الفصل الثالث: الخلــق العظيــم الكريــم السخــي: 1- جاء إلى الإمام الحسين (عليه السلام) أعرابي فقال: يا بن رسول الله قد ضمنت دية كاملة وعجزت عن أدائها، فقلت في نفسي: أسأل أكرم الناس. وما رأيت أكرم من أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله). فقال له الحسين (عليه السلام): (يا أخا العرب، أسألك عن ثلاث مسائل، فإن أجبت عن واحدة أعطيتك ثلث المال، وإن أجبت عن اثنين أعطيتك ثلثي المال، وإن أجبت عن الكل أعطيتك الكل). فقال الأعرابي: أمثلك يسأل مثلي، وأنت من أهل العلم والشرف!؟ فقال الحسين (عليه السلام): (بلى، سمعت جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: المعروف بقدر المعرفة). فقال الأعرابي: سل عما بدا لك، فإن أجبت وإلاّ تعلمت منك، ولا قوة إلاّ بالله. فقال الحسين (عليه السلام): (أي الأعمال أفضل؟). فقال الأعرابي: الإيمان بالله. فقال الحسين (عليه السلام): (فما النجاة من الهلكة؟). فقال الأعرابي: الثقة بالله. فقال الحسين (عليه السلام): (فما يزين الرجل؟). فقال الأعرابي: علم معه حلم. فقال (عليه السلام): (فإن أخطأه ذلك ؟). فقال: مالٌ معه مروءة. قال: (فإن أخطأه ذلك؟). فقال: فقرٌ معه صبر. فقال الحسين (عليه السلام): (فإن أخطأه ذلك؟). فقال الأعرابي: فصاعقة تنزل من السماء فتحرقه فإنه أهل لذلك. فضحك الحسين (عليه السلام) وأعطاه صرّة فيها ألف دينار، وأعطاه خاتمه، وفيه فص قيمته مئتا درهم، وقال: (يا أعرابي ! أعط الذهب إلى غرمائك، واصرف الخاتم في نفقتك ). فأخذ الأعرابي ذلك وقال: الله أعلم حيث يجعل رسالته(1). 2- قال أنس بن مالك: كنت عند الحسين (عليه السلام)، فدخلْت عليه جارية فحيَّته بطاقة ريحان فقال لها: (أنت حرة لوجه الله). فقلت تحييك بطاقة ريحان لا خطر لها فتعتقها ؟! قال: (كذا أَدَّبنا الله، قال: (وإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِاَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ)[سورة النساء: الآية 86] وكان أحسن منها عتقها)(2). 3- وجاء إليه أعرابي - فأنشده مقطوعة شعرية بيَّن بها حاجته فقال: لم يَخِب الآنَ مَن رَجاك ومَن حرَّك من دون بابك الحلقــه أنت جوادٌ، وأنت معتمــــــــدٌ أبوك قد كان قاتل الفسقــــه لولا الذي كان من أوائلكـــــم كانت علينا الجحيم منطبقه وكان الحسين يصلي آنذاك فلما فرغ من صلاته، لف على طرف رداء له أربعة آلاف دينار ذهب، وناوله قائلاً: خذها فإِني إليــك معتـــــــــذرٌ واعلــمْ بأني عليك ذو شفقــه لو كان في سرِّنا الغـداة عصاً كانت سمانا عليــــك مندفقـه لكنَّ ريب الزمـان ذو غِيَـــــــرٍ والكفُّ مني قليلةُ النفقــــــه فأخذ الأعرابي يبكي شوقا، ثم تصعدت من أعماقه آهات حارة، وقال: كيف تبلى هذه الأيدي الكريمة ؟..(3). عــون الضعفــاء: وهذه صفة تأتي كالفرع الذي سبقها من سجية الكرم، فإن النفس إذا بلغت رفعتها المأمولة حنَّت على الآخرين حنان السحابة على الأرض والشمس على الكواكب. 1- وُجد على كاهله الشريف بعد وقعة الطف أثراً بليغاً كأنه من جرح عدة صوارم متقاربة، وحيث عرف الشاهدون أنه ليس من أثر جرح عاديّ، سألوا علي بن الحسين (عليه السلام) عن ذلك ؟ فقال: (هذا مما كان ينقل الجراب على ظهره إلى منازل الأرامل واليتامى والمساكين)(4). 2- ويذكر بهذه المناسبة أيضاً أن مالاً وزّعه معاوية بين الزعماء والوجهاء، فلما فصلت الحمالون تذاكر الجالسون بحضرة معاوية أمر هؤلاء المرسل إليهم الأموال حتى انتهى الحديث إلى الحسين (عليه السلام). فقال معاوية: وأما الحسين فيبدأ بأيتام مَن قُتل مع أبيه بصفيِّن، فإن بقي شيء نحر به الجزر وسقى به اللبن(5). ومعاوية كان من ألدِّ أعداء الحسين (عليه السلام) ولكنه يضطر الآن إلى أن يعترف بكرمه وسخائه، حيث لا يجد دون ذلك مهرباً. وإلى هذا المدى البعيد يبلغ الحسين (عليه السلام) في الكرم، حتى لَيقف عدوّه الكذاب الذي لم يترك أحدا من الزعماء الأبرياء، إلاّ وكاد له بتهمةٍ، ووصمه بها وصمة.. حتى أن عليّاً سيد الصالحين، والحسن الزكي الأمين، فإن معاوية هذا يقف على منبرٍ يشيد بهما وبسجاياهما المباركة. 