَ في قتلكم وقتلي في هذا اليوم ، فعليكم بالصبر والقتال
(3).
وكذلك لما رآهم وقد تناوشتهم السيوف وقف (عليه السلام) قائلاً لهم : صَبراً يا بَني
عُمومتي صبراً يا أهل بيتي ، لا رأيتُم هَواناً بعد هذا اليوم أبداً
(4).
وكذا يوصي غلاماً له وقد قطعت يده ، فضَمّهُ إليه قائلاً له : يا بن أخي اصبر
____________
(1) سورة الانفال : الاية 45.
(2) أسرار الشهادة للدربندي : ج2 ، ص223.
(3) كامل الزيارات لابن قولويه : ص73 ، بحار الانوار : ج45 ، ص86.
(4) مقتل الحسين للخوارزمي : ج2 ، ص27 ، بحار الانوار : ج45 ، ص36.
الصفحة 154
على ما نَزلَ بك واحتسب في ذلك الخير (1).
وفي رواية أنه لما قتل الطفل الرضيع وضع (عليه السلام) كفيه تحتَ نحره قائلاً له :
يا نفس اصبري ، واحتسبي فيما أصابَكِ (2).
وأما أهل بيته وعياله فقد أوصاهم ـ صلوات الله عليه ـ غير مرة بالصبر والتقوى وعدم
الجزع ، وتحمل المتاعب في سبيل الله تعالى والتوكل عليه ، والقيام بالمسئولية على
أحسن حال.
ومن وصاياه لهم : ولا بدّ أن تروني على الثرى جديلاً ، ولكن أُوصيكم بالصبر والتقوى
، وذلك أخبر به جدكم ولا خُلف لوعده ، وأسلمُكم على من لو هتك الستر لم يستره أحد
(3).
ومن وصاياه أيضاً (عليه السلام) لاخته زينب ـ عليها السلام ـ وذلك حينما رآها وقد
أثّر عليلها ألمُ المُصاب وحرارةُ الفراق ، أوصاها قائلاً :
يا أختاه تعزي بعزاء الله وارضي بقضاء الله (4)
يا أخية لا يذهبنَّ حلمَك الشيطان ...
يا أُخية اتقّي اللهَ وتعزّي بعزاءِ الله ، واعلمي أن أهل الارض يَموتون وأن أهل
السماء لا يبقون ، وأن كلَ شيء هالكٌ إلا وجْهَ اللهِ الذي خلقَ الارض بقُدرتهِ ،
ويبعث الخلقَ فيعودون وهو فردٌ وحدَه ، أبي خيرٌ مني وأمي خيرٌ مني واخي خير مني
ولي وَلهُم ولكل مُسلم برسولِ الله أسوةٌ.
____________
(1) وقعة الطف : ص254 ، الارشاد للشيخ المفيد : ص241.
(2) تظلم الزهراء : ص203 ، معالي السبطين : ج1 ، ص423.
(3) أسرار الشهادة : ج2 ، ص222.
(4) مقتل الحسين للخوارزمي : ج1 ، ص238.
الصفحة 155
قال : فعزّاها بهذا وَنحوهِ ، وقال لها : يا أخيّةُ إني أقسمُ عليك فأبرِّي قسمي ،
لا تشُقي عليَّ جَيباً ولا تخمشي عليَّ وَجهاً وَلا تدعي عليَّ بالويل والثبور إذا
أنا هلكت (1).
وفي رواية ثم قال (عليه السلام) : يا اُختاه يا أمَّ كلثوم وأنت يا زينب وأنت يا
فاطمة وأنت يا رباب إذا أنا قُتلت فلا تَشققنَّ عليَّ جيباً ، ولا تخمشن عليَّ
وجهاً ، ولا تقلن هجراً(2).
وقد أخذ (عليه السلام) في وصاياه يؤكد عليهنَّ بالصبر على الاحداث الاليمة ،
والتجلد في المواقف الرهيبة والكوارث الاليمة ، وأن يتمالكن أنفسَهُنّ حين يَرينهُ
صريعاً مُجدلاً.
وخصوصاً أخته زينب (عليها السلام) والتي حَمّلها مسؤليةَ حفظ الحرم والاطفال ، وقد
أكّدَ عليها كثيراً بالصبر والتجلد لكي تقوم بالمسؤلية ، ولتؤدي وظيفتها على أحسن
حال في حفظ ورعاية العيال والاطفال ، الذين ليس لهم مُحام ومدافع سواها ، ولكي
تُشاطرَهُ في مهمته ، ولئلا يَغلب عليها الاسى في إبلاغ حجته ، وإتمام دعوته ،
خصوصاً في المواقف الحرجة الاليمة في الكوفة والشام.
وَكلُّ هذا التأكيد عليها في وصاياه لها (إعلامٌ لها بتحمُّل المسؤولية وأن تكون
أمام الكوارث المقبلة كالجبل الاشم ، والصخرة الصماء ، تتكسر عليها كل عوامل الذلة
والانكسار ، ولا تستولي عليها دوافع الضعف ، وعوامل الانهيار ، وأن تتأسى بجدها
رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، وتتعزى بعزاء الله.
إنه عبءٌ ثقيل في تحمُّل مسؤولية الكفاح المتواصل لربط الثورة بأهدافها
____________
(1) تاريخ الطبري : ج4 ، ص319 ، الإرشاد للمفيد : ص232.
(2) اللهوف : ص36.
الصفحة 156
المتوقعة وعواملها المنتظرة ، وقد تجسدت لها الحوادث بعد أن أطلعها الحسين على كثير
من مهماتِها ، وَفتحَ أمامَها نوافذَ مهمة مَهّدَ لها طُرقَ التسلية عما تلاقيه
فيها من بلاء وما تصطدم بها من نكبات.
ولقد كانت على موعد مع هذا الحدث العظيم ، حدثتها اُمها فاطمة الزهراء عليها السلام
وسمعت من أبيها علي (عليه السلام) ، ما يدل على وقوع ذلك ، وكما لمّح لها أخوها
الحسن عليه السلام بآثار الفاجعة ، وصرّح لها الحسين (عليه السلام) بدنو ما كانت
تخشاه ، وحلول ما كانت تتوقعه.
