الباب الرابع: الإيذاء والإضرار بالتطبير والضرب بالسلاسل و... |
الفصل الأول: دليل حرمة الإيذاء والإضرار الإيذاء والإضرار: يوجد في كلمات شيخنا الشهيد أن الإنسان منهي عن جرح نفسه وإتلافها(1)، والظاهر أنه يريد بالجرح ما يوجب الضرر بحدوث مرض لا يتحمل عادة أو بطؤ برئه، ومع ذلك لا دليل من العقل والنقل على حرمة ذلك ما لم يؤدّ إلى إتلاف النفس. وقد جوّز أصحابنا أن يختن الخنثى المشكل اعتماداً على أصالة البراءة، مع كون ذلك إيلاماً وإيذاءً وجرحاً يبقى ألمه أياماً، وربما يوجب مرضاً. ولم أعثر على قائل معلوم صرح بحرمته، وإنما اختلفوا في وجوبه، والمعروف بينهم - وهو الذي تقتضيه القواعد - العدم. نعم نسب الشهيد التحريم إلى القيل(2) ولعل القائل ليس منّا. وهو مع ذلك لا وجه له حتى على ما يقوله بعض العظماء(3) من حرمة الإضرار بالنفس عقلاً ونقلاً، لعدم كون ذلك إضراراً. والفرق جلي بين الإضرار والإيذاء المؤقت، نظير وشم الأيدي وغيرها من الأعضاء، المتعارف قديماً وحديثاً، والأدلة ناصّة على حرمة إيذاء الغير وإضراره، والمطلق الشامل بذاته منها للنفس - لو كان -، هو منصرف إلى ذلك. وربما كان في وجوب الختان على المسلم، ولو طعن في السن(4)، واستحباب ثقب أذني الغلام الذي اتفق عليه النص والفتوى(5)، وثقب آذان النساء وأنوفهن لتعليق الأقراط(6) والشّنوف(7) والخزائم(8) والوشم لهن على القول المعروف بجوازه على كراهية، وغير ذلك مما ستعرفه، دلالةٌ على شرعية الإيذاء والإضرار في الجملة. لم يقع في الكتاب والسنة لفظ إيذاء النفس وإضرارها وما يؤدي معنى ذلك، موضوعاً لحكمٍ مّا حتى يصح لأحد أن يجاهر بدعوى دلالة النقل، فضلاً عن حكم العقل الذي لا يستبهم أمره على العقول. وكل من رمز إلى دلالة الأدلة العقلية والنقلية على حرمة إيذاء النفس وإضرارها، لم يحل تلك الرموز حلاً تفصيلياً ولا إجمالياً. ومن فحص الأدلة الشرعية لا يجد سوى ما تضمن حرمة إيذاء الغير وإضراره نصاً أو انصرافاً، ومن أمعن النظر في أحكام العقول لا يجد فيها سوى قبح ظلم النفس، وهو لو صلح دليلاً على الحرمة الشرعية، لا يعم - بلا شبهة - كل ما ينزله الإنسان بنفسه من أنواع الأذى والإضرار، ما لم يكن إتلافاً لها أو موجباً لفقد طرف أو حاسة، على إشكال في هذا لولا الاتفاق المدعى على تحريمه. وأنا في هذه النبذة التي لابد من تحريرها، أفصّل حكم العقل عن النقل، وأفصّل الكلام في ما يقضي به كل منهما. الدليل العقلي على حرمة الإيذاء: إن جعل العقل شارعَ إيجابٍ وتحريم، إنزالٌ له في أرفع من منزله، بداهة أنه يحكم على الأشياء تبعاً لما يدرك فيها من حسن أو قبح لذاتها، أو لما يطرأ عليها من العناوين المحسنة والمقبحة بمدح فاعلها، أو ذمّة، ولا يحكم البتة بأن حكمها الوجوب أو الحرمة عنده ولا عند الشرع، بمعنى استحقاق فاعلها أو تاركها الجزاء الأخروي، إلا إذا كان مدركاً واجدية الشيء لملاك التحريم شرعاً، بمعنى كونه على الصفة التي تكون علة تامة لحكم الشرع عليه بالحرمة. ولكن هذا بابٌ منسدٌّ غالباً، بل دائماً في وجه العقل، لأن دعوى إدراكه ذلك في قوة دعوى إدراكه حكم الله تعالى. أما حكمه الايجابي أو التحريمي - لا بالمعنى المذكور، بل - بمعنى إلزامه بفعل شيء أو تركه لملاكات شتى(9)، لا يعلم بثبوت الملازمة بينها وبين حكم الشرع بالوجوب والتحريم المصطلحين، ككون الشيء ملائماً للطبع أو منافراً له، فذلك مما لا ريب فيه، لكنه لا يجدي شيئاً في ما يحاوله مدعي حرمة الإيذاء والإضرار عقلاً، لأن حقيقة هذا المعنى المسمى (حكماً عقلياً) لا يزيد على مجرد إدراك العقل حسن الشيء أو قبحه، بمعنى كونه على الصفة التي لو خلت عن الموانع والمزاحمات واقعاً، لجهة حسنه أو قبحه المدركين عقلاً، لكان واجباً أو حراماً شرعاً. وهذا المعنى من حكم العقل قاصر عن إثبات الحرمة المصطلحة، إذاً فما معنى حرمة الإضرار عقلاً؟ وما هو الملاك لحكم العقل بحرمته؟ إن العقل لا يحكم على الأشياء بعناوينها العارضة عليها حكماً جزافياً، بل لابد له في حكمه من ملاك يتبعه، وإذا كان هو لا يدرك في مطلق ما يؤذي النفس واجديته لملاك التحريم شرعاً، وكان نفس كونه منافراً للطبع أو مؤذياً أو مضراً، لا يستتبع حرمته عقلاً ولا شرعاً بمعنى استحقاق العقاب عليه(10)، فما هو الملاك لحكمه على عنوان المضر للنفس بلزوم تركه حتى لو بلغ الضرر إلى درجة هلاك النفس، فضلاً عما دونه؟(11) أجل! إن دفع الضرر عن النفس أمر جبلي فطري، وليس بحكم عقلي يتبع ملاكاً يخصه أو يعمه تبعية المعلول لعلته، ولذلك يشترك فيه الإنسان العاقل وسائر الحيوانات العجم، فإنها بما أودع في طباعها بأصل الخلقة، تتحرز عن مظان الوقوع في الضرر، وهذا هو الضرر المقطوع أو المظنون مما لا تعتري العقول فيه شبهة. لا ضرر في التطبير: وعلى كل حال فإن إدماء الرأس بمجرده ليس ضرراً ولا مما يقطع أو يظن بكونه ضرراً. نعم لا ريب في كونه إيذاءً للنفس وإيلاماً، والإيذاء غير الضرر. وربما يدعى أنه لا فطرة ولا جبلة تقضي بالفرار إلا عن الضرر، أعني الموجب لخطر الهلاك، لا عن مطلق إيذاء النفس وإيلامها(12). ولو فرض تساويهما في لزوم الدفع بالفطرة، لم يجد ذلك في دعوى حكم العقل المزعوم، لأن النفرة عن شيء بالطبع، غير حكم العقل بلزوم الفرار عنه، وآية ذلك أنك تجد الإنسان عند تسليم نفسه للفصد، أو الحجامة، أو لعملية جراحية، يرضى بذلك، ويريده بعقله، ولكنه كاره له بطبعه حينما هو راض به، فهو يفضل الحكم العقلي ترجيحاً للمنفعة على الدافع الجبلي. وأخرى أن العقلاء مع فطرتهم وجبلتهم يقتحمون موارد الضرر المقطوع - فضلاً عن المظنون والمحتمل - لأغراض لهم لا تقع تحت الحصر، ومع ذلك لا يرون في تجاوزهم حد الفطرة والجبلة قبحاً عقلاً، ولا مراغمة إلا لحكم الفطرة الذي يكون مغلوباً كثيراً لحكم العقل. كما أنهم في بعض الموارد يحجمون عن الاقتحام في الضرر المحتمل، فضلاً عن المظنون والمقطوع، حسبما يتجلى لهم أهمية أحد الأمرين: السلامة والخطر(13). ومعلوم أن مخالفة الأمر الجبلي بما هو أمر يندفع إليه أو عنه الإنسان بطبعه، لا تستدعي حرمة شرعية ولا عقاباً أخروياً. وبلحاظ الأهمية التي أشرنا إليها تقدم النساء على الوشم المتعارف، وعلى قلع الأسنان الخلفية، ويقتحم الرجال خطر المهالك في المفاوز وغمرات البحار للتجارة إزاء منافع دنيوية ينالونها، ويرتكبون المحن المجهدة الشاقة والمضرة بالبدن. ولعله بلحاظ هذه الأهمية أفتى الشهيدين في (القواعد) و(تمهيدها) بجواز أن يسلّم الإنسان نفسه للقتل إذا أُجبر على إظهار كلمة الكفر، كما يدل على ذلك تعليلهما بأن في القتل إعزازاً للإسلام وتثبيت عقائد العوام(14). مع أن إظهار كلمة الكفر جائز إجماعاً ونصّاً كتاباً وسنّة، إن لم يكن واجباً حفظاً للنفس. وما ذلك إلاّ لأهمّية إظهار عزّ الإسلام وتثبيت عقائد العوام على السلامة عن أعظم الأضرار والآلام. وإذا كان المحسوس لعرفاء الجعفرية أن إعزاز طريقتهم وتثبيت عقائد عوامهم بسمو مراتب أئمتهم، واجتماع كلمتهم، وتميّزهم عن سائر الشّيع، وظهورهم للملأ بمظهر أكبر الفرق، يكون بإشهار مصيبة الحسين (عليه السلام) بمظاهرها المتنوعة التي منها تمثيله (عليه السلام) وأصحابه مثخنين بالجراح، وقد سالت دماؤهم على ثيابهم المتخذة أكفاناً لهم، فلماذا ينكر عليهم إذا فضلّوا ذلك بما فيه من تعب وألم على الراحة والدعة، وهم على كل حال ناجون من الخطر، واثقون بالسلامة؟ لماذا ينكر عليهم إذا وقفوا يمثّلون إمامهم مفادياً بروحه العزيزة في سبيل نصرة الدين - على قلّة الناصر، ووفور العدو عدّة وعدداً -، يرون الناس وكأنهم يخاطبونهم - بلسان الحال - بأنّ رجلاً تكون هذه حاله في المفاداة مع كونه أقرب الناس إلى الرسول والبقية من أهل البيت الطاهرين، هو الذي ينبغي أن يكون إمام الحق، وهو الذي يلزم اتّباعه والإقتداء بأفعاله البارة، دون سائر المنتحلين اسم الزعامة الدينية في الإسلام. الدليل النقلي على حرمة الإضرار: ظن شيخنا الأعظم في (رسالة الظن) دلالة بعض الآيات(15) على حرمة تعريض النفس للمهالك والمضار الدنيوية والأخروية المظنونة. وهي على تقدير دلالتا على حكم التعريض المذكور، لا تدل إلاّ على الطلب الإرشادي، لا التحريم الشرعي(16)، وأكثرها يدل على الإيعاد على ترتب لوازم مخالفة الشارع. أما الكاتب فإنه لم يذكر من الأدلة النقلية سوى أدلة نفي الحرج، كما في ص 3، وهذه لو تمت دلالتها لا تقتضي على مذهبه - المصرح به في ص 17 و18 و 20(17) إلا رفع الحكم في مورد تحقق الحرج، فأين ما يدل على ارتفاع الحكم عند الضرر، فضلاً عما يدل على ثبوت الحرمة؟ ولو أنه ادعى رفع الحكم عند حصول الضرر بالفحوى، بقي ما يدعيه من ثبوت الحرمة بغير دليل، لأن أدلة نفي الحرج لا تفي بذلك قطعاً باعترافه - في المواضع المشار إليها -. أما إذا تمسّك بما دل على سهولة الشريعة وسماحتها وعدم جعل الحكم الحرجي فيها بأصل التشريع، لو تم ذلك(18) من حيث دلالته بالفحوى على عدم جعل الحكم الضرري كذلك، كان: أولاً: محجوجاً بمثل الجهاد والختان وغيرهما، فإن الحكم الإيجابي متعلق بهما في أصل التشريع مع كونهما مضرين، وتخصيص مثل قاعدة الحرج المفروض استفادة حكم الضرر منها، مع سوقها مساق الامتنان، في غاية البعد. ولو أنه تخلص عن النقض بالجهاد - بما لا حاجة إلى ذكره الآن - فلا مخلّص له في مسألة الختان، وثقب الآذان والأنوف، والوشم، وخصوص ختان الخنثى المشكل إلاّ الالتزام بمشروعية المؤذي في الجملة. هذا مضافاً إلى ما سيمرّ عليك مفصلاً من الإيذاءات الاختيارية الواقعة من الأئمة (عليهم السلام) لأنفسهم في العبادات وغيرها(19). وثانياً: أن مقتضى تلك الأدلة أن الله تعالى لم يجعل في أصل التشريع حكماً ضررياً، بمعنى أنه لم يشرع حكماً يأتي من قبله الضرر. والحكم الإستحبابي مهما كان متعلقه مضراً بذاته كالقتل، فضلاً عن إدماء الرأس، ليس بحكم ضرري، إذ المراد بالضرري ما يجيء الضرر من قبله، ويكون هو الموقع للإنسان في الضرر، والحكم إنما يكون كذلك إذا كان إلزامياً، غير مرخّص بتركه، كما سيأتي تفصيل ذلك في قاعدة الضرر. وقول الكاتب - في مواضع من رسالته -: (الجرح ضرر، وإدماء الرأس ضرر) من التمويهات والأوهام. نعم هو ضرر، أي: أمر هو بذاته مضر، ولكن ماذا يترتب على كونه ضرراً بالمعنى المذكور إذا كان الشرع لم يرفع الضرر رفعاً تكوينياً، ولا نهى أن يضر أحد نفسه بالفرض، وإنما نفى - بفحوى أدلة الحرج، أو بقاعدة الضرر الآتية - أن يجيء من قبله الضرر المنحصر ذلك في كون حكمه الذي بيده رفعه ووضعه ضررياً، ولا ريب أن كونه كذلك إنما يتحقق إذا كان حكمه إلزامياً، سواء كان موضوعه مضراً بذاته أم لا، ولا أثر للمضرية الذاتية للشيء بمجردها إذا كان حكمه مرخصاً في تركه. حرمة المؤمن عند الله: قد يتوهم متوهم أن ما دل على عدم جواز إيذاء الغير وإضراره لاحترامه عند الله تعالى يدل على عدم جواز إيذائه لنفسه وإيلامها، لأنه كغيره في الاحترام، وليس احترامه لنفسه موكولاً إليه وداخلاً تحت اختياره حتى يكون له إسقاطه. وهذا من المغالطات، لأن احترام المؤمن بعدم إيذائه قد أوجبه الله إذ أمر به. أما احترامه لنفسه بمعنى عدم إدخال الأذى عليها، فلم يوجد في الأدلة ما يقضي بلزومه. ولا ملازمة بين لزوم احترام الناس له وبين لزوم احترامه لنفسه(20). وغاية ما يوجد في الأدلة الشرعية أنه لا يظلم نفسه، ولا يلقي نفسه وفي التهلكة، أي لا يتلفها ولا يعرضها لخطر الهلاك، وأين هذا من مسألة إيذاء النفس المدعى حرمته مطلقاً؟ وأما قضية دخول احترام الإنسان لنفسه تحت اختياره، فهي إثباتاً ونفياً تتوقّف على البرهان، ولا برهان على النفي إلاّ الدعوى نفسها. وأما الإثبات فيكفيه - مع قطع النظر عن كل شيء - أصالة الجواز والإباحة(21).
الفصل الثاني: قاعدة نفي الضرر وحكم التطبير والضرب بالسلاسل مدلول قاعدة نفي الضرر: قد تبلغ الفقاهة (!!) بأحد إلى حد الاستدلال على حرمة إيذاء النفس وإضرارها بقاعدة نفي الضرر(22) المستفاد من قوله (صلى الله عليه وآله): (لا ضرر ولا ضرار في الإسلام)(23). وهذا الاستدلال مردود بوجوه: الأول: أن القاعدة المذكورة - على ما استظهره المحققون من أدلتها على اختلاف تعبيراتهم - إنما تنفي ما يوجب الضرر من الأحكام، بمعنى أن ما يكون منها ضرراً على أحد من الله أو من العباد، منفي شرعاً وغير مجعول لله ولا ممضي عنده في أصل التشريع وبعده. وهذا - كما ترى - لا يقتضي إلا عدم جعل الأحكام الضررية ورفع الحكم المجعول إذا لزم منه الضرر. وأين ذلك من ثبوت الحرمة في مورد الضرر كما يدعيه المدعي؟؟ نعم لو حمل لفظ (لا) في قوله (لا ضرر) على نفي الحقيقة ادعاءً، بلحاظ نفي الحكم الثابت أو المناسب للضرر المنفي - كما يذهب إليه شيخنا المحقق صاحب الكفاية(24) - كان اللازم الحكم بعدم جواز إدماء الرأس حيث يكون ضرراً، لا مطلقاً. وهذا أخص من المدعى إن تم مبناه. لكن إدماء الرأس لما كان نفسه ضرراً عند الكاتب(25)، يلزمه - بمقتضى زعمه - عدم صحة الاستدلال بالقاعدة على حرمته(26)، لخروجه عنها موضوعاً، ضرورة أن الحكم المنفي بنفي الضرر - على هذا الرأي - لا يعم الثابت للأفعال بما هي أمور ضررية، كالجهاد والزكاة، فضلاً عن نفس الضرر، لأن كون الشيء ضررياً أو ضرراً علة لنفي الحكم بالفرض، ولا يعقل أن يكون الموضوع في ظرف تحققه مانعاً عن ثبوت حكمه، على أن الحكم المناسب أو المتوهم لنفس الضرر هو الحرمة، ونفيها بالقاعدة ينتج ضد المدعى. وليست القاعدة بمثبتة لحكم ما، وإنما هي من القواعد النافية للأحكام على جميع الآراء، غاية الأمر نفيها يلزمه الحكم بالحرمة في بعض الفروض، لا أن الحرمة هي مؤدّى نفس القاعدة. نعم، لو حمل لفظ (لا) على النهي - كما تفرّد به البدخشي، وتبعه شاذ منّا(27) - لكان لما ذكر من التحريم وجه، لكن حمل (لا) على النهي غير وجيه، لوجوه مبينة في غير هذا الموضع. الثاني: أن القاعدة - على المذهب المشهور - في مدلولها (وهو الذي يلوح من الكاتب اختياره)(28) مختصة بالإلزاميات، ولا تشمل المباحات والمندوبات، لما فصلناه آنفاً من أن رفع الحكم الذي يتأتّى من قبله الضرر للامتنان، ولا منّة في رفع المندوبات، ومن ارتفاع الضرر موضوعاً مع الترخيص في الترك، كما يصرّح بذلك شيخنا المرتضى في (رسالة الضرر)، إذ يقول: (إن إباحة الضرر، بل طلبه استحباباً، ليس حكماً ضررياً، ولا يلزم من جعله ضرر على المكلفين، ليكون مرفوعاً بالقاعدة)(29). ومن(30) أن الظاهر من أدلة القاعدة عدم كون جعل الشارع سبباً قريباً لإلقاء المكلّف في الضرر، وهو إنما يكون سبباً كذلك إذا كان حكمه إلزامياً، لأن الإلقاء في الضرر لو كان الحكم غير إلزامي، يكون مستنداً إلى اختيار المكلّف، لا إلى جعل الشرع. ومن(31) وقوع المندوبات الضررية بكثرة فائقة في الشرع(32)، وذلك آية اختصاص القاعدة بغيرها. وربما يزاد هنا وجه آخر، وهو أن كون عدم جعل الحكم الضرري - إحداثاً وإبقاءً - للامتنان، يقتضي جواز أن يؤذي الإنسان نفسه ويضرها بغير القتل، فإن منعه عن ذلك خلاف الامتنان، بخلاف إضرار الغير، فإن في رفعه كمال المنة بانتظام أمر النوع(33). الثالث: أن مذهب أصحابنا كافة - كما يعلم من تتبع كلماتهم في الموارد المتفرقة - أن المرفوع بقاعدة الضرر في العبادات الضرر الشخصي، لا النوعي الغالبي(34)، بمعنى أن الحكم في مورده الخاص إذا لزم منه الضرر على شخص يرتفع عنه، دون كلّيه ودون كلي الأشخاص. التطبير ليس مضراً: ولا ريب أن إدماء الرأس ليس مضراً للكافة، فلماذا يكون محرماً على الإطلاق، بل اللازم - لو استفيد التحريم من القاعدة - أن يكون محرماً حيث يكون ضرراً، لا مطلقاً. لكن الكاتب في ما أسلفنا نقله من رسالته يقول: (الجرح نفسه ضرر)، وهذا ليس من كلام الفقهاء، بل من كلام طبيب غير حاذق، فالحاذق يأبي له حذقه من الحكم على البت بأن الجرح ضرر، لأنه في واقع الأمر وبحكم الوجدان قد يكون ضرراً وقد لا يكون. أن حصول الضرر بالجراح من العوارض الاتفاقية التي لا يمكن ضبطها، ولا يصلح للفقيه جعلها مناطاً للحكم وملاكاً لقاعدة مطردة في جميع الموارد الشخصية. وأخرى أن على الفقيه بيان الأحكام، وليس من شأنه تنقيح الموضوعات الصرفة الجزئية، فضلاً عن الحكم على جزئياتها غير المحصورة(35). ثم إذا كان الجرح ضرراً - كما يقول - لا يتجه أصلاً إثبات حرمته إلاّ بدليل غير قاعدة الضرر، كنحو (لا تضروا أنفسكم أو لا تؤذوها) أما القاعدة فقد تقدم أن موردها لا يندرج فيه الحكم الثابت للموضوع الضرري على رأي شيخنا صاحب (الكفاية). وأما على المذهب فخروج ذلك أبين، لما مر من أن المدار في شمول القاعدة لشيء على كون الحكم المجعول شرعاً يلزم منه الضرر، لا كون الشيء مضراً بذاته، والحكم لا يكاد يكون كذلك إلاّ إذا كان إلزامياً، لأن المرخص في تركه مهما كان متعلقه مضراً، لا يكون ضرراً من قبل الشرع. في ختام هذا الفصل يجب أيضاً الالتفات إلى دقيقتين: الضررية لا توجب حرمة التطبير والضرب بالسلاسل: الدقيقة الأولى: إن كثيراً من أصحابنا(36) صرحوا بصحة العبادات الضررية إذا كان الضرر غير مؤد إلى الموت أو سرعته أو إلى مرض يزمن مثلاً، وشبه ذلك من الأضرار التي يعلم من الخارج عدم جواز تحملها. ولا يخفى أن البطلان في هذه الصورة يبتني على امتناع اجتماع الأمر والنهي وترجيح جانب النهي، لا على قاعدة الضرر، ولذا يختص البطلان بصورة العلم بالضرر - كما هو المقرر في تلك المسألة من اختصاص الحرمة والفساد بصورة العلم. وأما صحتها في ما إذا لم يكن الضرر مؤدياً إلى مثل ذلك، وبعبارة أخرى: إذا كان الضرر مما علم من الخارج جواز تحمله، فلأن نفي الضرر لا يقتضي إلاّ رفع وجوب الشيء المضر، لأن الضرر يتأتى من قبله، لا من قبل شرعيته. ورفع الإلزام لا ينافي ثبوت المصلحة المقتضية للتكليف غير الإلزامي في مورده، وذلك كاف في عبادية الشيء وصحة التقرب به لله تعالى. وسيأتي في خاتمة هذا الباب أن شيخنا المحقق الأنصاري يحكم بصحة جميع العبادات الضررية التي يعتقد المكلف عدم التضرر بها مع كونها مضرة في نفس الأمر وتبعه على ذلك المحقق الآشتياني في (رسالة الحرج)(37)، لكن في غير الضرر الذي كان تجويزه منافياً لحكم العقل. وإذا صحّت العبادات المضرة واقعاً مطلقاً، أو على بعض الوجوه عند هؤلاء المحقّقين، وكانت راجحة عندهم ومقربة لله، فلماذا يكون مثل إدماء الرأس، وضرب الظهر بسلسلة، محرّماً أو غير مندوب لمجرد دعوى كونه ضررياً، وهو أمر يشاركه فيه سائر العبادات؟ فهلاً وسعه - عند الكاتب - ما وسع غيره من الضرريات عند المحققين إذ أفتوا بشرعيتها في الجملة مع الضرر. مع أن دعوى كون شديد جرح الرأس المتعارف في العزاء الحسيني - فضلاً عن خفيفه - ضرراً، ممنوعة جداً. نعم هو إيذاء، والإيذاء غير الضرر، ولا دليل من عقل أو نقل على حرمته وفساد التعبّد به لأجل الضرر. اعتبار خوف الضرر موضوعي: الدقيقة الثانية: إن الكاتب في ص 17 من رسالته هوّل على قول القائل (لم يقم برهان على عدم جواز أن يكلّف الله بما فيه ضرر) بأنه (أين قول الفقهاء: دفع الضرر المظنون واجب؟ وأين اكتفاؤهم باحتمال الضرر الموجب لصدق خوف الضرر في إسقاط التكليف؟ وأين قولهم بوجوب...، وقولهم ببطلان...)؟ وذكر مواضع يفتي الفقهاء فيها ببطلان العبادة مع خوف الضرر(38). وهذا من غرائب الفقه، فإن لأصحابنا في اعتبار ظن الضرر وخوفه في الموارد المعدودة وغيرها، مذاهب شتى تعرف من متفرقات كلماتهم في أبوابها. والكلام في حكم أنيط بالضرر، لا بظنه أو خوفه كما هو الشأن في موارد النقض المذكورة. والظاهر أن اعتبار أكثرهم للظن والخوف في تلك الموارد من باب الموضوعية، ولذلك لم يختلفوا - على الظاهر - في أن سلوك الطريق المظنون الخطر يوجب إتمام الصلاة فيه، وإن انكشفت عدم الضرر. وقد حكي عن المحقق في (المعتبر) الحكم بعدم وجوب إعادة الصلاة بوضوء على من ظن مخوفاً يمنع من استعمال الماء، فتيمم وصلى، ثم بان فساد ظنه، وببطلان الغسل إذا ظن الضرر باستعمال الماء، فاغتسل ثم بان فساد ظنه. وإذا كان ظن الضرر أو خوفه في تلك الموارد تمام الموضوع أو جزءه، سقط الاستدلال به، ولم يصح أن يجعل آلة تهويل على ما هو محل الكلام من إدماء الرأس بسيف - مثلاًً -، أو ضرب الظهر بسلسلة، إلاّ إذا كانا مظنوني الضرر أو مقطوعيه، وذلك أخص ممن يدعيه. ولو تنزلنا عن ذلك وقلنا باعتباره من باب الطريقية، نظراً إلى أن انسداد باب العلم بالضرر الواقعي يوجب إناطة الحكم بالظن به بلا مدخلية له في الموضوعية للحكم، فغاية ما يقتضي ذلك ثبوت الحرمة عند تحقق الضرر واقعاً، وإن لم يكن مظنوناًً، وهذا لا أثر له في ما يراد إثباته ونفيه في المقام، لأن الانسداد المذكور - ولو بنينا على طريقية الظن - يوجب تبعية الحكم الفعلي للقطع بالضرر اتفاقاً، أو ظنه. ولا ريب في أن بطلان العبادة بالنهي عنها يتبع النهي الفعلي المنجز، ولا أثر للحكم الواقعي إلا الإعادة أو القضاء عند انكشاف الحال، ولكن في دعوى القطع أو الظن بالضرر في مثل إدماء الرأس من المجازفة والمكابرة ما يشهد الوجدان بخلافه. أما قول القائل (أين قول الفقهاء: دفع الضرر المظنون واجب؟ وأين اكتفاؤهم باحتمال الضرر)؟، فهو أشد غرابة ومجازفة، فإنا لم نجد أحداً من الفقهاء أفتى بوجوب الصوم وإتمام الصلاة في السفر المحتمل فيه الضرر، ولا سقوط وجوب الحج عمن يحتمل في سفره ذلك، ولا وجوب التيمم مع احتمال الضرر بالوضوء أو الغسل، إلى غير ذلك من موارد احتمال الضرر الدنيوي. نعم قد علّق الحكم في بعض الموارد على خوف الضرر المساوق للظن به، وهو أن شمل الشك، كان حكماً تعبدياً في مورده، لا يصح النقض به، ولا يصلح لاستفادة قاعدة منه. وقول العلماء بوجوب دفع الضرر المظنون، لعله يراد به الضرر الأخروي، وهو في موارد قيام الأمارات الشرعية في الموضوعات والأحكام مما لا ريب فيه. وفي غير تلك الموارد ملحق بالضرر المحتمل، وقد تطابق العقل والنقل على الاعتناء به في الشبه البدوية مطلقاً أو في الجملة. أما الضرر الدنيوي مظنوناً أو محتملاً، فقد أسلفنا القول بأن دفعه أمر فطري جبلي، وليس بحكم عقلي ولا شرعي إلا ما كان منه نحو إلقاء النفس في مهلكة، أو موجباً لفقد طرف، أو حدوث مرض أو شبه ذلك، وذلك لخصوص ما علق فيه الحكم على خوف الضرر أو ظنه، على تفصيل سلف في صحة العبادة معه وعدمها(39). إذاً فما هو موقع القول (وأين اكتفاؤهم باحتمال الضرر الموجب لصدق خوف الضرر في إسقاط التكليف)، فإنا لا نعرف فقيهاً ولا أصولياً اكتفى في الضرر الدنيوي بالاحتمال في سقوط تكليف ولا ثبوته، كيف والأضرار المحتملة في الأفعال نفساً ومالاً وبدناً مما لا تكاد تنتهي، ولا يمكن التحرز عنها، إذ ما من فعل إلاّ ويحتمل الضرر فيه من جهة أو جهات. نعم ذكر متكلمونا ذلك في مقام الاستدلال على وجوب شكر المنعم، إذ قالوا: بأن في تركه احتمال المضرة، وجعلوا ثمرة وجوب دفعه استحقاق تارك الفحص عن صحة دعوى مدعي النبوة، العقاب. والاكتفاء به من خصوصيات ذلك المقام المعلوم مصادفة الاحتمال فيه للواقع، وذلك في الحقيقة دفع لأعظم الأضرار المقطوعة، لا المحتملة. خلاصة القول في الإيذاء والضرر: لنرجع إلى مسألة إيذاء النفس وإدخال الضرر عليها، ونبحث عنهما من طريق آخر لا يعسر على العامة فهمه، يكون نصفاً بين الجميع، فنقول: لا ريب في أن لإيذاء النفس وإدخال الضرر عليها مراتب، أعلاها ما ليس فوقه إلا إزهاق النفس وأدناها ما ليس تحته إلا العدم المحض، والمراتب المتوسطة بينهما كثيرة لا تقف على حد. وليس في الأدلة الشرعية ما يقضي بحرمة غير ما يكون إلقاء للنفس بالتهلكة، أو الجناية عليها بقطع عضو، أو حدوث مرض لا يتحمل في العادة، وشبه ذلك. ولا نجد في أحكام العقول ما يوجب قبح غير ما يكون ظلماً للنفس، وليس جميع المراتب المتوسطة من الظلم القبيح إذا خلت عن الأعراض الأخروية باعتبار انطباق العناوين الراجحة عليها شرعاً، فكيف إذا انطبق عليها نحو عنوان الإبكاء، والحزن، والجزع لمصاب سيد الشهداء. والحاصل أن الفعل الذي ينزله الفاعل بنفسه - ويسميه هذا الكاتب إيذاءً وإضراراً - إذا وقع لغرض عقلائي، ولو كان هو النفع الأخروي، لا يصدق عليه اسم الظلم قطعاً، وإلاّ كان عليه أن يلتزم بحرمة ارتكاب المهن المجهدة للنفس والبدن من حرفة أو صنعة(40). ومع عدم صدقه فأي دليل من العقل والنقل - كما يقول - على حرمته؟ بل أي دليل على الحرمة إذا تجرد عن كل غرض عقلائي؟ إذ غاية الأمر صيرورته حينئذ فعلاً عبثياً، ولا برهان من العقل والنقل يدل على أن كل فعل ليس للعقلاء فيه فائدة مقصودة معتد بها، قبيح عقلاً ومحرّم شرعاً، فإن العناوين القبيحة العقلية معلومة، وليس العبث منها، وموضوعات الأحكام التحريمية معروفة - حسب ما يستفاد من الأدلة الشرعية -، وليس هو أحدها. لكنى لا أستبعد من بعض أهل الأذواق اللطيفة أن يقول حينئذ (هو فعل همجي وحشي جنوني) إلى غير ذلك من هذه الألفاظ ومن أمثالها. ونحن نلقي إليه بكل صراحة هذا الجواب: أن هذه السفاسف الرائجة لا يعتني بها الفقهاء، إلا أن يقوم البرهان عندهم على حرمة عنوان (الوحشية) و(الهمجية)، وإن لم يكن فيه خروج عن الحدود الشرعية. ومن هذا كله يحصل اليقين بالفرق بين الإيذاء والإضرار، وأن الإيذاء بجميع أنواعه لا دليل على حرمته، ومنه جرح الإنسان رأسه بسيف أو مدية، وضرب ظهره بسلسلة، ولدم صدره حتى يسود، وحتى يسيل منه الدم. وأما الإضرار فما يكون منه ظلماً للنفس بإلقائها في مهلكة وتعريضها للأمراض، والآفات والعاهات، فلا ريب في قبحه عقلاً وحرمته شرعاً(41). وما لم يكن كذلك فلا دليل على حرمة المعلوم كونه ضرراً، فضلاً عما يشك في كونه مضراً(42). الهوامش: الفصل الثالث: نماذج من إيذاء أهل البيت أنفسهم في سبيل الله تتميمات ملحقة بقاعدتي الحرج والضرر: قد وقعت لصاحب الرسالة نوافذ كلمات في مسألتي العسر والضرر بزعم أنه يرد بها على معاصره في ركونه إليها وجعلها دليلاً على مشروعية الشعائر الحسينية المجهدة، ولما أنها ليست من الأمور العديمة الأثر في تأييد تلك الشعائر المقدسة، فإني أتعرض لها بصورة محاكمة بين الرجلين: تورم قدم النبي (صلى الله عليه وآله) من القيام للعبادة: سيماء الصلحاء: لو كان الشاق - وإن دخل تحت القدرة والطوق - غير مشروع، ما فعلته الأنبياء، ألم يقم النبي (صلى الله عليه وآله) للصلاة حتى تورّمت قدماه؟