3- وقال (عليه السلام) يرغب الناس في الجود: إذا جادت الدنيا عليك فجُدْ بها على الناس طرّاً، قبل أن تتفلتِ فما الجود يفنيه إذا هي أقبلت وما البخل يبقيها إذا هي ولــتِ وفعلاً كان الحسين (عليه السلام) العامل قبل أن يكون القائل، وسأتلو عليكم هذه القصة. 4- دخل (عليه السلام) على أسامة بـن زيد وهو على فراش المرض يقول: واغمَّاه، فقال: (وما غمَّك يا أخي؟) قال: دَيني وهو ستون ألف درهم. فقال: (هو عَلَيّ) قال: إني أخشى أن أموت قبل أن يُقضى، قال: (لن تموت حتى أقضيها عنك، فقضاها قبل موته)(6). الشجاع والبطل: نعتقد نحن الشيعة أن الأئمة الأثنى عشر قد بلغوا القمة من كل كمال، ولم يَدعو مجالاً للسمو إلاّ ولجوه فكانوا السابقين. بيد أن الظروف التي مرّوا بها كانت تختلف في إنجاز مؤهلاتهم بقدرها، وطبقاً لهذه الفلسفة فإن كل واحد منهم اختص بصفة مميَّزة بين الآخرين. وإن ميزة الإمام الحسين (عليه السلام) هي الشجاعة والبطولة بين سائر الأئمة (عليه السلام). وكلما تصور الإنسان واقعة كربلاء ذات المشاهد الرهيبة، التي امتزج فيها الدمع بالدم، ويلتقي بها الصبر بالمروءة، والمواساة بالفداء، لاحت بسالة أبرز أبطالها الإمام الحسين (عليه السلام)، في أروع وأبهى ما تكون بطولة في التاريخ. ولولا ما نعرفه في ذات الإمام من كفاءاته البطولية التي ورثها ساعداً عن ساعد، وفؤاداً عن فؤاد، ولولا الوثائق التاريخية التي لا يخالجها الشك، ولولا ما نعتقده من أن القدوة الروحية لابد أن تكون آية الخلق ومعجزة الإله فلربما شككنا في كثير من الحقائق الثابتة التي يذهل دونها العقل، والفكر، والضمير. كان الإمام الحسين (عليه السلام) يوم الطف ينزل إلى المعركة في كل مناسبة فيكشف إسراف الخيل، لتفصح عن جثمان صحابي أو هاشمي يريد بلوغ مصرعه. ولربما احتدم النزاع عنيداً شديداً بينه وبينهم وهو يحاول بلوغ مصرع من يريده. فكانت تعد كل محاولة له من هذا النوع هجمة فريدة، ومع ذلك كان يكرر ذلك كل ساعة حتى قُتل أصحابه، وأبناؤه، وإخوانه جميعاً. والمصيبة ذاتها كانت مما يُنيل من قوة الإنسان، كما تفُلّ من عزيمته، والعطش والجوع يضعفان المرء، ويذهبان بكل طاقاته، والحر سبب آخر يأخذ جهداً من المرء كثيراً. ويجتمع كل ذلك في شخص الحسين (عليه السلام) يوم عاشوراء، ومع ذلك فإنه يلبس درعاً منصفاً، ذو واجهة أمامية فقط، ويهجم على الجيش الضاري، فإذا به كالصاعقة تنقض فيتساقط على جانبيه الأبطال كما تتساقط أوراق الشجر في فصل الخريف. فيقول بعض من حضر المشهد: إنه ما رأيت أشجع منه، إذ يكر على الجيش، فيفر أمامه فرار المعزى عن الأسد، وذلك في حين أنه لم يكن آنذاك أفصح منه إنساناً. وحينما نرجع بالتاريخ إلى الوراء نجد من الإمام الحسين (عليه السلام) بطولات نادرة في الفتوحات الإسلامية. ثم في حروب الإمام علي (عليه السلام ). إلاّ أنها مهما بلغت من القوة والاصالة فإنها لا تبلغ شجاعته يوم عاشوراء، تلك التي كانت آية رائعة في تاريخ الإنسانية بلا شك. يقول العقاد: وليس في بني الإنسان من هو أشجع قلباً ممن أقدم على ما أقدم عليه الحسين في يوم عاشوراء(7). الزاهد العابد: كان الحسين (عليه السلام) يحج كل سنة، إلاّ إذا حالت دون ذلك الظروف. وكان يمشي على قدميه إذا حج، وتقاد بجانبيه عشرات الإبل بغير راكب، فيتفقد كل مسكين فقير، صفرت يداه عن تهيئة راحلة للحج، فيسوق إليه الراحلة من الإبل التي معه. وكان يصلي كل ليلة ألف ركعة، حتى سئل نجله الإمام زين العابدين (عليه السلام): ما بال أبيك قليل الأولاد؟. فأجاب: (إنه كان يصلي في كل ليلة ألف ركعة، فمتى يحرث). الصابر الحكيم: 1- الصبر هو استطاعة الفرد على ضبط أعصابه في أحرج موقف. ولا ريب أن الإمام الحسين (عليه السلام). كان يوم عاشوراء في أحرج موقف وقفه إنسان أمام أعنف قوة، وأقسى حالة. ومع ذلك فقد صبر صبراً تعجَّبت ملائكة السماء من طول استقامته، وقوة إرادته، ومضاء عزيمته.. 