خاتمة مسكيّة
الأئمة (سلام الله عليهم) نورهم واحد وطينتهم واحدة وان تفاوتوا في الفضل (إنّ عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم)(1). ولكن للشيعة علاقة خاصة بالحسين (عليه السلام) لا تشبه علاقتهم بمن هو أفضل منه، وتلك من خصوصيات الحسين (عليه السلام) التي لا تنافي أفضلية غيره منه، فإنّ للتفاوت في الفضيلة مقام وللخصوصية مقام آخر وقد عوّضه الله جلّ شأنه عن شهادته بخصال منها المحبة في القلوب ومنها كونه (وسيلة النجاة). إنّ محبة الحسين (عليه السلام) والرقة عليه فطرية، حتى من غير الجعفرية، ولكن لهؤلاء ـ حتى أبسط البسط منهم ـ علاقة خاصة به لم تأت لهم من قبل سماع واطلاع، بل غريزة وارتكاز فلذلك تجدهم يتفنّنون في التعلق به بإيجاد أسباب لم تعرف من قبلهم ولم يدركها أحد سواهم توصلاً إلى إحياء ذكره وتعلقاً بسبب منه يوجب البركة عليهم في الدنيا والعقبى، وتراهم من صميم قلوبهم يعلّقون آمال نجاتهم من وزر الخطايا به أكثر ممن هو أشرف منه وأفضل. وكما أنّ هذا فطري فيهم فكذلك هم مفطورون على أنه بمقدار حزنهم على الحسين وسائر الأئمة (عليهم السلام) وإظهار مظلوميتهم يكون تكفير سيئاتهم وارتفاع درجاتهم والمتعمق في الأسرار، والمتعمّق في الأسرار، المتتبع للأخبار يحصل له ـ بتتبعه وتعمّقه ـ الجزم بأنّ ما تفعله الشيعة من ضروب مظاهر الحزن هو دون الحق الثابت في مصاب الحسين (عليه السلام) وانه لو كان فوقه شيء لكان رجحاً في سبيل ذلك المصاب الهائل وإن استهزأ به وسخر الجاهلون… فلندع الشيعة وما يفعلون في شأن أئمتهم في حزنهم وفرحهم ما لم يفعلوا في ذلك الشأن العظيم محرّماً، فإنه علينا حينئذ المنع عن ذلك المحرّم فحسب ونردعهم عنه ولا نتعرض لجل ما يقومون به من مظاهر الحزن والفرح بشيء، فقد قال الصادق (عليه السلام) في حقهم: شيعتنا منّا خلقوا من فاضل طينتنا، وعجنوا بنور ولايتنا رضوا بنا أئمة ورضينا بهم شيعة يصيبهم ما أصابنا وتبكيهم أوصابنا، يحزنهم حزننا، ويسرهم سرورنا ونحن أيضاً نتألم لتألمهم، ونطّلع على أحوالهم فهم معنا لا يفارقونا، ونحن معهم لا نفارقهم، ثم قال: اللهم إن شيعتنا منا، فمن ذكر مصابنا، وبكى لأجلنا استحيى الله أن يعذبه بالنار. وعلى هذا الخبر الشريف العالي المضامين اختم رسالتي هذه وبالختام تتميماً للمقال أذكر أموراً مهمة: الأمر الأول: بكل صراحة أقول: إنّ علة تحريم الشبيه وخروج المواكب اللاطمة والضرب بالقامات عند صاحب المقالة ليس هو ما ذكره من السفاسف. كيف والمقاتلة التي هي علّة تحريم اللطم في الطرقات اتفاقية نادرة وليست بلازمة ولا مقصودة لأهل الموكب غالباً، وموت الجماعات في كل سنة ـ الذي هو علة تحريم موكب السيوف ـ قد عرفت أنه فرية صريحة، والسخرية ـ التي هي علة تحريم الشبيه ـ كذلك وعلى فرض تحققها فهي لا توجب الاستهزاء بدين الإسلام المنزّه عن كل عائبة، والأمور التي سطّرها ـ من إنكار الوثبات والزعقات ومن كون اللطم محله المآتم لا الطرقات بحكم العقل والشرع ـ هي من التلفيقات الفارغة، ونسبة ذلك إلى العقل والشريعة فرية أخرى وهي عليه غير خفية، ومن أكبر الشواهد على أنّ تحريمه لا لذلك ـ مضافاً إلى هذا ـ قوله في الصفحة 