موكب القامات
وهو موكب يتألّف من جماعة لابسي الأكفان البيض بأيديهم السيوف والقامات، قد ضربوا المقدّم من رؤوسهم بها، وتناثرت قطرات كثيرة من الدم على تلك الأكفان، وهم يسيرون صفوفاً متكاتفين متلازمين كأنهم حلقات سلسلة واحدة، كلّ قد اخذ بيده الأخرى حجزة الآخر، يخترقون الشوارع على هذه الهيئة، حفاة الأقدام، حسّر الرؤوس، لا يتواثبون ولا يزعقون، غير انهم يهزّون السيوف مؤمين بها إلى رؤوسهم ومن ذلك تحدث لهم في المشي هيئة خاصة، وهؤلاء من جهة: يمثّلون للأبصار طائفة قد استسلمت للموت أقدمت على الحرب في نصرة سليل خير الأنبياء ودفع الأعداء عنه وقد سالت دماؤها الطاهرة على وجوهها، وضمّخت بها رؤوسها، ولطّخت بها ثيابها المتّخذة أكفاناً يوم الطف، ومن جهة أخرى يظهرون بمظهر موكب قد ارتفع في مقادير الحزن عن أن يضرب صدره بيده أو بسلسلة حديدية، بل هو يريد أن قتل نفسه جزعاً من جرّاء تلك الفادحة التي أصيب بها الإسلام في قتل سبط النبي المرسل، فهذا الموكب عزاء من جهة وتمثيل رزية من جهة أخرى، وكلّ ما حررناه في المآتم آت فيه بالأولوية، بل هو في كونه نصرة للحسين (عليه السلام) وبذلاً للنفس في سبيله أظهر وأجلى، وقد مرّ عليك ما يدل على ذلك من قوله (عليه السلام): ينصروننا ويفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا ويبذلون أموالهم وأنفسهم فينا(1). لكن صاحب المقالة لا يذعن بذلك إذ قال: أمّا الضرب بالسيوف والقامات على الرؤوس فمحرّم لما شاهدناه وشاهده غيرنا من موت جماعة منهم في كلّ سنة لكثرة نزف الدم، ولو قطعنا النظر عن هذه الجهة، فهو فعل همجي وحشي مثل الضرب بسلسلة من حديد ولم يرد دليل شرعي بتجويزها، وما من سيرة يستند إليها فيهما، بل هي بنظر أرباب العقول والمعرفة أفعال وحشية ما فيها من ثمرة في التعزية - انتهى. قلت: لا ريب في أنّ دعوى موت جماعة في كلّ سنة لكثرة نزف الدم فرية بلا مريه، فإني منذ أدركت لليوم ما رأيت ولا سمعت أنّ واحداً مات بذلك في أي سنة، وأي بلدة، فضلاً عن جماعة في كلّ سنة، ولقد سألت كثيراً ممن جاوز السبعين والثمانين من سنّي عمره من ثقات أهل النجف وكربلاء والكاظمية وغيرهم من علماء البلدان وصلحائهم وكلّ أنكر أن يكون رأى أو سمع أنّ واحداً من أولئك تألّم ألماً يوجب مراجعة الجرّاح أو المضمّد فضلاً عن موته، فعسى أن يكون ذلك طيفاً سوّلته له الأحلام، أو خيالاً جسّمته له الأوهام، أو حقيقة واقعة في الجيل الواحد مرة واحدة اتفاقاً، كيف لا وأغلب أفراد موكب السيوف يجرحهم كبراؤهم بسكين دقيقة جروحاً خفيفة يظهر منها الدم بواسطة الضرب على الرأس لا بالجرح بمجرده من دون أن يحصل لهم إيلام مزعج، لأنّ غرضهم صوري وهو البروز بصورة القتيل والجريح وليس من أغراضهم الإيلام الحقيقي لأنفسهم. ومع الغض عن هذه الحقيقة الواقعية لو تنزّلنا، وقلنا: أن الجرح يكون بالسيف للإيلام