الباب الثاني: التغني بمراثي الإمام الحسين |
الثاني: التلحين(1) بالغناء. قال في ص 3: (وهذا يستعمله جملة من القرّاء بدون تحاش، ولم يستثن الفقهاء من ذلك إلا غناء المرأة في الأعراس بشرط أن لا تقول باطلاً، ولا يسمع صوتها الأجانب. وقد قام الإجماع على تحريمه، سواء كان لإثارة السرور أو الحزن، وعدّه العلامة الطباطبائي من الكبائر فيما نقله عنه صاحب الجواهر، لقوله تعالى: (ومن الناس من يشتري لهو الحديث). انتهى. لا ريب في حرمة الغناء في الجملة وأنّه من الكبائر - إن صح تفسير آية لهو الحديث أو غيرها به -، وأنّه من مقولة الأصوات باعتبار كيفياتها من دون مدخلية لمواد الألفاظ فيه من كونها حقاً أو باطلاً، وأنّه لا فرق في حرمته بين إثارته للسرور أو الوجد الموجبين للانشراح والبكاء. ولكن ما هو الغناء؟ وما هو المحرم منه؟ تعريف الغناء: الغناء موضوعاً وحكماً مختلف فيه، ولا يخلو ما ذكر في تفسيره عن إشكال أو إجمال. وصدق اسمه على أرقّ وأرخم صوت يقرأ به الذاكرون في العراق في مأتم سيد الشهداء غير معلوم، إن لم يكن معلوم العدم، وقواعد الفن تقتضي في مثل المقام بحرمة المتيقن كونه غناءً فقط(2). ولعل استعمال ما ينسبه إلى القراء بلا تحاش، مع سماع العلماء له وعدم إنكارهم آية عدم كونه غناءً عندهم. وكم بين هذه النسبة المسوقة للإنكار وبين تأييد المقدس الأردبيلي في (مجمع البرهان)(3) والفاضل النراقي في (المستند)(4) القول بعدم حرمة الغناء في الرثاء بعمل(5) المسلمين في الأعصار والأمصار بغير نكير من زمن المشايخ إلى زمانهم، وعسى أن لا يكون ذلك من الغناء المحرّم أيضاً. وما استشهد به في ص 23 من قيام بعض العلماء الصلحاء من المجلس حينما يقرأ فيه الشعر بالألحان - كما يقول - وتذمّر البعض الآخر عند سماعها، فالوجه فيه التورّع منهم عن الوقوع في الشبهة، لأن موضوع الغناء لم يكن متضحاً لديهم، لا لحكمهم بكون ذلك غناءً محرّماً، ولذلك لم يأمر أحد منهم الناس بالخروج من المجلس، ولم ينه القارئ عن قراءته. ولا بدع إذا أشكل على أولئك القشفين معنى الغناء، لأنه موضوع لا يعرفه النّسّاك في الأغلب. لا ريب في أن مجرد مدّ الصوت ورفعه ليس بغناء، فضلاً عن كونه محرماً، كذلك مطلق تحسين الصوت المتناول لمثل حسن جوهره ورخامته. كيف وقد كان الأئمة (عليهم السلام) يقرأ القرآن، فربما مرّ به المار فيصعق من حسن صوته، والسقّاءون يمرون فيقومون ببابه يستمعون قراءته، لحسن صوته(6). وكذا كان ولده أبو جعفر (عليه السلام)(7). وقد ورد في الأخبار مدح الصوت الحسن وأنّه من الجمال(8)، وأنّه ما بعث الله نبياً إلا بالصوت الحسن(9). وورد فيها الترغيب في تحسين الصوت بقراءة القرآن، ففي بعضها: (إنّ لكل شيء حلية، وحلية القرآن الصوت الحسن)(10) وفي آخر عن أبي عبد الله (عليه السلام) (في قوله تعالى: (ورتّل القرآن ترتيلاً)(11) قال: (أن تتمكّث وتحسن فيه(12) صوتك)(13). وكذلك مطلق الترجيع، فإن الحكم بكونه غناءً مما لا شاهد له من عرف أو لغة، بل الحديث المروي من طريق الفريقين(14) عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: (اقرأوا القرآن بألحان العرب وأصواتها، وإياكم وألحان أهل الفسوق والكبائر، فإنه سيجيء بعدي قوم يرجّعون القرآن ترجيع الغناء...)