مقدمة
بسم الله الرّحمن الرّحيم بسم الله وله الحمد على جزيل نواله، والصلاة والسّلام على سيّدنا محمّد وآله وبعد فبينا أنا واقف موقف الاندهاش والحيرة - أسوة كثير من أهل الدين – لما وقع في الحرمين الشريفين وما والاهما من المنكرات بهدم المشاهد والمزارات و ذلك في أوّل شهر المحرم من هذا العام حيث يقام التذكار الحسيني المحزن وكفى به جالباً للوجد القلبي ومثيراً للبكاء المقرح، إذ انتهى إلى عدد من جريدة (الأوقات العراقية) التي تصدر في البصرة وفي مفتتحها مقالة ينقل صاحبها عن رجل من فضلاء أهل العلم قطن البصرة منذ شهور يدعى (السيد مهدي) انه منع من تمثيل تلك الفادحة الكبرى والمصيبة العظمى ومن خروج مواكب الرجال يضربون صدورهم بأيديهم في الأزقة والجواد العمومية(1)، فقلت هذه المصيبة الثالثة وما هي بأهون من الأوليين، ثم تواترت الكتب والرسل من البصرة إلى مراكز العلم في النجف وهي ما بين عاذل وعاذر محبّذ لهذا المنع ومستاء منه، فشممت من ذلك روح الأغراض الشخصية بين فئتين، فأعرضتُ وقلت: - فورة لامساس لها بالمذهب سوف تسكن - ثم ما عتمت إلا وقد أرسلت بعد أيّام من البصرة مقالة مطبوعة من مزخرفات ذلك الرجل الفاضل مزج فيها بين الحق والباطل، ونسب الفرقة الجعفرية - في إقامة التذكارات الحسينية ببعض مظاهرها - إلى الإبداع والقيام بأفعال وحشية همجية. وفي هذا تضليل للسلف الصالح من العلماء الأعلام والقوّام على الحلال والحرام، ورفع لأعظم شعار مذهبي ما زالت تجتني الشيعة من فوائده ما يحفظ كيانهم و يثبت عقائدهم فعلمت من أين جاءت هذه البليّة التي تقضي ـ إن تمت ـ على حياة الشيعة وتيقنت أنّ كيد المموّهين والمنافقين وخاصة أفراد (الجمعية الأموية) ذلك الكيد الذي لا ينطلي إلاّ على السذج والبسطاء قد أوقع هذا الرجل بإشراكه(2) فأفتى، ومنع، وقذف، وضلّل، ولفّق أموراً ليس لها مقيل في ظل الحقيقة بل هي (كسراب بقيعة يحسبه الضمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده)(3). كنت أجد لي فيما كتبه وأفتى به علماؤنا الأعلام في هذه الأيام وطبع مُلحقاً برسالة في هذا الشأن لمعاصرينا الفاضل (الشيخ محمد جواد الحجامي النجفي) (حفظه الله) المطبوعة في النجف مندوحة عن الخوض في هذه المسألة التي عزّ وعظم على كلّ عارف من الشيعة أن تقع موقع سؤال وتشكيك. ولكني الآن بعد انتشار تلك المقالة التي هي قرة عين المناوئين لا أجد مساغاً شرعياً للسكوت عما خفي على ذلك (السيد الصائل) ومن يطرب على تصديته، عسى أن ينيب إلى الحق ويتنبه إلى ما أغفله به الأغيار المفكرون ـ ومن الله أرجو أن تكون رسالتي هذه التي سميتها: (نصرة المظلوم) سبباً لهداية إخواننا المسلمين إلى اتباع الحق بيقين، أنه وليّ ذلك والقادر عليه. وهاأنا بعون الله وتوفيقه ذاكر في مقدمة هذه العجالة بحثاً فلسفياً تاريخياً ينتهي بالمتأمّل فيه إلى العلم بان التذكارات الحسينية بجميع أنواعها حافظة للمذهب الجعفري عن الاندراس والدثور، وبهذا الاعتبار لا يحتاج في شرعية بعضها إلى ورود دليل خاص به، وإنه لا