لا غيره، فلاشك أنّ ذلك إنما يوجب التحريم إذا كان مقدمة لإيجاد الموت نحو أن يضرب رأسه ليقتل نفسه، وأمّا الضرب لا لذلك، بل لأمر آخر، قد يترتب عليه في بعض الأحيان لبعض الأفراد الموت من دون أن يكون مقصوداً بالأصالة أو بالتبع ولا لازماً عادياً للضرب نفسه، فإنّ قواعد الفن لا تقتضي تحريمه البتّة، ومجرّد الإيلام وإخراج مقدار من الدم - لا يضر بالصحة - لا دليل على حرمته. قوله: ولو قطعنا النظر عن هذه الجهة (وهي نزف الدم) فهو فعل همجي وحشي مثل الضرب بسلاسل من الحديد. أقول: إذا قطع النظر عن تلك الجهة التي هي علة التحريم، فكونه فعلاً همجياً، لا يفي بالحكم المقصود - لو يعلم - إلا أن يدل البرهان على أن كل عبث وفعل لا ترتكبه العقلاء لهمجيته هو محرّم، وأنّى لأحد بإثباته، على أن عدّه فعلاً همجيّاً وحشيّاً إنما هو بنظر من لم يعرف حكمته ولم يطّلع على المقصود منه، وإلاّ فضرب الصدور بالأيدي في الدور والبيوت يعدّه غير العارف برموزه وأسراره ضرباً من التوحش والهمجية مع انه عند الجميع من الأمور المستحسنة المرضية. أقول: وأنا استسلف العذر عن حزازة القدح اللساني الظاهري فقط بأعظم شعائر الله وحرماته - الحج - ليس الحج إلاّ طواف حول بيته، وسعي وهرولة بين رابيتين، ووقوف على جبل، وهبوط في وداي ورمي أحجار على أحجار، في هيئة مقرحه من كشف الرؤوس لحرّ الشمس وتوفير الشعر وعري البدن إلاّ عن نحو إزار ورداء لا شك أنّ غير العارف برموزها وحكمها وأسرارها يستهزأ بها ويعدّها ضرباً من الجنون والتوحش وفعلاً من أظهر أفعال الهمجية، أفهل يصلح للعارف برموزه وحكمه أن يمنع منه لمجرّد عدّه عند الجاهل همجياً؟! ولقد وقع الاستهزاء جهاراً بتلك المناسك العالية الأسرار، الدقيقة الحكم، والسخرية بها من قبل الماديين الأقدمين كعبد الكريم بن أبي العوجاء وعبد الله الديصاني وأضرابهما وخلّدت كتب الحديث إنكارهما على مولانا الصادق (عليه السلام)(2)، وإنكار المتأخرين أظهر من ذلك، وناهيك الكتب المؤلّفة منهم للاستهزاء بالحج بخصوصه. وأما ثمرتها في التعزية فإنما ينكرها من يجهل السر في إقامة المآتم العزائية، وقد أسلفنا في صدر الرسالة نبذة تتضمن الأسرار المشار أليها ومن تأمّلها يجدها حاصلة في الشبيه وضرب القامات بوجه أتم وأنفع. إنّ أدنى فوائد التذكارات الحسينية التي تعملها الجعفرية اليوم أن تجعل كلّ فرد منهم راسخ الاعتقاد بمذهبه، شديد اليقين به وذلك ما رمزنا إليه وصرّحنا به في غير موضع من الرسالة ولا يلزم أن تكون فائدتها أمراً فوق ذلك. ومن ثمة لو كان قرية مثلاً ليس فيها من غير الجعفرية أحد أبداً لكان يلزم عليهم إقامة التذكارات بجميع مظاهرها لذلك خشية أن يضعف اعتقادهم ويزول بمرور الأيام، كذا لو كانت القرية وما فيها من الجعفرية إلا أفراد معدودة، بل هذه أولى بإقامتها من هذه الجهة، وأخرى أن تلك الأعمال ربما تكون داعية للأغيار إلى الفحص عن أسباب تلك التذكارات واستحسانها حتى تكون بنفسها مبشرّاً من المبشّرين بها. قال بعض مؤرّخي الأجانب في مقام استشهاده على نحو هذا: رأيت في بندر(3) (مارسل) في الفندق شخصاً واحداً عربياً شيعياً من أهل البحرين يقيم المآتم منفرداً جالساً على الكرسي بيده الكتاب يقرأ ويبكي وكان قد أعدّ مائدة من الطعام ففرّقها على الفقراء. فبالله عليك ماذا الذي صيّر هذا الرجل الغريب في البلدة التي لا مماثل له فيها في العنصر والمذهب أن يكون شديد الاعتقاد بمذهبه إلى تلك الدرجة لولا ما تعوّده في بلده منذ نعومة أظفاره من إقامة المآتم والتذكارات. أمّا صاحب المقالة فإنّه يطلب للتذكارات فائدة خاصة نحو أن تكون الشيعة إذا أقامتها ترتقي في نظر غير الجعفرية كلّ مرتقى عال في الدنيا والعقبى!!! قوله: لم يرد دليل شرعي على تجويزها وما من سيرة يستند إليها. أقول: هذا ناش عن القصور في الفقه والأصول، لأن التحريم هو المحتاج إلى الدليل والأصل الإباحة، لما استفاض وتواتر معنى من الأخبار والآثار من أنّ كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي، ومع الغض عن هذا، فإنّ إباحة الشيء أو استحبابه لا يتوقف على دليل يخص مورده بل تكفي فيه الأدلة العامة. وبما أنّ هذا الموكب من جهةٍ يمثّل موقف الحسين (عليه السلام) وأنصاره بالطف يكون إحياءً لامرهم، ومن جهةٍ يظهر بمظهر مرتفع في مقدار الحزن عن أن يضرب صدره بيده، بل يهمّ بقتل نفسه يكون حزناً لأجلهم وباعتبار الجهتين يكون كل فرد من أفراد الموكب متّصفاً بكونه موجع القلب لهم، وباذلاً نفسه فيهم، ومؤدّياً حقّهم، ومعظّماً شعائرهم وناصراً لهم بعد وفاتهم، وغير ذلك من العناوين العامة التي تكثرت فيها الأخبار الخاصة عن أئمة الهدى (سلام الله عليهم). إن أشد الأخبار العامّة مساساً بهذا الموكب وأتم اعتلاقاً به الأخبار الكثيرة المستفيضة الدالة على أن الجزع مكروه ومحظور، ما عدا الجزع على الحسين (عليه السلام) فانه مندوب إليه ومرغب فيه. ففي رواية معاوية بن وهب التي رواها المفيد والشيخ وابن قولويه عن الصادق (عليه السلام): كلّ الجزع والبكاء مكروه سوى الجزع والبكاء على الحسين(4). بل في خبر مسمع بن عبد الملك البصري، عن الصادق (عليه السلام) أنّه قال له (يعني الصادق): أفما تذكر ما صنع به؟ (يعني بالحسين (عليه السلام))؟ قلت: بلى. قال: فتجزع؟ قلت: أي والله وأستعبر لذلك حتى يرى أهلي أثر ذلك عليّ فأمتنع من الطعام والشراب حتى يستبين ذلك في وجهي. قال: رحم الله دمعتك، أما إنّك من الذين يعدّون من أهل الجزع لنا والّذين يفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا ويخافون لخوفنا ويأمنون إذا أمنا - الحديث(5). وهذه وما بعدها بنظري عمدة الأدلة على جواز إدماء الرؤوس بالسيوف، بل واستحبابه، وذلك أنّ كل ما يفعله الشيعة من الضرب