الفصل الأول: حقائق لابد منها |
كانت عاشوراء ولا تزال قطب الرحى الذي تتجدد فيه حياة الإسلام والتشيع بشكل خاص وحياة القيم والفضائل الإنسانية بشكل عام. ففي كل عام تتجدد فيه الأحزان والآلام والمصائب، تتجدد معه عواطف الناس ويزداد ارتباطهم بالدين والمبادئ الهادفة، بل وتتجدد حيويتهم وأنشطتهم في سبيل العمل لخدمة الإنسانية. ولعلك لا تجد في العالم مذهباً من المذاهب أو طائفة من الطوائف يقرنون الأحزان بالهمم، والذكريات بالعظات، والآلام بالحماسة والإصرار والاستقامة في سبيل التقدم والبناء كالتشيع والشيعة. فهم في الوقت الذي يمارسون شعائرهم المقدسة في المناسبات الخاصة طول أيام السنة عموماً وفي محرم وصفر خصوصاً يقرنونها بالتوعية والنصيحة والدفع إلى الأمام. وفي الوقت الذي يعلنون في مجالسهم الحسينية ومواكبهم ولطمهم وبكائهم الحب والولاء لرسول الله أولاً ثم للزهراء وذريتها الطاهرة ثانياً ويواسونهم في أحزانهم ويفرحون لأفراحهم.. يعلنون أيضاً عن حبهم وولائهم للقيم الإنسانية والمبادئ الحقة في هذا الوجود. وهل توجد مبادئ أحق من مبادئ الرسول وآل الرسول (صلى الله عليه وآله)؟! بل في الوقت الذي يبذلون فيه الغالي والنفيس في سبيل ظلامة أئمتهم ويلخصونها في مظلومية الحسين فيندبون إماماً قتل غريباً وحيداً عطشاناً مع أخوته وأطفاله وكل أنصاره في أرض ينساب في جنباتها أعذب ماء في هذه الأرض وأطيبه وهو ماء الفرات. .. يندبون معه كل حق مضيّع ودم مهدور ومال مأكول بالباطل، وإلى جانبه يرفضون كل ما يضاد ذلك، فيلعنون الظلم وأهله وحزبه، والباطل وأهله، الذي كان يزيد وأعوانه، ومن هو على شاكلته بالأمس من أهله وأما اليوم كل من يقتدي ويتأسى به في الخصائص والصفات. فلا تجد إذن في العالم مذهباً كالتشيع وقّاداً في الفكر، حيوياً في العواطف، مرهفاً في الحسن، يقرن الحب بالرفض، والتولي بالتبري. وهل الحياة إلا التولي للحق والتبري من أعدائه؟!. من هنا نعرف خلاصة الشعائر الحسينية التي يهتم بها الشيعة ويبذلون في سبيلها جهوداً وأتعاباً مضنية كل عام، بل ويتحملون في سبيل التهم، والدعايات تلو الدعايات لأنهم يعرفون دائماً أنهم على حق، ومن يقف أمامهم ويعرقل هذه الوسائل والسبل النزيهة الحقة ليس إلا الجهل أو الباطل.. إنك لو تتبعت سلسلة الذين يقفون أمام الشعائر، والذين يقفون إلى جانبها تتلمس - بوضوح - البون الشاسع بين الصفين. فالذي يصدّ عن الشعائر كان بالأمس، من طبقة الحكام الظلمة والمذاهب الباطلة والفئات المنحرفة.. أما الذين يقفون إلى جانبها فهم من طبقة السادة والعلماء وأصحاب المبادئ الحقة والفئات المخلصة النزيهة.. فبالأمس صد عنها يزيد وابن زياد والحجاج وهارون والمتوكل والعثمانيون ونحوهم، واليوم يصد عنها الاستعمار وعملاؤه بكل أصنافهم وأشكالهم. والغريب في الأمر أن الكل يدعي نفس الادعاء، ويتهمها بنفس التهمة من حيث الجوهر والحقيقة وان كانت الصورة والقالب يختلفان. فبالأمس أسموها خروجاً عن الدين وعلى خليفة المسلمين. واليوم يسمونها بدعة وخرافة ورجعية وخروجاً عن منطق الإسلام ومفاهيمه التقدمية!! ولعلك لم تجد شعاراً من الشعائر الحسينية لاقى صنوف المحاربة والتهم والدعايات والتشكيكات مثل ما لاقاه التطبير.. لأنه ذروة عاشوراء ورأس الشعائر الحسينية وقمتها التي تتجلى فيها المحبة الصادقة والروح الفدائية التضحوية، بل إن في التطبير أقوى جواب وأعمق تعبير لأعظم نداء هتف به الحسين (عليه السلام) يوم عاشوراء ينادي به الأجيال في عمق التأريخ والزمن - ألا هل من ناصر ينصرنا.. ألا هل من مغيث يغيثنا(1). فبالتطبير تتجلى المواساة والنصرة، والاستجابة لهذا النداء في أكمل معانيها.. ومن الثابت أن الإنسان يتفاعل ويتأثر بالأفعال والأحداث الخارجية التي يواجهها.. فلكل موقف وعمل يصدر هناك استجابة يبديها الإنسان تجاهه.. ومن الواضح أن الاستجابة الحقيقة الصادقة تلك التي تساوي الفعل وتوازيه حتى تناسبه. وإلا لا يمكن أن نسميها استجابة بالمستوى المطلوب اللائق بذلك العمل!! بل في بعض الأحيان تنقلب الاستجابة الضعيفة إلى ضدها تماماً.. إذن.. لابد من الموازاة والموازنة بين الفعل ورد الفعل.. ولابد من التكافؤ بين الموقف النبيل والاستجابة له، حتى يصدق عليها أنها استجابة لائقة.. والحسين عليه الصلاة والسلام أحسن إلينا جميعاً.. وبذل كل ما يملك من غال ونفيس في سبيلنا وله حق في رقابنا جميعاً.. هكذا تحدثنا الروايات وكلمات علمائنا وأثبتته أحداث التأريخ. وفي نفس الوقت طلب منا جميعاً نصرته وإغاثته.. أو لست تقول في زيارته (لبيك داعي الله.. إن كان لم يجبك بدني عند استغاثتك فقد أجابك قلبي وسمعي وبصري ورأيي وهواي على التسليم)؟(2). إذن.. لابد وأن تكون نصرتك ومواساتك للحسين (عليه السلام) بما يليق من النصرة والمواساة أليس كذلك؟! فتواسي دموع الحسين وأهل البيت (عليهم السلام) بدموعك.. وتواسي لطم الفاطميات على مصابه بلطمك.. وتواسي عطشهم وجوعهم وآلامهم بجوعك وعطشك في يوم عاشوراء.. ومن هنا أفتى الفقهاء حسب أدلة صحيحة وقطعية باستحباب الإمساك عن الطعام والشراب في يوم عاشوراء(3). أما دماؤهم وأرواحهم الزكية الطاهرة.. فلا يتم المواساة فيها إلا بالدم أيضاً.. لأن الدمع مهما كثر وعظم، لا يبلغ مقام الدم وأهميته كي نواسي مناحرهم الشريفة ودماؤهم بدموع العيون أو لطم الخدود أو حتى خمش الوجوه.. كلا.. وإنما الدم يواسيه ما يوازيه إلا الدم.. ومن هنا وردت روايات عديدة تحثّ الشيعة على مواساة الحسين (عليه السلام) في كل آلامه ومصائبه، كما أشار إلى ذلك ولي العصر والزمان (عجل الله تعالى فرجه الشريف) في زيارة الناحية.. وكما فعل أهل البيت (عليهم السلام) أنفسهم في ذلك وزينب والفاطميات بحضور مولانا زين العابدين (عليه السلام) مما يعطيها جهة الحجية والاعتبار الشرعي أيضاً. وبطون التأريخ مشحونة بالقصص والأخبار في هذا السبيل، بل هو مشهور معروف يطرح على المنابر دائماً(4). والتطبير.. ليس إلا مواساة حقيقية لجراح الحسين ودمائه الطاهرة ودماء أنصاره وأطفاله (عليهم السلام) كما سنثبت ذلك بالأدلة والبراهين. إن المحرم هو أحد الشهور الأربعة الحرم وهي (ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب) أي المحترمة منذ القدم عند العرب، حيث كانوا يتركون فيها القتل والقتال وينصرفون لشؤونهم التجارية والزراعية والأدبية وغيرها. وأما عاشوراء فهو يوم العاشر منه، كانوا يعتبرونه أقدس أيام السنة وأكثرها خيراً وبركة يطعمون فيه الفقراء ويتفقدون فيه المساكين والأرامل واليتامى، ويعملون فيه الخير. هذا موجز مفهوم المحرم ومفهوم عاشوراء من قديم الزمان إلى أن جاء الأمويون، فهتكوا حرمة الأشهر الحرم في جملة ما هتكوا من الحرمات وارتكبوا في الشهر المحرم وفي يوم عاشوراء أبشع جريمة عرفها التاريخ، فسفكوا فيه أقدس الدماء وقتلوا فيه أفضل وأشرف الذوات الإنسانية وذبحوا فيه الأطفال وقتلوا النساء ومثلوا بالشهداء وأحرقوا الخيام على آل رسول الله، ورضوا جثث أهل البيت بحوافر الخيول. فتبدل بفعلهم هذا معنى المحرم