10 ما ملخصه: بأنه منذ خمس عشرة سنة كان أهل الكويت يخرجون الشبيه على التفصيل الذي سبق فمنعتهم وصاروا من يومئذ يلطمون في المآتم ولا يخرجون وبذلك قطع دابر ما ربما ينجم من المحرمات والفتن ـ انتهى. فإنه ليس في الكويت من يومئذ للآن(2) فئات متقابلة ولا لهم محلات كثيرة متعادية تقع بين أهلها المنافرة والمنافسة حتى يحدث من خروجهم القتال فيما بينهم، إن هم إلاّ فئة من الأعاجم يشوبهم أخلاط من البحارنة وغيرهم ممن ليس له قوة المخاصمة والمنازعة لو كان له منافر ومنافس، كيف والسلطات القاهرة وسلطته الروحية هناك تحول بينهم وبين أن تحدث بينهم المقاتلة في مثل ذلك المحل الذي هو بالقرى أشبه منه بالبلدان الواسعة. أمّا سخرية الأجانب فهي هناك معدومة لقلة الأجانب يومئذ وعدم سخريتهم، لأنهم من الذين لا يهمّهم من أمر الديانات شيء. الذي أظنه (وظن الألمعي يقين) أن هذا الرجل يذعن بمسؤولية جميع ما سلف كما يومئ إلى ذلك ما ذكرته ثمة وإنما يمنع من ظهور الشبيه والمواكب للملأ تأليفاً بين الفرق وأن لا يظهر بعضهم بمظهر المخالف للبعض الآخر. وقد فاته أن يلتفت إلى أنّ مورد المخالفة ليس جوهرياً بعد وحدة الدين والاشتراك بالضروريات من أحكامه وغيرها (إنّ الدين عند الله الإسلام)(3) إن التأليف الذي يقصده ـ بترك التظاهر بتلك المراسم ـ أمر مغروس في ذهنه منذ كان في الكويت وهو اليوم يعالجه ولا يكاد يحيره ولأجله يتشبث بالتهاويل ويذعن لتلك التمويهات والمفتريات وكأنّ هذا المنع عنده من باب الأمر بترك الراجح لما هو أرجع منه، لا من باب النهي عن المنكر وإن صدّر مقالته بذلك، ولعلّه إلى هذا يرمز صاحب جريدة (الأوقات العراقية) إذ يقول نقلا عن السيد المذكور: (إن تلك المواكب عامل من عوامل التفرقة ورمز يشير إليها). وهذا إن كان من الناقل فهو اختلاس للحق وإن كان من القائل فهو اشتباه، وذلك أن تلك المواكب وهاتيك الأعمال ليست مفرّقة بين المسلمين، نعم هي مظهر للفرق بين فرقهم، والفارق جليّ بين المفرّق بينهم وبين وجود الفارق ـ أجل التمثيل فارق ـ المواكب فارق ـ المآتم فارق ـ لبس السواد فارق ـ فوارق وأي فوارق شابت عليها اللمم والمفارق، واعترف بفوائدها المصاحب والمفارق، فإن تكن هذه رموزاً فهي رموز لامتياز الشيعة عمن سواهم، فلتكن تصريحات بدل كونها رموزاً، فان الرمز بهذا المعنى سواء أكان هو أحد الأمور المذكورة أم غيرها مما لابد منه. إنّ المطلوب من المسلمين إزالة التعصّب المذهبي فيما بينهم، لا ترك الرسوم المذهبية عندهم، وشتّان بين الأمرين، ومن اختلاطهما وقع الاشتباه، التعصب المذهبي مظهر وقوع الشقاق بين المسلمين شقاقا مذهبياً، ويقابله التساهل المذهبي المقتضي لإطلاق الحرية لكل ذي مذهب من المسلمين أن يأتي بمراسم مذهبه بلا استياء ولا منازعة من أرباب المذهب الآخر، لا ترك الرسوم المذهبية، وثمرة هذا التساهل علو الإسلام باتجاه كلمة المسلمين وأين هذا من كون الفوارق المذهبية مفرّقة؟! نعم لو كانت تلك الفوارق توجب إخلال الجعفرية بالواجب عليهم من رفع منار الإسلام أو أنها توجب تهجين المراسم المذهبية للفرق الأخرى لكان حقّاً لها أن تتعصب وتعتصب أمامها ولكنّها - مع كونها همجية