ولقد تحملت مسؤولية إتمام الرسالة التي قام بها الحسين (عليه السلام) فأوضحت للعالم
عواملَ الثورة ، فنبهت الغافل ، وفضحت تلك الدعايات المُضلِلة ، لقد مَثّلت زينب
عليها السلام دورَ البطولة في ميدان الجهاد ، وثبتت أمام المحن والمكاره ، ثبوتَ
الجبلِ أمامَ العواصف ، واحتسبت ما أصابها من بلاء في جنب الله ، طلباً لمرضاته
وجهاداً في سبيله ، وإعلاءً لكلمته. لقد أدت واجبها في ساعة المحنة ، فهي تسلي
الثاكل وتُصبر الطفل ، وتُهدىءُ روعَ العائلة.
وانظر إلى موقفها كيف وقفت أمام مجتمع الكوفة فحملتهم مسؤولِيةَ هذه الجريمة الكبرى
، ووسمتهُم بالذُلِ وألبستهم العار ، وكيف قابلت يزيد الماجن المستتر الطائش ،
فأوضحت للملا الحادَه وكفرَه ، وسلبتهُ مواهب التفكير ، فوقف أمام قوة الايمان موقف
ذلة وانكسار ، فكان النصرُ حليفَها ولا زال إلى الابد ) (1).
وتشاطرت هي والحسينُ بدعوة حتــمَ القضــاءُ عليهما أن يُندبا
هذا بمشتبك النصولِ وهــذه في حيث مُعترك المكاره في السبا(2)
____________
(1) مع الحسين في نهضته لأسد حيدر : ص202 بتصرف.
(2) للعلامة المرحوم ميرزا محمد علي الاوردبادي نور الله ضريحه.
الصفحة 157
ج ) لا إكراه على المناصرة
ومما اتسمت به أخلاق أهل البيت (عليهم السلام) في تعاملهم مع الاخرين أنهم لا
يفرضون أنفسهم عليهم بالغلبة والقوة ، بل يتركون لهم حرية اتخاذ القرار بأنفسهم.
كما نجد هذا واضحاً في سيرة أمير المؤمنين (عليه السلام) مع أصحابه ومَنْ حوله ،
فلم يقسر أحداً على موالاته ، أو على صحبته أو بيعته ، فإن هناك من تخلف عن بيعته ،
ولم يجبر أحداً منهم على ذلك ، ولم يمنعهم عطاءهم.
ناهيك عن موقف الزبير وطلحة تجاهه ـ وذلك حينما أرادا الانصرافَ عنهُ ، استأذناه في
الذهاب إلى العُمرة ، مع علمه (عليه السلام) بما يضمراه له من سوء ، فلم يمنعهما من
الانصراف بل أذن لهما ، مع علمه أيضاً أنهما سوف يؤلبان الناس عليه.
ولما خرجا قال (عليه السلام) لاصحابه : والله ما يريدان العمرة وإنما يريدان الغدرة
(1) فتركهما وشأنهما فكانت مكافأتهما له عداوته وجر الناس إلى حربه.
وغيرهما ممن تركه وانصرف عنه كالذين انصرفوا عنه إلى معاوية بن أبي سفيان في جنح
الليل ، وقد كان قادراً على منعهم وردهم إلا أنه ترك لهم حرية الرأي وتحديد المصير
، وإن كان على خلاف ما يريد ويهوى مالم يستلزم من ذلك محذوراً آخر يقتضي خلاف ذلك.
نعم لا ينافي هذا أنهم(عليهم السلام) يُرشدون أمثال هؤلاء إلى طريق الحق ، كما لا
____________
(1) بحار الانوار : ج32 ، ص25 ، ح8 ، ب1 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج1 ،
ص232.
الصفحة 158
يدخرون وسعاً في إيقاظهم وتوعيتهم وهدايتهم ، إن كان هؤلاء أهلاً لذلك ، وإلا خلوا
بينهم وبين أنفسهم ، وهذا على خلاف ما جرت به سيرة الكثير من الذين يرغَموا الاخرين
ـ وإن لم يقتنعوا بهم ـ على الانضواء في صفوفهم وفي حمايتهم ، بالقَسر والغلبة مما
يؤدي بهم إلى الانخراط قهراً تحت سيطرتهم والدفاع عنهم خوفاً من بطشهم وجبروتهم ،
وإذا ما دافعوا عنهم تعَرضوا حتماً للاذى والبطش ، وإذا ما واجهوا الحرب فلاخيار
لهم غيرها ، ولذا غالباً أمثالُ هؤلاء يقاتلون بالجبر والاكراه وليس عن قناعة من
أنفسهم.
وأما إذا جئت تستوحي عظمة الأخلاق وسمو الرفعة والنبل في موقف الحسين (عليه السلام)
مع أصحابه وأتباعه تجده مثالاً فريداً من نوعه في كيفية التعامل معهم ، فقد التحق
بركبه كثيرٌ من الناس وهو في مسيره إلى كربلاء إلا أنه كان يطلعهم على حقيقة الامر
فمن شاء التحق به ومن شاء انصرف عنه غير مكره لاحد منهم على مناصرته واللحوق به.
كما أكَّد بهذا ونحوه على أصحاب الابل حينما مَر عليهم بالتنعيم
(1) قائلاً لهم :
لا اكرِهُكُم ، مَنْ أحبَّ أنْ يمضيَ معنا إلى العراق أو فينا كراءَهُ وأحسنا
صحبتَهُ ، ومَنْ أحَبَّ أن يُفارقنا من مكاننا هذا أعطيناهُ من الكراءِ على قَدْر
ما قطع من الارض (2).
____________
(1) التنعيم : موضعٌ بمكة خارج الحرم ، هو أدنى الحلّ إليها ، على طريق المدينة ،
منه يحرم المكيُّون بالعُمْرة ، به مساجدُ مبنية بين سرف ومكة. مراصد الاطلاع : ج1
، ص277.
(2) تاريخ الطبري : ج4 ، ص290 ، الارشاد للمفيد : ص219 ، اللهوف : ص30 ، بحار
الانوار : ج44 ، ص367.
الصفحة 159
وفي ليلة عاشوراء بعد ما خَيّمَ الليلُ وأرخى سترَهُ ، حيثُ إن الليل ستير ،
والسبيل غير خطير ، يقف (عليه السلام) خاطباً في أصحابه آذنا لهم بالتفرق والانصراف
عنه ، في وقت يتطلب الناصر والمُعين ، قائلاً لهم : ألا وإني قد أذنت لكم ،
فانطلِقُوا جَميعاً في حِلٍّ ليسَ عليكُم حرجٌ مني ولا ذِمام ، هذا الليل قد غشيكم
فاتخذوه جملاً ، وليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي ، وتفرقوا في سوادكم ،
ومدائنكم حتى يُفرج الله فإِن القومَ إنما يطلبوني ، ولو قد أصابوني لهوا عن طلب
غيري (1) وفي رواية أخرى قال لهم :وانتم في حلٍّ وسعة من بيعتي وعهدي الَّذي
عاهدتموني(2).
