المجموعة الرابعة شعائر الإمام الحسين (عليه السلام) بين السلب والإيجاب
ضرب الشعائر الحسينية خطة استعمارية (ياسين الهاشمي) في العراق يتعلم الخطة من: (المس بيل) ـ الجاسوسة البريطانية ثم ينفذها بصيغة منع الشعائر الحسينية اقرأ ما جاء في كتاب: (التأثيرات التركية في المشروع القومي العربي في العراق لـ حسن علوي ـ صفحة 96 و122 ـ) جاء فيه: كان ياسين الهاشمي قد زار المس بيل في آب 1922، وبعد ستة أسابيع على تعيينه متصرفاً للواء الناصرية أثر عودته المتأخرة إلى العراق، فبادرته بالسؤال: ـ هل تعلمت درساً؟ فأجابها لقد تعلمت في أربعين يوماً كل ما يستطيع شخص أن يتعلمه. وكما واجه مصطفى كمال رجال الدين. بدأ الهاشمي يتحرش بالطقوس الدينية للشيعة، فاصدر قراراً بمنع الاحتفالات في عاشوراء. عطاء الشعائر الحسينية في كتاب الإمام المحسن الأمين العاملي (قدس سره) إقناع اللائم على إقامة المآتم بسم الله الرحمن الرحيم (في الإشارة إلى ما في هذه المآتم من الفوائد الدينية والدنيوية). (التي اعترف بها كافة العقلاء إلا من أعماه الهوى والغرض). ولذلك اتفق العقلاء كافة على تجديد الذكرى لعظمائهم في كل عام والاهتمام بها على قدر عظم الشخص الذي تعمل لأجله. وأي عظيم في أي أمة قام بمثل ما قام به الحسين بن علي (عليه السلام) من الأعمال العظيمة لإقامة الحق وإماتة الباطل وهدم ما أسسه الظالمون لهدم الدين الإسلامي وقاوم الظلم والاستبداد بأقوى الوسائل فلو أنصف جميع المسلمين ما تعدوا خطة الشيعة في هذه المآتم التي اعترف بعظيم فوائدها عقلاء الأمم ومفكروهم كما ستعرف عند نقل كلام: (جوزيف) الفرنسي (وماربين) الألماني. ونحن نشير إلى جملة من فوائد هذه المآتم التي نقيمها هي في غاية الظهور والبداهة لمن تأمل وأنصف إذا روعيت شروطها وأقيمت على أصولها: (الأول): مواساة النبي (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته فإنه حزين لقتل ولده بلا ريب، وقد دلت عليه جملة من الأحاديث تقدمت في محالها وأي أمر أهم وأوجب وأعظم فائدة من مواساته (صلى الله عليه وآله)؟ وهل يمكن أن يكون المرء صادقاً في دعوى حبه للنبي (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته وهو لا يحزن لحزنهم ولا يفرح لفرحهم أو يتخذ يوم حزنه (صلى الله عليه وآله) يوم عيد وسرور؟ (الثاني): أن فيها نصرة للحق وإحياء له وخذلاناً للباطل وإماتةً له وهي الفائدة التي من أجلها أوجب الله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالقلب وباللسان وبالجوارح، فإن لم يكن بالجوارح اقتصر على اللسان والقلب، فإن لم يكن باللسان اقتصر على القلب. (الثالث): أن فيها حثاً على وجوب معرفة الفضل والصفات السامية لأهلها وفي ذلك من الحث على وجوب الاقتداء بهم ما لا يخفى. (الرابع): أن في تلاوة أخبار هذه الواقعة العظيمة وتذكرها في كل عام فائدة عظيمة هي الفائدة في تدوين التواريخ وحفظها وضبطها. (الخامس): أنه لولا إعادة ذكرها في كل عام لنسيت وآل أمرها إلى الاضمحلال، ولوجد أهل الأغراض وسيلة إلى إنكارها وإنكار فظائعها، وقد وقع ذلك في عصرنا فقام بعض من يريد التنويه بشأن بني أمية ويتعصب لهم وينفي عن يزيد قتل الحسين (عليه السلام) ويقول: أنه وقع بغير أمره وبغير رأيه، ويودع ذلك مؤلفاته، ويقوم به خطيباً على المنابر فذكرنا بذلك قول ابن منبر في رائيته المشهورة: وأقول: أن يزيــــــــــــد مــا***شرب الخمور ولا فجر ولجيشه بالكف عن***ابناء فاطمــــــــة أمـــر وله مع البيت الحـرا***م يد تكفـــــر ما غبــــر وذكرنا بذلك أيضاً ما وقع مع بعض علماء الشيعة حين قيل له: أن الحسين (عليه السلام) قتل قبل ألف ومئات من السنين فما معنى تجديدكم لذكرى قتله في كل عام؟ فقال: خفنا أن تنكروا قتله كما أنكرتم بيعة الغدير. (السادس): أن فيها تهجيناً للظلم والقسوة حيث أنها تصورها بأقبح صورها، وفي ذلك من الحث على التباعد عنها وبغض الظلم وأهله ما لا يخفى. (السابع): أنها ترقق القلوب وتبعث على الرحمة والشفقة والانتصار للمظلوم. (الثامن): أنها تغرس في النفس حبّ الفضيلة والاعتماد على النفس والشجاعة وعزة النفس وإباء الضيم وعدم الخنوع للظلم ومقاومته بأقصى الجهد بإيراد ما صدر من الحسين (عليه السلام) من اختيار المنية على الدنية وموت العزّ على حياة الذلّ وميتة الكرام على طاعة اللئام وإلى ذلك أشار مصعب بن الزبير بقوله: وأن الأولى بالطف من آل هاشم***تأسوا فسّنوا للكرام التأسيا (التاسع): أنها مدرسة يسهل فيها التعلم والاستفادة لجميع طبقات الناس فيتعلمون فيها التاريخ والأخلاق والتفسير والخطابة والشعر واللغة وغير ذلك، وتوقف السامع على بليغ الكلام من نظم ونثر زيادة على ما فيها من تهذيب النفوس وغرس الفضيلة فيها لأن ما يتلى فيها لا يخلو غالباً من شيء مما ذكر ويشتغل فيها الخاصة بمذاكرة المسائل العلمية من كل علم والبحث عنها وتبادل الآراء فيها كما هي العادة المألوفة في العراق وغيره. (العاشر): إنها نادٍ للوعظ والإرشاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما يجري هذا المجرى ففيها جلب إلى طاعة الله وإبعاد عن معصيته بأحسن الطرق وأنفعها بما يلقى فيها من المواعظ المؤثرة وقضايا الصالحين والزهاد والعباد وغير ذلك. (الحادي عشر): أن الاجتماع في تلك المجالس يكون مانعاً عن اجتماع البطالين في المقاهي والمجالس المعلوم حالها، خصوصاً في مثل هذا الزمان فإن الإنسان مدني بالطبع ولابد له من الاجتماع مع أبناء جنسه أما على خير أو على شر، فالاجتماع في هذه المجالس مانع عن الاجتماع في مجالس الشر لا سيما أنها تشتمل على ما يجذب النفوس إليها ويُرغبها فيها. (الثاني عشر): إنها جامعة إسلامية دينية تجتمع فيها القلوب على مقصد واحد وترمي إلى هدف واحد في جميع أقطار الأرض وهو مواساة النبي وأهل بيته (عليه وعليهم الصلاة والسلام) في مصابهم وفي ذلك من إعلاء شأنهم والتمسك بحبلهم وجمع القلوب على حبّهم والائتمار بأمرهم والانتهاء عن نهيهم ما لا يخفى. (الثالث عشر): أنها مجمع ومؤتمر ديني ودنيوي يتسنى فيه للمجتمعين البحث وتبادل الآراء في شؤونهم وشؤون إخوانهم النائين عنهم الدينية والدنيوية بغير كلفة ولا مشقة. (الرابع عشر): أنها نادي تبشير بالدين الإسلامي ومذهب أهل البيت في جميع أنحاء المعمورة بأقوى الوسائل وأنفعها وأسهلها وأبسطها وأشدها تأثيراً في النفوس بما تودعه في قلوب المستمعين من بذل أهل البيت ـ الذين هم رؤساء الدين الإسلامي ـ أنفسهم وأموالهم ودماءهم في نصرة دين الإسلام، وما تشتمل عليه من إظهار محاسن الإسلام ومزاياه وآياته ومعجزاته التي أبانوا عنها بأقوالهم وأفعالهم وشؤونهم وأحوالهم مما لا يدانيه ما تبذل عليه الأموال الطائلة من سائر الأمم وتتحمل لأجله المشاق العظيمة. (الخامس عشر): أن فيها عزاء عن كل مصيبة وسلوة