بسلاسل الحديد وبالقامات وغيرها هو دون الجزع المرغّب فيه. إن الضرب بالسيوف والقامات على الرؤوس هو مظهر من مظاهر الجزع وليس بجزع حقيقية، فإنّ الجزع أم معروف في اللغة والعرف وهو ضد الصبر نحو أن ينتحر الرجل العاقل أو يلقي نفسه من شاهق لحادثة تحدث تغلب صبره وتورده الهلاك، وأين هذا من جرح الرأس بسكين أو سيف جرحاً خفيفاً يوجب خروج الدم ولا يؤلم إلاّ بمقدار ما تؤلم الحجامة وغيرها مما يرتكب لأغراض عقلائية سياسية أو طبيّة؟! ولا يراد من الجزع في الخبر السابق البكاء، لعطفه عليه، فيه وفيما لا أحصيه عدداً من الأخبار وذلك آية المغايرة بينهما، ولا ما ذكرناه من بلوغ الحزن إلى حيث يورد الهلاك، وإن كان هذا لو صدر من أحد في مصاب فكثيراً ما يحدث بغير اختيار، وكلما هو دون هذه المرتبة مما يتحمّل عادة ولا يجرّ إلى الضرر بالنفس، فهو من الجزع المرغّب فيه، وله مراتب منها: الامتناع من الطعام والشراب مع الحاجة إليهما كما صدر عن (مسمع) وذلك للتأثّر القلبي الموجب لعدم قبول النفس لهما مع شدة الجوع والعطش، وما ورد في بعض أخبارنا من تحديد أشدّ الجزع بالصراخ والويل والعويل ولطم الوجه والصدور وجزّ الشعر من النواصي وإقامة النواحة و الويل و العويل و لطم الوجه و الصدور و جز الشعر من النواصي و إقامة النواحة فهو في غير شأن الحسين (عليه السلام) لأنّ أعظم هذه المعدودات: النواحة وهي عليه راجحة بل واجبة قطعاً. ولطم الخد، وقد دل على جوازه وجواز شق الجيب الخبر الصحيح المروي في (التهذيب) عن خالد بن سدير عن الصادق (عليه السلام) وفيه: (على مثله - يعني الحسين - تلطم الخدود وتشقّ الجيوب)(6).
|
1 - بحار الأنوار: ج 10 ص 114 ح 1 ب 7. 2 - أقبل ابن أبي العوجاء إلى الإمام الصادق (عليه السلام)، فجلس إليه في جماعة من نظرائه، ثم قال له: يا أبا عبد الله… إلى كم تدوسون هذا البيدر، وتلوذون بهذا الحجر، وتعبدون هذا البيت - أي البيت الحرام - المرفوع بالطوب والمدد، وتهرولون حوله هرولة البعير إذا نفر، من فكّر في هذا أو قدّر، علم أنّ هذا فعلّ أسّسه غير حكيم ولاذي نظر. فقل فإنّك رأس هذا الأمر وسنامه، وأبوك اسّه ونظامه. فقال الصادق (عليه السلام): (إنّ من أضلّه الله وأعمى قلبه استوهم الحق فلم يستعذبه، وصار الشيطان وليّه يورده مناهل الهلكة ثم لا يصدره، وهذا بيت استعبد الله به خلقه ليختبر طاعتهم في إتيانه، فحثّهم على تعظيمه وزيارته، وقد جعله محلّ الأنبياء، وقبلة للمصلّين له، فهو شعبه من رضوانه، وطريق تؤدي إلى غفرانه، منصوب على استواء الكمال ومجتمع العظمة والجلال، خلقه الله تعالى قبل دحو الأرض بألفي عام..) أمالي الصدوق المجلس التسعون الحديث الرابع ص 493. 3 - أي ميناء (مارسل) في فرنسا. 4 - بحار الأنوار: ج 44 ص 270 ح 9 ب 34. 5 - بحار الأنوار: ج 44 ص 289 ح 31 ص 34. 6 - بحار الأنوار: ج 8 ص 325 ح 23 ب 4. |