(15) الحديث. فيه(16) دلالة ظاهرة على أنّ مطلق الترجيع ليس غناءً لتضمّنه أنّ الغناء المنهي عنه في القرآن لحن أهل الفسق والكبائر المتداول في الملاهي، والغناء المحرّم شيء واحد في القرآن وغيره. والخبر كالنص في أنّ المحرّم ليس هو ألحان العرب، أي: تطريبهم وترجيعهم، بل هو لحن أهل الفسوق وغناؤهم(17). وحاصل هذا يرجع إلى أن الغناء كيفية خاصة من الترجيع، وهي معروفة بين أهل الفسوق يستعملونها في الملاهي. هذا مع أنّ من راجع الأخبار الدالة على حرمة الغناء بأسرها(18)، يحصل له القطع بأن حرمته من حيث كونه لهواً وباطلاً، كما اعترف بذلك المحقق الأنصاري في مواضع من كتابه(19). والمراد بذلك - على ما صرح المحقق المذكور - كون الصوت بنفسه (مهما كانت مادته) صوتاً لهوياً يناسبه اللعب بالملاهي والتكلم بالأباطيل، وذلك هو لحن أهل الفسق والمعاصي وترجيعهم الذي ورد النهي عن قراءة القرآن به، سواء كان هو الغناء - كما هو الظاهر - أو أخص منه(20). وكيف يكون مطلق تحسين الصوت وترجيعه غناءً، مع أنّ غالب الأصوات في قراءة القرآن والخطب والمراثي التي تقرأ على العلماء في جميع الأعصار والأمصار لا تخلو عن تحسين وترجيع في الجملة. أمّا تعريفه(21) بالترجيع المطرب فلا يخلو عن إجمال أيضاً، لأن المطرب لا يراد به الملائم للطبع، لأن ذلك لازم حسن الصوت، بل يراد به مرتبة خاصة المعروفة بين أرباب الملاهي والفسوق. استثناء الغناء في الرثاء: قد استثنى فقهاؤنا من حرمة الغناء أفراداً، بعضها ذهب الأكثر إلى استثنائه، والبعض الآخر لا يزال مذهب الأقلّين، ولا يهمّنا التعرّض لذلك، لأنّ محطّ النظر الغناء في رثاء سيد الشهداء. وقد حكى المحقق الثاني في (جامع المقاصد)(22) والوحيد البهبهاني في محكي حواشي المسالك(23) قولاً باستثنائه فيه، نظير استثنائه في الأعراس. ويظهر من المقدس الأردبيلي في (مجمع الفائدة) جوازه فيه، ووجود القول به قبله(24). وتلميذه الفاضل السبزواري في (الكفاية) جوّزه فيه وفي كل ما ليس بلهوٍ ولا باطل من قرآن ومناجاة(25). وبذلك صرح الفاضل النراقي في (مستند الشيعة)(26)، وولده في كتابه (مشارق الأنوار)، وزاد هذا رثاء أولاد الأئمة (عليهم السلام) وأصحابهم إذا قصد به الإبكاء والتحزين. بل حكى شيخنا المرتضى الأنصاري في (المكاسب) عن بعض أهل عصره تقليداً لمن سبقه من الأعيان، منع صدق الغناء في المراثي(27) ومراده بـ(من سبق من أعياننا) على الظاهر كاشف الغطاء في محكي (شرح القواعد)، فإنه حُكي عنه دعوى أنّ الغناء والرثاء متغايران متباينان موضوعاً وحكماً، لا يطلق أحدهما على الآخر عرفاً. وهذا منه مبني على أن لمواد الألفاظ دخلاً في كون الصوت غناءً أو رثاءً. والتحقيق خلاف ذلك. وكيف كان فقد قال هؤلاء المجوزون أنّ الأصل الجواز(28) بعد قصور أدلة الحرمة عن الشمول لذلك: أما الإجماع فلانتفائه في محل الخلاف، مع كونه دليلاً لبّياً، وأما الأخبار - فمع قصور إطلاقاتها(29)- معارضة بالمحكي عن (قرب الإسناد) عن علي بن جعفر، عن أخيه موسى (عليه السلام) قال: سألته عن الغناء في الفطر والأضحى والنوح(30) قال: (لا بأس ما لم يعص به)(31). والظاهر أن المراد بعدم العصيان به عدم قيامه بكلام لهوٍ أو باطل أو بمزمار(32). ويؤيّد هذا قوله (عليه السلام) في المحكي عن نفس كتاب علي بن جعفر (لا بأس ما لم يزمر به)(33). وأيّد ذلك المقدس الأردبيلي وغيره بأنه متعارف دائماً في بلاد المسلمين من زمن المشايخ إلى زمانه من غير تذكير، وبما دل على جواز النياحة بالغناء وأخذ الأجرة عليها، ثم ذكر أخبار جواز مطلق النياحة الشاملة للغناء ومؤيداتها، ومؤيدات جواز الغناء في الرثاء من أنّ تحريم الغناء للطرب، ولهذا قيّد بالمطرب، وليس في المراثي طرب، بل ليس إلاّ الحزن. إلى أن قال: (وبالجملة: عدم ظهور دليل على التحريم، والأصل، وأدلة جواز النياحة مطلقاً، بحيث يشمل الغناء، بل إنّها لا تكون إلاّ معه، تفيد الجواز، والاجتناب أولى وأحوط)(34) انتهى. قلت: ويؤيّد هذا - وإن لم أذهب إليه واختاره(35) - خبر أبي هارون المكفوف(36) قال: قال لي أبو عبد الله: (أنشدني في الحسين) (عليه السلام)، فأنشدته. قال: (أنشدني كما تنشدون، يعني بالرقة). فأنشدته: امرر علـى جــــدث الحــــسين وقــــــل لأعـــــظمه الــــــزكية الخبر(37). وخبره الآخر: قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فقال: (أنشدني). فأنشدته. فقال: (لا، كما تنشدون، وكما ترثيه عند قبره). فأنشدته... الخبر(38). فإن قوله (عليه السلام) في هذين الخبرين (كما تنشدون) يراد به - على الظاهر - كما تنشدون الشعر في ما بينكم بالألحان المهيّجة للبكاء، المثيرة للحزن، ويومئ إليه قوله في الخبر الأول (يعني الرقة)، أي بترقيق الصوت ومدّه والتمكّث فيه، فإن الصوت واللحن من الأمور المرققة للقلب، المعدّة له أن يتأثر بسرعة بتذكر الأحوال الذي لا يمكن إنكار سببية اللحن له. إنّ هذا المعنى الذي ندب إليه فيه الخبرين هو الذي سمعناه منذ نشأنا للآن، وسمعه كل واحد في العراق من القرّاء في المحافل وعلى المنابر، وما سمعنا منهم غناءً. فإن كان هذا هو الغناء الذي يعنيه الكاتب، فالأخبار صريحة بجوازه، وإن كان غيره مما يشتمل على تراجيع أرباب الملاهي وإطرابهم، فهذا أمر يبرأ منه كل ذاكر عراقي. وعسى أن يكون المؤلف سمعه في الشام أو غيرها من البلدان السورية. وعلى أيّ فاللازم عليه - وهو من دعاة الإصلاح - أن ينهى عن الغناء (وقد نهى عنه جميع الفقهاء)، لا أن يهوّل على المجالس العزائية بأنّ الغناء يستعمل فيها بلا تحاش بحيث يرى الناس أنّ ذلك أمراً لا ينفك عنه أي مجلس رثائي!! وماذا يكون لو غنّى قارئ واحد يوماً في بلد من البلدان غير أنّه فعل حراماً؟ ولزم نهيه عن غنائه، كما لو غنّى يوماً بالقرآن أو بشعر غزلي أهل يصح - والحال هذه - نهي الكافة عن قراءة القرآن ونشيد الأشعار الغزلية؟؟
|