2- جنى عليه غلام جناية توجب العقاب، فأمر به أن يُضرب، فقال: يا مولاي ! (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ)[سورة آل عمران: الآية 134] قال: (خَلُّوا عنه) فقال: يا مولاي ! (وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ)[سورة آل عمران: الآية 134] قال: (قد عفوت عنك) قال: يا مولاي (وَالله يُحِبُّ الْمحْسِنِينَ)[سورة آل عمران: الآية 134] قال: (أنت حر لوجه الله، ولك ضعف ما كنت أعطيك)(8). الفصيح البديه: لقد زخرت الكتب التاريخية بنوادره الرائعة من كلمات فصيحة يحسدها الدر في ألمع نضارته، وآلق روعته. وقد جُمع ذلك في كتب برأسها، إلاّ أني ذاكر لك الآن شيئاً قليلاً منها. 1- أبعد عثمانُ الصحابيَّ الكبيرَ أبا ذر (رض)، فشيَّعه عليٌّ وابناه (عليهما السلام)، فقال الإمام الحسين بالمناسبة: (يا عمَّاه، إن الله قادر أن يغير ما قد ترى. والله كل يوم في شأن. وقد منعك القوم دنياهم ومنعتهم دينك، وما أغناك عمّا منعوك، وأحوجهم إلى ما منعتهم. فاسأل الله الصبر والنصر، واستعن به من الجشع والجزع، فإن الصبر من الدِّين والكرم، وإن الجشع لا يقدم رزقاً، والجزع لا يؤخر أجلاً)(9). 2- جاء إليه أعرابي فقال: إني جئتك من الهرقل والجعلل والأنيم والمهمم. فتبسم الحسين (عليه السلام) وقال: (يا أعرابي لقد تكلمت بكلام ما يعقله إلاّ العالمون). فقال الأعرابي: وأقول أكثر من هذا، فهل أنت مجيبي على قدر كلامي؟ فأذِن له الحسين (عليه السلام) في ذلك فأنشد يقول: هفا قلبي إلى اللهو وقد ودع شرخيـــــه إلى تسعة أبيات على هذا الوزن. فأجابه الحسين (عليه السلام) مثلها متشابهات منها: فما رسم شيطاني قد تحت آيات رسمية سفور درّجت ذيليــن في بوغاء فاعليـــة ثم أخذ يفسر ما غمض من كلامه فقال: (إما هرقل: فهو ملك الروم، والجعلل: فهو قصار النخل، والأنيم: بعوض النبات، والمهمم: القليب الغزير الماء). وهذه كانت أوصاف الأرض التي جاء منها. فقال الأعرابي: ما رأيت كاليوم أحسن من هذا الغلام كلاماً، وأذرب لساناً، ولا أفصح منه منطقاً(10). ومن روائعه المأثور قوله: (شر خصال الملوك الجبن عن الأعداء، والقسوة على الضعفاء، والبخل عن الإعطاء)(11). ومن حكمه البديعة: (لا تَتكلف مالا تطيق، ولا تَتعرض لما لا تُدرك، ولا تعتدَّ بما لا تقدر عليه، ولا تنفق إلا بقدر ما تستفيد، ولا تطلب من الجزاء إلا بقدر ما صنعت، ولا تفرح إلاّ بما نلت من طاعة الله، ولا تتناول إلاّ ما رأيت نفسك له أهلاً)(12). ومن بديع كلامه لما سئل: ما الفضل؟ قال: (ملك اللسان، وبذل الإحسان). قيل: فما النقص؟ قال: (التكلف لما لا يعنيك).
|
1- أعيان الشيعة: ج 4 ص 29 للسيد محسن الأمين. 2- أبو الشهداء: عباس محمود العقاد. 3- المعصوم الخامس: جواد فاضل. وفي المناقب: ج 4 ص 66. 4- أعيان الشيعة: ج 4 ص 132 السيد محسن الأمين. 5- أبو الشهداء: عباس محمود العقاد. 6- أعيان الشيعة: ج 4 ص 126 السيد محسن الأمين. 7- أبو الشهداء: عباس محمود العقاد ص 46. 8- الفصول المهمة: ص 159. 9- روضة الكافي: ص 207. 10- أبــو الشهداء: عباس محمود العقاد، نقلاً عن كتاب مطالب المسؤول لمحمد بن طلحة الشافعي: ص 73. 11- بلاغة الإمام الحسين: ص 128. 12- بلاغة الإمام الحسين: ص 154. |