فهرس الكتاب

 

الباب السادس: التشبيه

الفصل الأول: تشبه الرجال بالنساء

تقول الرسالة(1): (هذا(2) يقع في التمثيل، وتحريمه ثابت في الشرع).

وبما أني أعتقد أن صاحب الرسالة لا يجهل وقوع الخلاف في التشبيه موضوعاً وحكماً، فإني أعدُّ قوله (تحريمه ثابت في الشرع) خيانة في الشرع، إذ أنه إن أراد ثبوته في الجملة - أي ولو في صورة تأنث الرجل - لم يفده شيئاً سوى التهويل. وإن أراد ثبوته مطلقاً، كان محجوجاً بما لا يجهله من عدم الثبوت كذلك.

إن اللازم في مثل هذه المسألة إرشاد العامة إلى مراجعهم في التقليد وإيكال أمرهم إليهم، لا إبداء الكاتب رأيه بين الكافة بمظهر أنه حقيقة راهنة لا خلاف فيها، فإن ذلك لا يصدر إلاّ من المغالطين.

إن التشبيه المدّعى وقوعه في التمثيل هو تجليل الرجل بإزار أسود من قرنه إلى قدمه، وهو بهيئته وملابسه الرجالية، ليتراءى للناظر إليه أنه امرأة، وهذا مما لم يثبت في الشرع تحريمه، ولا وجدنا قائلاً بذلك نصاً أو ظهوراً.

على أنّي ما رأيت منذ خمسين سنة للآن في التمثيلات العزائية في العراق تشبيه رجل بامرأة ولا امرأة برجل. وعسى أن يكون ما يوجد في غيره من قبل ما ذكر من التشبيه الصوري المؤقت، وهو ليس بتشبيه على الحقيقة.

والقدر المعلوم تحريمه من التشبّه هو أن يتأنّث الرجل، ويعدّ نفسه امرأة، ومظهر ذلك - مع قصد التأنث - أن يخرج عن زيه، ويأخذ بأزياء النساء، لا بمجرد لبسه ملابسهنّ بدون تبديل لزي(3).

وبهذا أفتى الميرزا القمي في (جامع الشتات)(4)، وشيخنا المحقق الأنصاري في (المكاسب)(5)، وأكثر علماء عصرنا، منهم شيخنا المحقق المدقق العلامة آية الله الميرزا محمد حسين النائيني الغروي (دام ظله)(6)، والشيخ الفقيه العلامة المتقن صاحب المصنفات الكثيرة، حجة الإسلام الشيخ عبد الله المامقاني النجفي (دام علاه)(7) وغيرهم(8).

ولأكتف بذكر عبارة الأوّلين ليطلع عليها من لا تحضره الكتب والأخبار. قال العلامة الأنصاري - في كتابه - بعد ذكر النبوي المشهور (لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال)(9): (وفي دلالته عليه - يعني دلالة النبوي على حرمة مطلق التشبيه - قصور، لأن الظاهر من التشبّه تأنّث الذكر، وتذكّر الأنثى، لا مجرد لبس أحدهما لباس الآخر مع عدم قصد التشبيه. ويؤيّده المحكي عن (العلل) أن علياً (عليه السلام) رأى رجلاً تأنث في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال له: اخرج من مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فإني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال وهم المخنّثون، واللائي ينكحن بعضهنّ بعضاً)(10).

ثم ذكر روايتين تدل إحداهما على كراهة أن يجرّ الرجل ثوبه تشبّهاً بالنساء، والآخر على زجر رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن التشبه بالنساء، وقال: إن (فيهما خصوصاً الأولى - بقرينة المورد - ظهور في الكراهـــة، فالحكم بالتــحريم لا يخلــــو عن إشـــكال)(11) انتهى.

وقال المحقق القمي (قدس سره) ما ملخص ترجمته هذا: المستفاد من الأخبار المانعة من تشبه الرجال بالنساء هو الخروج من زي أحدهما والدخول في زي الآخر، بحيث يعدّ الرجل نفسه من صنف النساء، وبالعكس. أما التشبه بامرأة خاصة في زمان قليل لغرض خاص فهو خارج عن منصرف الأخبار. واستطرد في أثناء كلامه تشبه رجل برجل، كتشبه أحد بالحسين (عليه السلام)، وآخر بأحد أعدائه، واستوجه رجحان ذلك إذا كان المقصود به الإبكاء ونحوه من الأمور الراجحة، خصوصاً التشبه بالأعداء، لما فيه من قهر النفس وإذلالها، لطاعة الله بنفس التشبّه بهم(12).

