الإمام شيخ الشريعة (قدّس سرّه)
ولقد كان شيخنا العلامة شيخ الشريعة (قدّس سرّه) بهذا الاعتبار وبتلك الأخبار يصحّح الخبر المرسل الذي استبعده بعض العظماء من أن (عقيلة علي الكبرى) لمّا لاح لها رأس الحسين (عليه السلام) وهو على رمح والريح تلعب بكريمة نطحت جبينها بمقدّم المحمل حتى سال الدم من تحت قناعها(1). ويقول (العلامة شيخ الشريعة قدّس سرّه): إنّه لا استبعاد فيه إلاّ من جهة ظهور الجزع منها وإيلام نفسها والإيلام الغير المؤدّي إلى الهلاك لا دليل على عدم جواره، والجزع مندوب إليه ومرغب فيه في كثير من الأخبار(2). قلت: الظاهر من الأخبار جواز الهلع أيضاً، وهو - على ما ذكروا - أفحش الجزع، ويظهر من الخبر الصحيح الذي تدل مضامينه على صحته المروي في (الكامل) عن قدامة بن زائدة عن السجاد (عليه السلام) انه قد صدر منه الهلع لو استطاعه. وروى المجلسي (أعلى الله مقامه)، والسيد عبد الله شبر (رفع الله درجته) في كتاب (جلاء العيون) إن زين العابدين (عليه السلام) كان إذا اخذ إناءً ليشرب يبكي حتى يملأه دماً(3). وهذا بظاهره من غرائب الأخبار، فان العيون لا تسيل دموعها دماً، ولذلك كنت أحتمل وقوع التحريف فيه وأنّ الصحيح (دمعاً) بدل (دماً) لكني وجدت المخطوط والمطبوع من الجلاء وغيره كما هو مروي فيه. وعليه فأقرب توجيهاته أن يقال: إنّ العيون وان لم تبك دماً لكنّها لكثرة البكاء والاحتراق تتقرح أجفانها، فإذا اشتد البكاء تنفجر القروح دماً يمتزج بالدموع، فهو إذا سال في الإناء يسيل كأنّه دم ويصدق حينئذ أن يقال (يملؤ الإناء دماً)(4). وإذا ساغ للسجاد (عليه السلام) أن يسيل الدم باختياره من عضو من أعضائه ببكاء الدم أو بتقريح الجفن جزعاً وهلعاً على رزية الحسين (عليه السلام) فما هو إذا شأن ما يصدر من الشيعة من ضرب السلاسل والقامات؟؟!! وهل سيلان دم السجاد في الإناء أهون من انتثار قطرات من دم رأس الجريح على ثيابه حزنا على تلك الفادحة العظيمة؟؟!! ثمّ أقول: بهذا الاعتبار أيضاً - مضافاً إلى ما سلف من قوله (عليه السلام): على (مثله تلطم الخدود وتشق الجيوب)(5) - يرفع الاستبعاد عما روي في الكتب من أنّ (عقيلة آل محمّد ( صلّى الله عليه وآله)) في موارد عديدة (لطمت وجهها وشقت جيبها وصاحت ودعت بالويل والثبور). فانه لا حامل لها على شق الجيب إلاّ الجزع في مصاب حق أن تشق له القلوب لا الجيوب كما صرح بذلك سيدنا العلامة السيد إسماعيل الصدر (قدّس سرّه) في بعض حواشيه: وكيف لا تفعل ذلك في مصاب جزع له وبكى إبراهيم خليل الرحمن، وموسى كليمه، كما في الخبر؟!! وفي آخر:إن فاطمة (عليها السلام) لما اخبرها النبي (صلى الله عليه وآله) بقتل الحسين جزعت وشق عليها(6). وفي خبر آخر: إنها تنظر كل يوم إلى مصرع الحسين (عليه السلام) فتشهق شهقة تضطرب لها الموجودات(7). وفي غيره قال: سمعت أبا ذر وهو يومئذ قد أخرجه عثمان إلى الربذة فقال الناس: يا أبا ذر ابشر فهذا قليل في الله، فقال: ايسر هذا، ولكن كيف انتم إذا قتل الحسين بن علي قتلاً؟! أو قال: ذبح ذبحاً، وان الله سيسلّ سيفه على هذه الأمة لا يغمده أبداً ويبعث