كما يقولون – لا تمس كرامة المذاهب بشيء ولا توجب الإخلال بأي واجب. لقد مرت أزمنة عديدة والجعفرية فيها يدعون في مآتمهم ومواكبهم إلى توحيد كلمة المسلمين، فما وجه دعواهم هذه ياترى في تلك الحال إذا كانت المواكب هي المفرقة فيما بينهم. أجل إنّها فوارق مذهبية لا مفرقة لجماعتهم الملتئمة ـ فهذه الكلمة(4) إمّا بذر للتفرقة أو وهم واشتباه ـ. وإذا شئت أن أريك التعصب المذهبي ملموساً باليد فتأمّل فيما أنقله لك عن المقريزي في خططه في الصفحة 385 من الجزء الثاني منه، فانه بعد أن ذكر أنّ الملوك العلويين بمصر كانوا يتخذون يوم عاشوراء يوم حزن تتعطل فيه الأسواق، قال: فلما زالت الدولة اتخذ الملوك من بني أيوب يوم عاشوراء يوم سرور، يوسّعون فيه على عيالهم، ويتبسّطون في المطاعم ويصنعون الحلاوات ويتخذون الأواني الجديدة ويكتحلون ويدخلون الحمام، جرياً على عادة أهل الشام التي سنّها لهم الحجاج في أيام عبد الملك بن مروان، ليرغموا بذلك آناف شيعة علي بن أبي طالب (كرّم الله وجهه) الذين يتخذون يوم عاشوراء يوم عزاء وحزن على الحسين بن علي (عليه السلام) لأنه قتل فيه ـ انتهى. فيا أيها الرامز إلى التفرقة في كلامه والمريد للتأليف حسب الظن بمرامه، إن كنت تجد أعمال الجعفرية مهجنة للرسوم المذهبية لغيرهم من فرق المسلمين فلك الحق في الاستياء منها، وإن لم تكن كذلك كما هو الواقع، فماذا يضرك منها وما هو سبب الاستياء من إقامتها؟! لو أنّ في طوائف المسلمين من لا يوالي الحسين (عليه السلام) ولا يقدّر شرفه ولا مظلوميته ولا قربه من الرسول (صلى الله عليه وآله) لكان حقه أن يستاء من أقامت تذكاراته، لكنه (سلام الله عليه) ممن يشترك في ولائه جميع المسلمين وعلى جميعهم الحق في إظهار مظلوميته والنوح عليه تقرّباً إلى جدّه صاحب الشفاعة الكبرى (صلى الله عليه وآله) فكيف تكون تذكاراته ـ وهو بتلك المنزلة عند جميعهم ـ رمزاً إلى التفرقة بين جماعتهم وعاملاً من عواملها؟! وقد كثر تحامل الصحف على الجعفرية في أعمالهم الحسينية وعسى أن يكون أصحابها هم المعنيّون في كلام صاحب المقالة بأنهم يسخرون ويستهزئون بيد إنّه يسمّيهم الأجانب وهم في الحقيقة أقارب لا أجانب قد وشجت بينهم وبين الجعفرية من عروق الدين الإسلامي نوابضه ورواهشه وشواكل قلبه. واشتبكت أواصر القرابة بينهم في الأعضاء الرئيسة من جسم دينهم الأقدس وهؤلاء في الحقيقة لا يسخرون بل يستاءون وتتأثر قلوبهم ولو لم يكونوا قد أدركوا النكات الدقيقة العائدة بالنفع المذهبي على الجعفرية من جميع هذه الأعمال ـ التي تعملها الشيعة في شهر المحرم في مآتم وموكب وتمثيل ـ لما استاءوا ولما جدّوا ليل نهار في رفعها ودرس أثرها. الأمر الثاني: إنّ بعض أهل التقشف يمنع من ضرب الطبول، ونفخ الأبواق، ودقّ الصنوج في المواكب وغيرها على الكيفية المرسومة في العزاء في النجف اليوم، وذلك (أي: المنع) من الزّلاّت الناشئة عن خفاء هذه الموضوعات لديهم ولا غرو فهذه موضوعات لا يعرفها النسّاك. الآلات الثلاث تارة يكون استعمالها على الكيفية التي يضرب بها للّهو والطرب كما يستعمله أهله وهذا لا ريب في حرمته، وتارة لا يكون على تلك الكيفية، كالذي يكون في الحرب، وفي