عن كل رزية، فإذا رأى الإنسان أن سادات المسلمين، بل سادات الناس وآل بيت المصطفى (صلى الله عليه وآله) جرى عليهم من أنواع الظلم والمصائب ما جرى، هانت عليه كل مصيبة، وفي المثل المشهور من رأى مصيبة غيره هانت عليه مصيبته، وإلى ذلك أشار الشاعر بقوله: أنست رزيتكم رزايانا التي***سلفت وهونت الرزايا الآتية (السادس عشر): إن فيها حثاً على الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة، فإذا علم المرء أن سادات المسلمين وأئمتهم وأهل بيت النبوة قد ابتلوا بهذه المصائب في الدنيا فكانت سبباً لعلو درجتهم في الآخرة علم أن الدنيا لو كانت تساوي عند الله تعالى جناح بعوضة لما ابتلى أولياءه فيها بما ابتلاهم، ولما سقى الكافر منها شربة ماء كما جاء في الأثر، وكما أشار إليه الشاعر بقوله: لهم جسوم على الرمضاء مهملة***وأنفس في جوار الله يقريها كأن قاصدها بالضر نافعهـــــــــا***وإن قاتلها بالسيف محييهـا (السابع عشر): أن فيها تأليفاً للقلوب بالتزاور والاجتماع والتحادث والتعاون والتعارف. (الثامن عشر): ما فيها من البر والمواساة وإعانة الفقراء والضعفاء بما ينفق فيها من المال والزاد في ثواب الحسين (عليه السلام). (التاسع عشر): وهو من أهمها، أن المصلحة التي استشهد الحسين (عليه السلام) من أجلها وفي سبيلها والغاية السامية التي كان يرمي في جهاده واستشهاده إليها وهي: إحياء دين جده (صلى الله عليه وآله) وإظهار فضائح المنافقين تقضي باستمرار هذه المآتم طول الدهر، وإقامة التذكار لها في كل عصر، وإظهارها للخاص والعام تقوية لتلك المصلحة وتثبيتاً لها. فلولا قتل الحسين (عليه السلام) لما ظهر للخاص والعام فسق يزيد وكفره وفجوره وقبائح من مهّد له ومكنّه من رقاب المسلمين، وذلك لأن الذين دفعوا أهل البيت عن حقهم ظهروا للناس بمظهر النيابة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتظاهروا بتأييد الدين، فخفي أمرهم على أكثر الناس وبدّلوا من أحكام الشريعة ما شاؤا واتبعهم جل الأمة جهلاً أو رغباً أو رهباً، وأُمّروا على الأمة أعوانهم وأتباعهم، وأقصوا أولياء الله وأبعدوهم وحرموهم وساموهم أنواع الأذى من: القتل والضرب والنفي والصلب، ولعنوا أمير المؤمنين (عليه السلام) على منابر الإسلام، وكنّوا به عن أخيه وابن عمه، وأظهروا للأمة أنهم هم آل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقرابته والأحق بمقامه. وقد قال أهل الشام لبني العباس: إنهم ما كانوا يعرفون قرابة لرسول الله (صلى الله عليه وآله) إلا بني أمية، ولو دام الحال على ذلك لأصبح الدين أثراً بعد عين فلما ثار عليهم الحسين (عليه السلام) وأبى أطاعتهم والانقياد لهم قائلاً: (إنا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة بنا فتح الله وبنا ختم ويزيد رجل فاسق شارب الخمر قاتل النفس المحترمة معلن بالفسق ومثلي لا يبايع مثله). وسلّم نفسه وولده وخواص شيعته وأهل بيته للقتل وأطفاله للذبح وعياله ونساءه للسبي وأمواله للنهب ولسان حاله يقول: إن كان دين محمدٍ لم يستقم***إلا بقتلي يا سيوف خذيني ظهر بذلك ما هم عليه خصومه من الكفر والنفاق بل الخروج عن حدود الإنسانية، وظهرت عداوتهم لله وانتقامهم من رسول الله (صلى الله عليه وآله) كما صرح بذلك رئيسهم بقوله: لست من خندف إن لم أنتقم***من بني أحمد ما كان فعل فلم يكتفوا بقتل ولده وسبطه وأهل بيته وأنصاره عطشا حتى قطعوا رأسه ورؤوس أصحابه وداروا بها في البلدان وداسوا جسده الشريف بحوافر الخيل ونهبوا رحله وأحرقوا خيامه، ولم يكتفوا بذلك حتى حملوا عقائل بيت النبوة سبايا على اقتاب المطايا من بلد إلى بلد كأنهن سبايا الترك أو الديلم وأدخلوهن على مجالس الرجال، وقابلوهن بأخشن المقال، وأوقفوهن على درج باب المسجد الجامع بدمشق حيث يقام السبي، ووضعوا الأغلال في عنق (الإمام المعصوم) زين العابدين (عليه الصلاة والسلام) حتى كأنه من أُسارى الكفار العاتين فأظهر الحسين (عليه السلام) بقتله فضائح المنافقين وأسقطهم من قلوب المسلمين. ثم نقل الإمام المحسن الأمين (قدس سره) كلام (ماربين) و (جوزف) نقتطف منه ما يلي: (فيما ذكره المسيو (ماربين) الألماني والدكتور (جوزف) الفرنسي) (في أسرار شهادة الحسين (عليه السلام) وفوائد مآتمه) قال المسيو (ماربين) الألماني ذلك الفيلسوف المعروف والحكيم المشهور من أكبر مؤرخي الإفرنج وأعلمهم بالسياسة الإسلامية في رسالته المسماة بالسياسة الإسلامية المبينة على فلسفة الإسلام تحت عنوان: (الثورة الكبرى أو السياسة الحسينية) مظلومية الحسين كشفت جميع أسرار بني أمية ورفعت الستار عن نواياهم السيئة حتى أنه طال لسان اللوم والشماتة على يزيد من أهل داره وحرمه. أنني اعتقد أن صيانة قانون محمد (صلى الله عليه وآله)(1) وترقي المسلمين وظهور رونق الإسلام هو من قتل الحسين (عليه السلام) وحدوث تلك الوقائع. إن هذا القسم من الدماغ السياسي والحس الثوري (الذي هو عدم الاستسلام للضيم والظلم وهو عند حكماء السياسة أشرف وأعظم سعادة وأفضل صفة ممدوحة لكل إنسان) قد ظهر في هؤلاء القوم بواسطة إقامتهم مآتم الحسين (عليه السلام) ومادام هذا العمل ملكة لهم لا يقبلون الذل والضيم، ينبغي تدقيق النظر فيما يذكر في المجالس المنعقدة لإقامة عزاء الحسين (عليه السلام) من النكات الدقيقة الباعثة في الإنسان روح الحياة التي يسمعها بعضهم لبعض وفي الحقيقة يعلّمه إياها. نحن الأوربيّين بمجرد أن نرى لقوم حركات ظاهرية في مراسمهم الملية أو المذهبية منافية لعاداتنا ننسبها إلى الجنون والتوحش. ونحن غافلون عن أننا لو سبرنا غور هذه الأعمال لرأيناها عقلية سياسية كما نشاهد ذلك في هذه الفرقة وهؤلاء القوم(2) بأحسن وجه والذي يجب علينا هو أن ننظر إلى حقائق عوائد كل قوم وإلاّ فإن أهل آسيا أيضاً لا يستحسنون كثيراً من عوائدنا ويعدون بعض حركاتنا منافية للآداب ويسمُونها بعدم التهذيب بل بالوحشية(3). وعلاوة على تلك المنافع السياسية التي ذكرناها التي هي طبعا أثر التهيج الطبيعي فإنهم يعتقدون أن لهم في إقامة مأتم الحسين (عليه السلام) درجات عالية في الآخرة. ينبغي اقتطاف ثمرات حبّ القومية والوطن من أهالي آسيا تحت ظل المذهب، كما كانت أوربا قبل بضعة قرون. ولا يمكن اليوم طلب خدمة من أهالي آسيا كأهالي أوربا باسم الخدمة القومية والوطنية، ولكن يمكن أخذ خدمات منهم تعود ثمراتها على الأُمة والوطن باسم المذهب. ولا يرى اليوم من المسلمين البالغين ثلاثمأة مليون من هو حائز على الاستقلال سوى خمسين مليوناً(4). فإذا نبذ المسلمون الدين ظهريا وراموا التقدم السياسي باسم القومية فسينالون عوض النفع ضرراً لأن خمسة أسداس المسلمين تحت ضغط ملل أخرى ومضمحلة في أقوام آخرين. فإذا طلبوا التقدم باسم القومية فيكون الحرمان من الحياة السياسية نصيب هذه الخمسة أسداس فلا تشترك مع