ناقماً من ذريته فينتقم من الناس وإنكم لو تعلمون ما يدخل على أهل البحار وسكان الجبال في الفيافي والآكام وأهل السماء من قتله لبكيتم والله حتى تزهق أنفسكم. ومن الأدلة على ذلك - مضافاً إلى ما سلف وان كان فيه غنىً وكفاية – ما دل على إدماء الله كثيراً من أنبيائه لأجل أن يحصل لهم الفوز بدرجة المواساة للحسين (عليه السلام) فمن ذلك المروي في (البحار) و (الأنوار) أن آدم (عليه السلام) لما انتهى في طوافه في الأرض إلى كربلاء عثر في الموضع الذي قتل فيه الحسين (عليه السلام) حتى سال الدم من رجله(8). وكذلك إبراهيم (عليه السلام) لما مرّ بها عثر فرسه فسقط وشجّ رأسه وسال دمه(9). وكذلك موسى (عليه السلام) حين جاء كربلاء انخرق نعله وانقطع شراكه ودخل الحسك في رجليه وسال دمه(10). وكل هؤلاء لما ذعروا من ذلك وخشوا أن يكون ذلك لذنب حدث منهم أوحى الله إلى كلّ واحد منهم أن لا ذنب لك ولكنّ يقتل في هذه الأرض الحسين بن علي (عليه السلام) وقد سال دمك موافقة لدمه. فان في هذا الإعثار والإدماء من الله لا عن ذنب، والتعليل بكونه موافقة لدم الحسين دلالة جليّة على جواز إدماء الإنسان نفسه مواساة له، لأنّ سيلان دمائهم مع كونه غير مقصود لهم إذا كان محبوباً لمجرد الموافقة في السيلان فالمقصود إسالته مواساة لهم أولى بالمحبوبية. إنّ التأسّي بالحسين (عليه السلام) مندوب إليه وقد رغب فيه الغلام الزكي (يحيى بن زكريا) والصادق الوعد (إسماعيل) كما في الخبر عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إنّ إسماعيل الذي قال الله عزّ وجلّ في كتابه (واذكر في الكتاب إسماعيل...) لم يكن إسماعيل بن إبراهيم، بل كان نبياً من الأنبياء بعثه الله عزّ وجلّ إلى قومه فاخذوا فروة رأسه ووجهه فأتاه ملك فقال: إنّ الله جلّ جلاله بعثني إليك فمرني بما شئت؟ فقال لي: بما يصنع بالحسين (عليه السلام) أُسوة. بل روي أنّ غنمه التي كانت ترعى في شاطئ الفرات لما امتنعت من ورود الماء وسألها عن سبب الامتناع؟ قالت: هذه المشرعة يقتل عليها الحسين (عليه السلام) فنحن لا نشرب منها مواساةً له. وقد روي امتناع بعض الأئمة من شرب الماء يوم عاشوراء مواساة للحسين. وورد في صومه: (لا تجعله صوم يوم كامل ولكن افــــطر بعد الــــزوال بساعة على شـــربة ماء فعندها تجلت الهيجاء عن آل الرسول)(11). وكان موسى بن جعفر (عليه السلام) إذا دخل شهر المحرم لا يرى ضاحكاً وكانت الكآبة تغلب عليه حتى تمضي عشرة أيام، فإذا كان يوم العاشر كان يوم مصيبته وحزنه وبكائه(12). فهذه الرموز تشير إلى استحباب مواساة الحسين بتحمل العطش وبإدماء الرأس وبكل ما يكون مصداقاً لها سوى القتل. وإنما خص الرأس بالإدماء لأن المواساة لا تصدق الآن عرفاً بإدماء غيره. وربما يستأنس لهذا بما ورد من التوبيخ على ترك زيارته عند الخوف بناء على ما يذهب إليه صاحب (الخصائص الحسينية) من شمول الخوف فيه لما عدا تلف النفس من الجروح والأضرار البدنية حتى مع عدم ظن سلامة النفس، مدّعياً أنّ ذلك من خصائصه كالجهاد معه يوم عاشوراء، وبناءً على التعدي عن موردها إلى غيره مما يتعلق