العزاء المرسوم، وهذا لو كان محرّماً لكان الضرب العبثي الغير المنتظم محرّماً وذلك مما لا ينبغي لأحد أن يحتمله. ولم يذهب ذاهب ممن يُعتدّ به من فقهائنا إلى حرمة جميع أنحاء استعمال آلات اللهو فضلاً عن المشتركة بينه وبين غيره على أي كيفية كان الاستعمال وفي أي حال وقع. وما ورد في أخبارنا ـ كالمروي عن النوفلي عن السكوني عن الصادق (عليه السلام) من نهي النبي (صلى الله عليه وآله) عن الزفن، والمزمار، وعن الكوبات، والكبرات(5) ـ لم يحرز له إطلاق يشمل غير مورد الاستعمال اللهوي، بل الخبر الآتي وغيره قرينة على أنّ المراد استعمال الآلات المذكورة لأجل اللهو والطرب على الكيفية التي يستعملها أهل الملاهي. وليس المراد باللهو مطلق اللعب ـ كما لعلّه يتوهّمه من لا خبرة له ـ بل ما كان على سبيل البطر وشدة الفرح فإنّ اللعب والعبث ـ ولو لغرض عقلائي ـ مما لم يقل بحرمته أحد ألا أن يكون شاذاً وهو مع شذوذه محجوم بالأخبار الكثيرة. قال شيخنا الإمام (المرتضى الأنصاري) قدّس سرّه: (الظاهر أن حرمة اللعب بآلات اللهو ليس من حيث خصوص الآلة، بل من حيث إنّه لهو). والمراد باللهو هو ما ذكرناه كما صرح به قبل ذلك وبعده. ثم استشهد على ذلك بشواهد منها رواية سماعة عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: لما مات آدم شمت إبليس وقابيل به، فاجتمعا في الأرض فجعل إبليس وقابيل المعازف والملاهي شماتة بآدم، فكلّما كان في الأرض من هذا الضرب الذي يتلذذ به الناس من الزفن والزمار والكوبات والكبرات فإنما هو من ذلك(6)، ثمّ قال: فان هذا يشير إلى أن المناط هو التلهي والتلذذ. أقول: وأنت إذا تأمّلت وجدت دق الصنج مثل التصفيق، بل هو تصفيق بآلة لا باليد ورأيت ضرب الطبل المتعارف في العزاء كضرب الطشت، ولا ريب في أنّ التصفيق والضرب بالطشت بدل الدف إذا استعملا للهو والطرب كان استعمالهما محرّماً كما صرح به الإمام الشيخ المرتضى أيضاً مع إن الطشت ليس من آلات اللهو فضلاً عن التصفيق ولا بمنصوص عليه في الأدلّة، وما ذلك إلاّ لكونه مفيداً فائدة آلاف اللهو. وكذا الحال في الصنج والطبل إذا استعملا على تلك الكيفية كان استعمالهما حراماً وإلاّ فلا وجه لحرمته البتة، ومن هذا القسم ما يستعمل في العزاء والمواكب والشبيه اليوم في النجف، ودعوى أنّ هذا من الملهي المطرب سخيفة جداً. اللهو والطرب أمران يعرفهما الفُساق لا النساك ولا يقلّد فيهما المجتهد إذا كان المقلّد عالماً بهما والمجتهد محتاطاً لعدم استفراغ وسعه في البحث عن الموضوع. وهكذا الأمر في معنى (الغناء) فإني لا أستبعد أن أولئك إذا سمعوا صوتاً رخيماً وإن كان غير متقاطع ولا متناسق النغم حسبوه غناء، وهذا خطأ وأولى لهم أن يسألوا أهل الفسوق عن ألحانهم فإنّها الغناء لا غيرها. إنّ من البديهي الوجداني أنّ ضرب الطبل ودق الصنج ونفخ البوق على الكيفية المرسومة في العزاء اليوم في النجف مع إنها لم يقصد بها اللهو والطرب هي بنفسها لا لهو بها ولا طرب وإنما يقصد بها، انتظام الموكب، والإعلان بمسيره، ووقوفه، ومشايعة صوته لندبة أهل الموكب، فإنّ انتظامه يختلّ بخفاء أصوات النادبين، ولذلك تجدهم إذا اجتمعوا للطم في دار أو مأتم