الامر الذي يدل على عدم إكراهه (عليه السلام) لاحد منهم على مناصرته.
وقد أكد هذا الامر أيضاً للحضرمي حينما سمعَ أن ابنه اُسر في ثغر الري قال له (عليه
السلام) رحمك الله ، أنت في حل من بيعتي ، فاعمل في فكاك ابنك
(3) ؟!
هذا ولم يُبدِ (عليه السلام) لهم وحشتَه وانكساره فيما لو تفرقوا عنه ، بل أكد
عليهم أن انصرافهم عنه ليلاً أسهل منه نهاراً ، وذلك للاختفاء عن الانظار بعكس
النهار الذي قد لا يأمن فيه الهارب من الطلب.
ولذا قال (عليه السلام) كما في بعض الروايات : فالليل ستير والسبيلُ غير خطير ،
والوقت ليس بهجير....(4)
والحسين (عليه السلام) على الرغم من إبلاغ أصحابه بذلك وتركه الامر لهم ، إلا أنه
أخذ يؤكد عليهم في ذلك مِراراً ، كما حصل هذا مع نافع بن هلال ، وذلك حينما تبع
____________
(1) تاريخ الطبري : ج4 ، ص317 ، الارشاد للمفيد : ص231.
(2) موسوعة كلمات الامام الحسين : ص401.
(3) أسرار الشهادة : ج2 ، ص219 ، اللهوف : ص40 بحار الانوار : ج4 ، ص392.
(4) الدمعة الساكبة : ج4 ، ص271.
الصفحة 160
الحسين (عليه السلام) لما خرج في جوف الليل يتفقد التلاع والعقبات ، فلما رآهُ قال
له (عليه السلام) : ألا تسلك بين هذين الجبلين في جوف الليل وتنجو بنفسك ...(1)
الامر الذي يدل على تأكيده لهم وعدم خصه أحداً بالبقاء معه ، بل خاطبهم جميعاً بما
فيهم الصغير والكبير والعبد والحر حتى نساءهم.
وقد وجدناه (عليه السلام) يومَ العاشر عند اشتداد الامر ، وهو يطلق العنان لواحد
منهم ، وقد أحله من بيعته وهو : الضحاك المشرقي الذي تعهد للحسين (عليه السلام)
بالدفاع عنه ما رأى معه مقاتلاً ، ولما بقي (عليه السلام) وحده ، قال للامام : يا
بن رسول الله قد علمت أني ما كان بيني وبينك ، قلت لك أقاتل عنك ما رأيتُ مقاتلاً
فإذا لم أر مقاتلاً فأنا في حلّ من الانصراف ؟ فقلتَ لي نعم.
فقال له (عليه السلام) : صدقت وكيف لك بالنجاء إن قدرت على ذلك فأنت في حلٍّ.
فأخرج فرسه من الفسطاط وركبه وهرب ونجا بنفسه (2).
وهذا الموقف النبيل في تعامل الحسين (عليه السلام) مع أصحابه لا تجده في سائر
المعسكرات الاخرى والتي قد يُتناسى فيها العهود والمواثيق.
فلم يجبر الحسين (عليه السلام) أحداً من أصحابه على نصرته والدفاع عنه ، بل ترك
الامر لهم وباختيارهم ، وهذا في الواقع ما زاد في عزيمتهم وجعلهم يقاتلون بمحض
إرادتهم عن عزيمهُ صادقة.
وكم هو فرق بين أن يقاتل المقاتل في المعركة عن رغبة وشوق وبين أن يقاتل مُكرَهاً
على ذلك ، أو من أجل المطامع الدنيوية التي هي منتهى الزوال والاضمحلال.
____________
(1) معالي السبطين : ج1 ، ص344 ، الدمعة الساكبة : ج4 ، ص273.
(2) تاريخ الطبري : ج4 ، ص339.
الصفحة 161
د ـ السعي في قضاء حوائج الناس ومواساتهم
وهو : من أفضل الطاعات والقربـات عند الله تعـالى ، وعـنصر مـن عناصر المحبة
والاخاء ، ومما يزيد في ترابط المجتمع ووحدتهم وقد ندب الاسلام وحث عليه ومن ذلك :
مـا روي عـن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال : من قَضى لاخيـه المُؤمن حاجةً ،
كان كمن عبدَ اللهَ دَهراً (1).
وروي عن الامـام الصادق (عليه السلام) أنـه قال : ومَنْ قضى لاخيه المؤمن حاجةً ،
قضى اللهُ ( عزوجل ) له يومَ القيامـة مـائة ألف حاجة من ذلك ، أوّلُها الجنة..(2).
وَقد عَدّ الشرعُ الحنيف التهاونَ في قضاءِ حوائج المؤمنين خصوصاً مع القدرة علـيها
، مـن رذائل الصفـات ، ودليلاً عـلى ضـعف الايمـان ، وباعثاً على سلب التوفيق ،
ومما ورد في ذلك :
ما روي عـن الامـام الصادق (عليه السلام) أيّما رجل من شيعتنا أتى رجلاً من إخوانه
، فاستعانَ به في حاجته فلم يعنْهُ ، وهو يقدر إلاّ ابتلاه اللهُ تعالى بأن يَقضي
حوائج عدّة من أعدائنا ، يُعذّبهُ اللهُ عليها يومَ القيامة (3).
وروي أيـضاً عنـه (عليه السلام) : أيّما مؤمن منع مؤمناً شيئاً مما يحتاج إليه ،
وهو يقدر عليه
____________
(1) أمالي الطوسي : ص481 ، بحار الانوار : ج71 ، ص302 ، ح40.
(2) أصول الكافي للكليني : ج2 ، ص192 ، ح1 ، بحار الانوار : ج71 ، ص322 ، ح90.
(3) أصول الكافي للكليني : ج2 ، ص366 ، بحار الانوار : ج75 ، ص181.
الصفحة 162
عليه من عنده أو من عند غيره ، أقامَهُ اللهُ عزوجل يوم القيامة مُسوداً وجهه ،
مزرّقةً عيناهُ ، مغلولةً يداهُ إلى عُنقه ، فيقال : هذا الخائن الذي خان الله
ورسوله ، ثم يؤمرُ به إلى النار (1).