وعاشوراء وتحوّل مفهومها عند المسلمين إلى أيام حداد وأسى، وصار المحرم موسماً خاصاً للاحتفال بذكرى أولئك الأبطال الذين أقدموا على تحمل المآسي العظام دفاعاً عن الحق والعدل والفضيلة، ففي الاحتفال بذكرى شهداء كربلاء وأبطال العاشر من المحرم سنة 61 هـ يترك أحسن الأثر في نفوس النشء الجديد والشباب الواعي لأن ذكراهم ومواقفهم تلقن الشباب دروس العزة والكرامة والشعور بالشرف الإنساني، وتقوي في نفوسهم روح التضحية والفداء في سبيل الحق والعدل. فنشر أنباء أولئك الأبطال هو في رأي الخبراء أكبر خدمة اجتماعية وتربوية تقدم للمجتمع. ألا ترى العادة الجارية والتقليد السائد عند كافة الشعوب والأمم حيث يحتفلون بين حين وآخر بذكرى ثوراتهم الوطنية وأبطالهم الثائرين وقادتهم المحررين ويقيمون لهم التماثيل ويرفعون صورهم في الشوارع والساحات العامة تخليداً لذاكرهم. لماذا؟ يعللون ذلك بأنه أداء لحقهم وتقدير لصنيعهم أولاً، ثم تشجيع وترغيب للشباب والنشء الجديد نحو الاقتداء بهم، والسير على مبدئهم وفي طريقهم والقيام بمثل أعمالهم. ويقول الخبراء لولا هذه الذكريات لماتت روح التضحية في نفوس الناس وسادت روح الأنانية والفردية. فإذا كان الأمر كذلك، أليس يجدر بثورة الحسين (عليه السلام) وموقفه يوم عاشوراء أن يشاد بذكراها في كل زمان ومكان؟ أي ثورة إنسانية ووطنية في العالم بلغت عمقها وشمولها ونبل أهدافها وبركة نتائجها مبلغ ثورة الحسين (عليه السلام)؟. إنها لم تخدم الشيعة فحسب ولا المسلمين فقط، بل خدمت الإنسانية والحق العالمي. إن مدرسة الحسين (عليه السلام) يجب أن تفتح في كل مكان، وذكراه يجب أن تقام في كل زمان، تماماً كما صورها هذا الأديب القائل: كأن كـــــــل مكان كربلاء لدى عيني وكل زمان يوم عاشورا ولقد حاول مخالفو الشعائر الحسينية ولا زالوا يحاولون، أن يخلقوا بعض المبررات لكي يتخذوا من أيام المحرم أعياداً ومناسبات فرح لا أساس لها من الواقع فمن ذلك مثلاً زعمهم أن هجرة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) إلى المدينة المنورة كانت في أول يوم من المحرم فهم لذلك يتخذون من ذلك اليوم عيداً وأسموه عيد الهجرة. مع العلم أن هجرة الرسول (صلى الله عليه وآله) كانت أوائل شهر ربيع الأول حسب إجماع المؤرخين. وعلى كل حال لا يوجد أي مبرر لاتخاذ أيام المحرم أو بعضها أعياداً أبداً بعد أن وقعت فيه تلك المأساة الخالدة والكارثة الإنسانية العظمى التي راح ضحيتها العشرات من ذرية رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الطاهرين في تلك المجزرة الرهيبة التي لم يسبق لها نظير. ففي حديث الإمام الرضا (عليه السلام) قال: إن شهر المحرم كان أهل الجاهلية فيما مضى يعظمونه ويحترمونه ويحرمون فيه الظلم والقتال لحرمته، لكن هذه الأمة ما عرفت حرمة شهرها ولا حرمة نبيها فقتلوا فيه ذريته وسبوا فيه نساءه من بلد إلى بلد(6).. وفي حديث آخر عنه (عليه السلام) قال: إن يوم عاشوراء تبركت به وفرحت فيه بنو أمية وآل مروان لقتلهم الحسين (عليه السلام) وأهل بيته فمن اتخذه يوم فرح وسرور جعل الله له يوم القيامة يوم حزن وخوف وكآبة، ومن اتخذه يوم حزن ومصيبة جعل الله له يوم القيامة يوم فرح وسرور وقرت بنا في الجنان عينه(7). ومنه نعرف أسباب حرص المسلمين عامة والشيعة منهم خاصة على إحياء ذكرى الحسين (عليه السلام) ونشرها ولفت الأنظار إليها بكل الوسائل والشعائر، لأن الحسين (عليه السلام) أعظم داعية للجهاد في سبيل الله واظهر مثل للثبات والاستقامة