وجرى هذا المجرى الفقيه الحائري المازندراني في (الذخيرة)(13)، وسائر محشيها، كولده، والسيد الصدر، والميرزا الشيرازي الحائري.

وقد يلهج القاصدون بكون تشبّه رجل بالحسين (عليه السلام) توهيناً له، سيما إذا لم يكن من أهل الصلاح والشرف.

وهذا ما لا يخفى على أحد كونه تمويهاً، فإن التوهين عنوان لا يتحقق بفعل ما بدون قصده، كالظلم، والتأديب، ووقوع التوهين قهراً مع كون الفعل بذاته يقع على وجوه كثيرة مما لا يعقل.

نعم قد يحصل التوهين القهري بالقول بدون قصده، لكنه في الأفعال الممكنة الوقوع على وجوه لا يمكن تحققه لو خلت عن كل قصد، فكيف بالأفعال المقصود بها الإبكاء عند إلقاء مخاطبات الحسين (عليه السلام) وحكاية أفعاله الواقعة تجاه أعدائه يوم الطف. وقد تضمنت السيّر والأخبار تشبه رجل برجل في ما لا يحصى من الموارد.

وأرسل أبو حامد الغزالي في كتاب (إحياء العلوم) أن مضحك فرعون كان يتشبه بموسى بن عمران كراعي غنم قد لبس مدرعة صوف قصيرة وبيده عصى يهشّ بها على غنمه، قد نجاه الله من الغرق - أو رفع عنه العذاب - كرامة لموسى (عليه السلام) لنفس تشبّهه به، وإن كان لأجل أن يضحك فرعون وجلساؤه، عليه.

 

الفصل الثاني: تشبه المرأة بغيرها

إركاب النساء الهوادج مكشفات الوجوه تشبيهاً ببنات رسول الله:

تقول الرسالة(14): (وهو(15) محرّم في نفسه، لما يتضمنه من الهتك والمثلة، فضلاً عما إذا اشتمل على قبح وشناعة، مثل ما جرى في العام الماضي في البصرة من تشبيه امرأة خاطئة بزينب، وإركابها الهودج حاسرة على ملأ من الناس، كما سيأتي). انتهى.

وذكر نحواً من هذا في صفحة 21. ونقل عن زميله البصري وقوع ذلك التشبيه الشائن في الماضي من سنة 1345 هجرية.

النقد: عاش الرجل برهة من الدهر في العراق، ومرّ بكثير من بلدانه، وقضى جلّ عمره في البلاد السورية، فأين وجد تمثيل النساء؟ وهل رأى بعينه مشاهدة أو نقل له الثقات ذلك؟ فإنا ما رأينا ذلك، ولا سمعناه، ولا نقل لنا ناقل أنه شهد ذلك، أو أن أحد أجداده الأعلون شهده، أو نقله عن جده.

إنا لو أخذنا وقوع ذلك بكثرة مسلّماً، أو صححنا على مذهب أهل التهويل مؤاخذة جميع الشعائر العزائية بوقوعه فيها مرة في بلد، أو في قرية، أو في عامه الماضي - كما يزعم - أو من قبل سبع سنين أو سبعين سنة، فإنا نحب أن نعلم أي شيء هو المحرم: ركوب النساء؟ أم كون الركوب في الهوادج؟ أم كشف المرأة البرزة وجهها؟ أم تشبيه امرأة بامرأة؟ أم المحرم هو المجموع، في ملأ وقع أم في خلأ؟

فإنا ما وجدنا في الكتاب والسنّة ولا في فتاوى علماء الأمة كافة أن شيئاً من تلك العناوين محرّم، ولا مجموعها. وكيف يكون اجتماع المحلّلات حراماً. إن أشد ما يقف القلم دونه من الأمور السالفة هو كشف المرأة وجهها أو نظر الرجل إلى وجهها المكشوف؟ وفي هذا كلام يذكر في كتب الفقه، ولا محل لذكره في المقام.

يسرد الكاتب جملاً ثلاثة: إركاب النساء الهوادج، مكشفات الوجوه، تشبيههنّ ببنات الرسول (صلى الله عليه وآله). آخرها: تشبيه امرأة بامرأة. بحيث يظهر لأول النظر أنها جميعاً محرّمة، ثم يقول (وهو محرّم في نفسه)، فلماذا يعود هذا الضمير المفرد؟ الواحد غير المعين منها، أم للأخير، أم المجموع من المحللات؟

ثم إذا كان الأمر الذي يشير إليه محرّماً في نفسه - كما يقول - فما موقع قوله بأن حرمته لما يتضمنه من الهتك والمثلة؟ دع عنك انتقاد لفظة (المثلة)، فإن إقحامه - بمعناه المحرر في اللغة - تهويل بيّن(16).