بالحسين (عليه السلام) لاتحاد الطريق في الجميع أو لانفهام التعميم من نحو قوله (عليه السلام) في بعض تلك الأخبار (ما كان من هذا أشد فالثواب فيه على قدر الخوف) وقوله: (أما تحب أن يراك الله فينا خائفاً)(13). قوله: وما من سيرة يستند إليها فيها… إلى آخر كلامه. أقول: إنّ مرجع الضمائر من قوله تجويزها وفيه إلى لفظ جهتها، مجهول ليس لدي فقط بل لدى كل عارف بالتعبير العربي، وهذه المجهولية هي السبب للتردد في السيرة التي ينكرها. هي السيرة على ضرب السيوف والقامات، أو على جميع ما أنكر مشروعيته حتى خروج المواكب والشبيه الذي نسب الفرقة في علمه - صدر رسالته - إلى الإبداع في المذهب. والظاهر أنه يريد هذا بقرينة قوله: أفعال وحشية، وقوله: ولو صرف المال، إلى آخر الكلام. لأن ضرب السيوف لا يكلّف من المصرف مقدار نصف العشر من مصرف مأتم واحد فكيف بزيادة مأتمين، ولكنه لمّا كان يعلم وجود السيرة في الجملة ويعرف إن في ارتكاب خلافها تضليل السلف وادعاء عدم نفوذ الكلمة منهم أدمج مراده بلا إفصاح. والذي أراه وأعتقده أنّ السيد المذكور ينكر قدم السيرة بحيث تتصل بزمن المعصومين، لا أنه ينكر وجودها وقدمها في الجملة، ولكنه لم يعلم أنّ ذلك التقدم مما لا حاجة إليه، لما أسلفناه من أنّ ما ليس بقديم بشخصه إذا كان مندرجاً تحت عنوان كلي راجح كفى في رجحانه انطباق ذلك العنوان عليه وإن كانت مصداقيته له حادثة، وهذا ما عبرنا عنه سابقاً بكونه مأموراً به بسنخه، فإنّ المراد منه ما كان مشروعاً بعنوانه العام في قبال ما كان مشروعاً بخصوصه، وأدنى ما ينطبق على الشبيه والمواكب بأنواعها: ذكر مصاب الحسين (عليه السلام)، الإبكاء عليه، إحياء أمره، الحزن لأجله، وغير ذلك من العناوين العامة التي ثبت رجحانها بالأدلة الخاصة. إن الحزن أمر قلبي نفسي، وله مظاهر هي المندوب إليها حقيقة، ولا ريب في أنّه لم ترد له من الشرع كيفية خاصة بحيث يقتصر عليها في مقام إظهار الحزن، كما انه لا ريب أيضاً في أنّ مظاهره تختلف باختلاف أطوار الأمم وعاداتها وباختلاف الأحوال والأزمان، وكذلك البكاء والإبكاء المندوب إليهما لهما أسباب ووسائل كثيرة لا تقع تحت الحصر، وليس في شيء من أخبارنا شيء يشير إلى قصرها على وسائل خاصة بحيث لا يتعدى عنها في مقام إرادة البكاء والإبكاء. وإذا كانت المواكب بجميع أنواعها في زماننا من مظاهر الحزن، والتشبيهات بجميع أفرادها من وسائل الإبكاء، والجميع ذكرى لمصائبهم، وإحياء لأمرهم، وصلة وإسعاد لهم، واداء لحقهم فبأي صنعة أو صيغة علمية يتجرّأ أحد من الجعفرية أن يقول: إنها لا دليل شرعي على تجويزها وما من سيرة يستند إليها فيها بل هي بنظر أرباب العقول والمعرفة أفعال وحشية؟؟!! إن كان صاحب الرسالة يطلب اتصال السيرة بالصدر الأول لزمه أن يبطل لطم الصدور في الدور لأنه حادث، وكذا لبس الثياب السود وإلباس الجدران بالسواد. ويبطل النار والروايات والأعلام. وكشف الرؤوس وصرف الأموال. و. و. و. لأنها أمور لكم تكن في زمن الأئمة، ولا حاجة له على هذا في تحريم خروج مواكب اللطم إلى وقوع الفتن فيها بل يكفي في ذلك حدوثها.