على المبدأ، وأرفع منار على طريق الشعور بالمسؤولية وأدائها. ولولا حرمة النحت والتماثيل في الإسلام لكان من المفيد جداً بالإضافة إلى ذلك، إن نقيم التماثيل للحسين (عليه السلام) في كل الساحات والشوارع بل في كل بيت لأننا كلما تذكرنا الحسين (عليه السلام) تذكرنا الله والدين والحق والعدل والإنسانية والمثالية بل في كل بيت لأننا كلما نسينا أو تغافلنا عن الحسين (عليه السلام) التبس علينا وجه الحق وفقدنا الموازين الإنسانية والمقاييس التي تفرق وتشخص الحق عن الباطل.. وعند ذلك الويل والشقاء حسب ما ورد في الحديث الشريف (... كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً والمنكر معروفاً)(8)، ولقد أحسن من قال: لقد تحمل من أرزائها محـــناً لم يحتملها نبي أو وصي نبي وقال الآخر: أحســـين فيما أنت قد حملته أشغلت فكر العالمين جميعاً ولا يضر بإحياء عاشوراء مرور الزمان وقدم الحادثة، لأنه ليس كل حادثة، تتأثر بطول العهد ومرور الزمان عليها فتفقد أهميتها وأثرها في النفوس أو يطويها الزمن في ملف المهملات.. كلا. فإلى مزيد من تذكّر الحسين (عليه السلام) والى مزيد من إحياء ذكرى ثورته المقدسة بشتى الوسائل والأساليب. ستأتيك التفاصيل في فصول الكتاب إن شاء الله ولكن أقول باختصار هنا الشعائر لتجسيد عشرات الحقائق والقيم، منها: أولاً: صدق القول المأثور (ما ضاع حق وراءه مطالب). وهل الشعائر الحسينية إلا مطالبة صريحة بحقوق أهل البيت (عليهم السلام) المغصوبة، وبالتالي مطالبة صريحة أخرى بحقوقنا المغصوبة المتفرعة على غصب حقوقهم!! ثانياً: صدق القول المأثور الآخر… (الظلم لا يدوم) وان تراه أحياناً يستمر عشرات الأعوام فإنها قليلة وضئيلة قياساً إلى عمر الزمن. ولو قدّر لدولة ظالمة أن تدوم وتستمر على الظلم والعدوان لدامت الدولة السفيانية التي أسسها معاوية بن أبي سفيان في الشام. فالدولة والحكومة التي خلفها معاوية ابن أبي سفيان كانت حصينة وقوية إلى أقصى ما يمكن.. فقد توفرت فيها كل عناصر البقاء والدوام ما عدا عنصر واحد فقط وهو العدل والحق، وهما أساس الملك الدائم فـ(العدل أساس الملك الدائم)، لذا انهارت تلك الدولة بأسرع وقت - كما سبق - وذلك عندما تنازل معاوية الثاني ابن يزيد عن العرش دون أن ينصب أحداً مكانه ومات بعد ثلاثة أيام. وهل الشعائر الحسينية إلا صرخة دائمة مدوّية بوجه الظلم ومذكّرة بمآسيه ومآثمه!! وثالثاً: صدق القول المأثور: (ما كان لله ينمو). هذا القول الحق والحكمة البالغة تتجسد بصورة واضحة في ثورة الحسين (عليه السلام) فإنها رغم حدوثها في زمن خاص وأرض محدودة لكنها اتسعت أصداؤها وانعكاساتها وتنامت ردود أفعالها على مرور الأيام حتى أصبحت في طليعة الثورات الكبرى التي حولت مجرى التاريخ وأثرت في تحرر المجتمع وحفظ كيان الأمة تأثيراً كبيراً، بل ولقد صار الخبراء والباحثون يؤمنون بأنها (أي ثورة الحسين (عليه السلام)) هي الثورة المثالية في باب الثورات الإنسانية والإصلاحية والشعبية مطلقاً وأصبح شعار يا لثارات الحسين (عليه السلام) نداء كل ثورة ودولة تريد أن تجد لها مكاناً في عقول الجماهير وقلوبهم. وفعلاً، لقد تأثر بها أكثر الثائرين في العالم بعد الحسين (عليه السلام) وجعلوا من ثورته وثباته وصلابة عزيمته وصبره وشجاعته، جعلوا من كل تلك الأمور قدوة مثلى لثوراتهم. يقال عن مصعب بن الزبير - مثلاً - الذي ثار على عبد الملك بن مروان وبقي وحده في المعركة وعرض عليه الأمان والسلام من قبل عبد الملك فرفض إذ انه قال ما