يعتني بسخرية الساخر... فانه في الحقيقة ماكر لا ساخر يريد إطفاء أنوار الأئمة الأطهار بكيده ومكره ولا يحيق المكر السيئ إلاّ بأهله. فأقول: يتردد على ألسنة عموم الشيعة نحو قول: (قُتل الحسين (عليه السلام) لإحياء دين جدّه) ومرادهم بدين جده (الطريقة التي هم عليها) ـ من الاعتقاد مع الشهادتين والمعاد - بإمامة علي وولده إلى المهدي (عليهم السلام) وأنهم معصومون مبرّؤون عن كل ذنب وعيب جامعون لكل فضيلة في البشر، وتفصيل إحيائه لهذه الطريقة بتسليم نفسه للقتل عالماً عامداً تعرفه مما نذكره ثمة. لا شك أنه ما كان المسلمون في شطر من الصدر الأول يُنزلون أهل البيت الطاهر بالمنزلة التي تنزلهم بها الجعفرية اليوم من كونهم أئمة حق ومعصومين فضلاً عن اعتقاد كون الإمامة والعصمة في عقب الحسين (عليه السلام) إلى عدة خاصة من أبنائه، فإنه مما لم يذعن به إلا ممتحن القلب، اللهم إلا في أعوام نزرة مشوبة بفتن وحروب، كثر في خلالها عدد الشيعة و ثبتت عقائدهم، لكن لم تكن مقتضيات الأحوال يومئذ بالغة إلى حدّ يوجب سيادة هذا الاعتقاد في العالم الإسلامي، ثم ما برح ذلك العدد الجم أن عراه النقص، ولبس ثوب الإذلال، وكان ضئيلاً من قبل ذلك، وذلك لأجل الجَنَف(4) الذي أظهره آل أبي سفيان في المصرَين وما يتبعهما وغيرهما من مراكز الشيعة، فقد غرسوا بغض علي (عليه السلام) وولده وسبهم والبراءة منهم في أعماق قلوب العامة بأساليب مختلفة وتتبعوا شيعتهم على الظنة والتهمة حتى كادوا أن يستأصلوا شأفتهم وبعثوا إلى المشرّدين منهم والمسجونين ضروب الأذى والتنكيل، ووضعوا الأحاديث النبوية في فضل بني أمية وأعلنت الخطباء في كل صقع بأسمائهم مقرونة بالتبجيل والتكريم وكونهم خلفاء النبي (صلى الله عليه وآله) وذوي رحمه وورّاث حكمه وحكمته، وان مخالفتهم ضلال، والخروج عليهم خروج عن ربقة الإسلام حتى أتى على ذلك نيف وثلاثون سنة، وبعض هذا في أقل من تلك المدة كاف في اندراس ذكر علي وولده (عليهم السلام) واندراس طريقتهم وأحكامهم، حتى إذا ولي الأمر يزيد بن معاوية بعد أبيه وقد توطدت له الأسباب تسنّى له أن يبيد كل هاشمي من على جديد الأرض لتهوّره، وشدة إقدامه، وتجاهره بهتك الحرمات، كما ينبئ عن ذلك - بعد يوم الطف - (وقعة الحرة) و (رميُ الكعبة). فلذلك قام الحسين (عليه السلام) ضد بني أمية ـ قيام مستاء جداً من جرّاء قسوتهم المخالفة لدين الإسلام ولا همّ له إلاّ إحياء ما أماتوه من الآثار والمآثر الإسلامية، وبقتلهم إيّاه ـ تلك القتلة الشنيعة بأيدي تلك الألوف المتجمهرة عليه وقتل سبعة عشر رجلاً من بنيه وبني أخيه وعمّه حتى الشباب والأطفال الرّضّع منهم، وقتل أنصاره وسبي ذراريه وعياله إلى الكوفة، ومنها إلى الشام حيث مركز الخلافة الأموية، وإشهار رأسه ورؤوس آله في البلدان - سقطت منزلة بني أمية من القلوب وعلم الناس نواياهم السيئة أيقنوا أنهم ليسوا بأئمة حق، لأن أفعالهم تلك لا تتفق مع أي دين ولا يرافقها من العدل شبح، بل هي خارجة عن حدود الإنسانية. وكان في نفوس العامة في العراق نفور مّا