لا يضربون ولا يدقون بشيء لاستغنائهم حينئذ عن كلّ شيء. وقد سمعت من غير واحد أنّ الصنج المتعارف الآن قد أحدثه في العزاء (العلامة المجلسي) أعلى الله مقامه في قرى (إيران) ليسمع أهل القرى القريبة منهم ويعلموا بإقامتهم العزاء، وكذا في البلدان الكبار لأجل تنبيه أهل المحلات جميعاً لأن الطبل الحربي الذي هو المتعارف في العزاء لا شيوع له في البلدان الإيرانية. وهذا القدر وإن كان كافياً في إثبات الجواز لكن نظراً إلى أهمية تحقيق الحال في استعمال الآلات الثلاث المذكورة، فإني أرجع إلى البحث عنها بطور آخر: (الطبل) المعبّر عنه بلسانه العامة (الدّمام) وهو موضوع العناية من الكلام، أما غيره مما قد يستعمل في بعض البلدان كالمسمّى عندهم (نقاره) فلا ريب في حرمته. ذكر العلامة في (التذكرة) والمحقق الثاني في (جامع المقاصد) أقسام الطبول وعدّا منها: طبل الحرب الذي يضرب به للتهويل، وطبل القافلة الذي يضرب به للأعلام بالنزول والارتحال، وطبل العطارين وهو سفط لهم، وطبل اللهو وفسّر بالكوبة، ولكن نظراً إلى اشتراك (الكوبة) بين معان بعضها ليس من أقسام الطبول وبعضها الآخر طبل لهو كما ستعرفه مثّل له (العلامة) بما يضرب به المخنّثون من طبل وسطه ضيق وطرفاه واسعان وقد صرّحوا بجواز استعمال ما عدا الأخير منها وبيعها وشرائها والوصية بها وادّعى في التذكرة الإجماع على ذلك. ولا ريب أن هذه الطبول جميعاً يمكن أن يضرب بها ضرباً لهوياً كما يستعمله أهل الطرب فلم جوّزوا استعمالها؟ أليس لأنها ما أُعدت ولا هُيّئت لذلك؟ أليس لكون الضرب العادي بها ليس ملهياً ولا مطرباً؟ بل هو ضرب إعلام وتنبيه كما هو الشأن في الطبل المستعمل في العزاء.. الطبل العزائي لو كان من الآلات المشتركة بين اللهو وغيره فلا ريب أنّ استعماله ليس لأجل الطرب ولا على الكيفية المطربة ولهذا عدّ (كاشف الغطاء) في عداد ما كان راجحاً لعنوان راجح ينطبق عليه أكثر ما يقام في العزاء من (دق طبول وضرب نحاس وتشابيه صور). قد رأينا طبل الحرب أيام الحرب العامة عند أعراب نجد في النجف، وطبل القافلة عندهم منذ كان الحاج العراقي يسير برّاً على طريق جبلي طي، وهما عين الدمام المتعارف استعماله اليوم في المواكب العزائية في النجف... إن طبل الحرب والقافلة وطبل العزاء في الشكل والحجم سواء، وفي كون الضرب عليها بآلة لا باليد سواء، وفي كون الضرب منتظماً انتظاماً خاصاً سواء، وفي كون الغرض من ضربها التنبيه والإعلام سواء، فما هو الفارق بينها إذاً؟! طبل اللهو. إنّ طبل اللهو يفارق هذه الطبول في جميع هذه الخواص عدا الانتظام بيد أنّه في طبل اللهو على كيفية خاصة يعرفها أهل الملاهي ولا يجهلها كل أحد، وتلك الكيفية غير حاصلة في ضرب الدمام. ومع قطع النظر عن جميع ما أسلفته أوقفك على أمر يكفيك في الحكم بجواز الدمام وهو أنه لم يقطع لفظ الطبل في شيء من الأدلة موضعاً للحكم ليؤخذ بإطلاقه، وليدفع الإطلاق بكون المراد طبل اللهو أو يراد بضربه الضرب الملهي، وإنما الموجود في الأدلة الكبرات والكوبات و (الكبر) بفتحتين الطبل ذو الوجود الواحد، وهذا ليس إلاّ طبل اللهو فإنّ ما عداه بوجهين ـ و (الكوبة) بالضم (البربط) وهو العود أو النرد