ترك الحسين (عليه السلام) لابن حرة عذراً. ثم تقدم إلى القتال وحده وقاتل حتى قتل، وكان يتمثل بقول الشاعر: وإن الأولى بالطف من آل هاشم تأسوا فسنّوا للكــــرام التآســــيا وكان من بعض أصدائها القريبة وردود فعلها المباشرة ثورة أهل المدينة على سلطان يزيد، وثورة عبد الله بن الزبير في مكة المكرمة، وثورة المختار الثقفي في الكوفة، ثم ثورة مصعب بن الزبير في البصرة، وثورة زيد بن علي وابنه يحيى بن زيد في كل من الكوفة وخراسان. نعم إنما هي أرادة الله سبحانه التي تبنت ذكرى ثورة الحسين (عليه السلام) وقدرت لها البقاء، لأن في بقائها حجة بالغة ودعوة قائمة إلى طريق الخير والسعادة والشرف والكرامة.. تلك الحجة وذلك الطريق المتمثلين في العمل الذي قام به الحسين (عليه السلام) إيماناً بالله وحباً للإنسانية وتضحية في الدفاع عنها حتى النصر أو الموت. إن موقف الحسين (عليه السلام) في كربلاء أوضح دلالة وأشد تأكيداً على صدق هذا القول المأثور (ما كان لله ينمو). فلقد وقف (عليه السلام) ومعه نفر قليل من الأعوان بدون عدة ولا مدد محاصرين ممنوعين عن الماء ووراءه جمع من النساء والأطفال، وأمامه جيش من الأعداء وقد تجردوا من كل صفة إنسانية وفقدوا الضمير والوجدان، بالإضافة إلى أن ذلك الجيش كان يفوق عدد أصحابه بمئات المرات، حيث كان لا يقل عن الثلاثين ألفاً. ووقف الحسين (عليه السلام) وأصحابه يوم عاشوراء ذلك الموقف الحرج الشاق الصعب، مع أنه كان في وسع كل واحد منهم أن يتجنب القتل بكلمة يقولها أو بخطوة يخطوها. ولكنهم جميعاً آثروا الموت عطاشى جياع مجاهدين من دون أن يكون لهم أي أمل في النصر العاجل والانتصار العسكري، ولكن وقفوا لوجه الله تعالى مخلصين له بالجهاد في سبيل دينه وشريعته مضحين بأنفسهم في سبيله. وهل الشعائر الحسينية إلا تأكيداً لهذه الحقيقة المأثورة ودلالة قوية على أن الحسين (عليه السلام) قام لله، فلذا هو خالد لا ينتهي وكل ما يرتبط به - والشعائر الحسينية من أبرزها - لا ينتهي أيضا رغم كل.. ورغم كل.. لأن ما كان لله ينمو. رابعاً: الشعائر الحسينية إظهار حب وولاء للحسين (عليه الصلاة والسلام) وهل يمكن أن تنزل نكبة ومصيبة بحبيب لك وعزيز عليك ثم لا تبكي ولا تتأثر منها، والحسين (عليه السلام) حبيب كل إنسان وقد أصيب بأعظم المصائب وأفدح الكوارث لأجل الحق والعدالة دفاعاً عن الإيمان والإنسانية، فكيف لا يبكيه أو لا يتأثر عليه إنسان؟! ومع غض النظر عن هذا فإن لإقامة شعائره والبكاء عليه وجوهاً أخرى للحسن والصحة نذكر بعضها فيما يلي: الوجه الأول: توقع الثواب من الله سبحانه والأجر منه تعالى في الآخرة، حيث أن التأثر على الحسين والمشاركة في مصائبه وإظهار الحزن والأسى يوم قتله كل ذلك أمر محبوب ومرغوب فيه، لأنه من التأسي برسول الله (صلى الله عليه وآله) وبأهل بيته الطاهرين (عليهم السلام)، وقد قال الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) في كلمته المعروفة: (شيعتنا منا يفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا... الخ)(10). الوجه الثاني: تعظيم شعائر الحسين (عليه السلام) وتعزيز عظمته وتكريم مقامه حيث ورد عن الرسول (صلى الله عليه وآله): (ميت لا بواكي عليه لا إعزاز له)، أي لا احترام له. فأية وسيلة يمكن أن يعبر بها عن عظم منزلة الفقيد بين أصحابه ومحبيه أقوى دلالة وأوضح تعبيراً من الحداد والبكاء عليه؟ ثم أية ظاهرة أدل وأوضح تعبيراً عن شديد حبنا وعظيم تعلقنا به من ظاهرة البكاء عليه وجريان الدموع لموته. وهل رأيت أو سمعت أن زعيماً شعبياً في العالم مات أو قتل ولم يبك عليه أتباعه وأنصاره وشعبه؟ ولم يجعلوا يوم وفاته يوم حداد وأسى؟ وخاصة إذا كان موته بصورة مفجعة وقاسية تقتل أولاده وأطفاله وإخوانه وعشيرته وتقطع رؤوسهم وترض أجسادهم بحوافر الخيل وتحرق خيامه على نسائه وينهب رحله و و.. إلى آخر ما هناك من صور إجرامية ووحشية تقشعر منها الجلود وتفتت الأكباد والقلوب. وقد يقال بأن حادثة الحسين (عليه السلام) قديمة جداً مضى عليها أكثر من ثلاثة عشر قرناً، فإلى متى هذا البكاء لها والحزن عليها وكل فقيد في العالم مهما عظم فإنما يبكى عليه لأيام معدودة ثم يطوى ذكره في زوايا التاريخ وبطون الكتب؟ فإنا نقول: أولاً: أن عظمة الحسين (عليه السلام) تفوق عظمة كل عظيم في العالم بعد جده المصطفى (صلى الله عليه وآله) وأبيه المرتضى (عليه السلام) فقياسه على غيره من عظماء الإنسانية قياس مع الفارق الكبير بل الفوارق. وثانياً: إن الكيفية التي فُقد عليها الحسين (عليه السلام) لم يفتقد عليها حتى الآن أي فقيد قط. قتل عطشاناً شعثاً مغبراً غريباً وحيداً ثاكلاً مكروباً مستضعفاً يستغيث فلا يغاث ويستجير فلا يجار ويستعين فلا يعان يسمع ضجيج عياله وصراخ أطفاله وهم بين الآلاف من الأعداء ينتظرون منهم كل مكروه(11) ومن الناحية الثانية ينظر إلى قومه وصحبه حوله مجزرين كالأضاحي، مع العلم بأن الذين قتلوه هم أمة جده المصطفى الذين جاء لأجلهم وقام لإنقاذهم من الظلم والاضطهاد. لذلك فإن فقده في بابه، جديد أبداً ودائماً، لا يؤثر عليه مرور الزمن ولا يخفف من وقعه تعاقب القرون والأجيال فهو كما قال عنه الأدباء والشعراء قديماً وحديثاً. حيث قال بعضهم: فقيد تعــفى كــــــل رزء ورزؤه جديد على الأيام سامي المعالم وقال الآخر: وفجائع الأيام تبقي مدة وتزول وهي إلــــــى القــــــيامة باقيـة وقال الآخر: كذب المـوت فالحسين مخلد كلمـا مـــــرت الدهــور تجدد وقال الآخر: مصاب له طاشت عقول ذوي الحجا إذا ما تعـــــفى كــــــل رزء تجــــددا لقد صلب المسيح عيسى بن مريم (عليه السلام) حسب زعم المسيحيين قبل ألفي عام تقريباً، وها هم المسيحيون لا يزالون يجددون ذكرى صلبه كل عام ويبكون له ويحزنون. وقد اتخذوا من خشبة صلبه شعاراً عاماً لهم يرفعونه فوق كل المؤسسات والجمعيات والكنائس معلنين بذلك أسفهم وحزنهم على مصابه(12) ومأساته، مع العلم بأن مأساة المسيح (عليه السلام) بسيطة جداً في جنب مأساة الحسين فلماذا يلام الشيعة على حزنهم وبكائهم لمأساة الحسين (عليه السلام) ولا يلام غيرهم على الحزن والبكاء لمأساة سائر العظماء؟ وفي كتاب الملحمة الحسينية الجزء الثالث صفحة (15 - 23) أجريت بعض المقارنات بين ما تقوم به الشيعة من مراسم دينية سامية وبين ما يقوم به النصارى من أعمال لا تنسجم مع العقل والمنطق، خاصة في أعياد ميلاد المسيح السنوية منها ما ورد (بتصرف): إن احتفالاتهم بهذه المناسبات الدينية أشبه ما تكون بالاحتفالات، الفارغة من أية معنوية أو روحانية أو أخلاق ذلك أنها عبارة عن رقص وشراب وسكر وعربدة وفسق وفجور. بينما بالمقابل ترى حفل ولادة الحسين غالباً ما يقترن بمظاهر العظمة المعنوية، وتشكيل مجالس الوعظ، والإرشاد، والخطبة، وسكب دموع الشوق، وطلب التقرب لله، واستمداد التربية والتعلم منه. إن تقديس العظماء وتمجيد الأبطال بعد موتهم نزعة طبيعية وسنة عقلانية سائدة في كافة أنحاء العالم وبين جميع الأمم والشعوب منذ أقدم العصور وإلى يومنا هذا. بل إن عصرنا