منهم من جرّاء القتل الذريع بكبرائهم لتهمة التشيع وجنف العمال بهم، وكذلك في الحجاز أيام استخلاف يزيد (عليه اللعنة) لمعلومية فسقه وجوره، وظهر يومئذ للعالم الإسلامي كله أن بني أمية لم تسع في هدم دين الإسلام فقط، بل تسعى عن طريق التعصب الجاهلي في أن لا تبقي لهاشمي أثراً وعلى الأخص بقايا آل محمد (صلى الله عليه وآله) ومن هذا الوجه ظهر للعالم أجمع مظلومية الحسين (عليه السلام) وصار ذلك سبباً للالتفات إلى مظلومية أبيه يوم (صفين) وأخيه (عام الصلح). لما قتل الحسين (عليه السلام) طال لسان اللوم والإنكار على يزيد (عليه اللعنة) حتى من بني أمية أنفسهم ومن بقايا الصحابة في الشام وفي المدينة المنورة على حين إنه لم يكن بالإمكان ذكر علي (عليه السلام) والحسين (عليه السلام) بخير في البلدان القاصية عن مركز خلافة بني أمية فضلاً عن إطرائهم بين يدي يزيد ولدى حاشيته وفي داره، حتى روى في (العقد الفريد) عن المدائني أنه لم توجد في دار يزيد سفيانية إلاّ وهي متلدّمة تبكي على الحسين (عليه السلام) وما كان ينفع يزيد عند الناس إسناد قتله إلى ابن مرجانه بغير علم منه وهم يرون فرحه و سروره - بإشهار رأسه ورؤس آله وسوق ذراريهم وعيالهم له كالسبي المجلوب، وتزيينه الشام أياماً - استبشاراً بذلك. لعمري أن هذا الإطراء والذكر الجميل واعتقاد مظلومية الحسين (عليه السلام) وآله عند العامة في الشام أول مراتب التشيع ومعرفة آل محمد (صلى الله عليه وآله) والإذعان بفضلهم الذي لا سبب له إلاّ قتل الحسين (عليه السلام). في عام قتل الحسين هاج كثير من أهل الكوفة للأخذ بثأره وما زالوا يستعدون للثورة عدّتها من جمع سلاح وتوفير عدد نحواً من ثلاث سنين، وأهل المدينة في خلال تلك المدة ثائرون عليه مع عبد الله بن حنظلة (غسيل الملائكة) وابنُ الزبير ناصب بمكة يدعو إلى نفسه ويعلن الطلب بثار الحسين بدء أمره حتى هلك يزيد (عليه اللعنة) وحينئذ تجمهرت الألوف بالكوفة لا حافز لها إلاّ الطلب بثار الحسين (عليه السلام) وهي تذكر أباه وأخاه وسائر آله بكل جميل وتعلن استحقاق علي (عليه السلام) وولده الإمامة والخلافة عن الرسول (صلى الله عليه وآله) يومئذ ظهر التشيع الصلب وامتازت شيعة علي (عليه السلام) من شيعة بني أمية ونتج من ذلك التجمهر والامتياز وقعة (عين الوردة) التي قتل بها اكثر التوابين و (وقعة نهر الخازر) التي هلك فيها من جند بني أمية سبعون ألفاً فيهم ابن مرجانة. وبان ثمة التشيع بأجلى مظاهره وانقادت الناس من يومئذ إلى أهل البيت (عليهم السلام) باقتفاء آثارهم والاقتباس من علومهم وأخذ مراسم الدين منهم، وما برح الثوار يتتابعون، كزيد بن علي وولده عيسى بن زيد وغيرهما ويقوى أمر الشيعة ويشتد أزرهم وتظهر كلمتهم وتثبت عقائدهم ببركة تلك الثورات الناجمة من قتل الحسين (عليه السلام) ولم يمض قرن واحد من لدن قتله حتى باد بنو أمية وأصبحت السلطة الإسلامية لفريق من بني هاشم وهم (بنو العباس) الذين - باسم ثارات الحسين (عليه السلام) وولده وبني عمومته - لم يبقوا من الأمويين في