وخذ في معرفة المراد من الهتك المزعوم.

الهتك هو إشهار النساء، سوقهنّ أمام ركاب القوم سبياً مجلوباً، يطاف به في البلدان وفي الأسواق وفي الأزقّة بكل احتقار واستهانة، كما فعله آل أمية بمخدرات آل محمد.

أما ما يدعي الكاتب وقوعه في التمثيل - الذي يبرأ منه كل تمثيل في العراق، ولعلّما سوريا أيضاً - فهو ليس بإشهار النساء حتى يكون مستقبحاً وظهور المرأة المتسترة للرجل بارزة الحجم، يرى الناس أنها هي تلك المرأة المسبية بين علوج بني أمية، حينما سيقت أمام ركابهم مهانة محتقرة ليس فيه شيء من الهتك للمرأة المتمثّلة ولا الممثّلة، وكيف - والحالة هذه - يكون محرماً أو يطرأ على الواقع منه في التمثيل عنوان مستقبح؟

نعم هو موجب للالتفات إلى قبح ما ارتكبه آل أبي سفيان من سبي عقائل الرسالة، ولا قبح فيه ولا هتك على الممثّلين ولا المتمثّلين.

أمّا ما ذكره من تمثيل امرأة خاطئة بزينب في عامه الماضي - وهو سنة 1347هـ. فينبغي أن يسامحه كل بصري ونزيل في البصرة، كما أنهم من قبل سنتين سامحوا من نقل أنه واقع في البصرة في عامه الماضي أيضاً - وهو في سنة 1345 -. فكم من عام ماض إلى عام ماض إلى سبع سنين ماضية لم يقع بها في البصرة شيء من ذلك.

نعم في سنة 1341 هجرية ركبت تلك (الخاطئة) من تلقاء نفسها في أحد المحامل التي تقاد في التمثيل، خالية أو ممتلئة بالأطفال الممثّلين للسبي من دون أن تتشبّه بامرأة، ولا جعلها أحد شبيهاً بها، بيد أن من يراها، يظن ذلك. ولم يمض على ركوبها بضع دقائق حتى أنزلت من المحمل بلا مدافعة منها، لأنها لم تعرف أن ركوب مثلها من الأمور الشائنة(17).

 

1- صفحة: 4.

2- أي: تشبه الرجال بالنساء. م

3- جاء في أخبارنا أن علياً (عليه السلام) سيّر من البصرة إلى المدينة أربعين امرأة ألبسهنّ العمائم والمناطق والأردية والدروع، وأمرهنّ بحمل السيوف والرماح.

4- جامع الشتات: 2/ 750، 787. م

5- المكاسب 2/ 191. م

6- ذكر ذلك في منشور له مطبوع مشهور. [وهو مذكور في ملحق في آخر هذا الكتاب].

7- ذكر ذلك في استفتاء له قد طبع مراراً مستقلاً وفي سلك غيره من الفتاوى المطبوعة. [فتاوى العلماء الأعلام في تشجيع الشعائر الحسينية /14].

8- هذه الفتاوى مذكورة في كتاب (فتاوى العلماء الأعلام في تشجيع الشعائر الحسينية). م

9- الكافي 8/69. م

10- عسى أن يكون أظهر مما ذكره المحقق الأنصاري في ما رامه، الخبر المروي في الجعفريات [صفحة 147] عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه لعن المخنّثين من الرجال المتشبّهين بالنساء، والمترجّلات من النساء المتشبّهات بالرجال والخبر المروى عن أصل أبي سعد العصفري [صفحة 18] أن النبي قال: لعن الله وأمّنت الملائكة على رجل تأنّث، وامرأة تذكّرت.

11- المكاسب 2/189-191. م

12- جامع الشتات 2/787. م

13- ذخيرة المعاد / 368. م

14- ص 4.

15- أي: إركاب النساء الهوادج مكشفات الوجوه تشبيهاً ببنات رسول الله.

16- المُثلة: التنكيل بالحيوان بقلع عضو من أعضائه. وليس إشهار الرجل والمرأة مثلة. ولعل الكاتب يريد بإقحام لفظ (المثلة) تكثير العناوين المحرّمة بالذكر، ناسبت المقام أم لم تناسب.

17- نقل ذلك لنا متواتراً ثقات البصريين. وليت شعري إذا نظر البصري في الرسالة، ورأى فيها (جرى ذلك في العام الماضي)، وهو يعلم أن ذلك غير واقع أصلاً، فماذا يظن بالكاتب؟ وبالأحرى كيف يثق بأقوال العلماء؟