السدس الباقي ولكنهم إذا راموا التقدم باسم الجامعة الإسلامية فلابد أن تنبعث روح النهضة في جميع آحاد المسلمين. وبواسطة الرابطة الروحانية ستنجوا من الاضمحلال جميع الفرق الإسلامية التي هي تحت ضغط أقوام آخرين، وليس لواحدة من الروابط الروحانية التي بين المسلمين اليوم تأثير في نفوسهم كتأثير إقامة مآتم الحسين، فإذا دام انتشار وتعميم إقامة هذه المآتم بين المسلمين مدة قرنين لابد أن تظهر فيهم حياة سياسية جديدة، وأن الاستقلال الباقي للمسلمين اليوم(5) نصف أسبابه هو اتباع هذه النكتة. وسنرى اليوم الذي يتقوى فيه سلاطين المسلمين تحت ظل هذه الرابطة، وبهذه الوسيلة سيتحد المسلمون في جميع أنحاء العالم تحت لواء واحد لأنه لا يرى في جميع طبقات الفرق الإسلامية من ينكر ذكر مصائب الحسين وينفر منها بسبب ديني بل للجميع رغبة طبيعية بطور خاص في أداء هذه المراسم المذهبية، ولا يرى في المسلمين المختلفين في العقائد سوى هذه النكتة الاتحادية. الحسين (عليه السلام) أشبه الروحانيين بحضرة المسيح ولكن مصائبه كانت أشد وأصعب. كما أن أتباع الحسين كانوا أكثر تقدماً من أتباع المسيح في القرون الأولى، فلو أن المسيحيين سلكوا طريقة أتباع الحسين أو أن أتباع الحسين لم تمنعهم من ترقياتهم عقبات من نفس المسلمين لسادات إحدى الديانتين في قرون عديدة جميع المعمور، كما أنه من حين زوال العقبات من طريق أتباع الحسين (عليه السلام) أصبحوا كالسيل المنحدر يحيطون بجميع الملل وسائر الطبقات. رأيت في بندر (مارسل) في الفندق شخصاً واحداً عربياً شيعياً من أهل البحرين يقيم المأتم منفرداً جالساً على الكرسي بيده الكتاب يقرأ ويبكي، وكان قد أعد مائدة من الطعام ففرقها على الفقراء، هذه الطائفة تصرف في هذا السبيل الأموال على قسمين: فبعضهم يبذلون في كل سنة من أموالهم خاصة في هذا السبيل أو ثلاثة أضعافها، كل واحد من هذه الفرقة بلا استثناء سائر في طريق الدعوة إلى مذهبه وهذه النكتة مستورة عن جميع المسلمين حتى الشيعة أنفسهم فإنهم لا يتصورون هذه الفائدة من عملهم هذا بل قصدهم الثواب الأخروي، ولكن بما أن كل عمل في هذا العالم لابد أن يظهر له بطبيعته أثر فهذا العمل أيضاً يؤثر ثمرات للشيعة. ومن المسلم أن المذهب الذي دعاته من خمسين إلى ستين مليوناً لا محالة يترقى على التدريج ترقياً لائقاً بهم حتى أن الرؤساء الروحانية والملوك والوزراء لهذه الفرقة ليسوا بخارجين عن صفة الدعوة. إن العدد الكثير الذي يرى اليوم في بلاد الهند من الشيعة هو من تأثير إقامة هذه المآتم. فرقة الشيعة حتى في زمان السلاطين الصفوية لم تسع في ترقي مذهبها بقوة السيف، بل ترقت هذا الترقي المحير للعقول بقوة الكلام الذي هو أشد تأثيراً من السيف. ترقت اليوم هذه الفرقة في أداء مراسمها المذهبية بدرجة جعلت ثلثي المسلمين يتبعونها في حركاتها، جم غفير من الهنود والفرس وسائر المذاهب أيضاً شاركوهم في أعمالهم، وهذا أمر واضح. هذه الفرقة تعلم الشبيه بأقسام مختلفة فتارة في مجالس مخصوصة ومقامات معينة، وحيث أنه في أمثال هذه المجالس المخصوصة والمقامات المعينة يكون اشتراك الفرق الأخرى معهم أقل أوجدوا تمثيلاً بوضع خاص فعملوا الشبيه في الأزقة والأسواق وداروا به بين جميع الفرق وبهذا السبب تتأثر قلوب جميع الفرق منهم ومن غيرهم بذلك الأثر الذي يجب أن يحصل من التمثيل ولم يزل هذا العمل شيئاً فشيئاً يورث توجه العام والخاص إليه حتى أن بعض الفرق الإسلامية الأخرى وبعض الهنود قلدوا الشيعة فيه واشتركوا معهم في ذلك. ومن جملة الأمور التي صارت سبباً في ترقي هذه الفرقة وشهرتها في كل مكان هو إراءة أنفسهم بالمرأى الحسن بمعنى: أن هذه الطائفة بواسطة مجالس المآتم وعمل الشبيه واللطم والدوران وحمل الأعلام في مأتم الحسين جلبت إليها قلوب باقي الفرق بالجاه والاعتبار والقوة والشوكة، لأنه من المعلوم أن كل جمعية وجماعة تجلب إليها الأنظار وتوجه إليها الخواطر إلى درجة ما. مثلاً: لو كان في مدينة عشرة آلاف نفس متفرقين وكان في محل ألف نفس مجتمعين كانت شوكة الألف وعظمتهم في أنظار الخاص والعام أكثر من العشرة آلاف. مضافاً إلى أنه إذا اجتمع ألف نفس انضم إليهم من غيرهم بقدرهم بعضهم للتفرج وبعضهم للصداقة والرفاقة وبعضهم لأغراض خاصة وبهذا الانضمام تتضاعف قوة الألف وشوكتهم في الأنظار. لهذا ترى أنه في كل مكان ولو كانت جماعة من الشيعة قليلة يظهر عددها في الأنظار بقدر ما هي عليه مرتين وشوكتها وقوتها بقدر ما هي عليه عشر مرات وأكثر أسباب معروفية هؤلاء القوم وترقيهم هي هذه النكتة. ومن جملة الأمور الطبيعية التي صارت مؤيدة لفرقة الشيعة في التأثير في قلوب سائر الفرق هو: إظهار مظلومية أكابر دينهم، وهذه المسألة من الأمور الطبيعية لأن كل أحد بالطبع ينتصر للمظلوم ويحب غلبة الضعيف على القوي، والطبائع البشرية أميل إلى الضعيف ولو كان مبطلاً والمظلوم منها إلى القوي وإن كان محقاً، والظالم خصوصاً إذا كان بعيداً أو مرت عليه أعوام. ومصنفوا أوروبا الذين كتبوا تفصيل مقاتلة الحسين وأصحابه وقتلهم مع أنه ليس لهم عقيدة بهم أصلاً أذعنوا بظلم قاتليهم وتعديهم وعدم رحمتهم ويذكرون أسماء قاتليهم بالاشمئزاز. وهذه الأمور طبيعية لا يقف أمامها شيء وهذه النكتة من المؤيدات الطبيعية لفرقة الشيعة.
نقاط مضيئة من كتاب نصرة المظلوم من آثار العالم الفاضل المؤتمن الشيخ حسن آل العلامة الشيخ إبراهيم مظفر (قدس سره) ملاحظات أولية 1- عن المؤلف. 2- عن الكتاب. 3- قائمة بأسماء العلماء المؤيدين (المذكورين في هذا الكتاب). 1- المؤلف هو الشيخ حسن بن الشيخ عبد المهدي إبراهيم بن الشيخ نعمة بن جعفر بن عبد الله بن عبد الحسين بن مظفر (قدس الله تعالى أسرارهم جميعاً). كان جده الشيخ إبراهيم من أعاظم أعلام الأسرة العلمية الجليلة (آل المظفر) وكان من تلاميذ الشيخ محمد حسين الكاظمي المعروف بـ (المقدس البغدادي) (قدس سره) وهاجر بأمر أستاذه المذكور بعد عام 1300 من النجف الأشرف إلى البصرة للقيام بالوظائف الشرعية، وقام بها خير قيام. وكان والده (قدس سره) أحد أعلام هذه الأسرة العريقة فقد خلف والده ـ بعد وفاته عام 1333 ـ في البصرة وقام أعباء خدمة الناس في مختلف الشؤون الدينية، والسياسية، والاجتماعية وغيرها، حتى وافاه الأجل في عام 1363 للهجرة. وخلف هو ـ الشيخ حسن ـ مقام والده وجده في البصرة وقام بمهام المسلمين هناك، وكان مجمع العلماء، ومنتدى الأدباء، ومهدى المحتاجين في شتى أمورهم وحوائجهم. قال الإمام الطهراني (قدس سره): (... وقد قام مقام أبيه، وخلفه في سيرته الحميدة، ونفعه للناس، وهو موضع احترام أهل العلم، وباقي الطبقات... وقد توفى في يوم عاشوراء في مستشفى الميناء بالعشار سنة 1388 ونقل إلى النجف ودفن بها رحمه الله). (طبقات أعلام الشيعة/ نقباء البشر في القرن الرابع عشر/ ج3 ص2 ـ 1241). 