الأرض نافخ ضرمه إلا من لا يعرف. من هذه الرموز كلها تعرف معنى كون الحسين (عليه السلام) قتل لإحياء دين جده وتذعن إنه لم يطلب حقاً هو لغيره ولم يرد أن يكون جباراً في الأرض وإلاّ فلا موقع لإطرائه والطلب بثأره. ولما رسخت أقدام العباسيين في الإمرة الإسلامية ورأوا أنّ المغروس في أعماق قلوب أكثر المسلمين هو أن الرياسة الروحانية المقدسة لعقب الحسين (عليه السلام) من العلويين خافوا على ملكهم بادرة الثوار منهم. وأدرك أولئك أن لا قدرة لهم على الطلب بحقهم وقد باد بنو أمية، وتشتت أفكار العامة، أعرست الدنيا بملك بني العباس، وكان الرئيس الروحاني من أولاد الحسين (عليه السلام) يومئذ والمشار إليه من بينهم والمطاع في الناس هو أبو عبد الله (جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)) فآثر العزلة وكذلك أبناؤه إماماً بعد إمام و هم في خلال ذلك يلاقون ضروب الأذى والقتل والتنكيل، ولكنهم حفظوا ما قُتل عليه جدّهم بأمرهم شيعتهم - بدل الثورة - (بالتذكّرات الحسينية) بذكر مصائبه فُرادى وجماعات في جميع الأحوال ونقل ما جرى عليه وعليهم من الفجايع من لدن قتله إلى أيامهم، والبكاء والإبكاء والتباكي لما أصابهم، وبالغوا في الإطناب بذكر ثواب ذلك إلى حد هو فوق التصور، لأنهم رأوا أنّ ذلك هو اليد القوية في إحكام الرابطة بين أفراد الشيعة وتميّزهم عمن سواهم من الشّيع، كما أنّ الثورات الدموية أوجبت تميزهم عن شيعة بني أمية وحفظت عقائدهم لذلك الوقت. وعلى ذلك من الشواهد التاريخية ما تضيق عنه الرسالة، ثم إنهم (عليهم السلام) بمزيد لطفهم وواسع علمهم حفظوا تلك المجتمعات وحافظوا على الأفراد والجماعات من الشيعة بتشديد الأمر عليهم بالاتّقاء والتستر حتى نفوا اسم الدين عن غير المتقى... وهذه المجتمعات - المأمور بها منهم ببيانات مختلفة والمنعقدة عندهم في منازلهم - هي ما نسميها اليوم (المآتم) و (مجالس العزاء). لا شك أنه لا غرض للأئمة (عليهم السلام) - وهم حكماء الأمة - من الأمر بذلك الاجتماع المحزن وتذكّر تلك المصيبة المقرحة في أحوال مخصوصة كثيرة وزيارته التي لم يكفهم الترغيب إليها والمبالغة في ثوابها حتى حذّروا من تركها وبعبارة جامعة ليس أمرهم بتلك الروابط الحسينية إلا حفظ المذهب عن الاندراس، وهو الغاية التي قتل لها الحسين (عليه السلام) وهذه الحكم مع أنها وجدانية قد المعوا إليها بعبارات مختلفة وضوحاً وخفاءاً وأمروا بها صريحاً فيما تضمن الحث على إحياء أمرهم. نحو قول الصادق (عليه السلام) للفضيل بن يسار: تجلسون وتتحدثون؟ قال: نعم جعلت فداك، قال: إن تلك المجالس أحبّها فأحيوا أمرنا، يا فضيل فرحم الله من أحي أمرنا(5). وقوله (عليه السلام): من جلس مجلساً يحيى فيه امرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب(6). وقوله (عليه السلام): رحم الله عبداً اجتمع مع آخر فتذاكر امرنا فان ثالثهما ملك يستغفر لهما، وما اجتمع اثنان على ذكرنا إلا باهى الله بهما الملائكة، فإذا اجتمعتم فاشتغلوا بالذّكر، فان في اجتماعكم ومذاكرتكم