وفي ليلة عاشوراء والتي تُمثل الظروف العصيبة تكتنف في طياتها ألواناً من الاخلاق
الفاضلة ، والتي تمثل خُلق الاسلام الحنيف ، فهذا سيدُ شباب أهل الجنة ـ صلوات الله
عليه ـ يضرب لنا مثالاً صادقاً في مواساة مَنْ معهُ ، وقضاءِ حوائجهم ، فتراه
مَهموماً من أجل غُلام مُسلم قد أسر بثغر الري ، وقد وجد أباه مهموماً من أجلـه ،
فيقول له (عليه السلام) : رحمك الله أنت في حِلٍّ من بيعتي ، فاعمل في فكاك ابنك ،
وقد أمر له بخمسة أثواب قيمتها ألف دينار ، ليستعين بها في فداءِ ابـنه(2).
هذا وقد ترى وكأنَّ الحالة التي يعيشُها (عليه السلام) حالةً طبيعيةً في تلك الليلة
حتى يطلب من أبي الغلام الاسير أن يسعى لفكاك ولـده من الاسر ويترك ما هو عليه ، بل
ويجعله في حل من بيعته !!
إنه بحق موقفٌ أخلاقي واجتماعي ، فريدٌ من نوعه ، وليس له أهلٌ غير من تَربى فـي
حجر الـرسالة وارتضع لبـانَ الإبـاء صبياً ، وتخلق بأخلاق الانبياء ، وتحلى بحُلية
الاوصياء ، فهذه من أخلاقه الكريمة والتي أفرزت ليلةُ عاشوراء جانباً يسيراً منها !
ومن تلك المواقف أيضاً والتي تَدلُّ على مَدى حرصِه (عليه السلام) في قضاء حوائج
الناس وحفظ حقوقهم ، وإرجاعها إليهم مهما كَلَّفَ الامر ، وذلك حينما أمر مُنادياً
____________
(1) أصول الكافي للكليني : ج2 ، ص367 ، ح1 ، بحار الانوار : ج71 ، ص201 ، ح83.
(2) اللهوف : ص40 ، بحار الانوار : ج44 ، ص392.
الصفحة 163
في أصحابه ، لا يُقتل معنا رجل وعليه دين ، فقام إليه رجل من أصحابه فقال له : إن
عليّ ديناً وقد ضمنته زوجتي فقال (عليه السلام) : وما ضمان امرأة
(1) ؟
وروي عن موسى بن عمير عن أبيه قال : أمرني الحسين بن علي عليهما السلام قال : نادِ
أن لا يُقتلَ مَعي رَجُلٌ عليه دَينٌ ، ونادِ بها في الموالي ، فإنِّي سمعتُ رسول
الله (صلى الله عليه وآله) يَقول : مَنْ مَات وعليه دينٌ اُخذ من حسناته يوم
القيامة (2).
لقد أراد الامام (عليه السلام) أن يكونَ المستشْهدُ بين يديه مُتحرجاً في دينه
خاليَ الذمة من حقوق الناس وأموالهم ، ولا يريد أن يكون سبباً في ضياع أيِّ حق من
حقوق الاخرين.
وهذا غاية سُمو الاخلاق والرفعةَ والنُبل ، ونموذج مِثالي من الدروس الاخلاقية
العظيمة لكل الاجيال في كل زمان.
____________
(1) المعجم الكبير للطبراني : ج1 ، ص141 ، إحقاق الحق : ج19 ، ص429 ، حياة الامام
الحسين للقرشي : ج3 ، ص171.
(2) إحقاق الحق : ج19 ، ص429 ، موسوعة كلمات الامام الحسين : ص417.
الصفحة 164
هـ ـ الايثار والتفاني
الايثار ، وهو : من الصفات الكريمة التي تؤدي إلى سمُو الانسان ، وتكامل شخصيته
ونكرانه لذاته وتفانيه في سبيل الحق والخير ، وقد عني به الاسلام عنايةً بالغة ،
وأثنى على مَنْ يتخلق به ، فقد مدح القرآن الكريم جماعةً من نُبلاءِ المسلِمين
وأفداذِهم ، لانهـم أثرِوا إخـوانَهم عـلى أنفُسهم ، قال تعالى :
( وَيؤثرُونَ عَلى
أَنفُسِهِم وَلَو كَانَ بِهم خصاصَةٌ وَمَن يُوق شُحَّ نَفسِهِ فَأُولئكَ هُمُ
المُفلِحُونَ ) (1)(2).
ولا تجد أجلى مصداقاً للاية الشريفة سوى مَنْ نزلت فيهم وأثنت عليهم ، وهم أهل بيت
العصمة ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ الذين أثروا غيرهم على أنفسهم ، وناهيك عن صور
الايثار التي عرضها القرآنُ الكريم عنهم كما في سورة ـ هل أتى ـ وغيرها ، كليلة
مبيت أمير المؤمنين (عليه السلام) على فراش رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليلةَ
الغار مؤثرَهُ على نفسه ، حتى تعجبت من إيثاره ملائكةُ السماءِ ، وباهى الله به
ملائكتَهُ.
فكانت هذه الصفة من صفاتهم البارزة ، والتي ظهرت في سيرتهم مع الاخرين ، وقد حفلتْ
سيرتُهم بألوان من صور الايثار كما لا يخفى ذلك على من يراجع سيرتهم وحياتهم
الخالدة.
وكان من الطبيعي أن يتخلق بهذه الخصلة كلُّ من يعاشرُهم ، ويقتفي أثرهم ،
____________
(1) سورة الحشر : الاية 9.
(2) راجع : النظام التربوي في الاسلام للقرشي : ص299.
الصفحة 165
ويستقي من أخلاقهم ، مثلُ حواريهم وأصحابهم المُخلصين ، والذين تخلقوا بأخلاقهم ،
وتحلوا بصفاتهم وحذوا حذوهم.
وفي طليعة هؤلاءِ الذين مَجّدهم التاريخ وحفظ ذكرهم ، أصحاب الحسين(عليه السلام)
والذين مثلوا أروع صُورِ الايثار التي خلدها التاريخ وأثنى عليها.
ومن تلك الصور الخالدة ، وقوفُهم ليلةَ عاشوراء مع الحسين (عليه السلام) وقد
عاهدوهُ على التضحية والشهادة بين يديه ، ووقف كلُّ منهم يُعاهدُ الاخر على أن
يؤثرَه على نفسه ، وكلٌ منهم يُريد أن يَسبق الاخر إلى ساحة القتال !!