(43). رسالة التنزيه: قيام النبي (صلى الله عليه وآله) للصلاة حتى تورمت قدماه إن صح، لابد وأن يكون من باب الاتفاق، أي ترتب الورم على القيام اتفاقاً، ولم يكن النبي (صلى الله عليه وآله) يعلم بترتبه، وإلا لم يجز القيام المعلوم أو المظنون أنه يؤدي إلى ذلك، لأنه ضرر يرفع التكليف ويوجب حرمة الفعل المؤدي إليه(44) انتهى. النقد النزيه: حديث قيام النبي (صلى الله عليه وآله) إلى أن تورّمت قدماه رواه علي بن إبراهيم في تفسيره عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام)(45)، ورواه الطبرسي في (الاحتجاج) عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) عن أبيه عن آبائه عن علي (عليهم السلام)(46)، ونقله في (البحار)(47) عن (الخرائج)(48). ويشهد له بالصحة ما رواه الشيخ أبو جعفر الطوسي في أماليه عن أبي جعفر (عليه السلام) منقول السجاد (عليه السلام): (أن جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد غفر الله له ما تقدّم من ذنبه(49) وما تأخّر، فلم يدع الاجتهاد في العبادة حتى ورم الساق، وانتفخ القدم(50). وما رواه في (البحار) عن كتاب (فتح الأبواب) في الاستخارات - لابن طاووس - عن الزهري من قول السجاد أيضاً: (كان رسول الله يقف للصلاة حتى تورم قدماه، ويظمأ(51) حتى يعصب فوه(52))(53). وأنا لا أشك أن الكاتب قد يثبت صحة الخبر رواية، فتترتب عليها آثار وقوع المخبر به واقعاً، ولكن لأمرٍ ما يقول (إن صح)(!!) إن هذه الأخبار بظاهرها تدل على استدامته على طول القيام، ويلزم ذلك - عادة - العلم بحصول الورم، وكونه (صلى الله عليه وآله) عامداً على إجهاد نفسه في عبادة ربه. ويؤيد هذا أن انتفاخ الساق وورم القدم لا يكون دفعياً، بل تدريجياً، والمواظبة على الأمر التدريجي الضرر، ومع ظهور مباديه، لا يكون إلا للإقدام عليه عمداً مع العلم به. أن إيذاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) لنفسه في العبادة لو كان اتفاقياً وهو غير عالم به، لم يكن وجه لمعاتبة الناس له بأنه قد غفر الله له، فلا حاجة له إلى إتعاب نفسه وإيذائها، ولا لجوابه (صلى الله عليه وآله) لهم بقول: (أفلا أكون عبداً شكوراً) بل لا وجه للعتاب الإرفاقي المتوجه إليه من جانبه تعالى بقوله: (طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى)(54)، أي: لتستمر في فعل ما يشق على النفس، لأن العتاب الإرفاقي لا يكون على أمر غير اختياري غير معلوم الوقوع عنده. إن دعوى اتفاقية ترتب الورم على قيامه (صلى الله عليه وآله) من دون علمه به مما لا مجال لاحتمالها: أولاً: لما روى في (الاحتجاج) و(الخرائج) عن علي (عليه السلام): أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قام عشر سنين على أطراف أصابعه حتى تورمت قدماه(55) وفي (مجمع البيان) روى أنه كان يرفع إحدى رجليه في الصلاة ليزيد تعبه، فأنزل الله (طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى)، فوضعها(56). وفي (الحدائق) - في أول باب أعداد الصلوات -: روى أنه كان يقوم [في الصلاة] على أطراف أصابعه حتى تورمت قدماه إجهاداً لنفسه في العبادة، حتى عاتبه الله على ذلك عتاب رحمة، فقال: (طه ما أنزلنا عليك الرآن لتشقى)(57). الحديث(58). وفي (مصباح الشريعة): كان رسول الله يصلي حتى يتورم، ويقول: (أفلا أكون عبداً شكوراً)؟ أراد أن تعتبر [به] أمته، فلا يغفلوا عن الاجتهاد والتعب والرياضة(59). فإن هذه الأخبار صريحة الدلالة على مواظبته (صلى الله عليه وآله) على القيام المؤذي الموجب للورم، وأنه إنما يفعل ذلك قاصداً إتعاب نفسه وإيذائها في العبادة. وثانياً: أن الورم من حيث هو ليس بضرر، وإنما الضرر هو الألم الحاصل عند حدوث الورم، ولازم كل عاقل شاعر أن يحسّ بالألم عند حدوثه، مهما كان ضعيفاً، فكيف بالألم الموجب للورم؟ والقول على هذا باتفاقية ترتبه لا يكاد يتعقل له محصل إلاّ إذا كان واقعاً من غير مدرك. وثالثاً: إن الأخبار الواردة عن أئمة الهدى في تفسير قوله - تبارك وتعالى -: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلاّ من ارتضى من رسول)(60) تدل على أن محمداً (صلى الله عليه وآله) ممن ارتضاه الله، وأنه انتهى إليه، ثم إليهم علم كل ما قدّره الله وقضاه(61). ولا شك أن من ذلك تورم قدميه، لفرض وقوعه بتقدير الله وقضائه. ولعمري لو أن أحداً قال بأنه (صلى الله عليه وآله) لم يعلم ذلك بعلم الله، لكان في علمه العادي - بالتقريبات التي أسلفناها - كفاية. إن قيام رسول الله الذي تورمت قدماه به لو كان قياماً عادياً، لصح لقائل أن يقول فيه ما شاء، لكنه شاق بذاته، مؤذٍ في نفسه وإن قصر، لأن علي بن إبراهيم - في تفسيره - يروي عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه(62) كان يقوم على أصابع رجليه حتى تورم(63). وثقة الإسلام - في (الكافي) - يروي عنه (عليه السلام): أنه كان يقوم على أطراف أصابع رجليه، فأنزل الله (طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى)(64). وعبد الله بن جعفر الحميري - في محكى (قرب إسناده) - يروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه كان يقوم ويرفع إحدى رجليه، فأنزل الله عليه (طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى)، فوضعها(65)،(66). فبالله عليك ما هذا القيام الشاق الذي اختاره رسول الله - على ما يقول صاحب الجواهر - إلا لأنه أشق أفراد القيام وأحمزها. وهل يصح في ما إذا اختاره (صلى الله عليه وآله) وهو مؤذٍ في نفسه أن يقال: أنه لا يعلم بترتب الأذى عليه؟ كل ذلك للفرار من القول بجواز فعل المؤذي للنفس في الجملة. أنا والله لا أريد تأييد القول بعلمه بذلك إلا لرفع الوصمة عنه (صلى الله عليه وآله) وحفظ عصمته عن الزلّة(67)، لأنّ ترتب الورم على قيامه إن كان اتفاقياً وهو لا يعلم به، لزم مع جهله فعله للحرام جهلاً. وإن كان ليس باتفاقي - كما ظاهر أكثر الأخبار وصريح ما عداها - لزم على رأي الكاتب أن فعل كل ما يؤذي النفس محرماً لزم أن يكون الرسول الأكرم قد فعل الحرام عمداً(!!!) وإذا جوّز بعض السهو عليه (صلى الله عليه وآله) في غير الأحكام، ونسب آخرون إليه الجهل بالموضوعات، فإن أحداً منّا قبل اليوم لم يلصق بساحته المقدسة فعل الحرام لا عمداً ولا جهلاً ولا سهواً ولا خطاً، لا اختياراً ولا اضطراراً، لا قبل النبوّة ولا بعدها(68). بل الظاهر اتفاق أصحابنا على عدم وقوع السهو منه في المباحات والمكروهات وتنزيهه حتى عن مثل الفظاظة والغلظة، وعن المباحات القادحة في الأدب، كالأكل ماشياً وفي الطرقات. بل صريح من جعل العصمة لطفاً - في نقل شارح التجريد - أنه مؤاخذاً على ترك الأولى، فلا يخل به عمداً، ولا سهواً، ولا خطأً. ولذلك فإني لا أرى صاحبنا اليوم يتترّس - في مزعمته - بشيخنا الصدوق إذ جوّز عليه السهو عن الصلاة وفيها، بل ينبغي أن يضيف إليه القائل بجهله بالموضوعات،(69) لأن قوله مزيج من القولين اللذين ما أظنهما اجتمعا لواحد. مع أنّا مهما وسعنا القول بعلمه (صلى الله عليه وآله) وعلم الأئمة (عليهم السلام) في باب الموضوعات، فلا يسعنا إنكار علمهم في الباب المذكور بمثل عاقبة القيام في الصلاة المؤدي إلى فعل الحرام عصمة لهم عن الإثم، وحفظاً عن الخطيئة، وإلا فما معنى كونهم مؤيّدين بروح القدس الذي لا ينام ولا يغفل ولا يلهو ولا يسهو ولا يلعب؟(70). هذا مع أن الصدوق نفسه يتنصل عن نسبة السهو إليه (صلى الله عليه وآله)، ويسمي ما يدّعى وقوعه منه إسهاءً من الله لنوع من المصلحة ذكره(71)، وأنه ليس كسهونا الذي هو من الشيطان. وأين هذا من مزعمة الكاتب الخالية عن المصلحة؟ وهي مع ذلك تجهيل للنبي (صلى الله عليه وآله)، لا إسهاءً من الله تعالى (!!). وإذا كان الكاتب غير معتمد في مقالته على خبر يدل عليها، بل تأوّل خبراً لا ينافي بظاهره العصمة إلى ما ينافيها، فإن شيخنا رئيس المحدثين يركن إلى أخبار كثيرة مستفيضة، كان معذوراً في الاعتماد عليها(72) لو كان ممن يصلح - على رأي شيخنا المفيد - لسوى حمل الأخبار وروايتها(73) ومع ذلك فقد لقي من نوافذ الكلمات الشنيعة من المفيد والسيد والشيخ والعلامة والشهيد وأضرابهم ما لا يجمل بالأدب ذكر كله، حتى قال المفيد في خاتمة رسالة نفي السهو في الرد عليه - بعد أن نقل مقالته -: (وإن كان شيعياً يعتمد على هذا الحديث - يعني حديث ذي الشمالين المتضمن لسهوه - في الحكم على النبي (صلى الله عليه وآله) بالغلط والنقص وارتفاع العصمة، لناقص العقل، ضعيف الرأي، قريب إلى ذوي الآفات المسقطة عنهم التكليف)(74). ولأكتفِ بهذا عن غيره مما هو شنيع للغاية، فإن رسالتي هذه لم توضع لنقل مطاعن العظماء، سامحنا الله وإيّاهم بفضل كرمه. تورم قدمي السجاد (عليه السلام): دع عنك تورم قدمي الرسول الأعظم واتفاقية ترتبه على عبادته، وخذ محتجاً بفعل الإمام السجاد ذي الثّفنات، فإنه لا يشك من له إلمام يسير بالسيرة بأنه عاش دائم السقم، دائم الحزن، نحيف البدن، وقد كلّف نفسه الجهد بالعبادة في قول جابر الأنصاري(75) وهو (يهلك نفسه اجتهاداً بالعبادة) في قول فاطمة بنت علي (عليه السلام)(76) وهو (شديد الاجتهاد بالعبادة) في قول ولده الباقر (عليه السلام)(77)، وبالاستدامة على العبادة المجهدة (اصفر لونه [من السهر]، ورمصت عيناه(78) من السهر(79)، ودبرت جبهته(80)، وانخرم أنفه من السجود، وورمت ساقاه وقدماه من القيام للصلاة)(81). وقد رآه أبو حمزة في فناء الكعبة يصلّي، فأطال الصلاة حتى جعل يتوكّأ مرة على رجله اليسرى(82). فما هي هذه الآلام البدنية؟ وهل هذا الذي ينزله الإمام بنفسه من أنواع المشقات التي تترتب عليها انخرام أنفه وورم ساقيه وقدميه إلا إضرار بنفسه؟ وليست هي باتفاقية قطعاً، كما يعلم ذلك من سيرته من له أدنى اطلاع على السيرة. إنّ جابر بن عبد الله الأنصاري عندما يطلب منه البقيا على نفسه يقول له: (لا أزال على منهاج أبويّ مؤتسياً بسنتيهما حتى ألقاهما)(83). وولده أبو جعفر (عليه السلام) عندما يقول له: كم هذا الدأب، يجيبه بقول: (إنني أتحبّب إلى ربّي لعلّه يزلفني)(84). فلم لا قال له أحد: أن هذا الذي تفعله محرّم عليك ولا يطاع الله من حيث يعصى؟ وإذا كان ضرب الصدر باليد حتى يحمر أو يسود ضرراً وإيذاءً محرّماً، فإن اسوداد ظهر السجاد مما يحمله دائماً على ظهره إلى الفقراء بوفاق من مؤرخينا، فضلاًًُ عن إثفان السجود جبهته وعرنين أنفه الذين كان يقرضهما بالمقراض في السنة مرتين أو أكثر،(85) أولى(86) أن يكون إيذاءاً ومحرماً على مذهب أهل الشام. تورم قدمي الزهراء (عليه السلام) وإضرارها: إنّ شيخنا المجلسي يروي - في (البحار)- عن بعض مؤلفات العامة عن الحسن أنه قال: (ما كان في الدنيا أعبد من فاطمة (عليها السلام)، كانت تقوم حتى ورم قدماها)(87) وهذا يدل على أن الحسن يرى أن العبادة التي تتورم فيها القدمان من أفضل أفراد العبادة، وأن فاطمة (عليها السلام) كانت تدأب في طول القيام، وأنّ تورم قدميها ليس باتفاقي. وجاء في أخبار كثيرة من طرقنا أن فاطمة (عليها السلام) استقت بالقربة حتى أثّر في صدرها، وطحنت بالرحى حتى مجلت يداها(88). والمجل في اليد هو ثخن جلدها بمزاولة الأعمال بالأشياء الصلبة، وذلك لا يكون إلاّ بعد آلام متتابعة. وفي رواية (الخرايج) عن سلمان الفارسي وقد دخل على فاطمة، قال: كانت فاطمة جالسة، قدّامها الرحي، تطحن بها الشعير، وعلى عمود الرحى دم سائل، والحسين (عليه السلام) في ناحية من الدار يتضور من الجوع(89). فقلت: يا بنت رسول الله! دبرت كفّاك(90) وهذه فضة جالسة؟ فقالت: (أوصاني رسول الله أن تكون الخدمة بيني وبينها أياماً(91)، فكان أمس يوم خدمتها(92)) الحديث. فإن صح الحديث وكان سيلان الدم من يديها على عمود الرحى اتفاقياً، ولم تكن تعلم بترتبه على طحنها، فإن دبر الكفين ومجلهما الذين لا ينفكان عن إيذاء النفس وإضرارها في بدء الأمر لا يكون اتفاقياً قطعاً. إيذاء النبي (صلى الله عليه وآله) نفسه بالجوع: سيماء الصلحاء: ألم يضع - يعنى النبي (صلى الله عليه وآله) - حجر المجاعة على بطنه، مع اقتداره على الشبع؟(93) رسالة التنزيه: أما وضعه حجر المجاعة على بطنه مع اقتداره على الشبع، فلو صح، لحمل على صورة عدم خوف الضرر(94) لحرمة ذلك. ولكن من أين تثبت أنه كان يتحمل الجوع المفرط الموجب لخوف الضرر اختياراً مع القدرة على الشبع؟(95) انتهى. النقد النزيه: قد صح أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) خرج من الدنيا خميصاً، ما أكل خبز برّ قط، ولا شبع من خبز شعير قط. أما إفراط الجوع به حتى شدّ الحجر على بطنه، فقد رواه الصدوق في مجالسه، وابن شهر آشوب في مناقبه مسنداً عن ابن عباس. ورواه ابن الجوزي مسنداً بعدة طرق عن علي (عليه السلام)، ونقله الزمخشري في (ربيع الأبرار) عنه (عليه السلام)، وكذا ابن أبي الحديد في (شرح النهج)، فقد نقله وذكر أنه جاء في الأخبار الصحيحة(96). وامتنّ به رسول الله (صلى الله عليه وآله) على كافة المهاجرين والأنصار، وهو على المنبر في آخر يوم من أيام حياته إذ قال: (ألم أضع حجر المجاعة على بطني)؟ فقالوا: بلى. وقد تقدم في حديث السجاد (عليه السلام) أن النبي (صلى الله عليه وآله) ليس فقط يجوع حتى يربط على بطنه الحجر، بل ويظمأ حتى يعصب فوه، أي يجفّ ريقه من شدة العطش. إن من الغريب قوله: (من أين ثبت أنه كان يتحمل الجوع المفرط)! وهو وكل أحد يعلم أن ربط الحجر لا يكون إلاّ للحاجة إليه، وإلا يكون فاعله مرائياً، ومع الحاجة إلى ربط الحجر لا معنى للقول بأن ذلك الجوع الذي كان لأجله ربط الحجر، لم يكن مفرطاً. سلّمنا، لكن في تحمل ذلك الجوع مشقة شديدة، وإيذاء للنفس، والمشقّة وإن لم توجب حرمة الفعل، لكنها ترفع حكمه - على مذهبه - وعليه لا يكون تحمّله للجوع مستحباً ولا مطلوباً ولا مثاباً عليه، بل هو والشبع سواء في الإباحة، فما هو الداعي لفعل النبي (صلى الله عليه وآله) إياه وإيثاره على الشبع. وحمل جوعه على ما لا مشقة فيه أيضاً كما لا ضرر فيه، يوجب حصر شدّ الحجر بالرياء المحض. وأغرب من هذا دعوى أن جوعه المفرط الموجب للضرر كان عن اضطرار، وذلك النبي (صلى الله عليه وآله) إذا انقطعت به المذاهب عن تدبير ما يسد به رمقه، ولو بقرض ونحوه، فلقد كان بإمكانه أن يبرز إلى ظواهر المدينة وضواحيها، فيأكل من حشائشها ما يحفظ به حشاشة نفسه الشريفة تأسّياً بأخيه موسى بن عمران (عليه السلام)، فلقد كانت خضرة الحشيش ترى من صفاق(97) بطنه لهزاله(98). ولعمري إن امتنانه على المسلمين بربط الحجر، وتصديقهم إياه ينبئ عن علمهم بأنه كان باختياره يكابد الجوع المفرط غالب أيامه، وأنه أمر محبوب، وأنه لو شاء لم يكن مع أن جوعه لولم يكن مفرطاً، أو كان ولكن عن اضطرار، لم يكن لامتنانه على الأمة وجه. نعم يظهر من بعض كتب السير أن المسلمين أصابهم جهد وقلّة زاد أيام حفر الخندق، وأن رسول الله ربط الحجر من الجوع على بطنه ثلاثة أيام يومئذ، وهذا ما لا يمتنّ به رسول الله (صلى الله عليه وآله)، لعموم ابتلاء المسلمين به. إيذاء أهل البيت أنفسهم بالجوع: إن الله جلّ ذكره أنزل في الذكر الحكيم سورة تتلى من حين نزولها إلى قيام الساعة (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً)، يشكر فيها سعي أهل البيت الطاهرين بتحمّلهم الجوع المفرط، وإيثارهم بالطعام من ليس هو بأولى به منهم يومئذ. وقد جاء في الحديث المفسّر لآية (يوفون بالنذر)(99) أنه طووا ثلاثاً لم يطعموا سوى الماء، وأن الحسنين رآهما النبي (صلى الله عليه وآله) بعد الثلاث يرتعشان من شدة الجوع كالفرخين، ورأى فاطمة في محرابها قد التصق بطنها بظهرها وغارت عيناها(100). وهذا من أعظم أفراد إيذاء النفس المحرّم عقلاً ونقلاً على المذهب الجديد. وروى في (الخرائج) أن رسول الله مضت عليه تلك الأيام والحجر على بطنه من الجوع أيضاً، وقد علم بحال أهل بيته وجوعهم(101). وورد في حديث طويل يتضمن دخول النبي (صلى الله عليه وآله) وجابر الأنصاري على فاطمة (عليها السلام)، أن النبي لما دخل عليها رأى وجهها اصفر كأنه بطن جرادة، فقال لها رسول الله: (ما لي أرى وجهك اصفر)؟ فقالت: (يا رسول الله! الجوع...) وفي حديث آخر يرويه في (المناقب) - عن تفسير الثعلبي -: أن رسول الله دخل على فاطمة فرأى صفرة وجهها وتغير حدقتها، فسألها عن ذلك. فقالت: أن لنا ثلاثاً ما طعمنا شيئاً، وقد اضطرب عليّ الحسن والحسين من شدة الجوع، ثم رقدا كأنهما فرخان منتوفان. وكان النبي (صلى الله عليه وآله) نفسه لم يطعم شيئاً يومئذ منذ ثلاث. وفي (الخرايج): عن جابر أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أقام ثلاثاً لم يطعم شيئاً، فطاف بيوت أزواجه وبيت فاطمة، فلم يجد. وفي (البحار) - عن صحيفة الرضا (عليه السلام) - أن فاطمة (عليها السلام) جاءت إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم الخندق بكسرة من خبز. فقال لها: (أما إنها أول طعام دخل جوف أبيك منذ ثلاث)(102). وفي هذا يتحقق غاية الجوع الذي يربط له الحجر، ومثله كثير. والغرض ذكر مثال منه. إيذاء النفس بالمشي للحج: سيماء الصلحاء: ألم تحج الأئمة (عليهم السلام) مشاة حتى تورمت أقدامهم، مع تمكّنهم من الركوب(103) انتهى. رسالة التنزيه: وكذا استشهاده بحج الأئمة مشاة هو من هذا القبيل(104). النقد النزيه: قد حج الإمام السجاد ماشياً مع سقمه وضعف بدنه، وذلك ملازم لمشقته وإيذاء نفسه(105). وحج الحسن (عليه السلام) ماشياً خمس وعشرين حجة، والنجائب تقاد خلفه(106)،(107)، وكذا الحسين (عليه السلام) في رواية(108). وورد عنهم الحثّ على المشي إلى زيارة سيد الشهداء أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) مهما بعدت عنه الدار. وهذا في نفسه - على الأغلب - مشقة يرتفع معها الحكم - كما سمعته -مع قطع النظر عن ترتب الأذى عليه، وإذا كان سيرهم متوالياً في كل يوم وموافقاً لسير القوافل - كما يدل عليه بعض الأخبار(109)-، فالمشقة أشد. وقول الكاتب أن الاستشهاد بمشيهم من هذا القبيل، إن أراد به أن تورم أقدامهم - إن صح - فلابد من كونه حاصلاً من باب الاتفاق مع عدم علمهم به، فهذه فادحة يهون خطبها عليهم أنها نزلت بجدهم المصطفى من قبل. وإن أراد أن الورم غير معلوم تحققه، وأن مشيهم لم يثبت أنه كان موجباً للألم الموجب للتضرر(110)، قلنا: قد روى ثقة الإسلام في (الكافي) عن أبي أسامة عن الصادق (عليه السلام) أن الحسن (عليه السلام) خرج سنة إلى مكة ماشياً، فتورمت قدماه، فقال له بعض مواليه: لو ركبت، لسكن عنك هذا الورم. فقال: كلا، ولكن إذا أتينا هذا المنزل فإنه يستقبلك أسودٌ ومعه دهن، فاشتر منه ولا تماكسه...)(111) الحديث. وهو يدل بظاهره على أنه (عليه السلام) يتعمد أن تورم قدماه في عبادة ربه، وأنه يحسب ذلك طاعة لا معصية. هذا مع أن المشي إلى مكة إيذاء للنفس. وظاهر قول السجاد - المروي في (الخصال)- أن الحسن (عليه السلام) كان إذا حجّ، حجّ ماشياً، وربما مشى حافياً(112)، أن المشي كان من دأبه كلما حج، وليس اتفاقياً، وأن الاتفاقي هو حفاه عند المشي. وحمل ذلك على صورة عدم خوف الضرر، لا يجدي في رأي المؤلف من أن المضر بنفسه حرام فعله، سواءً اعتقد الفاعل الضرر به أم لا. سلّمنا، لكن لا أقل من كونه يوجب المشقة التي يرتفع معها استحباب المشي، فإذاً يكون سعي الأئمة (عليهم السلام) ومشيهم إلى بيت الله الحرام عبثاً ولغواً، ليس لهم عليه أجر وثواب ولو أنهم ركبوا - في ذلك السبيل - نجائبهم التي تقاد خلفهم، لكان الركوب أقرب لهم عند الله، لأنهم لا يريدون السمعة الكاذبة نعوذ بالله منها(!!). بكاء السجاد على أبيه (عليهما السلام): سيماء الصلحاء: (ألم يتخذ علي بن الحسين (عليه السلام) البكاء على أبيه دأباً، والامتناع من تناول الطعام والشراب حتى يمزجها بدموع عينيه ويغمى عليه في كل يوم مرة أو مرتين؟ أيباح لزين العابدين أن ينزّل بنفسه ما ينزل من الآلام تأثراً وانفعالاً من مصيبة أبيه، ولا يباح لوليّه أن يؤلم نفسه لمصيبة إمامه؟(113) انتهى. رسالة التنزيه: (أما بكاء علي بن الحسين (عليه السلام) المؤدي إلى الإغماء والامتناع عن الطعام والشراب، فإن صح فهو أجنبي عن المقام، فإن هذه أمور قهرية لا يتعلق بها تكليف، وما كان اختيارياً فحاله ما مر).(114) انتهى. النقد النزيه: إن صح تعليق جميع ما سبق بـ(إن صح)، فإنه لا يصح تعليق بكاء سيد الساجدين على شيء، فقد صح، وتواتر نقله، وأُفردت له في كتب الحديث أبواب تخصه، حتى روى ابن شهر آشوب في (المناقب) أنه إذا أخذ إناءً يشرب ماءً، بكى حتى يملأه دماً.(115) وكذا الحال في الإغماء عليه من البكاء، وفي الامتناع عن الطعام والشراب، ولا شك أن الكاتب لا يشك في ذلك، ولكن تلجئ الضرورات في الأمور إلى سلوك ما لا يليق بالأدب. دع عنك - بالله - التعليق بـ(إن صح)، وهلمّ الخطب في قوله (إن هذه أمور قهرية، لا يتعلّق بها تكليف). هلمّ نستعمل الدقة التامة في استخراج معناه بلا محاباة ولا تحامل. هلم بنا ننظر بكل هدوء وسكينة هل يوجد لهذه الكلمة معنى لا يحط من قدر الإمام؟ وبالأحرى لا يقدح في إمامته؟ إن الآلام التي ينزلها الإمام السجاد بنفسه، ومنها البكاء بضعاً وعشرين سنة حتى خيف على عينيه من كثرة بكائه - كما في (المناقب) - إن كانت محرّمة في نفسها - كما يدعيه هذا الكاتب -، فلا ترتفع حرمتها بكونها أموراً قهرية على بعض الوجوه. فإن أراد بقهريتها صدورها لا عن اختيار وإرادة، فإن الإمامية كافة يرفضون هذا الاعتقاد الشائن، لأنهم يعتقدون أنه لا يجوز أن يصدر عن الإمام المعصوم فعل أو قول من دون اختيار منه وإرادة، حتى إذا كان مباحاً، فضلاً عن المحرّم. وصدور المحرّم - ولو بلا اختيار - ينافي العصمة والتأييد بروح القدس(116). ولقد قال بعض الصحابة - على ما يوجد في كتب التاريخ(117) - في حق الرسول الأعظم (إنّ النبي ليهجر)(118)، فرمي بسهام اللؤم إلى اليوم لمجرد أنه نسب إليه صدور لفظ لا باختياره، ولم ينسب له محرماً بلا اختيار. مع أن كون البكاء قهرياً بهذا المعنى مما لا يكاد أن يقع من أحد أبداً، إلاّ إذا كانت مبادئه - كتذكر المصاب وغيره - قهرية أيضاً، ليكون خروج الدمع من العين كالدم المندفع من عرق، والماء المتدفق من ينبوع(119). وإن أراد بقهريتها صدورها بمقتضى طبعه المتوغل فيه من محبة أبيه، فهذا أدهى وأمرّ من سابقه، لأن القهرية بهذا المعنى لا ترفع التكليف عقلاً ولا شرعاً، لأنها لا تنافي الاختيار، وهل بعد صدور المحرّم عمداً من الإمام يبقى محل لعصمته؟ إن الشيعي لا يرضى للإمام أن يستأسره أي عامل بشري لحظة واحدة، فضلاً عن بقائه بضعاً وعشرين سنة مسلوب الاختيار والإرادة، مغلوباً لدواعي الشهوة البشرية، على حين أن المشاهد من غير المعصومين من أرباب المجاهدات أنهم يصابرون النوائب بالجلد، ويتغلبون بسهولة على البواعث الطبيعية ضد الدواعي الإلهية بغية الثواب، وترفعاً عن مقام الشهوانيين. تعتقد الشيعة أن محبة الأنبياء والأئمة لواحد من البشر قريباً أو غريباً ليس ولا يكون فقط ناشئاً عن الدواعي النفسانية والشهوات البشرية، لأن المدلول عليه بالأخبار الكثيرة - المدعومة بالبراهين العقلية - أنهم مجردون عن جميع الرغائب الطبيعية، إنما حبهم لله خالصاً، وإرادتهم له لا لسواه، وإذا أحبوا غيره، فذلك لحب الله له، ويرجع الأمر بالآخرة إلى محبة الله وحده، ولذلك أحبّ يعقوب يوسف دون أخوته، وكان إفراطه في حبّه غير مناف لخلوصه لربّه. وإذا كان حب السجاد (عليه السلام) لأبيه لا لداع طبيعي قهري - كما تعتقده الإمامية - فلا يعقل أن يكون بكاؤه عليه قهرياً طبعياً، بل يكون لا محالة تابعاً لنفس داعي حبه له، وهو حب الله الخالص وحده(120). سبحان الله! إن الرجل من سائر الناس ليبكي أو يتباكى ساعة واحدة على الحسين (عليه السلام)، فينال ما أعدّ له من ثواب البكاء أو التباكي، والإمام السجاد يبكي على أبيه البكاء المقرح مدة حياته، ولا يكون له على الله ثواب!! لأن الأمر القهري - بأي المعنيين أراده الكاتب - لا يستحق فاعله من الثواب شيئاً بحكم العقل، ولا كرامة!!! سبحان الله! أما كان بإمكان السجاد (عليه السلام) في تلك المدة الطويلة التي تنيف - بلا ريب - عن عشرين عاماً، أن يروض جماح نفسه ويصد طبعه عما هو عليه، كما يفعل ذلك غيره من غير واجبي العصمة، ليبكي على أبيه بكاء أداني الناس عليه لينال الجزاء بذلك البكاء!!! قوله: (وما كان منه اختيارياً، فحاله حال ما مرّ) إن أراد به ترتّب الإيذاء على الأمر الاختياري من الأمور السالفة النقل عن الإمام السجاد (عليه السلام)، وأنه لا يعلم بترتبه عليه، وإلاّ لم يجز له ذلك، فمع أن النظر في سيرته يكذّبه، يرجع إلى تجهيل الإمام وفعله الحرام، وهذه (شنشنة أعرفها من أخزم). وإن أراد به أنه محمول على صورة عدم خوف الضرر الموجب لحرمة الفعل، كان مكابراً، لأن امتناع الصائم دهره عن الطعام والشراب الذي هو أحد الأمور الاختيارية له، موجب للضرر لو تجرد عن مثل مقارنته لذلك البكاء المقرح الذي يمتزج بدموعه طعامه وشرابه، فضلاً عما قارنه ذلك. على أن خوف الضرر لا أثر له في الحرمة على رأي الكاتب، كما أسلفناه. امتناع العباس عن الماء: سيماء الصلحاء: أينفُض العباس الماء من يده وهو على ما هو عليه من شدة الظمأ تأسّياً بعطش أخيه، ولا نقتصّ أثره(121). رسالة التنزيه: (أمّا نفض العباس الماء من يده تأسّياً بعطش أخيه، فلو صح، لم يكن حجة، لعدم العصمة)(122). النقد النزيه: نفض العباس الماء من يده ذكره العلامة المجلسي في (البحار)، ونقله عن بعض تأليفات أصحابنا(123) وأرسله فخر الدين في موضعين من منتخبه غير متردد فيه(124). ونقله في (الدمعة)(125) عن العوالم(126). وذلك كافٍ في الحكم بصحة أية حادثة تاريخية(127). ولذلك جرى بفطرته عليها المؤلف، فذكر تلك الحادثة في موضعين من مجالسه(128) الذي ألّفه لانتقاء الأحاديث الصحيحة على ما تنطق به ص 11 من رسالته(129). ونظمه في قصيدته - المذكورة في (الدر النضيد) ص 130 - بقوله في حقه: أبى بأن لا يـــــذوق المـــــاء وهو يرى أخـاه ظمآن من ورد له يئسا ولكن الحادثة التاريخية غير الصحيحة القدح في العباس بأنه إن صح رواية أو واقعاً أنه نفض الماء من يده، فقد فعل حراماً يستحق العقاب عليه، لأنه آذى نفسه بترك شرب الماء، وأدخل الضرر عليها، وغير المعصوم يصدر منه الذنب ويعاقب عليه. وإذا جهل أحد منصب النبوة ومقام الإمامة فلا بدع أن يجهل قدر العباس، ويحمل الإثم على عاتقه المقدس لمجرد كونه غير معصوم (!!!). العباس (عليه السلام) ليس بواجب العصمة، لا أنه غير معصوم على البت، كما يرسله هذا الكاتب. أن العصمة مرتبة من الكمال الروحي تحصل من الله فيضاً بأسبابها الاختيارية تمنع من ارتكاب المعصية مع القدرة عليها، وإلا لم يكن لصاحبها على الله ثواب ولا جزاء. ولذلك يثبت كثير من علمائنا العصمة بهذا المعنى لسلمان الفارسي وأضرابه من ثقاة أمير المؤمنين (عليه السلام) على تفاوت درجاتهم ويقولون أنه محدّث ومؤيّد بالروح(130). وأبو الفضل المتربى بحجر أبيه أبى الأئمة المعصومين، والمستن بسيرة أخويه الحسن والحسين (عليهما السلام) في نحو أربع وثلاثين سنة، أولى بنيل مراتب العصمة من سلمان وأضرابه. وأظن هذا الرجل لا يعرف للمعصوم مصداقاً سوى واجب العصمة من نبي أو إمام، فلذلك يجاهر بالقول الجازم بنفي العصمة عن أبي الفضل العباس. ولو عرف أنه يكون من المعصومين من ليس بواجب العصمة، كما اجترأ على عظمة أبي الفضل العباس بتلك الكلمة الشائنة. هب أن العباس (عليه السلام) غير معصوم، لكن لا ملازمة بين عدم العصمة واقعاً وبين فعل المحرّم خارجاً، ومع عدم الملازمة كيف يتسنى لرجل أن ينسب لغير المعصوم - مثل العباس - فعل الحرام إذا صدر منه فعل مشتبه الوجه لمجرد كونه غير معصوم، كل ذلك للمحافظة على دعوى أن كل ما يؤذي النفس حرام. إن غير الجعفريين من فرق المسلمين يثبتون العصمة - بالمعنى الذي ذكرناه - للأقطاب والأبدال وللغوث والمشايخ والأولياء. وهم عندهم دون العباس مرتبةً عند الشيعة، فما له ينحط عند هذا الكاتب عن بعضهم؟ وأنا لا أستبعد ممن يقصر النظر في شأن العباس (عليه السلام) على العبارة المبذولة في الكتب المتداولة: (كان العباس رجلاً وسيماً جميلاً، يركب الفرس المطهّم(131) ورجلاه تخطان في الأرض)(132) أن يجهل منزلة العباس(133)، ولا يقدّر له من المزايا سوى كونه فارساً شجاعاً وبطلاً صاحب مناقب، وقائد كتائب، قد خرج مع أخيه للدين وللحميّة، ولم يكن يفضل سائر أصحابه بسوى الأخوة والنجدة!! ولكن المتتبع لمؤلّفات المتأخرين وما جمعته الشوارد يعلم أنه كان من أكابر فقهاء أهل البيت وعلمائهم وعظمائهم، وأنه كان ناسكاً، عابداً، ورعاً، بين عينيه أثر السجود،(134) ووجهه كفلقة القمر ليلة البدر، يعلوه النور، لم يغيّر ولم يقلل القتل منه شيئاً(135). وأنه روى الحديث عن أبيه وأخيه، وكان أبوه يمتحن نباهته وكمال معرفته - على الصغر-، فتظهر له منه شدة الورع والبصيرة في الدين(136). شهد بعض المغازي، ولم يأذن له بحرب، وكان عمره يومئذ أربع عشرة سنة(137). إن التاريخ لم يفرد للعباس بالتدوين صحيفة يؤخذ منها مقامه(138)، ولكن تعرف مكانته السامية التي تصعد به إلى مرتبة العصمة، من التدبّر في بعض ما ورد في حقه عن الأئمة المعصومين، فمن ذلك مخاطبة الإمام الصادق (عليه السلام) له في زيارته(139) بقول: (لعن الله أمّةً استحلّت منك المحارم، وانتهكت في قتلك حرمة الإسلام). إذ إنّ حرمة الإسلام لا تنتهك بقتل أي مسلم مهما كان عظيماً، إلا أن يكون هو الإمام المعصوم، وما ذلك إلاّ لبلوغ العباس المراتب السامية - في العلم والعمل - لمقام أهل العصمة. ومن ثناء الإمام السجاد (عليه السلام) عليه(140) بقول: (وإن للعباس منزلة يغبطه بها جميع الشهداء يوم القيامة). وهذا عام يشمل حتى علي بن الحسين الأكبر قتيل الطف وغيره من شهداء الطف وغيرهم، مع أن علي بن الحسين من المعصومين حكماً أو موضوعاً(141). وربما يستشعر ذلك من قول الصادق فيه: (مضيت على بصيرة من أمرك، مقتدياً بالصالحين، ومتبعاً للنبيين)(142) لأن مقترف الذنوب لا يصلح عده في الصالحين ولا في المقتدين بهم. ومن قول نفسه يوم الطف: (إني أحامي أبداً عن ديني)(143)، إذ إنّ جميع من عداه يحامي بجهاده عن الحسين (عليه السلام) ويدافع عنه، وأما المحاماة عن الدين في محاربة الأمويين، فتلك منزلة إن تجاوزت شخص الحسين (عليه السلام) إلى غيره، فالعباس أحق بمعرفتها، وأولى أن يكون جهاده في سبيلها، وهي من الغايات البعيدة التي نالها بنفوذ بصيرته وصلابة إيمانه. وقد قال الصادق (عليه السلام) (في الخبر المروي في (العمدة)): (كان عمّنا العباس بن علي (عليه السلام) نافذ البصيرة، صلب الإيمان، جاهد مع أخيه الحسين (عليه السلام) وأبلى بلاءً حسناً، حتى مضى شهيداً). إن من صلابة إيمان العباس ونفوذ بصيرته أنه ألقي له ولأخوته الأمان يوم الطف، فنبذه(144)، وجاهد مع أخيه الحسين (عليه السلم) وواساه بنفسه وأخوته حتى قتلوا بين يديه. ومن صلابة إيمانه ونفوذ بصيرته أنّه قدّم أخوته خلصائه إلى الموت أمامه، ليزرأ بهم، ويحتسبهم، فيشتد حزنه ويعظم أجره، ويكون هو الطالب بدمائهم، لأنهم لا ولد لهم(145). ومن صلابة إيمانه ونفوذ بصيرته أنه لمّا ملك الماء يوم الطف، وقد ذكر عطش أخيه الحسين، نفضه من يده مواساة له، حتى في احتمال العطش، فخصّ من دون جميع أخوته وسائر من معه بقول الصادق (عليه السلام) (فنعم الأخ المواسي)(146) وبقول السجاد (عليه السلام): (رحم الله عمي العباس، فقد آثر وأبلى)(147). إن العباس (عليه السلام) فادى بنفسه، وكذلك سائر آل الحسين (عليه السلام) وأخوته وجميع أصحابه كل فداه بمهجته، وما خص العباس (عليه السلام) من بينهم بكونه آثر وواسى، إلا لأن من عدا العباس لمّا لم يكن قد ملك الماء يوم الطف، يكون تحمّله للعطش لنفسه، لا لمواساة الحسين (عليه السلام) بعطشه، ولكن العباس (عليه السلام) لنفوذ بصيرته وصلابة إيمانه قاسى شديد العطش، وكابده لأجل المواساة، لا لغيرها، فخصّ بتلك الكلمات دون غيره(148). إن كانت على العباس تبعة فهي أنه أراد شرب الماء وهمّ به، لا أنه ترك شربه ونفضه من يده، لأن الواجب عليه - وقد ملك الماء - إيصاله إلى إمامه وإمام المسلمين أخيه الحسين (عليه السلام) ليحفظ حشاشته الشريفة، فإن حفظها أهم من حفظ كل نفس معصومة ولولا أن العباس علم أنه لا يسوغ له التواني بمقدار زمان شربه غرفة من الماء بيده، لشرب الغرفة وزاد عليها، ولكنه من صلابة إيمانه ونفوذ بصيرته في دينه، كابد الظمأ المجهد، ولم يتأخّر لحظة واحدة عن إيصال الماء إلى الحسين (عليه السلام) مقدمة للواجب الأهم. وأخرى أن الإيثار المشروع لا يقف على حد الضرر بالنفس، كما يدل عليه قوله تعالى: (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة)(149). وقد جاء في حديث المعلّى بن خنيس عن الصادق (عليه السلام) أن ريّ الإنسان مع ظمأ أخيه المؤمن من الإجحاف بحقه، قال (عليه السلام) فيه: (الخامس - يعني الحق الخامس من الحقوق السبعة المذكورة في الحديث - أن لا تشبع ويجوع، ولا تروى ويظمأ ولا تلبس ويعرى)(150). وقد آثر أبو ذر الغفاري في غزاة تبوك(151) رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فاحتمل العطش الشديد مع كونه يحمل ماءً عذباً، كان قد أبى أن يذوقه حتى يشرب منه رسول الله، ولو لم يكن أبو ذر شديد العطش، لما أمر رسول الله باستقباله بالماء مع كونه حاملاً له(152). وقد ندب الإمام الصادق (عليه السلام) وأمر بالامتناع عن شرب الماء يوم عاشوراء إلى ما بعد العصر بساعة(153)، مع أن ذلك ليس بصوم شرعاً، بل جاء في الحديث الصحيح النهي عن صومه(154). أليس ذلك لمواساة الحسين (عليه السلام) وأهل بيته إذ انجلت الهيجاء عنهم حينئذ وعلى الأرض ثلاثون رجلاً صريعاً من آل رسول الله ومواليهم(155)، قد تفتت أكبادهم من شدة العطش، أفتندب مواساة الحسين (عليه السلام) بذلك بعد مقتله، ولا تندب أو تكون محرمة في حال حياته؟ إن المروي في (المنتخب) - مرسلاً -(156)، وعن (العوالم) عن ابن شهر آشوب(157) وفي (البحار) عن أبي مخنف عن الجلودي، أن الحسين (عليه السلام) لما أقحم فرسه على الفرات وولجه وغرف منه غرفة ليشرب، سمع صائح القوم يقول: (يا حسين! أدرك خيمة النساء فقد هتكت)، فرمى الماء من يده وخرج فإذا الخيمة سالمة(158). أتراه لا يعلم سلامة الخيمة؟ أم أن عدم انذعار النساء في الخيمة بمقدار زمان شربه غرفة من ماء بيده كان أهم من حفظ حشاشة نفسه من العطش الذي حال بينه وبين السماء كالدخان؟ فإن كان شرب الماء هو الأهم فلماذا نفضه الحسين (عليه السلام) من يده - إن صح ذلك -؟، والحسين معصوم عند جميع الشيعة. وإن كان الأهم عنده حفظ الخيام بحيث لا يجوز له التأخّر والتواني بمقدار زمان شربه لغرفة ماء بيده، فإن ترك العباس (عليه السلام) شرب غرفة في يده لأجل الإسراع في إيصال الماء إلى الحسين (عليه السلام) ليحفظ نفسه المقدسة من الظمأ أولى أن يكون هو اللازم عليه، وإن أضر نفسه. إن المروي في (المنتخب) أن علي بن الحسين (عليه السلام) قتيل الطف شدّ على حرّاس الفرات، ففرّقهم، ومعه ركوة(159)، فملأها ماءً جاء به إلى أبيه وقال: (يا أبتاه! الماء لمن طلب، فاسْقِ أخي - يعني الرضيع -، وإن بقي شيء فصبّه عليّ...). فلما أخذ الحسين الركوة من يده، وتلقى دم ولده(160) فإن صح أن الحسين (عليه السلام) رمى الركوة، وأهريق ماؤها، فماذا يقال والحسين (عليه السلام) لا شك في عصمته؟ أنا وإن كنت لم أضمن صحة هذه الأحاديث (فضلاً عما تضمن منها أن الحسين (عليه السلام) عندما أقحم فرسه على الماء، وهمّ الفرس أن يشرب، وبّخه الحسين على تقدمه بالشرب عليه، فامتنع من الشرب، وهو حيوان أعجم) إلا أن خصائص يوم عاشوراء - على ما يقول صاحب (الخصائص الحسينية) - لا ينبغي لأحد أن يعترض على ما لا يعرفه منها، لأنها لا تنخرط في سلك ما نعرفه(161). ولو أن الكاتب - سامحه الله - بدلاً عن حمل الإثم على عاتق العباس (عليه السلام) في يوم لا يرى الشيعي فيه أن تُنسب المعصية عمداً أو جهلاً إلى أداني أصحاب الحسين (عليه السلام) فضلاً عن عظمائهم، قال إني لا أعلم صحة الخبر، ولا أعرف وجه امتناع العباس عن شرب الماء إن صحّ، ولعله من خصائص ذلك اليوم، لخلص نجيّاً عن كل العثرات، وهكذا في كل ما يكون من هذا البحر وعلى تلك القافية. تقريح الرضا (عليه السلام) جفونه: سيماء الصلحاء: (أيقرح الرضا جفون عينيه من البكاء - والعين أعظم جارحة نفيسة - ولا نتأسّى به، فنقرح على الأقل صدورنا وبعض رؤوسنا)؟(162) انتهى. رسالة التنزيه: (وأما استشهاده بتقريح الرضا (عليه السلام) جفون عينيه، فإن صح فلابدّ أن يكون ذلك حصل قهراً واضطراراً، لا قصداً واختياراً، وإلا لحرم)(163). النقد النزيه: لم يرد في رواية أبداً أن الرضا (عليه السلام) تقرّحت جفون عينيه من البكاء وشبه ذلك من العبائر، وظني أن الكاتب يظن أن معاصره رمز بقوله (أيقرح الرضا عليه السلام) إلى خبر يتضمن أن الرضا (عليه السلام) تقرّحت جفون عينيه، وبما أنه لم يعرف خبراً كذلك، قال (إن صح). ولكن المرموز إليه هو ما رواه الصدوق - في أماليه - عن إبراهيم بن أبي محمود عن الرضا (عليه السلام) أنه قال - من جملة حديث طويل -: (أن يوم الحسين أقرح جفوننا، وأسبل دموعنا، وأذلّ عزيزنا)(164). وهذا لا يدل على أن الرضا (عليه السلام) فقط قد قرح البكاء عينيه، بل هو وسائر الأئمة وجميع أبناء الحسين قد تقرحت جفونهم. وأما قوله: إن ذلك التقريح المحرّم - على رأيه - قد صدر من الإمام بغير قصد واختيار، فإن أراد أن الإمام يكون به مسلوب الإرادة حتى يرتفع عنه التكليف، نافى ذلك عصمة الإمام الذي تعتقد الإمامية أن حاله في الاختيار والاضطرار لا يختلف، حتى في النوم وأن حاله فيه كحاله في اليقظة، وأنه وغيره لا يغيّر منه شيئاً من جهة الاختيار والإدراك والمعرفة، لأنه إذا نامت عيناه، لا ينام قلبه، وقد بالغوا في عدم صدور شيء منه بغير اختيار حتى عند المرض والموت، حتى قالوا أنه لا يتثاءب ولا يتمطى(165). وإن أراد أن البكاء المقرح للأجفان يصدر منه بطبيعة المحبّة والأبوة، فهذا - كما سلف - لا يرفع التكليف، لأنه لا ينافي الاختيار، وعلى هذا يكون التقريح المحرّم قد صدر منه باختياره، و(تلك لعمر الله قاصمة الظهر). إن التقريح الذي يحصل بأسبابه الاختيارية لا يمكن في العادة صدوره بغير اختيار، إلاّ أن يكون البكاء نفسه واقعاً بغير اختيار. نعم يمكن أن يصدر البكاء المقرح من أحد وهو لا يعلم بترتّب التقريح المحرّم عليه، لكن الإمام إن لم يجب عند الكاتب تنزيهه عن الجهل بالموضوعات، فهو واجب التنزيه عند كافة الإمامية عن فعل الحرام جهلاً به، لطهارته من جميع الأرجاس والمعايب، وتأييده بروح القدس الذي لا يلهو ولا يغفل ولا ينام، يخبره ويسدده أن يصدر منه العثار والخطل في القول والعمل(166). ليس الإشكال في الخبر من جهة تقريح الرضا (عليه السلام) جفون عينيه فقط، بل ومن جهة إخباره به، فإن كان خبره صدقاً، كان إخباراً منه بإيقاعه الحرام - على رأي الكاتب - عمداً أو جهلاً، وكان الأولى به حيث فعله أن لا يخبر به. وإن كان كذباً، فإنا نبرأ إلى الله ممن يحتمل ذلك. وربما يختلج ببال أحد أنه صادر في مورد المبالغة في شأن تلك الفادحة المحضة، والمبالغة إن لم تكن من الكذب الذي يتنزّه عنه الإمام، لا بأس بها. ويتّجه حينئذ حمل فقرة الحديث عليها. وعلى مثل هذا يحمل أيضاً قول الحجة - إن صح - في زيارته لجده الحسين (لأندبنّك صباحاً ومساءً، ولأبكينّ عليك بدل الدموع دماً)، لا على البكاء الاضطراري، لأنه (عليه السلام) لم يخبر بوقوع البكاء منه ليحمل على ذلك، وإنما يعِد به وعداً. ولكن كيف يكون البكاء - وإن كان اضطرارياً - دماً؟ وهل يمكن أن تدمع العين دماً؟ وما هو وجه المبالغة لو أنه (عليه السلام) أراد أن يبالغ بشدة بكائه وكثرته، إذ إن المناسب - على هذا - أن يقول: (لأبكينّ بكاءً يغمر وجه الأرض بالدمع) وشبه ذلك، لا قول (لأبكينّ دماً). وقد يريد (عليه السلام) بذلك أنه يبكي باحتراق وشدة حتى تتقرح أجفانه من عظم حرق المصيبة حتى تمتزج دموعه بالدم المتفجّر من أجفانه القريحة، إذ يصدق حينئذ أن يقال أنه بكى على جده دما. كما إنّا أوّلنا بذلك ما روي من السجاد (عليه السلام) أنه كان إذا أخذ إناءً ليشرب ماءً بكى حتى يملأه دماً(167). وحينئذ يأتي رأي الكاتب في أن هذا البكاء المخصوص أو ذلك التقريح الموعود به هل يقع من الحجّة - عن قهر واضطرار أم قصد واختيار. بكاء الأنبياء: ليس تقريح جفون الرضا (عليه السلام) بأعظم مما صدر عن الأنبياء الكرام، أمناء الله على حلاله وحرامه، فقد جاء في حديث البكّائين الخمسة: أن آدم (عليه السلام) بكى لفراق الجنّة حتى صار في خديه أمثال الأودية، وحتى ساخت أقدامه في الأرض التي غمرتها دموعه والأنهار، وأن يعقوب بكى لفراق يوسف حتى ابيضّت عيناه(168) - أي عميتا -. وجاء في أحاديث زهد يحيى بن زكريا (عليه السلام) وعبادته وبكائه من النار ومن خشية الله، أن الدمع خدّ خديه حتى بانت للناظرين أضراسه، فوضعت أمه عليها لبداً يسترها ويشرب الدمع المنحدر عليها(169). وورد في شعيب (عليه السلام) أنه بكى حبّاً لله وخشية منه حتى عمي، فردّ الله عليه بصره، ثم بكى حتى عمي، فردّ الله عليه بصره، ثم بكى حتى عمي، فردّ الله عليه بصره. وعند معاتبته من جانب الحق على ذلك البكاء، وتصريحه بأنه كان حبّاً لله، قال الله (عزّ وجل) له: لهذا سأخدمك كليمي موسى بن عمران (عليه السلام)(170). روى ذلك الديلمي في إرشاده(171) - على ما ببالي -. فما هذه الآلام والأضرار في العبادات، والضرر محرم عند الكاتب سيما في العبادة؟ وما هو ذلك الإطراء الذي تنطق به الأخبار لأولئك الأنبياء الكرام لولا أن إيذاء النفس في العبادات من أفضل الطاعات؟ أين هذا لعمري من قول الكاتب - ص 21 من رسالته - (ومن يعلم أن يظن أن البكاء يقرح عينيه، فلا يجوز له البكاء إن قدر على تركه، لوجوب دفع الضرر بالإجماع وحكم العقل)؟ انتهى. إنّ عمى يعقوب وشعيب، وتخدّد خدّي آدم ويحيى، أشدّ من تقرح الأجفان. وما وبخ الله عليه واحداً من الأنبياء ولا أسقطه بذلك عن مرتبة النبوّة والأمانة على الوحي، بل شكر سعيهم، ورفع منازلهم، وباهى بهم ملائكته، ونشر ذكرهم بين الكافة أطيب نشر. وقد ورد في متواتر الأحاديث وصف الشيعة بكونهم عمش(172) العيون من البكاء، خمص(173) البطون من الطوى،(174) ذَبْل(175) الشفاه من الظمأ. فقد أسلفنا الكلام فيه، وكذا حكم العقل الذي لا يقبل التخميص لو تمّ وتحقّق، ولا يختص بشريعة دون أخرى، ولا بأمّة، بل الناس فيه جميعاً سواء. وقد صح عن الأنبياء والأئمة المعصومين أنهم تعمدوا إضرار نفوسهم وإيلام أجسامهم في عاداتهم وعباداتهم، وخاصة تقريح أجفانهم، وعمش عيونهم، وذهاب بصرها ونورها بالكلية. فكيف يصح - والحال هذه - دعوى حكم العقل بأن البكاء المظنون كونه مقرحاً للأجفان من أفراد العصيان عقلاً ونقلاً؟ إن هذا إلاّ اختلاق. سيماء الصلحاء: (وهب أنه لا دليل على الندب - أي ندب جرح الرؤوس، فلا دليل على الحرمة)(176). انتهى. رسالة التنزيه: (هذا طريف، لأن الأصل في المؤذي والمضر الحرمة، ودفع الضرر واجب عقلاً ونقلاً)(177). انتهى. النقد النزيه: هذا أطرف، لأنّا إن سلّمنا - بالرغم على إطلاق أدلة البراءة النقلية - أصالة الحرمة في إيذاء الغير وإضراره، ليس في نفسه فقط، بل وفي ماله وعرضه، ولكن أيّ أصل يقتضي الحرمة في إيذاء الرجل نفسه؟؟ وما هي المرتبة المحرّمة من الإيذاء؟ وأين هذه الأدلة العقلية والنقلية التي ادعاها المدعون، لنراها وننظر ما يستفاد منها؟ وهب أن الأدلة النقلية خفيت علينا، فإن أحكام العقول لا تخفى، وليست العقول بالتي تحكم على الأشياء بلا ملاك يكون علة للحكم، فما هو الملاك عند العقل في حرمة كل ما ينزله الإنسان بنفسه مما يسميه الكاتب إيذاء وإضرار؟ إنه قد تعارف بين العقلاء وَشْم الأيدي وغيرها من الأعضاء وشماً كثيراً، ولا نجد فطرة عقولهم تنفيه وتدفعه لمجرد كونه إيذاءً وضرراً على النفس، وقس على هذا ثقب الآذان والأنوف للنساء لتعليق الأقراط والشنوف والخزائم. ولا أريد بهذا سوى الاستشهاد على أن العقل بفطرته لا يأبي من تحمّل الضرر الذي لا يوفي بصاحبه على التلف، وإن كان ذلك بالنظر إلى استحباب الزينة للنساء وخصوص الشنوف والأقراط دلالة على جواز ثقب الآذان والأنف وإدمائها شرعاً أيضاً. وقد أسلفنا القول في دلالة وجوب الختان على كل مسلم واستحباب ثقب أذني الغلام الذي لم يخالف فيه أحد من أصحابنا على جواز الإيلام شرعاً في الجملة. سيماء الصلحاء: (إن الشيعي الجارح نفسه لا يعتقد بذلك الضرر، ومن كان بهذه المثابة لا يلزم بالمنع من الجرح وإن حصل منه الضرر اتفاقاً(178). انتهى. رسالة التنزيه: الجرح نفسه ضرر وإيذاء محرّم، ولا يحتاج إلى اعتقاد أنه يترتب عليه ضرر أو لا(179). النقد النزيه: تنسكب العبرات هاهنا لثلاث: النبي (صلى الله عليه وآله)، والفقه، والفقهاء. أما النبي (صلى الله عليه وآله) فلأنه إذا كان فعل المؤذي والمضر محرماً، وإن لم يعتقد الإنسان بترتب الضرر والأذى على فعله، كان النبي (صلى الله عليه وآله) بإدخاله الأذى على نفسه بتورم قدميه - وهو لا يعلم بترتبه على فعله - قد وقع في فعل الحرام، وهو لا يعلم بوقوعه - على رأي الكاتب سامحه الله -. وأما الفقهاء، فإن قوله (الجرح ضرر) كلمة طبيب لا فقيه. أن للطبيب أن يقول (الجرح ضرر)، فيحكم الفقيه بأنه حرام. أما أن الضرر حرام - في رأي الكاتب - فها هو ذا طبيب وفقيه. هب أنه صار طبيباً، فليكن حاذقاً في فنه، فالحاذق لا يقول (الجرح ضرر)، بل الجرح قد يكون ضرراً وقد لا يكون. وأما الفقه فلمعلومية أن جرح الإنسان غيره وإيذاءه ولو بخدش، محرّم، أما جرح نفسه نحو جرح رأسه في العزاء الحسيني غير المستلزم تلف النفس ولا مرض البدن، فلا نعلم أي عقل وشرع يمنعه. وأدلة الحرج التي تمسّك بها آنفاً على حرمة ذلك قد بيّنا مفصّلاً أنها أجنبية عنه، وأن الاستدلال بها عليه من الزلاّت التي لا تغفر للعلماء. والركون إلى قاعدة (لا ضرر في الإسلام) لو لم تخصص بغير العبادات البدنية - كما قيل -، مما لا يصح بوجه - كما تقدّم -. ثم بناءً على حرمة الإضرار، لا ريب في دورانها مدار الاعتقاد بالضرر، وقوله بعدم الاحتياج إلى اعتقاد ترتب الضرر من غرائب الكلام، لأن حرمة المضر العقلية إن كانت، فالعلم جزء موضوعها قطعاً، وأما الشرعية فهي كحرمة سائر المحرمات، لا تكون فعلية إلا بالعلم، ولا أثر للحرمة الواقعية وضعاً ولا تكليفاً، مع الجهل بالموضوع المحرّم، ولذلك صرح كثير بصحة العبادات الضررية التي يعتقد المكلف عدم التضرر بها، مع كونها مضرة في نفس الأمر، سواءً كان المدرك لحرمة الضرر هو ما دل - بزعمهم - على تحريم الإضرار بالنفس مثل قوله تعالى: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)(180)، أو هو قاعدة (لا ضرر في الإسلام)، لأن المانع عندهم عن امتثال الأمر هو النهي الفعلي المنجز في مسألة عدم جواز اجتماع الأمر والنهي، ومسألة النهي عن العبادة، لا الواقعي الشأني الذي لا يثمر إلا الإعادة أو القضاء عند انكشاف الحال، ولا فعلية للنهي مع الجهل بالمنهي عنه. ومن هذا يعلم أن دعوى أن الضرر مانع واقعي عن صحة العبادة، كلام ظاهري، لأن حرمة الضرر إن كانت لمثل الآية السالفة، كان ثبوتها مبنياً على امتناع اجتماع الأمر والنهي، ولا ريب أن الذي يمتنع اجتماعه مع الأمر هو النهي الفعلي المنجّز، أعني الثابت للمتضرر العالم بتضرره. وإن كانت للقاعدة، كان دورانها مدار الاعتقاد أوضح على رأي شيخنا المحقق الأنصاري - المصرح به في رسالة الضرر - من أن القاعدة إنما تنفي الحكم الفعلي للمتضرر الثابت للعالم أو الظان بالضرر لأن الحكم المذكور هو الموقع للمكلّف في الضرر، لا الحكم الواقعي الذي لا يتفاوت فيه الحال وجوداً وعدماً في إقدام المكلّف على الضرر، ولا يكون نفيه امتناناً على المكلّف ولا تخليصاً له عن الضرر، بل هو لا يثمر إلا تكليفاً بالإعادة بعد العمل والتضرر(181). وهذا غير بعيد بالنظر إلى ما أسلفناه عن بعض المحققين من دعوى ظهور القاعدة في عدم كون جعل الشارع سبباً للإلقاء في الضرر فإن الاعتقاد بعدم الضرر على هذا يوجب رفع استناد الوقوع فيه إلى الشارع. ولذا ذكروا أن القاعدة لا تجري فيكل مورد يكون إقدام المكلّف على الضرر رافعاً لموضوع استناد الضرر إلى الشارع. وهذا كلام لا تمس الحاجة إليه هنا، وإنما ذكرته وفاءً بوعد سابق. والغرض نقد قول الكاتب: (الجرح ضرر، وأنه لا يحتاج إلى اعتقاد أنه يترتب عليه ضرر)، فإنه لا وجه له إلا دعوى أن الضرر الواقعي هو موضوع الحكم الواقعي، ولا أثر للاعتقاد سوى كونه طريقاً إليه. لكنا قد أسلفنا بأنه لا أثر للطريقية والموضوعية فيما يراد إثباته ونفيه في المقام، فإن الضرر الواقعي أن سلمنا أنه موضوع الحرمة الواقعية، لكن فعليتها موقوفة على العلم بالضرر، وهذا لا اختصاص للضرر به، بل هو جار في جميع المحرمات الواقعية التي لم يوجب الشرع والعقل عند الجهل بها الاحتياط. ويختص الضرر من بينها بأن انسداد باب العلم به لا بالوقوع فيه يوجب تبعية الحكم الفعلي للقطع به أو ظنه، ولا أثر لحكمه الواقعي تكليفياً كان أو وضعياً، لعدم النهي الفعلي المنجز عنه مع الجهل به، كما لا يخفى. وقد يحسن في خاتمة هذا الفصل أن أضمنه نبذة من النشرة التي جاد بها قلم بعض الأساطين من الفقهاء المعاصرين في رسالته (المواكب الحسينية)، فإن لها مساساً بالمقام دعوى ودليلاً. قال - سلّمه الله تعالى -: لا ريب أن جرح الإنسان نفسه وإخراج دمه بيده في حد ذاته من المباحات، ولكنه قد يجب تارة، وقد يحرم أخرى، وليس وجوبه أو حرمته إلاّ بالعناوين الثانوية الطارئة عليه، وبالجهات والاعتبارات، فيجب لو توقّفت الصحة على إخراجه، كما في الفصد والحجامة، وقد يحرم كما لو كان موجباً للضرر والخطر من مرض أو موت، وقد تعرض له جهة محسّنة ولا توجبه. وناهيك بقصد مواساة سيد أهل الإباء وخامس أصحاب العباء وسبعين باسلاً من صحبه وذويه. حسبك بقصد مواساتهم (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) وإظهار التفجع والتلهّف عليهم(182)، وتمثيل شبح من حالتهم مجسمة أمام محبيهم. ناهيك بهذه الغايات والمقاصد جهات محسنة وغايات شريفة ترتقي بتلك الأعمال من أخس مراتب الحطة إلى أعلى مراتب الكمال. أما ترتب الضرر أحياناً بنزف الدم المؤدي إلى الموت أو إلى المرض المقتضي لتحريمه، فذاك كلام لا ينبغي أن يصدر عن ذي لبّ، فضلاً عن فقيه أو متفقّه: أما أولاً: فقد بلغنا من العمر ما يناهز الستين، وفي كل سنة تقام نصب أعيننا تلك المحاشد الدموية، وما رأينا شخصاً مات بها أو تضرر، ولا سمعنا به في الغابرين. وأما ثانياً: فتلك الأمور على فرض حصولها إنما هي عوارض وقتية ونوادر شخصية لا يمكن ضبطها ولا جعلها مناطاً لحكم، أو ملاكاً لقاعدة، وليس على الفقيه إلا بيان الأحكام الكلية، أما الجزئيات فليست من شأن الفقيه ولا وظيفته. والذي علينا أن نقول: أن كل من يخاف الضرر على نفسه من عمل من الأعمال، يحرم عليه ارتكاب ذلك العمل. ولا أحسب أن أحداً من الضاربين رؤوسهم بالسيوف يخاف من ذلك الضرر على نفسه، ويقدم على فعله، ولئن حرم ذلك العمل عليه فهو لا يستلزم حرمته على غيره. وبالأصل الذي شيّدناه من أن المباح قد تعرض له جهات محسّنة، يتضح لك الوجه في جميع تلك الأعمال العزائية في المواكب الحسينية)(183). عند هذا الحد أقطع المحاكمة، وأعود إلى استقصاء المحرّمات المزعوم دخولها في الشعائر الحسينية.
|
1- القواعد 1/231. م 2- القواعد 1/231. م 3- منهم المحقق الأنصاري في رسالة الضرر [صفحة 278]. إلا أنه لا يُعرف الوجه في ذلك. وهو أعرف بما قال. ولا يبعد أنه على هذه الدعوى بنى في كتاب (الغاية القصوى) حرمة ضرب الرؤوس بالسيوف في العزاء الحسيني. ولكن في كون ذلك إضراراً بالنفس وفي حرمة الإضرار بجميع مراتبه كلام ستعرفه. 4- في خبر السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال علي (عليه السلام)-: (إذا أسلم الرجل اختتن، ولو بلغ ثمانين) [الكافي 6/37]. قال في الجواهر [31/261]: ولا قائل بالفصل بين المسلم وبين الكافر إذا أسلم. 5- لا خلاف في استحباب ثقب أذني الغلام. وفي الجواهر [31/263] الإجماع بقسميه عليه، مضافاً إلى السيرة. والنصوص الكثيرة، منها خبر ابن خالد عن الرضا (عليه السلام) أنه لما ولد الحسن (عليه السلام)، أمر النبي (صلى الله عليه وآله) بثقب أذنيه، وذلك لما ولد الحسين (عليه السلام)، وكان الثقب في اليمنى في شحمة الأذن للقرط. وفي اليسرى في أعلاها للشنف [الكافي 6/34]. وفي خبر مسعدة بن صدقة أن ثقب أذن الغلام من السنة. [الكافي 6/35]. ومن هذا الباب خفض الجواري، فقد جاء في الأخبار أن الختان سنّة، وأنه من الحنيفية، وأن خفض الجواري، فقد جاء في الأخبار أن الختان سنّة، وأنه من الحنيفية، وأن خفض النساء مكرمة، وليس بواجب. [الكافي 6/37]. 6- الأقراط جمع القرط: ما يعلّق في شحمة الأذن من درّة ونحوها. م 7- الشُّنوف جمع القرط: ما يعلّق في أعلى الأذن من الحلي. م 8- الخزائم جمع الخِزامة: حلقة تجعل في أحد جانبي المنخرين. 9- بعضها لا يبتني على التحسين والتقبيح العقليين، كحكمه في باب المقدمة بوجوبها، وفي الضد بحرمته، وشبه ذلك من الملازمات التي ليس ما نحن فيه منها قطعاً، ومن هذا الباب حكمه باتباع الظن الانسدادي على القول بالحكومة، كما لا يخفى. 10- قد تقرر في الأصول أن الحسن والقبح العقليين، بمعنى كون الشيء ملائماً للطبع أو منافراً له، لا يستتبع حكماً عقلاً ولا شرعاً بوجوب الملائم، وحرمة المنافر، بمعنى استحقاق الجزاء الأخروي عليهما. 11- وفذلكة الأمر أن حكم العقل القطعي المستقل مفقود قطعاً، وغير المستقل - إن ثبت - لا يجدي شيئاً، ودعوى كون الضرر من الظلم، ستعرف ما فيها. 12- قيل: ولعل الخلاف في كون وجوب دفع الضرر المظنون إلزامياً - كما عليه الأكثر، أو استحسانياً - كما عليه الحاجبي - مبني على توهم تعميم المضر للمؤذي، وإلاّ فلا ريب في أن دفع المؤذي - كإدماء الرأس - إذا لم يكن فيه ضرر (أي: تعريض النفس للخطر الهلاك)، ليس إلزامياً، والتحرز عن مظنونه احتياط مستحسن، ولذلك يقدم عليه العقلاء، ولولا لغرض معتد به، بلا تحاش ومن دون مراغمة للفطرة. 13- أن دفع الضرر لكونه جبلياً - لا حكماً عقلياً - لا يقف العقلاء على حد الجبلة بحيث لا يتجاوزونه إلا بقاسر، بداهة أنهم يلقون بأيديهم إلى المؤذيات والأضرار حسب تفاوت مراتبها، حتى مرتبة الهلاك، فإنهم يتخطون إليها اختياراً لأغراضهم المتنوعة، ولا يرون في ذلك قبحاً عقلاً، ولا استهجاناً، ولا يجدون مراغمة إلا للفطرة والجبلة التي تتبع أهم الأمرين، وكثيراً ما تفضّل الهلاك على السلامة لرجاء الفوز بعاقبة تهون الأخطار دونها، أو للخلاص عن بؤس الحياة وتعاستها. 14- القواعد 1/124. م 15- وهي آية النبأ بمقتضى التعليل الموجود فيها، وقوله تعالى: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)، (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم)، (واتّقوا فتنة لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصّة)، (ويحذّركم الله نفسه)، (أفأمن الذين مكروا السيّئات..). 16- التحريم الشرعي لا يتصوّر بالنسبة إلى الضرر الأخروي المقطوع، فضلاً عن غيره، وأما الدنيوي فإنه وإن كان قابلاً لتعلق الحكم الشرعي بالمظنون منه أو المطقوع من باب الموضوعية، إلاّ أن ذلك خلاف ما ذكر من الآيات، لأنها على تقدير دلالتها على حكم تعريض النفس للأضرار لا تدل إلا على الطلب الإرشادي بالتحذر عن الوقوع في المضار، لما أنها غير ملائمة للطباع. 17- في ص 17: المؤذي والشاق غيران حكماً وموضوعاً. وفي ص 18 و 20: الكلفة إذا بلغت حد العسر، أوجبت رفع الحكم. وإذا بلغت حد الضرر، أوجبت حرمة الفعل. 18- إشارة إلى نقوض كثيرة موردة على القاعدة المذكورة تدل على عدم تماميتها. وقد ذكرها بحر العلوم، وكاشف الغطاء، وصاحب الفصول، والفاضل النراقي، وشيخنا المرتضي، وكثير من تلامذته، وتكلفوا في الجواب عنها. وتخصيص القاعدة بها في مورد الامتنان، بعيد. وتوجيهها بأن ملاحظة كثرة الثواب المترتب عليها يوجب عدم الضرر والحرج فيها، كما ترى، لأن الملاحظة المذكورة وإن صح أن تكون داعياً لبعض النفوس إلى الإقدام على الضرر والمشقّة، إلاّ أن ذلك لا يوجب انقلاب الحكم عما هو عليه من كونه شاقاً أو ضررياً. ولعل تأويل ما دل على عدم جعل الحكم الحرجي بالأصل، إلى إرادة رفع ما يعرض عليه الحرج من الأحكام المشروعة، أسلم من التوجيه المذكور وغيره. 19- كتحملهم الجوع المفرط ثلاثة أيام، وتورم أقدامهم من القيام للصلاة، ومن المشي للحج، وانخرام آنافهم، وأثفان جباههم من السجود، وغير ذلك مما ستعرفه مفصلاً. 