هذا وجيلنا الحاضر هو أكثر تمسكاً وأشد محافظة على هذا التقليد من السابق، فترى بعض الدول التي ليس لها زعيم سابق معروف وبطل عالمي شهير تمجد فيه البطولة والفداء في سبيل الأمة، يعمدون إلى بناء نصب تذكاري يسمونه (الجندي المجهول) يرمزون به على التضحية الفذة والفداء المثالي في سبيل الوطن، ويمجدون فيه البطولة والشهامة. وها نحن نسمع ونقرأ ونرى إنه ما من رئيس دولة زار أو يزور دولة أخرى في الشرق أو في الغرب إلا وكان في برامج زيارته موعد خاص لزيارة ضريح عظيم تلك الدولة أو مؤسسها أو محررها، أو زيارة النصب التذكاري فيها للجندي، المجهول. فيضع على ذلك الضريح أو ذلك النصب إكليلاً من الزهور ويؤدي التحية المرسومة. حتى الدول الشيوعية التي نبذت كل التقاليد العامة والمراسيم القديمة فإنهم لا يزالون محتفظين بهذا التقليد، ولا يمكن أن يقوم الزائر بزيارة رسمية للاتحاد السوفيتي مثلاً ما لم يقصد قبر لينين الذي جعلوه رمز الثورة الشيوعية، في روسيا وتؤدى التحية لقبره. ومما يذكر بهذه المناسبة أن من مراسيم الأعياد عند أهالي موسكو أن يزوروا لينين كل عيد وفي كل مناسبة، وفي الولايات المتحدة الأمريكية لا تزال جثة الرئيس جون كندي القتيل تزار من قبل آلاف الأمريكان في الأعياد والمناسبات، وربما يبكون عليه أحياناً ويقيمون الحداد عليه. وأيضاً الشعوب غير المسلمة تنحت الصور وتقيم التماثيل لرجالها المصلحين في الساحات العامة والمواقع الرئيسية من مدنها... لماذا يصنعون ذلك؟ لا شك أنك تعرف أنهم يفعلون ذلك تكريماً لذكراهم وشكراً لتضحياتهم وتلقيناً لسيرتهم وعملهم إلى الشباب الحاضر والأجيال القادمة. أفلا يستحق زعماؤنا المخلصون وشهداؤنا الأحرار (لأجل الأعراب عن شكرنا لهم ولأجل تلقين أجيالنا الطالعة سيرتهم ومبادئهم) إقامة التعازي عليهم وزيارة قبورهم والوقوف أمام مراقدهم خاشعين، مستوحين منها ذكريات التضحية والفداء في سبيل المصلحة العامة. هذا منطق الشيعة وفلسفتها لهذه الظاهرة، وهو كما تراه منطق العقل في كل زمان ومكان. الوجه الثالث: هو أن شعائر الحسين (عليه السلام) والحداد عليه ترمز إلى تأييد الحسين (عليه السلام) في ثورته المباركة وإعلان الثورة على الظلم والظالمين والتعبير عن أعمق مشاعر الاستنكار والسخط ضد أعداء الحق والعدل. والأعراب عن الأسف على عدم وجودنا في صفوف أصحاب الحسين سادات الشهداء الخالدين، وعدم نيلنا توفيق وسعادة نصرة الحسين (عليه السلام) في يوم عاشوراء. فيا ليتنا كنا معك أبا عبد الله فنفوز فوزاً عظيماً(13). لبيك داعي الله إن لم يجبك بدني عند استغاثتك ولساني عند استنصارك فقد أجابك قلبي وسمعي وبصري(14)... هذا لسان حال شيعة الحسين (عليه السلام) في كل مكان وزمان، فإجابة القلب بالإيمان بمبدأ الحسين (عليه السلام) الذي قتل لأجله، وإجابة السمع بالاستماع إلى سيرة الحسين (عليه السلام) وأقواله. وإجابة البصر سكب الدموع على مآسي الحسين (عليه السلام). فالتضامن والبكاء لكل واحد من هذه الأهداف والغايات الثلاث أمر طبيعي وعقلائي وظاهرة فطرية خيّرية من ظواهر الفطرة السليمة التي وقاها الله تعالى نكسة القساوة والغلظة وتحجر الضمير، وهي من أخطر الأمراض النفسية والانحرافات الروحية التي يتعرض لها بعض الأفراد وقانا الله شرها، وهي المعبّر عنها بموت القلب. وإليك ما قاله الأستاذ العقاد، ص 190 من كتابه (أبو الشهداء): إن الطبائع الآدمية قد أشربت حب الشهداء والعطف عليهم وتقديس ذكرهم بغير تلقين وإنما تنحرف عن سواء هذه السنة