ولذا لم يعرف التاريخُ أصحاباً أفضل منهم ، وذلك بما حازوا عليه من صفات شريفة ،
وخصال حميدة ، وملكات نفسية ، أهلتهم لان يكونوا أفضل الاصحاب وخيرهم ، ومن ذلك هو
تسابقُهم إلى الشهادة ، بإخلاص وتفان في سبيل الحق ، غير مكترثين بالحياة ساخرين من
الموت ، متعطشين إلى الشهادة.
قال أحد الاعلام : السبقُ إلى النفع غريزةٌ في الاحياءِ لا يحيدون عنها ولا
يُلامونَ عليها ، وقد يؤولُ الى النزاعِ بين الاشخاص والانواع ، ولكنَّ التسابق إلى
الموت لا يُرى في العُقلاءِ إلاَّ لغايات شريفة تَبلغُ في مُعتقدِهم من الاهتمام
مبلغاً قصياً أسمى من الحياة الحاضرة ، كما إذا اعتقدَ الانسان في تَسابُقه إلى
الموت نيلَ سعادات ولذات هي أرقى وأبقى من جميع ماله في الحياة الحاضرة.
ولهذا نظائرُ في تواريخِ الغُزاة والمجاهدين ، ففي صحابة النبي (صلى الله عليه
وآله) ( رجالٌ صَدقُوا مَا عاهدُوا الله عَليه )
(1) وتسابقوا إلى القتال بين يديه
، مُعتقدين أن ليس
____________
(1) سورة الاحزاب : الاية 23.
الصفحة 166
بينهم وبين جنان الخلد والفردوس الاعلى سوى سُويعات أو تُميرات يأكلونها أو حملات
يَحملونها ، وهذا من أشرف السباق ، وموتُه أهنأ موت ، وشعارهُ أقوى دليل على
الفضيلة والايمان ، ولم يَعهد التأريخُ لجماعة بِداراً نحوَ الموتِ وسباقاً إلى
الجنة والاسنة مثل ما عهِدناهُ في صَحبِ الحسين (عليه السلام).
وقد عَجم الحسينُ (عليه السلام) عودَهم واختبرَ حُدودَهُم ، وكَسب منهمُ الثقةَ
البليغة ، وأسفرت امتحاناتُه كلُّها عن فوزه بصحَب أوفياء وأصفياء وإخوانِ صدق عند
اللقاء ، قَلَّ ما فازَ أو يَفوزُ بأمثالهم ناهض ! فلا نجد أدنى مبالغة في وصفه لهم
عندما قال : أما بعد ، فإني لا أعلمُ أصحاباً خَيراً مِن أصحابي ، ولا أهلَ بيت
أبرَّ وأوفى من أهلِ بيتي (1).
وكان الفضلُ الاكبرُ في هذا الانتقاء يَعودُ إلى حُسن انتخاب الحسين (عليه السلام)
وقيامهِ بكلِّ وجائب الزعامة والإمامة ، وقيامُ الرئيسِ بالواجب يَقود أتباعَه إلى
أداءِ الواجب ، واعتصامُ الزعيم بِمبدئِه القويم يسوقُ مَنْ معهُ إلى التمسُّك
بالمبدأ والمسلك والغاية ، فكان سُرادق الحسين (عليه السلام) بما فيه من صَحب وآل
ونساء وأطفال كالماءِ الواحد لا يفترق بعضُه عن بعض ، فكان كلٌّ منهم مِرآةَ سيدهِ
الحسين (عليه السلام) بحاله وفعاله وأقواله ، وكانوا يفتدونَه بأنفُسهم كما كان
يتمنى القتلَ لنفسه قبلَهم (2).
جادوا بأنفسهم في حُبِ سيدهم والجودُ بالنفس أقصى غايةُ الجودِ
ومن صور الاقتداء والإيثار في هذه الليلة العظيمة هو حينما هَّبت الصفوةُ الطيبةُ
من أنصـاره ، وأهل بيته(عليهم السلام) بإيمانهم العميق بالمبدأ السامي للدفاع عن
حريم
____________
(1) تاريخ الطبري : ج4 ، ص317 ، اللهوف : ص39.
(2) نهضة الحسين للشهرستاني : ص113.
الصفحة 167
الله ورسله (صلى الله عليه وآله) ، يتعاهدون على الشهادة والتضحية بين يدي سيد شباب
أهل الجنة(عليه السلام) ويتنازعون فيما بينهم أيُّهم ينزل ساحةَ الحرب قبل الاخر.
فهذا العباس بن أمير المؤمنين (عليهما السلام) يَقفُ خاطباً في إخوته وبني عمومته ،
مؤكداً عليهم ومُحفزاً لهم على القتال ، وأنهم أولُ من يَبرزُ إلى ساحة القتال ،
وأنَّ الحِملَ الثقيل لا يقومُ به إلا أهلُه... ؟ !
فيجيبُه بنو هاشم وقد سَلوا سيوفَهم في وجهه : نحنُ على ما أنت عليه !!
وأما الانصارُ فقد وقف حبيب بن مظاهر الاسدي وهم حوله كالحلقة ، قائلاً لهم ومؤكداً
عليهم : فإذا صار الصباحُ فأولُ من يَبرزُ إلى القتالِ أنتم ، نَحنُ نقدمهم للقتال
ولا نرى هَاشمياً مُضرجاً بدمه وفينا عرقٌ يضرب لئلا يقول الناس : قدَّموا ساداتهم
للقتال وبخلوا عليهم بأنفسهم ؟!
فهزُّوا سيوفَهمُ ، وقالوا : نحنُ على ما أنتَ عليه !!
ولما رأت زينب هذين الموقفين من الانصار وبني هاشم تعجبت من إيثارهم وصدق ثباتهم
وشدة عزمهم ، فسكن قلبُها واطمئنت نفسها ، فأخبرت الحسين (عليه السلام) بذلك
متعجبةً مما رأتُه ! !
فقال لها (عليه السلام) يا اُختاه اعلمي أن هؤلاءِ أصحابي من عالم الذرّ وبهم وعدني
جدي رسول الله(صلى الله عليه وآله) (1).
وأما التفاني فهي صفحة أخرى منقطعة النظير نقرؤها عند أنصار الحسين (عليه السلام)
في ولائهم وإخلاصهم ، وقد ضربوا في ذلك أروع الامثلة في صلابة عزمهم
____________
(1) معالي السبطين للحائري : ج1 ، ص340.