20- قول القائل (المؤمن محترم عند الله) له معنيان: أحدهما: أنه تعالى لم يهنه ولم يخذله ولم يكله إلى غيره، بل وقّره وقرّبه وجعل له على نفسه حقوقاً: أن يجيب دعوته، ويرفع عمله مضاعفاً، ويجزيه عليه أوفى جزاء وهذا لا دخل له بما يريده المتوهم. ثانيهما: أنه تعالى أمر الناس باحترامه في ما بينهم بعدم إيذائه وإضراره وإهانته. وهذا هو الذي يراد التشبث على حرمة إيذاء نفسه وإضرارها. ولا يخفى أنه لا ملازمة بين لزوم احترام الناس له وبين لزوم احترامه نفسه، ومع فرض عدم الملازمة لا دليل يدل بخصوصه على لزوم احترامه نفسه. 21- بل ما يدل على أولوية الإنسان بنفسه من كل من عدا النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة، يقتضي إطلاقه سلطنته عليها، نحو سلطانه على ماله في تصريفه كيف شاء إلاّ ما علم عدم جوازه. 22- لمّا بلغت الفقاهة إلى حد الاستدلال على حرمة الضرر بما دل على رفع الحكم عند حصول العسر والحرج (!!)، فلا بدع أن تبلغ حد الاستدلال بقاعدة الضرر على حرمته. 23- الحديث عن النبي بهذا المضمون ورد مرسلاً في (تذكرة الفقهاء) 1/522. وورد مسنداً بتعبير (لا ضرر ولا ضرار) في (وسائل الشيعة) 17/319، /341. 17. وورد بتعبير (لا ضرر ولا ضرار على المؤمن) في (الوسائل) 17/341. م 24- كفاية الأصول 1/381 م. 25- إذ يقول في ص 21: (الجرح نفسه ضرر، وإيذاءٌ محرّم)، وفي ص 14: (الحجامة محرمة بالأصل، لأنها ضرر وإيذاء للنفس). 26- بل القاعدة - على هذا الرأي - تنفي الحكم الثابت للأفعال بعناوينها الأولية في حال الضرر، ولا تعمّ غيره، وإلاّ لوقعت المعارضة بين ما دل على وجوب الزكاة - مثلاً - وبين أدلة القاعدة، وذلك مما لم يقل به أو يتوهمه أحد من العلماء. 27- هو الفاضل النراقي في (عوائد الأيام). م 28- إذ يقول في ص 17 من رسالته: (إن الله لم يجعل حكماً ضررياً، بمقتضى قوله (صلى الله عليه وآله): لا ضرر ولا ضرار). 29- قاعدة نفي الضرر /278. م 30- هذا هو الدليل الثالث من أدلة اختصاص قاعدة نفي الضرر بالإلزاميات. م 31- هذا هو الدليل الرابع من أدلة اختصاص قاعدة نفي الضرر بالإلزاميات. م 32- وقد ذكرنا في باب الحرج كثيراً من العبادات الضرورية، فراجعها، ويأتي في توابع هذا الفصل أضعافها. 33- لا يقال: جواز إضرار الإنسان نفسه يختل به أمر النوع أيضاً، لأنا نقول: أن هذا تمنع من وقوعه الفطرة والجبلة، فهو مهما جاز شرعاً، يكون نادر الوقوع أو معدوماً خارجاً، لا محالة فلا يحصل اختلال النظام بخلاف إضرار الغير، فإنه لا رادع عنه من طبع أو غيره، بل هو من شيم النفوس، والمناسب للامتنان كمال المناسبة رفعه. 34- لأن لازم هذا ارتفاع الحكم عمن لا يكون في حقه ضررياً إذا كان ذلك موجباً لضرر الأغلب، وهذا لا يلتزم به أحد في باب العبادات الضررية، مع أن فيه تفويت مصلحة الفعل بلا تدارك، وهو خلاف الامتنان الذي شرعت لأجله القاعدة. 35- ولذلك لم يوجد في شيء من الأخبار شيء من الأضرار الموجبة للإفطار، أو ترك القيام في الصلاة، أو غيرهما، بل أوكل إلى الإنسان نفسه، ففي خبر عمر بن أذينة قال: كتبت إلى أبي عبد الله (عليه السلام) أسأله ما حدّ المرض الذي يفطر فيه صاحبه والمرض الذي يدع فيه صاحبه الصلاة من قيام. فقال: (بل الإنسان على نفسه بصيرة) وقال: (ذاك إليه، هو أعلم بنفسه). وفي خبر سماعة: قال: سألته: ما حد المرض الذي يجب على صاحبه فيه الإفطار كما يجب عليه في السفر؟ قال: (هو مؤتمن عليه، مفوّض إليه، فإن وجد ضعفاً فليفطر، وإن وجد قوّة فليصم). [وسائل الشيعة 7/156 - 157]. 36- منهم: الشيخ العلامة الفقيه الشيخ آقا رضا الهمداني في كتابه (مصباح الفقيه) باب التيمم، وفي تعليقته على رسائل المحقق الأنصاري في آخر رسالة أصالة البراءة. ومنهم المحقق الأنصاري والفاضل الآشتياني، ولكن لهذين تفصيلاً آخر تعرفه مما أشرنا إليه في المتن. 37- رسالة الحرج مخطوط. 38- وهي حكمهم بوجوب الإفطار لخائف الضرر من الصوم، وبطلان غسل من يخاف الضرر باستعمال الماء، وبوجوب الصيام وإتمام الصلاة على المسافر الذي يخاف على نفسه الضرر بسفره، وبسقوط الجمع عمن يخاف الضرر بالسفر. ومن راجع كلمات الفقهاء في هذه الموارد يعلم تصريح بعضهم بصحتها مع حصول الضرر في الواقع إذا اعتقد المكلّف السلامة. ومع الغض عن ذلك فقد فات الكاتب أن يعلم أن الضرر الدنيوي الذي علّقت عليه الأحكام المذكورة ليس هو كل ما يعرض للإنسان من العوارض المؤذية، بل هو ما يخاف معه على النفس أو على الأطراف من التلف، أو يخاف معه حدوث مرض أو بطؤه، وأين ذلك من الإيذاء الحاصل بإدماء الرأس وضرب الظهر بسلسلة؟ ولما ذكرنا قيّد في (مجمع البرهان) [1/214] المرض المسوغ للتيمم بما يضر معه استعمال الماء ضرراً بيّناً، بحيث يقال عرفاً: أنه ضرر، وقيّد الأكثر الخوف بكونه على النفس في باب إتمام الصلاة على المسافر الذي يخاف الضرر. وصرّح في (الجواهر) [16/345] بأن ملاك الإفطار بالمرض، شديده. 39- قال في (بيان الأصول) 5/123: (إن قلنا بأصالة حلية الأضرار إلا ما خرج، فالمخرج أمور: أ- قتل النفس مباشرة، أو بالواسطة القريبة والبعيدة التي يصدق عليها قتل النفس والإلقاء في التهلكة للآية (ولا تلقوا...)، والرواية (من قتل نفسه دخل النار)، والإجماع، والعقل، بل ضرورة الدين. ب - قطع عضو من أعضائه، أو شل قوة من قواه، وقد ادعي عليه الإجماع. ج - الأضرار العظيمة الموجبة لحدوث أمراض طويلة صعبة العلاج، أو مستمرة مدى العمر، وإن لم تؤد إلى الموت ونحوه. ولعله إما لصدق (التهلكة) عليه، فتأمّل، وإما لارتكاز ذهن المتشرعة. ولو أشكل فيهما موضوعاً أو حكماً، فالأصل البراءة). م 40- كالعمل في المعامل الحديدية، وأتونات البواخر والحمامات، وقس على ذلك حرث الأرض بالآلات العادية القديمة، وطرق الحديد بالمطارق الثقيلة، ومزاولة عمل البناء في حمّارة القيض وصبّارة القر، وغير ذلك مما يوجب إيذاء النفس وإدخال الضرر عليها. 41- لعموم حرمة الظلم كتاباً وسنّة. 42- الموارد المشكوك كونها ضرراً من جهة الشبهة المفهومية، يرجع فيها إلى العمومات المثبتة للتكاليف، ولا يرجع - البتة - إلى ما يدل على حرمة الإضرار بالنفس لو كان له عموم أو إطلاق، إلا على القول بجواز التمسك بالعموم عند الاشتباه في المصداق. 43- سيماء الصلحاء/80. 44- رسالة التنزيه /20. 45- قال: كان - يعني رسول الله - يقوم على أصابع رجليه حتى تورم. [تفسير علي بن إبراهيم 2/58]. 46- قال: لقد قام رسول الله (صلى الله عليه وآله) عشر سنين على أطراف أصابعه حتى تورمت قدماه، واصفر وجهه، يقوم الليل أجمع، حتى عوتب على ذلك. ورواه عن أبي عبد الله (عليه السلام) أيضاً. 47- بحار الأنوار 17/257. م 48- الخرائج 2/917. م 49- المقصود من الذنب هنا ليس هو المعصية. بل له معنى آخر لا يسع المقام تفصيله. م 50- الحديث طويل، وفيه - بعد الفقرة المذكورة -: فقيل له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟ فقال له: (أفلا أكون عبداً شكوراً)؟ [الأمالي 2/18]. 51- في المصدر (ويظمأ في الصيام..). م 52- عصب الفم: جفاف ريقه من العطش. وهذا لا يكون - غالباً - إلا في طول الصلاة. 53- بحار الأنوار 46/57، فتح الأبواب /18. م 54- سورة طه آية 1-2. م 55- هذا كالصريح في كونه (صلى الله عليه وآله) قاصداً بذلك زيادة القرب لله. ومتنه هكذا: سأل بعض اليهود أمير المؤمنين (عليه السلام) وقال له: إن داود بكى على نفسه حتى سارت معه الجبال لخوفه. فقال (عليه السلام): (لقد كان كذلك، ومحمد أعطي ما هو أفضل من هذا) إلى أن قال: (ولقد قام عشر سنين على أطراف أصابعه حتى تورمت قدماه، واصفّر وجهه يقوم الليل أجمع حتى عوتب على ذلك بقول: (طه، ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى، بل لتسعد به). والشقاء هو التعب، والسعادة: الراحة. [الاحتجاج 1/315، الخرائج 2/916]. 56- مجمع البيان 7/4. م 57- الحدائق الناضرة 6/28. م 58- تمام الحديث. وكان يقسّم الليل أنصافاً، فيقوم في صلاة الليل بطوال السور، وكان إذا ركع يقال: لا يدرى متى يرفع. وإذا سجد، يقال: لا يدرى متى يرفع. 59- مصباح الشريعة /170. م 60- سورة الجن آية 26. م 61- هذه الأخبار مروية في الكافي [1/256] والبصائر [صفحة 295]، وهي كثيرة. 62- أي: رسول الله (صلى الله عليه وآله) م. 63- ير علي بن إبراهيم 2/58. 64- الكافي 2/95. م 65- قرب الإسناد /171. م 66- ليس كلامي في جواز رفع إحدى الرجلين أو الاعتماد على الأصابع في القيام للصلاة، فإن ذلك مختلف فيه. وقد ادعى بعض أصحابنا ارتفاع مشروعيته بعد نزول الآية، وإنما الغرض ذكر الأخبار فقط. 67- إذا كان إيذاء النفس وإضرارها ليس بمحرّم، فلا وصمة عليه ولا زلّة منه. 68- ذكر ذلك مؤلف الرسالة أيضاً في (الدّر الثمين) ص 10. 69- المراد بها الموضوعات الجزئية مطلقاً، أو التي لا حكم لكلّيّها، ككون الجارية في البيت أما التي يكون لكلّيّها حكم، كأبوّة زيد لعمرو المحكوم على كلّيّها بالتوارث، فيلزم تعميم علمه لها، ومن هذا القسم جهله (صلى الله عليه وآله) بكون قيامه مضراً. 70- وصف روح القدس بهذه الأوصاف قد تضمنته أخبار كثيرة مذكورة في بصائر الدرجات [صفحة 454]، ونقل بعضها في البحار عن كتاب الاختصاص. 71- في كتاب من لا يحضره الفقيه [1/134]. وهو أن لا يتخذه الناس رباً معبوداً، وأن يعرف الناس بذلك أحكام السهو، وأن لا يعيّر به بعضهم بعضاً. ولا يخفى أن هذه العلة لو تمت، لأدت إلى ما لا يقول به أحد من المسلمين، ولأوجبت جواز العرج والعور وشبههما من العيوب والعاهات، عليه. 72- القول بوقوع السهو من النبي - كيف ما كان - باطل بضرورة المذهب، ولما لم يكن هذا الموضوع قد صار ضرورياً في عصر الصدوق، فإن قوله بالسهو آنذاك، لم يعدّ قولاً على خلاف الضرورة المذهبية، ولم يوجب فسق القائل. أما اليوم الذي أصبح فيه عدم سهو النبي مطلقاً من ضروريات المذهب، فالقول به مخالف للضرورة وموجب للفسق قطعاً. م 73- وذلك لقوله في حقه في هذا الكتاب: (أنه قد تكلّف ما ليس من شأنه، ولا هو من صناعته، ولا يهتدي إلى معرفته، ولو كان ممن وفق لرشده، لما تعرض لما لا يحسنه). [عدم سهو النبي / 20]. 74- عدم سهو النبي /32. 75- كما في الخبر المروي في أمالي الشيخ [ ] وفي المناقب [94/149]. 76- في خبر الأمالي [ ]، والمناقب [4/148] أيضاً. 77- في المناقب [4/155]: كان علي بن الحسين (عليه السلام) شديد الاجتهاد بالعبادة، نهاره صائم، وليله قائم، حتى أضرّ ذلك بجسمه، فقال له أبو جعفر: يا أبه! كم هذا الدؤوب؟ فقال: أتحبّب إلى ربّي لعلّه يزلفني. 78- رَمِصَت عيناه: خرج منهما وسخ أبيض. والظاهر أن هذا تصحيف، والصحيح: (رمضت عيناه) أي حميتا. م 79- في المصدر (من البكاء) بدل (من السهر). 80- دبرت جبهته: حدثت قرحة أو جرحٌ في جبهته. م 81- روى ذلك الشيخ في أماليه مسنداً عن الباقر (عليه السلام)، والمفيد في الإرشاد [صفحة 255] مسنداً عن سعيد بن كلثوم عن الصادق (عليه السلام). 82- رواه صحيحاً ثقة الإسلام في الكافي [2/579-580] عن أبي حمزة الثمالي. 83- روى ذلك الشيخ في أماليه، وصاحب المناقب [4/149]. 84- في رواية الخصال والعدد [2/517]: كان على ظهره مثل ركب الإبل. وفي رواية حلية الأولياء [3/136] عن الزهري: كان على ظهره محل. وعن عمرو بن ثابت: كان على ظهره سواد. وعن مطالب السؤول: كانت آثار في ظهره. 85- في رواية الصدوق في الخصال [2/518]: أنه كانت تسقط منه كل سنة سبع ثفنات من مواضع سجوده. قلت: ولذلك لقّب بـ(ذي الثفنات)، قال في القاموس [4/209]: ذو الثفنات هو علي بن الحسين. 86- هذا خبر (إنّ) في قوله (إذا كان ضرب الصدر باليد حتى يحمر أو يسود، إضراراً وإيذاءً محرماً، فإن اسوداد ظهر السجاد..)). م 87- بحار الأنوار 43/82. م 88- علل الشرائع 2/369. م 89- في نسخة (والحسين في ناحية الدار يبكي). م 90- دبرت كفّاك: حدثت قرحة أو جرح في كفيك. م 91- في المصدر (أن تكون الخدمة لها يوماً ولي يوماً). 92- الخرايج والجرائح 2/530. 93- سيماء الصلحاء/80. 94- إذا كان مبنى الكاتب - المصرّح به في ص 21 - على حرمة ارتكاب ما يكون ضرراً، سواء اعتقد فاعله أنه ضرر أم لا، فإن تحمل الجوع ضرر محرّم، وقد وقع منه (صلى الله عليه وآله) ولا دخل لخوف الضرر وعدمه في ذلك، مع أنه إذا كانت الحرمة في جوع النبي (صلى الله عليه وآله) منوطةً بخوف الضرر، فلم لا تكون حرمة إدماء الرأس منوطة بذلك أيضاً؟ ولم يكن محرّماً على الإطلاق؟ 95- رسالة التنزيه/20. 96- وروى في البحار [20/198] عن أبي عبد الله الحافظ وغيره بأسانيدهم عن جابر الأنصاري حديث الكدية التي ظهرت في الخندق، وفيه: (ثم قام النبي (صلى الله عليه وآله) فأتى الكدية، وبطنه معصوب بحجر من الجوع، فأخذ المعول بيده وضربها، فعادت كثيباً). 97- صفاق: الجلد الذي فوق اللحم وتحت الجلد الأعلى الذي عليه الشعر. أو جلد البطن كله. م 98- نهج البلاغة [الخطبة 16]، وإرشاد القلوب للديلمي [1/156]. 99- سورة الإنسان آية 7. م 100- روى الحديث المذكور بالألفاظ التي ذكرتها، العلامة الفاضل الطبرسي في (مجمع البيان) [9/611- 612 والمنقول قريب من المذكور] والزمخشري في (الكشاف) [4/670]. 101- وأنه دخل في اليوم الرابع حذيفة والمقداد، فأطعمهم تمراً من جذع يابس. 102- بحار الأنوار 16/225، صحيفة الرضا /15. 103- سيماء الصلحاء/ 80. 104- التنزيه / 20. 105- في رواية المفيد وابن شهر آشوب [مناقب آل أبي طالب] أنه سار في عشرين يوماً من المدينة إلى مكة. 106- روى ذلك العامة والخاصة، لكن في (حلية الأولياء) و(المناب) [4/155] أنه حج عشرين حجة. وقود النجائب خلفه دليل تمكنه من الركوب، وأن غلمانه وأصحابه ركبوا وأجنبوا نجائبهم خلفهم. 