1- لفظ التلحين غلط لغوي، ولست بصدد استقصائه. التلحين تخطئة الإنسان غيره بقوله. ولا يأتي بمعنى القراءة أو التصويت أو التطريب أو الترجيع ونحوها مما يحتمل أن يقصده الكاتب. 2- والرجوع في ما عدا ذلك إلى الأدلة المثبتة للتكاليف، لأنها مخصصة بمنفصل مجمل مفهوماً، مردد بين قلة الخارج وكثرته. ولعل القائل بالرجوع إلى البراءة مراده ذلك لموافقته لأصالة البراءة حكماً ونتيجة. هذا على القول بعدم وجوب الاحتياط في الشبهة المفهومية. 3- مجمع الفائدة والبرهان 8/61. م 4- مستند الشيعة 2/343-344. م 5- الباء للسببية، أي: بسبب عمل.. م 6- وسائل الشيعة 4/859. 7- وسائل الشيعة 4/858. 8- الكافي 2/615. م 9- الكافي 2/616. م 10- الكافي 2/615. م 11- سورة المزمّل آية 4. م 12- في المصدر (به). م 13- وسائل الشيعة 4/856. م 14- رواه الجمهور عن حذيفة بن اليمان عن النبي (صلى الله عليه وآله). ورواه أصحابنا عن عبد الله بن سنان عن الصادق (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله)، فهو صحيح بلا مرية. 15- الكافي 2/614. م 16- أي: في الحديث المروي عن النبي. م 17- اللّحن - كما في (النهاية) الأثيرية [14/242]، والصحاح [4/1293]، والقاموس [4/374] - هو التطريب، وترجيع الصوت، وتحسين القراءة، والغناء. قال في (الصحاح): ومنه: (اقرؤوا القرآن بلحون العرب). وقد لحن في قراءته: إذا طرب وغرد، وهو ألحن الناس: إذا كان أحسنهم قراءة وغناءً. وفيه [4/1293] الغرد - بالتحريك -: التطريب في الصوت. والخبر - بواسطة مراجعة كلمات اللغويين هذه - يدل على أن المحرّم هو الغناء المستعمل عند أرباب الملاهي، لا غناء العرب، وكل منهما فيه تطريب وترجيع، ولكن الغناء هو ترجيع أولئك لا غيرهم. وصاحب الحدائق [الحدائق 18/114] جعل اللحن في هذا الخبر بمعنى اللغة، أي: بلغة العرب، وكأنه أراد باللغة اللهجة، ظناً منه أن بقاءه في معناه يوجب ظهور الخبر في جواز الغناء بالقرآن. قال شيخنا الأنصاري [المكاسب 3/280]: وهذا خيال فاسد، لأن مطلق اللحن - أي الترجيع والتطريب - إذا لم يكن لهوياً ليس غناءً. وقوله (صلى الله عليه وآله) (إياكم ولحون أهل الفسق) نهي عن الغناء. 18- وسائل الشيعة 12/225 - 232. م 19- المكاسب 3/281، 287، 235، 295. م 20- المكاسب 3/ 215 - 216، 235. م 21- أي: تعريف الغناء. م 22- جامع المقاصد 4/23. م 23- مخطوط. م 24- مجمع الفائدة والبرهان 8/61. م 25- كفاية الأحكام /86. م 26- مستند الشيعة/ 343. م 27- المكاسب 3/269. م 28- هو أصالة الإباحة في مطلق الشبهة التحريمية البدوية. وعلى ما أسلفناه يراد به العمومات المثبتة للتكليف. 29- مرادهم من قصور الإطلاقات كون المحكوم فيها بالحرمة لفظ الغناء، وهو مفرد معرّف، وقد حقّق في الأصول عدم إفادته العموم في نفسه. 30- في المصدر (والفرح) بدل (والنوح). م 31- قرب الإسناد/294. م 32- ذكر ذلك المحقق الأنصاري في (المكاسب) [3/260-261]. ولا يضر اشتمال الخبر على جواز الغناء في غير النوح مما لا يقولون بجوازه فيه. ويحتمل أن يراد بالغناء في الجميع لحن العرب وترجيعهم، وهو ليس بغناء حقيقة. 33- مقصوده أنه توجد في نسخة أخرى عبارة (لا بأس ما لم يزمر به) بدلاً من (لا بأس ما لم يعص به). 34- مجمع الفائدة والبرهان 8/61-62. م 35- وإنما ذكرت ذلك لتنبيه الكاتب على أن الغناء في الرثاء ليس بتلك المكانة من وضوح الحرمة، وعدم القائل، كما يستفاد من ظاهر كلامه. 36- رواه الصدوق في (ثواب الأعمال) [صفحة 108 - 109]. 37- كامل الزيارات /104. م 38- رواه الشيخ أبو القاسم جعفر بن قولويه في الكامل [صفحة 104]. |