إحياءنا، وخير الناس بعدنا من ذاكر بأمرنا، ودعا إلى ذكرنا(7). وغير ذلك فكأنّهم (عليهم السلام) رأوا إن تلك (التذكارات الحسينية) هي التي توجب بقاء الناس على مرور الأزمان على الاعتقاد بإمامتهم ووافر فضلهم وعصمتهم ومظلوميتهم من الخلفاء في كلّ عصر من أعصارهم وذلك روح التشيع. أنا لا أشك أنّ تلك المجالس والمجتمعات ألبستها الأئمة الأطهار (عليهم السلام) - بواسع علمهم وبعد نظرهم للمستقبل - لباساً مذهبياً لأنها السبب الوحيد لاجتماع كلمة الشيعة ورسوخ عقائدهم وبقاء ذكر الجميل بكل معانيه للأئمة فيما بينهم، وتلك نكتة مستورة عن جميع المسلمين حتى عن الشيعة أنفسهم، فإنهم لا يتصوّرون هذه الفائدة من عملهم، بل قصدهم الثواب الأخروي فقط، لكن بما إن كل عمل لابد أن يظهر له بطبيعته أثر فهذه المجالس بما يحدث فيها من إظهار مظلومية آل محمّد (صلى الله عليه وآله) تؤثر تلك الثمرات للشيعة من حيث لا يشعرون. إليك فانظر ماذا يضر (المتوكل العباسي) في كونه ملكاً وخليفة من ولد العباس عم النبي (صلى الله عليه وآله) من أن طائفة من المسلمين تزور قبر الحسين (عليه السلام) وهو ابن عمه حتى يمنع عن زيارته ويوجّه إليه الفعلة بأمرهم بحرثه وإجراء الماء عليه، وما دخل ذلك في الملك والسلطان لولا أنه قد أدرك أن (الرابطة الحسينية) المسبّبة عن اندفاع تلك الجماهير إلى زيارة قبره مجتمعين عنده ذاكرين فضله وفضل آبائه وأبنائه ومظلوميتهم مجاهرين بالبكاء عليه وعليهم هي التي توجب ثبوت الاعتقاد بإمامتهم وذلك هو روح التشيع. اُنظر لم ينكر الإمام (عليه السلام) - وقد ارتفع البكاء في داره على الحسين (عليه السلام) واجتمع الناس على الباب - لم ينكر أن يكون ذلك على جدّه المظلوم ويقول مات طفل لنا فبكت عليه النساء (وقد صدق فقد ماتت لهم أطفال في كربلاء).؟ بالله عليك لم يدمج راوي انعقاد المأتم على الحسين (عليه السلام) يومئذ للبكاء عليه فيقول: (جاء قاص يقص فبكينا) ولا يقول نذكر مصرع الحسين (عليه السلام)؟ وهل هم يبكون على مصيبة يقصّها القاص إلاّ مصيبة الحسين (عليه السلام) التي يجتمعون لأجلها؟ ولم يُتخَفّ بها لولا أنها مظهر روح التشيع. وأنت إذا تيقّنت قيام تلك الفائدة الجليّة بالمآتم الحسينية قياماً طبيعياً أرشدت إليه الأئمة الأطهار (عليهم السلام) بهاتيك الأخبار لزمك الإلتزام بوجوبها كفاية ووجوب كلما يفيد مفادها كذلك من تمثيل الفاجعة لحاسة البصر أو سير مواكب الرجال في الأزقّة والشوارع مذكّرةً بها، ولم تحتج بعد تلك الفائدة الملموسة باليد إلى نضد الأدلة على مشروعيتها إذ إنّها بهذا البيان الذي يشهد به الوجدان أجلّ من أن يرتاب مريب في رجحانها بل وجوبها كفاية. وإن أقربها علاقة وشبهاً بالمآتم (التمثيل)، فإنّ من سبر غوره وتعمّق بالغوص على سرّه يعلم آن فيه من النّكت ما ليس في إقامة المآتم المجردة عنه.. إذا كان السرّ في إقامة المآتم والغرض منها ظاهراً إظهار مظلومية سيّد الشهداء لدى العموم، وباطناً اتفاق كلمة الشيعة وحفظ عقائدهم عن الاندراس على مرور الأزمان. فلا ريب أنّ تمثيل الواقعة لحاسة البصر بما يصدر فيها من حركة وسكون قول وفعل أبلغ في إظهار مظلومية ذلك الشهيد الأعظم من الأقوال المجرّدة على المنابر وفي المجامع وأدخل في تثبيت العقائد وإحكام الروابط بين أفراد الجعفرية. إذا كانت الفرقة الجعفرية تذكر في المآتم وعلى المنابر المصائب التي وردت على الحسين (عليه السلام) ونصب أعينها الأحاديث المرغّبة على البكاء عليه والحزن لأجله فتمثيل تلك المصائب للأنظار، له تأثير عظيم في القلوب لأنه يجعل العام والخاص من الجعفرية راسخ العقيدة ثابت اليقين. لاشك أنّ الجعفرية في تمثيلها للفادحة الحسينية تصيب من جهة إحياء أمر الأئمة (عليهم السلام) وهذا هو السبب الوحيد لتسليم الحسين (عليه السلام) نفسه للقتل: ومن جهة أخرى يحصل لهم ولغيرهم تحزين الطبايع وإبكاء النواظر وإثارة العواطف الرقيقة نحو المصاب بتلك الفادحة الكبرى ورفع الستار عن فضايح الظالمين وأتباعهم. التمثيل وان لم يكن قديماً عند الشيعة بل هو حادث منذ عدة قرون ولكن ليس كل حادث في المذهب لا يكون معمولاً به. الحادث إذا كان مفيداً فائدة القديم المشروع بوجه أتم وأبلغ كان مشروعاً لا سيما إذا احتمل كون تركه في الزمن الأقدم لعدم إمكان إقامته اتقّاءً. لا شك أنّ إظهار الحزن ومظلومية سيّد الشهداء (عليه السلام) والإبكاء عليه وإحياء أمره بسنخه عبادة في المذهب لا بشخص خاص منه ضرورة انه لم ترد في الشريعة كيفية خاصة للحزن والإبكاء واحياء الذكر المأمور بها ليقتصر عليها الحزين في حزنه والمحيى لأمرهم في إحيائه والمبكي في إبكائه. وإذا كان سنخ الشيء عبادة ومندوباً إليه سرت مشروعيته إلى جميع أفراده من جهة الفردية ولذلك لم نر أحداً من صلحاء الشيعة وعلمائهم، ولم يؤثر ولم ينقل عن أحد منهم في الأجيال السالفة من لا يعد التمثيل مثل قراءة (كتاب المقتل) في عباديّته وفي كونه مبكياً ومحزناً فضلاً عن إنكار مشروعيته. إن الذين ادخلوا التمثيل في التذكارات الحسينية لا شك انهم من كبراء رجال أهل الدين المفكرين وأرباب السلطة المتّبعة من الشيعة ولذلك يظن البعض أنه انتشر في بلدان الشيعة من قبل سياسة السلاطين الصفوية الذين هم أول سلسلة استولت على السلطنة بقوة المذهب ثم أيّده رؤساء الشيعة الروحانيون شيئاً فشيئاً وأجازوه… وبما أن حكماء الهند أقدم من الصفوية في استعماله استنبط منه أنّ هؤلاء أخذوه من أولئك وألبسوه لباس المذهب لمّا رأوا من فوائده المذهبية. وحيث أنهيت المقصود من المقدمة التي هي في الحقيقة نتيجة المقصد فأني شارع بعون الله تعالى في ذكر جميع (التذكارات الحسينية) على التفصيل وباحث في كل منها عن مشروعيته وعدمها وعن حسنه و قبحه وهناك يكون التعرض لرد (الصولة) بكمال الأدب والاحترام.
|
1 - الجوادّ: جمع جادّة. 2 - مفردة (شَرَك)أي الفَخّ. 3 - سورة النور الآية 39. 4 - الجنف: أي الميل في الكلام، والمراد هنا الميل عن الحق والعدول عنه. 5 - بحار الأنوار: ج 44 ص 282 ح 14 ب 34. 6 - بحار الأنوار: ج 1 ص 200 ح 6 ب 4. 7 - بحار الأنوار: ج 1 ص 200 ح 8 ب 4. |