نظرة في التاريخ
أنا الآن أذكر لك نبذة تاريخية تعرف منها الزمن الذي ظهرت فيه المآتم بلا اتقاء وحدثت فيه المواكب والتمثيل بنفوذ ملوك الجعفرية وعلمائهم. فبالرغم من حث الأئمة (عليهم السلام) على التذكارات الحسينية ما كان ينعقد فيها من المآتم إلاّ نحو ما كانوا يعقدونه في دورهم، يحضره - لضرب من الاتفاق - مثل أبي هارون المكفوف وأبي عمارة المنشد وجعفر بن عفان وأضرابهم، لأن بني أمية تمنع الشعراء أن ترثي الحسين (عليه السلام) بل تمنع أن يرثى من قتل في سبيل الأخذ بثأره كالتوابين، وأما آل العباس فلم يكونوا أقل تشدّداً من بني أمية في الضغط على العلويين وإيذاء من ينسب إليهم، مدة خلافتهم، عدا أيام نزره في الفترة بين الدولتين وفي أيام (المأمون العباسي) حين يجاهر (الصولي) بقصيدته المستورة التي أولها: أزال عزاء القلب بعد التجلد***مصارع أبناء النبي محمد ويقوم (الخزاعي) منشداً بحضرة المأمون قصيدته المشهورة التي منها: مدارس آيات خلت من تلاوة***ومنزل وحي مقفر العرصات ثم اشتد الأمر بعده وبلغ غايته في أيام (المتوكّل) ومن بعده، إلى أن تضاءل ملكهم وضعفت قواهم وذلك من بعد الغيبة الصغرى بزمن غير قصير حتى تولى عزل الخلفاء ونصبهم أمراء الجند وهم ـ على الأغلب ـ غلمانهم وابتدأ من ذلك الوقت حكم ملوك الطوائف ومنهم (البويهيّون). لمّا قامت الدولة البويهية (في جبال الديلم) وثبتت دعائمها، أسّس معز الدولة (احمد بن بويه) إقامة العزاء علناً يوم عاشوراء في زمن المستكفي بالله سنة 352 هـ وبنى الدور الخاصة بإقامة المآتم (الحسينيات) وبقى ذلك متداولاً في أيامه، وعضده بعده عضد الدولة (الحسن بن بويه) وهو الذي بني القبّة المرتضوية بعد البناء الهاروني والقبة الحسينية لأول مرة، ودفن في النجف. وما زال الأمر على ذلك في العراق وفي جبال الديلم مدة تلك الدولة بفضل اعتقاد ملوكها وتدبير من وزرائها مثل (الصاحب بن عباد) وأعان على ذلك شدة وطأة الملوك (العلوية الإسماعيلية) بالمغرب (ومصر) الذين جعلوا يوم عاشوراء ـ في كل مكان لهم سلطان عليه ـ يوم حزن تتعطل فيه الأسواق و تترك فيه الزينة وتقام فيه مآتم العزاء لسيد الشهداء، في مدة تزيد على مأتي عام. وكأنّ البذر الذي ألقته الأئمة (عليهم السلام) في قلوب الشيعة ما اخضرّ نباته إلاّ يومئذ، وما زال ينمو غراسه ويتأصّل في القلوب شيئاً فشيئاً حتى في زمن ملوك (المغول) المتوحشين الذين أكثروا من القتل في الأرض نحو (هولاكو خان) والسلطان (محمد خدا بنده) الذي تم مآتم على يده لعلماء الشيعة الذين كانت (الحلة السيفية) مغرسهم وذلك في حدود سنة 700 والخلافة العباسية منقرضة يومئذ وكانت من قبل ذلك في مدة أربعمائة عام تقريباً إسمية فقط، وما كانت التذكارات الحسينية حينئذ إلاّ مآتم يقرأ فيها نحو كتاب (المقتل) تأليف (أبي مخنف) وهو من أكابر المحدّثين الذين تلقى منه (ابن جرير الطبري) وغيره مقتل الحسين أو كتاب (الإرشاد) للشيخ المفيد أو كتاب (اللهوف) لابن طاووس وبضع قصائد انفرد الشعراء من أهل الحلّة خاصة بإنشائها ولم تعرف لغيرهم يومئذ قصيدة قط. |