أو الشطرنج أو طبل صغير. وفي (الصحاح) طبل صغير مختصر، وهذا أيضا ليس سوى طبل اللهو لأنه الصغير، ولو كان غيره كوبة طبلاً صغيراً لم يبق للطبل الصغير مصداق أبداً. وإذا كان لفظ الطبل لم يقع موضوعاً للحكم فلا مساغ للمنع عنه إلاّ بدعوى أنّ كل طبل آلة لهو وأنّ كل آلة لهو يحرم جميع أنحاء الاستعمال بها على جميع الكيفيات، وهذا ما لا أظن بأحد أن يقول به... ومع هذا كله فالاحتياط بترك الطبل كلّه لأنّ تذكارات سيد الشهداء من أهم الأعمال التي يعتبر فيها الإخلاص لله في إقامتها وتعريتها عن كل ما يحتمل تحريمه فضلاً عن معلوم الحرمة. (البوق) المعبّر عنه في لسان العامة (البوري)، لم يعهد استعماله قديماً وحديثاً لأهل الطرب والملاهي كالعود والأوتار والمزامير وإنما يستعمل في الحرب للتنبيه ولحشر الجنود وتسيير المواكب لحرب أو لغيرها فهو في الحقيقة آلة تنبيه وإعلام لا آلة طرب نحو الآلة الصغيرة الصافرة التي يستعملها الشّرط والحرس اليوم للتنبيه ليلاً ونهاراً... ومن عرف الخاصية الطبيعة لهيئته الوضعية يعرف بأنه يستحيل أن يخرج بالنفخ فيه صوت مطرب ولذلك يحصل الجزم لكل عارف به أنّه ليس من المزامير المعدودة من آلات اللهو. ابتدع الشكل الطبيعي للبوق لأجل خروج صوت عال مرتفع مستهجن يبلغ بارتفاعه وهُجنته ما لا يبلغه أرفع صوت مجرّد، وهو كلّما دق موضع النفخ منه واتسعت فوهته العليا زاد صوته ارتفاعاً وهجنة فلارتفاعه استعمل لتنبيه الجند، ولهجنته جعل جزء من (الجوق الموسيقي) للتأليف بين نحو عشرين صوتاً من الأصوات المختلفة في نفخة واحدة لحصول الطرب بالمجموع ولكنه لو انفرد لا يكون ولا يصلح لذلك ولذلك لا ينبغي عدّه من الآلات المشتركة بين اللهو وغيره، وإذا لم يكن من المزامير ولا من آلات اللهو فما هو البرهان على تحريمه؟! لم يوجد في الأدلة ما يتضمن النهي عن، ولم يوجد في الأدلة ما يتضمن النهي عن استعماله بخصوصه فيما حضرني من كتب الاستدلال، من غير فحص كامل. (الصنج) وهو مفرد صنوج المعبّر عنها بلسان العامة اليوم (طوس) المنهي عنه - في المروي في المجمع - فهو بظاهر الأمر مردّد بين معان ثلاثة لا يعلم أيها المقصود بالنهي، ولا أن النهي نهي تنزيه أو تحريم، فقد ذكروا أنّه آلة بأوتار ونحاس صغار مدوّر يجعل في إطار الدّف، وآله تتّخذ من صفر يُضرب إحداها بالأخرى، وهذا المعنى الأخير ينطبق على ما هو المستعمل اليوم في العزاء الحسيني، لكن من المعلوم أنّ استعمال هذا بالنحو المتعارف الآن في النجف لا يمكن قصد التلهّي به والطرب لأنه بذاته لا لهو فيه ولا طرب فكيف يعدّ من آلات اللهو أو المشتركة بينه وبين غيره؟ إنّ دق الصنج المتعارف في المواكب يوجب الضجر لا الطرب وما هو إلاّ كدق الصفّارين بمطارقهم الحديدية على قطعات الصفر دقاً منتظماً، ولا يبعد أن يكون هذا كان مستعملاً في الحرب مع الطبل ـ إن كان قديماً ـ وأنّ الصنج المعدود من آلات الملاهي ليس هو هذا الصنج ولا صنج الموسيقى بل ما يتخذ من صفر قطعاً نحو ما يجعل في إطار الدّف يضع الزافن الراقص ـ كل اثنتين منها في إصبعين من أصابع يديه احديهما في الإبهام والأخرى في السبابة أو الوسطى يضرب بإحديهما الأخرى فترنّ رنيناً