2- الكتاب جاء في كتاب (الذريعة) للإمام آغا بزرك الطهراني (قدس سره) ج24 ص178 ما يلي: ـ (921: نصرة المظلوم) للمعاصر إبراهيم حسن آل المظفر النجفي وفيه رجحان إقامة التعازي والتمثيليات لبيان ما حدث بالأيدي الظالمة على آل رسول الله طبع 1345، جواباً على بعض المتجددين المتسّننين الذين يحبّذون التمثيليات الفنيّة الدنيوية ويحرمّون الدينيّة منها. 3- قائمة أسماء العلماء 1- صاحب الجواهر (قدس سره). 2- شيخ الشريعة (قدس سره). 3- السيد إسماعيل الصدر (قدس سره). 4- الميرزا القمي (قدس سره). 5- السيد الشفتي (قدس سره). 6- كاشف الغطاء (قدس سره). 7- السيد بحر العلوم (قدس سره). 8- الوحيد البهباني (قدس سره). 9- العلامة المجلسي (قدس سره). 10- شريف العلماء (قدس سره). 11- الفاضل الأردكاني (قدس سره). 12- الشيخ المازندراني (قدس سره). 13- الشيخ آل ياسين (قدس سره). 14- السيد الأعرجي (قدس سره). 15- السيد القزويني (قدس سره). 16- الشيخ الأنصاري (قدس سره). 17- السيد علي بحر العلوم (قدس سره). 18- المجدد الشيرازي (قدس سره). 19- الشيخ البلاغي (قدس سره). 20- الشيخ محمد تقي الشيرازي (قدس سره). 21- الشيخ محمد طه نجف (قدس سره). 22- السيد محمد بحر العلوم (قدس سره). 23- السيد محمد كاظم اليزدي (قدس سره). 24- السيد أبو الحسن الأصفهاني (قدس سره). 25- الميرزا النائيني (قدس سره). ومن التذكارات الحسينية: التمثيل المعبر عنه بلسان العامة: (السبايا والتشبيه) وهو عبارة عن: تجسيم الواقعة لحاسة البصر بما صدر فيها من حركة وسكون وقول وفعل وهذا بما هو حكاية عن شيء غابر بشيء حاضر غير محظور ولا محذور فيه، بل ربما يرجح على المآتم لكونه أبلغ في إظهار مظلومية سيد الشهداء من الأقوال المجردة على المنابر وفي المجامع، وأشد منها تأثيراً في القلوب. إن ذلك التمثيل المقرح للأكباد إذا سخر منه أغرار الأجانب فإن العقلاء المفكرين ربما يدعوهم ذلك إلى الفصح عمن تتمثل فاجعته لدى العموم وتحقيق مصائبه، وأسباب حدوثها، ومن ذا أحدثها؟ ومن مهد ذلك؟ وتلك نكته أخرى لرجحان التمثيل قد تدعو البعض إلى الفحص عن دين الإسلام أو التمذهب بالمذهب الجعفري، ولهذه النكتة بعينها سرى أمر الشيعة إلى غير المسلمين من الفرق في الهند والصين، وكثر ببركته في تلك الأماكن الشاسعة عن مراكز الشيعة مذهب التشيع والولاء لأهل البيت (عليهم السلام). وقد ذكر فلاسفة التاريخ الحادث والمتعمقين في أسرار الحوادث من الأجانب: أن السبب الوحيد لذلك هو جعل الجعفرية طريق إقامة العزاء مشابهاً لمراسم إقامة العزاء في الهند وهو التمثيل والتشبيه. ومن المضحك المبكي أن الأجانب يدركون ويذيعون أسرار إقامة المآتم والتشبيهات المتداولة عند الشيعة وهي على عرفاء الشيعة حقائق مخفية، وقد ورد في الأخبار تمثيل علي (عليه السلام) للملائكة شخصياً مرئياً من لدن إدراكه إلى حين وفاته وأنه يوم ضرب بالسيف على رأسه في الدنيا وقع سيف على رأس التمثال فشجه وسقط في محراب عبادته فبكت عليه الملائكة ولعنت قاتله. الإمام صاحب الجواهر (قدس سره) ولقد سئل العلامة المؤتمن (الشيخ محمد حسن) صاحب كتاب (الجواهر) عن مثل ذلك فأجاب تمثيل النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة أشباحاً نورانية حول العرش قبل خلقهم، وأخبار تمثيل مثال لكل مؤمن في السماء بارزاً للملائكة حال إطاعته في الدنيا مستوراً عنهم حال عصيانه، وليس عرضي الاستدلال بهذا لشرعية التمثيل لأني في غُنية عنه بما أسلفته وفيه كفاية للمتبصر. ومن التذكارات الحسينية: مجامع اللدم وهي النوادي الخاصة المنعقدة لأجل اللطم على الصدور بالأيدي. وهذه كالمآتم لا ريب في كونها مظهر الحزن والجزع وربما يقال: بكونها أبلغ في إظهار الحزن من البكاء وحده، وهذه أيضاً لا كلام فيها. وفي كون اللطم بها وبغيرها صلة للرسول (صلى الله عليه وآله) وإسعاداً للزهراء البتول. وإذا كانت زيارته (سلام الله عليه) براً لرسول الله (صلى الله عليه وآله) باعتبار كونها توقيراً واحتراماً لفلذة كبده كما في الأخبار، فلا ريب أن ذلك النوح الدائم أولى منها. ولا شك أن أولئك الرجال اللاطمون هم من أظهر مصاديق قوله (عليه السلام): أن الموجع قلبه لنا. وقوله: الجازع لمصابنا والحزين لحزننا. وأظهر من ينطبق عليه قول النبي (صلى الله عليه وآله) في الخبر المتضمن لإخباره ابنته فاطمة (عليها السلام): بقتل الحسين (عليه السلام) في أرض غربة إذ قالت له: فمن يقيم عزاء ولدي الحسين ويبكي عليه؟ قال: رجال من أمتي يبكون عليه ويجددون العزاء جيلاً بعد جيل في كل سنة الحديث. فإن العزاء المتجدد كل سنة هو ذلك اللطم والشبيه والمواكب التي تكون في عموم بلدان الشيعة سنوياً لا يومياً مثل المآتم. أن لطم الخدود وشق الجيوب مما لا ريب في مرجوحيته على غير الحسين (عليه السلام). وأما عليه (عليه السلام) ففضلاً عن جوازه، قد رغب فيه كثير من الأخبار كالمروي في التهذيب، عن خالد بن سدير، عن الصادق (عليه السلام) وفيه: ولقد شققن الجيوب ولطمن الخدود الفاطميات على الحسين بن علي (عليه السلام) وعلى مثله (تلطم الخدود وتشق الجيوب). وإذا كان لطم الخدود مندوباً كان لدم الصدور أولى بالرجحان، وسيأتي في بعض التذكارات الآتية عد لطم الصدر في بعض الأخبار من الجزع، وفيه تعرف أن الجزع نفسه في مصاب الحسين (عليه السلام) مرغب فيه مندوب إليه. ومن التذكارات الحسينية: (المواكب وهي كثيرة فمنها): 1 موكب لدم الصدور تنتظم من الرجال مواكب وهم حفاة الأقدام حُسِّر الرؤوس عراة الصدور والظهور يضربون صدورهم وربما ضربوا رؤوسهم بأيديهم وقد يذروا على رؤوسهم التراب أو التبن وقد يلطخ البعض رأسه بالطين تعدمهم وتحف بهم وهم على تلك الحال المحزنة، أعلام سود قد كتب عليها بالبياض مثل: (الحسين المظلوم) أو (العباس الشهيد) ينشدون باللغة الدارجة الأناشيد المحزنة بموادها وألحانها يخترقون الأسواق والأزقة والجواد العمومية وهم على تلك المشجية، وإذا فعلوا ذلك ليلاً تصحبهم الأنوار الكهربائية أو المشاعل الموقدة بالبترول الأسود. إن هذه المواكب بتلك الهيئات وهاتيك الأحوال أبلغ بلا شبهة في إظهار مظلومية سيد الشهداء وأشد تأثيراً في القلوب من البكاء المجرد وأحكم في وصل عرى الجامعة الجعفرية وجعلها كحلقة واحدة أمام العام والخاص، وأولى في صدق كونه اللطم فيها إسعاداً للزهراء وصلة لسيد الأنبياء ومصدقاً لقول النبي (صلى الله عليه وآله) يجددون العزاء جيلاً بعد جيل، ولفحوى قول الصادق (عليه السلام): على مثله تلطم الخدود. ولقول الرضا (عليه السلام) للريان بن شبيب: أن سرك أن تكون معنا في الدرجات العلى فأحزن لحزننا وافرح لفرحنا. وقول علي (عليه السلام) في حديث الأربعمائة: إن الله تبارك وتعالى اختارنا واختار لنا شيعة ينصروننا ويفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا ويبذلون أنفسهم وأموالهم فينا أولئك منا وإلينا، الحديث. قلت: وقد يراد بالنصرة في هذا الخبر وغيره ما يشمل اللطم باليد والسلاسل ونحوه، وإذا كان صاحب (الخصائص الحسينية) يعد البكاء على الحسين نصرة له مدعياً إن النصرة في كل وقت يحسبه فاللطم في الشوارع أولى أن يعد نصرة وبذلاً للنفس في سبيل أئمة الهدى. ولا ينبغي الريب إن هذا التذكار بحدوده المرموزة ثمة من مظاهر المودة في القربى التي هي أجر الرسالة، قال الله تعالى: (قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودّة في القربى)(6). لعمري أن اختراق تلك المواكب المشجية للشوارع واجتماع الجماهير من النساء والرجال مسلمين وغيرهم للنظر إليها هو أبلغ في إظهار مظلومية سيد الشهداء التي سن البكاء عليه لأجلها، لأن به تتأثر قلوب جميع الفرق بنفس الأثر الذي تتأثر به قلوب الجعفرية فقط من اللدم واللطم في ناد خاص بهم. إن من الأدلة الجلية على أن اللطم لمصاب الحسين لا يختص محله بالمآتم بل يقام في المجامع العمومية وأنها أحسن وأوقع محاله. ما روى عن الصادق (عليه السلام) من عدة طرق أصحها ما في الكافي، عن يونس بن يعقوب، عنه (عليه السلام) أنه قال: قال لي أبي: يا جعفر أوقف لي من مالي كذا وكذا لنوادب يندبنني عشر سنين بمنى أيام منى. وفي غيره أنه أوصى بثمان مائة دينار(7) لنوادب تندبه بمنى عشر سنين أيام منى. أن منى في تلك الأيام هي أعظم المجامع لطوائف المسلمين القاصدين إلى مكة من كل فج، فلماذا اختار ندبته فيها، وهلا أوصى أن يندب في بيته أو في ميدان واسع في المدينة، أو في البقيع حيث محل قبره، الست تعتقد أنه يرمز بذلك إلى تنبيه الناس على فضائله وإظهارها وليتذكر أوليائه والعارفون به ما جرى عليه ومن مجموع ذلك تثبت عقائدهم ويدوم ذكره الجميل فيما بينهم. قال شيخنا الشهيد الأول (محمد بن مكي) في كتابه (ذكرى الشيعة) بعد إيراد الخبر المزبور: والمراد بذلك تنبيه الناس على فضائله وإظهارها ليقتدي بها ويعلم الناس ما كان عليه أهل البيت (عليهم السلام) فتقتفي آثارهم، انتهى. فانظر متأملاً إلى آخر كلامه هذا الذي يريد به ندبته بتلك المجامع سبب لظهور التشيع في الناس لارتفاع الاتقاء عليه بعد موته (سلام الله عليه). ومن هذا تعرف أن النوادي الخاصة محل عزاء من لا شرف له كالحسين (عليه السلام) وأبناءه ولا فضل له ولا قرب كفضلهم وقربهم، ولا مظلومية له كمظلوميتهم، أما هم فإن أوقع المحال لندبتهم المجامع العمومية كمنى وغير منى. ومن المواكب: 2 مواكب السلاسل وهو يتألف من جماعة من الرجال مكشوفي الظهور والرؤوس فقط بأيديهم سلاسل الحديد يضربون ظهورهم بها بدل الأيدي وعليهم الثياب السود، وأمامهم وخلفهم الأعلام المسودة يمشون بهدوء وسكون، لا يتواثبون ولا يزعقون، ينشدون وهم بتلك الحال أناشيد الحزن، ويخرجون صفوفاً متكاتفة، مخترقين الأزقة والجواد العمومية، وهذا لا ريب في كونه أجلاً من موكب لدم الصدور باليد في كونه مظهر الحزن والجزع، وكلما قلناه في ذلك نقوله في هذا ويأتي في أدلة الموكب الأخير ما يدل على رجحان هذا بالأولوية القطيعة. ومن المواكب: 3 موكب القامات وهو موكب يتألف من جماعة لابسي الأكفان البيض بأيديهم السيوف والقامات، قد ضربوا المقدم من رؤوسهم بها، وتناثرت قطرات كثيرة من الدم على تلك الأكفان، وهم يسيرون صفوفاً متكاتفين متلازمين كأنهم حلقات سلسلة واحدة كل قد أخذ بيده الخالية حجزة الآخر، يخترقون الشوارع على هذه الهيئة، حفاة الأقدام حسر الرؤوس، لا يتواثبون ولا يزعقون، غير أنهم يهزون السيوف مؤمين بها إلى رؤوسهم ومن ذلك تحدث لهم في المشي هيئة خاصة. وهؤلاء من جهة يمثلون للأبصار طائفة قد استسلمت للموت وأقدمت على الحرب في نصرة سليل خير الأنبياء ودفع الأعداء عنه، وقد سالت دماؤها الطاهرة على وجوهها، وضمخت بها رؤوسها، ولطخت بها ثيابها المتخذة أكفاناً يوم الطف ومن جهة أخرى يظهرون بمظهر موكب قد ارتفع في مقادير الحزن على أن يضرب صدره بيده أو بسلسلة حديدية، بل هو يريد أن يقتل نفسه جزعاً من جراء تلك الفادحة التي أصيب بها الإسلام في قتل سبط النبي المرسل، فهذا الموكب عزاء من جهة وتمثيل رزية من أخرى، وكلّما حررناه في المآتم آت فيه بالأولوية، بل هو في كونه نصرة للحسين (عليه السلام) وبذلاً للنفس في سبيله أظهر وأجلا، وقد مر عليك ما يدل على ذلك من قوله: ينصروننا ويفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا ويبذلون أنفسهم وأموالهم فينا. وهنا ربما ينبري بعض الكذبة ليقول: أنه مات من (المطبّرين) بعضهم في موكب التطبير، لكنها فرية بلا مرية، فإنني منذ أدركت إلى يومنا هذا ما رأيت ولا سمعت أن واحداً مات بذلك في أي سنة وأي بلدة فضلاً عن جماعة في كل سنة، ولقد سألت الكثير ممن جاوز السبعين والثمانين من سني عمره من ثقاة أهل النجف وكربلاء والكاظمية وغيرهم من علماء البلدان وصلحائهم وكلٌ أنكر أن يكون رأى أو سمع أن واحداً من أولئك تألم ألماً يوجب مراجعة الجراح، كيف لا وأغلب أفراد موكب السيوف يجرحهم كبرائهم بسكين دقيقة جروحاً خفيفة يظهر منها الدم بواسطة الضرب على الرأس لا بالجرح بمجرده من دون أن يحصل لهم إيلام مزعج لأن غرضهم صوري وهو: البروز بصورة التقتيل والجريح. إن أدنى فوائد التذكارات الحسينية التي تعملها الجعفرية اليوم أن تجعل كل فرد منهم: راسخ الاعتقاد بمذهبه، شديد اليقين به، وذلك ما رمزنا إليه وصرحنا فيه في غير موضع من الرسالة، ولا يلزم أن تكون فائدتها أمراً فوق ذلك. ومن ثمة لو كانت قرية مثلاً ليس فيها من غير الجعفرية أحد أبداً لكان يلزم عليهم إقامة التذكارات بجميع مظاهرها وذلك خشية أن يضعف اعتقادهم ويزول بمرور الأيام. وكذا لو كانت القرية وما فيها من الجعفرية إلا أفراد معدودة بل هذه أولى بإقامتها من هذه الجهة، وأخرى من تلك الأعمال ربما تكون داعية للاغيار إلى الفحص عن أسباب تلك التذكارات واستحسانها حتى تكون بنفسها مبشراً من المبشرين بها. قال بعض مؤرخي الأجانب في مقام استشهاده على نحو هذا: رأيت في بندر (مارسل) في الفندق شخصاً واحداً عربياً شيعياً من أهل البحرين يقيم المأتم منفرداً جالساً على الكرسي بيده الكتاب يقرأ ويبكي وكان قد أعد مائدة من الطعام ففرقها على الفقراء. فبالله عليك ما الذي جعل هذا الرجل الغريب في البلدة التي لا مماثل له فيها في العنصر والمذهب أن يكون شديد الاعتقاد بمذهبه إلى تلك الدرجة لولا ما تعوده في بلده منذ نعومة أظفاره من إقامة المآتم والتذكارات؟ وبما أن هذا الموكب ـ من جهة يمثل موقف الحسين (عليه السلام) وأنصاره بالطف ـ يكون إحياءً لأمرهم، ومن جهة يظهر بمظهر مرتفع في مقدار الحزن عن أن يضرب صدره بيده بل يهم بقتل نفسه يكون حزناً لأجلهم وباعتبار الجهتين يكون كل فرد من أفراد الموكب متصفاً بكونه موجع القلب لهم، وباذلاً نفسه فيهم؛ ومؤدياً حقهم؛ ومعظماً شعائرهم وناصراً لهم بعد وفاتهم، وغير ذلك من العناوين العامة التي كثرت فيها الأخبار الخاصة عن أئمة الهدى (سلام الله عليهم). إن أشد الأخبار العامة مساساً بهذا الموكب وأتم اعتلاقاً به الأخبار الكثيرة المستفيضة الدالة على أن الجزع مكروه ومحظور ما عدا الجزع على الحسين (عليه السلام) فإنه مندوب إليه ومرغب فيه. ففي رواية معاوية بن وهب التي رواها المفيد والشيخ وابن قولويه عن الصادق (عليه السلام): كل الجزع والبكاء مكروه ما سوى الجزع والبكاء لقتل الحسين. بل في خبر مسمع بن عبد الملك البصري عن الصادق (عليه السلام) أنه قال له (يعني الصادق): أفما تذكر ما صنع به (يعني الحسين (عليه السلام))؟ قلت: بلى. قال: فتجزع؟ قلت: إي والله واستعبر لذلك حتى يرى أهلي أثر ذلك علي فامتنع من الطعام والشراب حتى يستبين ذلك في وجهي. قال: رحم الله دمعتك، أما إنك من الذين يُعدُّون من أهل الجزع لنا والذين يفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا ويخافون لخوفنا ويأمنون إذا أمنا، الحديث. وهذه وما بعدها بنظري عمدة الأدلة على جواز إدماء الرؤوس بالسيوف بل واستحبابه، وذلك أن كل ما يفعله الشيعة من الضرب بسلاسل الحديد وبالقامات وغيرها هو دون الجزع المرغب فيه. الضرب بالسيوف والقامات على الرؤوس هو مظهر من مظاهر الجزع وليس بجزع حقيقية فإن الجزع أمر معروف في اللغة والعرف وهو ضد الصبر، نحو: أن ينتحر الرجل العاقل أو يلقي نفسه من شاهق لحادثة تحدث تغلب صبره وتورده الهلاك وأين هذا من جرح الرأس بسكين أو سيف جرحاً خفيفاً يوجب خروج الدم ولا يؤلم إلا بمقدار ما تؤلم الحجامة وغيرها مما يرتكب لأغراض عقلائية سياسية أو طبية؟ لا يراد من الجزع في الخبر السابق البكاء لعطفه عليه فيه، وفيما لا أحصيه عدداً من الأخبار وذلك أية المغايرة بينهما؛ ولا ما ذكرناه من بلوغ الحزن إلى حيث يورد الهلاك، وإن كان هذا لو صدر من أحد في مصاب فكثيراً ما يحدث بغير اختيار. وكلما هو دون هذه المرتبة مما يتحمل عادة ولا يجر إلى الضرر بالنفس فهو من الجزع المرغب فيه؛ وله مراتب منها الامتناع من الطعام والشراب مع الحاجة إليهما كما صدر عن (مسمع) وذلك للتأثر القلبي الموجب لعدم قبول النفس لهما مع شدة الجوع والعطش. وما ورد في بعض أخبارنا من تحديد أشد الجزع بالصراخ والويل والعويل ولطم الوجه والصدر وجز الشعر من النواصي وإقامة النواحة فهو في غير شأن الحسين (عليه السلام) لأن أعظم هذه المعدودات النواحة وهي عليه راجحة بل واجبة قطعاً. ولطم الخد، وقد دل على جوازه وجواز شق الجيب الخبر الصحيح المروي في التهذيب عن خالد بن سدير عن الصادق (عليه السلام) وفيه: (على مثله ـ يعني الحسين ـ تلطم الخدود وتشق الجيوب). الإمام شيخ الشريعة (قدس سره) ولقد كان شيخنا العلامة (شيخ الشريعة) (قدس سره) بهذا الاعتبار وبتلك الأخبار يصحح الخبر المرسل الذي استبعده بعض العظماء من أن (عقيلة علي الكبرى) لما لاح لها رأس الحسين (عليه السلام) وهو على رمح والريح تلعب بكريمته نطحت جبينها بمقدم المحمل حتى سال الدم من تحت قناعها، ويقول: إنه لا استعباد فيه إلا من جهة ظهور الجزع منها وإيلام نفسها، والإيلام الغير المؤدي إلى الهلاك لا دليل على عدم جوازه، والجزع مندوب إليه ومرغب فيه في كثير من الأخبار. قلت: الظاهر من الأخبار جواز الهلع أيضاً، وهو على ما ذكروه أفحش الجزع، ويظهر من الخبر الصحيح الذي تدل مضامينه على صحته المروي (في الكامل) عن قدامة بن زائدة عن السجاد (عليه السلام) أنه قد صدر منه الهلع لو استطاعه. وروي المجلسي (أعلى الله مقامه)، والسيد عبد الله شبر (رفع الله درجته، في كتاب (جلاء العيون): أن زين العابدين (عليه السلام) كان إذا أخذ إناء ليشرب يبكي حتى يلمؤه دماً، وهذا بظاهره من غرائب الأخبار، فإن العيون لا تسيل دموعها دما؛ ولذلك كنت أحتمل وقوع التحريف فيه وإن الصحيح (دمعاً) بدل (دماً) لكني وجدت المخطوط والمطبوع من الجلاء وغيره كما هو مروي فيه. وعليه فأقرب توجيهاته أن يقال: أن العيون وإن لم تبك دماً لكنها لكثرة البكاء والاحتراق تتقرح أجفانها فإذا اشتد البكاء تتفجر القروح دماً يمتزج بالدموع فهو إذا سال في الإناء يسيل كأنه دم ويصدق حينئذ أن يقال: (يملؤ الإناء دماً). وإذا ساغ للسجاد أن يسيل الدم باختياره من عضو من أعضاءه ببكاء الدم أو بتقريح الجفن جزعاً وهلعاً على رزية الحسين فما هو إذاً شأن ما يصدر من الشيعة من ضرب السلاسل والقامات؟ وهل سيلان دم السجاد في الإناء أهون من انتثار قطرات من دم رأس الجريح على ثيابه حزناً على تلك الفادحة العظيمة؟ ثم أقول بهذا الاعتبار أيضاً: مضافاً إلى ما سلف من قوله (عليه السلام): على (مثله تلطم الخدود وتشق الجيوب) يرفع الاستبعاد عما روي في الكتب من أن (عقيلة آل محمد (صلى الله عليه وآله)) في موارد عديدة (لطمت وجهها وشقت جيبها وصاحت ودعت بالويل والثبور) فإنه لا حامل لها على شق الجيب إلا الجزع في مصاب حق أن تشق له القلوب لا الجيوب. الإمام إسماعيل الصدر (قدس سره) كما صرح بذلك سيدنا العلامة (السيد إسماعيل الصدر) (قدس سره) في بعض حواشيه: وكيف لا نفعل ذلك في مصاب جزع له وبكى (إبراهيم) خليل الرحمن (وموسى) كليمه كما في الخبر. وفي آخر: أن فاطمة (عليها السلام) لما أخبرها النبي (صلى الله عليه وآله) بقتل الحسين، جزعت وشق عليها. وفي خبر آخر: أنها تنظر كل يوم إلى مصرع الحسين (عليه السلام) فتشهق شهقة تضطرب لها الموجودات. وفي غيره: أن (أبا ذر) لما أخبر الناس بمصيبة الحسين قال ما معناه: (لو علمتم بعظم تلك المصيبة لبكيتم حتى تزهق نفوسكم). ومن الأدلة على ذلك مضافاً إلى ما سلف وإن كان فيه غنى وكفاية ما دل على إدماء الله كثيراً من أنبياءه لأجل أن يحصل لهم الفوز بدرجة المواساة للحسين (عليه السلام) فمن ذلك المروي في (بحار الأنوار): إن آدم (عليه السلام) لما انتهى في طوافه في الأرض إلى كربلاء عثر في الموضع الذي قتل فيه الحسين (عليه السلام) حتى سال الدم من رجله. وكذلك إبراهيم (عليه السلام) لما مر بها عثر فرسه فسقط وشج رأسه وسال دمه. وكذلك موسى (عليه السلام) حين جاء كربلاء انخرق نعله وانقطع شراكه ودخل الحسك في رجليه وسال دمه. وكل هؤلاء لما ذعروا من ذلك وخشوا أن يكون ذلك لذنب حدث منهم أوحى الله إلى كل واحد منهم: أن لا ذنب لك ولكن يقتل في هذه الأرض الحسين بن علي (عليه السلام) وقد سال دمك موافقة لدمه. فإن هذا الإعثار والإدماء من الله لا عن ذنب، والتعليل بكونه موافقة لدم الحسين دلالة جلية على جواز إدماء الإنسان نفسه مواساة له، لأن سيلان دمائهم مع كونه غير مقصود لهم إذا كان محبوباً لمجرد الموافقة في السيلان فالمقصود إسالته مواساة لهم أولى بالمحبوبية. إن التأسي بالحسين مندوب إليه وقد رغب فيه الغلام الزكي (يحيى بن زكريا) وصادق الوعد (إسماعيل) وهذا لما سلخ قومه جلدة وجه ورأسه قال: لي أسوة بالحسين (عليه السلام) بل روي أن غنمه التي كانت ترعى في شاطئ الفرات لما امتنعت من ورود الماء وسألها عن سبب الامتناع؟ قالت: هذه المشرعة يقتل عليها الحسين (عليه السلام) فنحن لا نشرب منها مواساة له. وقد روى امتناع بعض الأئمة من شرب الماء يوم عاشوراء مواساة للحسين. وورد في صومه: (لا تجعله صوم يوم كامل ولكن افطر بعد الزوال بساعة على شربة ماء فعندها تجلت الهيجاء عن آل الرسول). وكان موسى بن جعفر (عليه السلام) إذا دخل شهر المحرم لا يرى ضاحكاً وكانت الكآبة تغلب عليه حتى تمضي عشرة أيام. فإذا كان يوم العاشر كان يوم مصيبته وحزنه وبكائه، فهذه الرموز تشير إلى استحباب مواساة الحسين بتحمل العطش وبإدماء الرأس وبكل ما يكون مصداقاً، سوى القتل. وإنما خص الرأس بالإدماء لأن المواساة لا تصدق الآن عرفاً بإدماء غيره. وربما يستأنس لهذا بما ورد من التوبيخ على ترك زيارته عند الخوف بناء على ما يذهب إليه صاحب (الخصائص الحسينية) من شمول الخوف فيه لما عدا تلف النفس مدعياً أن ذلك من خصائصه كالجهاد معه يوم عاشوراء وبناء على التعدي عن موردها إلى غيره مما يتعلق بالحسين (عليه السلام) لاتحاد الطريق في الجميع أو لانفهام التعميم من نحو قوله (عليه السلام) في بعض تلك الأخبار: (ما كان من هذا أشد فالثواب فيه على قدر الخوف) وقوله: (أما تحب أن يراك الله فينا خائفاً). مراجع عظام يؤيدون مرّ زمن وهو أوائل المائة الثانية عشر والمبرز بالعلم والفضل والورع في إيران وخاصة بالري وقم: الإمام الميرزا القمي (قدس سره) وفي أصفهان وفارس وبلاد الجبل: الإمام الشفتي (قدس سره) (السيد محمد باقر الرشتي) صاحب كتاب: (مطالع الأنوار). الإمام كاشف الغطاء (قدس سره) وفي العراق، بل وإيران وأكثر البلدان (الشيخ جعفر النجفي) كاشف الغطاء. وهؤلاء في الاشتهار ونفوذ الكلمة بمنزلة لا توصف، ومع اجتماعهم في الزمن وشدة النفوذ منهم كان التمثيل يقع بمرئى منهم ومسمع ولا منكر منهم. نعم صرح كاشف الغطاء بأن الأولى ترك تشبيه الرؤوس وتشبيه النساء في محافل الرجال فحسب. الإمام بحر العلوم والوحيد والمجلسي (قدس الله تعالى أسرارهم) أترى كاشف الغطاء والسيد الرشتي المذكور يمضيان ذلك ويمنعه أستاذهما (بحر العلوم الطباطبائي) أو أستاذه (الوحيد البهبهاني) أستاذ الكل أو العلامة (المجلسي) كلا ثم كلا. إن السيد محمد باقر المذكور كان لنفوذ كلمته يقتل القاتل ويقطع السارق ويرجم الزاني ويقيم سائر الحدود؛ وهو أول من أحرز لقب (حجة الإسلام) في الشيعة؛ ومع ذلك لم ينكر ما يصنع في إيران من الأعمال الحسينية. النجف الأشرف، وعمل الشبيه تمتاز النجف وهي مغرس علماء الشيعة بعمل الشبيه عن جميع البلدان العراقية وذلك أنه كان في النجف ميدان واسع طولاً وعرضاً لو اجتمع فيه أهل البلدة جميعاً يومئذ لوسعهم قد أكلته العمارة اليوم ولم يبق من إلا خط طولي وهو شارع محدود... كان هذا الميدان من أزمنة قديمة محلاً لإقامة الشبيه في عشرة أيام من شهر المحرم يقوم بتمثيل واقعة الطف جماعة كثيرة من أهل المعرفة فيمثلون كل يوم نبذة ممتعة من تلك الواقعة إلى اليوم العاشر... الإمام الشيخ الأنصاري (قدس سره) ودام هذا إلى أيام المحقق (الشيخ مرتضى الأنصاري) والسيد على آل (بحر العلوم) وسائر السلف الصالح من آل كاشف الغطاء. الإمام المجدد الشيرازي (قدس سره) وصاحب الجواهر حتى أوائل أيام الرياسة الكبرى (للسيد الميرزا محمد حسن الشيرازي) نزيل سامراء... ثم ترك هذا التمثيل لتعمير الحكومة قسماً كبيراً من ذلك الميدان ولغير ذلك وصار التمثيل ما هو الجاري الآن في أيامنا هذه. أما مواكب السيوف ولطم الصدور في الطرقات فحدّث عنه ولا حرج كثرة واستدامة، مع أن النجف من بين سائر البلدان ما زالت منقسمة بين فئتين متقابلتين بل فئات كثيرة وكثيراً ما يحدث العراك فيما بينهم ولكنه لم يوجب منع العلماء الأعلام من إقامة الشعارات. نعم ربما منعتهم الحكومة محافظة على الأمن العام حتى تتكفل الرؤساء بعدم حودث شيء من ذلك. (السيد الميرزا محمد حسن الشيرازي) نزيل سامراء وهو الذي انتهت إليه رياسة الإمامية في عصره في جميع العالم وعدّ مجدداً للمذهب الجعفري على رأس القرن الثالث عشر، كما أن الوحيد البهبهاني (محمد باقر بن محمد أكمل) مجدده في القرن الثاني عشر... قد كان انفذ كلمة على عموم الشيعة ملوكها وسوقتها من كل سابق ولاحق. وقد يوجد اليوم في كل بلدة كثير ممن يعرف اشتهاره ونفوذه وكان مع علمه بوقوع الشبيه وخروج المواكب وما يحدث فيها من حوادث ويضرب القامات والسيوف في بلدان الشيعة في العراق وإيران وعدم وقوع الإنكار منه أصلاً تقام جميع الأعمال المشار إليها في (سامراء) محل إقامته نصب عينيه بلا إنكار. قد يظن الظان لأول وهلة أنه (قدس الله سره) لا يرى رجحان ذلك بالنظر إلى حال محيطه لأن جميع منه في البلدة عدا النزلاء من غير الفرقة الجعفرية وفيها أخلاط من غير المسلمين وفي ذلك مجال الاستهزاء والسخرية وقد سألت كثيراً ممن كان يقطن سامراء في أيامه فكان أقلهم مبالغة في تعظيمه. الإمام الشيخ البلاغي (قدس سره) لشأن المواكب والشبيه شيخنا المتقن المتفنن (الشيخ محمد جواد البلاغي النجفي) وعنه أنقل ما يلي: كان الشبيه يترتب يوم العاشر في دار الميرزا (قدس سره) لم يخرج للملأ مرتباً. وكذلك موكب السيوف، كان أهله يضربون رؤوسهم في داره ثم يخرجون، وكانت أثمان أكفانهم تؤخذ منه. وما كان أفراد الشبيه سوى الفضلاء من أهل العلم لعدم معرفة غيرهم بنظمه في قول وفعل. وأما المواكب اللاطمة في الطرقات تتألف من أهل العلم وغيرهم، وكان السيد مهدي صاحب (الصولة) يومئذ أحد الطلبة اللاطمين جزء المواكب متجرداً من ثيابه إلى وسطه وهو من دون اللادمين مؤتزر فوق ثيابه بإزار أحمر. الإمام الشيخ محمد تقي الشيرازي (قدس سره) ودام هذا كله بجميع ما فيه إلى آخر أيام خلفه الصالح الورع (الميرزا محمد تقي الشيرازي) (قدس سره) وكان الشبيه يترتب أيضاً في داره ومنه تخرج المواكب وإليه تعود، بيد أن موكب السيوف لم يتألف غير مرة لأن القائمين به ـ وهم الأتراك لا غيرهم ـ كانوا يومئذ قليلين ولقلتهم استحقروا موكبهم فتركوه من تلقاء أنفسهم، انتهى كلامه. الإمام الشيخ محمد طه نجف (قدس سره) إن بَعُد عليك عهد الشيخ الأنصاري والسيد الشيرازي فهذا بالأمس الأفقه الأورع (الشيخ محمد طه نجف) (قدس سره) يرى في النجف بل العراق جميع الأعمال المشار إليها وهو أقدر على المنع فلا يمنع... إن المواكب جميعاً حتى موكب القامات تدخل إلى داره ـ وهي بتلك الهيئات المنكرة على ما يقول ـ وهو لا يحرّك شفته بحرف من المنع، بيد أنه يلطم معهم ويبكي وهو واقف مكانه. الشيخ المذكور يقيم مأتم الحسين (عليه السلام) في داره عصراً فتغص