الصفحة 168
وتصميمهم على الدفاع عنه وعن أهل بيته ، ولم يكترثوا بتلك القوى الهائلة ، ولم
يرتاعوا من القتل بل سخروا من الحياة واستهانوا بالموت ، واندفعوا نحو الحسين (عليه
السلام) يعاهدونه على التضحية والفداء بالنفس ، وبكل ما يمكن الدفاع به لنصرته حتى
آخر رمق في حياتهم ، وهذا الموقف البطولي الباسل تجده واضحاً في مواقفهم ليلة
العاشر ، وتشهد على ذلك وكلماتهم التي تفيض بالفداء والتفاني في سبيله وذلك لمَّا
أذن لهم بالانصراف عنه !!
وإليك بعضاً من تلك الكلمات التي يحار فيها العقل ويقف عندهـا بإعجاب وإكبار ، فمن
كلماتهم ما يلي :
1 ) كلمة أهل بيته والتي يقولون فيها : لِم نفعل لنبقى بعدَك لا أرانا الله ذلك
أبداً ؟!
2 ) كلمة بني عقيل والتي يقولون فيها : لا والله لا نفعل تفديك أنفُسُنا وأموالُنا
وأهلونا ، ونقاتل معك حتى نرد موردك فقبح الله العيش بعدك ؟!
3 ) كلمة مسلم بن عوسجة والتي يقول فيها : أما والله لا أفارقك حتى أكسر في صدورهم
رمحي وأضربُهم بسيفي ما ثبت قائمُه في يدي ، ولا اُفارقك ولو لم يكن معي سلاح
أقاتُلهم به لـقذفتُهم بالحجارة دونك حتى أموت معك !
4 ) كلمة سعد بن عبد الله الحنفي والتي يقول فيها : والله لو علمتُ أني اُقتلُ ثم
أحيا ثم اُحرقُ حيَّاً ثم اُذرُّ يُفعلُ ذلك بي سبعين مرةً ما فارقتُك حتى ألقى
حِمامي دونك ، فكيف لا أفعل ذلك وإنما هي قتلةٌ واحدةٌ ثم هيَ الكرامة لا انقضاء
لها أبداً !!
5 ) كلمة زهير بن القين والتي يقول فيها : والله لوددت أني قُتلتُ ثم نُشرت
الصفحة 169
ثم قُتلتُ حتى أُقتل كذا ألف قتلة وأن الله يدفعُ بذلك القتل عن نفسك وعن أنفُس
هؤلاء الفتية من أهل بيتك !
6 ) كلمة جماعة من اصحابه والتي يقولون فيها : والله لا نُفارقُك ، ولكن أنفُسَنا
لك الفداء تقيك نحورنا وجباهِنا وأيدينا فإذا نحن قُتلنا كُنا وفينا وقضينا ما
علينا(1).
7 ) كلمة بشر الحضرمي والتي يقول فيها : أكلتني السباعُ حيّاً إن فارقتُك
(2).
8 ) كلمة نافع بن هلال والتي يقول فيها : ثكلتني أمي ، إن سيفي بألف وفرسي مثلهُ ،
فو الله الذي مَنَّ بِكَ عليَّ لا فارقتُكَ حتى يَكلا من فري وجري
(3).
9 ) كلمة القاسم بن الحسن عليهما السلام لمَّا قال له الحسين (عليه السلام) يا بني
كيف الموت عندك ؟ قال : يا عم فيك أحلى من العسل (4).
فهذه بعضٌ من كلماتهم والتي تفيض بالتفاني والاخلاص فهذا الحسين (عليه السلام) ينطق
بالحق في ما يقوله عنهم حين قال لاخته زينب (عليه السلام) : والله لقد بلوتُهم فما
وجدتُ فيهم إلا الاشوس الاقعس يستأنسون بالمنية دوني استيناس الطفل إلى محالب أمه
(5).
____________
(1) تاريخ الطبري : ج4 ، ص318 ، الارشاد للشيخ المفيد : ص231.
(1) اللهوف : ص40 ، بحار الانوار : ج44 ، ص392.
(2) الدمعة الساكبة : ج4 ، ص273.
(3) معالي السبطين : ج1 ، ص343.
(4) تقدم تخريجه.
البعد العسكري
الصفحة 173
من الأعمال التي قام بها الحسين عليه السلام في هذه الليلة العظيمة هو الاستعداد
التام لمواجهة الأعدء عسكريا ، وقد أخذ على عاتقه كل ما من شأنه تعزيز موقعهم في
طريق مواجهو العدو.
هذا مع ما كان عليه عليه السلام وأهل بيته وأصحابه في هذه الليلة الخطيرة التي حفلت
بالمكاره والصعاب والمخاطر ، وقد أصبحو بين اناس ليس في قلوبهم ذرة من الرحمة أو
الشفقة ، فمنعوهم كلَّ الوسائل الحيوية ، وأهم ما يُعتمد عليه في الحياة إذ حالوا
بينهم وبين الماء (1) الذي يلوح ببريقه يرونه ولا يصلون إليه !! حتى أضر العطش
بالحسين وأهل بيته وأصحابه ! !
كما مُنعوا وصولَ أي مدد للحسين (عليه السلام) من شأنه أن يُعزز مكانه ويقف إلى
جانبه ، كما حالوا بينه (عليه السلام) وبين وصول الاسديين ، الذين جاءوا لنصرته
والدفاع عنه ، بقيادة حبيب بن مظاهر من نواحي كربلاء (2) ، وقد أخذوا أيضاً يرقبون
عن كثب تحركات الحسين (عليه السلام) وأصحابه ، وضيّقوا عليهم أشد تضييق وقد روي أنه
نادى ابن سعد : يا خيل الله اركبي وابشري ! فركب النّاسُ ، ثم زحف نحو الحسين (عليه
السلام) وأصحابه فكانوا على مقربة من بيوتهم بحيث كانوا يسمعون أصواتهم
(3).
هذا ولم يسلم الحسين (عليه السلام) وأصحابه حتى من كلمات العدو الجارحة النابية ،
والتي ما زالوا يسمعونها بين الاونة والاخرى ، الامر الذي يدل على خساسة
____________
(1) راجع : تاريخ الطبري : ج4 ، ص312 ، بحار الانوار : ج44 ، ص389.
(2) راجع : الفتوح لابن الاعثم : ج5 ، ص100 ، بحار الانوار : ج44 ، ص386.
(3) راجع : تاريخ الطبري : ج4 ، ص315 ، بحار الانوار : ج44 ، ص391.
الصفحة 174
عدوهم ودناءته !!