|
1 - ثمّ إنّ أم كلثوم اطلعت رأسها في المحمل وقالت لهم: صه يا أهل الكوفة تقتلنا رجالكم وتبكينا نساؤكم، فالحاكم بيننا وبينكم الله يوم فصل القضاء، فبينما هي تخاطبهنّ إذا بضجّة قد ارتفعت، فإذا هم أتوا بالرؤوس يقدمهم رأس الحسين (عليه السلام) وهو رأس زهري قمري أشبه الخلق برسول الله ولحيته كسواد السبج قد أنتصل منها الخضاب ووجهه دارة قمر طالع وتلعب بها يميناً وشمالاً فالتفتت زينب فرأت رأس أخيها فنطحت بمقدّم المحمل حتى رأينا الدم يخرج من تحت قناعها وأومأت إليه بخرقه. بحار الأنوار: ج 45 ص 115 ح 1 باب 39. 2 - ففي (كامل الزيارات): ص 117 حيث يروى عن الإمام الصادق (عليه السلام) حديثا يدعو فيه الإمام لزوار قبر الإمام الحسين فيقول: (... وارحم تلك القلوب التي جزعت واحترقت لنا...). وفي رواية أخرى في ص 175 يبيّن فيها الإمام (عليه السلام) ثواب زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) يوم عاشوراء، قال: (... إذا كان ذلك اليوم برز إلى الصحراء أو صعد سطحاً مرتفعاً في داره وأومى إليه بالسلام واجتهد على قاتله بالدّعاء وصلّى بعده ركعتين يفعل ذلك في صدر النهار قبل الزوال، ثم ليندب الحسين و يبكيه ويأمر من في داره بالبكاء عليه ويقيم في داره مصيبته بإظهار الجزع عليه..). 3 - بحار الأنوار: ج 45 ص 115 ح 1 ب 39. 4 - بل ثبت علمياً أن أصل الدموع هو الدم فيتحوّل إلى ذلك السائل، وعند البكاء الشديد والكثير لا تستطيع العين تحويل الدم إلى دمع فينزل الدم. ولا مبالغة ولا غرابة في ذلك، وقد ورد عنهم (لا بكين عليك بدل الدموع دماً). 5 - التهذيب: ج 8 ص 325 ح 22. 6 - بحار الأنوار: ج 44 ص 292 ح 27 ب 4. 7 - بحار الأنوار: ج 45 ص 219 ح 47 ق 40. 8 - بحار الأنوار: ج 44 ص 242 ح 37 ب 30. 9 - بحار الأنوار: ج 44 ص 243 ح 39 ب 30. 10 - بحار الأنوار: ج 44 ص 244 ح 41 ب 20. 11 - روى عبد الله بن سنان قال: دخلت على سيدي أبي عبد الله جعفر بن محمّد (عليهما السلام) في يوم عاشوراء فألفيته كاسف اللون، ظاهر الحزن، ودموعه تنحدر من عينيه كاللؤلؤ المتساقط. فقلت: يا بن رسول الله! ممّ بكاؤك - لا أبكى الله عينيك -؟، فقال لي: أوفي غفلة أنت؟ أما علمت أنّ الحسين بن علي أصيب في مثل هذا اليوم؟ فقلت: يا سيدي! فما قولك في صومه؟ فقال لي: صمه من غير تبييت، وأفطره من غير تشميت، ولا تجعله يوم صوم كملاً، وليكن إفطارك بعد صلاة العصر بساعة على شربة من ماء، فإنه في مثل ذلك الوقت من ذلك اليوم تجلّت الهيجاء عن آل الرسول...) عن (مصباح المتهجّد) للشيخ الطوسي. 12 - بحار الأنوار: ج 44 ص 283 ح 17 ب 34. 13 - بحار الأنوار: ج 98 ص 10 ح 39 ب 1. |