بالعلماء والصلحاء وأهل الدين وفي يوم معين من كل سنة يقع في المأتم نفسه تمثيل بعض وقائع الطف ولا منكر منه ولا منهم، وهب أنه لا يستطيع تعميم المنع لكنه يستطيع منع أن يصنع ذلك في داره أو أن تدخل المواكب داره وهو يعلم أنه كثيراً ما يتقاتل ويتضارب أهل المواكب في الطرقات. السيد محمد بحر العلوم (قدس سره) وكذا العلامة المتقن المتبحر (السيد محمد) آل بحر العلوم الطباطبائي يقام في داره أعظم وأفخم مآتم النجف يحضره جميع أهل العلم، ويقع فيه التمثيل الذي يقع في دار الشيخ، زيادة، هذا غير كون الدار المذكورة موئلاً لجميع المواكب، وبها تضرب أرباب السيوف رؤوسها من لدن أيام: السيد علي بحر العلوم (قدس سره) (السيد علي بحر العلوم) أو قبله حتى اليوم ومنها تخرج إلى الشوارع والبيوت والجواد العمومية وإليها تعود بلا إنكار ولا استيحاش. الإمام الطباطبائي اليزدي (قدس سره) إن بعد عليك هذا العهد القريب أيضاً فهذا المرحوم خاتمة الفقهاء (السيد محمد كاظم اليزدي) الذي كانت له السلطة الروحانية الفذة على عموم الشيعة؛ كانت التمثيلات تقام نصب عينيه والمواكب تخترق الشوارع بين يديه ولم يؤثر عنه منع شيء من ذلك وهو بمكان من ثبات الرأي ونفوذ الكلمة. الإمام الأصفهاني (قدس سره) ولا شك أن الصحف السائدة والمنشورات الدائرة أقرأتك فتوى سيدنا وملاذنا حجة الإسلام ومرجع الخاص والعام العالم العامل الرباني (السيد أبو الحسن الأصفهاني) (دام علاه) المتضمنة لامضاء جميع التذكارات الحسينية على الإجمال. الإمام النائيني (قدس سره) واليوم قد تمثلت أمام عينيك رسالتي هذه تطالع فيها الفتوى المفصلة التي جاد وأجاد بها بقية السلف من العلماء الأعلام شيخنا العلام آية الله في الأنام (الميرزا محمد حسين الغروي النائيني) (أدام الله فضله)... وبما أن إفتاؤه (سلّمه الله) موجه إلى المؤمنين عامة وأهل (البصرة) خاصة لأنهم المستفتون فأنا أنشره بنصه فيما يلي قال (دام ظله): بسم الله الرحمن الرحيم إلى البصرة وما ولاها بعد السلام على إخواننا الاماجد العظام: أهالي القطر البصري ورحمة الله وبركاته. قد تواردت علينا في الكرادة الشرقية (ببغداد) برقياتكم وكتبكم المتضمنة السؤال عن حكم المواكب العزائية وما يتعلق بها؛ وإذ رجعنا بحمد الله سبحانه إلى النجف الأشرف سالمين؛ فهانحن نحرر الجواب عن تلك السؤالات ببيان مسائل: (الأولى): خروج المواكب في عشرة عاشوراء ونحوها إلى الطرق والشوارع مما لا شبهة في جوازه ورجحانه وكونه من أظهر مصاديق ما يقام به عزاء المظلوم وأيسر الوسائل لتبليغ الدعوة الحسينية إلى كل قريب وبعيد، لكن اللازم تنزيه هذا الشعار العظيم عما لا يليق بعبادة مثله من غناء أو استعمال آلات اللهو أو التدافع في التقدم أو التأخر بين أهل محلتين ونحو ذلك، ولو اتفق شيء من ذلك فذلك الحرام الواقع في البين هو الحرام ولا تسري حرمته إلى الموكب العزائي ويكون كالنظر إلى الأجنبية حال الصلاة في عدم بطلانها به. (الثانية): لا إشكال في جواز اللطم بالأيدي على الخدود والصدور حد الاحمرار والاسوداد بل يقوى جواز الضرب بالسلاسل أيضاً على الأكتاف والظهور إلى الحد المذكور، بل وإن أدى كل من اللطم والضرب إلى خروج دم يسير على الأقوى. وأما إخراج الدم من الناصية بالسيوف والقامات فالأقوى جواز ما كان ضرره مأموناً وكان من مجرد إخراج الدم من الناصية بلا صدمة على عظمها ولا يتعقب عادة بخروج ما يضر خروجه من الدم نحو ذلك كما يعرفه المتدربون العارفون بكيفية الضرب ولو كان عند الضرب مأموناً ضرره بحسب العادة ولكن اتفق خروج الدم قدر ما يضر خروجه لم يكن ذلك موجباً لحرمته، ويكون كمن توضأ أو اغتسل أو صام آمناً من ضرره ثم تبين تضرره منه. لكن الأولى بل الأحوط أن لا يقتحمه غير العارفين المتدربين ولا سيما الشبان الذين لا يبالون بما يوردونه على أنفسهم لعظم المصيبة وامتلاء قلوبهم من المحبة الحسينية... ثبتهم الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة... (الثالثة): الظاهر عدم الإشكال في جواز التشبيهات والتمثيلات التي جرت عادة الشيعة الإمامية باتخاذها لإقامة العزاء والبكاء والإبكاء منذ قرون وإن تضمنت لبس الرجال ملابس النساء على الأقوى، قلنا: وإن كنا مستشكلين سابقاً في جوازه وقيدنا جواز التشبيه في الفتوى الصادرة عنا قبل أربعة سنوات بخلوه عن ذلك، لكنا راجعنا المسألة ثانياً، واتضح عندنا أن المحرم من تشبيه الرجل بالمرأة هو ما كان خروجاً عن زي الرجال رأساً وأخذاً بزي النساء دون ما إذا تلبس بملابسها مقداراً من الزمان بلا تبديل لزيّه كما هو الحال في هذه التشبيهات، وقد استدركنا ذلك أخيراً في حواشينا على (العروة الوثقى) نعم يلزم تنزيهها عن المحرمات الشرعية وإن كانت على فرض وقوعها لا تسري حرمتها إلى التشبيه كما تقدم. (الرابعة): الدمام المستعمل في هذه المواكب مما لم يتحقق لنا إلى الآن حقيقته، فإن كان مورد استعماله هو إقامة العزاء وعند طلب الاجتماع وتنبيه الركب على الركوب وفي الهوسات العربية ولا يستعمل فيما يطلب فيه اللهو والسرور كما هو المعروف عندنا في النجف الأشرف فالظاهر جوازه، والله العالم ـ انتهى بنصه حرفياً. (وكربلاء والكاظمية المقدستان أيضاً) الإمام شريف العلماء، والإمام الأردكاني، والإمام المازندارني، والإمام آل ياسين، والإمام الأعرجي، والإمام القزويني (قدسّت أسرارهم). أما ما يقع في كربلاء أيام (شريف العلماء) أستاذ العلامة الأنصاري ثم في أيام (الفاضل الأردكاني) والشيخ (زين العابدين المازندراني). وفي الكاظمية أيام العلامة الأورع أبي ذر زمانه (الشيخ محمد حسن يس) بل حتى أيام (السيد محسن الأعرجي الكاظمي). وفي الحلة منذ عهد العلامة الذي قل أن يأتي له الدهر بنظير (السيد مهدي القزويني) إلى الآن فإني لا أطيل بذكره لأنه يوجب الخروج عن وضع الرسالة. والتمثيل وإن لم يقع في الحلة حتى الآن على ما أظن لكن المواكب اللاطمة في الطرقات ليلاً ونهاراً، مما ليس لأحد إنكارها ولم يكن السيد مهدي المذكور ولا أحد من أبناءه المحترمين منكراً للعمل ومحرماً خروج موكب حتى اليوم، على أن أهل البلدة ومن حولها أطوع لهم من الضان لذي الظل. تمت في شهر ربيع الأول سنة 1345 في المطبعة العلوية: في النجف الأشرف
|
1- أي دين الإسلام (المؤلف). 2- يعني: الشيعة. 3- كرقص النساء والرجال في المحافل العمومية والتهتك وغير ذلك. 4- في الأصل الفارسي المترجم عنه خمسة ملايين والظاهر تبديل الخمسين بالخمسة سهوا (المؤلف). 5- كان مقصوده سلطنة الشيعة (المؤلف). 6- سورة الشورى: الآية 23. 7- يلاحظ هنا إن الدنيار الواحد ـ في ذلك الزمان ـ كان ثمناً لخروف ويعادل ثلاثة أرباع المثقال من الذهب الخالص. وبهذا يعرف التقييم الغالي من الأئمة (عليهم السلام)، لإعلان مصائبهم، وهم (عليهم السلام) الأسوة للأنبياء فكيف بغيرهم؟ |