وأما حديث النساء والاطفال فأمرٌ آخر ، مع ما هم عليه من الفزع والرُعب ، فأحدقت
أعينهم ولم يناموا ليلتهم وهم يَرون أنفسهم في قبضة عدو لا يرحم أحداً ، مُحاصرين
بين سياج من الاسنة والحراب ، وجيش بات على أهبة الاستعداد ينتظر أوامر قيادته
للزحف والهجوم عليهم ، فكيف مع هذا كله يغمض لهم جفن ، أو يهدا لهم روعٌ ؟ !
ومع هذا كله نجده ـ صلوات الله عليه ـ لم ينسى أن يَتخذ التدابير اللازمة
والاجراءات الوقائية في حماية أهل بيته ، والاستعداد لمواجهة الاعداء ، وما يتقوى
به على القتال في سبيل الله تعالى.
وقد ارتكز هذا الجانب العسكري على عدة أمور دقيقة وهي :
الامر الاول : التعبئة المعنوية
التعبئةُ المعنوية لها دورٌ كبير في تكامل المواجهة وترسيخ النفس ، ومقاومتها لاخر
رمق ; وذلك بالاقتناع التام بالهدف والمبدأ اللذينِ يُقاتل من أجلهما وفي سبيلهما ،
إذ يهون حينها كل شيء ما دام يرى نفسَه على حق ، وبعكس ذلك لا يمكن أن يقف في
المواجهة طالما لا هدف له من وراءِ ذلك ، وما دامَ غير مُقتنع فحينها لا يكونُ
موطناً نفسه على ذلك.
وقد وجدنا أنصار الحسين (عليه السلام) قد وطنوا أنفسهم في مواجهة أعدائهم ، وذلك
بعزيمة صادقة لا تردّدَ فيها ، وبإيمان لا يشوبُه شكٌ حيث الاقتناع التام بالمبدأ
السامي الذي يدافعون عنه ويقاتلون من أجله ، فكانوا يتمتعون بروحيّة عالية
الصفحة 175
تخوّلُهم الوقوفَ أمام ذلك الجيش الهائل ، فكان من يراهم يُصاب بالدهشة وذلك لعظِم
موقفهم ، وربط جأشهم وقلة مُبالاتِهم ، فأصبحوا في ذلك مَضرباً للمثل بحق ، إذ لو
تصفحت التاريخ لا تجد أنصاراً كهؤلاء قاتلوا بروحية عالية ، حيث يتمنى أحدهم أن
يقاتل ويقتل سبعين مرةً بلا ملل في سبيل الحسين (عليه السلام) ، حتى أصبحت هذه
النخبة المباركة متكاملةً من جميع الجهات ، ووصلت إلى الذروة في الاقدام والبطولة
والصمود.
والفضل في هذا كله يعود في الحقيقة إلى الحسين (عليه السلام) الذي انتخبهم وانتقاهم
من بين الاخرين ، حيث كان (عليه السلام) يلاحظ ذلك بعين الاعتبار من حيث كفاءة
الرجل ونزاهته وتوطينه للنفس ، وقد أعلنها كلمة صريحة قبيل خروجه إلى العراق قائلا
: مَنْ كان باذلاً فينا مهجته ، وموطنا على لقاء الله نفسه ، فليرحل معنا ، فإنني
راحلٌ مصبحاً إنشاء الله تعالى (1) فكان (عليه السلام) حريصاً في أن تكون النخبة
التي تقاتل معه وتقف الى جانبه متكاملة من حيث توطين النفس والاخلاص في التضحية ،
ولهذا كان أحدهم كألف ، فكانوا كما قيل عنهم :
قومٌ إذا نــودوا لدفـع ملمـة والخيل بيـن مدعس ومكردس
لبسوا القلوب على الدروع كأنهم يتهافتون إلى ذهاب الانفس
(2)
وقال كعب بن جابر قاتل برير في وصفهم :
ولم تر عيني مثلهم فـي زمانهم ولا قبلهم في الناس إذا أنا يافعُ
أشدّ قراعاً بالسيوف لدى الوغى ألا كلّ من يحمي الذمار مقارعُ
____________
(1) اللهوف : ص 26.
(2) اللهوف : ص48.
الصفحة 176
وقد صبروا للطعن والضرب جُسّراً
وقد نازلوا لو أن ذلك نافعُ
وقد قال بعض المؤرخين يصف قتالهم يوم العاشر من المحرم : وقاتلوهم حتى انتصف النهار
أشد قتال خلقه الله (1).
الامر الذي يدل على صدق نياتهم وشدة وثباتهم ، وناهيك عن شهادة أعدائهم لهم بذلك ،
قيل لرجل شهد الطف مع ابن سعد : ويحك أقتلتم ذرية الرسول ؟ !
فقال : عضضت بالجندل ، إنك لو شهدت ما شهدنا لفعلت ما فعلنا ، ثارت علينا عصابةٌ
أيديها على مقابض سيوفها كالاسود الضارية تحطم الفرسان يميناً وشمالاً تلقي نفسها
على الموت ، لا تقبل الامان ولا ترغب في المال ولا يحول حائلٌ بينها وبين المنية أو
الاستيلأ على الملك ، فلو كففنا عنها رويداً لأتت على نفوس العسكر بحذافيرها فما
كنا فاعلين لا اُمَّ لك (2) !!
ووصفهم بعضهم بقوله : لقوا جبال الحديد ، واستقبلوا الرماح بصدورهم ، والسيوف
بوجوهم وهم يُعرض عليهم الامان والامـوال فيأبون ويقولون : لا عذر لنا عند رسول
الله (صلى الله عليه وآله) إن قُتـل الـحسين(عليه السلام) ومنا عينٌ تَطرُف ، حتى
قُتلوا حوله (3)
فبعد هذا تعرف أن هؤلاء الصفوة هم الذين استبقاهم الحسين (عليه السلام) وانتقاهم من
بين أولئك الطامعين أو الخائفين ، فهو لا يقبل كلَّ من وفد عليه ما لم يكن مؤهلاً ،
فهذا عبيد الله بن الحر لمَّا دعاه الحسين إلى نصرته ليمحو بها ذنوبه الـكثيرة
____________
(1) سفينة البحار للقمي : ج5 ، ص42.
(2) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج3 ، ص263 ، مقتل الحسين للمقرم : ص69.
(3) إختيار معرفة الرجال للطوسي : ج1 ، ص293 | 133.
الصفحة 177
قال ابن الحر : فإن نفسي لا تسمـح بالموت ولكن فرسي هذه الملحقة والله ما طلبت
عليها شيئاً قط إلا لحقته ولا طلبني أحد وأنا عليها إلا سبقته فخذها لك.