107- بحار الأنوار 43/399. م 108- بحار الأنوار 44/ 192. م 109- المتضمنة لمشي كل من يلقاه إجلالاً له، حتى سعد بن أبي وقاص، وهو شيخ قريش يومئذ. وفي بعضها أن سعداً هذا قال له: يا بن رسول الله لو تنكبت الطريق لركب الناس، فقد كلّوا من المشي. 110- وكل ألم وإيذاء هو ضرر عند الكاتب، سواء اعتقد فاعله به الأذى أم لا، كما تنطق به ص 21 من رسالته. 111- الكافي 1/463. م 112- لم أجده في المصدر، نعم هو مذكور في أمالي الطوسي وأمالي الصدوق. م 113- سيماء الصلحاء /80. 114- التنزيه/20. 115- مناقب آل أبي طالب 4/166. لكن الذي فيه (حتى يملأه دمعاً). م 116- تعتقد الإمامية أن الإمام لا تختلف حاله في الاختيار والاضطرار حتى حال النوم، وقد بالغوا في ذلك حتى قالوا أنه لا يتثاءب ولا يتمطّى. 117- منها تاريخ ابن الأثير ج 2، ص 122، الطبعة الأولى. 118- صحيح البخاري 5/9، 28 - كتاب المغازي، باب مرض النبي و...-، شرح نهج البلاغة - لابن أبي الحديد - 6/51، مسند أحمد بن حنبل 1/324 - 325، 336. م 119- ورد في بعض أخبار الطف أنّ الحسين (عليه السلام) لما برز ولده الأكبر، لم يملك نفسه عن البكاء. [البحار 44/321]. وفي خبر أبي بصير المروي في (الكامل) عن الصادق (عليه السلام)، أنه (عليه السلام) بكى وقال: (يا أبا بصير! إذا نظرت إلى ولد الحسين (عليه السلام) أتاني ما لا أملكه بما أوتي إليهم وإلى أبيهم). [كامل الزيارات /82]. ولكن يُراد بهذا - حسب ما هو متعارفٌ في المحاورات - أنه (عليه السلام) تدركه غاية الدقة بتذكّر المصاب نحو الرقة على اليتيم والضعيف والمظلوم، لا صدور البكاء بلا اختيار، فإنه لا يكاد أن يكون معقولاً، وإن كرّره الكاتب في مواضع كثيرة. 120- قال العلامة المجلسي في (جلاء العيون) - ما ترجمته -: (إن بكاء المقرّبين بعضهم بعضاً ليس لأجل المحبة البشرية، بل لأغراض أُخر. والسجاد لما كان عالماً من أبيه ما يخفى على غيره، ويعلم أنه أحب الخلق إلى الله، وأن قتله سبب لضلالة الناس وضياع الدين منهم بقتل الإمام، بكى لذلك). وسواء أتمّ هذا في نفسه أم لا، فإنه صريح بتنزيه الإمام عن كون بكائه لطبيعة الوالدية والولدية. 121- سيماء الصلحاء / 80. 122- التنزيه/20. 123- بحار الأنوار 45/41 م. 124- المنتخب 2/430 م. 125- الدمعة الساكبة/320 /. 126- عوالم العلوم 17/284 م. 127- بناءً على ما أسلفناه - في باب الكذب - من التسامح العقلي في باب القصص والمصائب وشبهها إذا احتمل وقوع المخبر به، ولم تكن دلالة عقلية ولا نقلية على خلافه. 128- وهما ج 2 ص 16 و ص 129. [الطبعة الأولى]. 129- وذكر السيد محسن الأمين في (المجالس السنية) في المجلس 61 وصول العباس إلى الماء ورفضه للشرب منه بسبب كون الإمام الحسين عطشاناً. وفي المجلس 63 ذكر أنه اغترف من الماء ليشرب، لكنه رمى بها عندما ذكر عطش أخيه الإمام. كذلك في المجلس 127. وذكر في المجلس 142 شعراً مفاده رفض العباس شرب الماء بالرغم من عطشه، وذلك مواساة مع أخيه الإمام. م 130- بفتح الدال على زنة اسم المفعول، وهو من يحدّثه ملك من الملائكة بما غاب عنه. وأما تأييده بالروح، فالمراد غير روح القدس، لأنه مختص بالأئمة على ما في بعض الأخبار. 131- المطهّم: الحسن، التام كل شيء منه. م 132- هذه هي عبارة أبي الفرج [مقاتل الطالبين /56] وصاحب العوالم [عوالم العلوم 17/282]. 133- مما يدل على سمو منزلة العباس (عليه السلام) مخاطبة الإمام بقوله (لعن الله من جهل حقك، واستخف بحرمتك). [كامل الزيارات/566 - 557] فإنها تدل على أن له حقاً يمتاز به عن سائر الشهداء الذين نصروا الحسين (عليه السلام)، ولم يجئ في حق واحد منهم (لعن الله من جهل حقك)، وهذا الحق لابد وأن يكون لمزية لنفس العباس غير جهاده ونصرته. 134- يشهد لهذا ما رواه الصدوق في (عقاب الأعمال) عن القاسم بن الأصبغ، ونقله أبو الفرج في (المقاتل) [صفحة 79] عن المدايني عنه أنه رأي رجلاً من بني أبان بن دارم، وأخبره أنه قتل شاباً أمرد مع الحسين، بين عينيه أثر السجود. قال: والمقتول هو العباس بن علي (عليه السلام). 135- يشهد لهذا ما عن كتاب (الحقائق الوردية) من قول: روينا بالأسناد الصحيحة أنه لما أقبلت الخيل شماطيط، ومعها الرؤوس، جاء رجل على فرس أدهم، وقد علق بلبان فرسه رأس غلام أمرد، كأن وجهه فلقة القمر ليلة البدر، وقد أطال الخيط الذي فيه الرأس، والفرس يمرح، فإذا رفع الفرس رأسه، لحق الرأس بجرانه على الأرض، وإذا طأطأ رأسه صك الرأس الأرض. فسألت عن الفارس، فقيل: هذا حرملة بن كاهل، وعن الرأس، فقيل: هو رأس العباس بن علي (عليه السلام)... الحديث. وهذه الرواية تتفق مع سابقتها في كونه (عليه السلام) أمرد. مع أن عمره - على ما في كتاب (العمدة) - أربع وثلاثون سنة. وهكذا ما حكي عن (العوالم) [17/282 - 283] من أنه كان وسيماً جميلاً، يركب الفرس المطهّم ورجلاه تخطان في الأرض، وكان يقال له (قمر بني هاشم) وكان شاباً أمرد، بين عينيه أثر السجود، وكان لواء الحسين معه. 136- يشهد لهذا ما نقله شيخنا المحدّث النوري - في حواشي مستدركه - عن مجموعة الشهيد الأول: أن علياً (عليه السلام) أراد يوماً أن يدرّب العباس ويمرّنه على الكلام بين يديه. فقال له: قل واحد. فقال واحد. فقال له: قل اثنان. فقال: استحي أن أقول اثنان باللسان الذي قلت به واحد، فأحنى علي (عليه السلام) عليه، وضمّه، وقبل ما بين عينيه. 137- ذكر ذلك الجزري في كتاب (أسد الغابة). 138- حتى أن الرجاليين منا لم يذكروا له ترجمة، لعدم انتهاء رواياته إليهم واستغنائه عن المدح عندهم. ولقد أجاد كل الإجادة شيخنا الشيخ محمد طه نجف - في كتاب رجاله - إذ قال فيه: إنه (عليه السلام) أجل من أن يذكر في عداد سائر الرجال، بل المناسب أن يذكر عند ذكر أهل البيت المعصومين (عليهم السلام). 139- المروية في (الكامل) عن أبي حمزة، عن الصادق (عليه السلام). [لم أجده في (كامل الزيارات)، نعم ورد في (المزار) (للشيخ المفيد صفحة 109) ما يلي: (لعن الله أمة قتلتك، ولعن الله أمة ظلمتك، ولعن الله أمة استحلّت منك المحارم وانتهكت فيك حرمة الإسلام)]. 140- في الخبر الذي رواه الصدوق في المجالس [الأمالي /374 المجلس 70] والخصال [1/68] عن علي بن الحسين (عليه السلام)، وذلك عندما نظر إلى عبيد الله بن العباس. 141- لما جاء في زيارته في قول الحجّة - على قول - (وجعلك من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً). ولكن في كثير من زياراته هكذا: (وجعلك من ذرّية أهل البيت..). 142- بحار الأنوار 97/427، 98/218. م 143- هذا من رجز العباس المروي عن (العوالم) [17/283]، أنشده عند قطع يمينه. وبعده: (وعن إمام صادق اليقين). 144- ذكر ذلك أبو مخنف وغيره من أرباب المقاتل، ونقله أيضاً السيد الداودي في كتاب (العمدة). 145- ذكر ذلك كثير من أهل السير الموثوق بهم، ولكن لفظ الطبري هكذا: أنه (عليه السلام) قال لأخوته: يا بني أمّي تقدموا حتى أرثكم، فإنه لا ولد لكم). وهذا لا يبعد كونه تصحيفاً، والصحيح (أرزأ بكم) أو(أرزئكم). نعم عبارة أبي مخنف (أنه (عليه السلام) قدّم أخاه جعفر ليحوز ميراثه). وهذا بعيد للغاية، لأن العباس (عليه السلام) أجل من أن يفعل ذلك. مع أن الوارث لأخوته إذا لم يكن لهم ولد هو أمهم فاطمة بنت حزام، لا العباس ولا ولده. 146- هذا واقع في الزيارة المروية في (الكامل) عن أبي حمزة، عنه (عليه السلام). 147- الخصال 1/68. 148- نقل الورع الثقة، واحد عصره في الإطلاع على التاريخ والسير والحديث، فخر الذاكرين، الشيخ الميرزا هادي الخراساني النجفي عن كتاب (عدة الشهور): أن أمير المؤمنين عند وفاته دعا العباس، فضمه إليه، وقبّل عينيه، وأوصاه، وأخذ عليه العهد أنه إذا ملك الماء يوم الطف أن لا يذوق منه قطرة وأخوه الحسين عطشان. وعلى هذا يكون قول أرباب المقاتل في العباس (لمّا اغترف من الماء غرفة ذكر عطش الحسين (عليه السلام) أنه ذكر عطشه، وأنه موصى عند ذكر عطشه أن يواسيه في العطش ولا يشرب منه شيئاً. 149- سورة الحشر آية 9. م 150- الحديث مروي في الكافي [2/169]، ومنقول منه في الوسائل [8/544] في أبواب أحكام العشرة من كتاب الحج. 151- تبوك موضع بالشام، بينه وبينها أحد عشر مرحلة، غزاه رسول الله (صلى الله عليه وآله) سنة 9 من الهجرة، وقد كان قد بلغه أن هرقل - ملك الروم - تجهّز نحوه. فأنزل عسكره تبوك من أراضي البلقاء، ونزل هو بحمص. أقام رسول الله (صلى الله عليه وآله) بها أياماً، وصالح أهلها على الجزية. 152- الحديث طويل، مروي في تفسير علي بن إبراهيم [1/294 - 295] عند تفسير الآيات المتعلقة بالمتخلّفين عن النبي في تلك الغزاة. ونقله المجلسي في الجزء السادس من البحار [من الطبعة الحجرية، والجزء 22 صفحة 429 من الطبعة الحديثة]. 153- روى ذلك الشيخ في (المصباح) عن عبد الله بن سنان عن الصادق (عليه السلام) [مصباح المتهجّد /724]. 154- في الصحيح المروي في (الكافي) [4/147] عن الصادق المتضمّن للسؤال عن صوم تاسوعاء وعاشوراء قال (عليه السلام): (.. وأما يوم عاشوراء فيوم أصيب فيه الحسين (عليه السلام) صريعاً بين أصحابه، وأصحابه صرعى. أفصوم يكون في ذلك اليوم؟ كلا ورب البيت الحرام ما هو يوم صوم، وما هو إلاّ يوم حزن ومصيبة دخلت على أهل السماء وأهل الأرض وجميع المؤمنين. ويوم فرح وسرور لابن مرجانة وآل زياد وأهل الشام...، وذلك يوم بكت عليه جميع بقاع الأرض خلا بقعة الشام). هكذا ورد في رواية عبد الله بن سنان المروية في مصباح الشيخ الطوسي [صفحة]. 155- هكذا ورد في رواية عبد الله بن سنان، المروية في (مصباح) الشيخ الطوسي [مصباح المتهجد /724]. والمشهور أنهم أقل من ذلك عدداً. 156- المنتخب في جمع المراثي والخطب 1/441. م 157- عوالم المعارف والعلوم 17/294. م 158- بحار الأنوار 45/51. م 159- رَكْوَة: إناء صغير من جلد يُرب فيه الماء. م 160- المنتخب في جمع المراثي والخطب 2/431 - 432. م 161- عسى أن يكون من هذا القبيل امتناع مسلم بن عقيل الذي كان - في قول المجلسي - مميزاً بمزيد العلم ووفور العقل، عن شرب الماء لما سقطت ثناياه في القدح، مع أنه يكابد من الظمأ ما يجوز معه شرب الدم، فضلاً عن الماء المتنجس. ولكن مسلماً والعباس رضيعا لبن واحد عن الكاتب. وقد يكون سقوط ثناياه - بحيث يتعذر عليه الشرب - من متممات الحكمة التي اقتضت أن الحسين (عليه السلام) وجميع آله ومن معه يموتون عطاشى. 162- سيماء الصلحاء / 80. 163- التنزيه /21. 164- الأمالي / 111 (مجلس 27). 165- قد دلت على ذلك أخبار كثيرة مروية في (بصائر الدرجات) [صفحة 420 - 421] وغيرها، وذكرها المجلسي في البحار. 166- هذه أيضاً مضامين مروية في البصائر [صفحة 451 - 457]، والبحار [106/ 17، 18/2684، 25/55]. 167- لم أجد هكذا رواية في مظانها. 168- الخصال 1/272 - 273. والمذكور هنا بعض ما يوجد في المصدر، وبالمضمون. 169- أمالي الصدوق /33- 34 (المجلس 8). 170- علل الشرائع 1/57. والمنقول بالمضمون. 171- لم أجده في (إرشاد القلوب). 172- عَمَش: سيلان الدمع من العين بصورة مستمرة حتى لا يكاد صاحبها أن يبصر بها. أو ضعف رؤية العين مع سيلان دمعها في أكثر أوقاتها. 173- خَمْص: خلاء البطون من الطعام جوعاً. 174- الطّوى: الجوع. 175- ذَبْل: يبس، جفاف. 176- سيماء الصلحاء/80. 177- التنزيه / 21. 178- سيماء الصلحاء/. م 179- التنزيه / 21. 180- سورة البقرة آية 195. م 181- قاعدة نفي الضرر/ 279. م 182- يشير بهذا إلى أن موكب السيوف الذي يدمي أربابه رؤوسهم ليس هو فقط تمثيلاً لموقف الحسين (عليه السلام) وأصحابه، ولا ظهوراً بمظهر الجازع لمصابهم، بل هذه أيضاً مواساة لهم، وقد شرعت المواساة في الحزن، لقول الصادق (عليه السلام)-: (رحم الله شيعتنا، لقد شاركونا بطول الحزن والحسرة، وبالامتناع عن الطعام والشراب إلى ما بعد العصر بساعة) كما دل على ذلك الخبر المروي عن الصادق. وفيه (صمه من غير تبييت، وأفطره من غير تشميت، وليكن إفطارك بعد العصر بساعة على شربة من ماء..). الحديث [مصباح المتهجد / 724]. وبإدماء الرأس أيضاً، ويدل على ذلك أمورٌ: الأول: الخبر الذي رواه السيد ابن طاووس - في أول كتاب المقتل [صفحة 9] - عن الإمام السجاد (عليه السلام) وفيه: (أيّما مؤمن مسه أذى فينا، صرف الله عن وجهه الأذى يوم القيامة، وآمنه من النار). الثاني: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما استوحش من عدم البكاء على عمه حمزة، اجتمع نساء الأنصار يبكين على باب المسجد، وقد ذهب ثلث الليل، فلما خرج رسول الله ورآهنّ يبكين ويندبن عمه، قال لهنّ: (ارجعن رحمكنّ الله، لقد واسيتنّ معي). روى ذلك الشهيد في كتاب (مسكّن الفؤاد) [صفحة 108] وزيني دحلان في الحلية. وإذا كان بكاء أحد على ميت مواساة لأهله، لكونه مظهر الحزن عليه، فالإدماء الذي هو أظهر مظاهر الجزع أولى أن يكون مواساة. وقد ورد في البكاء أنه إسعاد للزهراء، وصلة لرسول الله، وأداء لحقه وحقوق الأئمة، ونصرة للحسين وأسوة بالأنبياء والأئمة والملائكة [كامل الزيارات /81]. الثالث: الأخبار الدالة على إدماء الله كثيراً من أنبيائه، آدم، وإبراهيم، وموسى لما وردوا أرض كربلاء، واللفظ الذي جاء فيه هذا (أن دماءهم سالت موافقة لدم الحسين (عليه السلام)). الرابع: الأخبار التي رواها الصدوق - في العلل - عن أبي عبد الله (عليه السلام)، وابن قولويه - في الكامل - عنه (عليه السلام) [صفحة 64]-، ونقلها جميعاً في (الوسائل) في أبواب الصبر على البلاء - التي تضمنت أن إسماعيل (عليه السلام) (وهو إسماعيل بن حزقيل، وليس ابن إبراهيم خليل الله، كما في بعض الأخبار كان نبياً من أنبياء الله بعثه إلى قومه، فسلخوا جلدة وجهه ورأسه، فأتاه ملك يخبره أن الله أمره بإطاعته فيما يريد صنعه بقومه، فقال (لي أسوة بما يصنع بالحسين). ويدل على المشروعية أمور أُخر، لا لعنوان كونه مواساة، بل لعناوين أخر تأتي إن شاء الله. 183- المواكب الحسينية/ 20-22. |