خفيفاً هو أرق من التصفيق صدى وأقرب منه إلى الإطراب، وهذا هو ما يسميه الفرس بلغتهم (زنك) وقد اتفق اللغويون على أنّ لفظ صنج فارسي معرب، وإذا كان فارسيّاً هو تلك الآلة كان النهي مختصاً باستعمالها لا محالة، وعسى أن تكون تسمية غيره باسمه للمشابهة. ثم إذا كان الصنج لغة مردّداً بين المعاني الثلاثة وكانت الآلة ذات الأوتار وما يجعل في إطار الدف قدراً متيقناً مما جعل موضوع الحكم وما عدا ذلك مشكوك الفردية له، كان مقتضى أصول الفن. لمن لا يوجب الاحتياط في الشبهة المفهومية ـ أن يقول بجوازه لا حرمته... وكم من فرق بين هذا وبين (كاشف الغطاء) واللغة بمرئى منه ـ يعدّ من الأمور الراجحة: دق طبل إعلام. وضرب نحاس ـ وظني أنه حمل الصنج المنهي عنه على خصوص المطرب منه، ملاحظة للمناسبة بين الحكم وموضوعه... على أنّ حمل ذلك النهي على التحريم لا قرينة عليه ولا إجماع بالفرض، لا سيما والنهي الوارد بلفظ التحذير لا بهيئة النهي ولا بمادّته. الأمر الثالث: رأيت كلاماًً لصاحب الرسالة يلوّح به إلى المنع عن التذكارات التي تقع فيها المحرّمات بحجة أنه (لا يطاع الله من حيث يعصى) فدعاني ذلك إلى شرح هذه الكلمة مهذباً... لا يراد بهذه الكلمة أنّ الطاعة إذا وقع في أثنائها فعل محرّم مباين لها ـ وجوداً منفكّاً عنها خارجاً ـ تكون محرّمة، كما هو الحال في التذكارات المقترنة بالمحرمات، لأن هذا مما قام البرهان على فساده وإلا لبطلت أكثر العبادات ومع ذلك فالأدلة النقلية ـ مضافاً إلى حكم العقل به ـ كثيرة، ويكفي منها الخبر المتضمن لخروج الصادق (عليه السلام) في تشييع جنازة رجع بعض المشيعين عنه لمكان صراخ صارخة ولم يرجع هو (عليه السلام) بل قال لزرارة (امضِ بنا فلو أنّا إذا رأينا شيئاً من الباطل مع الحق تركنا له الحق لم نقض حق مسلم)(7). بل يراد بهذه الكلمة الإعلام بأنّ المعصية الحقيقية لا تكون طاعة كصدقة الزانية من كسب فجورها وإدخالها بذلك السرور على مسلم. وبهذه الكلمة على مثل هذا المعنى استشهد السجاد أو الصادق (عليهم السلام) في الخبر المروي عنه المتضمن لبطلان عمل الناسك السارق للرمان المتصدق بواحدة منه محتجاً بقوله تعالى (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها)(8). ويمكن أن يراد بها مع ذلك أنّ ما هو طاعة حقيقية يلزم أن لا يكون متحداً مع المعصية خارجاً بفعل يكون مجمع العنوانين، كالصلاة في الأرض المغصوبة، وهذا المعنى وسابقه أجنبي عن التذكارات التي تقع فيها المحرمات بزعمه. تمت في شهر ربيع الأول سنة 1345 في المطبعة العلوية: في النجف الأشرف |
1 - الآية (36) من سورة التوبة. 2 - يقصد عام تأليف كتابه هذا وهو عام 1345 هجرية. 3 - الآية (19) من سورة آل عمران. 4 - أي كلمة جريدة الأوقاف العراقية، وكلمة ذلك السيد. 5 - الوسائل: ج 17 باب 100 الحديث رقم 16 ص 313 - طبعة مؤسسة آل البيت (عليهم السلام). الزفن: أي الرقص. الكبر: طبل له وجه. الكوبة: الشطرنجة... راجع العين للخليل بن أحمد الفراهيدي. 6 - الوسائل: ج 17 باب 100 الحديث رقم (5) ص 313 - طبعة مؤسسة آل البيت (عليهم السلام). 7 - بحار الأنوار: ج 46 ص 300 ح 43 ب 6. 8 - بحار الأنوار: ج 47 ص 238. |