لعوارض طارئة تمنعها أن تستقيم أو من نكسة في الطبع، لأن العطف الإنساني نحو الشهداء هو كل ما يملك التاريخ من جزاء... الخ. كما لم يجد الخبراء وعلماء النفس والأخلاق بين الصفات الإنسانية كلها صفة أفضل وأشرف من الرحمة ورقّة القلب على الآخرين، حتى أن بعض الفلاسفة عدل عن تعريف الإنسان بالحيوان الناطق - وهو التعريف المشهور - عدل عنه إلى أنه (حيوان ذو عطف) وعليه فلا إنسانية مطلقاً بدون العطف على مصائب الآخرين وبدون الرحمة ورقة القلب على نكبات المظلومين ومآسي المنكوبين. والحقيقة أن الشيخ الأعسم (رحمه الله) قد مثل في البيتين الآتيين شعور كل إنسان سليم الفطرة تجاه الحسين (عليه السلام) حيث قال: تبكيك عيني لا لأجل مثوبة لكنما عيني لأجلك باكية تبتل منكم كربلاء بدم ولا تبتل مني بالدموع الجارية ولهذا نجد أن الحسين شعار مقدس عند كل إنسان وإن لم يكن شيعياً، وبإيجاز شديد أقول: ليس من المستغرب أبداً أن يدخل الحسين - بلا استئذان - إلى أفئدة أحرار العالم - على اختلاف مشاربهم وتباين مساربهم - سواء في العصور الخوالي، أم في وقتنا الحاضر. ففي عصرنا الحديث، تبرز لنا أسماء لامعة - في دنيا المعرفة والأدب - وفي مناطق عديدة من العالم ارتفع أصحابها إلى سموهم الإنساني وتجاوزوا ضيق الأفق الذي أريد لهم أن يظلوا أسارى وهمه، فانطلقوا يتغنون بأمجاد آل محمد، رغم كونهم نصارى أو هندوس أو أتباع أي مذهب آخر: ومن الإنصاف أن نشير - في هذا الصدد - إلى شهادات (جورج جرداق) و(سليمان كتاني) و(روكس بن راشد العزيزي) و(مارون عبود) و(انطون بارا)(16).. وغيرهم. ولم يقف العشق الإنساني - بشقه غير الإسلامي - عند ذوي العلم والمعرفة، بل لم يستثن من ذلك حتى بعض الساسة والقادة، وهذا باني الهند الحديثة (غاندي) يقولها وهو الهندوسي: تعلمت من الحسين كيف أكون مظلوماً فأنتصر... ولو كان لي عشرة رجال من أصحاب الحسين لفتحت الدنيا.
|
1- راجع منتخب الطريحي: المجلس السابع من الجزء الثاني الباب الثاني. البحار ج 45 ج 46 معا. 2- راجع مزار البحار باب زياراته صلوات الله عليه المطلقة الزيارة رقم 30 ص 179. 3- وسيأتيك المزيد عن ذلك فانتظر. 4- سيأتيك المزيد عن ذلك في الفصل الأول إنشاء الله تعالى. 5- نقلاً عن كتاب مأساة الحسين بين السائل والمجيب للشيخ عبد الوهاب الكاشي (بتصرف). 6- أمالي الصدوق ص 78. والبحار ج 44 ص 284. 7- راجع نفس المصدر. 8- الوسائل ج 11 الباب الأول الحديث 12 ص 397. 9- نقلاً عن المصدر السابق(بتصرف). 10- راجع بحار الأنوار ج 44 ص 187. منتخب الطريحي ص 268 ص 269. 11- سيأتيك المزيد عنها. راجع كامل الزيارات ص 168. 12- وفي العادات المعروفة عند النصارى واليهود الحداد على الميت أربعين يوم. فإذا كان يوم الأربعين، أقيم على قبره الاحتفال بتأبينه يحضره أقاربه وخاصته وأصدقائه فالنصارى يجتمعون في الكنيسة يوم الأربعين من وفاة فقيدهم ويعيدون الصلاة عليه وتسمى عندهم بصلاة الجنازة، ويفعلون ذلك في نصف السنة أيضاً وعند تمامها. واليهود يعيدون الحداد على فقيدهم بعد مرور ثلاثين يوماً وبمرور تسعة أشهر وعند تمام السنة كل ذلك إعادة لذكراه وتنويهاً به وبآثاره وأعماله ... (نهر الذهب في تاريخ حلب ج 1 ص 63). 13- راجع أمالي الصدوق ص 79 المجلس 27. 14- مزار البحار باب زياراته صلوات الله عليه المطلقة زيارة رقم 30 ص 179. 15- راجع مجلة رسالة الحسين العدد الثاني السنة الأولى 1412 هـ (بتصرف). 16- انظر كتابه القيم (الحسين في الفكر المسيحي) الكويت 1978. |