فقال له الحسين (عليه السلام) : أما إذا رغبت بنفسك عنا فلا حاجة لنا في فرسك ولا
فيك ( وما كنتُ متخذُ المضلينُ عَضُداً )
(1) وإني أنصحك كما نصحتني ، إن استطعت أن
لا تسمع صراخنا ، ولا تشهد وقعتنا فافعل ، فوالله لا يسمع واعيتنا أحد ولا ينصرنا
إلا أكبه الله في نار جهنم (2).
فكان أمثال هؤلاء يجنّبهم الحسين (عليه السلام) ساحة القتـال ، ويحذرهم من سماع
واعيته ما داموا غير موطنين أنفسهم للدفاع عنه.
ولذا كان لأذن الحسين عليه السلام لاصحابه بالتفرق عنه أكبر الأثر في ابقاء الصفوة
الخالصة التي لا يحتمل في حقها الهزيمة أو الخذلان إذ من الطبيعي من كان صادقاً في
عزيمته وموطناً على ذلك نفسه ـ وانطلاقاً من الشعور بالمسؤولية ـ لا يتخلى عنه في
ساعة المحنة وفي أحلك الظروف واشتداد الامر ، ولذا بقي معه من وطَّن نفسه على ذلك
وأبت حفيظتُهُ مفارقتَه ولسان حالهم يقول :
إنّا على العهد لم نخذلك في غدنا وكيف يخذل مَنْ في حبكم فُطِم
وأما من كان غير متصف بهذا كان من الطبيعي أن يتخلى عنه ولو بقي معه مثل هذا ! لا
يؤمن منه أن يسلمه عند الوثبة ويخذله في ساحة الحرب ، فيكون أسوأ حالاً ممن انصرف
عنه (عليه السلام) ليلة العاشر ، فعلى هذا لا محالة يواجه خطرين عظيمين :
أحدهما : أنه يبوءُ بغضبِ الله تعالى لا نهزامه وزحفه من ساحة المعركة ، ولا
____________
(1) سورة الكهف : الاية 51.
(2) مقتل الحسين للمقرم : ص189 ، تاريه الطبري : ج4 ، ص307 ، بتفاوت.
الصفحة 178
يخفى أن هذا من أعظم الكبائر ، فيكون مصداقاً لقول الحسين (عليه السلام) : مَن سمع
واعيتنا أو رأى سوادنا فلم يجبنا أو يغثنا كان حقاً على الله عزوجل أن يكبه على
منخريه في النار (1).
ثانيهما : إظهار الوهن والخذلان في أصحاب الحسين (عليه السلام) كما يثير ذلك أيضاً
شماتة الاعداء ! !
وهذا ما دفع زينب عليها السلام أن تسأل الحسين (عليه السلام) عن صدق نيات أصحابه ؟
فقالت له : هل استعلمت من أصحابك نياتهم فإني أخشى أن يسلموك عند الوثبة ؟!
فقال لها : والله لقد بلوتهم فما وجدتُ فيهم إلا الاشوس الاقعس ، يستأنسون بالمنية
دوني استيناس الطفل إلى محالب أمه ! !
وعلى إثر هذا الكلام جاء حبيب بن مظاهر مع أصحابه وواجهوا النسوة قائلين : يا معشرَ
حرائر رسول الله هذه صوارم فتيانكم آلوا ألا يغمدوها إلا في رقاب من يريد السوء
فيكم وهذه أسنة غلمانكم أقسموا ألا يركزوها إلا في صدور من يفرق ناديكم
(2) ، فعند
ذلك طابت خواطرهن وسكنت قلوبهن. وذلك لما رأين عزائم الابطال الصادقة وثبات موقفهم.
وبهذا يكونُ أصحاب الحسين (عليه السلام) متفوقين بالروح المعنوية على أعدائهم مع
قلتهم ، وبمحض إرادتهم ، ودوافعهم النفسية والدينية ، وهذا كما لاي يخفى له دور
كبير.
____________
(1) ثواب الاعمال للصدوق : ص309 ، إختيار معرفة الرجال للطوسي : ج1 ، ص331 / 181
بحار الانوار : ج45 ص84 ، مقتل الحسين للمقرم : ص190.
(2) معالي السبطين : ج1 ، ص345 ، الدمعة الساكبة : ج4 ، ص273 ـ 274 ، مقتل الحسين
للمقرم : ص219.
الصفحة 179
في تعزيز المواجهة والاستعداد لدخول المعركة
الامر الثاني : تهيئة السلاح وإصلاحه
ومن الامور العسكرية التي لا حظها الحسين (عليه السلام) ليلة عاشوراء هو إعداد
السلاح ، وذلك بشحذ السيوف وصقل الحراب وإصلاحهما ، ليتقوى بذلك على قتال الاعداء ،
وكما قال تعالى ( وَأَعدُّوا لَهم مَّا استَطَعتُم مِن قُوَّة وَمِن رِبَاطِ
الخَيلِ تُرهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُم )
(1) ، إذ أن إعداد السلاح
قبل لقاء الاعداء ، وما يتقوى به على قتالهم من الرجال وآلات الحرب أمورٌ مهمة في
تعزيز الموقف.
ولذا من جملة أعمال الحسين (عليه السلام) في هذه الليلة هو الاعداد لهذا الجانب
وقـد أشرف عليـه بنفسـه ، كمـا جـاء في روايـة الامـام زيـن العابدين (عليه السلام)
: إني جالس في تلك العشية التي قُتل أبي صبيحتها وعمتي زينب عندي تُمرضني إذ اعتزل
أبي بأصحابه في خباء له وعنده حوَّى مولى أبي ذر الغفاري وهو يعالج سيفه ويُصلحه
(2).
وقد رجح البعض إرجاع الضمير في عبارة : ( وهو يعالج سيفه ويصلحه ) إلى جون مولى أبي
ذر ، لا إلى الحسين (عليه السلام) ، وقد عُرف عن جون أنه كان بصيراً بمعالجة آلات
الحرب وإصلاح السلاح كما في كامل البهائي (3) وغيره
(4).
وقد عُرف هذا أيضاً عن أبي ثمامة الصائدي ، الذي هو من فرسان العرب
____________
(1) سورة الانفال : الاية 60.
(2) تاريخ الطبري : ج4 ، ص318 ، الارشاد للمفيد : ص232.
(3) كامل البهائي : ج2 ، ص280.
(4) الامام الحسين وأصحابه للقزويني : ج1 ، ص92.
|